بداية المجتهد - كتاب العارية
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).
- 2*كتاب العارية.
@-والنظر في العارية في أركانها وأحكامها. وأركانها خمسة: الإعارة، والمعير، والمستعير، والمعار، والصيغة. أما الإعارة فهي فعل محير ومندوب إليه، وقد شدد فيها قوم من السلف الأول. روي عن عبد الله بن عباس وعبد الله ابن مسعود أنهما قالا في قوله تعالى {ويمنعون الماعون} أنه متاع البيت الذي يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والدلو والحبل والقدر وما أشبه ذلك. وأما المعير فلا يعتبر فيه إلا لكونه مالكا للعارية إما لرقبتها وإما لمنفعتها، والأظهر أنها لا تصح من المستعير أعني أن يعيرها. وأما العارية فتكون في الدور والأرضين والحيوان، وجميع ما يعرف بعينه إذا كانت منفعته مباحة الاستعمال، ولذلك لا تجوز إباحة الجوار للاستمتاع. ويكره للاستخدام إلا أن تكون ذا محرم. وأما صيغة الإعارة، فهي كل لفظ يدل على الإذن، وهي عقد جائز عند الشافعي وأبي حنيفة: أي للمعير أن يسترد عاريته إذا شاء؛ وقال مالك في المشهور: ليس له استرجاعها قبل الانتفاع، وإن شرط مدة ما لزمته تلك المدة، وإن لم يشترط مدة لزمته من المدة ما يرى الناس أنه مدة لمثل تلك العارية. وسبب الخلاف ما يوجد فيها من شبه العقود اللازمة وغير اللازمة. وأما الأحكام فكثيرة، وأشهرها هل هي مضمونة أو أمانة؟ فمنهم من قال: إنها مضمونة وإن قامت البينة على تلفها، وهو قول أشهب والشافعي، وأحد قولي مالك؛ ومنهم من قال نقيض هذا، وهو أنها ليست مضمونة أصلا، وهو قول أبي حنيفة؛ ومنهم من قال: يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يكن على التلف بينة، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه، ولا فيما قامت البينة على تلفه، وهو مذهب مالك المشهور وابن القاسم وأكثر أصحابه. وسبب الخلاف تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في الحديث الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام لصفوان بن أمية "بل عارية مضمونة مؤداة" وفي بعضها "بل عارية مؤداة" وروي عنه أنه قال "ليس على المستعير ضمان" فمن رجح وأخذ بهذا أسقط الضمان عنه، ومن أخذ بحديث صفوان ابن أمية ألزمه الضمان؛ ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه، فحمل هذا الضمان على ما يغاب عليه، والحديث الآخر على ما لا يغاب عليه، إلا أن الحديث الذي فيه ليس على المستعير ضمان، غير مشهور، وحديث صفوان صحيح، ومن لم ير الضمان شبهها بالوديعة؛ ومن فرق قال: الوديعة مقبوضة لمنفعة الدافع، والعارية لمنفعة القابض. واتفقوا في الإجارة على أنها غير مضمونة: أعني الشافعي وأبا حنيفة ومالكا، ويلزم الشافعي إذا سلم أنه لا ضمان عليه في الإجارة أن لا يكون ضمان في العارية إن سلم أن سبب الضمان هو الانتفاع، لأنه إذا لم يضمن حيث قبض لمنفعتهما فأحرى أن لا يضمن حيث قبض لمنفعته إذا كانت منفعة الدافع مؤثرة في إسقاط الضمان. واختلفوا إذا شرط الضمان، فقال قوم: يضمن؛ وقال قوم: لا يضمن، والشرط باطل؛ ويجئ على قول مالك إذا اشترط الضمان في الموضع الذي لا يجب فيه عليه الضمان أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية لأن الشرط يخرج العارية عن حكم العارية إلى باب الإجارة الفاسدة إذا كان صاحبها لم يرض أن يعيرها إلا بأن يخرجها في