اوروبا العصور الوسطى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الباب السادس: الفلسفة
نظرت المسيحية – عند ظهورها – الى الفلسفة اليونانية نظرة ملؤها الكراهية والشك وعدم الثقة , لأنها اعتبرت هذه الفلسفة مظهرا من مظاهر الفكر الوثنى (1) . واذا كانت المسيحية اعتقدت أن هذا النوع من الفكر من شأنه أن يعمى بصيرة الانسان , فانها تمسكت بأن المعرفة الحقيقية ينبغى ألا تستمد الا من الكتاب المقدس وأراء أباء الكنيسة (2) .على أن هذا الموقف العنيد الذى وقفته المسيحية من الفلسفة القديمة كان لايمكن أن يدوم ويستمر , بعد أن وجدت الكنيسة نفسها فى حاجة الى دعائم فلسفبة تدافع بها عن كيانها وآرائها ضد خصومها العديدين . وهكذا أخذ المدافعون عن كيان المسيحية فى القرن الثانى – مثل جستين الشهيد Justin Martyr وتاتيان Titian وأثينا جوراس Athenagoras يحبذون الاعتماد على أراء أفلاطون – بصفة خاصة – لآثبات أراء الكنيسة المتعلقة بوجود الله (3) .
ولم تلبث أن ظهرت أولى المحاولات لايجاد فلسفة مسيحية منظمة فى الاسكندرية فى القرن الثالث , على أيدى كليمنت (150-215 ) وأوريجن ( 185-254 ) , اللذين حاولا اثبات تعاليم المسيحية ونشر هذه التعاليم عن طريق الحوار والجدل , معتمدين فى طريقتهم هذه على أسس مستقاة من الفلسفة الأفلاطونية , ونخص بالذكر أوريجن Origen – أشهر أباء الكنيسة اليونانيين , الذى قاربت (1) Cam Med Hist. vol. 5. P.p. 781-782. (2) Eyre: op. cit. p. 803. (3) Gilson: La Philosphie au Moyen Ages p.p. 16-32. (158) آراؤه الفلسفية أراء فلاسفة الأفلاطونية الحديثة , حتى قال عنه فرفريوس الصورى Porphyry (232-304) انه مسيحى فى أسلوب حياته ولكنهيونانى فى تفكيره (4) . ذلك أن أوريجن عاش فى الاسكندرية فى وقت كانت هذه المدينة مركزا للعلم والعلماء الذين يعملون على التوفيق بين مختلف المذاهب التى اجتمعت فى صعيد واحد (5) . ونعنى بهذه المذاهب الفلسفة اليونانية والمانوية والفيثاغورية والمسيحية , فضلا عن عقائد المصريين والمذاهب الشرقية الواردة من الهند وفارس . وعلى الرغم من الاعتراف بأوريجن أبا من أباء الكنيسة , الا أن تشبعه بالفلسفة اليونانية أدى الى اتهامه بالهرطقة التى أدانه بها مجمع القسطنطينية فى القرن السادس . على أن تيار الأفلاطونية استمر في تدفقه وتأثيره على الفكر المسيحى فى القرن الرابع , ولم يلبث هذا التيار أن انتقل الى الغرب عن طريق جريجورى أسقف نيسا Gregory of Nyssa (ت 400 تقريبا) فالقديس أمبروز أسقف ميلان (ت397) (6) . ديونيسيوس الاريوباغى :
ثم كان أن أسهم الشرق – عند نهاية القرن الخامس – بخطوة أخرى هامة لتطعيم الفكر المسيحى بأراء الأفلاطونية الحديثة , وذلك عن طريق كتابات ديونيسيوس الأريوباغى Dionysius the Areopagite (7) . حقيقة أن هذه الكتابات لم تكن الا صورة مقنعة لفلسفة أبروقلوس(برقليس Proclus ) الالهية , ولكن صدورها عن رجل له مكانته فى العالم المسيحى – مثل ديونيسيوس الأريوباغى –جعل المعاصرين يتقبلونها فى شئ من السهوله (8) . (4) Eyre: op. cit. p. 804. (5) Taylor: op. cit. vol. 1, p. 51.
(6) Foligno: Latin Thought during the middle ages p. 42.
(7) المقصود بالأريوباغى أنه كان قاضيا بمحكمة أثينا العليا . (8) Gilson: op. cit. p. 80. (159) والفكرة الأساسية فى هذه الكتابات هى أن عالم المخلوقات – من الملائكة فنازلا - يمثل سلما منتظما تعبر كل درجة من درجاته عن احدى خصائص الله وصفاته , وهى الأصل الروحى لهذا العالم . ومن هنا وجدت نظريتان فى اللاهوت , الأولى ايجابية ثبوتية والثانية سلبية (9) . فاللاهوت الايجابى حاول أن يفهم طبيعة الله فى ضوء الاستدلال بالأمثلة المستقاة من المخلوقات , بمعنى أن صفات الكمال الموجودة فى المخلوقات مستمدة من أصول تتمثل بصورة أعظم فى الله تعالى . أما اللاهوت السلبى فيبدأ من الله الخالق , ويقول ان كل الصفات التى تختص بها المخلوقات تمتاز بالبعد عن الكمال , وعلى ذلك لا يمكن الوقوف على حقيقة الله الا بأبعاد كل صفات المخلوقات عنه (10) . ومن لاهوت ديونيسيوس الايجابى استمدت الكنيسة فى العصور الوسطى نظرية درجات الملائكة التسع , لأنه اول من أفرد للملائكة كتابا خاصا جمع فيه أسماء طوائفهم الواردة فى الكتب المقدسة ورتبها فى درجات أو مراتب . وتقوم نظرته الى الملائكة على انهم يمتازون بالعقل والبساطة وعدم المادية , أى عدم وجود خصائص مادية لهم . أما منهجه فى اللاهوت السلبى فقد أدى الى ظهور اللاهوت الصوفى Latheologie Mystique الذى كان له أثر بالغ على الفكر الغربى فى العصور الوسطى (11) . ومعنى اللاهوت الصوفى العلم بالله وبالأمور الالهية علما ذوقيا أى تجربيا شعوريا ممنوحا من الله (12) .
القديس ( أوغسطين ) :
على أن الشريان الرئيسى الذى وصلت عن طريقه فلسفة أفلاطون الى الغرب (9) Idem p. 81. (10) Eyre: op. cit. p. 805-806.
(11) Gilson: op. cit. p. 81.
(12) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الأوربية فى العصر الوسيط ص 55 .
(160)
المسيحى فى العصور الوسطى كان يتمثل فى شخص القديس أوغسطين (354- 430) (13). ذلك أن أوغسطين كان قد تأثر – قبل اعتناقه المسيحية – بالمبادئ الأفلاطونية التى اطلع عليها فى بعض كتابات شيشيرون وأفلوطين , ومن ثم اتخذ هذه المبادئ نقطة البدء عندما شرع يفكر فى وضع فلسفة دينية (14) .
ويعتبر القديس أوغسطين مصدر الفلسفة التى بلغت ذروتها فيما بعد على أيدى ديكارت , والتى تقوم على اساس الايمان بوجود الفكر , فأنا استطيع أن أشك فى كل شئ الا فى وجودى لأننى أفكر , ومادمت أفكر فأنا موجود (15) . فالعقل البشرى اذن حقيقة قائمة لا شك فيها , ويقوم هذا العقل على اساس ثالوث من المعرفة والادراك والارادة , وهى الأركان الثلاثة التى تلقى ضوءا ساطعا على الحقيقة والمعرفة (16) , والمعرفة بما تنطوى عليه من قوة لاستيعاب الماضى والتأمل فيه والاحساس بالمستقبل , تثير مشكلة الخلود والزمن , والعلاقة بين الماضى والحاضر من جهة الخلود والبقاء من حهة أخرى , وهى المشكلة التى شغلت حيزا كبيرا من فلسفة أفلاطون . أما الادراك فيثير مشكلة أخرى رسمها أفلاطون , وهى مشكلة التعلم . فهل الظاهرة العلمية التى ندعوها تعلما حقيقة جديدة ؟ لأنها اذا كانت حقيقة فلا يمكن أن تكون جديدة , بحكم أنها حقيقة قبل أن يعلمها أى انسان , وستظل حقيقة حتى لو نسيها كل انسان . وقد قال القديس أوغسطين بان الحقيقة لها صفة الخلود ؛ ولذلك فهى توجد وتكمن فى العقل الأسمى الخالد ؛ وعندما اتعلم حقيقة من انسان فان ذلك يرجع الى وجود اتصال مباشر بين ادراكى وبين ذلك العقل الخالد . فالمعلم الحقيقى هو الله (17) ؛ والمسيح – وهو كلمة الله – معلم جميع العلوم والفنون (Magister ad Omni a ) (13) Brevier: La Philosophies du Moyne Age p. 15. (14) Taylor: op. cit. p. 55. (15) Eyre: op. cit. p. 807.
