تأثري بالوردي ثم بالجابري واختلافي معه، علاء الأعرجي
تأثري بالوردي ثم بالجابري واختلافي معه، كتبها علاء الدين الأعرجي في ذكرى رحيله الثالثة، مايو 2013.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المقال
في الحياة الفكرية لكل باحث تقريباً، لحظات نادرة تطلُّ عليه أحياناً، وقد تظلُّ تصاحبه طوال حياته، كما أعتقد، فتحدد الخطوط الأساسية لمجرى تفكيره وإنتاجه ، وربما حياته الخاصة، وقد يبني عليها بعضهم فرضيات/ نظريات جديد.
ومن جملة اللحظات المهمة التي مرت في حياتي هي:
أولاً: فرصة تلمذتي القصيرة والغزيرة على يد أستاذي الفاضل علي الوردي، في منتصف القرن الماضي.
ثانياً: اكتشافي استاذي الفكري محمد عابد الجابري في مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
وأعترف أنني من خلال هذين المفكرَيْن، بنيت أهم فرضياتي/نظرياتي الثلاث التي أستطيع أن أرجح بل أحاجج، أنها يمكن أن تتجاوز نظريات كل منهما، و/أو تختلف عنها على الأقل. وهل هناك عيبٌ في قيام التلميذ بتطوير، نظريات أساتذته، بل حتى نقدها وتعديلها، ؟ أم هو أمر يستحق أن يفخر به الأستاذ، قبل التلميذ؟ ومع الفارق الكبير في القياس ، هل يمكن أن ننحي بالائمة على أرسطو لأنه اختلف عن أستاذه إفلاطون؟ أو على ماركس لأنه قلب بعض نظريات هيغل رأساً على عقب؟.
وقبل أن أشير إلى هذه الفرضيات/ النظريات أدناه، أود أن أؤكد أنني كنت وما أزال، منذ بدأت بطرحها منذ مايزيد على خمسة عشر عاماً، أرحب بكل ملاحظة أو تعليق أو نقد، يرد من القراء أوالزملاء، بشأن هذه الفرضيات، فأرد عليها بموضوعية واحترام، وأستفيد من هذه الملاحظات أحيانا في إغناء النظرية أو استئناف النظر فيها.
وأشير فيما يلي باختصار إلى هذه الفرضيات:
الأولى ؛ عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة، على نحو يكفي لاجتثاث العقلية البدوية، بما فيها من قيم وأعراف وعادات... إذ أن مرور المجتمع بمرحلة الزراعة خطوة ضرورية، كما أعتقد، للانتقال إلى مرحلة الحضارة بمعناها الحديث. وفصلت كل هذا في بحثي "الثورة الزراعية وأهمية العمل المنتج في إرساء دعائم الحضارة"(مجلة "صوت داهش"، عدد خريف2004). وقد أدت هذه العقلية، التي ماتزال تنخر في جسد المجتمع العربي إلى الصراع السني الشيعي، الذي يهدد اليوم بحروب أهلية كاسحة، هي قائمة الآن فعلاً في سورية، ومرشحة للتصعيد والاتساع، لتشمل العراق وربما لبنان. مما قد يؤدي إلى تقسيم هذا البلدان.
ويعود هذا الصراع في جذوره العميقة، كما نعتقد، إلى العصبية القبلية قبل الإسلام ولاسيما إلى الصراع بين أولاد العمّ ؛ بني أمية وبني هاشم، كما يؤكده المؤرخ أحمد أمين، حين يقول"ولما تولى الأمويون الخلافة،عادت العصبية إلى حالها كما كانت في الجاهلية، وكان بينهم وبين بني هاشم في الإسلام ،كالذي كان بينهم في الجاهلية " (فجر الإسلام، ط11، ص79).
إن فرضية عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة على نحو يكفي لمحو العقلية البدوية،يعود فضلها بالأساس إلى نظرية الوردي في "سوسيولوجيا الصراع بين قيَّم البداوة وقيَّم الحضارة" (انظر الكتاب المتميز للبروفسور ابراهيم الحيدري بعنوان "علي الوردي؛ شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية" ص129).