ضمانه، فهو عوض مجهول فيجب أن يرد إلى معلوم. واختلف عن مالك والشافعي إذا غرس المستعير وبنى ثم انقضت المدة التي استعار إليها، فقال مالك: المالك بالخيار إن شاء أخذ المستعير بقلع غراسته وبنائه، وإن شاء أعطاه قيمته مقلوعا إذا كان مما له قيمة بعد القلع، وسواء عند مالك انقضت المدة المحدودة بالشرط أو بالعرف أو العادة؛ وقال الشافعي: إذا لم يشترط عليه القلع فليس له مطالبته بالقلع، بل يخير المعير بأن يبقيه بأجر يعطاه، أو ينقض بأرش، أو يتملك ببدل، فأيهما أراد المعير أجبر عليه المستعير، فإن أبى كلف تفريغ الملك. وفي جواز بيعته للنقض عنده خلاف، لأنه معرض للنقض، فرأى الشافعي أن آخذه المستعير بالقلع دون أرش هو ظلم؛ ورأى مالك أن عليه إخلاء المحل، وأن العرف في ذلك يتنزل منزلة الشروط، وعند مالك أنه إن استعمل العارية استعمالا ينقصها عن الاستعمال المأذون فيه ضمن ما نقصها بالاستعمال. واختلفوا من هذا الباب في الرجل يسأل جاره أن يعيره جداره ليغرز فيه خشبة لمنفعة ولا تضر صاحب الجدار وبالجملة في كل ما ينتفع به المستعير ولا ضرر على المعير فيه، فقال مالك وأبو حنيفة: لا يقضي عليه به إذ العارية لا يقضى بها، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وجماعة أهل الحديث: يقضى بذلك، وحجتهم ما خرجه مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره" ثم يقول أبي هريرة: مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم. واحتجوا أيضا بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب أن الضحاك بن قيس ساق خليجا له من العريض، فأرادوا أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك: أنت تمنعني وهو لك منفعة، تسقي منه أولا وآخرا ولا يضرك؟ فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، قال محمد: لا، فقال عمر: لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك، فقال محمد: لا، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك. وكذلك حديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال: كان في حائط جدي ربيع لعبد الرحمن بن عوف، فأراد أن يحوله إلى ناحية من الحائط، فمنعه صاحب الحائط، فكلم عمر بن الخطاب، فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله وقد عذل الشافعي مالكا لإدخاله هذه الأحاديث في موطئه، وتركه الأخذ بها. وعمدة مالك وأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" وعند الغير أن عموم هذا مخصص بهذه الأحاديث، وبخاصة حديث أبي هريرة. وعند مالك أنها محمولة على الندب، وأنه إذا أمكن أن تكون مختصة وأن تكون على الندب فحملها على الندب أولى، لأن بناء العام على الخاص إنما يجب إذا لم يمكن بينهما جمع ووقع التعارض. وروى أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا يؤخذ بقضاء عمر على محمد بن مسلمة في الخليج، ويؤخذ بقضائه لعبد الرحمن بن عوف في تحويل الربيع، وذلك أنه رأى أن تحويل الربيع أيسر من أن يمر عليه بطريق لم يكن قبل، وهذا القدر كاف بحسب غرضنا. بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
- 2*كتاب الغصب
@-وفيه بابان: الأول: في الضمان، وفيه ثلاثة أركان: الأول: الموجب للضمان. والثاني: ما فيه الضمان. والثالث: الواجب. وأما الباب الثاني: فهو في الطوارئ على المغصوب.
- 3*الباب الأول في الضمان.