(16) De Wolf: Hist. de la Philosophies Med. T. I. P. 111.
(17) Gilson: op. cit. p. 131-133. (161) ومعرفة العلوم الطبيعية لا يقل عن معرفة حقائق الدين فى أنها تنير عقل الفرد .
أما الأهمية العظمى لأراء القديس أوغسطين عن الارادة فأمر معروف . فالمذهب الارادى Voluntarism فى الفلسفة المسيحية وعلاج مشكلة الشر , ترحعان جميعهما الى القديس أوغسطين . وقد قام مبدأ أوغسطين على اساس حرية الارادة الانسانية ( Librium ARBITRIUM ) وعلى اساس تمسك المسيحية بقدرة الاله العليم , ومحاولة التوفيق بين الله تعالى وقدرته المطلقة من ناحية , وبين الشر القائم فى العالم من ناحية أخرى (18) . وهنا حل أوغسطين هذه المشكلة عن طريق التفرقة بين " الطبيعة " التى زود بها الله الفرد , وارادة هذا الفرد . فطبيعة المخلوقات كلهم – حتى الشيطان – طيبة وخيرة . ولكن ارادتهم فقط هى التى يمكن ان تكون شريرة . واذا كان الانسان قد خلق مزودا بالقدرة على اختيار الشر فان ذلك ليس فى ذاته شرا , لأن الانسان الذى لا يستطيع عمل الشر مختارا وبمحض ارادته لايمكنه فى الوقت نفسه أن يعمل الخير مختارا وبمحض ارادته (19) . ثم ان الانسان هو الذى يختار أن يفعل الشر متعمدا , وليس الخالق هو الذى يدفعه الى هذا الاختيار . وعلى ذلك فان جميع الشرور أما أن تاتى عن اختيار آثم (Malum Culpa ) أو اضطرار آثم (Malum-Poenae ) , وهذا الاضطرار لا ياتى أبدا ألا نتيجة للاثم . وهكذا وضع أوغسطين أساس مذهب القضاء والقدر Predestinations الذى طهر فى اللاهوت الغربى بعد ذلك , ومذهب حرية الارادة الذى ظهر فى الفلسفة الخلقية فى العصور التالية (20) .
وخلاصة القول أن القديس أوغسطين فاق غيره من أباء الكنيسة الغربيين فى تأثره بالروح الفلسفيه للأفلاطونيين . كما فاقهم فى تاثيره فى العقلية الأوربية بقية العصور الوسطى , حتى فى الوقت الذى بلغ نفوذ فلسفة ارسطو أشده (21) . (18) Eyre: op. cit. p. 809. (19) De Wulf: op. cit. t. 1, p. 113. (20) Eyre: op. cit. p. 809. (21) Harris: The Legacy of the middle Ages p. 228. (162)
بيؤثيوس
ثم كان أن ظهر فى القرن السادس أحد كبار فلاسفة العصور الوسطى , وهو بيؤثيوس Boethius (475-524) الذى كان من أبناء روما , انحدر من أسرة شريفة , كما أمتاز بسعة الاطلاع , مما أكسبه مكانة رفيعة أوصلته الى منصب الوزارة لثيودريك ملك القوط الشرقيين فى ايطاليا . على ان ثيودريك لم يلبث أن اتهمه بالخيانة فغدر به وأعدمه فى قسوة بالغة , وعندئذ اعتبر بيؤثيوس شهيدا لأن قاتله ثيودريك كان أريوسى العقيدة (22) . وقد ألف بيؤثيوس قبل اعدامه – وهو سجين فى بافيا – رسالة فريدة , أسلوبها مزيج من النثر والشعر , أسماها "سلوى الفلسفة " , غدت من أشهر الكتب فى العصور الوسطى (23) . ذلك أن شهرة هذا الكتاب غلبت على بقية مؤلفات بيؤثيوس , لاسيما الرسائل التى كتبها فى اللاهوت والتى لخص فيها مبادئ الثالوث المقدس وتجسد الأقنوم الثانى (24).
وتتفق مبادئ بؤثيوس مع الخطوط العريضة لعلم الأخلاق الأفلاطونى واللاهوت الطبيعى . ذلك أنه استلهم العزاء من الفلسفة التى توجه اليه اللوم بسبب قبوله الوظائف التى تولاها , والتى تذكره بأن المصائب أخذت تترى عليه لا يمكن أن تصرفه عن الثقه بالله والارتباط به . وبعد ذلك يثبت بأمثلة مستمدة من فلسفة أفلاطون , أن الله أسمى قوة فى الكون , وأنه الخير المحض , وان عنايته الالهيه لا تسمح بان يحل الأذى بالشخص التقى المستقيم , وان الألم المؤقت انما هو ابتلاء للأخيار وعقاب للأشرار (25) .
هذا , وقد أحرز كتاب بيؤثيوس مكانته العظيمة نتيجة لاختصاره وبساطته (22) Foligno: Latin Thought p. 50. (23) Cam. Med. Hist. vol. 3. P. 485. (24) Brehier: op. cit. p.p. 10-11. (25) Gilson: op. cit. p.p. 145-146. (162) فى عرض المبادئ الأفلاطونية , بالاضافة الى طلاوة أسلوبه وسحربيانه . ومع ذلك فانه لا يمكن القول بان بيؤثيوس صاحب مذهب محدود فى الفلسفة , وانما جمع كثيرا من الاراء الفلسفية فى كتابه السابق , فضلا عن ترجمة بعض مؤلفات فلاسفة اليونان الى اللاتينية (26) .
الفلسفة المدرسية :Scholasticism
أخذ النشاط يعود الى الحياة الفكرية فى أوربا عقب الفترة المظلمة التى بدأت بغزوات البرابرة ,وانتهت بتتويج شارلمان امبراطورا سنة 800 . ويطلق اسم التفكير المدرسى على الحياة الفكرية التى سادت أوربا منذ ذلك الوقت حتى طهور العلوم الطبيعية الحديثة حوالى القرن السادس عشر ؛ بمعنى ان النظريات المتداولة طوال هذه القرون الثمانية كانت عبارة عن الفلسفة التى تلقن فى "مدارس" التعليم العالى (27) . ومن أولى هذه المدارس مدرسة القصر التى أولاها شارلمان كثيرا من رعايته , هذا وأن كانت المدارس الديرية والأسقفية – التى سبقت الاشارة اليها – أهم اثرا وأوسع نفوذا . فالمدرسة لا تعنى سوى مجموعة من النظريات المختلفة والآراء المتباينة التى سادت الحياة الفكرية فى أوربا بين سنتى 800 , 1600 تقريبا (28) . أما العامل المشترك بين هذه النظريات فلايبدو فى موضوعها بقدر ما يبدو فى الاتجاه الفكرى الذى يحدد قالب المشكلة الفلسفية .
والمعروف أن مفكرى العصور الوسطى اعتبروا واجبهم الأول احياء النظرة (26) Folgino: Latin Thought p.p. 50-51 & Cam. Med. Hist. vol. 3. P. 485. (27) Eyre: op. cit. p.p. 810-811. (28) Taylor: The Med. Mind. Vol. 1. P.p. 313-317. (163) التركبية (synthetic vision ) التى نظر بها القدماء الى العالم على انه وحدة منظمة متجانسة . وبصرف النظر عن الترجمة اللاتينية لبعض رسائل أرسطو فى المنطق , فان الفضل فى أحياء النظرة السابقة يرجع الى مؤلفات أوغسطين وبيؤثيوس , والترجمة اللاتينية لمؤلف أفلاطون " طيماوس Timeaus " (29) . ثم كان أن غلب نفوذ الأفلاطونية الحديثة على النظرة العامة التى حاول مفكرو العصور الوسطى القاءها على الكون . ولم يكن ذلك الا فى القرن الثانى عشر عندما ازداد سلطان أرسطو على الفكر الغربى , حتى حل أخيرا محل افلاطون فى القرن الثالث عشر (30) . وبالاضافة الى ذلك فان العصور الوسطى تقبلت النظريات المسيحية والتعاليم اللاهوتية , لا سيما فيما يتعلق بالله والعلاقة بينه وبين المخلوقات . وهكذا وجد مفكرو العصور الوسطى أنفسهم امام موقف جديد , هو نفوذ الفلسفة الأرسطية الى عالم الفكر الى جانب تعاليم المسيحية , الأمر الذى استدعى التوفيق بين الجانبين , نظرا لما هناك من تعارض واضح بين قول أرسطو بقدم العالم وقول المسيحية بالخلق (31) . فالفلسفة المدرسية مهما اختلفت ميادينها كانت كلها ميتافيزيقية حاولت أن تحل المسائل المنطقية والأخلاقية والنفسية على أسس من الحقائق الثابتة . كذلك امتازت الفلسفة المدرسية بأنها عقلية , تبدأ دائما بالبحث عن المبادئ أو الأسس , فاذا تم العثور على هذه المبادئ أمكن تحقيق التوافق والترابط المنطقى (32) .