هذا الصراع الطائفي القائم حتى اليوم، حاولتُ تأصيله وتفسيره وتأكيده عن طريق فرضية عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة عندما انتقلوا، بعد الفتوح الإسلامية كموجات كبرى ، معظمها من البدو القادمين من الصحراء، الذين يحتقرون الزراعة أصلاً، إلى المدن المتحضرة في منطقة الهلال الخصيب في بلاد الشام والعراق ومصر، بوجه خاص. ولئن أفترض أن الوردي لم ينتبه إلى هذه النقطة الهامة، فإنني لا يمكن أن أجزم أنه لم يفكر بها، ولا أن أجزم أنه لم يُشر إليها مطلقاً. ولئن أكتفي بهذه الإشارة العابرة إلى هذه الفرضية الواسعة، بقدر ما يمكن أن يستوعبه المقال، أحيل القارئ إلى تفصيلاتها في عدد من كتاباتي، ومنها كتاب" أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"، وما نشر بشأنها من مقالات في صحيفة القدس العربي، ومن بحوث في مجلة "صوت داهش"، نذكر منها مثلا :" الصراع بين البداوة والحضارة من تجليات العقل المجتمعي العربي الغارق في التراث" عدد ربيع 2004 ، و "إحراق المراحل ؛عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة"عدد صيف 2004، و ، و"نتائج الطفرة الخليجية؛ مقارنة بين حال العرب بعد الفتوح الإسلامية وحال عرب الخليج بعد الطفرة النفطية".
ثانيا: "فرضية العقل المجتمعي"، التي نقارنها بـ"نظرية العقل العربي" التي طرحها الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي" بوجه خاص، الذي يمثل الجزء الأول من رباعيته الشهيرة في"نقد العقل العربي"، إلى جانب "بنية العقل العربي" و "العقل السياسي العربي" و"العقل الأخلاقي العربي".
ثالثاً: فرضية العقل الفاعل والعقل المنفعل، التي استوحيناها من نظرية "أندريه لالاند"، في العقل المكوِّن( بالكسر) والعقل المكوَّن(بالفتح)، والتي وظفها الجابري في شرح نظريته في العقل العربي( تكوين العقل العربي ). ومع ذلك فقد خالفناها.
ونظراً لأننا نستعيد ذكرى رحيل الجابري الثالثة فإننا سنقصر حديثنا فيما تبقى من المقال ، عليه هذه المرة. وقد تكون لنا عودة إلى الوردي في وقت لاحق، لاسيما بمناسبة مئويته الأولى.
- * *
يترفق ناقد الجابري الأعنف الذي كتب أربع مجلدات في نقده، إذ يشير إلى كتاب " تكوين العقل العربي"، وذلك قبل أن ينقلب إلى انتقاده بعنف بل مهاجمته بشدة، فيقول:
"إن الذهن بعد مطالعة تكوين العقل العربي لا يبقى كما كان قبلها. فنحن أمام أطروحة تُغيَّر، وليس مجرد أطروحة تُثقف".(جورج طرابيشي، نقد نقد العقل العربي، نظرية العقل، المقدمة)
وهنا نتوقف قليلا ً لنتحرى وجه التغيُّر الذي طراْ على أفكاري بعد قراءة الجابري في معظم أعماله، ومنها" الخطاب العربي المعاصر" و"نحن والتراث" ولاسيما بعد الإمعان في قراءة كتابه العُمْدة" تكوين العقل العربي". وذلك بغض النظر الآن عن جميع الانتقادات التي وجهت إليه.
تحرياً للدقة، أرى أنه لايجوز أن نعزو أي تغيّر أو تطور في فكر الباحث أو المفكر إلى مصدر واحد. لأن الباحث أو الكاتب الجادّ كالنحلة العطشى إلى الرحيق التي تحط على عشرات الزهور فتكتفي من بعضها برشفة واحدة فقط، ومن بعضها الآخر برشفات قليلة، ولكنها قد تعثر صدفة على وردة غنية برحيق عبق فتعبُّ منه عبّاً، وتظل ملتصقة بميسمها حتى آخر النهار، وتعود إليها في فجر اليوم التالي.
ومع ذلك يمكن أن اعترف أنه على الرغم من تنوع مطالعاتي المتواضعة، إلا أن أفكاري ومنهجياتي قد تطورت، بوجه خاص، بعد الإمعان في دراسة الفصول الثلاثة الأولى من كتاب تكوين العقل العربي. إذ استوحيت منها فرضيتين، أزعم أنهما جديدتان، لاسيما بعد أن تعرضتا لوابل من النقد وسيل من التحليل والتعميق والتشذيب والتعليق والمقارنة خلال ما يزيد على خمسة عشر عاماً، كـتَبْتُ خلالها عشرات المقالات والدراسات ، منها عشرون بحثا في مجلة "صوت داهش".(نيويورك). ومع ذلك فهي تظل دائماً مطروحة للنقد ، الذي أرحب به كمادة معتبرة للرد والمناقشة التي تثري أفكاري. لأن الفرضيات السوسيولجية في العلوم الإنسانية، لا يمكن أن تخضع للفحص الدقيق في المخنتبر كالفرضيات الكيميائية أو الفيزيائية، التي يمكن التحقق من صحتها بإعادة التجربة والاختبار.
