برازيل الرئيس لولا

من معرفة المصادر

= برازيل الرئيس لولا =

بيري أندرسون عن مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس»

(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفساد المنظم [1/4]

على عكس ما يورده قول إنكليزي مأثور شهير، إنّ كلّ حياة سياسية لا تنتهي بالفشل، هي منيعة إن كانت تبرئ النفس من كلّ تهمة. ففي أوروبا ما بعد الحرب، يكفي التفكير في أول مستشار لجمهورية ألمانيا الاتحادية، أديناور، أو في رئيس الوزراء الإيطالي، دي غاسبيري، أو ربما على نحو أبلغ تعبيراً، في الجنرال الإسباني فرانكو. لكن صحيح أنّه في الظروف الديموقراطية، من النادر أن تفوق شعبية أحد الحكام في نهاية عهد طويل ما كانت عليه في بدايتها. ومن النادر أكثر ـــــ لا بل من شبه المستحيل ـــــ أن تعكس شعبية مماثلة تطرفاً في الحكم، لا استرضاءً أو اعتدالاً. يمكن حاكماً واحداً أوحد في العالم اليوم الادعاء أنّه حقق هذا الإنجاز، وهو العامل السابق الذي تنحى عن رئاسة البرازيل في كانون الثاني/ يناير الماضي حائزاً رضى ثمانين في المئة من مواطنيه. إنّ لويس إيناسيو لولا دا سيلفا هو أنجح سياسيي عصره، بكافة المعايير.[1]

يعود هذا النجاح إلى حدّ كبير إلى مجموعة استثنائية من المواهب الخاصة، هي مزيج من حسّ اجتماعي مرهف وحسابات سياسية دقيقة، أو كما تقول خليفته ديلما روسيف، مزيج من تقويم عقلاني وذكاء عاطفي، هذا من دون الكلام على مزاج مرح مفعم بالحياة وسحر خاص بالرجل. لكن هذا النجاح أتّى أيضاً، في الأصل، من حركة اجتماعية كبرى. فلم يكن ارتقاء لولا سلم السلطة ليتحول من عامل مصنع إلى حاكم لبلاده، مجرد نصر شخصي لا أكثر؛ فما مهّد له الطريق كان أبرز ثورة قامت بها نقابة عمال في السنوات الثلاثين الماضية. ثورة أدت إلى نشوء الحزب السياسي الحديث الأول في البرازيل، والوحيد لغاية الآن، الذي أصبح أداة هذا الارتقاء. فقد شكّل تزاوج الشخصية التي تتمتع بالكاريزما بتنظيم جماهيري يمتد على رقعة الوطن، مصدر قوة كبيراً.

ومع ذلك، لم يكن نجاح لولا محتماً. فبعد أن انتُخب في 2002، شهد نظامه بداية متعثرة، وكاد الوضع يصبح كارثياً، فنقضت السنة الأولى من ولايته، التي طغى عليها إرث سلفه الاقتصادي، كلَّ أمل أُنشئ على أساسه حزب العمال. ففي عهد سلفه فيرناندو أنريك كاردوسو، تضاعفت قيمة الدين العام ـــــ ونصفه تقريباً بالدولار ـــــ وبلغ عجز الحساب الجاري ضعف المعدل الذي تسجله دول أميركا اللاتينية، وتجاوزت معدلات الفائدة الاسمية العشرين في المئة، وفقدت العملة نصف قيمتها في الفترة التي سبقت الانتخابات. وفي ذلك الزمن، كانت الأرجنتين قد أعلنت حدوث أكبر عجز عن إيفاء الدين العام في التاريخ، فاعتبرت الأسواق المالية أنّ البرازيل تقف على شفير الهاوية نفسها. وإذ أراد لولا استعادة ثقة المستثمرين، عيّن فريقاً اقتصادياً يعتمد التوجه الاقتصادي التقليدي المتطرف في كلّ من المصرف المركزي ووزارة المال، فزاد من ارتفاع معدلات الفائدة وحدّ من الاستثمار العام لتحقيق فائض مالي أوّلي، تخطت قيمته تلك التي طلبها صندوق النقد الدولي. أما بالنسبة إلى المواطنين، فقد ارتفعت الأسعار ومعدلات البطالة مع تراجع النمو بنسبة خمسين في المئة. لكن ما بدا دواءً مرّاً للمناضلين كان عسلاً بالنسبة إلى حاملي السندات؛ إذ تبدّد شبح العجز عن السداد. وعاد النمو في 2004 مع انتعاش حركة التصدير، رغم من استمرار تزايد الدين العام وارتفاع معدلات الفائدة مرة أخرى. فأشار مؤيدو النظام السابق، الذين آلمتهم الانتقادات التي وجهها لولا إلى كاردوسو، بشماتة إلى أنّ الوضع يستمر على ما كان عليه في النظام السابق على أكثر من صعيد. وبالتالي، قليلة هي الأمور التي يستطيع حزب العمال البرازيلي التباهي بها.

لم يكُن هذا الوضع مشجعاً البتة، لكن تبيّن أنّ الآتي أعظم. ففي ربيع 2005، وفيما كان المجلس النّيابيّ يضمّ أكثر من اثني عشر حزباً صغيراً، تعرّض زعيم أحدها للضغط إثر تصوير مناصر من مناصريه مرتشياً، فردّ كاشفاً أنّ الحكومة تشتري أصوات النوّاب بطريقة منهجيّة مقابل مبالغ تصل إلى سبعة آلاف دولار شهرياً، لكلّ واحد منهم، بغية ضمان الأكثريّة في الهيئة التّشريعيّة. وكان جوزيه ديرسو، المكلّف شؤون الرئاسة في القصر الرئاسي، مسؤولاً عن هذه العمليّة، علماً بأنّ مصدر المال كان موارد ماليّة غير شرعيّة، يتولى حزب العمّال الإشراف عليها، فيما يهتمّ أمين صندوقه، ديلوبيو سواريز، بتوزيعها. وفي غضون أسابيع من تلك المفاجأة المذهلة، اعتُقل معاون شقيق رئيس مجلس حزب العمّال، جوزيه جينوينو وهو يركب متن طائرة وبحوزته مئتا ألف ريالٍ برازيلي في حقيبة سفر، ومئة ألف دولار في سرواله الداخلي. بعد شهر، اعترف دودا مندونسا، وهو رئيس حملة لولا الرئاسيّة، ورجل سيّئ السمعة في عالم العلاقات العامة، بأنّ الحملة موّلتها الرشى المستخلصة من مصارف ومؤسّسات ذات منفعة ذاتية، ما يُعَدّ انتهاكاً للقانون الانتخابيّ. وأضاف أنّه حصل هو نفسه على مكافأة مقابل خدماته، ألا وهي ودائع سريّة في حساب في الباهاماس. وتلا تلك الحادثة اضطرار لويس غوشيكن إلى التنحّي عن منصبه وزيراً للاتصالات، بعدما تعرّض لنقد لاذع جرّاء تبديده أموال صندوق التقاعد لغايات سياسية. ويُذكر أنّ غوشيكن كان أحد المؤتمنين على أسرار لولا السياسية، ورئيس الاتحاد العمّالي السّابق. وعلى خلفيّة أكثر سواداً رقدت جريمة القتل غير المحلولة التي اقتُرفت في مطلع 2002 وأودت بحياة سيلسو دانييل، وهو عمدة سانتو أندريه، معقل حزب العمّال، فيما سادت شكوك كبيرة في أنّه وقع ضحيّة قاتل مأجور، وأنّ للجريمة علاقة برشى، جُمعت من شركات باصات محليّة. بينما مثّل الكشف عن نطاق الفساد الواسع وراء استيلاء لولا على السلطة صدمةً محبطة بالنسبة إلى معظم قاعدة حزب العمّال، يمكن وضعه ضمن منظور تاريخيّ، وهو ما سارع إلى فعله الموالون للولا. فقد شاع في الحياة السياسية في البرازيل أن يموِّل مانحون سرّيون الحملات الرئاسية على نحو غير شرعيّ، مقابل خدمات معيّنة. وقد وُجهت إلى رئيس حزب المعارضة الأساسي، وهو الحزب الديموقراطي الاشتراكي البرازيلي الذي ترأسه كاردوسو، التّهمة نفسها، فاضُطرّ إلى الاستقالة. هذا ولم يكن شراء الأصوات في المجلس النّيابيّ أمراً جديداً، فلم يُخفَ على أحد بتاتاً أنّ كاردوسو كان يرشو نوّاب ولاية الأمازون لكي يكفل التغيير الدّستوري الذي سمح له بأن يترشّح لولاية ثانية. ولطالما شكلت الهيئة التشريعيّة البرازيليّة مرتعاً للفساد وللانتهازيّة. ومع حلول نهاية ولاية لولا الأولى، بدّل بين ثلث نواب المجلس النيابي وأربعين في المئة منهم أحزابهم، أما مع اقتراب نهاية ولايته الثانية، فقد كان أكثر من ربع أعضاء مجلسَي النواب والشيوخ قد طالته لائحة اتهام، أو يواجه تهماً معيّنة. وفي شهر كانون الأوّل/ ديسمبر، زاد المشرّعون رواتبهم بنسبة اثنين وستين في المئة. وفي 2002، فاز لولا بالانتخابات بنسبة واحد وستين في المئة من التصويت الشعبيّ، فيما نال حزب العمّال أقلّ من خُمس المقاعد في المجلس النيابيّ؛ إذ كان من الضروري للحكومة أن تجد حلفاء لها، لكي تقود أكثريّةً نيابيّةً. أراد ديرسو عقد صفقة مع حزب الحركة الديموقراطيّة البرازيليّ، وهو الحزب الأكبر في الوسط، لكن عنى ذلك التّنازل عن وزارات مهمّة. ففضّل لولا أن يؤلف مع ديريسو تحالفاً مؤلّفاً من أحزاب أصغر، تملك قدرة أضعف على المساومة. إلاّ أنّها بالطبع توقّعت حصةً من الغنائم أيضاً، حتّى لو كانت بمستوى أدنى، وهكذا وُزّعت عليها «المنسالاو» أو الرشوة الشهريّة.

على المستوى النقدي، كان الفساد الذي أفاد منه حزب العمال، وأغلب الظن أنّه أشرف عليه أيضاً، أكثر تنظيماً من فساد أي نظام سابق. ففي المطلق، تأتي الانتخابات البرازيلية في المرتبة الثانية بعد الانتخابات الأميركية من حيث كلفتها فحسب، أما من حيث نسبتها إلى الدخل القومي، فهي تتخطاها بأشواط. ففي 1996، أنفق كلينتون مبلغ ثلاثة وأربعين مليون دولار للوصول إلى البيت الأبيض؛ وفي 1994 خصّص كاردوسو مبلغ واحد وأربعين مليون دولار ليضمن الوصول إلى بالاسيو دو بلانالتو، أو قصر النجد، وذلك في بلد يساوي فيه إجمالي الناتج المحلّي للفرد أقل من سدس قيمته في الولايات المتحدة. وعلى خلاف كاردوسو الذي شق طريقه مرتين إلى النصر في الجولة الأولى من الانتخابات بحكمه مرشح السلطة، وتمتع بدعم عدد كبير جداً من الحلفاء الطبيعيين ـــــ أو كما يقول البرازيليون، «الفيسيولوجيين» ـــــ والموظفين الحكوميين في الكونغرس، خسر لولا ثلاث مرات قبل أن يترشح مجدداً للرئاسة في أوائل 2002، ولم يكن حزبه بتاتاً موضع ثقة، بالنسبة إلى كل من له وزن اقتصادي في البلاد. فمن أجل التغلب على تلك العقبة الكبيرة، كان لا بدّ من بعض الموارد الاستثنائية التي تطلّبت بدورها بعض التعهدات الاستثنائية، العامة والخاصة. وبالفعل، من خلال مجموعة أصغر من النواب وعدد أقل من الأصدقاء العفويين في الهيئة التشريعية، اضطر حزب العمال إلى اللجوء إلى الرشوة على نطاق أكبر من أجل الحصول على أكثريات موقتة ضمن الكونغرس. ربما أمكن المرء أن يتحدث عن نوع من علاوات للعمّال، في الفساد كما في انحسار التضخم: هي حاجة إلى المبالغة في إرضاء صندوق النقد الدولي، من خلال فائض أولي مفرط للحفاظ على استقرار الاقتصاد، وإلى المبالغة في الاستحصال على مبالغ غير شرعية وتوزيعها بغية الوصول إلى الحكم وممارسة السلطة. وكان ذلك يمثّل على الأقل خطاً يُفتح أمام المدافعين عن الحزب. عملياً، تمثّلت الطريقة النموذجية للتقليل من شأن ما يحدث بالإشارة إلى النزاهة الشخصية، وفي بعض الحالات، إلى السجلّ البطولي لأولئك الذين ينفقون المال لغايات تنظيمية لا فردية. فقد عمل ديرسو، مهندس حزب العمال الحديث والمخطط الاستراتيجي لفوز لولا، سنوات عديدة في السرّ بعد عودته خلسة من منفاه الكوبي. وكان جينوينو محارباً في صفوف الميليشيا في الأدغال، واعتُقل وتعرّض للتعذيب على أيدي الجنرالات. أما غوشيكن، فقد ظل يعيش الحياة المتواضعة التي يحياها عضو سابق في الاتحاد العمالي. لقد عملوا بعيداً عن أي مكاسب شخصية. عملوا لضروريات القضية.