يوحنا سكوت اريجينا
ومن أبرز المفكرين المدرسيين فى القرن التاسع يوحنا سكوت اريجينا (ت877) (29) Gilson: op. cit. p. 117. (30) De Wulf: op. cit. T. 1. P.p. 26-27. (31) Harris: The Legacy p.p. 228-229. (32) Eyre: op. cit. p.p. 811-812. (164) Johannes Scotus Eriugena, الذى كان من مواليد ايرلندا, ثم تلقى تعليمه بمدرسة القصر على عهد شارل الأصلع (33). ويحتل يوحنا سكوت مكانة فريدة فى الفكر الغربى فى العصور الوسطى , بوصفه أخر آياء الكنيسة من ناحية , وأول المدرسيين من ناحية أخرى (34). ومع أنه كان مسيحيا فى عقيدته , الا أنه ظل من الناحية العملية يتبع مذهب الأفلاطونية الحديثة , مما جعل المجامع الدينية المعاصرة سنة 855 , وسنة 859 تأمر باحراق كتاباته (35) . أما فلسفته فتقوم فى جوهرها على أساس التوفيق بين الدين والفلسفة , لأنه لا فارق عنده بينهما ؛ ولذلك قال عبارته الشهيرة " الفلسفة الحقه هى الدين الحق , والدين الحق هو الفلسفة الحقة " ( 36) . وقد شرح سكوت فلسفته هذه فى كتابه عن " قسمة الطبيعة de division nature " أى نظام الوجود ؛ وهى دراسة بديعة فى أسلوب الأفلاطونية الحديثة يوضح فيها تدرج الحقيقة من الأقنوم الثانى الخالد الى أبسط المخلوقات السريعة الزوال (37) . ذلك أنه قسم الطبيعة – وهى الحقيقة – الى أربعة أنواع , قسم يخلق ولايخلق وقسم يخلق ويخلق , وقسم يخلق ولايخلق , وقسم لايخلق ولايخلق . ويبدو أن أراء أريجينا وفلسفته كانت أعمق من ان تستوعبها عقلية المعاصرين فى القرن التاسع , فاعتبرت ضربا من الهرطقة وأعدمت (38) . على أنه من الثابت أن سكوت لم يرم الى اتجاهات هرطقية فى اللاهوت , كما انه لم يكن مستترا فى تفكيره الحر . هذا الى أن حطه من قيمة (33) Cam. Med. Hist. vol. 3. P. 524/ (34) Harris: The Legacy of the middle Ages p. 229. (35) Taylor: The Mind vol. 1. P.p. 229-230. (36) يوسف كرم : تاريخ الفلسفة الأوربية فى العصر الوسيط ص 72 . (37) Brehier: La Philosophie au Moyen Age p.p. 51-52. (38) Harris: The Legacy of the middle Ages p.p. 230-234. (165) سلطة الكنيسه بالنسبة للعقل كمصدر للمعرفة , امر لا يتعلق الا بسلطة أباء الكنيسة فى تفسير الوحى , ولم يستهدف بأى حال الحط من شأن الوحى نفسه الذى سلم به سكوت تسليما مطلقا تاما (39) . ولكن من الواضح أن هذا التفكير يتعارض فى اتجاهه مع المسيحية فى عدة نواح بطريقة لاشعورية , لأن تعظيمه للأهوت السلبى على حساب الأيجابى , من شأنه أن يؤدى الى اللاادرية المطلقة نفسها التى انتهت اليها الأفلاطونية الحديثة (40) . هذا الى أن عدم اعترافه بأن الشر مهما يكن نوعه ليست له حقيقة واقعة , يتناقض تماما مع ما اتصفت به المسيحية من عيرة خلقية . وهكذا نجد فلسفة يوحنا سكوت – اذا أنعمنا النظر فيها – تنتهى الى الربط بين المذهب الطبيعى العملى واللاادرية الميتافيزيقية المطلقة . ولعل اهمية هذه الفلسفة من الناحية التاريخية هى أنها توضح كيف ظلت نظرة الأفلاطونية الحديثة الى العالم تتحور تحورا عميقا فى التفكير الفلسفى المسيحى ؛ الأمر الذى جعل يوحنا سكوت مؤسس الفلسفة المدرسية , كما يعتبر - بحق – أبا للمذهب العقلى (41) . مشكلة الكليات :
وقد شهد القرن التاسع بداية نقاش فلسفى طويل نشأ من عبارة وردت فى مدخل فرفريوس ( Porphyry ) الى مقولات أرسطو عن طبيعة الكليات (42). وكان محور هذه المشكلة هو : هل أسماء الأنواع مثل انسان وحصان مجرد الفاظ لا وجود لها بالفعل , او أنها تعبر عن انواع موجودة فعلا ؟ واذا كان لها وجود فعلى , فهل هذه الأنواع توجد فعلا فى افرادها ( هذا الانسان وهذا الحصان ) أو أن لها (39) Cam. Med. Hist. vol. 5. P.p. 786-787. (40) Gilson: op. cit. p.p. 205-206. (41) De Wulf: op. cit. T.1, p.p. 129-131. (42) Rashdall: op. cit. vol. 1, p. 40. (166) وجودا منفصلا قائما بذاته (43) ؟ وبعبارة أخرى عندما نتحدث عن الانسانية فهل نعنى شيئا معينا بالذات واحدا ومشتركا بين جميع المخلوقات البشرية ؛ أو انه مجرد لفظ عام مطلق لا يعنى شيئا مفردا محددا ؟ (44).
وقد مهدت هذه المشكلة فيما بعد الى انقسام فى الرأى بين الفلاسفة , فقال الاسميون أن الأنواع ليست الا مجرد أصوات ( merle vices’ ) , أو أسماء مجردة لا تعنى حقائق معينة ترتبط بها , فى حين قال الحقيقيون ان هذه الأسماء تعنى حقائق معينة قائمة فعلا (45) . وكانت الغلبة فى القرن التاسع للرأى الأخير "الحقيقى " , فقال أصحاب هذا الرأى أن الأنواع والأجناس التى نقسم اليها محتويات الكون فى أذهننا ليست تقسيمات من صنع العقل البشرى , وانما الله هو الذى وضع هذه التقسيمات وفق طبيعة الأشياء ؛ وعلى ذلك فهى تدل على حقائق ثابته تكمن خلف كل منها (46) .
القرن العاشر – البابا سلفستر الثاني
اتصف القرن العاشر بضعف الحياة الفكرية نتيجة لاضطراب أحوال اوربا السياسية . وكان من أبرز مفكرى هذا القرن البابا سلفستر الثانى (999-1003 ) الذى أسماه بعض المعاصرين " البابا الفيلسوف " (47). والواقع أنه لم يكن فيلسوفا كبيرا , ولم يعلن رأيه بصراحة فى أهم مشاكل العصر الفلسفية وهى مشكلة الكليات ؛ ولكنه مع ذلك كان رجلا مستنيرا مجددا . وخير مايدل على (43)Eyre: op. cit. p. 813. (44) Harris: The Legacy of the middle Ages p. 234. (45) De Wulf: op. cit. T.1, p.p. 93-94. (46) Idem, p. 99. (47) Cam. Med. Hist. vol. 3, p. 536. (167) انحطاط المستوى الفكرى فى ذلك العصر هو أن معرفة ذلك البابا بعلوم المجموعة الرباعية من الفنون الحرة ( وهى الحساب والهندسة والموسيقى والفلك ) أدت الى اتهامه بالسحر والشعوذة (48) . القرن الحادى عشر :
أما القرن الحادى عشر ؛ فكان عصر نشاط فكرى توجه أحد كبار فلاسفة العصور الوسطى – وهو القديس أنسلم (49) . والى هذا العصر ترجع نشأة الرغبة فى الجدل المنطقى , الصورى العديم الجدوى , الذى ينسب الى المدرسيين بوجه عام .