@-(الركن الأول) وأما الموجب للضمان، فهو إما المباشرة لأخذ المال المغصوب أو إتلافه، وإما المباشرة للسبب المتلف، وإما إثبات اليد عليه. واختلفوا في السبب الذي يحصل بمباشرته الضمان إذا تناول التلف بواسطة سبب آخر، هل يحصل به ضمان أم لا؟ وذلك مثل أن يفتح قفصا فيه طائر فيطير بعد الفتح، فقال مالك: يضمنه هاجه على الطيران أو لم يهجه. وقال أبو حنيفة لا يضمن على حال؛ وفرق الشافعي بين أن يهيجه على الطيران أو لا يهيجه، فقال: يضمن إن هاجه، ولا يضمن إن لم يهيجه؛ ومن هذا من حفر بئرا فسقط فيه شيء فهلك؛ فمالك والشافعي يقولان: إن حفره بحيث أن يكون حفره تعديا ضمن ما تلف فيه وإلا لم يضمن، ويجيء على أصل أبي حنيفة أنه لا يضمن في مسألة الطائر، وهل يشترط في المباشرة العمد أو لا يشترط؟ فالأشهر أن الأموال تضمن عمدا وخطأ، وإن كانوا قد اختلفوا في مسائل جزئية من هذا الباب، وهل يشترط فيه أن يكون مختارا؟ فالمعلوم عن الشافعي أنه يشترط أن يكون مختارا، ولذلك رأى على المكره الضمان: أعني المكره على الإتلاف. @-(الركن الثاني) وأما ما يجب فيه الضمان فهو كل مال أتلفت عينه أو تلفت عند الغاصب عينه بأمر من السماء أو سلطت اليد عليه وتملك، وذلك فيما ينقل ويحول باتفاق. واختلفوا فيما لا ينقل ولا يحول مثل العقار، فقال الجمهور: إنها تضمن بالغصب، أعني أنها إن انهدمت للدار ضمن قيمتها؛ وقال أبو حنيفة: لا يضمن. وسبب اختلافهم هل كون يد الغاصب على العقار مثل كون يده على ما ينقل ويحول؟ فمن جعل حكم ذلك واحدا قال بالضمان؛ ومن لم يجعل حكم ذلك واحدا قال: لا ضمان. @-(الركن الثالث) وهو الواجب في الغصب، والواجب على الغاصب إن كان المال قائما عنده بعينه لم تدخله زيادة ولا نقصان أن يرده بعينه، وهذا لا خلاف فيه، فإذا ذهبت عينه فإنهم اتفقوا على أنه إذا كان مكيلا أو موزونا أن على الغاصب المثل، أعني مثل ما استهلك صفة ووزنا واختلفوا في العروض فقال مالك: لا يقضى في العروض من الحيوان وغيره إلا بالقيمة يوم استهلك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وداود: الواجب في ذلك مثل ولا تلزم القيمة إلا عند عدم المثل. وعمدة مالك حديث أبي هريرة المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه الباقي قيمة العدل" الحديث. ووجه الدليل منه أنه لم يلزمه المثل وألزمه القيمة. وعمدة الطائفة الثانية قوله تعالى {فجزاء مثل ما قتل من النعم} ولأن منفعة الشيء قد تكون هي المقصودة عند المتعدى عليه. ومن الحجة لهم ما خرجه أبو داود من حديث أنس وغيره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين جارية بقصعة لها فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى وجعل فيها جميع الطعام ويقول: غارت أمكم كلوا كلوا، حتى جاءت قصعتها التي في بيتها، وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم القصعة حتى فرغوا، فدفع الصحفة الصحيحة إلى الرسول، وحبس المكسورة في بيته" وفي حديث آخر "أن عائشة كانت هي التي غارت وكسرت الإناء، وأنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام".
- 3*الباب الثاني في الطوارئ.