لم تؤثر تلك الأعذار في وسائل الإعلام. وبما أنّ الصحافة البرازيلية بكلّ أقطابها معادية لحزب العمال على أي حال، فقد بلغت أقصى درجات الحماسة عندما انكشفت فضيحة «المنسالاو»، ولم توفَّر أي تكهنات قاتلة أو تفاصيل مؤذية. لقد أصبح هدفها مكشوفاً تماماً أمامها. ولم يصدر نفيٌ بأنّ حزب العمال ادّعى دوماً أنّه فوق مستنقع العادات التقليدية وأنّه العدو اللدود للفساد المستشري، وليس متمرّساً خبيراً به. وسرعان ما تبدد حتى الفرق بين سوء الإدارة في المؤسسات والفساد الفردي، بطريقة دراماتيكية. كان الشخص الأقوى الوحيد في الحكومة وزير المالية أنطونيو بالوتشي، وهو عمدة إحدى محافظات ولاية ساو باولو، فهو من أوحى بتوجيه «الرسالة إلى البرازيليين»، رسالة الحب الانتخابية التي توجه بها لولا إلى مجتمع الأعمال، واضطلع كذلك بدور الوسيط الأساسي في الصفقات السرية التي عقدها حزب العمال مع المصارف وشركات البناء في خلال الحملة. إنّه دكتور غير لامع، لا يملك مهارات اقتصادية جديرة بالذكر، لكن علاقاته السرية بمجموعات غنية، وتوجهه نحو الاقتصاد التقليدي المتشدد في منصبه، جعلا منه ضمانة لثقة أوساط الأعمال بالحكومة، وموضع اهتمام كبير من الصحافة المالية، في الداخل والخارج. فلطالما مثّلت الصفقات المريبة في بلديته، في ريبيراو بريتو، مادة دسمة للشائعات، غير أنّه يمكن التخفيف من شأن تلك أيضاً، باعتبار أنّها تملأ صناديق الحزب وحده. لكن في أوائل 2006، تبيّن أنّ أحد مساعدي بالوتشي من ريبيراو بريتو قد استأجر قصراً منعزلاً يقع على ضفة بحيرة في برازيليا. وكمشهد من فيلم للمخرج الإسباني بونيويل، شوهد وزير المال بملامحه الشاحبة ـــــ يبدو كنشّال في لوحة وضيعة من القرن السابع عشر ـــــ يتسلل من سيارة الليموزين إلى البوابة، قبل أن يدخل إلى دارة لا تحوي غرفها إلاّ أسرّة وطاولات جانبية، ليوضع عليها المال والكحول. إلى هذا المكان، تردّد بتكتّم أفراد من مجموعات الضغط، ومقربون من الوزير، بغية الاستمتاع بالحفلات وبرفقة فتيات الهوى، وكانوا يتبادلون المعلومات السرية والخدمات. وعندما ذاع خبر بيت الدعارة، قال بعض الساخرين إنّ ما من سبب يدعو إلى الدهشة؛ إذ إنّ العاصمة بحد ذاتها هي أكثر بقليل من نسخة مكبّرة عن الواقع نفسه. لم يكن بالوتشي في موقف يسمح له بالسير في ذاك الخط، وقام بمحاولات يائسة لطمس القضية. أما لولا، فقد قارنه برونالدينيو، أي بالنجم الذي لا يتحمل الفريق خسارته، وسعى بشتى الوسائل لإنقاذه، ولكن من دون جدوى. ومع سقوطه في ربيع 2006، أصبحت لائحة أبرز السياسيين المحيطين بلولا نظيفة تقريباً.

أحدث ذلك ضجّة مدويّة في الإعلام. وراحت المعارضة في الكونغرس تطالب بلجنة تحقيق تلو الأخرى، وبدأ أعضاء بارزون من الحزب الديموقراطي البرازيلي بالحديث عن اتهام لولا شخصياً بالتواطؤ في فساد محيطه. وعندما شعر لولا بأنّ موجة التهجمات تلك قد سدّت عليه كلّ السبل، بدأ يتحدث سرّاً عن اللجوء إلى الشارع، إذا استمر أعداؤه في محاولات عزله. في الواقع، كان هذا الخطر مستبعداً؛ إذ إن كاردوسو وعمدة ساو باولو المنتمي إلى الحزب البرازيلي الديموقراطي، سيرّا، اللذين هزمهما لولا في 2002 وكانا يأملان أن يصبحا مجدداً مرشحيْ حزبه للرئاسة، في وقت لاحق من ذلك العام، قرّرا أنّ من الأفضل ترك رئيس حالته حرجة في منصبه، على المجازفة ببروز خصم قوي وعنيد، في حال إطاحته. نادراً ما تخطئ الحسابات السياسية بهذا القدر. فبعدما تعرّض لولا لحصار من الصحافة ولهجوم عنيف في الهيئة التشريعية، بقيت في حوزته ورقتان رابحتان لم تنقذا موقفه فحسب، بل بدّلتا وضعه أيضاً. تمثلت الأولى بعودة التحسّن الاقتصادي المستدام. فبعد فترة شهدت أسوأ ركود في القرن العشرين ـــــ بلغ معدل النمو السنوي 1,6 في المئة في تسعينيات القرن الماضي، ولم يتجاوز 2,3 في المئة في عهد كاردوسو الذي استمر ثماني سنوات ـــــ ازداد إجمالي الناتج المحلّي بسرعة بنسبة 4,3 في المئة ابتداءً من 2004 وحتى نهاية 2006. ويعزى هذا الارتفاع المفاجئ، في المقام الأول، إلى حظ سعيد وافاه من الخارج. فقد كانت تلك هي الفترة التي ارتفع فيها الطلب الصيني بشدة على أثمن سلعتين تصدرهما البرازيل، أي الصويا والحديد الخام، وسط ارتفاع حاد وعام في أسعار السلع. ففي أميركا، حيث تعمّد الاحتياطي الفدرالي إبقاء معدلات الفائدة منخفضة للحؤول دون انفجار الفقاعة المالية في الولايات المتحدة، وفّرت سياسة «غرينسبان بوت» المالية للبرازيل تدفقات من رؤوس الأموال الواردة الزهيدة. ومع تحسّن أوضاع الأعمال والوظائف، تغيّر المزاج في البلاد. فقليلون هم المقترعون الذين كانوا مستعدين لإنكار ادعاءات الجهات الرسمية التي تنسب التحسن إلى نفسها. وفضلاً عن ذلك، أصبحت الدولة الآن تحصل على مداخيل أكبر نتيجة هذا التحسّن، وهذا هو العامل الأساسي بالنسبة إلى ورقة الحكومة الرابحة الثانية.

تعهد لولا بمساعدة الفقراء منذ البداية. كان لا بدّ من توفير الراحة للأغنياء والأقوياء، ولكن يجب محاربة البؤس بجدية أكبر من السابق. ونتيجة سوء الإدارة، باءت بالفشل محاولتُه الأولى التي تمثلت بخطة للقضاء على الجوع عبر توفير الحد الأدنى لإعالة كلّ برازيلي. أما في سنته الثانية، ومن خلال دمج عدة برامج جزئية وُضعت من قبل وتوسيع رقعة تغطيتها، أطلق برنامج الرعاية الاجتماعية «بولسا فاميليا» الذي يرتبط اسمه به الآن، لا محالة، وهو يقوم على تحويلات نقدية شهرية توفَّر لأمهات ينتمين إلى أدنى طبقات المجتمع المحدودة، الدخل مقابل إثبات أنّهن يرسلن أطفالهن إلى المدارس ويخضعنهم لمعاينات طبية. إنّ المبالغ المدفوعة قليلة جداً ـــــ حالياً، اثنا عشر دولاراً لكلّ طفل أو بمعدل خمسة وثلاثين دولاراً شهرياً ـــــ تدفعها الحكومة الفدرالية مباشرة، قاطعة بذلك الطريق على الفساد الإداري. ويطال هذا البرنامج حالياً أكثر من اثني عشر مليون أسرة، أي ربع عدد السكان. هذا وتُعَدّ كلفة البرنامج الفعلية ضئيلة جداً، لكن تأثيره السياسي هائل، لا لأنّه ساعد، ولو قليلاً، على الحدّ من الفقر وتشجيع الطلب في أكثر مناطق البلاد بؤساً فحسب؛ فالرسالة الرمزية التي ينقلها لا تقل أهمية عن تأثيره: إنّ الدولة تهتم بالبرازيليين كافة، مهما كانوا بائسين أو مظلومين، باعتبارهم مواطنين يتمتعون بحقوق اجتماعية في بلادهم. وأصبح ارتباط لولا الوثيق بهذا التغيير في ذهن الشعب أصلب ورقة سياسية رابحة يمتلكها.

مادياً، كانت أهمية سلسلة الزيادات السخية على الحد الأدنى للأجور أكبر بأشواط. فقد بدأت تلك الزيادات بالتزامن مع ذيوع أنباء الفضائح. ففي 2005، بلغت الزيادة الفعلية ضعف ما كانت عليه في العام السابق. وفي 2006، عام الانتخابات، ارتفعت قيمتها أكثر فأكثر. وبحلول 2010، بلغ معدّل الزيادات المتراكمة خمسين في المئة. ومع ذلك، يبقى مبلغ ثلاث مئة دولار في الشهر أقل بكثير من أجر أي عامل تقريباً من العمال النظاميين. لكن بما أنّ المنح قد أضيفت إلى الأجر الأدنى، عادت زيادته المطّردة بفائدة مباشرة على ثمانية عشر مليون شخص على الأقل ـــــ وعزز مكاسبَهم قانونُ الشيخوخة الذي أُقرّ في عهد لولا. كذلك، شجعت الزيادة بنحو غير مباشر العمال في القطاع غير النظامي الذي لا يشمله المعدل الرسمي، وهم يؤلفون أغلبية القوة العاملة البرازيلية، على استخدام الحد الأدنى معياراً لتحسين ما يمكنهم الحصول عليه من مستخدِميهم. وتعززت تلك التأثيرات بفضل إدخال قروض الإيداع في مرحلة مبكرة، وهي عبارة عن قروض مصرفية لمشتريات الأسر تُمنح لمن لم يملكوا حساباً مصرفياً من قبل، ويكون التسديد عبر اقتطاع القيمة تلقائياً من الأجور الشهرية أو المعاشات. معاً، أحدثت التحويلات النقدية المشروطة، والحد الأدنى الأعلى للأجور، والطريقة الجديدة للحصول على القروض زيادةً مستدامة للاستهلاك الشعبي وأدت إلى توسّع السوق المحلي الذي أنشأ أخيراً فرص عمل إضافية بعد فترة قحط طويلة. لقد حقق النمو الاقتصادي الأسرع والتحولات الاجتماعية الواسعة النطاق مجتمعَين أكبر خفض لنسبة الفقر في تاريخ البرازيل. وتشير بعض التقديرات إلى أنّ عدد الفقراء قد انخفض من نحو خمسين إلى ثلاثين مليون فقير، في ست سنوات، أما عدد المعوزين فقد انخفض بنسبة خمسين في المئة. ويمكن نسب نصف هذا التحوّل الدراماتيكي إلى النموّ، والنصف الآخر إلى البرامج الاجتماعية التي تموّلها مداخيل أعلى ناتجة من النمو. ولم تقتصر البرامج المماثلة على دعم المداخيل. فمنذ 2005، ازداد إنفاق الحكومة على التعليم بمقدار ثلاثة أضعاف، وتضاعف عدد طلاب الجامعات. وفي خلال تسعينيات القرن الماضي، لم يعد التعليم العالي مهمة حكومية في المقام الأول مع انتساب ثلاثة أرباع مجموع الطلاب إلى جامعات خاصة أُعفيت من الضرائب. وقد أُجبرت تلك الجامعات بذكاء على أن تقدِّم، مقابل العفو الضريبي، منحاً دراسية لطلاب منحدرين من عائلات فقيرة أو من غير العرق الأبيض، ما كانوا ليتمكنوا من تحصيل أكثر من المستوى التعليمي المتوسطي، لولا ذلك. مهما كانت نوعية التعليم متدنية ـــــ وغالباً ما تكون رديئة جداً ـــــ لقد جعل الأملُ بالتحسين هذا البرنامجَ، الذي يضم نحو سبع مئة ألف طالب حتى الآن، يحقق نجاحاً شعبياً عظيماً، وقورن أحياناً بقانون حقوق الجنود الأميركيين في حقبة ما بعد الحرب، وذلك من جهة سهولة الوصول إلى تقديماته. في 2006، لم تكن هذه الأمور قد أُنجزت بأكملها بعد، بل تحقق ما يكفي لحماية لولا من تهجّمات أعدائه. لم يكن الرأي العام غير مكترث تماماً بمسألة الفساد، ففي أوج فضيحة «المنسالاو» تراجعت شعبيته بشدة. ولكن لم يظهر اكتراث كبير بالرشاوى مقارنة بمثل تلك التحسينات الكبيرة التي أُدخلت إلى حيوات الناس. وبحلول الربيع، انقلبت المقاييس تماماً، لدرجة أنّ سيرّا، وبعد الاطّلاع على استطلاعات الرأي، قرر أنّه لا يملك أدنى فرصة للفوز أمام لولا، فترك منافساً عاثر الحظ في الحزب يتعرض لهزيمة نكراء في الانتخابات الرئاسية في خريف 2006، عندما حصد لولا الأكثرية عينها التي حصل عليها منذ أربع سنوات، أي 61 في المئة في الجولة الثانية، بيد أنّ التركيبة الاجتماعية لتلك الأكثرية اختلفت هذه المرة. فتحت تأثير فضيحة «المنسالاو»، تخلّت عنه أغلبية الناخبين المنتمين إلى الطبقة الوسطى الذين أيدوه في انتخابات 2002، فيما صوّت له الفقراء والمسنّون بأعداد أكبر من أي وقت مضى. كذلك لعبت حملته على وتر مختلف؛ فقبل أربع سنوات، عندما هدفت الحملة إلى طمأنة مقترعين مرتابين، صوّره مديروها على أنّه حامل «السلام والحب» لبلاده. أما في 2006 فلم تعد اللهجة بهذه العذوبة؛ فبعدما تجاهل الرئيس أخطاء حزب العمال التي كان يدركها طبعاً، شنّ هجوماً مضاداً عنيفاً على عمليات الخصخصة التي قام بها النظام السابق، فأثْرت البعض على حساب الدولة، وكان يُتوقَّع استئنافها إن انتُخب خصمه. وتجدر الإشارة إلى أنّ الفرق شاسع بين حكومتَي لولا وكاردوسو؛ إذ لم تُخصّص أي شركة في عهد لولا. فلم يكن التصرف بأصول الدولة، وغالباً بأبشع الشروط، يحظى بشعبية في البرازيل. لقد أصابت الرسالة وتراً حساساً.