وأول مثل لدينا للمهتمين بهذا النوع من الجدل الصورى هو برنجاريوس التورى (ت1008)Berengarius of Tours الذى أهتم بمعالجة الدين بالجدل ؛ فأنكر مبدأ التجسد والاستحالة على أساس أن العرض لا يمكن أن يقوم فى غياب الذات (50) . فاذا كان العرض ملازما للذات فانه فيما يتعلق بالقربان الأقدس ظلت ذات الخبز باقية تنضاف اليها صورة جسد السيد المسيح , ومثل ذلك يقال فى الخمر بالاضافة الى دم المسيح , لأن ذات الخبز والخمر تبقيان بعد التكريس (51) . ومنالطبيعى أن مثل هذه الأراء لابد ان يكون لها رد فعل قوى عند رجال اللاهوت الذين ردوا عليها بان الأعراض قد تبقى مفارقة للذات بالقدرة الالهية . كذلك رد القديس بطرس داميان St. Peter Damian (1007-1072) مطالبا بعدم تطبيق أساليب العلم البشرى ومناهحه على الكتاب المقدس وما يشمله من أراء دينية (52) (48) Taylor: op. cit. vol. 1, p.p. 283-286. (49) Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 793. (50) Eyre: op. cit. p. 814. (51) Gilson: op. cit. p. 234. (52) Eyre: op. cit. p. 815. (168)
المذهب الاسمى – روسلينوس
احتل المذهب الاسمى فى المنطق مكانة بارزة فى التفكير الفلسفى فى القرن الحادى عشر ؛ وكان ابرز المفكرين الذين ناصروا هذا المذهب حينئذ روسلينوس Rossellini’s (1050-1120) الذى يحتل مكانة هامة عند بداية هذا الدور الكبير من أدوار الفلسفة المدرسية , فضلا عن أنه حدد نقطة البدء لما يمكن أن نسميه "اللاهوت المدرسى" (53).
ويبنى الاسميون رأيهم على أساس مبدأ أرسطو الخاص بأن الحقيقة الكاملة تتمثل فى الجزئيات ؛ وأن الكليات ليست الا الفاظا وكلمات لاتعنى شيئا . فلا يمكن أن نتصور انسانية دون ان نعنى انسانا معينا , ولا بياضا دون أن نعنى شيئا أبيض , ولاحكمة دون ان نعنى نفسا معينة حكيمة (54) . وهنا جاء روسلينوس ليطبق هذا المبدأ الاسمى على اللاهوت فى تفسير عقيدة الثالوث المقدس , فقال : كما ان اثفراد – وهى الجزيئات – موجودة فى أنواع المخلوقات ( الأنواع هى الكليات ) ؛ فان الاقانيم هى الموجودة فى الله . فالله فيه من الجواهر بقدر ما فيه من الاقانيم " بحيث نستطيع القول بثلاثة الهه لو ان العرف يسمح بذلك " (55) .
ولذلك اتهم مجمع سواسون الدينى روسلينوس بالهراطقة سنة 1093 وادانه بتهمة القول بثلاثة آلهه Tritheism.
القديس أنسلم
أما القديس أنسلم فكان أبرز شخصية بين مفكرى القرن الحادى عشر . ذلك أن مذهبه قام على اساس الحمع بين العقل والايمان La raison et la fol أو تعقل (53) Rashdall: op. cit. vol. 1, p. 41. (54) De Wulf, op cit. Tome 1, p.p. 103-104. (55) Brehier: op. cit. p. 131. (169) الايمان . ويبدو ان انسلم رأى أن يحارب الآراء الهرطقية بنفس أسلحتها , فعمل على استغلال الفلسفة لشرح عقائد المسيحية , والربط بين مختلف أطراف تراث الكنيسة الغربية (56) . والواقع أنه بنى فلسفته على اساس التراث الفكرى للقديس اوعسطين وأفلاطون ؛ بل أنه أعلن فى مقدمة كتابه " مناجاة النفس" أنه تلميذ أوغسطين وأنه يسير وفق أرائه . وكان يرى أن الخطوة الآولى التى على المفكر المسيحى ان يخطوها هى الايمان , لأن الايمان شرط التعقل , وعلى ذلك لا ينبغى أن يخضع الايمان للعقل ؛ وانما العقل هو الذى يجب ان يخضع للايمان Credo ut intelligam (57). على أن أهم ما اسهم به انسلم فى بناء المدرسية الاوغسطينية هى الأدلة التى ساقها على وجود الله (58) . حقيقة ان الأدلة التى اتى بها انسلم هى أدلة القديس أوغسطين نفسها , ولكن انسلم صورها فى صورة اكثر دقة , فاقامها على اساس نظرية الأفلاطونية الحديثة التى تقول بأن الوجود عبارة على سلم مسلسل منتظم ؛ وكل ماتمثل من كمال فى درجة من درجات هذا السلم فهو مستمد من مشاركته فى مطلق ذلك الكمال (59) . ثم حاول انسلم أن يثبت وجود الله بأدلة مأخوذة من نواح ثلاث , تتشابه فيها الأشياء ولكن تشابهها يتفاوت , مما يؤدى بنا الى علة أولى . أما هذه النواحى فهى الصفات مثل الجمال والعلم , ثم الماهية التى تتفاوت فيها الاشياء أيضا . فالنبات أرقى من الجماد , والحيوان ارقى من النبات , والانسان ارقى من الحيوان ؛ وأخيرا الوجود الدى يتبع التفاوت فى الماهية , فليس وجود الانسان كوجود الحيوان مثلا (60) . (56) Harris: The Legacy, p. 235. (57) Gilson: op. cit. p. 241. (58) Brehier: op. cit. p. 122. (59) Gilson: op. cit. p. 243. (60) Eyre: op. cit. p. 816. (170)
أما نصيب أنسلم الشخصى الذى اسهم به فى التفكير الفلسفى دون أن يستمده من غيره , فهو الدليل الوجودى (ontologique) . ويقوم هذا الدليل على أساس أن انكار أى شخص لوجود الله ليس الا اعترافا منه بوجود شئ عظيم فى ذهنه يستحق الانكار (61) . وهذا الشئ العظيم الذى لا يمكن تصور أعظم منه فى العقل لابد أن يكون موجودا فى الواقع , لأن ما لا يتصور أعظم منه لا يمكن أن يوجد فى العقل فقط ؛ لأنه فى هذه الحالة يصبح فى الاستطاعة تصور موجود مثله متحققا فى الواقع ومن ثم يكون أعظم منه . وعلى ذلك فان الانسان يناقض نفسه اذا قال بأن الله تعالى – وهو كائن لا يمكن تصور أعظم منه – غير موجود ؛ وبعبارة أخرى فان الله لابد أن يكون موجودا فعلا (62) .
