بداية المجتهد - كتاب الصيام

من معرفة المصادر

كتاب الصيام @-وهذا الكتاب ينقسم أولا قسمين: أحدهما في الصوم الواجب، والآخر في المندوب إليه. والنظر في الصوم الواجب ينقسم إلى قسمين: أحدهما في الصوم والآخر في الفطر. أما القسم الأول وهو الصيام فإنه ينقسم أولا إلى جملتين: إحداهما معرفة أنواع الصيام الواجب، والأخرى معرفة أركانه. وأما القسم الذي يتضمن النظر في الفطر فإنه ينقسم إلى معرفة المفطرات وإلى معرفة المفطرين وأحكامهم.

  • 3*[كتاب الصيام الأول]
  • 3*(الجملة الأولى) وهي معرفة أنواع الصيام

@-فلنبدأ بالقسم الأول من هذا الكتاب، وبالجملة الأولى منه، وهي معرفة أنواع الصيام فنقول: إن الصوم الشرعي منه واجب، ومنه مندوب إليه. والواجب ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه، وهو صوم شهر رمضان بعينه. ومنه ما يجب لعلة، وهو صيام الكفارات. ومنه ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صيام النذر. والذي يتضمن هذا الكتاب القول فيه من أنواع هذه الواجبات هو صوم شهر رمضان فقط. وأما صوم الكفارات فيذكر عند ذكر المواضع التي تجب منها الكفارة، وكذلك صوم النذر ويذكر في كتاب النذر. فأما صوم شهر رمضان فهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فقوله تعالى {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} وأما السنة ففي قوله عليه الصلاة والسلام "بني الإسلام على خمس، وذكر فيها الصوم" وقوله للأعرابي "وصيام شهر رمضان" قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وأما الإجماع فإنه لم ينقل إلينا خلاف عن أحد من الأئمة في ذلك. وأما على من يجب وجوبا غير مخير فهو البالغ العاقل الحاضر الصحيح إذا لم تكن فيه الصفة المانعة من الصوم وهي الحيض للنساء، هذا لا خلاف فيه لقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} .

  • 3*الجملة الثانية: في الأركان

@-والأركان ثلاثة: إثنان متفق عليهما، وهما الزمان والإمساك عن المفطرات. والثالث مختلف فيه وهو النية. فأما الركن الأول الذي هو الزمان، فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما زمان الوجوب، وهو شهر رمضان. والآخر زمان الإمساك عن المفطرات، وهو أيام هذا الشهر دون الليالي، ويتعلق بكل واحد من هذين الزمانين مسائل قواعد اختلفوا فيها، فلنبدأ بما يتعلق من ذلك بزمان الوجوب، وأول ذلك في تحديد طرفي هذا الزمان. وثانيا في معرفة الطريق التي بها يتوصل إلى معرفة العلامة المحدودة في حق شخص شخص وأفق أفق. فأما طرفا هذا الزمان، فإن العلماء أجمعوا على أن الشهر العربي يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين وعلى أن الإعتبار في تحديد شهر رمضان إنما هو الرؤية، لقوله عليه الصلاة والسلام "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وعني بالرؤية أول ظهور القمر بعد السؤال. واختلفوا في الحكم إذا غم الشهر ولم تمكن الرؤية وفي وقت الرؤية المعتبر، فأما اختلافهم إذا غم الهلال، فإن الجمهور يرون أن الحكم في ذلك أن تكمل العدة ثلاثين، فإن كان الذي غم هلال أول الشهر عد الشهر الذي قبله ثلاثين يوما، وكان أول رمضان الحادي والثلاثين، وإن كان الذي غم هلال آخر الشهر صام الناس ثلاثين يوما. وذهب ابن عمر إلى أنه إن كان المغمّى عليه هلال أول الشهر صيم اليوم الثاني وهو الذي يعرف بيوم الشك. وروى بعض السلف أنه إذا أغمى الهلال رجع إلى الحساب بمسير القمر والشمس، وهو مذهب مطرف بن الشخير وهو من كبار التابعين. وحكى ابن سريج عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي وقد غم، فإن له أن يعقد الصوم ويجزيه. وسبب اختلافهم الإجمال الذي في قوله صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له" فذهب الجمهور إلى أن تأويله أكملوا العدة ثلاثين. ومنهم من رأى أن معنى التقدير له هو عده بالحساب. ومنهم من رأى أن معنى ذلك أن يصبح المرء صائما، وهو مذهب ابن عمر كما ذكرنا وفيه بعد في اللفظ. وإنما صار الجمهور إلى هذا التأويل لحديث ابن عباس الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وذلك مجمل وهذا مفسر، فوجب أن يحمل المجمل على المفسر، وهي طريقة لا خلاف فيها بين الأصوليين، فإنهم ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلا، فمذهب الجمهور في هذا لائح والله أعلم. وأما اختلافهم في إعتبار وقت الرؤية فإنهم اتفقوا على أنه إذا رؤي من العشي أن الشهر من اليوم الثاني، واختلفوا إذا رؤي في سائر أوقات النهار أعني أول ما رؤي، فمذهب الجمهور أن القمر في أول وقت رؤي من النهار أنه لليوم المستقبل كحكم رؤيته بالعشي، وبهذا القول قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور أصحابهم. وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة والثوري وابن حبيب من أصحاب مالك: إذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن رؤي بعد الزوال فهو للآتية. وسبب اختلافهم ترك اعتبار التجربة فيما سبيله التجربة والرجوع إلى الأخبار في ذلك، وليس في ذلك أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام يرجع إليه، لكن روي عن عمر رضي الله عنه أثران: أحدهما عام والآخر مفسر، فذهب قوم إلى العام وذهب قوم إلى المفسر. فأما العام فما رواه الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس. وأما الخاص فما روى الثوري عنه أنه بلغ عمر بن الخطاب أن قوما رأوا الهلال بعد الزوال فأفطروا، فكتب إليهم يلومهم وقال: إذا رأيتم الهلال نهارا قبل الزوال فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا. قال القاضي: الذي يقتضي القياس والتجربة أن القمر لا يرى والشمس بعد لم تغب إلا وهو بعيد منها، لأنه حينئذ يكون أكبر من قوس الرؤية، وإن كان يختلف في الكبر والصغر فبعيد والله أعلم أن يبلغ من الكبر أن يرى والشمس بعد لم تغب، ولكن المعتمد في ذلك التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل الزوال ولا بعده، وإنما المعتبر في ذلك مغيب الشمس أو لا مغيبها. وأما اختلافهم في حصول العلم بالرؤية فإن له طريقين: أحدهما الحس والآخر الخبر، فأما طريق الحس فإن العلماء أجمعوا على أن من أبصر هلال الصوم وحده أن عليه أن يصوم، إلا عطاء بن أبي رباح فإنه قال: لا يصوم إلا برؤية غيره معه، واختلفوا هل يفطر برؤيته وحده؟ فذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد إلى أنه لا يفطر. وقال الشافعي: يفطر، وبه قال أبو ثور، وهذا لا معنى له، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوجب الصوم والفطر للرؤية. والرؤية إنما تكون بالحس، ولولا الإجماع على الصيام بالخبر عن الرؤية لبعد وجوب الصيام بالخبر لظاهر هذا الحديث، وإنما فرق من فرق بين هلال الصوم والفطر لمكان سد الذريعة أن لا يدعى الفساق أنهم رأوا الهلال فيفطرون وهم بعد لم يروه، ولذلك قال الشافعي: إن خاف التهمة أمسك عن الأكل والشرب واعتقد الفطر، وشذ مالك فقال: من أفطر وقد رأى الهلال وحده فعليه القضاء والكفارة. وقال أبو حنيفة: عليه القضاء فقط. وأما طريق الخبر فإنهم اختلفوا في عدد المخبرين الذين يجب قبول خبرهم عن الرؤية وفي صفتهم. فأما مالك فقال: إنه لا يجوز أن يصام ولا يفطر بأقل من شهادة رجلين عدلين. وقال الشافعي في رواية المزني: إنه يصام بشهادة رجل واحد على الرؤية، ولا يفطر بأقل من شهادة رجلين. وقال أبو حنيفة: إن كانت السماء مغيمة قبل واحد، وإن كانت صاحية بمصر كبير لم تقبل إلا شهادة الجم الغفير. وروي عنه أنه تقبل شهادة عدلين إذا كانت السماء مصحية وقد روي عن مالك أنه لا تقبل شهادة الشاهدين إلا إذا كانت السماء مغيمة، وأجمعوا على أنه لا يقبل في الفطر إلا إثنان، إلا أبا ثور فإنه لم يفرق في ذلك بين الصوم والفطر كما فرق الشافعي. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وتردد الخبر في ذلك بين أن يكون من باب الشهادة أو من باب العمل بالأحاديث التي لا يشترط فيها العدد. وتردد الخبر في ذلك بين أن يكون من باب الشهادة أو من باب العمل بالأحاديث التي لا يشترط فيها العدد. أما الآثار فمن ذلك ما خرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وكلهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" ومنها حديث ابن عباس أنه قال "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبصرت الهلال الليلة، فقال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا" خرجه الترمذي قال: وفي إسناده خلاف لأنه رواه جماعة مرسلا. ومنها حديث ربعي بن خراش خرجه أبو داود عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كان الناس في آخر يوم من رمضان فقام أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يعودوا إلى المصلى" فذهب الناس في هذه الآثار مذهب الترجيح ومذهب الجمع، فالشافعي جمع بين حديث ابن عباس وحديث ربعي بن خراش على ظاهرهما، فأوجب الصوم بشهادة واحد والفطر بإثنين، ومالك رجح حديث عبد الرحمن ابن زيد لمكان القياس: أعني تشبيه ذلك بالشهادة في الحقوق، ويشبه أن يكون أبو ثور لم ير تعارضا بين حديث ابن عباس وحديث ربعي بن خراش، وذلك أن الذي في حديث ربعي بن خراش أنه قضى بشهادة إثنين، وفي حديث ابن عباس أنه قضى بشهادة واحد، وذلك مما يدل على جواز الأمرين جميعا، لا أن ذلك تعارض، ولا أن القضاء الأول مختص بالصوم والثاني بالفطر، فإن القول بهذا إنما ينبني على توهم التعارض، وكذلك يشبه أن لا يكون تعارض بين حديث عبد الرحمن بن زيد وبين حديث ابن عباس إلا بدليل الخطاب، وهو ضعيف إذا عارضه النص، فقد نرى أن قول أبي ثور على شذوذه هو أبين، مع أن تشبيه الرائي بالراوي هو أمثل من تشبيهه بالشاهد، لأن الشهادة إما أن يقول إن اشتراط العدد فيها عبادة غير معللة فلا يجوز أن يقيس عليها، وإما أن يقول إن اشتراط العدد فيها هو لموضع التنازع الذي في الحقوق، والشبة التي تعرض من قبل قول أحد الخصمين فاشترط فيها العدد وليكون الظن أغلب والميل إلى حجة أحد الخصمين أقوى، ولم يتعد بذلك الأثنين لئلا يعسر قيام الشهادة فتبطل الحقوق، وليس في رؤية القمر شبهة من مخالف توجب الإستظهار بالعدد، ويشبه أن يكون الشافعي إنما فرق بين هلال الفطر وهلال الصوم للتهمة التي تعرض للناس في هلال الفطر ولا تعرض في هلال الصوم، ومذهب أبي بكر بن المنذر هو مذهب أبي ثور أحسبه هو مذهب أهل الظاهر وقد احتج أبو بكر بن المنذر لهذا الحديث بانعقاد الإجماع على وجوب الفطر والإمساك عن الأكل بقول واحد، فوجب أن يكون الأمر كذلك في دخول الشهر وخروجه، إذ كلاهما علامة تفصل زمان الفطر من زمان الصوم، وإذا قلنا إن الرؤية تثبت بالخبر في حق من لم يره فهل يتعدى ذلك من بلد إلى بلد؟ أعني هل يجب على أهل بلد ما إذا لم يروه أن يأخذوا في ذلك برؤية بلد آخر أم لكل بلد رؤية؟ فيه خلاف، فأما مالك فإن ابن القاسم والمصريين رووا عنه أنه إذا ثبت عند أهل بلد أن أهل بلد آخر رأوا الهلال أن عليهم قضاء ذلك اليوم الذي أفطروه وصامه غيرهم، وبه قال الشافعي وأحمد. وروى المدنيون عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤية، إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك، وبه قال ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك، وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز. والسبب في هذا الخلاف تعارض الأثر والنظر. أما النظر فهو أن البلاد إذا لم تختلف مطالعها كل الإختلاف فيجب أن يحمل بعضها على بعض لأنها في قياس الأفق الواحد. وأما إذا اختلفت إختلافا كثيرا فليس يجب أن يحمل بعضها على بعض. وأما الأثر فما رواه مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحرث بعثته إلى معاوية بالشام فقال: قدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل على رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيته ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية؟ فقال لا، هكذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام، فظاهر هذا الأثر يقتضي أن لكل بلد رؤيته قرب أو بعد، والنظر يعطي الفرق بين البلاد النائية والقريبة، وبخاصة ما كان نأيه في الطول والعرض كثيرا، وإذا بلغ الخبر مبلغ التواتر لم يحتج فيه إلى شهادة، فهذه هي المسائل التي تتعلق بزمان الوجوب. وأما التي تتعلق بزمان الإمساك فإنهم اتفقوا على أن آخره غيبوبة الشمس لقوله تعالى -ثم أتموا الصيام إلى الليل- واختلفوا في أوله، فقال الجمهور هو طلوع الفجر الثاني المستطير الأبيض لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني حده بالمستطير ولظاهر قوله تعالى -حتى يتبين لكم الخيط الأبيض- الآية. وشذت فرقة فقالوا: هو الفجر الأحمر الذي يكون بعد الأبيض وهو نظير الشفق الأحمر، وهو مروي عن حذيفة وابن مسعود. وسبب هذا الخلاف هو إختلاف الآثار في ذلك واشتراك اسم الفجر، أعني أنه يقال على الأبيض والأحمر. وأما الآثار التي احتجوا بها فمنها حديث ذر عن حذيفة قال "تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ولو أشاء أن أقول هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع" وخرج أبو داود عن قيس بن مطلق عن أبيه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كلوا واشربوا ولا يُهِيدَنَّكم (1) الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" قال أبو داود: هذا ما تفرد به أهل اليمامة وهذا شذوذ، فإن قوله تعالى -حتى يتبين لكم الخيط الأبيض- نص في ذلك أو كالنص، والذين رأوا أنه الفجر الأبيض المستطير وهم الجمهور والمعتمد اختلفوا في الحد المحرم للأكل فقال قوم: هو طلوع الفجر نفسه. وقال قوم هو تبينه عند الناظر إليه ومن لم يتبينه، فالأكل مباح له حتى يتبينه وإن كان قد طلع، وفائدة الفرق أنه إذا انكشف أن ماظن من أنه لم يطلع، كان قد طلع. فمن كان الحد عنده هو الطلوع نفسه أوجب عليه القضاء، ومن قال: هو العلم الحاصل به لم يوجب عليه قضاء. وسبب الإختلاف في ذلك الإحتمال الذي في قوله تعالى -وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر- هل الإمساك بالتبيين نفسه أو بالشيء المتبين؟ لأن العرب تتجوز فتستعمل لاحق الشيء بدل الشيء على وجه الإستعارة فكأنه قال تعالى -وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود- لأنه إذا تبين في نفسه تبين لنا، فإذا إضافة التبيين لنا هي التي أوقعت الخلاف، لأنه قد يتبين في نفسه ويتميز ولا يتبين لنا، وظاهر اللفظ يوجب تعلق الإمساك بالعلم والقياس يوجب تعلقه بالطلوع نفسه، أعني قياسا على الغروب وعلى سائر حدود الأوقات الشرعية كالزوال وغيره فإن الإعتبار في جميعها في الشرع هو بالأمر نفسه لا بالعلم المتعلق به. والمشهور عن مالك وعليه الجمهور أن الأكل يجوز أن يتصل بالطلوع، وقيل بل يجب الإمساك قبل الطلوع. والحجة للقول الأول ما في كتاب البخاري أظنه في بعض رواياته قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم فإنه لا ينادي حتى يطلع الفجر" وهو نص في موضع الخلاف أو كالنص والموافق لظاهر قوله تعالى -كلوا واشربوا- الآية. ومن ذهب إلى أنه يجب الإمساك قبل الفجر فجريا على الإحتياط وسدا للذريعة وهو أورع القولين والأول أقيس، والله أعلم.


(1) هكذا بالنسخة المصرية، وبالنسخة المغربية: "ولا يهمزنكم"، فتأمل.


@-الركن الثاني وهو الإمساك: وأجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع لقوله تعالى {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} واختلفوا من ذلك في مسائل منها مسكوت عنها ومنها منطوق بها أما المسكوت عنها: إحداها فيما يرد الجوف مما ليس بمغذ وفيما يرد الجوف من غير منفذ الطعام والشراب مثل الحقنة، وفيما يرد باطن سائر الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة. وسبب اختلافهم في هذه هو قياس المغذي على غير المغذي، وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذي، فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق المغذي بغير المغذي، ومن رأى أنها عبادة غير معقولة، وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عما يرد الجوف سوى بين المغذي وغير المغذي، وتحصيل مذهب مالك أنه يجب الإمساك عن ما يصل إلى الحلق من أي المنافذ وصل مغذيا كان أو غير مغذ. وأما ما عدا المأكول والمشروب من المفطرات فكلهم يقولون إن من قبل فأمنى فقد أفطر وإن أمذى فلم يفطر إلا مالك. واختلفوا في القبلة للصائم، فمنهم من أجازها، ومنهم من كرهها للشاب وأجازها للشيخ ومنهم من كرهها على الإطلاق، فمن رخص فيها فلما روى من حديث عائشة وأم سلمة "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم" ومن كرهها فلما يدعوا إليه من الوقاع. وشذ قوم فقالوا: القبلة تفطر، واحتجوا لذلك بما روي عن ميمونة بنت سعد قالت "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال: "أفطرا جميعا" خرج هذا الأثر الطحاوي ولكن ضعفه. وأما ما يقع من هذه من قبل الغلبة ومن قبل النسيان فالكلام فيه عند الكلام في المفطرات وأحكامها. وأما ما اختلفوا فيه مما هو منطوق به فالحجامة والقيء. أما الحجامة فإن فيها ثلاثة مذاهب: قوم قالوا: إنها تفطر وأن الإمساك عنها واجب، وبه قال أحمد وداود والأوزاعي وإسحق بن راهويه وقوم قالوا: إنها مكروهة للصائم وليست تفطر، وبه قال مالك والشافعي والثوري. وقوم قالوا: إنها غير مكروهة ولا مفطرة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك حديثان: أحدهما ما روي من طريق ثوبان ومن طريق رافع بن خديج أنه عليه الصلاة والسلام قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" وحديث