ولادة رجل الدولة [2/4]

بعد الدعم الذي لاقاه لولا من النجاح الاجتماعي الاقتصادي والنصر السياسي الكاسح، أضحت ولايته الثانية مسألة ثقة، أكثر من أيّ أمر آخر. فهو لم يصبح فقط سيّد التعاطف الشعبي من دون منازع، بحكم كونه أول رئيس يؤمّن، وإن بنسبة متواضعة، رفاه هذه الشريحة الواسعة من شعبه، بل صار يتحكم تحكماً تاماً في إدارته. وغاب وزيرا لولا الأبرز عن الساحة. فكان لا بدّ من رحيل بالوتشي، «الذي كان أكثر من أخ» بالنسبة إلى لولا، وقد يتأسف شخصياً عليه، لتهدئة أعصاب المستثمرين الأجانب. أما ديرسو، سيّد الحسابات السياسية الباردة والخداع، فهو لم يحبه يوماً، بل كان يخشاه إلى حد ما. وقد حرره إقصاؤهما المشترك، فانفرد بالحكم في برازيليا. وعندما امتُحن لولا في منتصف ولايته الثانية، واجه الامتحان برباطة جأش. فصرّح بأنّ انهيار وول ستريت في 2008 قد يكون بمثابة تسونامي في الولايات المتحدة، لكنّه لن يمثّل سوى موجة صغيرة في البرازيل، فعدّت الصحافة تلك الجملة دليلاً على جهل اقتصادي متهوّر، وانعدام حس المسؤولية.[2]

لكنّه كان محقاً.

فقد أتى التحرك المضاد للتعويض عن تأثيرات دورات الأعمال فورياً وفعّالاً. فبالرغم من تراجع عائدات الضرائب، ارتفعت التحويلات الاجتماعية، وخُفضت متطلّبات الاحتياطي، وازداد الاستثمار العام ودُعم الاستهلاك الخاص. وساعدت الممارسات المصرفية المحلية على تخطي الأزمة. فالمراقبة المشددة، وإبقاء المضاعِفات النقدية أدنى بكثير من المستويات الأميركية، واعتماد قدر أعلى من الشفافية، كلّ هذا جعل المصارف البرازيلية أفضل حالاً من الأميركية، ما حمى البلاد من أسوأ تداعيات الانهيار المالي، لكنّ سياسة الدولة القوية التي جرى التضافر لتطبيقها، هي التي حركت الاقتصاد. وكان تفاؤل لولا فعّالاً؛ فبعدما طلب من البرازيليين ألّا يخافوا، راحوا يستهلكون فازداد الطلب. وبحلول الربع الثاني من 2009، تدفّقت رؤوس الأموال الأجنبية مجدداً على البلاد، ثم انتهت الأزمة مع نهاية العام. ومع اقتراب ولاية لولا الثانية من نهايتها، سجّل الاقتصاد نمواً بنسبة تزيد على سبعة في المئة؛ حتى الطبيعة نفسها كانت تبتسم لحكمه مع اكتشاف مخزون ضخم من النفط قبالة شواطئ البرازيل.

يمكن إضافة أمجاد خارجية إلى النجاحات الداخلية تلك. فنادراً ما توافقت مكانة البرازيل الدولية مع حجمها، أو أهميتها الكامنة، بل لم يحدث هذا التوافق يوماً. فقد أقام كاردوسو علاقات مع عائلتَي كلينتون وبلير في شمال الكرة الأرضية، لكن شوّهت تلك العلاقات سمعته، ليس إلّا، إذ عُدّ ناطقاً من الدرجة الثانية باسم الطريق الثالث وخزعبلاته. ودبلوماسياً، قام المبدأ الموجّه لحكمه على الولاء للولايات المتحدة. أما لولا، فقد اتبع، منذ البداية، مساراً مختلفاً. فمن دون مواجهة واشنطن، منح الأولوية للتضامن الإقليمي، فروّج لاتفاقية ميركوسور مع جيرانه جنوباً، ورفض التقليل من اعتبار كوبا وفنزويلا شمالاً. وسرعان ما قاد سيلسو أموريم، وزير الخارجية، والشخصية الأبرز في حكومة لولا، جبهة من الدول الأكثر فقراً، من أجل التّصدي لمحاولات أوروبية وأميركية لفرض المزيد من التدابير المتعلقة بـ«التجارة الحرة» ـــــ الحرة بالنسبة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ـــــ عبر منظمة التجارة العالمية في كانكون. وقد عبّر على نحو لائق عن الأمر قائلاً: «سيتذكر العالم مؤتمر كانكون على أنّه المؤتمر الذي شهد نشوء نظام تجاري متعدد الأطراف أقل استبدادية». ويعود الفضل الأكبر في فشل كلّ من واشنطن وبروكسل حتى الآن، أي بعد ثماني سنوات، في فرض إرادتيهما على العالم الأقل تقدماً من خلال جولة الدوحة الفاشلة، إلى البرازيل.

في ولاية لولا الثانية، دفع الرئيس بلاده قدماً نحو تفعيل دورها على الساحة الدولية. كان قد أصبح رجل دولة تحاول دول العالم أجمع كسب رضاه، ولم يعد مرغماً على الإذعان لأحكام «المجتمع الدولي»، أقلّه ظاهرياً. من جهة، يُردُّ هذا التغيير إلى ثقل البرازيل المتزايد كقوة اقتصادية، لكنّه عكس أيضاً هالة لولا الخاصة كحاكم العصر الأكثر شعبية، في المعنيين السياسي والاجتماعي للكلمة. وقد ترسخ الموقع الجديد الذي حققه لدولته من خلال إنشاء مجموعة «البريك» في 2009 التي جمعت رؤساء البرازيل، وروسيا، والهند، والصين في سفيردلوفسك، لمرة واحدة فقط، فوضعوا بياناً يدعو إلى احتياطي عملة عالمي. وفي السنة التالية، استضاف لولا قمة مجموعة البريك في البرازيل نفسها. نظرياً، تبدو القوى الأربع الكبرى خارج الإمبراطورية الأوروبية / الأميركية أنّها تحدّ على الأقل من هيمنة هذه الأخيرة، هذا إن لم تمثل خياراً بديلاً عنها. واللافت للنظر هو أنّه بالرغم من أنّ البرازيل هي الدولة الوحيدة من بين الأربع التي لا تمثّل قوّة عسكرية أساسية، فهي لغاية الآن الوحيدة التي تصدّت لإرادة الولايات المتحدة في مسألة تهمّها من الناحية الاستراتيجية: فقد اعترف لولا بدولة فلسطين، ليس هذا فحسب، بل رفض أيضاً الموافقة على محاصرة إيران، حتى إنّه دعا أحمدي نجاد إلى زيارة برازيليا. وكانت تلك الخطوة بمثابة إعلان استقلال البرازيل دبلوماسياً. فجنّ جنون واشنطن، وخرجت الصحافة المحلية عن طورها نتيجة هذا الخرق لتضامن دول الأطلسي، لكن قلّة من المقترعين اكترثت للأمر. ففي عهد لولا، برزت الدولة كقوّة عالمية. وبحلول نهاية عهده، لم تعكس شعبيته الواسعة التحسّن المادي فحسب، بل فخراً جماعياً بالبلاد أيضاً.

إذا كان هذا سجلّ الرئاسة الواضح، فكيف يُفسّر تاريخياً؟ في البرازيل تطغى ثلاث وجهات نظر متناقضة. فبالنسبة إلى كاردوسو وأتباعه، الذين لا يزالون يهيمنون على النخبة الفكرية والإعلام، يجسّد لولا تقاليد القارة الأكثر انكفائية. فحكمه هو مجرّد نوع من الشعبوية الغوغائية لقائد يتمتع بالكاريزما، ويحتقر الديموقراطية والكياسة، ويشتري عطف الجماهير بالصدقة والتملّق. في البرازيل، مثّل كلّ ذاك الإرثَ الكارثي الذي خلّفه غيتوليو فارغاس، الدكتاتور الذي عاد إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع بلقب «أبو الفقراء» وانتحر انتحاراً دراماتيكياً، بعد فضح إجرامية نظامه. وفي الأرجنتين، كان عهد بيرون أكثر تخريباً وإفساداً. ولا يقلّ نظام لولا عن النظامين من حيث التلاعب بالبشر والاستبدادية، وإن على نطاق أضيق في رأي كاردوسو، فهو «نوع من فروع البيرونية»، لكن لا يخفى على أحد عنصر ضغينة المحازب في هذا الوصف: إذ يشق على السلف كثيراً أن يحجبه نجم لولا إلى هذا الحد، من حيث التقدير الشعبي، لكن هذا التصنيف الأساسي ليس غير مألوف إذا عُبِّر عنه بعلى نحو أكثر اعتدالاً، إذ يمكن سماعه بين مَن يحترمون ذكرى فارغاس، كما بين من يكرهونه.

لكن المقارنة مع فارغاس، من دون ذكر بيرون، خاطئة من الناحية التاريخية. فالاختلافات بين أشكال حكمهما وحكم لولا جوهرية، إذ إنّ كبار ممارسي الشعبوية في البرازيل والأرجنتين لم يكونوا على هذا القدر من التشابه. فخطاب فارغاس كان أبوياً وعاطفياً، أما خطاب بيرون، فكان محرضاً وعدائياً، وقد تباينت علاقاتهما مع الجماهير، حيث بنى فارغاس سلطته على دمج عمّال، انتقلوا حديثاً للسكن في المدينة، في النظام السياسي، ليكونوا مستفيدين سلبيين من رعايته، وأنشأ قانون عمل حمائياً واتحاداً مستضعفاً من القمة. أما بيرون، فقد ألهبهم ليكونوا محاربين ناشطين ضد السلطة الأوليغارشية، وعبّأ الطاقات البروليتارية في نضال نقابي استمر حتى بعد مماته. لجأ الأول إلى صور للشعب تدمع لها العيون، فيما استدعى الآخر غضب «اللوس ديسكاميسادوس»، أي اللا ـــــ متسرولين المحليين، وإنما من دون قمصان، بدلاً من السراويل القصيرة.

لم يلجأ لولا في حكمه إلى أيّ من هذه الأساليب. فقد ارتكز ارتقاؤه إلى حركة نقابية وحزب سياسي أكثر عصرية وديموقراطية من كلّ ما تصوّره فارغاس أو بيرون يوماً، لكن إلى حين تمكنه من الفوز في الانتخابات الرئاسية في محاولته الرابعة، كان حزب العمال قد تحوّل إلى حدّ بعيد إلى مجرّد ماكينة انتخابية. وفي السلطة، لم يعبّئ لولا ناخبيه الذين هتفوا له ولم يدمجهم، كما لم تقولب أيّ أشكال بنيوية جديدة الحياة الشعبية. وكانت ميزة حكمه، في حال تميّز، التسريح. فقد نظّمت النقابات أكثر من ثلاثين في المئة من القوى العاملة الرسمية، في ثمانينات القرن الماضي، عندما جعل اسمه يجسد أبرع قادتهم. وتبلغ النسبة اليوم سبعة عشر في المئة. لقد سبق التراجع فترة ولايته، لكنّه لم يتأثر بها. حتى إنّه لم يجرِ المساس بالضريبة النقابية التي تعود في الزمن إلى التشريع المستوحى من الفاشية، وطُبقت في الحقبة الأكثر قمعاً من عهد فارغاس (استادو نوفو)، تلك الضريبة التي لطالما رأى حزب العمال بحق في اقتطاع الدولة لها وتوزيعها مستحقاتها آليةً لتقويض فعالية الاتحاد العمالي، ومثّل إلغاؤها مطلباً أساسياً في أوائل الثمانينات. ومن جهة أخرى، لم تتكرر أشكال المحسوبيات التي تميّز الشعبوية الكلاسيكية؛ فبرنامج الرعاية الاجتماعية «بولسا فاميليا» يُدار بموضوعية ومن دون أنظمة المحسوبية الضيقة، ونمط الحكم متميّز للغاية.

يتجه تفسير آخر نحو وجه شبه آخر. فأندري سنجر، العالم السياسي وملحق لولا الإعلامي في ولايته الأولى، والمفكر المستقل والمبدع، يمحور تحليلاً لافتاً لنظام لولا بشأن الحالة النفسية لفقراء البرازيل، حيث يرى أنّ فقراء البرازيل يمثّلون طبقة دون البروليتاريا، وتضم نحو نصف عدد السكان ـــــ 48 في المئة ـــــ ويدفعها انفعالان أساسيان، هما الأمل بأن تخفف الدولة من اللامساواة، والخوف من أن تولّد الحركات الاجتماعية الفوضى. وبحسب رؤية سنجر للأمور، يمثّل عدم الاستقرار تهديداً للفقراء، مهما كان الشكل الذي يتخذه: نزاع مسلح، أو تضخم في الأسعار، أو نشاط صناعي. وطالما يعجز اليسار عن فهم ذلك، يحصد اليمين أصواته للمحافظة التي يتبعها. وفي 1989، ربح لولا تأييد الجنوب الغني، لكن عندما حذّر فرناندو كولور من خطر الفوضى، كسب تأييد الفقراء فحقق نصراً مريحاً. وفي 1994 و1998، استطاع كاردوسو لجم التضخّم، ما وفّر له هامشاً أكبر من أصوات الشعب. وفي 2002، فهم لولا أخيراً أنّ البنّائين والمصرفيين ليسوا الوحيدين الذين يحتاجون إلى تطمينات بأنّه لن يقوم بأي تغييرات جذرية على نحو غير ملائم في السلطة، وإنما البائعون المتجولون وسكان أحزمة البؤس أيضاً، فهم بحاجة أكبر حتى إلى تلك التطمينات. وفي 2006، انقلبت الولاءات تماماً، إذ تخلّت عنه الطبقة الوسطى، فيما صوّتت له الطبقة دون البروليتارية بأعداد ضخمة. ويُذكر أنّ لولا حصل على 51,7 في المئة من الأصوات في جنوب البلاد، عندما ترشح للمرة الأولى إلى الرئاسة في 1989، وعلى 44,3 في المئة في الشمال الشرقي الجائع؛ أما في 2006، فقد خسر الجنوب بعدما جمع نسبة 46,5 في المئة من الأصوات، وربح الشمال الشرقي مع 77,1 في المئة.