@-والطوارئ على المغصوب إما بزيادة وإما بنقصان، وهذان إما من قبل المخلوق، وإما من قبل الخالق. فأما النقصان الذي يكون بأمر من السماء فإنه ليس له إلا أن يأخذه ناقصا، أو يضمنه قيمته يوم الغصب؛ وقيل إن له أن يأخذ ويضمن الغاصب قيمة العيب. وأما إن كان النقص بجناية الغاصب فالمغصوب مخير في المذهب بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه، وما نقصته الجناية يوم الجناية عند ابن القاسم وعند سحنون ما نقصته الجناية يوم الغصب؛ وذهب أشهب إلى أنه مخير بين أن يضمنه القيمة أو يأخذه ناقصا، ولا شيء له في الجناية كالذي يصاب بأمر من السماء، وإليه ذهب ابن المواز. والسبب في هذا الاختلاف أن من جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بالقيمة يوم الغصب جعل ما حدث فيه من نماء أو نقصان، كأنه حدث في ملك صحيح، فأوجب له الغلة ولم يوجب عليه في النقصان شيئا سواء كان من سببه أو من عند الله، وهو قياس قول أبي حنيفة. وبالجملة فقياس قول من يضمنه قيمته يوم الغصب فقط. ومن جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بقيمته في كل أوان كانت يده عليه آخذة بأرفع القيم، وأوجب عليه رد الغلة وضمان النقصان، سواء كان من فعله أو من عند الله، وهو قول الشافعي أو قياس قوله. ومن فرق بين الجناية التي تكون من الغاصب، وبين الجناية التي تكون بأمر من السماء، وهو مشهور مذهب مالك؛ وابن القاسم فعمدته قياس الشبه، لأنه رأى أن جناية الغاصب على الشيء الذي غصبه هو غصب ثان متكرر منه، كما لو جنى عليه وهو في ملك صاحبه، فهذا هو نكتة الاختلاف في هذا الباب فقف عليه. وأما إن كانت الجناية عند الغاصب من غير فعل الغاصب، فالمغصوب مخير بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم الغصب ويتبع الغاصب الجاني، وبين أن يترك الغاصب ويتبع الجاني بحكم الجنايات، فهذا حكم الجنايات على العين في يد الغاصب. وأما الجناية على العين من غير أن يغصبها غاصب، فإنها تنقسم عند مالك إلى قسمين: جناية تبطل يسيرا من المنفعة، والمقصود من الشيء باق، فهذا يجب فيه ما نقص يوم الجناية، وذلك بأن يقوم صحيحا ويقوم بالجناية، فيعطي ما بين القيمتين. وأما إن كانت الجناية مما تبطل الغرض المقصود، فإن صاحبه يكون مخيرا إن شاء أسلمه للجاني وأخذ قيمته، وإن شاء أخذ قيمة الجناية؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ليس له إلا قيمة الجناية. وسبب الاختلاف الالتفات إلى الحمل على الغاصب، وتشبيه إتلاف أكثر المنفعة بإتلاف العين. وأما النماء فإنه على قسمين: أحدهما أن يكون بفعل الله كالصغير يكبر والمهزول يسمن والعيب يذهب. والثاني أن يكون مما أحدثه الغاصب. فأما الأول فإنه ليس بفوت. وأما النماء بما أحدثه الغاصب في الشيء المغصوب فإنه ينقسم فيما رواه ابن القاسم عن مالك إلى قسمين: أحدهما أن يكون قد جعل فيه من ماله ما له عين قائمة كالصبغ في الثوب والنقش في البناء وما أشبه ذلك. والثاني أن لا يكون قد جعل فيه من ماله سوى العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة والخشبة يعمل منها توابيت. فأما الوجه الأول، وهو أن يجعل فيه من ماله ما له عين قائمة، فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما أن يكون ذلك الشيء مما يمكنه إعادته على حاله كالبقعة يبنيها وما أشبه ذلك. والثاني أن لا يقدر على إعادته كالثوب يصبغه والسويق يلته فأما الوجه الأول فالمغصوب منه مخير بين أن يأمر الغاصب بإعادة البقعة على حالها وإزالة ماله فيها مما جعله من نقض أو غيره، وبين أن يعطي الغاصب قيمة ماله فيها من النقض مقلوعا بعد حط أجر القلع، وهذا إذا كان الغاصب ممن لا يتولى ذلك بنفسه ولا بغيره، وإنما يستأجر عليه؛ وقيل إنه لا يحط من ذلك أجر القلع، هذا إن كانت له قيمة، وأما إن لم تكن له قيمة لم يكن للغاصب على المغصوب فيه شيء، لأن من حق المغصوب أن يعيد له الغاصب ما غصب منه على هيئته، فإن لم يطالبه بذلك لم يكن له مقال. وأما الوجه الثاني فهو فيه مخير بين أن يدفع قيمة الصبغ وما أشبهه ويأخذ ثوبه وبين أن يضمنه قيمة الثوب يوم غصبه، إلا في السويق الذي يلته في السمن وما أشبه ذلك من الطعام، فلا يخير فيه لما يدخله من الربا ويكون ذلك فوتا يلزم الغاصب فيه المثل، أو القيمة فيما لا مثل له. وأما الوجه الثاني من التقسيم الأول، وهو أن لا يكون أحدث الغاصب فيما أحدثه في الشيء المغصوب سوى العمل، فإن ذلك أيضا ينقسم قسمين: أحدهما أن يكون ذلك يسيرا لا ينتقل به الشيء عن اسمه بمنزلة الخياطة في الثوب أو الرفولة (1) والثاني أن يكون العمل كثيرا ينتقل به الشيء المغصوب عن اسمه كالخشبة يعمل منها تابوتا والقمح يطحنه والغزل ينسجه والفضة يصوغها حليا أو دراهم فأما الوجه الأول فلا حق فيه للغاصب، ويأخذ المغصوب منه الشيء المغصوب معمولا، وأما الوجه الثاني فهو فوت يلزم الغاصب قيمة الشيء المغصوب يوم غصبه أو مثله فيما له مثل هذا تفصيل مذهب ابن القاسم في هذا المعنى؛ وأشهب يجعل ذلك كله للمغصوب، أصله مسألة البنيان فيقول: إنه لا حق للغاصب فيما لا يقدر على أخذه من الصبغ والرفو والنسج والدباغ والطحين. وقد روي عن ابن عباس أن الصبغ تفويت يلزم الغاصب فيه القيمة يوم الغصب، وقد قيل إنهما يكونان شريكين، هذا بقيمة الصبغ، وهذا بقيمة الثوب إن أبى رب الثوب أن يدفع قيمة الصبغ، وإن أبى الغاصب أن يدفع قيمة الثوب، وهذا القول أنكره ابن القاسم في المدونة في كتاب اللقطة وقال: إن الشركة لا تكون إلا فيما كان بوجه شبهة جلية. وقول الشافعي في الصبغ مثل قول ابن القاسم إلا أنه يجيز الشركة بينهما ويقول: إنه يؤمر الغاصب بقلب الصبغ إن أمكنه وإن نقص الثوب، ويضمن للمغصوب مقدار النقصان، وأصول الشرع تقتضي أن لا يستحل ماله الغاصب من أجل غصبه، وسواء كان منفعة أو عينا، إلا أن يحتج محتج بقوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" لكن هذا مجمل، ومفهومه الأول أنه ليس له منفعة متولدة بين ماله وبين الشيء الذي غصبه، أعني ماله المتعلق بالمغصوب، فهذا هو حكم الواجب في عين المغصوب تغير أو لم يتغير. وأما حكم غلته، فاختلف في ذلك في المذهب على قولين: أحدهما أن حكم الغلة حكم الشيء المغصوب، والثاني أن حكمهما بخلاف الشيء المغصوب؛ فمن ذهب إلى أن حكمهما حكم الشيء المغصوب وبه قال أشهب من أصحاب مالك يقول: إنما تلزمه الغلة يوم قبضها أو أكثر مما انتهت إليه بقيمتها على قول من يرى أن الغاصب يلزمه أرفع القيم من يوم غصبها لا قيمة الشيء المغصوب يوم الغصب.