ثوبان هذا كان يصححه أحمد. والحديث الثاني حديث عكرمة عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" وحديث ابن عباس هذا صحيح؛ فذهب العلماء في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح. والثاني مذهب الجمعة. والثالث مذهب الإسقاط عند التعارض والرجوع إلى البراءة الأصلية إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ، فمن ذهب مذهب الترجيح قال بحديث ثوبان، وذلك أن هذا موجب حكما، وحديث ابن عباس رافعه، والموجب مرجح عند كثير من العلماء على الرافع لأن الحكم إذا ثبت بطريق يوجب العمل لم يرتفع إلا بطريق يوجب العمل برفعه، وحديث ثوبان قد وجب العمل به، وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا، وذلك شك والشك لا يوجب عملا ولا يرفع العلم الموجب للعمل، وهذا على طريقة من لا يرى الشك مؤثرا في العلم، ومن رام الجمع بينهما حمل حديث النهي على الكراهية وحديث الإحتجام على الحظر، ومن أسقطهما للتعارض قال بإباحة الإحتجام للصائم. وأما القيء فإن جمهور الفقهاء على أن من ذرعه القيء فليس بمفطر، إلا ربيعة فإنه قال: إنه مفطر، وجمهورهم أيضا على أنه من استقاء فقاء فإنه مفطر إلا طاوس. وسبب اختلافهم ما يتوهم من التعارض بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة اختلافهم أيضا في تصحيحها، وذلك أنه ورد في هذا الباب حديثان أحدهما حديث أبي الدرداء "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر" قال معدان: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت له أن أبا الدرداء حدثني "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، قال: صدق أنا صببت له وضوءه" وحديث ثوبان هذا صححه الترمذي. والآخر حديث أبي هريرة خرجه الترمذي وأبو داود أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فعليه القضاء" وروى موقوفا عن ابن عمر؛ فمن لم يصح عنده الأثران كلاهما قال: ليس فيه فطر أصلا، ومن أخذ بظاهر حديث ثوبان ورجحه على حديث أبي هريرة أوجب الفطر من القيء بإطلاق، ولم يفرق بين أن يستقيء أو لا يستقيء؛ ومن جمع بين الحديثين وقال حديث ثوبان مجمل وحديث أبي هريرة مفسر والواجب حمل المجمل على المفسر فرق بين القئ والإستقاءة، وهو الذي عليه الجمهور @-الركن الثالث وهو النية: والنظر في النية في مواضع منها هل هي شرط في صحة هذه العبادة أم ليست بشرط؟ وإن كانت شرطا فما الذي يجزئ من تعيينها؟ وهل يجب تجديدها في كل يوم من أيام رمضان أم يكفي في ذلك النية الواقعة في اليوم الأول؟ وإذا أوقعها المكلف فأي وقت إذا وقعت فيه صح الصوم؟ وإذا لم تقع فيه بطل الصوم؟ وهل رفض النية يوجب الفطر وإن لم يفطر؟ وكل هذه المطالب قد اختلف العلماء فيها. أما كون النية شرطا في صحة الصيام فإنه قول الجمهور؛ وشذ زفر فقال: لا يحتاج رمضان إلى النية إلا أن يكون الذي يدركه صيام شهر رمضان مريضا أو مسافرا فيريد الصوم. والسبب في اختلافهم الإحتمال المتطرق إلى الصوم هل هو عبادة معقولة المعنى أو غير معقولة المعنى؟ فمن رأى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنها معقولة المعنى قال: قد حصل المعنى إذا صام وإن لم ينو، لكن تخصيص زفر رمضان بذلك من بين أنواع الصوم فيه ضعف، وكأنه لما رآى أن أيام رمضان لا يجوز فيها الفطر، أي أن كل صوم يقع فيها ينقلب صوما شرعيا، وأن هذا شيء يخص هذه الأيام. وأما اختلافهم في تعيين النية المجزية في ذلك فإن مالكا قال: لا بد في ذلك من تعيين صوم رمضان، ولا يكفيه اعتقاد الصوم مطلقا ولا اعتقاد صوم معين غير صوم رمضان. وقال أبو حنيفة: إن اعتقد مطلق الصوم أجزأه، وكذلك إن نوى فيه صيام غير رمضان أجزأه وانقلب إلى صيام رمضان إلا أن يكون مسافرا، فإنه إذا نوى المسافر عنده في رمضان صيام غير رمضان كان ما نوى، لأنه لم يجب عليه صوم رمضان وجوبا معينا، ولم يفرق صاحباه بين المسافر والحضر وقالا: كل صوم نوى في رمضان انقلب إلى رمضان. وبسبب اختلافهم هل الكافي في تعيين النية في هذه العبادة هو تعيين جنس العبادة أو تعيين شخصها، وذلك أن كلا الأمرين موجود في الشرع، مثال ذلك أن النية في الوضوء يكفي منها اعتقاد رفع الحدث لأي شيء كان من العبادة التي الوضوء شرط في صحتها، وليس يختص عبادة عبادة بوضوء وضوء. وأما الصلاة فلا بد فيها من تعيين شخص العبادة، فلا بد من تعيين الصلاة إن عصرا فعصرا، وإن ظهرا فظهرا، وهذا كله على المشهور عند العلماء، فتردد الصوم عند هؤلاء بين هذين الجنسين، فمن ألحقه بالجنس الواحد قال: يكفي في ذلك اعتقاد الصوم فقط، ومن ألحقه بالجنس الثاني اشترط تعيين الصوم. واختلافهم أيضا في إذا نوى في أيام رمضلن صوما آخر هل ينقلب أو لا ينقلب؟ سببه أيضا أن من العبادة عندهم من ينقلب من قبل أن الوقت الذي توقع فيه مختص بالعبادة التي تنقلب إليه، ومنها ما ليس ينقلب، أما التي لا تنقلب فأكثرها، وأما التي تنقلب باتفاق فالحج. وذلك أنهم قالوا إذا ابتدأ الحج تطوعا من وجب عليه الحج انقلب التطوع إلى فرض، ولم يقولوا ذلك في الصلاة ولا في غيرها، فمن شبه الصوم بالحج قال ينقلب ومن شبهه بغيره من العبادات قال لا ينقلب. وأما اختلافهم في وقت النية، فإن مالكا رأى أنه لا يجزئ الصيام إلا بنية قبل الفجر، وذلك في جميع أنواع الصوم؛ وقال الشافعي: تجزئ النية بعد الفجر في النافلة ولا تجزئ في الفروض. وقال أبو حنيفة: تجزئ النية بعد الفجر في الصيام المتعلق وجوبه بوقت معين مثل رمضان ونذر أيام محدودة، وكذلك في النافلة، ولا يجزئ في الواجب في الذمة. والسبب في اختلافهم تعارض الآثار في ذلك؛ أما الآثار المتعارضة في ذلك، فأحدها ما خرجه البخاري عن حفصة أنه قال عليه الصلاة والسلام "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" ورواه مالك موقوفا قال أبو عمر: حديث حفصة في إسناده اضطراب. والثاني ما رواه مسلم عن عائشة قالت "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: يا عائشة هل عندكم شيء؟ قالت: قلت يارسول الله ما عندنا شيء، قال فإني صائم" ولحديث معاوية أنه قال على المنبر: يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب علينا صيامه وأنا صائم فمن شاء منكم فليصم ومن شاء فليفطر" فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بحديث حفصة، ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين النفل والفرض، أعني حمل حديث حفصة على الفرض، وحديث عائشة ومعاوية على النفل، وإنما فرق أبو حنيفة بين الواجب المعين والواجب في الذمة، لأن الواجب المعين له وقت مخصوص يقوم مقام النية في التعيين، الذي في الذمة ليس له وقت مخصوص، فأوجب أن التعيين بالنية؛ وجمهور الفقهاء على أنه ليست الطهارة من الجنابة شرطا في صحة الصوم لما ثبت من حديث عائشة وأم سلمة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم" ومن الحجة لهما الإجماع على أن الإحتلام بالنهار لا يفسد الصوم. وروي عن إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير وطاوس أنه إن تعمد ذلك أفسد صومه. وسبب اختلافهم ما روي عن أبي هريرة أنه كان يقول "من أصبح جنبا في رمضان أفطر" وروي عنه أنه قال: ما أنا قلته، محمد صلى الله عليه وسلم قاله ورب الكعبة. وذهب ابن الماجشون من أصحاب مالك أن الحائض إذا طهرت قبل الفجر فأخرت الغسل إلى يومها يوم فطر وأقاويل هؤلاء شاذة ومردودة بالسنن المشهورة الثابتة. @-القسم الثاني من الصوم المفروض: وهو الكلام في الفطر وأحكامه: والمفطرون في الشرع على ثلاثة أقسام: صنف يجوز له الفطر والصوم بإجماع. وصنف يجب عليه الفطر على اختلاف في ذلك بين المسلمين. وصنف لا يجوز له الفطر، وكل واحد من هؤلاء تتعلق به أحكام. أما الذين يجوز لهم الأمران: فالمريض بإتفاق، والمسافر باختلاف، والحامل والمرضع والشيخ الكبير. وهذا التقسيم كله مجمع عليه. فأما المسافر فالنظر فيه في مواضع منها: هل إن صام أجزأه صومه أم ليس يجزيه؟ وهل إن كان يجزئ المسافر صومه الأفضل له الصوم أو الفطر أو هو مخير بينهما؟ وهل الفطر الجائز له هو في سفر محدود أم في كل ما ينطلق عليه اسم السفر في وضع اللغة؟ ومتى يفطر المسافر؟ ومتى يمسك؟ وهل إذا مر بعض الشهر له أن ينشئ السفر أم لا؟ ثم إذا أفطر ما حكمه؟ وأما المريض فالنظر فيه أيضا في تحديد المرض الذي يجوز له فيه الفطر وفي حكم الفطر. (أما المسألة الأولى) وهي إن صام المريض والمسافر هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه إن صام وقع صيامه وأجزأه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يجزيه وأن فرضه هو أيام أخر. والسبب في اختلافهم تردد قوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} بين أن يحمل على الحقيقة فلا يكون هنالك محذوف أصلا، أو يحمل على المجاز فيكون التقدير فأفطر فعدة من أيام أخر، وهذا الحذف في الكلام هو الذي يعرفه أهل صناعة الكلام بلحن الخطاب، فمن حمل الآية على الحقيقة ولم يحملها على المجاز قال: إن فرض المسافر عدة من أيام أخر لقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} ومن قدر فأفطر قال: إنما فرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر. وكلا الفريقين يرجح تأويله بالآثار الشاهدة لكلا المفهومين. وإن كان الأصل هو أن يحمل الشيء على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز. أما الجمهور فيحتجون لمذهبهم بما ثبت من حديث أنس قال "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" وبما ثبت عنه أيضا أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم. فأهل الظاهر يحتجون لمذهبهم بما ثبت عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر فأفطر الناس" وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وهذا يدل على نسخ الصوم. قال أبو عمر: والحجة على أهل الظاهر إجماعهم على أن المريض إذا صام أجزأه صومه. (وأما المسألة الثانية) وهي هل الصوم أفضل أو الفطر؟ إذا قلنا أنه من أهل الفطر على مذهب الجمهور؛ فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب: فبعضهم رأى أن الصوم أفضل، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة. وبعضهم رأى أن الفطر أفضل، وممن قال بهذا القول أحمد وجماعة. وبعضهم رأى أن ذلك على التخيير، وأنه ليس أحدهما أفضل. والسبب في اختلافهم معارضة المفهوم من ذلك لظاهر بعض المنقول، ومعارضة المنقول بعضه لبعض وذلك أن المعنى المعقول من إجازة الفطر للصائم إنما هو الرخصة له لمكان رفع المشقة عنه، وما كان رخصة فالأفضل ترك الرخصة، ويشهد لهذا حديث حمزة بن عمرو الأسلمي خرجه مسلم أنه قال "يا رسول الله أجد فيَّ قوة على الصيام في السفر فهل عليَّ من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام "ليس من البر أن تصوم في السفر" ومن أنَّ آخر فعله عليه الصلاة والسلام كان الفطر، فيوهم أن الفطر أفضل، لكن الفطر لما كان ليس حكما وإنما هو فعل المباح عسر على الجمهور أن يضعوا المباح أفضل من الحكم. وأما من خيِّر في ذلك فلمكان حديث عائشة قالت "سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" خرجه مسلم. (وأما المسألة الثالثة) وهي هل الفطر الجائز للمسافر هو في سفر محدود أو في سفر غير محدود. فإن العلماء اختلفوا فيها؛ فذهب الجمهور إلى أنه إنما يفطر في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وذلك على حسب اختلافهم في هذه المسألة. وذهب قوم إلى أنه يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم سفر وهم أهل الظاهر. والسبب في اختلافهم معارضة ظاهر اللفظ للمعنى، وذلك أن ظاهر اللفظ أن كل من ينطلق عليه اسم مسافر فله أن يفطر لقوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وأما المعنى المعقول من إجازة الفطر في السفر فهو المشقة، ولما كانت لا توجد في كل سفر وجب أن يجوز الفطر في السفر الذي فيه المشقة ولما كان الصحابة كأنهم مجمعون على الحد في ذلك وجب يقاس ذلك على الحد في تقصير الصلاة. وأما المرض الذي يجوز فيه الفطر، فإنهم اختلفوا فيه أيضا، فذهب قوم إلى أنه المرض الذي يلحق من الصوم فيه مشقة وضرورة، وبه قال مالك. وذهب قوم إلى أنه المرض الغالب، وبه قال أحمد. وقال قوم إذا انطلق عليه اسم المريض أفطر. وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في حد السفر. (وأما المسألة الخامسة) [لا يوجد رابعة؟؟] وهي متى يفطر المسافر ومتى يمسك، فإن قوما قالوا: يفطر يومه الذي خرج فيه مسافرا، وبه قال الشعبي والحسن وأحمد. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك، وبه قال فقهاء الأمصار. واستحب جماعة العلماء لمن علم أنه يدخل المدينة أول يومه ذلك أن يدخل صائما، وبعضهم في ذلك أكثر تشديدا من بعض وكلهم لم يوجبوا على من دخل مفطرا كفارة. واختلفوا في من دخل وقد ذهب بعض النهار، فذهب مالك والشافعي على أنه يتمادى على فطره. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يكف عن الأكل، وكذلك الحائض عنده تطهر تكف عن الأكل. والسبب في اختلافهم في الوقت الذي يفطر فيه المسافر هو معارضة الأثر للنظر. أما الأثر فإنه ثبت من حديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه" وظاهر هذا أنه أفطر بعد أن بيت الصوم. وأما الناس فلا يشك أنهم أفطروا بعد تبييتهم الصوم، وفي هذا المعنى أيضا حديث جابر بن عبد الله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة، فسار حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة أولئك العصاة" وخرج أبو داود عن أبي نضرة الغفاري أنه لما تجاوز البيوت دعا بالسفرة، قال جعفر راوي الحديث: فقلت: ألست تؤم البيوت؟ فقال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال جعفر: فأكل. وأما النظر فلما كان المسافر لا يجوز له إلا أن يبيت الصوم ليلة سفره لم يجز له أن يبطل صومه وقد بيته لقوله تعالى {ولا تبطلوا أعمالكم} وأما اختلافهم في إمساك الداخل في أثناء النهار عن الأكل أو لا إمساكه. فالسبب في اختلافهم في تشبيه من يطرأ عليه في يوم شك أفطر فيه الثبوت أنه من رمضان، فمن شبهه به قال يمسك عن الأكل، ومن لم يشبهه به قال لا يمسك عن الأكل، لأن الأول أكل لموضع الجهل، وهذا أكل لسبب مبيح أو موجب للأكل. والحنفية تقول: كلاهما سببان موجبان للإمساك عن الأكل بعد إباحة الأكل. (وأما المسألة السادسة) وهي هل يجوز للصائم في رمضان أن ينشيء سفرا ثم لا يصوم فيه، فإن الجمهور على أنه يجوز ذلك له. وروي عن بعضهم وهو عبيدة السلماني وسويد بن غفلة وابن مجلز أنه إن سافر فيه صام ولم يجيزوا له الفطر. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وذلك أنه يحتمل أن يفهم منه أن من شهد أن الواجب أن يصوم ذلك البعض الذي شهده، وذلك أنه لما كان المفهوم باتفاق أن من شهده كله فهو يصومه كله كأن من شهد بعضه فهو يصوم بعضه، ويؤيد تأويل الجمهور إنشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم السفر في رمضان. وأما حكم المسافر إذا أفطر فهو القضاء باتفاق وكذلك المريض لقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} ما عدا المريض بإغماء أو جنون، فإنهم اختلفوا في وجوب القضاء عليه، وفقهاء الأمصار على وجوبه على المغمى عليه واختلفوا في المجنون، ومذهب مالك وجوب القضاء عليه وفيه ضعف لقوله عليه الصلاة والسلام "وعن المجنون حتى يفيق" والذين أوجبوا عليهم القضاء اختلفوا في كون الإغماء والجنون مفسداً للصوم، فقوم قالوا إنه مفسد، وقوم قالوا: ليس بمفسد، وقوم فرقوا بين أن يكون أغمي عليه بعد الفجر أو قبل الفجر، وقوم قالوا: إن أغمي عليه بعد مضي أكثر النهار أجزأه، وإن أغمي عليه في أول النهار قضى، وهو مذهب مالك، وهذا كله فيه ضعف، فإن الإغماء والجنون صفة يرتفع بها التكليف وبخاصة الجنون، إذا ارتفع التكليف لم يوصف لمفطر ولا صائم فكيف يقال في الصفة التي ترفع التكليف إنها مبطلة للصوم إلا كما يقال في الميت أو في من لا يصح منه العمل إنه قد بطل صومه وعمله. ويتعلق بقضاء المسافر والمريض مسائل: منها هل يقضيان ما عليهما متتابعا أم لا؟ ومنها ماذا عليهما إذا أخرا القضاء بغير عذر إلى أن يدخل رمضان آخر؟ ومنها إذا ماتا ولم يقضيا هل يصوم عنهما وليهما أو لا يصوم؟ (أما المسألة الأولى) فإن بعضهم أوجب أن يكون القضاء متتابعا على صفة الأداء، وبعضهم لم يوجب ذلك، وهؤلاء منهم من خير ومنهم من استحب التتابع، والجماعة على ترك إيجاب التتابع. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر اللفظ والقياس، وذلك أن القياس يقتضي أن يكون الأداء على صفة القضاء أصل ذلك الصلاة والحج. أما ظاهر قوله تعالى {فعدة من أيام أخر} فإنما يقتضي إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع. وروي عن عائشة أنها قالت: نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات فسقط {متتابعات} . وأما إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر؛ فقال قوم: يجب عليه بعد صيام رمضان الداخل القضاء والكفارة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. وقال قوم: لا كفارة عليه وبه قال الحسن البصري وإبراهيم النخعي. وسبب اختلافهم هل تقاس الكفارات بعضها على بعض أم لا؟ فمن لم يجز القياس في الكفارات قال: إنما عليه القضاء فقط. ومن أجاز القياس في الكفارات قال: عليه كفارة قياسا على من أفطر متعمدا لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم. أما هذا فبترك القضاء زمان القضاء، وأما ذلك فبالأكل في يوم لا يجوز فيه الأكل، وإنما كان يكون القياس مستندا لو ثبت أن للقضاء زمنا محدودا بنص من الشارع، لأن أزمنة الأداء هي المحدودة في الشرع، وقد شذ قوم فقالوا: إذا اتصل مرض المريض حتى يدخل رمضان آخر أنه لا قضاء عليه وهذا مخالف للنص. وأما إذا مات وعليه صوم فإن قوما قالوا: لا يصوم أحد عن أحد. وقوم قالوا يصوم عنه وليه، والذين لم يوجبوا الصوم قالوا: يطعم عنه وليه، وبه قال الشافعي. وقال بعضهم: لا صيام ولا إطعام إلا أن يوصي به، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة يصوم، فإن لم يستطع أطعم وفرق قوم بين النذر والصيام المفروض فقالوا يصوم عنه وليه في النذر ولا يصوم في الصيام المفروض والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر وذلك أنه ثبت عنه من حديث عائشة أنه قال عليه الصلاة والسلام "من مات وعليه صيام صامه عنه وليه" خرجه مسلم، وثبت عنه أيضا من حديث ابن عباس أنه قال "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء" فمن رأى أن الأصول تعارضه، وذلك أنه كما أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يتوضأ أحد عن أحد وكذلك لا يصوم أحد عن أحد قال: لا صيام على الولي، ومن أخذ بالنص في ذلك قال: بإيجاب الصيام عليه، ومن لم يأخذ بالنص في ذلك قصر الوجوب على النذر، ومن قاس رمضان عليه قال: يصوم عنه في رمضان. وأما من أوجب الإطعام فمصيرا إلى قراءة من قرأ {وعلى الذين يطيقونه فدية} الآية. (يتبع...) @(تابع... 1): -القسم الثاني من الصوم المفروض:... ... ومن خير في ذلك فجمعا بين الآية والأثر، فهذه هي أحكام المسافر والمريض من الصنف الذي يجوز لهم الفطر والصوم. وأما باقي هذا الصنف وهو المرضع والحامل والشيخ الكبير، فإن فيه مسألتين مشهورتين: إحداهما الحامل والمرضع إذا أفطرتا ماذا عليهما؟ وهذه المسألة للعلماء فيها أربعة مذاهب: أحدها أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس. والقول الثاني أنهما يقضيان فقط ولا إطعام عليهما وهو مقابل الأول وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبيد وأبو ثور. والثالث أنهما يقضيان ويطعمان وبه قال الشافعي والقول الرابع أن الحامل تقضي ولا تطعم والمرضع تقضي وتطعم، وسبب اختلافهم تردد شبههما بين الذي يجهده الصوم وبين المريض، فمن شبههما بالمريض قال: عليهما القضاء فقط، ومن شبههما بالذي يجهده الصوم قال عليهما الإطعام فقط بدليل قراءة من قرأ {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} الآية. وأما من جمع عليهما الأمرين فيشبه أن يكون رأى فيهما من كل واحد شبها فقال: عليهما القضاء من جهة ما فيهما من شبه المريض وعليهما الفدية من جهة ما فيهما من شبه الذين يجهدهم الصيام، ويشبه أن يكون شبههما بالمفطر الصحيح لكن يضعف هذا، فإن الصحيح لا يباح له الفطر. ومن فرق بين الحامل والمرضع ألحق الحامل بالمريض وأبقى حكم المرضع مجموعا من حكم المريض وحكم الذي يجهده الصوم أو شبهها بالصحيح ومن أفرد لهما أحد الحكمين أولى والله أعلم ممن جمع، كما أن من أفردهما بالقضاء أولى ممن أفردهما بالإطعام فقط لكون القراءة غير متواترة، فتأمل هذا فإنه بين. وأما الشيخ الكبير والعجوز اللذان لا يقدران على الصيام فإنهم أجمعوا على أن لهما أن يفطرا، واختلفوا في ما عليهما إذا أفطرا، فقال قوم: عليهما الإطعام. وقال قوم ليس عليهما إطعام، وبالأول قال الشافعي وأبو حنيفة، وبالثاني قال مالك إلا أنه استحبه. وأكثر من رأى الإطعام عليهما يقول مد عن كل يوم، وقيل إن حفن حفنات كما كان أنس يصنع أجزأه. وسبب اختلافهم اختلافهم في القراءة التي ذكرناها، أعني قراءة من قرأ {وعلى الذين يطوقونه} فمن أوجب العمل بالقراءة التي لم تثبت في المصحف إذا وردت من طريق الآحاد العدول قال: الشيخ منهم، ومن لم يوجب بها عملا جعل حكمه حكم المريض الذي يتمادى به المرض حتى الموت، فهذه هي أحكام الصنف من الناس الذين يجوز لهم الفطر، أعني أحكامهم المشهورة التي أكثرها منطوق به أو لها تعلق بالمنطوق به في الصنف الذي يجوز له الفطر. وأما النظر في أحكام الصنف الذي يجوز له الفطر إذا أفطر، فإن النظر في ذلك يتوجه إلى من يفطر بجماع وإلى من يفطر بغير جماع وإلى من يفطر بأمر متفق عليه وإلى من يفطر بأمر مختلف عليه، أعني بشبهة أو بغير شبهة، وكل واحد من هذين إما أن يكون على طريق السهو أو طريق العمد أو طريق الإختيار أو طريق الإكراه. أما من أفطر بجماع متعمدا في رمضان، فإن الجمهور على أن الواجب عليه القضاء والكفارة، لما ثبت من حديث أبي هريرة أنه قال "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال وقعت على إمرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق به رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم به ستين مسكينا؟ قال: لا، ثم جلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بفرق فيه تمر فقال: تصدق بهذا، فقال: أعلى أفقر مني؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: إذهب فأطعمه أهلك" واختلفوا من ذلك في مواضع: منها هل الإفطار متعمدا بالأكل والشرب حكمه كلإفطار في الجماع في القضاء والكفارة أم لا؟ ومنها إذا جامع ساهيا ماذا عليه؟ ومنها ماذا على المرأة إذا لم تكن مكرهة؟ ومنها هل الكفارة واجبة فيه مترتبة أو على التخيير؟ ومنها كم المقدار الذي يجب أن يعطى كل مسكين إذا كفر بالإطعام؟ ومنها هل الكفارة متكررة بتكرر الجماع أم لا؟ ومنها إذا لزمه الإطعام وكان معسرا هل يلزمه الإطعام إذا أثرى أم لا؟ وشذ قوم فلم يوجبوا على المفطر عمدا بالجماع إلا القضاء فقط، إما لأنه لم يبلغهم هذا الحديث، وأما أنه لم يكن الأمر عزمة في هذا الحديث، لأنه لو كان عزمة لوجب إذا لم يستطع الإعتاق أو الإطعام أن يصوم، ولا بد إذا كان صحيحا على ظاهر الحديث، وأيضا لو كان عزمة لأعلمه عليه الصلاة والسلام أنه إذا صح أنه يجب عليه الصيام أن لو كان مريضا وكذلك شذ قوم أيضا فقالوا: ليس عليه إلا الكفارة فقط إذ ليس في الحديث ذكر القضاء، والقضاء الواجب بالكتاب إنما هو لمن أفطر ممن يجوز له الفطر، أو ممن لا يجوز له الصوم على الاختلاف الذي قررناه قبل في ذلك، فأما من أفطر متعمدا فليس في إيجاب القضاء عليه نص فيلحق في قضاء المتعمد الخلاف الذي لحق في قضاء تارك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها، إلا أن الخلاف في هاتين المسألتين شاذ. وأما الخلاف المشهور فهو في المسائل التي عددناها قبل. (أما المسألة الأولى) وهي هل تجب الكفارة بالإفطار بالأكل والشرب متعمدا، فإن مالك وأصحابه وأبا حنيفة وأصحابه والثوري وجماعة ذهبوا إلى أن من أفطر متعمدا بأكل أو شرب أن عليه القضاء والكفارة المذكورة في هذا الحديث. وذهب الشافعي وأحمد وأهل الظاهر إلى أن الكفارة إنما تلزم في الإفطار من الجماع فقط. والسبب في اختلافهم اختلافهم في جواز قياس المفطر بالأكل والشرب على المفطر بالجماع، فمن رأى أن شبههما فيه واحد وهو انتهاك حرمة الصوم جعل حكمهما واحد. ومن رأى أنه وإن كانت الكفارة عقابا لإنتهاك الحرمة فإنها أشد مناسبة للجماع منها لغيره، وذلك أن العقاب المقصود به الردع والعقاب الأكبر قد يوضع لما إليه النفس أميل وهو لها أغلب من الجنايات وإن كانت الجناية متقاربة إذ كان المقصود من ذلك إلتزام الناس بالشرائع، وأن يكونوا أخيارا عدولا كما قال تعالى {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} قال هذه الكفارة المغلظة خاصة بالجماع، وهذا إذا كان ممن يرى القياس. وأما من لا يرى القياس فأمره بين أنه ليس يعدى حكم الجماع إلى الأكل والشرب. وأما ما روى مالك في الموطأ أن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة المذكورة فليس بحجة لأن قول الراوي فأفطر هو مجمل، والمجمل ليس له عموم فيؤخذ به، لكن هذا قول على إن الراوي كان يرى أن الكفارة لموضع الإفطار، ولولا ذلك لما عبر بهذا اللفظ ولذكر النوع من الفطر الذي أفطر به. (وأما المسألة الثانية) وهو إذا جامع ناسيا لصومه، فإن الشافعي وأبا حنيفة يقولان: لا قضاء عليه ولا كفارة. قال مالك: عليه القضاء دون الكفارة. وقال أحمد وأهل الظاهر عليه القضاء والكفارة وسبب اختلافهم في قضاء الناسي معارضة ظاهر الأثر في ذلك للقياس وأما القياس فهو تشبيه ناسي الصوم بناسي الصلاة، فمن شبهه بناسي الصلاة أوجب عليه القضاء كوجوبه بالنص على ناسي الصلاة. وأما الأثر المعارض بظاهره لهذا القياس فهو ما خرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" وهذا الأثر يشهد له عموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ومن هذا الباب اختلافهم فيمن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم ظهرت الشمس بعد ذلك هل عليه قضاء أم لا؟ وذلك أن هذا مخطئ، والمخطئ والناسي حكمهما واحد، فكيفما قلنا فتأثير النسيان في إسقاط القضاء بين والله أعلم. وذلك أنّا إن قلنا أن الأصل هو أن لا يلزم الناسي قضاء حتى يدل الدليل على ذلك وجب أن يكون النسيان لا يوجب القضاء في الصوم إذ لا دليل ههنا على ذلك بخلاف الأمر في الصلاة، وإن قلنا أن الأصل هو إيجاب القضاء حتى يدل الدليل على رفعه عن الناسي فقد دل الدليل في حديث أبي هريرة على رفعه عن الناسي، اللهم إلا أن يقول قائل: إن الدليل الذي استثنى ناسي الصوم من ناسي سائر العبادات التي رفع عن تاركها الحرج بالنص هو قياس الصوم على الصلاة، ولكن إيجاب القضاء فيه ضعف، وإنما القضاء عند الأكثر واجب بأمر متجدد. وأما من أوجب القضاء والكفارة على المجامع ناسيا فضعيف، فإن تأثير النسيان في إسقاط العقوبات بيّن في الشرع والكفارة من أنواع العقوبات وإنما أصارهم إلى ذلك أخذهم بمجمل الصفة المنقولة في الحديث أعني من أنه لم يذكر فيه أنه فعل ذلك عمدا ولا نسيانا، لكن من أوجب الكفارة على قاتل الصيد نسيانا لم يحفظ أصله في هذا مع أن النص إنما جاء في المتعمد، وقد كان يجب على أهل الظاهر أن يأخذوا بالمتفق عليه وهو إيجاب الكفارة على العامد إلى أن يدل الدليل على إيجابها على الناسي، أو يأخذوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" حتى يدل الدليل على التخصيص، ولكن كلا الفريقين لم يلزم أصله وليس في مجمل ما نقل من حديث الأعرابي حجة. ومن قال من أهل الأصول إن ترك التفصيل في اختلاف الأحوال من الشارع بمنزلة العموم في الأقوال فضعيف، فإن الشارع لم يحكم قط إلا على مفصل وإنما الإجمال في حقنا. (وأما المسألة الثالثة) وهو اختلافهم في وجوب الكفارة على المرأة إذا طاوعته على الجماع، فإن أبا حنيفة وأصحابه ومالكا وأصحابه أوجبوا عليها الكفارة، وقال الشافعي وداود: لا كفارة عليها. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الأثر للقياس، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة في الحديث بالكفارة، والقياس أنها مثل الرجل إذ كان كلاهما مكلف. (وأما المسألة الرابعه) وهي هل هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار أو على التخيير، وأعني بالترتيب أن لا ينتقل المكلف إلى واحد من الواجبات المخيرة إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز عن الآخر فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وسائر الكوفيين: هي غير مرتبة، فالعتق أولا، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام. وقال مالك: هي على التخيير. وروى عنه ابن القاسم مع ذلك أنه بستحب الإطعام أكثر من العتق ومن الصيام. وسبب اختلافهم في وجوب الترتيب تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة، وذلك أن ظاهر حديث الأعرابي المتقدم يوجب أنها على الترتيب إذ سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن الاستطاعة عليها مرتبا، وظاهر ما رواه مالك من "أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبه أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا" أنها على التخيير، إذ أو إنما تقتضي في لسان العرب التخيير، وإن كان ذلك من لفظ الراوي الصاحب، إذ كانوا هم أقعد بمفهوم الأحوال ودلالات الأقوال. وأما الأقيسة المعارضة في ذلك فتشبيهها تارة بكفارة الظهار وتارة بكفارة اليمين، لكنها أشبه بكفارة الظهار منها بكفارة اليمين، وأخذ الترتيب من حكاية لفظ الراوي. وأما استحباب مالك الإبتداء بالإطعام فمخالف لظواهر الآثار، وإنما ذهب إلى هذا من طريق القياس، لأنه رأى الصيام قد وقع بدله الإطعام في مواضع شتى من الشرع، وإنه مناسب له أكثر من غيره بدليل قراءة من قرأ {وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مساكين} ولذلك استحب هو وجماعة من العلماء لمن مات وعليه صوم أن يكفر بالإطعام عنه، وهذا كأنه من باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول. (وأما المسألة الخامسة) وهو اختلافهم في مقدار الإطعام، فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: يطعم لكل مسكين مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزئ أقل من مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك نصف صاع لكل مسكين. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. وأما القياس فتشبيه هذه الفدية بفدية الأذى المنصوص عليها. وأما الأثر فما روي في بعض طرق حديث الكفارة أن الفرق كان فيه خمسة عشر صاعا، لكن ليس يدل كونه فيه خمسة عشر صاعا على الواجب من ذلك لكل مسكين إلا دلالة ضعيفة، وإنما يدل على أن بدل الصيام في هذه الكفارة هو هذا القدر. (وأما المسألة السادسة) وهي تكرر الكفارة بتكرر الإفطار فإنهم أجمعوا على أن من وطئ في يوم رمضان ثم كفر ثم وطئ في يوم آخر أن عليه كفارة أخرى، وأجمعوا على أنه من وطئ مرارا في يوم واحد أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة. واختلفوا فيمن وطئ في يوم من رمضان ولم يكفر حتى وطئ في يوم ثان، فقال مالك والشافعي وجماعة: عليه لكل يوم كفارة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الجماع الأول. والسبب في اختلافهم تشبيه الكفارات بالحدود، فمن شبهها بالحدود قال: كفارة واحدة تجزئ في ذلك عن أفعال كثيرة كما يلزم الزاني جلد واحد، وإن زنى ألف مرة إذا لم يحد لواحدة منها. ومن لم يشبهها بالحدود جعل لكل واحد من الأيام حكما منفردا بنفسه في هتك الصوم فيه أوجب في كل يوم كفارة. قالوا: والفرق بينهما أن الكفارة فيها نوع من القربة. والحدود زجر محض. (يتبع...) @(تابع... 2): -القسم الثاني من الصوم المفروض:... ... (وأما المسألة السابعة) وهي هل يجب عليه الإطعام إذا أيسر وكان معسرا في وقت الوجوب فإن الأوزاعي قال: لا شيء عليه إن كان معسرا. وأما الشافعي فتردد في ذلك. والسبب في اختلافهم في ذلك أنه حكم مسكوت عنه فيحتمل أن يشبه بالديون فيعود الوجوب عليه في وقت الإثراء، ويحتمل أن يقال: لو كان ذلك واجبا عليه لبينه له عليه الصلاة والسلام، فهذه أحكام من أفطر متعمدا في رمضان مما أجمع على أنه مفطر. وأما من أفطر مما هو مختلف فيه، فإن بعض من أوجب فيه الفطر أوجب فيه القضاء والكفارة وبعضهم أوجب فيه القضاء فقط، مثل من رأى الفطر في الحجامة ومن الاستقاء، ومن بلع الحصاة، ومثل المسافر يفطر أول يوم يخرج عند من يرى أنه ليس له أن يفطر في ذلك اليوم، فإن مالكا أوجب فيه القضاء والكفارة، وخالفه في ذلك سائر فقهاء الأمصار وجمهور أصحابه. وأما من أوجب القضاء والكفارة من الاستقاء فأبو ثور والأوزاعي وسائر من يرى أن الاستقاء مفطر لا يوجبون إلا القضاء فقط. والذي أوجب القضاء والكفارة في الإحتجام من القائلين بأن الحجامة تفطر هو عطاء وحده. وسبب هذا الخلاف أن المفطر بشيء فيه اختلاف فيه شبه من غير المفطر ومن المفطر. فمن غلب أحد الشبهين أوجب له ذلك الحكم وهذان الشبهان الموجودان فيه هما اللذان أوجبا فيه الخلاف، أعني هل هو مفطر أو غير مفطر، ولكون الإفطار شبهة لا يوجب الكفارة عند الجمهور وإنما يوجب القضاء فقط، نزع أبو حنيفة إلى أنه من أفطر متعمدا للفطر ثم طرأ عليه في ذلك اليوم سبب مبيح للفطر أنه لا كفارة عليه كالمرأة تفطر عمدا ثم تحيض باقي النهار، وكالصحيح يفطر عمدا ثم يمرض والحاضر يفطر ثم يسافر، فمن اعتبر الأمر في نفسه أعني أنه مفطر في يوم جاز له الإفطار فيه لم يوجب عليهم الكفارة، وذلك أن كل واحد من هؤلاء قد كشف له الغيب أنه أفطر في يوم جاز له الإفطار فيه، ومن اعتبر الاستهانه بالشرع أوجب عليه الكفارة، لأنه حين أفطر لم يكن عنده علم بالإباحة، وهو مذهب مالك والشافعي. ومن هذا الباب إيجاب مالك القضاء فقط على من أكل وهو شاكّ في الفجر، وإيجابه القضاء والكفارة على من أكل وهو شاك في الغروب على ما تقدم من الفرق بينهما. واتفق الجمهور على أنه ليس في الفطر عمدا في قضاء رمضان كفارة، لأنه ليس له حرمة زمان الأداء: أعني رمضان، إلا قتادة فإنه أوجب عليه القضاء والكفارة. وروي عن ابن القاسم وابن وهب أن عليه يومين قياسا على الحج الفاسد. وأجمعوا على أن من سنن الصوم تأخير السحور وتعجيل الفطر لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" وقال "تسحروا فإن في السحور بركة" وقال عليه الصلاة والسلام "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" وكذلك جمهورهم على أن من سنن الصوم ومرغباته كف اللسان عن الرفث والخنا لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الصوم جنة، فإذا أصبح أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم" وذهب أهل الظاهر إلى أن الرفث يفطر وهو شاذ فهذه مشهورات ما يتعلق بالصوم المفروض من المسائل وبقي القول في الصوم المندوب إليه، وهو القسم الثاني من هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم.

  • 3*كتاب الصيام الثاني وهو المندوب إليه.