مثّل بالتالي التوّجه الاقتصادي التقليدي في ولاية لولا الأولى، والحذر المستمر، لكن بدرجة أخفّ في ولايته الثانية، أكثر من مجرّد تنازلات لمصلحة رأس المال. فقد لبّيا حاجات الفقراء، الذين هم على عكس العمّال النظاميين، لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ضد التضخم، ويكرهون الإضرابات أكثر من الأغنياء، باعتبارها تهديداً لحياتهم اليومية. لذا بعدما خلف لولا، كاردوسو، حدّ أكثر فأكثر من التضخم، حتى فيما كان يرعى الاستهلاك الشعبي مبتكراً «طريقاً أيديولوجياً جديداً» مع مشروع يجمع بين استقرار الأسعار وتوسيع السوق الداخلي. وفي ذلك، يرى سنجر أنّه أظهر اهتمامه بمزاج الجماهير وبثقافة البلاد السياسية على نحو عام، وقد وسمهما تقليد برازيلي قديم بتجنّب النزاع، كلّ منهما على طريقته. فارغاس أيضاً جسّد تلك السمة على نحو عام إلى حين حوصر في النهاية. وبالتالي يمكن بالفعل اعتبار لولا من نواح عدّة ـــــ من حيث قدرته على إزالة الهموم المتعلقة برأس المال والعمل، واستغلال ظروف خارجية مؤاتية لتحقيق التنمية الداخلية، والتأكيد على المصالح الوطنية، والأهم من ذلك، إنشاء رابط مع الجماهير التي كانت سابقاً عاجزة عن التعبير ـــــ وريثاً فارغاس، إذ إنّه يقدّم مزيجاً قوياً من السلطة والحماية، تماماً كما فعل «أبو الفقراء» في الماضي، لكن بطرق أخرى، منحه كلٌّ من جذوره الشعبية كمهاجر معدم من الشمال الشرقي، وتعهداته الديموقراطية، التي لا تترك مجالاً للشك، شرعيةً وصداقية كمدافع عن الشعب، أكثر بكثير مما قد يملكه يوماً صاحب مزرعة غني من الجنوب، ترك الفقراء يتخبطون في بؤسهم. لم يعدّ لولا نفسه من سلالة فارغاس. فالرئيس الذي تماثل معه كان كوبيتشك، باني برازيليا، ومتفائل آخر لم يصنع لنفسه يوماً عدواً بملء إرادته.

لكن بالنسبة إلى سنجر، تأتي المقارنة بحاكم أكثر شهرة في مكانها. ألم يكد لولا أن يصبح روزفلت البرازيل؟ تجسدت عبقرية فرانكلين د. روزفلت في تبديل المشهد السياسي من خلال مجموعة إصلاحات رفعت في النهاية ملايين العمّال المحتاجين والموظفين الغارقين في الضيق، من دون ذكر الذين خسروا وظائفهم نتيجة الكساد، إلى صفوف الطبقة الوسطى في أميركا ما بعد الحرب. وأي طرف يطلق حركية اجتماعية نحو الأعلى، وعلى نطاق مماثل، سيسيطر على الساحة السياسية وقتاً طويلاً، كما فعل الديموقراطيون في خضم «الصفقة الجديدة»، مع العلم أنّ المعارضة ستتأقلم في نهاية المطاف مع التغيير، وستنافس من المنطلق ذاته، كما فعل أيزنهاور في 1952. وإذ قام لولا بتغييرات مماثلة، يمكن إظهار تشابه دقيق بين انتصار لولا عامي 2002 و2006 وانتصار روزفلت عامي 1932 و1936: أغلبية ساحقة في البداية، يليها انهيار ناتج عن تصويت الطبقات الشعبية بكثافة للرئيس، فيما انقلبت الطبقات الأعلى ضده. فمن المتوقع أن تشهد البرازيل دورة سياسية طويلة بالقدر نفسه، تحرّكها ديناميات الارتقاء الاجتماعي عينها.

لا يُعدّ البحث عن أوجه شبه مع فرانكلين د. روزفلت أمراً جديداً في البرازيل. فقد أحب كاردوسو أيضاً أن يقارن مشروعه بمشروع الحلف الديموقراطي الجامع في الشمال. وقد يقترب لولا أكثر من الذي يُشبَّه به، لكنّ التناقضات بين الصفقة الجديدة وإدارته لا تزال واضحة. فقد أُدخلت إصلاحات روزفلت الاجتماعية بضغط من الأسفل، في موجة من الإضرابات المتفجرة وانتساب متزايد إلى النقابات. ومثّل العمال المنَظمون ابتداءً من 1934 قوة هائلة اضطر إلى تملقها بقدر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. في المقابل، لم يلقَ لولا دعماً ولا تحدياً من أي نضال صناعي مماثل (كان الريفيون الذين لا يملكون أراضي وقاموا بهذه المحاولة ضعفاء جداً، وهُمّش تحركهم بسهولة). وفيما واجه روزفلت كساداً كبيراً لم تتخطّه الصفقة الجديدة فعلياً، ولم ينقذه من فشلها إلا اندلاع الحرب العالمية الثانية، واجه لولا ذروة ارتفاع أسعار السلع في فترة من الازدهار المتزايد. وفيما اختلف حظّاهما، تباين أسلوباهما تبايناً تاماً: فالأرستقراطي الذي أبهجه بغض أعدائه له، والعامل الذي لم يرد استعداء أيّ كان، لا يمكن أن يكونا على قدر أكبر بعد من التناقض. ولو أتت نتائج حكميهما النهائية متطابقة تماماً، لبدت العلاقة المباشرة بين الأسباب والنتائج ضعيفة.

مع ذلك، ثمة وجه شبه ما في نقطة معينة. فحدّة العدائية تجاه روزفلت في الدوائر المحافظة، حتى اندلاع الحرب لم تكن متناسبة قط مع السياسات الفعلية لإدارته. وكيفما بدت الأمور، يمكن القول إنّ الخلل نفسه حصل في البرازيل، حيث لم يُقابَل كره لولا للنزاع بالمثل. فمَن يكوّن انطباعاً معيناً عن حكومته من الصحافة الأجنبية المعنية بشؤون الأعمال، قد ينصدم مما تنقله الصحافة المحلية. فمنذ البداية تقريباً، عبّرت كلّ من مجلّة «ذا إكونومست» وصحيفة «فاينانشال تايمز» عن إعجابهما بالسياسات المراعية للسوق والمواقف البنّاءة اللتين تميز بهما عهد لولا، ولطالما قابلتاهما بغوغائية نظام تشافيز في فنزويلا وانعدام مسؤوليته: فرجل الدولة الذي وضع البرازيل على مسار ثابت نحو الاستقرار الرأسمالي والازدهار، يستحق كل ثناء، لكن قارئ صحيفتي «فولها» و«استادو»، فضلاً عن مجلة «فيغا»، كان يعيش في عالم مختلف. فبحسب ما يرد عادة في مقالاتها، كان يحكم البرازيل حكماً سيئاً ديكتاتور فظ، ومدّع لا يفهم بتاتاً المبادئ الاقتصادية، كما لا يكنّ أدنى احترام للحريات المدنية، ويمثّل تهديداً دائماً للحرية والملكية على حدّ سواء.

لم يكن لدرجة الحقد الموجهة ضد لولا أي علاقة تقريباً بما كان يقوم به فعلياً، إذ خبّأت وراءها ضغائن أكثر وأكبر. فقد عنى نظامُ لولا بالنسبة إلى الإعلام فقدانَ السلطة. منذ 1985وانتهاء الحكم العسكري، كان أصحاب وسائل الإعلام والتلفزيونات يختارون فعلياً المرشحين ويحددون نتائج الانتخابات. والقضية الأشهر كانت دعم إمبراطورية غلوبو للرئيس السابق كولور، ولم يكن تتويج الصحافة لكاردوسو حتى قبل أن يترشح، ليقلّ عنها إثارة للدهشة، لكن علاقة لولا المباشرة مع الجماهير كسرت تلك الحلقة، فأقصت الإعلام ودوره عن قولبة المشهد السياسي. فللمرة الأولى، لم يكن الحاكم رهن أصحاب المؤسسات الإعلامية، وقد كرهوه لذلك، لكن ضراوة الحملات اللاحقة ضد لولا ما كانت لتستمر لوْلا وجود جمهور متعاطف معها، وقد تمثّل في طبقات البلاد الوسطى التقليدية، المتمركزة على نحو أساسي، لا حصراً، في المدن الكبيرة، وبخاصة ساو باولو. لم يكن سبب العدائية داخل تلك الطبقة فقدان سلطة لم تملكها قط، بل فقدان منزلة معينة. فالرئيس الحالي كان عاملاً سابقاً غير متعلم اشتهر بلغته الركيكة، ليس هذا فحسب، بل كانت الخادمات والحراس والمستخدمون والرعاع على أنواعهم أيضاً، يحصلون، في عهده، على سلع استهلاكية بقيت مخصصة قبل ذلك للمثقفين، فراحوا يسرفون في الغرور في حياتهم اليومية. وقد أزعج ذلك الكثيرين من الطبقة الوسطى: فارتقاء النقابيين والموظفين الحكوميين يعني انحدارهم في العالم، ما سبّب ظهوراً قوياً لـ«رهاب الشياطين»، وهي التسمية التي استخدمها الصحافي والناقد الجريء، إيليو غاسباري. فأدّى امتزاج الغم السياسي، الذي يشعر به أصحاب المؤسسات ورؤساء التحرير، مع الضغينة الاجتماعية، التي تسيطر على القرّاء، إلى ظاهرة تتصف بمرارة غريبة في معظم الأحيان، هي ظاهرة المعاداة لنظام لولا، التي تتعارض وأيّ إدراك موضوعي لمصلحة الطبقة.

المناضل يتحول موظفاً [3/4]