وهكذ أوجز فيما يلي بعض نقاط الاختلاف بيني وبين الجابري:
- * *
1- تنصبُّ "نظرية العقل" الجابرية على العقل العربي حصراً، بينما تنطبق فرضيتي على جميع المجتمعات البشرية، في كل زمان ومكان، لذلك يمكن اعتبارها تنحو إلى أن تكون "نظرية عامة".(انظر الأعرجي:"أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل، القاهرة:دار أخبار اليوم، ط3، 2009 ، ص91 وما بعدها)
2- ومن جهة أخرى فإن العقل الذي يتحدث عنه الجابري هو "الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية "(تكوين العقل العربي ، ط 5 ، ص13)، كما يقول. بينما العقل المجتمعي الذي نتحدث عنه هو ليس أداة بل هو"محتوى" أو"مضمون" مجرد من أية صفة أداتية.( المصدر نفسه)
3- العقل العربي يرتبط بالفرد العربي الواحد، لدى الجابري، بينما يرتبط العقل المجتمعي بالمجتمع ككل( أو الوحدة المجتمعية كبيرة أو صغيرة) ككيان له شخصية معنوية أو شخصية اعتبارية، تشبه الشخصية المعنوية التي تتمتع بها المنظمات غير الحكومية والجمعيات والشركات المساهمة.
4- يرى الجابري أن العقل العربي هو "الفكر" بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات. ولكنه لا يأخذ من هذه الثقافة سوى الجزء العالِم(بكسر اللام)، ويسميها الثقافة العالِمة(بالكسر). أما الثقافة الشعبية فيستبعدها تماماً. فيقول: "تركنا جانبا الثقافة الشعبية من أمثال وقصص وخرافات وأساطير وغيرها".(ص7 من كتابه تكوين العقل العربي). وعلى العكس من ذلك تماماً، فإننا نرى أن الثقافة الشعبية بما فيها من "أمثال وقصص وخرافات" وبالتالي عادات وتقاليد وأعراف وقيم ومعتقدات، هي التي تشكل أهم مكونات العقل المجتمعي العربي. وقد صارحت أستاذنا الجابري بهذا الاختلاف، في حواري المسهب معه لدى اجتماعنا المطول على هامش دورة المؤتمر القومي العربي، في الدار البيضاء خلال الفترة 5-8/5/2006، المنشور في صحيفة "القدس العربي"، في 18/7/2006.
5- من العام إلى الخاص: ونقطة الاختلاف الأخرى مع الجابري هي منهجية. فقد انطلقنا أصلاً من "المفهوم العام" -الذي نرى أنه يمكن أن يتبلور بشكل "نظرية عامة" تنطبق على جميع المجتمعات في كل زمان ومكان، باعتبارها أساسا لبحثنا- إلى "المفهوم الخاص"، من خلال تطبيقها على العقل المجتمعي العربي، باعتباره مثالاً واقعياً ومتميزاً، وذلك لانشغالنا به كموضوع للتحليل والنقد، بغية كشف مكوناته وفضح سلبياته، والكشف عن إيجابياته، خاصة وإننا نرى أنه سيقرر مصيرنا كأمة. بينما بدأ الجابري بالخاص(العقل العربي) ثم تحدث، بهذه المناسبة، عن عقول أخرى يتحدد بموجبها العقل العربي، واختار منها العقلين اليوناني والأوربي على وجه التحديد. (أنظر الجابري ص 17 المرجع نفسه). وقد بحثتُ و فصلّتُ أهم اختلافاتي مع الجابري في عدة أبحاث من أهمها" اختلافي مع الجابري" مجلة الدوحة، عدد 35، آب/أغسطس2010 ، صص86-91، و " بين نقد العقل العربي ورفده : الجابري بعد مرور ربع قرن على تشريح العقل العربي" ،مجلة "المستقبل العربي"، العدد 351، أيار/ مايو 2008، صص116-123.
وهناك فروقات أو تداخلات وتقاطعات دقيقة أخرى تتعلق بنظرية لالاند، في العقل المكوِن( بالكسر) والعقل المكوَن( بالفتح)، التي يستعين بها الجابري في شرحه الشامل لمفهوم العقل العربي، ولاسيما من حيث مقارنتها بنظرية العقل الفاعل والعقل المنفعل. ونؤجل البحث في هذه الفروق إلى مناسبات أخرى.