وقد اعترض أحد المعاصرين – وهو جونيلو Gaunilon – الراهب بدير مارموتية Marmoutiers على رأى انسلم , فقال بأن الله تعالى ليس موضوع ادراك مباشر , وهو يختلف عن الموجودات التى نقصد بها أشياء معينة نراها او نتصور صورتها . وعلى ذلك لا يجوز ان نتخذ اسم الله مقدمة للتدليل على وجوده (63) . ولكن انسلم رد على هذا المعترض قائلا " ارجع الى ايمانك وعندئذ تدرك أنك تعقل الله على انه الموجود الذى لا يتصور أعظم منه ". وهكذا نعود فنقول ان الايمان هو أساس التعقل فى فلسفة انسلم (64) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القرن الثانى عشر: مدرسة شارتر
أما القرن الثانى عشر فقد شهد فى غرب اوربا نشاطا فكريا غزيرا ؛ يرحع الفضل فى جزء كبير منه الى مدرسة شارتر بفرنسا . وقد ظهر طابع الفلسفة الأفلاطونية فى هذه المدرسة فى مؤلفات تييرى رئيس مدرسة شارتر (ت 1155) الذى شرح (61) De Wulf: Tomel, p.p. 115-117. (62) Taylor: op. cit. vol. 1, p. 279. (63) Ibid. (64) Brehier: op. cit. p.p. 124-125. (171) سفر التكوين فى ضوء المعانى الأفلاطونية التى وردت فى محاورة طيماوس (65)
على أن بطرس أبيلار Pierre Abelard (1079-1142) كان بدون شك أشهر رجال الجدل فى القرن الثانى عشر وألمع معلمى عصره , بحيث أنه ترك – عن طريق تلاميذه – أثرا عميقا فى الدراسات الفلسفية واللاهوتيه بقية العصور الوسطى , فضلا عن أن تطور اللاهوت المدرسى بلغ ذروته على يديه (66) . والواقع أنه لم يكن – كما دعاه البعض – أبا للفلسفة المدرسية , اذ ربما كان القديس انسلم – ان لم يكن يوحنا سكوت اريينا – أحق منه بهذا اللقب , ولكن كتابه " نعم ولا Sic et Non " يعتبر نموذجا احتذاه من خلفه من اللاهوتيين الفلاسفة , فاستخدموا الجدل فى دحض أراء المعارضين (67) . ويعرض أبيلار فى هذا الكتاب نحوا من مائة وخمسين مسألة لاهوتية , يبحثها بطريقة جدلية أكثر منها موضوعية , معتمدا فى هذا البحث على أدلة فلسفية , ولكن دون أن يجرؤ على ان يقطع فيها برأى حاسم (68). أما مسالة الكليات فقد اتخذ فيها رايا وسطا عندما قال أ، الألفاظ كلية لأننا نقصد بها دلالة كلية ؛ ولكن للأنواع والأجناس مقابلا فى الخارج وهذا المقابل هو " طبيعة الجزئى " مجردة من الأعراض , مع تشابه الطبيعة فى الجزئيات الحاصلة عليها . فالأنواع والأجناس ذاتية فى الجزئيات مجردة فى العقل (69) . وفيما عدا ذلك , فان أهم ما أسهم به أبيلار جاء فى ميدان الأخلاق , اذ وضع كتاب " اعرف نفسك " الغرض منه كشف الأخلاق المسيحية بالعقل عن طريق حوار بين فيلسوف ومسيحى . وبفضل هذا الكتاب (65) Gilson: op. cit. p.p. 268-272. (66) Rashdall: op. cit. vol. 1, p. 43. (67) Cam: Med. Hist. vol. 5, p. 799. (68) Harris: The Legacy p. 236. (69) يوسف مكرم : تاريخ الفلسفة الأوربية فى العصر الوسيط ص 105 . (172) اعتبر أبيلار مؤسس علم الأخلاق فى العصور الوسطى (70) .
أما حنا سالسبورى (1110-1180) فكانت فلسفته عملية معتدلة , تقوم على اساس فلسفة شيشيرون . وقد أخذ حنا سالسبورى عن شيشيرون الشك المعتدل القائم على التمييز بين مايعلم ومالا يعلم (71) . ومن مؤلفاته كتاب " مذاهب الفلاسفة " الذى يصور المدارس الفلسفية فى عصره , بعد أن يعرض لتاريخ الفلسفة عند اليونان والرومان ؛ وكتاب أخر فى المنطق , وثالث فى السياسة ونظم الحكم Polieraticus (71) .
والى جانب القسط الكبير الذى أسهم به الفلاسفة السابقون وغيرهم فى علاج المسائل اللاهوتية , وجد جماعة أخرى من المفكرين غلب عليهم الطابع اللاهوتى فى تفكيرهم , حتى أننا نعتبرهم لاهوتيين أكثر منهم فلاسفة . والواقع أن العلاقة بين الفلسفة واللاهوت بدت فى ذلك العصر أشد ما تكون وضوحا , بعد أن غدت مدارس اللاهوت لا تتأثر بالمشاكل الفلسفية فحسب , بل أيضا بأساليب الفلسفة وطريقتها فى التفكير (73) . وعلى رأس هؤلاء اللاهوتيين كان القديس برنارد (1091-1153) الذى أعلن أن الفلسفة الوحيدة التى يصح أن يشتغل بها المفكر المسيحى هى " معرفة المسيح المصلوب " . على أن القديس برنارد لم يتطرف فى مهاجمة الفلاسفة والجدليين , كما فعل غيره من رجال الدين المتزمتين , وأنما كان معتدلا فى موقفه منهم , وبذلك ترك أثرا عميقا فى التصوف النظرى (74) . (70) De Wulf: op. cit. 1, p. 155. (71) Cam: Med. Hist. vol. 5, p.p.806-807. (72) Gilson: op. cit. p. 274-277. (73) Rashdall: op. cit. vol. 1, p. 44. (74) Eyre: op. cit. p. 819. (173)
أما هيو – أستاذ دير سانت فكتور (1096-1141) – فكان أقوى منه أثرا فى فلسفة التصوف . وقد أقام هيو فلسفته فى التصوف على أساس نظرية المعرفة , فقسم المعرفة الانسانية الى ثلاث درجات ؛ الدرجة الأولى معرفة العالم المحسوس بالحس والخيال والتجريد ويسميها عين الجسم (oculus carnis ) , والدرجة الثانية معرفة النفس لذاتها ويسميها عين العقل (oculus rationis ) والدرجة الثالثة معرفة الله ويسميها عين المشاهدة (oculus contemplationis) (75) . القرن الثالث عشر – ازدهار الفلسفة المدرسية :
يعتبر القرن الثالث عشر العصر الذهبى للفلسفة المدرسية والدراسات اللاهوتية جميعا فى العصور الوسطى . ذلك أنه ظهرت حقائق أدت الى تغيير وجه الحياة العلمية فى القرن الثالث عشر , أهمها احياء فلسفة أرسطو الطبيعية والميتافيريقية , وقيام الجامعات الأوربية وبخاصة جامعة باريس , ثم اتصال الفلسفة الغربية بالفلسفة الشرقية ( الاسلامية واليونانية والاسرائيلية ) (76).
أما عن احياء تراث أرسطو الفلسفى , فيلاحظ أن العالم المسيحى الغربى لم يعرف فى الشطر الأول من العصور الوسطى شيئا من بحوث أرسطو عدا منطقه الصورى . ولعل عدم الاهتمام بالطبيعة , الذى بدأ واضحا من المفكرين الغربيين مثل القديس أنسلم , ليس مرحعه استغراقهم فى اللاهوت فحسب , بل جهل هؤلاء المفكرين بالدراسات القديمة التى توضح لهم أهمية الميدان الطبيعى المحسوس كحقل خصب للتفكير والاستقصاء (77) . على أنه فى الوقت الذى كان نصيب الدراسات الأرسطية فى غرب أوربا الاهمال والنسيان , اذا بهذه الدراسات تحظى (75) Brehier: op. cit. p. 189. (76) De Wulf: op. cit. t. 1, p. 221. (77) Eyre: op. cit. p. 820. (174) بتشجيع مفكرى المسلمين وعنايتهم , وهم الذين توصلوا الى مؤلفات أرسطو عن طريق ترجمتها عن السريانية (78) . وهكذا ظهرت دراسات أرسطية اسلامية , يشوبها كثير من عناصر الأفلاطونية الحديثة . وتزعم هذه الدراسات عدد كبير من فلاسفة المسلمين مثل ابن سينا ( 980-1037) فى المشرق وابن راشد (1126-1193) فى الأندلس ؛ كما أسهم فى هذه الحركة بعض اليهود مثل موسى بن ميمون (1135-1204) (79) . وسرعان ما وقفت أوربا على الدراسات العربية – وبالتالى الأرسطية – نتيجة للاتصالات بين المسلمين والمسيحين فى عصر الحروب الصلبية , فأشتدت حركة الترجمة من العربية الى اللاتينية . وعن طريق هذه الحركة – فضلا عن الترجمة عن اليونانية مباشرة – تعرف غرب أوربا على دراسات أرسطو الذى علم الغرب أن الطبيعة المحسوسة تقدم حقلا أوسع من اللاهوت غير المحسوس (80) .