لم يتسبب حكم لولا قط في أيّ أذى لأصحاب الممتلكات، بل أفادهم إلى حدّ كبير. فلم تزدهر رؤوس الأموال بالقدر الذي عرفته في عهد لولا، وتكفي الإشارة إلى البورصة للدلالة على ذلك؛ فبين 2002 و2010، فاق أداء بوفيسبا، أي بورصة ساو باولو، أداء أي بورصة أخرى في العالم، محلّقة بنسبة 523 في المئة، وهي تشكّل اليوم ثالث أكبر مجمّع للسندات المالية والعقود الآجلة والسلع في العالم. وتراكمت أرباح المضاربة الطائلة لصالح طبقة بورجوازية معتادة المراهنة على أسعار الأسهم. أما بالنسبة إلى عدد أكبر من القطاعات التي تتجنب المخاطرة في الطبقة الوسطى، فقد أسفرت معدلات الفائدة العالية جداً عن عائدات أكثر من مرضية، حُققت من ودائع مصرفية بسيطة. وتضاعفت التحويلات الاجتماعية منذ الثمانينيات، لكن الدفعات على الدين العام بلغت ثلاثة أضعاف. وشكّل إجمالي الإنفاق على برنامج الرعاية الاجتماعية «بولسا فاميليا» 0,5 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي. وازداد مدخول أصحاب الدخل من الدين العام بنسبة ستة أو سبعة في المئة. وتُعدّ الإيرادات الضريبية في البرازيل أعلى من تلك القائمة في معظم الدول النامية، إذ تشكّل أربعة وثلاثين في المئة من إجمالي الناتج المحلّي، ويعود ذلك جوهرياً إلى التعهدات الاجتماعية الواردة في دستور 1988، في أوج عملية ترسيخ الديموقراطية في البلاد، عندما كان حزب العمال لا يزال قوة راديكالية صاعدة. لكن العجيب أنّ الضرائب بقيت تنازلية؛ فيخسر الذين يعيشون على أقل من ضعف الأجر الأدنى نصف مداخيلهم لصالح الخزينة، أما الذين يعيشون على ثلاثين ضعف الأجر الأدنى فيخسرون ربع مداخيلهم. وفي الأرياف، أُطلقت عملية إزالة الأشجار المنخفضة من مناطق داخلية واسعة من أجل أعمال تجارية زراعية حديثة، وتواصلت العملية بسرعة في عهد لولا، فكان من نتائجها أنّ ملكية الأراضي أضحت مركّزة اليوم أكثر مما كانت عليه منذ نصف قرن، وقد تحركت العقارات المُدنية في الاتجاه عينه. تزعم تقارير رسميّة يدعمها الكثير من التحاليل الإحصائيّة وتؤيّدها وكالات متعاطفة وصحافيّون في الخارج، أنّ الفقر قد انخفض إلى حدّ كبير في البرازيل في هذه السّنوات، وهو أمر لا شكّ فيه إطلاقاً، كما تزعم أيضاً أنّه تم الحدّ من عدم المساواة بنحو جوهريّ، إذ تراجع معامل جيني (Gini coefficient) من درجة شديدة الارتفاع بلغت 0.58 في بداية عهد لولا إلى درجة لم تتجاوز 0.538 في نهاية عهده. وفق تلك التقديرات، يُزعم أنّ مداخيل العُشر الأفقر من الشعب قد ازدادت بمعدّل بلغ ضعف معدل مداخيل العُشر الأغنى تقريباً، وذلك منذ المنعطف الذي شكّله العام 2005 فصاعداً. والأفضل من كلّ هذا، أنّ 25 مليون شخص انتقلوا إلى صفوف الطبقة الوسطى التي شكّلت مذّاك أكثريّة الأمّة. ويرى العديد من المعلّقين المحلّيين والأجانب أنّ هذا هو التطوّر الوحيد الذي يدعو إلى الأمل في رئاسة لولا. فهو العامل الإيديولوجي الأساسي والأهمّ في التقارير المتوهّجة التي كتبها نصراء لولا، ومنهم مايكل رايد، رئيس تحرير مجلّة «ذا إيكونومست»، الأميركي اللاتينيّ، الحريص على اعتبار الطبقة الوسطى الجديدة في البرازيل المنارة لديموقراطيّة رأسماليّة مستقرّة في «المعركة من أجل الروح» التي تخوضها «قارّة منسيّة» ضدّ محرّضي الجماهير الخطيرين وضدّ المتطرّفين. ويستند معظم ذاك الثناء إلى حيلة تصنيف، يُعدّ فيها شخص ذو دخل منخفض يصل إلى 7000 دولار سنويّاً (وهذا عوز في بلدان أخرى) منتمياً إلى «الطبقة الوسطى»، فيما، بحسب المخطّط عينه، تبدأ حدود الطبقة العليا ـــــ النخبة الأعلى ــــ،ـ من المجتمع البرازيليّ، التي تضمّ 2 في المئة من الشّعب فقط، عند ما يقارب ضعف متوسط الدّخل للفرد الواحد لدى سكّان العالم أجمع. وقد أشار مارسيو بوكمان، رئيس معهد البحوث الاقتصاديّة المطبّقة، الرّائد في البرازيل، بوضوح شديد إلى أنّ وصفاً أدقّ للطبقة الوسطى الجديدة، التي يُسرَف في الإطراء عليها، قد يكون بكلّ بساطة «طبقة الفقراء العاملين». وأكثر عموميّةً، يجب أن يكون الاعتقاد بأنّ عدم المساواة في البرازيل قد تراجع بنحو ملحوظ، موضع شكوك، بما أنّه يرتكز على بيانات الدّخل الاسميّ التّي تستثني ـــــ بحسب القواعد الإحصائيّة القياسيّة ـــــ «أصحاب الدخل المرتفع»، أي الأثرياء المترفين، كما تتجاهل، وهي النقطة الأهم، زيادة قيمة رأس المال والتكتم على الأرباح الماليّة في قِمّة المجتمع. وتلاحظ الدراسة الرائدة المعنونة «تراجع عدم المساواة في أميركا اللاتينيّة»، من عملية المسح القياسية التي أُجريت للأُسر، أنّه «يُستخفّ كثيراً بدخل الملكيّات»: «إذا شهد الدخل الأعلى الذي يتجاهله المسح ارتفاعاً نسبيّاً كبيراً، فقد تُظهر الديناميّات الحقيقيّة لعدم المساواة الشّاملة نزعةً تصاعديّةً، حتّى عندما تبيّن التقديرات المرتكزة على المسح نتائج معاكسة». وبالتالي، يُقدَّر أنّ بين 10 آلاف و20 ألف عائلة في البرازيل تحصل على حصّة الأسد من المدفوعات السنويّة من الدين العام البالغة 120 مليار دولار (أمّا كلفة برنامج الرعاية الاجتماهية بولسا فاميليا فتبلغ بين 6 مليارات و9 مليارات دولار)، فيما تضاعف عدد أصحاب الملايين في العقد الأخير، أكثر من أيّ وقت مضى. ويجب أن يكون الازدهار المفاجئ الذي عرفته البورصة وحده تحذيراً كافياً من أيّ سذاجة متعلّقة بهذا الموضوع، فالأثرياء يدركون تماماً أين تكمن مصلحتهم. وبعكس «المَلكيّين الاقتصاديّين» الذين هاجمهم روزفلت، وكانوا يكرهون الصفقة الجديدة، أيّد معظم المموّلين والصّناعيين البرازيليين، باندفاع، حكم لولا. فلم يكُن أصحاب رؤوس الأموال أكثر وعياً للأمر من الطبقة الوسطى ـــــ الحقيقيّة ـــــ فحسب، بل شعروا بارتياح حياله أكثر من أي نظام سابق: وهو أمر منطقي تماماً إذ لم تكُن المكاسب يوماً أعلى مما سجلته في تلك المرحلة.[3]

أمّا التفسير الثالث لنظام لولا، بعد تفسيري كاردوسو وسينجر (راجع الحلقة الثانية)، فيقضي بأن توضع هذه الفوائد في محور أيّ تحليل واقعي لنظام حكمه. ففي مجموعة من المقالات الثائرة، بلور عالِم الاجتماع تشيكو دي أوليفيرا نظرةً حول نظام لولا، تتناقض تقريباً من كل النواحي مع نظرة سنجر الذي لا يزال على علاقة طيّبة معه، بالرّغم من اختلافاتهما السّياسيّة (فدي أوليفيرا، وهو أحد مؤسّسي حزب العمّال التاريخيّين، ترك الحزب مشمئزّاً بُعيد انضمام سنجر إلى حكومة لولا). لا يناقض دي أوليفيرا توصيف صديقه لحالة الفقراء النفسيّة أو للتحسينات التي أدخلها لولا على أقدارهم. فواقع الطبقة دون البروليتارية، بحسب وصف سنجر، هو القبول بالتخفيف من قساوة ظروف الحياة تخفيفاً متواضعاً وتدريجاً من دون إثارة امتعاض الأثرياء. لكنّ تفسير سنجر يركّز بنحو حصري جداً على العلاقة القائمة بين لولا وجمهور ناخبيه، فينقصه عاملان مميّزان أساسيّان لفهم نظام لولا. الأوّل هو اللحظة التي ظهر فيها نظام لولا في تاريخ رأس المال العالمي. فقد أوقفت العولمة إمكانيّة تحقيق مشروع شامل للتنمية الوطنيّة من النوع الذي سعى إليه دوماً في البرازيل أشخاص عدّة، ليس أقلّهم لولا نفسه. والثورة الصّناعيّة الثالثة، المرتكزة على التقدّم البيولوجي والرقمي اللذين يمحوان الحدود بين العلم والتكنولوجيا، تتطلّب الاستثمار في البحوث وتفرض براءات اختراع لا تسمح بنقل سريع لنتائجها إلى أطراف النظام، أقلّه في بلد كالبرازيل، حيث لم يتخطَّ الاستثمار، حتّى في ذروة التنمويّة في عهد كوبيتشك في الخمسينيات، نسبة منخفضة تبلغ 22 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي؛ ويبقى الإنفاق على البحث والتطوير عملية استجداء.

بالتالي، بدلاً من تحقيق تقدّم صناعي إضافي، كانت نتيجة موجة الثورة التكنولوجيّة الأخيرة في البرازيل نقل تراكم رؤوس الأموال من التصنيع إلى الصفقات المالية وإلى استخراج الموارد الطبيعيّة. يُضاف إلى ذلك نموّ شديد السرعة في القطاع المصرفي يتيح النسبة الأعلى من الأرباح، وفي استخراج المعادن وتجارة المحاصيل الزراعية من أجل التصدير. وتتمثل النتيجة الأولى بالتفاف يحوّل الاستثمار عن الإنتاج، والثانية بانحسار يردّ البرازيل إلى دورات سابقة من الاعتماد على السّلع الأولية من أجل النموّ. فكان على نظام لولا أن يضبط دينامية هذين القطاعين من أجل التوصّل إلى تفاهم مع أصحاب رؤوس الأموال. وهنا يكمن العامل المميّز الأساسي الثاني، إذ كانت النتيجة تغيير البنى التي نشأ منها نظام لولا، أي حزب العمّال والاتحاد العمالي اللذين أصبحا جهاز السّلطة الذي استند إليه نظام لولا بعد 2002. وكُلِّفت قيادة الاتحاد العمالي الرئيسيّ بتولي أكبر صندوق تقاعد في البلاد، فاستوطنت كوادر حزب العمّال الإدارة الفدراليّة، حيث يحقّ للرئيس البرازيليّ تعيين أكثر من 200 ألف شخص في وظائف ذات رواتب جيّدة، وهو عدد يفوق بكثير ذاك المسموح به لمسؤول في أميركا، بحسب نظام الغنائم. لقد سُحبت هذه الطبقة الاجتماعيّة حتماً إلى داخل دوّامة الأَمْوَلة (Financialization) التي تغمر الأسواق والبيروقراطيّات معاً، فانفصلت كلياً تقريباً عن الطبقة العاملة. وأصبح أعضاء الاتحاد العمالي مديري أحد أكبر تكتّلات رأس المال في البرازيل، فبات مسرحاً لصراعات شرسة من أجل السيطرة أو التوسّع، بين مقتنصي فرص متنافسين. وصار المناضلون موظفين يستمتعون بكل مكاسب إضافية يمكن تحقيقها في مناصبهم، أو يسيئون استغلالها.

فيما تشابك منطق جديد لمراكمة الثروات مع سعي جديد لتعزيز النفوذ، تكوّنت طبقة اجتماعية هجينة ـــــ شبّهها دي أوليفيرا بخلد الماء كنوع هجين في مملكة الحيوانات ـــــ تتّخذ من الفساد مسكناً طبيعيّاً لها. فأصبح عندئذ الفقراء غير المنظّمين في الاقتصاد غير النظاميّ يشكلون قاعدة لولا الانتخابيّة. ولا يمكن لومه على ذلك أو على الشعبويّة الجديدة التي تتسم بها علاقته بهم، التي لم يستطِع تشافيز أو كيرتشنر تجنّبها. لكن بين القائد والشعب يكمن جهاز أصبح مشوّهاً. فما ينقص في تفسير سنجر هو إدراك هذا الجانب القاتم في نظام لولا، إذ إنّه أحرز نوعاً من هيمنة مقلوبة. ففيما يرى غرامشي أنّ الهيمنة في النظام الرأسماليّ الاشتراكيّ كانت السيطرة الأخلاقية التي يمارسها أصحاب الثروات على الطبقات العاملة التي تضمن قبول المهيمَن عليهم بالهيمنة، في نظام لولا، بدا كأنّ المهيمَن عليهم قد قلبوا المعادلة، فقبل المهيمِنون بقيادة الأوائل للمجتمع لكي تُثبَّت بنى استغلالهم. لم يكن تشبيه الوضع بالوضع في الولايات المتّحدة في خلال الصفقة الجديدة بالتشبيه المناسب تماماً، بل الملائم هو تشبيهه بوضع جنوب إفريقيا في ظل مانديلا وإيمبيكي، حيث أُسقط ظلم الفصل العنصريّ، وأصبح قادة المجتمع من السود، لكنّ قانون رأس المال وبؤسه كانا ثابتين أشدّ ثبات. لقد كان مصير الفقراء في البرازيل نوعاً من فصل عنصريّ أنهاه لولا، إلا أنّ التطوّر المنصف والشامل بقي بعيد المنال.

يظنّ الكثيرون، وحتّى هؤلاء الذين تشبه وجهات نظرهم السياسيّة وجهة دي أوليفيرا، أنّ هذه الصورة مبالَغ فيها، وكأنّ الجانب القاتم من نظام لولا، الذي يصعب نكرانه بذاته، قد تحوّل في وصف دي أوليفيرا إلى كسوف كامل. كيف تلقّى حزب العمّال هذا التحليل؟ لم تكد تصدر كلمة واحدة. فجزئياً، غالباً ما يقال إنّه بشخصه محبوب ومحترم لدرجة أنّ ما من أحد، ما عدا ديلوبيو وديرسو اللذين قاضياه بجرم التّشهير قبل أن يُتّهما، يريد الخلاف معه. هي مودّة برازيليّة حقيقية! لكن ماذا عن تحليل سنجر الأكثر إيجابيّةً؟ عمليّاً، ما من ردّ فعل عليه أيضاً. فبعدما تحوّل حزب العمّال إلى ماكينة للحصول على أصوات الناخبين، حافظ على معظم مناضليه وجمهور أعضائه العريض، إذ شارك نحو 300 ألف عضو في انتخابات الحزب الداخليّة الأخيرة، إلاّ أنّه خسر الجناح المؤلف من أهل الفكر، وشحّت أفكاره عموماً. ويُذكر أنّه لدى نشوء الحزب، عند منعطف ثمانينيات القرن الماضي، مثّل أهل الفكر البرازيليّون عاملاً محفزاً حيوياً في التحرّكات الضخمة ضدّ النظام العسكريّ آنذاك، وأدّوا دوراً أساسيّاً في الحياة السّياسية في المرحلة التي تلت انسحاب النظام من الساحة. لكن بعد عقد واحد، عندما تولّى كاردوسو الرّئاسة، انقسم أهل الفكر إلى معسكرَين متناوئين، بين الذين أيّدوا النظام والذين عارضوه. كان حزب العمّال حزب الأخصام الذي يتمتّع بشريحة واسعة من أكبر مفكّري البلد. وبعد عقد آخر، ظهرت خيبة الأمل مع تولي لولا السّلطة. لقد ظلّ معظم الأشخاص اللامعين الذين انتموا في السّابق إلى حزب العمّال يصوّتون له لغياب أيّ حزب أفضل منه، ولإبعاد اليمين عن الحكم، إلاّ أنّ الالتزام كان قد تلاشى. وتبيّن المظاهر جميعها أنّ الحزب لم يبالِ البتّة.