(1) ["الرفولة": الأصل غير واضح، فليتنبه. دار الحديث.]
وأما الذين ذهبوا إلى أن حكم الغلة بخلاف حكم الشيء المغصوب، فاختلفوا في حكمها اختلافا كثيرا بعد اتفاقهم على أنها إن تلفت ببينة أنه لا ضمان على الغاصب، وأنه إن ادعى تلفها لم يصدق وإن كان مما لا يغاب عليه. وتحصيل مذهب هؤلاء في حكم الغلة هو أن الغلال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها غلة متولدة عن الشيء المغصوب على نوعه وخلقته وهو الولد، وغلة متولدة عن الشيء لا على صورته، وهو مثل الثمر ولبن الماشية وجبنها وصوفها، وغلال غير متولدة بل هي منافع، وهي الأكرية والخراجات وما أشبه ذلك. فأما ما كان على خلقته وصورته فلا خلاف أعلمه أن الغاصب يرده كالولد مع الأم المغصوبة وإن كان ولد الغاصب. وإنما اختلفوا في ذلك إذا ماتت الأم، فقال مالك: هو مخير بين الولد وقيمة الأم؛ وقال الشافعي: بل يرد الولد وقيمة الأم وهو القياس. وأما إن كان متولدا على غير خلقة الأصل وصورته ففيه قولان: أحدهما أن للغاصب ذلك المتولد. والثاني أنه يلزمه رده مع الشيء المغصوب إن كان قائما أو قيمتها إن ادعى تلفها ولم يعرف ذلك إلا من قوله، فإن تلف الشيء المغصوب كان مخيرا بين أن يضمنه بقيمته ولا شيء له في الغلة، وبين أن يأخذه بالغلة ولا شيء له من القيمة. وأما ما كان غير متولد، فاختلفوا فيه على خمسة أقوال: أحدها أنه لا يلزمه رده جملة من غير تفصيل. والثاني أنه يلزمه رده من غير تفصيل أيضا. والثالث أنه يلزمه الرد إن أكرى، ولا يلزمه الرد إن انتفع أو عطل. والرابع يلزمه إن أكرى أو انتفع. ولا يلزمه إن عطل. والخامس الفرق بين الحيوان والأصول، أعني أنه يرد قيمة منافع الأصول، ولا يرد قيمة منافع الحيوان، وهذا كله فيما اغتل من العين المغصوبة مع عينها وقيامها. وأما من ما اغتل منها بتصريفها وتحويل عينها كالدنانير فيغتصبها فيتجر بها فيربح، فالغلة قولا واحدا في المذهب؛ وقال قوم: الربح للمغصوب وهذا أيضا إذا قصد غصب الأصل. وأما إذا قصد غصب الغلة دون الأصل فهو ضامن للغلة بإطلاق، ولا خلاف في ذلك سواء عطل أو انتفع أو أكرى، كان مما يزال به أو بما لا يزال به؛ وقال أبو حنيفة: إنه من تعدى على دابة رجل فركبها أو حمل عليها فلا كراء عليه في ركوبه إياها ولا في حمله، لأنه ضامن لها إن تلفت في تعديه، وهذا قوله في كل ما ينقل ويحول، فإنه لما رأى أنه قد ضمنه بالتعدي وصار في ذمته جازت له المنفعة كما تقول المالكية فيما تجر به من المال المغصوب، وإن كان الفرق بينهما أن الذي تجر به تحولت عينه، وهذا لم تتحول عينه. وسبب اختلافهم في هل يرد الغاصب الغلة أو لا يردها اختلافهم في تعميم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" وقوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام هذا خرج على سبب، وهو في غلام قيم فيه بعيب، فأراد الذي صرف عليه أن يرد المشتري غلته، وإذا خرج العام على سبب هل يقصر على سببه أم يحمل على عمومه؟ فيه خلاف بين فقهاء الأمصار مشهور، فمن قصر ههنا هذا الحكم على سببه قال: إنما تجب الغلة من قبل الضمان فيما صار إلى الإنسان بشبهة، مثل أن يشتري شيئا فيستغله فيستحق منه. وأما ما صار إليه بغير وجه شبهة فلا تجوز له الغلة لأنه ظالم، وليس لعرق ظالم حق، فعمم هذا الحديث في الأصل والغلة: أعني عموم هذا الحديث وخصص الثاني. وأما من عكس الأمر فعمم قوله عليه الصلاة والسلام "الخراج بالضمان" على أكثر من السبب الذي خرج عليه، وخصص قوله عليه الصلاة والسلام "ليس لعرق ظالم حق" بأن جعل ذلك في الرقبة دون الغلة قال: لا يرد الغلة الغاصب. وأما من المعنى كما تقدم من قولنا فالقياس أن تجري المنافع والأعيان المتولدة مجرى واحدا، وأن يعتبر التضمن أو لا يعتبر. وأما سائر الأقاويل التي بين هذين فهي استحسان. وأجمع العلماء على أن من اغترس نخلا أو ثمرا بالجملة ونباتا في غير أرضه أنه يؤمر بالقلع لما ثبت من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق" والعرق الظالم عندهم هو ما اغترس في أرض الغير. وروى أبو داود في هذا الحديث زيادة عن عروة: ولقد حدثني الذي حدثني هذا الحديث "أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخلة منها" قال: فلقد رأيتها وإنما لتضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها، إلا ما روي في المشهور عن مالك "أن من زرع زرعا في أرض غيره وفات أوان زراعته لم يكن لصاحب الأرض أن يقلع زرعه، وكان على الزراع كراء الأرض. وقد روي عنه ما يشبه قياس قول الجمهور، وعلى قوله: إن كل ما لا ينتفع الغاصب به إذا قلعه وأزاله أنه للمغصوب يكون الزرع على هذا للزارع. وفرق قوم بين الزرع والثمار فقالوا: الزارع في أرض غيره له نفقته وزريعته، وهو قول كثير من أهل المدينة، وبه قال أبو عبيد وروي عن رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته وليس له من الزرع شيء". واختلف العلماء في القضاء فيما أفسدته المواشي والدواب على أربعة أقوال: أحدها أن كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن لما أفسدته. والثاني أن لا ضمان عليه. والثالث أن الضمان على أرباب البهائم بالليل، ولا ضمان عليهم فيما أفسدته بالنهار. والرابع وجوب الضمان في غير المنفلت ولا ضمان في المنفلت، وممن قال: يضمن بالليل ولا يضمن بالنهار مالك والشافعي؛ وبأن لا ضمان عليهم أصلا قال أبو حنيفة وأصحابه؛ وبالضمان بإطلاق قال الليث، إلا أن الليث قال: لا يضمن أكثر من قيمة الماشية، والقول الرابع مروي عن عمر رضي الله عنه. فعمدة مالك والشافعي في هذا الباب شيئان: أحدهما قوله تعالى {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم} والنفش عند أهل اللغة لا يكون إلا بالليل، وهذا الاحتجاج على مذهب من يرى أنا مخاطبون بشرع من قبلنا. والثاني مرسله عن ابن شهاب "أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط بالنهار حفظها، وإن ما أفسدته المواشي بالليل ضامن على أهلها" أي مضمون. وعمدة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام "العجماء جرحها جبار" وقال الطحاوي: وتحقيق مذهب أبي حنيفة أنه لا يضمن إذا أرسلها محفوظة، فأما إذا لم يرسلها محفوظة فيضمن؛ والمالكية تقول: من شرط قولنا أن تكون الغنم في المسرح وأما إذا كانت في أرض مزرعة لا مسرح فيها فهم يضمنون ليلا ونهارا وعمدة من رأى الضمان فيما