@-والنظر في الصيام المندوب إليه هو في تلك الأركان الثلاثة وفي حكم الإفطار فيه. فأما الأيام التي يقع فيها الصوم المندوب إليه وهو الركن الأول، فإنها على ثلاثة أقسام: أيام مرغب فيها، وأيام منهى عنها، وأيام مسكوت عنها. ومن هذه ما هو مختلف فيه، ومنها ما هو متفق عليه. أما المرغب فيه المتفق عليه فصيام يوم عاشوراء. وأما المختلف فيه فصيام يوم عرفة وست من شوال والغرر من كل شهر، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. أما صيام يوم عاشوراء، فلأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه وقال فيه "من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه" واختلفوا فيه هل هو التاسع أو العاشر. والسبب في ذلك اختلاف الآثار، خرج مسلم عن ابن عباس قال: إذا رأيت الهلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: هكذا كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم. وروي "أنه حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" قال: فلم يأتي العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما اختلافهم في يوم عرفة، فلأن النبي عليه الصلاة والسلام أفطر يوم عرفة، وقال فيه "صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والآتية" ولذلك اختلف الناس في ذلك، واختار الشافعي الفطر فيه للحاج وصيامه لغير الحاج جمعا بين الأثرين. وخرج أبو داود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة" وأما الست من شوال فإنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر" إلا أن مالكا كره ذلك، إما مخافة أن يلحق الناس برمضان ما ليس في رمضان، وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده وهو الأظهر، وكذلك كره مالك تحري صيام الغرر مع ما جاء فيها من الأثر مخافة أن يظن الجهال بها أنها واجبة، وثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام غير معينة، وأنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص لما أكثر الصيام: "أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قال: فقلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: خمسا، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: سبعا، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: تسعا، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: أحد عشر، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: لا صوم فوق صيام داود، شطر الدهر صيام يوم، وإفطار يوم" وخرج أبو داود "أنه كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس" وثبت أنه لم يستتم قط شهرا بالصيام غير رمضان، وإن أكثر صيامه كان في شعبان. وأما الأيام المنهى عنها، فمنها أيضا متفق عليها، ومنها مختلف فيها. أما المتفق عليها فيوم الفطر ويوم الأضحى لثبوت النهي عن صيامهما. وأما المختلف فيها فأيام التشريق ويوم الشك ويوم الجمعة ويوم السبت والنصف الآخر من شعبان وصيام الدهر. أما أيام التشريق فإن أهل الظاهر لم يجيزوا الصوم فيها. وقوم أجازوا ذلك فيها. وقوم كرهوه، وبه قال مالك، إلا أنه أجاز صيامها لمن وجب عليه الصوم في الحج وهو المتمتع، وهذه الأيام هي الثلاثة الأيام التي بعد يوم النحر. والسبب في اختلافهم تردد قوله عليه الصلاة والسلام في "إنها أيام أكل وشرب" بين أن يحمل على الوجوب أو على الندب، فمن حمله على الوجوب قال: الصوم يحرم، ومن حمله على الندب قال: الصوم مكروه، ويشبه أن يكون من حمله على الندب إنما صار إلى ذلك وغلبه على الأصل الذي هو حمله على الوجوب لأنه رأى أنه إن حمله على الوجوب عارضه حديث أبي سعيد الخدري الثابت بدليل الخطاب، وهو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يصح الصيام في يومين يوم الفطر من رمضان ويوم النحر" فدليل الخطاب يقتضي أن ما عدا هذين اليومين يصح الصيام فيه، وإلا كان تخصيصهما عبثا لا فائدة فيه. وأما يوم الجمعة فإن قوما لم يكرهوا صيامه، ومن هؤلاء مالك وأصحابه وجماعة، وقوم كرهوا صيامه إلا أن يصام قبله أو بعده. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، فمنها حديث ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قال: وما رأيته يفطر يوم الجمعة" وهو حديث صحيح. ومنها حديث جابر "أن سائلا سأل جابرا أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم؟ قال: نعم ورب هذا البيت" خرجه مسلم. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده" خرجه أيضا مسلم، فمن أخذ بظاهر حديث ابن مسعود، أجاز صيام يوم الجمعة مطلقا، ومن أخذ بظاهر حديث جابر كرهه مطلقا، ومن أخذ بحديث أبي هريرة جمع بين الحديثين، أعني حديث جابر وحديث ابن مسعود. وأما يوم الشك فإن جمهور العلماء على النهي عن صيام يوم الشك على أنه من رمضان لظواهر الأحاديث التي يوجب مفهومها تعلق الصوم بالرؤية أو بإكمال العدد إلا ما حكيناه عن ابن عمر، واختلفوا في تحري صيامه تطوعا، فمنهم من كرهه على ظاهر حديث عمار "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" ومن أجازه فلأنه قد روي أنه عليه الصلاة والسلام صام شعبان كله، ولما قد روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا تتقدموا رمضان بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم فليصمه" وكان الليث بن سعد يقول: إنه إن صامه على أنه من رمضان ثم جاء الثبت أنه من رمضان أجزأه، وهذا دليل على أن النية تقع بعد الفجر في التحول من نية التطوع إلى نية الفرض. وأما يوم السبت، فالسبت في اختلافهم فيه اختلافهم في تصحيح ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" خرجه أبو داود، قالوا: والحديث منسوخ، نسخة حديث جويرية بنت الحارث "أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: صمت أمس؟ فقالت: لا، فقال: تريدين أن تصومي غدا؟ قالت: لا، قال: فأفطري". وأما صيام الدهر فإنه قد ثبت النهي عن ذلك، لكن مالك لم ير بذلك بأسا، وعسى رأى النهي في ذلك إنما هو من باب خوف الضعف والمرض. وأما صيام النصف الآخر من شعبان، فإن قوما كرهوه، وقوما أجازوه، فمن كرهوه فلما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان" ومن أجازه فلما روي عن أم سلمة قالت "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان" ولما روي عن ابن عمر قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن شعبان برمضان" وهذه الآثار خرجها الطحاوي. وأما الركن الثاني وهو النية فلا أعلم أن أحدا لم يشترط النية في صوم التطوع، وإنما اختلفوا في وقت النية على ما تقدم. وأما الركن الثالث وهو الإمساك عن المفطرات فهو بعينه الإمساك الواجب في الصوم المفروض، والاختلاف الذي هنالك لاحق ههنا. وأما حكم الإفطار في التطوع فإنهم أجمعوا على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فقطعه لعذر قضاء. واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامدا، فأوجب مالك وأبو حنيفة عليه القضاء، وقال الشافعي وجماعة: ليس عليه قضاء. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أن مالكا روى أن حفصة وعائشة زوجي النبي عليه الصلاة والسلام أصبحتا صائمتين متطوعتين، فأهدى لهما الطعام فأفطرتا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقضيا يوما مكانه" وعارض هذا حديث أم هانئ قالت "لما كان يوم الفتح فتح مكة، جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه، قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب، فناولته فشرب منه، ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، قالت: يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: أكنت تقضين شيئا؟ قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعا" واحتج الشافعي في هذا المعنى بحديث عائشة أنها قالت "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أنا خبأت لك خبئا، فقال: أما إني كنت أريد الصيام ولكن قربيه" وحديث عائشة وحفصة غير مسند. ولاختلافهم أيضا في هذه المسألة سبب آخر، هو تردد الصوم التطوع بين قياسه على صلاة التطوع أو على حج التطوع، وذلك أنهم أجمعوا على أن من دخل في الحج والعمرة متطوعا يخرج منهما أن عليه القضاء. وأجمعوا على أن من خرج من صلاة التطوع فليس عليه قضاء فيما علمت، وزعم من قاس الصوم على الصلاة أنه أشبه بالصلاة منه بالحج، لأن الحج له حكم خاص في هذا المعنى، وهو أنه يلزم المفسد له المسير فيه إلى آخره، وإذا أفطر في التطوع ناسيا فالجمهور على أن لا قضاء عليه، وقال ابن علية عليه القضاء قياسا على الحج، ولعل مالكا حمل حديث أم هانئ على النسيان، وحديث أم هانئ خرجه أبو داود، وكذلك خرج حديث عائشة بقريب من اللفظ الذي ذكرناه، وخرج حديث عائشة وحفصة بعينه. بسم الله الرحمن الرحيم.

  • 2*كتاب الاعتكاف.

@-والاعتكاف مندوب إليه بالشرع واجب بالنذر، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مالك أنه كره الدخول فيه مخافة أن لا يوفى شرطه وهو في رمضان أكثر منه في غيره، وبخاصة في العشر الأواخر منه، إذ كان ذلك هو آخر اعتكافه صلى الله عليه وسلم، وهو بالجملة يشتمل على عمل مخصوص في موضع مخصوص وفي زمان مخصوص بشروط مخصوصة وتروك مخصوصة. فأما العمل الذي يخصه ففيه قولان: قيل إنه الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب، وهو مذهب ابن القاسم. وقيل جميع أعمال القرب والبر المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب، فعلى هذا المذهب يشهد الجنائز ويعود المرضى ويدرس العلم، وعلى المذهب الأول لا، وهذا هو مذهب الثوري، والأول هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وسبب اختلافهم أن ذلك شيء مسكوت عنه، أعني أنه ليس فيه حد مشروع بالقول، فمن فهم من الاعتكاف حبس النفس على الأفعال المختصة بالمساجد قال: لا يجوز للمعتكف إلا الصلاة والقراءة. ومن فهم منه حبس النفس على القرب الأخروية كلها أجاز له غير ذلك مما ذكرناه. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من اعتكف لا يرفث ولا يساب، وليشهد الجمعة والجنازة، ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو قائم ولا يجلس. ذكره عبد الرزاق. وروي عن عائشة خلاف هذا، وهو أن السنة للمعتكف أن لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا، وهذا أيضا أحد ما أوجب الاختلاف في هذا المعنى. وأما المواضع التي يكون فيها الاعتكاف، فإنهم اختلفوا فيها فقال قوم: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة بيت الله الحرام وبيت المقدس ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام وبه قال حذيفة وسعيد بن المسيب. وقال آخرون: الاعتكاف عام في كل مسجد، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري، وهو مشهور مذهب مالك. وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد فيه جمعة، وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك. وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد، إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أنه يصح في غير مسجد، وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد، وإلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المرأة إنما تعتكف في مسجد بيتها. وسبب اختلافهم في اشتراط المسجد أو ترك اشتراطه هو الاحتمال الذي في قوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} بين أن يكون له دليل خطاب أو لا يكون له؟ فمنن قال له دليل خطاب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد، وإن من شرط الاعتكاف ترك المباشرة. ومن قال ليس له دليل خطاب قال: المفهوم منه أن الاعتكاف جائز في غير المسجد وأنه لا يمنع المباشرة لأن قائلا لو قال: لا تعط فلانا شيئا إذا كان داخلا في الدار لكان مفهوم دليل الخطاب يوجب أن تعطيه إذا كان خارج الدار، ولكن هو قول شاذ. والجمهور على أن العكوف إنما أضيف إلى المساجد لأنها من شرطه. وأما سبب اختلافهم في تخصيص بعض المساجد أو تعميمها فمعارضة العموم للقياس المخصص له، فمن رجح العموم قال: في كل مسجد على ظاهر الآية. ومن انقدح له تخصيص بعض المساجد من ذلك العموم بقياس اشترط أن يكون مسجدا فيه جمعة لئلا ينقطع عمل المعتكف بالخروج إلى الجمعة، أو مسجدا تشد إليه المطي مثل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع فيه اعتكافه، ولم يقس سائر المساجد عليه إذ كانت غير مساوية له في الحرمة. وأما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة فمعارضة القياس أيضا للأثر، وذلك "أنه ثبت أن حفصة وعائشة وزينب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في المسجد، فأذن لهم حين ضربن أخبيتهن فيه" فكان هذا الأثر دليلا على جواز اعتكاف المرأة في المسجد. وأما القياس المعارض لهذا فهو قياس الاعتكاف على الصلاة، وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء الخبر وجب أن يكون الإعتكاف في بيتها أفضل قالوا وإنما يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من اعتكاف أزواجه عليه الصلاة والسلام معه كما تسافر معه ولا تسافر مفردة، وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر. وأما زمان الاعتكاف فليس لأكثره عندهم حد واجب، وإن كان كلهم يختار العشر الأواخر من رمضان بل يجوز الدهر كله، إما مطلقا عند من لا يرى الصوم من شروطه، وإما ما عدا الأيام التي لا يجوز صومها عند من يرى الصوم من شروطه. وأما أقله فإنهم اختلفوا فيه، وكذلك اختلفوا في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف لاعتكافه وفي الوقت الذي يخرج فيه منه. أما أقل زمان الاعتكاف، فعند الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء أنه لا حد له. واختلف عن مالك في ذلك فقيل ثلاثة أيام، وقيل يوم وليلة. وقال ابن القاسم عنه أقله عشرة أيام، وعند البغداديين من أصحابه أن العشرة استحباب وأن أقله يوم وليلة. والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر؛ أما القياس فإنه من اعتقد أن من شرطه الصوم قال: لا يجوز اعتكاف ليلة، وإذا لم يجز اعتكافه ليلة فلا أقل من يوم وليلة، إذ انعقاد صوم النهار إنما يكون بالليل. وأما الأثر المعارض فما خرجه البخاري من "أن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره" ولا معنى للنظر مع الثابت من مذهب الأثر. وأما اختلافهم في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف إلى اعتكافه إذا نذر أياما معدودة أو يوما واحدا، فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة اتفقوا على أنه من نذر اعتكاف شهر أنه يدخل المسجد قبل غروب الشمس. وأما من نذر أن يعتكف يوما فإن الشافعي قال: من أراد أن يعتكف يوما واحدا دخل قبل طلوع الفجر، وخرج بعد غروبها. وأما مالك فقوله في اليوم والشهر واحد بعينه، وقال زفر والليث: يدخل قبل طلوع الفجر، واليوم والشهر عندهما سواء. وفرق أبو ثور بين نذر الليالي والأيام فقال: إذا نذر أن يعتكف عشرة أيام دخل قبل طلوع الفجر، وإذا نذر عشر ليالي دخل قبل غروبها. وقال الأوزاعي: يدخل في اعتكافه بعد صلاة الصبح. والسبب في اختلافهم معارضة الأقيسة بعضها بعضا، ومعارضة الأثر لجميعها؛ وذلك أنه من رأى أن أول الشهر ليلة واعتبر الليالي قال: يدخل قبل مغيب الشمس، ومن لم يعتبر الليالي قال: يدخل قبل الفجر، ومن رأى أن اسم اليوم يقع على الليل والنهار معا أوجب إن نذر يوما أن يدخل قبل غروب الشمس، ومن رأى أنه إنما ينطلق على النهار أوجب الدخول قبل طلوع الفجر، ومن رأى أن اسم اليوم خاص بالنهار واسم الليل بالليل فرق بين أن ينذر أياما أو ليالي. والحق أن اسم اليوم في كلام العرب قد يقال على النهار مفردا، وقد يقال على الليل والنهار معا، لكن يشبه أن يكون دلالته الأولى إنما هي على النهار، ودلالته على الليل بطريق اللزوم. وأما الأثر المخالف لهذه الأقيسة كلها فهو ما خرجه البخاري وغيره من أهل الصحيح عن عائشة قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي كان يعتكف فيه". وأما وقت خروجه، فإن مالكا رأى أن يخرج المعتكف العشر الأواخر من رمضان من المسجد إلى صلاة العيد على جهة الاستحباب، وأنه إن خرج بعد غروب الشمس أجزأه. وقال الشافعي وأبو حنيفة: بل يخرج بعد غروب الشمس. وقال سحنون وابن الماجشون: إن رجع إلى بيته قبل صلاة العيد فس اعتكافه. وسبب الاختلاف هل الليلة الباقية هي من حكم العشر أم لا؟ وأما شروطه فثلاث: النية والصيام وترك مباشرة النساء. أما النية فلا أعلم فيها اختلافا. وأما الصيام فإنهم اختلفوا فيه؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أنه لا اعتكاف إلا بالصوم. وقال الشافعي: الاعتكاف جائز بغير صوم، وبقول مالك قال من الصحابة ابن عمر وابن عباس على خلاف عنه في ذلك، وبقول الشافعي قال علي وابن مسعود. والسبب في اختلافهم أن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما وقع في رمضان فمن رأى أن الصوم المقترن باعتكافه هو شرط في الاعتكاف وإن لم يكن الصوم للاعتكاف نفسه قالا: لابد من الصوم مع الاعتكاف، ومن رأى أنه إنما اتفق ذلك اتفاقا لا على أن ذلك كان مقصودا له عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف قال: ليس الصوم من شرطه. ولذلك أيضا سبب آخر وهو اقترانه في آية واحدة. وقد احتج الشافعي بحديث عمر المتقدم وهو أنه أمره عليه الصلاة والسلام أن يعتكف ليلة والليل ليس بمحل للصيام. واحتجت المالكية بما روى عبد الرحمن بن إسحاق عن عروة عن عائشة أنها قالت: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج إلا إلى ما لابد له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. قال أبو عمر بن عبد البر: لم يقل أحد في حديث عائشة: هذه السنة إلا عبد الرحمن بن إسحق، ولا يصح هذا الكلام عندهم إلا من قول الزهري، وإن كان الأمر هكذا بطل أن يجري مجرى المسند. وأما الشرط الثالث وهي المباشرة فإنهم أجمعوا على أن المعتكف إذا جامع عامدا بطل اعتكافه إلا ما روي عن ابن لبابة في غير المسجد، واختلفوا فيه إذا جامع ناسيا، واختلفوا في فساد الاعتكاف بما دون الجماع من القبلة واللمس، فرأى مالك أن جميع ذلك يفسد الاعتكاف. وقال أبو حنيفة: ليس في المباشرة فساد إلا أن ينزل، وللشافعي قولان: أحدهما مثل قول مالك. والثاني مثل قول أبي حنيفة. وسبب اختلافهم هل الاسم المتردد بين الحقيقة والمجاز له عموم أم لا؟ وهو أحد أنواع الاسم المشترك، فمن ذهب إلى أن له عموما قال: إن المباشرة في قوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ينطلق على الجماع وعلى ما دونه، ومن لم ير عموما وهو الأشهر الأكثر قال: يدل إما على الجماع وإما على ما دون الجماع، فإذا قلنا إنه يدل على الجماع بإجماع بطل أن يدل على غير الجماع، لأن الاسم الواحد لا يدل على الحقيقة والمجاز معا، ومن أجرى الإنزال بمنزلة الوقاع فلأنه في معناه، ومن خالف فلأنه لا ينطلق عليه الاسم حقيقة، واختلفوا فيما يجب على المجامع فقال الجمهور: لا شيء عليه، وقال قوم: عليه كفارة، فبعضهم قال: كفارة المجامع في رمضان، وبه قال الحسن، وقال قوم: يتصدق بدينارين، وبه قال مجاهد، وقال قوم: يعتق رقبة، فإن لم يجد أهدى بدنة، فإن لم يجد تصدق بعشرين صاعا من تمر. وأصل الخلاف هل يجوز القياس في الكفارة أم لا؟ والأظهر أنه لا يجوز، واختلفوا في مطلق النذر بالاعتكاف هل من شرطه التتابع أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: ذلك من شرطه. وقال الشافعي: ليس من شرطه ذلك. والسبب في اختلافهم قياسه على نذر الصوم المطلق. وأما موانع الاعتكاف، فاتفقوا على أنها ما عدا الأفعال التي هي أعمال المعتكف وأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو ما هو في معناها مما تدعو إليه الضرورة لما ثبت من حديث عائشة أنها قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" واختلفوا إذا خرج لغير حاجة متى ينقطع اعتكافه، فقال الشافعي: ينتقض اعتكافه عند أول خروجه وبعضهم رخص في الساعة، وبعضهم في اليوم، واختلفوا هل له أن يدخل بيتا غير بيت مسجده؟ فرخص فيه بعضهم وهم الأكثر مالك والشافعي وأبو حنيفة. ورأى بعضهم أن ذلك يبطل اعتكافه، وأجاز مالك له البيع والشراء وأن يلي عقد النكاح وخالفه غيره في ذلك. وسبب اختلافهم أنه ليس في ذلك حد منصوص عليه إلا الاجتهاد وتشبيه ما لم يتفقوا عليه بما اتفقوا عليه. واختلفوا أيضا هل للمعتكف أن يشترط فعل شيء مما يمنعه الاعتكاف فينفعه شرطه في الإباحة أم ليس ينفعه مثل ذلك أن يشترط شهود جنازة أو غير ذلك؟ فأكثر الفقهاء على أن شرطه لا ينفعه، وأنه إن فعل بطل اعتكافه، وقال الشافعي: ينفعه شرطه. والسبب في اختلافهم تشبيههم الاعتكاف بالحج في أن كليهما عبادة مانعة لكثير من المباحات والاشتراط في الحج إنما صار إليه من رآه لحديث ضباعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: أهلي بالحج واشترطي أن تحلي حيث حبستني" لكن هذا الأصل مختلف فيه في الحج، فالقياس فيه ضعيف عند الخصم المخالف له. واختلفوا إذا اشترط التتابع في النذر، أو كان التتابع لازما، فمطلق النذر عند من يرى ذلك ما هي الأشياء التي إذا قطعت الاعتكاف أوجبت الاستئناف أو البناء مثل المرض، فإن منهم من قال: إذا قطع المرض الاعتكاف بنى المعتكف وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، ومنهم من قال: يستأنف الاعتكاف، وهو قول الثوري. ولا خلاف فيما أحسب عندهم أن الحائض تبنى، واختلفوا هل يخرج من المسجد أم ليس يخرج، وكذلك اختلفوا إذا جن المعتكف أو أغمي عليه هل يبنى أو ليس يبنى بل يستقل. والسبب في اختلافهم في هذا الباب أنه ليس في هذه الأشياء شيء محدود من قبل السمع، فيقع التنازع من قبل تشبيههم ما اتفقوا عليه فيما اختلفوا فيه، أعني بما اتفقوا عليه في هذه العبادة، أو في العبادات التي من شرطها التتابع مثل صوم النهار وغيره. والجمهور على أن الاعتكاف المتطوع إذا قطع لغير عذر أنه يجب فيه القضاء لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف فاعتكف عشرا من شوال وأما الواجب بالنذر فلا خلاف في قضائه فيما أحسب، والجمهور على أن من أتى كبيرة انقطع اعتكافه، فهذه جملة ما رأينا أن نثبته في أصول هذا الباب وقواعده، والله الموفق والمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.