هل لذلك أهمية؟ في الستينيات من القرن الماضي، كانت الثقافة البرازيليّة متألّقة، ليس قبل الحكم العسكريّ فحسب، بل حتّى في خلاله: كرة القدم لم تتغرّب بعد، وموسيقى البوسا نوفا، والمسرح التجريبيّ، وسينما نوفو؛ هي ماركسيّة خاصة بأهل البلاد الأصليّين تنافس أيّ ماركسيّة في أوروبا ـــــ تجمع الفلسفة وعلم الاجتماع والأدب والنقد الثّقافي. لكن عندما نهض البلد من الديكتاتوريّة في 1985، كانت القوّتان اللتان بدّلتا المشهد الثقافي في شمال الكرة الأرضية قد بدأتا بإعادة قولبته في البرازيل: من جهة، الأكاديميّة الحديثة مع ما تقدمه من إخضاع المهن للبيروقراطية وتخصّص للميادين؛ ومن جهة ثانية، قطاع الموضة والترفيه الذي يسوّق كل ما تقع عليه يده. إذاً لم تفلت أيّ ثقافة من نير الاحتراف والتسويق، ويرافقهما حتماً عدم التّسييس، إلا أنّ مدى هذا التغيير يتباين تبايناً كبيراً بين مجتمع وآخر. فبالمقارنة مع البرازيل منذ 50 أو 30 سنةً، يستطيع المرء أن يلمس انخفاض الزخم السياسيّ في الحياة الثقافيّة. وبالمقارنة مع أوروبا، قد تبدو قواعد العمل السياسيّ ضرباً من الخيال.

يعود ذلك جزئيّاً إلى مجرد استمرار أشخاص وأفكار من عهد سابق، على خلفيّة جامعية أقل حيوية، ولو أكثر إتقاناً من الماضي. فأنطونيو كانديدو، عميد التاريخ الأدبي البرازيلي، وأحد حجارة الزاوية الفكرية الأخلاقيّة بالنسبة إلى اليسار، لا يزال له تأثيره وهو في الثالثة والتّسعين من العمر. ومن الجيل اللاحق، يُعد روبرتو شوارز أفضل ناقد جدليّ في العالم أجمع، منذ أدورنو؛ أما تشيكو بواركي، فقد يكون مؤلّفاً متعدد المواهب فريداً من نوعه، إذ يكتب في الوقت عينه أغنيات ومسرحيّات وروايات؛ ويُنظر إلى دي أوليفيرا على أنّه العقل السّوسيولوجي الأكثر ابتكاراً في أميركا اللاتينيّة، فيما يمكن القول إنّ أمير صادر هو المفكّر السياسي المتطرّف الوحيد ذو النظرة القارّية. تبقى الوجوه الأصغر سنّاً كسنجر وبوكمان نتاج المراحل الأخيرة من الصراع ضدّ الديكتاتوريّة. أمّا على صعيد الفنّ، فلا تزال الأشكال المتفجّرة تنتَج ولو أصبحت اليوم خاضعةً أكثر إلى المحايدة أو الانحطاط في سبيل التّرفيه: فعلى سبيل المثال، تحوّلت رواية باولو لينز «مدينة الله» إلى عمل سينمائيّ رخيص، من إخراج خبير في الإعلانات المتلفزة؛ أما خوسيه باديلها، فقد تراجع مستوى أعماله من الحقائق المرّة التي عرضها في فيلمه الوثائقي «باص 174» إلى أفلام حركة من الدرجة الثانية. لكن إغراءات السوق يمكن أن تقاوَم، فالقنبلة الأدبيّة الأخيرة، رواية رينالدو مورايس الصعبة المعنونة «بورنوبوبيا» التي استهدفته مباشرةً، هضمها السوق إلى حدّ ما.

وجدت التغييرات التي تجري في هذه الحقبة مرصدها في ما يُعد اليوم المجلّة الدوريّة الفضلى في البلاد. فقد أُطلقت المجلّة الشهرية بياوي في خريف 2006، حين بدأت ولاية لولا الثانية. كان رئيس تحريرها، ماريو سيرجيو كونتي الآتي أساساً من خلفية تروتسكيّة يساريّة، يدير، في التّسعينيات، المجلّة الأسبوعيّة الواسعة الانتشار «فيغا» المرادفة البرازيلية لمجلة «إكسبريس» الفرنسيّة أو «دير شبيغل» الألمانيّة. في نهاية العقد المنصرم، استقال من منصبه وأخذ إجازة سنويّة تم التفاوض عليها مسبقاً، فكتب في خلالها، بعين المحلل الذي ينظر من الداخل، تقريراً كاملاً عن الطريقة التي دفع بها الإعلام البرازيلي كولور إلى الرئاسة في 1989، ثم خلعه في 1992 (وكان كونتي نفسه قد نشر في فيغا السّبق الصحافيّ الأساسيّ الذي تسبب في خلعه). يتّسم كتاب كونتي «أخبار عن الاستقرار» بحيويّة سرديّة خالصة، ويضم مجموعة كبيرة من الشخصيّات من كل المستويات، ويتميز بكثافة التفاصيل، وأخيراً وليس آخراً بنهاية دراماتيكية؛ فالكتاب أشبه بوثائقيّ بقلم الفرنسي بالزاك. فهو لا يستثني أحداً، من مالكي وسائل الإعلام إلى المعلّقين فالمراسلين، بل يخالف أحد المحرّمات الأساسية في الصحافة، ذاك القائل إنّ اللص لا يسرق لصاً. ويضمّ بين الحين والآخر شكاوى رجعيّة يرفعها صحافيون على مالكي وسائل الإعلام. هل هو معرض يكشف وجوه الصحافيّين أنفسهم؟ لم تصل درجة السخرية إلى الحد الذي بلغه الهزء الذي اعتمده الفرنسي البريطاني بيللوك في كتاباته. ويُذكر أنّه قبل نشر كتاب «أخبار عن الاستقرار»، أراد القطب الإعلامي روبيرتو سيفيتا، صاحب الامبراطوريّة الإعلاميّة التي تملك مجلّة فيغا، أن يعيد كونتي إلى حظيرته، فوافق على مضض على السماح له بأن يطلق مجلّة دوريّة تتميز بطموح فكريّ أعلى، وتتوجه إلى شريحة قرّاء أصغر، مقتنعاً بأنّها لن تحقق له مكاسب مالية أبداً. فمضت الاستعدادات للمشروع قدماً، إلاّ أنّ سيفيتا أوقفها فوراً عندما اطّلع على كتاب «أخبار عن الاستقرار».

بعد خمس سنوات، عندما كان كونتي يعمل مذيعاً في باريس، التقى، عبر أصدقاء مشتركين، بوريث إحدى أكبر الثروات المصرفيّة البرازيليّة، وهو جواو موريرا ساليز. ساليز مُخرج يحسن التمييز أكثر من شقيقه الأكبر الأشهر منه، وصاحب الكتابين الترفيهيّين «المحطّة المركزيّة» و«مذكّرات درّاجة ناريّة». فالطريقة التي صوّر فيها جواو الرئيس لولا ما وراء الكواليس في خلال حملة 2002 بعنوان « أنترياتوس»، تعد تحفة في غموضها، إذ يمكن أن تُقرأ على حد سواء كثناء معجَب بحيويّة المرشّح وبدماثته، وكتصوّر مسبق لمشاهد مقلقة عن تآكل السّلطة المتوقع. وكان موريرا ساليز، الذي يفكّر أيضاً في إطلاق مجلّة، قد سمع بفكرة كونتي، وبعد مناقشتها، لم يوافق على تمويلها فحسب، بل أراد أن يعمل فيها تحت إدارة كونتي، وهو تدبير غير اعتياديّ بالنسبة إلى مليونير يملك مجلّةً. أصرّ فقط على أن تُحرّر المجلّة في ريو، لتشكيل ثقل مواز لتركّز الحياة الفكريّة المفرط في ساو باولو، بعد انتقال رؤوس الأموال إلى داخل البلد. بدت المجلّة الصادرة عن هذا الاتفاق متميّزة الأسلوب، ونُظر إليها أحياناً كنوع من مجلّة «نيويوركر» الاستوائيّة. ومع أنّها لا تقل عنها نباهة، لا تختلف عنها من حيث التّصميم فحسب، إذ تُطبع على ورق غير أملس بحجم أكبر، بل من حيث الرّوح أيضاً كما يشير اسمها. فقد اختيرت بياوي، وهي إحدى أفقر الولايات في شمال شرق البرازيل وتُعد نموذجاً عن الريفيّة المتخلّفة، لتكون نقيضة لمانهاتن بنحو يثير السخرية. وإذ كان حاكم المقاطعة الذي يعيش في جو من الترف غير مطّلع على سمعة ولايته، نزل في الوقت المناسب لزيارة المجلة برفقة مواكبة ضخمة، فشكر محرّريها بحرارة، بالطريقة البرازيليّة النموذجية، على منحهم ولايته هذا التميّز الذي تستحقّه.

ما تقدّمه مجلّة «نيويوركر» اليوم هو في الغالب أحادية تفكير تكثر من المواعظ تحت غطاء الدنيويّة الخدّاع الذي ما زالت تتظاهر به. أمّا «بياوي»، فلاذعة أكثر من الأولى ويصعب تصنيفها أكثر منها. فتكفي مقارنة صورة رئيس أميركا المتدفّقة عاطفةً التي قدّمها رئيس تحرير «نيويوركر» (البداية: «هكذا بدأت رواية قصّة بدّلت أميركا...»؛ والختام: «أوباما الذي أحنى رأسه ليصلّي، انفرج في ابتسامة عريضة... وقلنا آمين ثلاث مرّات») بالتغطية المهلكة التي قدمتها نخبة البرازيل في مجلّة «بياوي». لقد طوّرت المجلّة الطريقة المعتمدة في تصوير الشخصيات، فلم تعد جامدة خالية من التعبير، بل أضحت فنّاً يلحق الأذى بالشخصيات التي يتناولها أكثر مما يمكن أن يتسبب فيه الحطّ من سمعتها يوماً. ومن بين الضحايا، كاردوسو وديرسو وسيرّا، بالإضافة إلى مارسيو توماس باستوس، وهو وزير العدل حتّى 2007 الخاضع بنحو ذليل للولا، وإلى ميشال تامر النائب عن روسيف. وقد كشفت المجلة، باللهجة نفسها التي تخلو من أي عاطفة، عن أفظع المراحل والثّغر في الحياة العامة، كالشّجارات الماليّة والخداعات التشريعية والشّناعات القانونيّة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ما ورثته روسيف [4/4]

تبرز قضيتان لتعكسا، كنقش نافر واضح، وضع الإنصاف والعدالة في البرازيل. فقد فصّل موريرا ساليز، في تحفة مصغّرة، مصير مدبّرة المنزل التي رأت بالوتشي يدخل بيت الدّعارة خاصّته الذي يقع على ضفّة بحيرة في برازيليا. اكتشف شاب من بياوي يبلغ الرابعة والعشرين من العمر، ويجني 50 دولاراً في الأسبوع، أنّ رئيس مصرف المدّخرات الفدراليّة، وهو رجل يُدعى جورج ماتوسو، قد دخل إلى حسابه مباشرةً بعد اجتماع له في القصر الرئاسي، بحثاً عن أدلّة تثبت أنّ المعارضة قد دفعت للشّاب أموالاً مقابل شهادته، علماً بأن انتهاك السّريّة المصرفيّة يُعدّ جريمةً في البرازيل. وبعد ساعة، أبرز ماتوسو لبالوتشي شخصيّاً، في محلّ إقامته، صوراً عن مستندات تُظهر أنّه تم إيداع 10 آلاف دولار في حساب الشّاب. فأمر بالوتشي الشرطة الفدراليّة، التي اعتقلت الشّاب، بالتّحقيق معه بشبهة قبول الرشوة وشهادة الزور. وعندما اتّضح أنّ والد الشّاب هو من دفع هذا المبلغ من المال، وهو مالك شركة باصات وكان حتّى ذلك الوقت يرفض الاعتراف بابنه، ليبعد عن نفسه أيّ دعوى أبوّة، أُطلق سراح الشّاب، ووجهت الشرطة اتهامات لكل من بالوتشي وماتوسو. فاضطرّ بالوتشي عندئذ إلى التنحّي عن منصبه كوزير، إلا أنّ المدّعي العام خفّف التّهم ضدّه، وبعد أربعة أعوام، أبرأته المحكمة العليا بخمسة أصوات مقابل أربعة. واليوم، يحتلّ هذا التافه مرّةً أخرى مركزاً في السّلطة ككبير موظفي الرئيسة الجديدة، أمّا الشّاب الذي سعى إلى تجريمه، فلم يحصل على وظيفة في المدينة مذّاك.[4]

