بردى، ممدوح عدوان
بردى، للشاعر السوري ممدوح عدوان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القصيدة
متمهلاً يمشي .. وخوف الناس في عينيه كالمبضعْ
وطحالبٌ في ضَفّتيه تمصُّ صرخته فلا يُسمعْ
متوجعاً ينسالُ ،
بردته تكنِّس أرض شارعنا من الضوضاء
يمتص أحزان الصغار ، ويشرب الأوجاعَ لا يَشْبَعْ
والصخر يهجر قاسيون إليه مندفعاً
يُشقق راحتيه على الضفاف ولا يَمسُّ الماء
يحمرّ وجه النهر في حَنَقً يسيرُ بدمعه مُتْرَعْ
فإلى متى تتيمّم الأشجار عند الضفة الخضراء ؟
والرمل يشرب منه لا يُروى
وفي بَطَر أتت تتوضأ الصحراء
يمضي .. بَجرُّ عنانَه قلق
ويلطمه على خديه ما ينمو من الأشواكْ
فيكمِّم الأمواج مذعوراً
يهدهد هامساً لينوِّم الأسماكْ
وعلى رمال القاع في حذر تحفّى
سال تحت المرجة الخرساء
ويرد ياقته على عينيه ، يخفي الوجهَ
نرقبه ولا تتحرك الأيدي تُودِّعه
وفي توديعه تتلكأ الأضواء
ويمسُّ أرض الغوطة الخجلى فيرتعشانْ
يتعانقان بلهفةٍ
ويراقبان ظلال أشجار الطريق
ليسرقا بعض الهوى أو يطفآ الأحزانْ
ويجوس فيها مولعاً ويصبُّ فيها كل طاقته فلا تَقْنَعْ
الخوف أضحى لهفة .. حطباً لنار التوق
حتى النارُ أضحت زادها ،
التهمت لهيبَ النار غوطتنا
فلم نبصر لحبهما لهيباً
لم نلاق دخانْ
وعلى تعرج أرضها استلقى أسىً
رمحاً بغير سنانْ
سيروح منها خاوياً ليصير مُسْتَنْقَعْ
يتباطأ المجرى ..
يعرّج خطوه صوب الظلال
وينثني إعياء
الرمل بعد حدودها يَلْمَعْْ
وبراثن الصحراء لا تغفو
وفي شبق للقياهْ
بدت تتلمظ الرمضاء
كانت له ذكرى وذاكرة
وكان لديه ما يكفي من الإيمانْ
في الشعر غرَّدَ مُدْنفاً
فجرى وصفّق باسماً
لاقى الضيوف وأنزل الركبانْ
بدأ الحياة بقفزة نحو الحياةِ
ومرَّ بين الصخر كي يَرْضَعْ
ومضى ليلهوَ في السهوبِ
كما انثنى ليداعب الوديانْ
التربة الحمراء أولدها جناناً
أولد الصحراء حُوراً
عبّأ الأفياءَ بالولدانْ
لكنها ذكرى وذاكرة بلا أسماء
فلقد تراكم غيظه ..
لما تداوله جنون بنيه والأعداء
قفز الضفاف محاذراً بقميصه الممسوك بالأسنانْْ
ومضى إلى سوق المدينة وحده نزقاً
يكسِّر ما يصادفه ،
ويحرق ما يصادفه بلا حسبانْ
يجري وصفّارات بوليس المدينة خلفه
وسلالم الإطفاء
ليعاد مخفوراً إلى المجرى
متمهلاً يمضي .. وقد أضحى بلا طاقه
متمهلاً والدمع محقون بعينيه
طعنوه مراتً فلم يُصرعْ
قسموه سبعة أنهر
في كل نهر عذّبوه ،
وجرّحوا بالحقد خديه
قلعوا أظافره ، وما تركوا على كفٍّ له إصْبَعْ
فصدوا دماه وأبعدوها
غيّروا عينيه ،
لموا منه سحنته وأوراقَهْ
في كل مجرىً جفّفوه ، وجرّبوا بالسر إحراقَهْ
حقنوه بالأقذار ، دسّوا فيه ذاكرة بلا ذكرى
دسّوا عليه هوية أخرى
قنّوه في باحاتهم
وتسامروا ليلاً على أنّاته
غسلوا به الأقدام والمخدَعْ
وتداولوه فقطّعوه وأرجعوا الأشلاء للمجرى
فبكى قليلاً
لو رموه إلى الظلام مكبلاً لم يرتجف ذعراً
لو سلّموه لبائس يَزْرَعْ
لو أنّهم تركوه في الصحراء أخصبها
وأنبتها نخيلاً .. أوجهاً سمرا
لو أهملوه ، لشقَّ درباً حيثما يبغي
لأمرع في الصحارى جنة خضرا
لو شغّلوه بقسوةً
لم يبكهم
لم يرتجف بالقهر كالأسرى
لكنه حمل الدموع ، وسار في صمت
وفاجأهم بأن الماء لم يُصرَع
وجرى إلى الصحراء يخبرها
بأن النهر قد يدمى وقد يُقطَعْ
قد يستحيل بحيرةً
قد يستحيل سحابةً
قد يلتوي قهراً
لكن هذا النهر ، إذ عشقته أرض الشام
أو حضنته غوطتها
فلن يَخْضَعْ
قد ينحني إن مرت الأنوار تصفعه
لكنه إذ ينحني
حتى يمسَّ الأرض
لا يركعْ