على أن الأرسطية – كما بدت فى شروح ابن سينا وابن راشد – اتخذت صورة يمكن تسميتها وحدة الطبيعة أو الوجود , وهى صورة لم تترك سوى مجال ضيق لتعاليم المسيحية الخاصة بوجود الله والخلق والحياة الأخرى والحساب . وهكذا غدت المشكلة الكبرى أمام مفكرى القرن الثالث عشر فى غرب أوربا هى : هل يجوز تدريس هذه العلوم الفلسفية والأراء الجديدة جنبا الى جنب مع دراسات اللاهوتية فى معهد واحد (81) ؟ ولم تلبث هذه المشكلة أن تبلورت فى جامعة باريس , تلك الجامعة التى حظيت برعاية البابا أنوسنت الثالث لتكون مركزا عالميا لتدريب رجال الدين وتعليمهم . وهنا أثار الاشكال السابق عددا كبيرا من الصعوبات؛ فهل يجوز تدريس الميتافيزيقا والعلوم الفلسفية فى الجامعة اطلاقا (78) Cam Med. Hist. vol. 5, p. 811. (79) Taylor: op. cit. vol. 2, p. 420. (80) Haskins: The Renalissance of the Twelth Century, p.p. 287-293. (81) Eyre: op. cit. p.p. 820-821. (175) (82) ؟ واذا جاز ذلك فهل تستقل كلية الأداب بتدريس هذه الدراسات , أم يتم التدريس تحت اشراف رجال اللاهوت ؟ وأخيرا هل يجوز لرجال المنظمات الدينية الكبرى فى القرن الثالث عشر – وهما منظمة الدومينيكان ومنظمة الفرانسكان – أن يقوموا بالتدريس فى الجامعات (83) ؟ .
وهنا نجد – فيما يتعلق بجامعة باريس بالذات - , أن صبغتها الكنسية الأولى وعلاقتها بالبابوية , جعلتها تخضع – الى درجة ما – لكلمة البابوية التى افزعتها اراء أرسطو والشروح التى وضعها بعض فلاسفة المسلمين لهذه الاراء , فأصدر مجمع باريس الكنسى سنة 1210 قرارا بتحريم كتابات أرسطو وشروحها (84) . وقد تقرر هذا التحريم بعد ذلك عدة مرات , ولكنه لم يجد فى منع الأحرار من المفكرين عن دراسة كتب أرسطو , فأخذت هذه الكتب تنتشر فى فرنسا وانجلترا والمانيا , فضلا عن اسبانيا ؛ حتى سمح البابا أوربان الخامس سنة 1366 بأن يمتحن طلاب ليسانس الأداب فى جميع كتب أرسطو دون استثناء . أما الصراع العنيف بين رجال المنظمات الدينية والأساتذة العلمانيين حول الاستئثار يالتدريس فى الجامعة ( جامعة باريس ) , فقد انتهى بانتصار الفريق الأول , حتى أننا نجد أبرز أساتذة القرن الثالث عشر – مثل بونافنتورا وروجر بيكون والقديس توما ودونس سكوت – ينتمون جميعا اما الى جماعة الفرانسسكان أو الدومينيكان(85)
والواقع , أنه اذا نظرنا الى النشاط الفلسفى فى القرن الثالث عشر , فانه يمكننا التمييز بين أربعة تيارات اختلف بعضها عن بعض فى مسلكها تجاه الأرسطية . فهناك أولا اقلية من الرشديين أبرزهم سيجر البرابنتى , وهم الذين (82) Cam. Med. Hist. vol. 5, p.p. 817-818. (83) Eyre: op. cit. p.p. 820-821. (84) Rashdall: op. cit. p. 356. (85) De Wulf: op. cit. Tom 1, p.p. 236-237. (176) تقبلوا تعاليم أرسطو كما صورها العرب وشروحها دون تحفظ . وبعد ذلك يأتى فريق الأوغسطينيين الذين تشبعوا بأكبر قدر ممكن من الأرسطية مع التمسك بتعاليم أوغسطين وآرائه ومن ورائها الفلسفة الأفلاطونية . وأبرز مفكرى هذا الفريق القديس بونافنتورا . ثم يأتى ثالثا فريق من المفكرين ظهر فى اكسفورد من الأوغسطينيين الفرانسسكان , وهؤلاء لم يعطوا الميتافيزيقا قدرا من عنايتهم , مثلما أعطوا العلوم الطبيعية التجريبية والرياضيات . وعلى رأس هذا الفريق يأتى روجر بيكون . وأخيرا يأتى فريق الأرسطيين الدومينيكان , وهم الذين تمسكوا بفلسفة أرسطو الأصلية واتخذوها أساسا لتعاليمهم , وهاجموا آراء الشراح والمفسرين الذين شرحوا هذه الفلسفة وفسروها . وأبرز مفكرى هذا الفريق القديس توما الأكوينى (86) . وسنتناول كل فريق من أصحاب هذه المذاهب الأربعة بكلمة قصيرة :
( أ ) أما الرشديون الذين تزعمهم سيجر البرابنتى ( 1235-1284 ) فى القرن الثالث عشر , فكانوا يرون فى تعاليم أرسطو – كما شرحها ابن رشد – علما قائما بذاته , وفنا مثاليا يجب أن يدرس كما هو , دون مراعاة لما بينه وبين الدين من خلاف . وهكذا يبدو ان هؤلاء الرشديين اعتمدوا على شروح ابن رشد واعتبروها خير صورة لفلسفة أرسطو , وبذلك أثاروا حركة عرفت بالرشدية اللاتينية (87). وكان سيجر زعيم هذه الطائفة يتصور العلاقة بين الايمان والعقل تصورا خاصا جديدا, اذ أنه لم يضعهما فى مستوى واحد حتى يميز بينهما . ولكنه حول التعارض بين العقل والايمان الى تمايز بين نظام طبيعى منسوخ ونظام فائق للطبيعة ناسخ (88) . ذلك أنه قال أن الايمان يكشف لنا عن نظام فائق للطبيعة أراده الله لنا وأعلنه علينا , فنحن نتقبله الى جانب ما يعقله العقل , أما العقل (86) Eyre: op. cit. p.p. 821-822. (87) Brehier: op. cit. p. 336. (88) Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 821. (177) الطبيعى فلا يعلم سوى النظام الطبيعى الذى من الممكن أن يكون حقا لو لم يستبدل به الله النظام الفائق للطبيعة (89) . ثم يقول أنه اذا أعلن الوحى أمورا لا تستنبط بالأدلة الطبيعية فليس للفلسفة أن تعرض للمعجزات , وانما للطبيعيات تبحثها بحثا طبيعيا . وهكذا جاءت أراء سيجر خطرا على الجهود التى بذلها المدرسيون للتوفيق بين العقل والدين (90) .
( ب ) وأما الأوغسطينيون فقد تمسكوا بأراء القديس أوغسطين وبفلسفة أفلاطون من خلفها . ويبدو الفارق واضحا بين آراء هذا الفريق وفلسفة الدومينكان فى نواح أربع ؛ أولها فى نظرية المعرفة , اذ يقول الأوغسطينيون بأن للنفس عقلين ؛ عقل أدنى تتجه به نحو المحسوسات وعقل أعلى تتجه به نحو ذاتها ونحو الله , وثانيها قول الأوغسطينيين بان المخلوق يتركب من هيولى وصورة , وثالثها قولهم بان المخلوق من صور متعددة بتعدد الكمالات , ورابعا اصرار الأوغسطينيين على علاقة الروح بالجسد (91) .
وكانت نظرة القديس بونافنتورا St. Bonaventura (1221-1274) –زعيم الأوغسطينيين – الى الفلسفة تتفق مع نظرة القديس أوغسطين ؛ اذ كان يرى أن الانسان خلق ليعرف الله ويحبه, ويجد سعادته فى هذا الطريق – طريق الله. وهكذا اعتبر مهمة الفلسفة مقتصرة عل معاونة اللاهوت , لأن الفلسفة الحقة تدور حول الله فى حين يجب أن يتحه اللاهوت , اتجاها صوفيا بحتا . وقد صنف بونافنتورا مؤلفات عديدة فى الفلسفة واللاهوت والتصوف , تدور موضوعاتها حول شرح أرائه السابقة , والتى يعتبر اهمها نظريته فى المعرفة ووجود عقلين للنفس (92) (89) De Wulf: op. cit. t. 2, p.p. 95-99. (90) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الأوربية فى العصر الوسيط ص 209-211 . (91) Eyre: op. cit. p. 823. (92) Gilson: op. cit p.p. 439-451. (178)
( ج ) وأما فرنسسكان اكسفورد Oxford Franciscans فقد وجهوا اهتمامهم نحو الرياضيات والعلوم الطبيعية , وبذلك أدوا الى أوربا خدمة جليلة , اذ ترتب على اتجاههم وجهودهم مولد العلوم الطبيعية الحديثة (93) . وأبرز فلاسفة هذا الفريق هما جروستست Grossetest (1175-1253 ) ثم تلميذه روجر بيكون Roger Bacon (1210-1291) . وكان جروستست أستاذا بجامعة اكسفورد ثم رئيسا لها , كما ترجم وشرح والف كثيرا من الكتب (94) . أما مذهبه فكان أقرب الى أراء القديس أوغسطين , ولكنه فى الناحية العلمية اتجه اتجاها تحربيا , فأستخدم الأسلوب الرياضى فى التدليل , واعتقد ان الرياضيات وحدها تفسر الظواهر الطبيعية . ويبدو أن جروسنست أخذ هذا الاتجاه عن العالم العربى الحسن بن الهيثم الذى كان كتابه " المناظر " بمثابة الدستور العلمى لأساتذة اكسفورد (95) .