ماذا عن المحكمة الفدراليّة العليا التي برأته؟ لكان حُثّ دومييه على تصويرها. إذ يُفترَض أنّها تعالج المشاكل الدّستوريّة وحدها، تنظر ـــــ إن كانت هذه هي الكلمة المناسبة ـــــ في حوالى 120 ألف قضيّة في السّنة، أي بمعدل 30 قضيّةً لكلّ عضو في المحكمة يوميّاً. فالمحامون يعقدون صفقات مع القضاة في السّر، ومن المعروف أنّهم يتبادلون العناق مع أولئك الذين يصدرون أحكاماً لمصلحتهم، ويدعونهم إلى الطّعام، على مرأى من الجميع، لدى صدور هذه الأحكام. من بين أعضاء المحكمة الأحد عشر الحاليّين، ستة عيّنهم لولا، حُكم على اثنين منهم بجرائم في المحكمة الابتدائيّة. ثم إنّ واحداً منهم، وهو نسيب كولور وقد عيّنه هذا الأخير، دخل التاريخ القانوني عبر منحه الحصانة لمدّعى عليه قبل محاكمته، لكنّ زملاءه حالوا دون صرفه من أجل «الحفاظ على شرف المحكمة». وقد دعم عضو آخر، وهو صديق كاردوسو، الانقلاب العسكري الذي حدث في 1964، ولم يتمكّن حتّى من التّباهي بشهادة في الحقوق. ومن بين الأعضاء أيضاً، عضو أدلى بصوته الحاسم بغية تبرئة بالوتشي، فشكره الرئيس شخصيّاً لأنّه أمّن «القدرة على الحكم». وأخيراً، يُذكر إيروس غرو الذي تقاعد منذ وقت وجيز، وقد أُدين مرّةً بالاتجار بالنّفوذ، وهو من المفضَّلين لدى لولا؛ يصفه زملاؤه بـ«إله الحبّ»، وهو مؤلّف رواية إباحيّة من الدرجة الخامسة، وقد سعى إلى إدخال شريك إلى المحكمة مقابل صوته لإخفاء الرّشوة الشّهريّة. إنّ مشاهد كتلك، وهي ليست من بقايا نظام أوليغاركيّ قديم، بل جزء لا يتجزّأ من النظام الشّعبيّ ـــــ الديموقراطيّ الجديد، لا تشجع المرء على الشعور بالاطمئنان حيال التوقعات المستقبلية، لكنّها، في الوقت عينه، لا تلغي كلّ إمكانية للأمل. فلا يزال الإجرام في النظامَين السياسي والقضائي في البرازيل، على بشاعته، أقلّ بكثير من ذاك المتفشي في الهند والصين وروسيا، كما يشير المدافعون عن هذين النظامين، أي أنّه أخف من ذاك الذي تعرفه دول مجموعة بريك التي تشيع اليوم مقارنتها مع البرازيل. ولا يشكّل الفساد كذلك همّاً شعبيّاً كبيراً، كما أظهرت الانتخابات الرئاسيّة السنة الماضية مجدّداً، إلا أنّه لا يمرّ مرور الكرام في صناديق الاقتراع، إذ كان مسؤولاً جزئيّاً عن انتقال المنافسة إلى الدورة الثانية. فقد كان انتصار ديلما روسيف بالتأكيد انتصار لولا الانتخابيّ الأكبر، بالوكالة عنه. فروسيف كانت شخصية يكاد يجهلها الشّعب قبل أشهر قليلة، ولم تكُن قد واجهت ناخباً من قبل، ولا تمتلك أيّ أثر للكاريزما. لكن عندما انتقاها لولا، سجلت عدداً من الأصوات قريباً من ذاك الذي حصل عليه لولا نفسه، مع أكثريّة هائلة نالتها في الدورة الثانية بلغت 56 في المئة، أي أقلّ بثلاثة ملايين صوت من عدد الأصوات التي حصدها في فوزه في 2006، وأكثر بثلاثة ملايين صوت مقارنةً مع 2002. وفي الكونغرس، حيث أصبح حزب العمّال الحزب الأكبر للمرّة الأولى، وفي مجلس الشّيوخ، حيث حقق أيضاً انتصاراً كبيراً، أصبحت روسيف تقود دعم أكثر من ثلثي الهيئة التّشريعيّة في المجلسين، وهي أكثريّة لم يتمتّع بها لولا نفسه يوماً.

تدين روسيف بوصولها إلى الحكم للفراغ الذي لفّ الرئاسة إثر الفضائح التي أطاحت بالوتشي وديرسو كخلفَين. فبعد سقوطهما، حظيت روسيف بالأفضليّة على أيّ منافس آخر، وفقاً لثلاث نقاط. فهي لم تكُن من نتاج حزب العمّال، إذ انضمّت إلى صفوفه في 2000 ليس إلا، وبالتالي لم تشكّل تهديداً للولا لأنّها تفتقر إلى أيّ قاعدة في الحزب الذي بقي الرئيس على مسافة منه ـــــ على الأقلّ علنيّاً ـــــ عندما كان في القصر الرّئاسيّ. بالإضافة إلى ذلك، كانت روسيف تبرع في أمر لم يتقنه لولا، ألا وهو الإدارة. فكوزيرة للطاقة، ضمنت ألا تعاني البلاد من انقطاع الكهرباء الذي أضرّ كثيراً بمكانة كاردوسو في ولايته الثانية. وأخيراً، إنّها امرأة، وتسهل إحاطتها بدفء الكاريزما التي يتمتع بها لولا، أكثر مما يسهل ذلك مع أي رجل. وقد وصف أحد الزّملاء العلاقة بينهما عندما أصبحت كبيرة موظفي لولا بأنّها لا تختلف عن علاقة أب بابنته. في الواقع، إنّهما معاصران، فلولا يكبر روسيف بسنتين فحسب. لكنّ الحملة المشتركة التي قاما بها في 2010 كانت ستبدو أكثر غرابة لو أُجريت مع مرشّح ذَكر.

يتّضح التّباين بينهما في مسيرتيهما، ناهيك عن طبعيهما. فروسيف تنحدر من عائلة من الطبقة الوسطى العليا. كان والدها بلغاريّاً شيوعيّاً هاجر إلى أميركا اللاتينيّة في الثلاثينيات من القرن الماضي، وحقّق نجاحاً في قطاع العقارات في مدينة بيلو هوريزونتي. ارتادت روسيف مدارس محليّة جيّدة، وتلقّت دروساً خاصّةً في اللّغة الفرنسيّة والعزف على البيانو، وكانت في السابعة عشرة من العمر عندما استولى الجيش على الحكم في البرازيل. وفي سن التاسعة عشرة، كانت جزءاً من حركة ثوريّة سرّية تنفّذ أعمالاً مسلّحةً داخل المدينة وحولها. وحين انتقلت إلى ريو في 1968، شاركت في إحدى أشهر عمليات الاقتحام في ذلك الزمن: مصادرة صندوق يحوي مليونين ونصف مليون دولار من عشيقة أكثر حكّام ساو باولو فساداً. وفي 1970، قُبض عليها في ساو باولو وعُذّبت وسُجنت لمدّة ثلاث سنوات. وعندما أُطلق سراحها، انتقلت إلى الجنوب لتقطن بورتو أليغري حيث سُجن رفيقها السّابق في الحركة السّريّة الذي أصبح عندذاك زوجها. عندما خفّت وطأة الديكتاتوريّة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حصلت على وظيفة في مكتب إحصاءات ريو غراندي دو سول، وعادت إلى الحياة السّياسيّة بانتسابها إلى الحزب الذي كان يقوده منافس لولا الأساسيّ اليساريّ في الثمانينيات، ليونيل بريزولا، وارتقت تدريجاً لتصبح وزيرة الطاقة في عهد رئاسي لحاكم من حزب العمّال. في 2002 لاحظ لولا قدرتها التّقنيّة وأتى بها إلى برازيليا. تُعتبر روسيف في الخلفيّة السّياسيّة ميليشيويّةً أكثر منها قائدةً للاتّحاد العمّالي، ومع أنّها تسيطر على نفسها كثيراً، طبعها أكثر حدّةً من طبع لولا. فبعد مراقبة الطريقة التي يتّبعها كلاهما في حلّ النزاعات في قطاع الطاقة، علّق مشارك قياديّ قائلاً: «لولا يستمتع بالنّزاعات كمتفرّج على مباراة كرة الطاولة، أمّا أسلوب روسيف، فهو قذف المضرب». لا أحد يشكّ في صرامتها.

لا يمكن التأكد تماماً من قناعاتها اليوم. فقد برز نجمها في عهد لولا، في خلال الفترة الأكثر تطرّفاً من حكمه، وهي بالتالي ترتبط بمخاطر الدولانيّة والقوميّة الغادرتين من وجهة نظر اللّيبراليّة الجديدة. ما من شكّ في أنّ روسيف دافعت بشراسة عن حقوق الامتيازات المَلكيّة التي تتمتّع بها البرازيل، من مخزون النفط الهائل الذي قيل إنّه موجود في أعماق البحر قبالة شاطئ البلاد وتحوم حوله بشراهة الشركات المتعدّدة الجنسيّات والرّساميل المحليّة. كذلك، لم تَعِد روسيف بتوسيع برامج الإسكان والبنى التّحتيّة التي بدأت في عهد لولا فحسب، بل بتغطية صحيّة شاملة، وهذا يُعدّ التزاماً كبيراً جديداً. حين تسلّمت مهماتها رئيسة جمهوريّة، قامت بأكثر من واجبها عندما أثنت على الرفاق الذين حاربوا الديكتاتوريّة كما فعلت، وسقطوا في ساحة المعركة. لكن مع إعادة بالوتشي إلى السّلطة كبير موظفيها، واستبدال أموريم وزير الخارجيّة بوزير مفوض لطيف ترضى عنه واشنطن، صمّمت حكومتَها بطريقة تطمئن فيها أوساط الأعمال والولايات المتّحدة أنّه لا خوف من الإدارة الجديدة. وبإبقائها على الحدّ الأدنى للأجور منخفضاً كما هو عليه، ورفعها معدّلات الفوائد، ووعدها بمراقبة أشدّ على الإنفاق العام، لم تبدُ تدابيرها الأولى مختلفةً عن سياسة لولا القويمة، في خلال سنواته الأولى في الحكم.

هل سيتكرّر الخط المكافئ المنحني نحو التطرّف الذي سلكه الحكم في مرحلة لاحقة؟ أو هل استُنفد مخزون الإصلاحات المتوافرة الجاهزة؟ المتوافق عليه أنّ من الضّروريّ تثبيت معدل نموّ إجمالي الناتج المحلّي على 4.5 في المئة سنويّاً، على الأقلّ، من أجل مدّ أجل الإنجازات الاجتماعيّة التي حقّقتها رئاسة لولا. ومع أنّ هذا الهدف متواضع بحسب المعايير الصينيّة والهنديّة، إلّا أنّه يتخطّى متوسّط الأداء البرازيلي المسجَّل حتّى الآن في هذا القرن. وعلى الرغم من أنّ الاقتصاد مزدهر حاليّاً، لكنّ ثلاث مشاكل عميقة تتربص به. فمعدّل الادخار البرازيليّ شديد الانخفاض، وتكاد نسبته لا تتجاوز 17 في المئة من الدّخل القوميّ، أي أقلّ من نصف النسبة المسجَّلة في الهند، وثلث تلك المسجَّلة في الصّين. إذاً لقد ركد الاستثمار بمعدّل يقلّ عن 20 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي، وسجّل الإنفاق على البحث والتطوير 1 في المئة. ومن جهة أخرى، لطالما كانت معدّلات الفائدة البرازيليّة، التي تفوق حاليّاً نسبة 11 في المئة، أعلى مما هي عليه في الأنظمة الاقتصادية الكبرى. وإذ وُضعت هذه المعدّلات من أجل كبح التضخّم، وجذب رأس المال الأجنبي اللّازم لزيادة المدّخرات المحليّة، وقُرنت بأرباح التصدير والتخفيف الكمّي في الولايات المتّحدة، رفعت الرّيال البرازيليّ على نحو خطير، ما ضاعف قيمته مقابل الدولار في عهد لولا.

أخيراً أصبحت التجارة البرازيليّة أكثر اعتماداً وعلى نحو مطّرد على تجارة المحاصيل الزراعية واستخراج المعادن، حيث يتركّز القسم الأكبر من الرّساميل المحليّة، بينما تراجعت الصّناعة حيث تسيطر الشّركات المتعدّدة الجنسيّات على القطاع الأهمّ فيها وهو السيّارات. بين 2002 و2009، هبطت حصّة المنتجات الصناعية من الصّادرات البرازيليّة من 55 إلى 44 في المئة، أمّا حصّة المواد الخام، فحلّقت من 28 إلى 41 في المئة. وها إنّ الصين، المسؤولة عن جزء كبير من ازدهار سنوات حكم لولا، عندما صارت شريكة البرازيل التّجاريّة الأكبر (فبحلول 2009، كانت تشتري 18 ضعفاً قيمة السّلع التي كانت تشتريها من البرازيل في بداية القرن)، تهدّد اليوم بإغراق البرازيل بالمنتجات الزّهيدة الثمن التي سجل استيرادها من الصّين العام الماضي نسبةً صاروخيّةً بلغت 60 في المئة. لقد حقّقت بلدان عبر التاريخ مستويات معيشة مرتفعة من دون تصنيع واسع النطاق، إلا أنّها كانت مستوطنات أو مجتمعات منتشرة في الغابات قليلة السّكان، مع مستويات تعلّم عالية كأوستراليا ونيوزيلندا وفنلندا، ولا تُشبه البرازيل بتاتاً من حيث الفقر والوضع الديموغرافي. ولكن يمكن موازنة هذا العامل بموارد البرازيل الطبيعيّة الضخمة ـــــ ففيها مساحة الأراضي الزّراعيّة الاحتياطيّة تبلغ مساحة تلك التي في الولايات المتّحدة وروسيا مجتمعةً، والمياه المتجدّدة توازي تلك المتوافرة في قارّة آسيا بكاملها، واحتياطيّ النفط يسجل أكبر اكتتاب عام أوليّ في التاريخ ـــــ وفيها الرقم القياسي المدهش، ولو كان يُخفَّض أحياناً، الذي سجلته المشاريع التي قادتها الدولة ويعود الفضل إليها في صناعتي الفولاذ والطائرات البرازيليّتين، والتقدّمات الكبيرة المحققة في الزّراعة الاستوائيّة، وعملاق النفط المزدهر. غنيّ عن القول إنّ الفرص التي تتيح تحقيق نموّ أسرع لا تقلّ عن العقبات التي تمنع حدوثه.