أفسدت ليلا ونهارا شهادة الأصول له، وذلك أنه تعد من المرسل، والأصول على أن على المتعدي الضمان، ووجه من فرق بين المنفلت وغير المنفلت بين، فإن المنفلت لا يملك. فسبب الخلاف في هذا الباب معارضة الأصل للسمع، ومعارضة السماع بعضه لبعض، أعني أن الأصل يعارض "جرح العجماء جبار" ويعارض أيضا التفرقة التي في حديث البراء، وكذلك التفرقة التي في حديث البراء تعارض أيضا قوله "جرح العجماء جبار". (يتبع...) @(تابع... 1): -والطوارئ على المغصوب إما بزيادة وإما بنقصان، وهذان إما من قبل... ... ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في حكم ما يصاب من أعضاء الحيوان، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في عين الدابة بربع ثمنها، وكتب إلى شريح فأمره بذلك، وبه قال الكوفيون، وقضى به عمر بن عبد العزيز؛ وقال الشافعي ومالك: يلزم فيما أصيب من البهيمة ما نقص في ثمنها قياسا على التعدي في الأموال؛ والكوفيون اعتمدوا في ذلك على قول عمر رضي الله عنه وقالوا: إذا قال الصاحب قولا ولا مخالف له من الصحابة وقوله مع هذا مخالف للقياس وجب العمل به لأنه يعلم أنه إنما صار إلى القول به من جهة التوقيف، فسبب الخلاف إذا معارضة القياس لقول الصاحب. ومن هذا الباب اختلافهم في الجمل الصئول وما أشبهه يخاف الرجل على نفسه فيقتله، هل يجب عليه غرمه أم لا؟ فقال مالك والشافعي: لا غرم عليه إذا بان أنه خافه على نفسه؛ وقال أبو حنيفة والثوري: يضمن قيمته على كل حال. وعمدة من لم ير الضمان القياس على من قصد رجلا فأراد قتله، فدافع المقصود عن نفسه فقتل في المدافعة القاصد المتعدي أنه ليس عليه قود، وإذا كان ذلك في النفس كان في المال أحرى، لأن النفس أعظم حرمة من المال، وقياسا أيضا على إهدار دم الصيد الحرمي إذا صال وتمسك به حذاق أصحاب الشافعي. وعمدة أبي حنيفة أن الأموال تضمن بالضرورة إليها، أصله المضطر إلى طعام الغير ولا حرمة للبعير من جهة ما هو ذو نفس. ومن هذا الباب اختلافهم في المكرهة على الزنى، هل على مكرهها مع الحد صداق أم لا؟ فقال مالك والشافعي والليث: عليه الصداق والحد جميعا؛ وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الحد ولا صداق عليه، وهو قول ابن شبرمة. وعمدة مالك أنه وجب عليه حقان: حق لله وحق للآدمي، فلم يسقط أحدهما الآخر، أصله السرقة التي يجب بها عندهم غرم المال والقطع. وأما من لم يوجب الصداق، فتعلق في ذلك بمعنيين: أحدهما أنه إذا اجتمع حقان: حق لله وحق للمخلوق سقط حق المخلوق لحق الله، وهذا على رأي الكوفيين في أنه لا يجمع على السارق غرم وقطع. والمعنى الثاني أن الصداق ليس مقابل البضع، وإنما هو عبادة إذ كان النكاح شرعيا، وإذا كان ذلك كذلك فلا صداق في النكاح الذي على غير الشرع. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب من غصب أسطوانة فبنى عليها بناء يساوي قائما أضعاف قيمة الأسطوانة، فقال مالك والشافعي: يحكم على الغاصب بالهدم ويأخذ المغصوب منه أسطونته؛ وقال أبو حنيفة: تفوت بالقيمة كقول مالك فيمن غير المغصوب بصناعة لها قيمة كثيرة؛ وعند الشافعي لا يفوت المغصوب بشيء من الزيادة. وهنا انقضى هذا الكتاب.