أما روجر بيكون فكان أوغسطينيا أيضا , حعل للاهوت المقام الأول , وميز بين الدين والعلم فى تفكيره وكتاباته . ويبدو أن بيكون استفاد كثيرا من المؤلفات الأسلامية وبخاصة مؤلفات أبن سينا والحسن بن الهيثم . على أن أهم ما أخذه بيكون عن علماء المسلمين كان الاهتمام بالنهج التجريبى فى البحث , والايمان بأهمية هذا المنهج ؛ حتى أنه قسم وسائل المعرفة الى ثلاث هى النقل والاستدلال والتجربة (Per auctoritatum et rationem et experientiam ) وقال ان النقل والاستدلال لا يؤديان الى معرفة حقه , ما لم تثبت التجربة صحة ما يأتيان به (96) . أما فوائد التجربة فهى تاكيد النتائج التى تصل اليها بالاستدلال , كما تؤدى التجربة الى حقائق جديدة توصلنا الى علم جديد قائم بذاته هو العلم التجريبى (93) Eyre: op. cit. p. 826. (94) Taylor: op. cit. vol. 2, p.p. 146-147. (95) Brehier: op. cit. p.p. 272-277. (96) De Wulf: op. cit. Tome 2, p.p. 134-135. (179) Scienta experimentalis الذى يمكننا من السيطرة على الطبيعة (97). واذا كان روجر بيكون هو اول من استخدم اصطلاح " العلم التجريبى " السابق . فانه يوضح لنا أن التجارب العلمية التى يعتمد عليها ذلك العلم تمتاز باعتمادها على الأجهزة والآلات المختلفة (98) .
( د) وأخيرا يأتى فريق الأرسطيين الدومينيكان , الذين عملوا على اقامة دعائم فلسفة منسقة على أساس التعاليم الأرسطية , ولكنها تتفق مع أحكام الدين والعقيدة(99) . وقد قام اثنان من فلاسفة هذا الفريق باقامة ذلك البناء الفلسفى , هما البرت الكبير (1206- 1280 ) وتلميذه القديس توما الأكوينى (1225-1274). وهكذا يمكن القول بأن البرت وتوما قد نصرا تعاليم أرسطو , مع ملاحظة أن الفشل يرجع اليهما فى التفرقة لأول مرة بشكل واضح بين الفلسفة واللاهوت . فمن الممكن ان تكون من أتباعهما فى الفلسفة دون أن تكون مسيحيا؛ كما أنه من الممكن أن تكون مسيحيا مثلهما دون أن تتبعهما فى آراائهما الفلسفية. وعن طريق هذه التفرقة قدم هذان الفيلسوفان خدمة جليلة للباحث العلمى , اذ اعطياه براءة تحرره من سيطرة اللاهوت عليه وتحكمه فيه . وبذلك صار للباحث حرية تامة فى التنقل خلال أرجاء العالم الطبيعى دون أن تكون للسلطة الدينية حق التدخل فى عمله (100) .
ألبرت الكبير
أما البرت الكبير فأهم ما يميز فلسفته ظاهرة الاصرار على التفرقة بين (97) Cam Med. Hist. vol. 2, p.p. 825-826. (98) Eyre: op. cit. p. 827. (99) Taylor: op. cit. vol. 2, p. 452. (100) Gilson: op. cit. vol. 2, 503. (180) الفلسفة واللاهوت – وهى التفرقة التى تعتبر بداية مرحلة جديدة فى تاريخ الفكر الغربى , لأنها جاءت فى الواقع تمييزا بين دعاوى ينهض عليها الدليل ويوجد ما يثبتها علميا , ودعاوى أخرى لا تسندها أدلة واضحة سوى " هكذا ورد فى الكتاب المقدس " أو " هكذا قال أباء الكنيسة " (101) .
وليس معنى هذا أن البرت حاول أن يقلل من شأن اللاهوت . فقد كان قديسا وراهبا فى منظمة الدومينيكان , ثم أستاذا للاهوت فى جامعة باريس ؛ وأخيرا أسقفا على كولونيا , كما الف كثيرا من التصانيف اللاهوتية والفلسفية والعلمية , ورجع الى الأفلاطونية كما رجع الى الأرسطية (102) . ولكنه عرف الأرسطية على حقيقتها , وعرضها على معاصريه عرضا غير مغرض , فقال ان أرسطو هو المصدر الأول فى معرفتنا للطبيعيات لأنه عرف الطبيعة أكثر من غيره ؛ وبذلك استطاع البرت أن يقدم فلسفة أرسطو – لاول مرة – فى ثوب مسيحى (103) . وهنا يتمالك البرت شجاعته فيصرح بأن مبادئ اللاهوت لا تتفق مع الفلسفة لأن الأول يقوم على الوحى فى حين تقوم الفلسفة على العقل ؛ ولكنه مع ذلك يوصى باستخدام الفلسفة فى اللاهوت لحل مشاكله (104) . على أنه يؤخذ عليه أنه لم ينته فى أرائه الى مذهب مستقل مترابط , وأنه استوعب المذاهب الفلسفية السابقة دون أن يخرج منها برأى خاص , الأمر الذى جعل تلاميذه ينقسمون من بعده الى فريقين : فريق سار فى ركاب الأفلوطنية الحديثه , وفريق سار فى ركاب الأرسطية (105) . والفريق الأخير اقوى اثرا واشد ظهورا , وكان على رأسه توما الأكوينى صاحب أروع المذاهب العقلية فى العصور الوسطى . (101) Eyre: op. cit. p.p. 828-829. (102) Cam Med Hist. vol. 5, p. 824. (103) يوسف كرم : تاريخ الفلسفة الأوربية فى العصر الوسيط ص 161-168 . (104) Brehier: op. cit. p. 300. (105) يوسف كرم : تاريخ الفلسفة الأوربية فى العصر الوسيط ص 161-168ز (181)
القديس توما الأكويني
أما توما الاكوينى (1225-1274) فكان هو الآخر من الرهبان الدومينكان , تتلمذ على يد البرت الكبير ثم صار أستاذا بجامعة باريس . وقد دون كثيرا من الشروح والمؤلفات الفلسفية , حاول فيها ان يقدم فلسفة أرسطو الى معاصريه فى صورة براقة مغرية ألأمر الذى أوقعه فى صراع مع الاوغسطنيين من ناحية ومع الرشديين من ناحية أخرى . وهنا نلاحظ أن توما الأكوينى اعتمد فى أرائه الفلسفية الخالصة على طريقة ابن رشد فى شرح فلسفة أرسطو , فى حين ألف فى الجانب اللاهوتى عدة مؤلفات بلغت شأوا بعيدا فى مهارة البناء وسمو الصياغة والمنهج (106) .