أيّ جردة حساب عن التجربة البرازيليّة التي انطلقت في عهد لولا، ولا تزال تتوالى فصولاً، يمكن إجراؤها الآن؟ إذا نُظر إليها كمرحلة في اقتصاد البرازيل السّياسيّ، يمكن اعتبارها قريبة من حقبة كاردوسو، أي أنّها عبارة عن نموّ تمّ ضمن المصفوفة عينها. أمّا بالنظر إليها كعمليّة اجتماعيّة، فلقد سجّلت تغييراً متميّزاً. وكانت ظروف هذا التغيير الخارجيّة مؤاتيةً بطريقة غير اعتياديّة. فقد شهدت أميركا الجنوبيّة بكاملها في تلك الفترة انتقالاً إلى اليسار، ميّزها عن أيّ بقعة أخرى من العالم. فكان تشافيز قد وصل إلى السّلطة في فنزويلّا قبل هذا الموعد بأمد بعيد، وتلته مباشرةً كيرشنر في الأرجنتين، ولولا في البرازيل. وفي السنة التالية، تولّى تاباري فازكيز، من تكتّل الجبهة الواسعة، الرئاسة في الأوروغواي. وبعدئذ، انتخبت بوليفيا والإكوادور والباراغواي على التّوالي أكثر الرّؤساء تطرّفاً في تواريخها. وما يكمن وراء هذا الاستثناء الشّامل ميزتان بارزتان للمنطقة. فإليها، وتحت إشراف شيكاغو وهارفرد، أُدخلت اللّيبراليّة الجديدة للمرّة الأولى، وطُبّق علاج الصّدمة من خلال بينوشيه في تشيلي، وسانشيز دو لوزادا في بوليفيا، وتخطّت الخصخصة على يد منعم في الأرجنتين تلك التي أُجريت في روسيا.

ولكن هنا أيضاً انطلقت الثورة الشّعبيّة الأولى ضدّ الليبراليّة الجديدة، في أحداث كاراكاس التي جرت في شباط/ فبراير 1989، وقادت إلى نهاية النظام القديم في فنزويلا. على الصّعيد الاقتصادي، نادراً ما ألُغيت معالم حقبة اللّيبراليّة الجديدة (تشكّل فنزويلّا الاستثناء لأنّها لم تُفرض فيها بنجاح في الأساس). لكنّ هذه المعالم لم تكُن يوماً شعبيّةً، وفقد مهندسوها صدقياتهم السّياسيّة، وهو أمر أفلت منه نظراؤهم الشماليون الذين لم يلحق معظمَهم أيُّ أذى حتى اليوم من جراء أزمة 2008. وهنا برزت ميزة المنطقة الثانية. فأميركا اللّاتينيّة هي الجزء الوحيد من العالم الذي أنتج قرناً من الثائرين المتطرّفين ضدّ النظام القائم، قرناً يمتد في تسلسل متواصل نوعاً ما من الثورة المكسيكيّة في 1910. لقد اتّخذ هؤلاء الثوار في فترات مختلفة أشكالاً مختلفةً، إلّا أنّ قوّة دفعهم الكامنة كانت نفسها تقريباً، وقد تقطعت لتتواصل من جديد بالرّغم من جميع أنواع القمع والانحراف: عصيان مسلّح في السلفادور والبرازيل في العشرينيات من القرن الماضي، وجبهة شعبية في تشيلي، وثورة فلاحين في البيرو في الثلاثينيات؛ يعقوبيّة عسكريّة في الأرجنتين في الأربعينيات؛ ميليشيات عمّالية في بوليفيا، ومصادرات في غواتيمالا، وثورة في كوبا في الخمسينيات؛ حرب عصابات من كولومبيا إلى الأوروغواي في السّتينيات؛ نصر في الانتخابات في تشيلي، وفي الشّوارع في نيكاراغوا في السّبعينيات؛ حروب أهليّة في أميركا الوسطى في الثمانينيات؛ سقوط الأوليغاركيّة في فنزويلّا في التّسعينيات. فيمكن القول إنّ الحصاد الانتخابيّ في القرن الجديد هو تبدّل أثمرته التّربة عينها.

قاسى الجيل الذي وصل إلى الحكم في هذه الفترة نوعين من الهزائم: واحد من الديكتاتوريّات العسكريّة التي سحقت اليسار في أعقاب الثورة الكوبيّة، والثاني من أنظمة السّوق الحرّة التي كانت في جزء منها ثمن الدمقرطة، وفي جزء آخر نتيجتها. فشكّلت هاتان الهزيمتان إرثاً واحداً. واستُبعدت الأشكال القديمة للتطرّف السّياسي أو الاقتصاديّ تلقائياً عبر تعاقب هاتين الهزيمتين، لكن لم يحدث اعتناق فعلي كبير للأنظمة اللّيبراليّة الجديدة التي مهّد لها الطريقَ الجنرالاتُ. وعندما انتهى عهد هؤلاء الجنرالات، احترم الحكام الذّين خلفوهم على نحو براغماتيّ القواعدَ التي فرضوها، إلّا أنّهم عجزوا تماماً عن نسيان ذكريات ماضٍ أكثر تمرّداً، والولاءات التي تبددت معها، ولا حتّى عن التغاضي عن جمهور النّاخبين المستبعَد من النظام الجديد. شكلت فنزويلّا الاستثناء، فهي لم تختبر قطّ ديكتاتوريّةً عسكريّةً في خلال مدّ الثورة المضادّة القارّية العالي، ولا استقراراً ليبراليّاً جديداً في نهضتها ـــــ كان هذان النّقصان وثيقَي الترابط ـــــ فقد عمل تشافيز في ظروف أخرى محدّدة بدرجة أقل من ظروف سواه.

أمّا البرازيل، من جهة ثانية، فيمكن اعتبارها مثالاً على النمط العام. ففي المرحلة الأعظم من تاريخها، انعزلت عن باقي أميركا اللّاتينيّة بفعل لغتها وحجمها وجغرافيّتها. فحتى أواسط ستّينيات القرن الماضي، كان المفكّرون البرازيليون يميلون إلى زيارة فرنسا أكثر من أي دولة مجاورة. ولكن حالما تولّى الطغيان العسكريّ السّلطة، غيّرت تجارب الكفاح السريّ المشترك أو الحبس أو المنفى هذا الوضع، وأمّنت كوبا والمكسيك الملجأَين الأساسيَّين للمعنيّين. فللمرة الأولى، تواصل البرازيليّون الناشطون سياسيّاً عبر شبكة قارّية مع نظرائهم في البلدان الأميركيّة الناطقة باللّغة الإسبانيّة. ولا يزال التضامن الذي طبع تلك المرحلة يسكن المشهد السياسيّ اليوم بين حكومات اليسار، حاضناً البرازيل ضمن بيئة تكنّ لها المودة. وفي جدل إقليميّ، لطالما قدّمت التباينات بين هذه الحكومات منافعَ متبادلةً، فأمدّ لولا الأنظمة الأكثر تطرّفاً من نظامه ـــــ بوليفيا وفنزويلّا والإكوادور ـــــ بغطاء صداقة واقية، فيما أفاد، في الرأي العام الدوليّ، من مقارنة صبّت لمصلحته، بين توسّطه وتطرّف تلك الحكومات.

في الفترة عينها، كان السّياق الدوليّ تجاه البرازيل حميداً بقدر ما كانت عليه البيئة الإقليميّة. فمن جهة، خسرت الولايات المتّحدة موقع مركز الثقل كحاكمة القارة المطلَقة حين أعلنت الحرب على الإرهاب في الشّرق الأوسط وأبعد منه. ومع احتلال العراق وأفغانستان واليمن وباكستان ومصر مواقع على الخطّ الأماميّ من الاستراتيجيّة الأميركيّة، لم يتوفّر إلّا القليل من الاهتمام الذي يمكن إيلاؤه للنصف الآخر من الكرة. لقد قام بوش بزيارة غير مهمة لبرازيليا، وأوباما أيضاً. لكن لا يظنّن أحد أنّ هذه الزّيارة كانت أكثر من زيارة احتفاليّة. فقد صدئت الآليّات التقليديّة للإشراف على شؤون البرازيل التي كانت تعمل في أيّام كاردوسو. ولم تكُن البعثات العسكريّة إلى الشّرق في العقد الماضي هي وحدها التي أمالت دفة العلاقة بين هاتين الدولتين لمصلحة البرازيل، بل أيضاً الفقاعة الماليّة التي سبقت البعثات ورافقتها. وعندما أصبح الاقتصاد الأميركي معتمداً على حِقَن متزايدة باطّراد من الأموال الزهيدة ـــــ أوّلاً في عهد كلينتون ثمّ بوش، من خلال معدّلات فائدة منخفضة جداً، والآن في عهد أوباما كذلك بفضل طباعة الدولار ـــــ بات رأس المال الخارجيّ اللّازم للحفاظ على نموّ الاقتصاد البرازيليّ متوافراً أكثر فأكثر، وبكلفة تزداد زهداً. إن كان تدفّق الدولار الأميركيّ اليوم يعرّض الرّيال البرازيليّ لخطر السّحق، فهذه مجرّد إشارة منحرفة أخرى إلى التبدّل في وضعيهما على التّوالي. فبالنّسبة إلى البرازيل، كان العامل الأكثر حسماً هو تصاعد الصّين كقوّة اقتصاديّة موازنة لها، وكالسوق الرّئيسيّ لأبرز منتجَين تصدرهما، وكدعامة لميزانها التّجاريّ. لقد أثّر ازدهار الصّين الطّويل الأمد عمليّاً في كلّ جزء من العالم، لكن يُقال إنّ البرازيل هي البلد الذي أحدث فيه هذا الازدهارُ التّغييرَ الأكبر. إذ تراجعت الولايات المتّحدة وانتعشت جمهوريّة الصّين الشّعبيّة، فتحت الرّياح ممراً يقود إلى اتّجاه اجتماعيّ جديد.

تبقى الآن نتيجة ذاك التبدّل غير محسومة، فما من شكّ أنّ إعتاقاً ما قد حدث. ولكن هل من الممكن أن يقدم التاريخ البرازيليّ أوجه تشابه بين مراحل منه على نحو مقلق؟ ففي أواخر القرن التاسع عشر، أُبطل الاسترقاق في البرازيل عمليّاً من دون إراقة نقطة دم، بعكس المذبحة التي رافقت نهايته في الولايات المتّحدة، من دون أن تكون حتّى مقصودةً في الأصل. ولم تكُن الكلفة البشرية هي الوحيدة المنخفضة، بل أيضاً الكلفة بالممتلكات لأنّ الإعتاق حصل في مرحلة متأخرة، عندما كان عدد العبيد يتضاءل، وصارت الحركة الاقتصادية المرتبطة بالاسترقاق في مراحل متقدّمة من التراجع. فلم يكن هذا الإعتاق مسألة ارتبطت بالنخبة حصرياً، بل اتّخذت عملية إبطاله شعبيّاً العديد العديد من المبادرات المبتكرة لوضع حد له. لكن عندما تم الإبطال، لم يصب كلّ أسياد العبيد بالإفلاس، ونال العبيد الحريّة القانونيّة وحدهم. على المستوى الاجتماعي، كانت مفاعيل الإعتاق اللاحقة متواضعة: فقد ازدادت هجرة العِرق الأبيض من أوروبا بشكل أساسيّ.

بعدما أُجريت التغييرات اللازمة، هل من تشابه بين ما جرى وبرنامج الرّعاية الاجتماعيّة بولسا فاميليا والسُّلف النّقديّة والحدّ الأدنى للأجور؟ أحبّ لولا أن يقول: «الاهتمام بالفقراء مسألة زهيدة الكلفة وبسيطة». هل يدفع هذا الشّعار إلى رفع المعنويات أو الشعور بالكدر؟ قد يكمن في غموضه الأخلاقيّ نوع من نقش على ضريح عهده. لقد امتلك لولا، مقارنة بأسلافه، الخيال المولود من التماثل الاجتماعيّ، الخيال الذي جعله يدرك أنّ الدولة البرازيلية تستطيع أن تكون أكثر سخاءً مع الأفقر حالاً بطُرق أحدثت تغييرات جوهرية في حيواتهم. لكنّ هذه التنازلات لم تأتِ على حساب الأثرياء واليسيرِي الأحوال الذّين تحسنت أوضاعهم كثيراً في خلال هذه السّنوات، بكل المعايير.

إذا كان هذا مهم حقاً، يمكن طرح السؤال الآتي: ألا يجسّد ذلك أكثر النتائج الاقتصاديّة المبتغاة، أي تحقق أمثليّة باريتو (Pareto optimality)؟ ولكن إذا ترنحت سرعة النموّ، فقد تنعكس الآثار اللاحقة لهذه العملية ظروفاً يختبرها المتحدّرون من العبيد، شبيهة بتلك التي أحدثها الإعتاق. فمنذ أن اعتُمد الشعار المستوحى من أوغست كونت، والمكتوب على علم البرازيل ـــــ النظام والتقدّم ـــــ مباشرةً بعد زوال الاسترقاق، شكّل أملاً يرفرف في الرّيح لوقت طويل. تقدّم من دون نزاع؛ توزيع من دون إعادة توزيع. إلى أي مدى هذا شائع تاريخيّاً؟

بيد أنّ الوضع قد يكون مختلفاً هذه المرّة، فالعقد الأخير لم يشهد أي تعبئة للطّبقات الشّعبيّة في البرازيل. لقد وُرث الخوف من الفوضى وقبول الهرميّة اللّذان لا يزالان يفرّقان صفوف الشعب ضمن أميركا اللّاتينيّة من الاسترقاق. ومع أنّ التّحسين المادّي ليس تمكيناً اجتماعيّاً، إلّا أنّ واحداً قد يؤدّي إلى الآخر. فثقل الفقراء الانتخابيّ المحض، مقابل نطاق انعدام المساواة الاقتصاديّة المحض، ناهيك عن الظّلم السّياسيّ، كل هذا يجعل من البرازيل ديموقراطيّةً تختلف عن أيّ مجتمع في شمال الكرة الأرضية، حتّى تلك المجتمعات التّي شهدت في السابق أشدّ التوترات بين الطّبقات أو أقوى الحركات العماليّة. لقد بدأ التّناقض بين القوتَين الكبيرتَين يتطوّر للتّو، وإذا استحال التحسن السلبيّ يوماً انخراطاً فعّالاً في العمل، فستتغيّر نهاية القصّة.

  • أستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، عن مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس»


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهامش

قالب:ثبت المراجع

(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)