وقد أمتازت فلسفته بالتفرقة الواضحة بين العلم واللاهوت , فقال ان الفلسفة لا يمكن أن تقدم أدلة قاطعة لاثبات مبادئ المسيحية ,لأن العقل البشرى يتقبل هذه المبادئ لاعتقاده فقط أنها من لدن الله . وأقصى ما يمكن ان تقوم به الفلسفة هو تفنيد مزاعم ضعاف العقيدة والمتشككين فى الدين (107) . على أن ثمة عنصرا مشتركا بين الفلسفة واللاهوت , هو اننا لا ننتظر من العالم أن يؤمن بعقائد اللاهوت التى تسندها السلطة المقدسة دون أن يقيم الأدلة الفلسفية على وجود الله وماهيته وقدرته (108) . وهنا يسوق القديس توما خمسة أدلة على وجود الله , مستمدا منطق تفكيره من فلسفة أرسطو بوجه خاص ؛ وأول هذه الأدلة فكرة المحرك الذى لا يتحرك , فكل ما يتحرك يحركه شئ سواه . ولما كان التسلسل اللانهائى مستحيلا , فاننا سنصل فى النهاية الى شئ يحرك بقية الأشياء دون ان يتحرك هو , وهذا الشيء هو الله. والدليل الثانى يقوم على أساس العلة الأولى , اذ (106) Rashadall: op. cit. vol. 1, p. 365. (107) Eyre: op. cit. p. 830. (108) De Wulf: op. cit. Tome 2, p. 13. (182) لا يمكن أن تكون جميع الموجودات فاعلة لنفسها , بل لابد أن يكون لكل شئ علة أوجدته ؛ ولما كان التسلسل اللانهائى مستحيلا فلابد من وجود علة خالقة أولى , هى الله (109) . أما الدليل الثالث فهو ضرورة وجود مصدر أساسى لكل الموجودات هو الله ؛ وواضح أن هذا الدليل يكاد يكون الدليل نفسه السابق له . ويعتمد الدليل الرابع على تفاوت الموجودات فى الصفات والكمالات , والتفاوت لا ياتى الا نتيجة للاضافة الى ماهو فى صفة معينة . وعلى ذلك لابد من وجود شئ تام الكمال هو غاية الكمالات التى تصدر كلها عنه , وهذا الشئ هو الله ز وأخيرا يعتمد الدليل الخامس على ان كل الموجودات – حتى التى لا حياة فيها – تعمل لتحقيق غاية معينة , مما يدل على انها لاتعمل عرضا بل قصدا , مدفوعة بقوة كائن سواها خارج عنها ؛ وهذه القوة هى قوة الله (110) .
ومن الواضح أن الأدلة السابقة تقوم على اساس الوصول الى علة الموجودات الطبيعية , لأن القديس توما يرى أن الأيمان يتوقف على معرفة الطبيعة , الأمر الذى استوجب أطلاق اسم " اللاهوت الطبيعى " Natural Theology على هذا القسم من فلسفته (111) . وبعد ذلك يتعرض القديس توما لماهية الله تعالى , فيرى أن الله جوهر نفسه لأنه كائ، غير مركب لا فرق فيه بين جوهر ووجود , وهو كامل من جميع النواحى , والأشياء التى تشبه فى بعض النواحى لا تشبه فى البعض الآخر , وهو أرادة , وارادته هى جوهره . ويمتاز الله بالقدرة والعناية والعقل والفضائل التأملية والعملية جميعا (112) . ثم يتناول القديس توما مشكلة الخلق (109) Gilson: op. cit. p. 531. (110) برتراند رسل : تاريخ الفلسفة الغربية ج 2 ص 238-239 , يوسف كرم : تاريخ الفلسفة الأوربية ص 174-177 . (111) Eyre: op. cit. p. 830. (112) برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية ج2 ص 239 -242 . ويوسف كرم: ص 178-182 . (183)
والعلاقة بين الخالق والمخلوق , فيقول ان الموجودات – خلا الله – مخلوقة , لأن الله خلق العالم من العدم . وأرقى المخلوقات هم الملائكة وهى مخلوقات روحية كثيرة العدد , يبلغون كمالهم العقلى بفيض الهى . أما الانسان فيلى الملائكة فى المرتبة، وبعبارة أخرى يحتل الانسان مكانة وسطى بين الملائكة والأعجام . والانسان مؤلف من روح وجسد , والروح هى النفس الخالدة التى تدرك الأشياء بقوة العقل . والعقل جزء من روح كل فرد من الأفراد (113) . وهنا يعرض القديس توما لمشكلة الكليات عندما يبحث فى العقل , فيتفق مع أرسطو فى أن الكليات لا وجود لها خارج الروح , ولكن العقل حين يعقل الكليات فهو يعقل أشياء موجودة خارج الروح (114) . أما فلسفة توما الأخلاقية فقد حاول فيها أيضا التوفيق بين فلسفة أرسطو وآراء المسيحية , مما حعل الطريقة التى عالج بها المشاكل الأخلاقية فريدة فى نوعها بين بحوث الفلاسفة المدرسيين (115) . وتقوم فلسفة توما الأخلاقية على اساس أن الشر غير مقصود , لأن الكائنات كلها ترمى الى التشبه بالله فى الخير . كذلك يقول توما ان سعادة البشر الكاملة تقوم على التامل فى الله , لا على اللذائذ الدنيوية , لأن الله هو الغاية القصوى . والعقل الطبيعى هو مجموع القواعد الخلقية التى تعى وتنبذ الشر (116).
واذا كان القديس توما قد وحه كل اهتمامه نحو الدراسات المتعلقة بالله وبالانسان , فانه قنع فيما عدا ذلك من دراسات طبيعية بالمناهج التى وضعها الأرسطيون فى الطبيعة وعلم الكون ( الكسمولوجيا Cosmology ) وعلم الأحياء . ولعل هذا هو السبب فى اهمال أراء توما فى هذه العلوم فيما بعد عندما ارتقت العلوم الطبيعية واتخذت أساسا للمعرفة الحقيقية . ولكن القديس توما لم يتبع (113) Gilson: op. cit. p.p. 536-537. (114) برنراند رسل : تاريخ الفلسفة الغربية ج2 ص 243 . (115) Harris: The Legacy p. 245. (116) De Wulf: op. cit. Tome 2, p. 24. (184) أستاذه أرسطو فى العلوم السابقة اتباعا أعمى , وانما كان فى بعض النواحى – لاسيما فيما يتعلق بالفلك – يضيف الى نتائج أرسطو انه لا يستطيع تاكيدها أو التسليم بها ( 117) . O o o
على أن هذه الأرسطية الجديدة أو التوماويه (Thomism ) لم تسلم من معارضة بعض المعاصرين الذين ساءتهم جرأة توما فى الخروج على اراء السلف , وبخاصة القديس أوغسطين . هذا الى جانب أن سياسته فى فصل الفلسفة عن اللاهوت جعلت الأولى تبدو قائمة بذاتها دون ان تفقد شيئا من خصا ئصها , فى حين اضطر اللاهوت الى ان يتجه وجهة معينة جديدة (118) . لذلك غضب رجال اللاهوت , واضطر أسقف باريس سنة 1277 الى تحريم دراسة عدد كبير من المسائل الفلسفية منها بعض المبادئ الأرسطية والتوماوية (119) . وفى نفس السنة السابقة أصدر رئيس أساقفة كانتريورى بانجلترا أيضا قررا بتحريم تدريس بعض المبادئ التوماوية فى اكسفورد . وتكرر هذا التحريم سنة 1284 ثم سنة 1286 . على ان البابوية لم تلبث أن وقفت موقفا مغايرا من تعاليم توما وآرائه , حتى انتهى الأمر باعلانه قديسا سنة 1323 (120) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يوحنا دونس سكوت
وكانت نتيجة ما أثير حول فلسفة توما أن انقسم الفلاسفة من بعده الى فريقين التوماوية ومعظمهم من الدومينكان، واتباع بونافنتورا ومعظمهم من (117) Eyre: op. cit. p.p. 835-836. (118) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الغربية ص 223 . (119) Cam Med Hist. vol. 5, p. 822. (120) Brehier: op. cit. p.p. 341-343. (185) الفرانسسكان (121) . وكان أبرز الفلاسفة عند نهاية القرن الثالث عشر من الفريق الأخير , هو يوحنا دونس سكوت (1266- 1308 ) Johannes Duns Scouts الذى يشبه القديس توما فى تمسكه بنظرية أرسطو فى المعرفة , ولكنه كان أوغسطينيا ينتمى الى بونافنتورا لذلك حاول ان يرفع من شأن اللاهوت , ويجعل منه علما يهدف الى تدبير افعالنا اكثر منه الى تعريفنا حقائق معينة (122) . وبذلك ابتعد يوحنا دونس عن أراء توما الأكوينى , بل قلب نظرية توما فى المعرفة رأسا على عقب بقوله ان الفكر المسيحى يجب ان يصدر فكره عن الايمان وأن يجعل من الوحى محورا لمذهبه – وهكذا يمضى يوحنا سكوت فى تعقب أراء القد يس توما لمعارضتها دون ان يدرك حقيقتها (123) . فهو فى البرهان على وجود الله يبدأ بفكرة مطلق الامكان : وهى الفكرة التى تؤدى بنا الى علة أولى ممكنة , والعلة الأولى الممكنة موجودة ضرورة , وبذلك نصل الى ان الله موجود لامتناه . ومن هنا يستطيع الميتافيزيقى – وموضوعه الوجود من حيث هو كذلك - البرهنة على وجود الله دون الالتجاء الى برهان المحرك الأول الذى قال به القديس توما (124). كذلك يرفض دونس سكوت ما قاله القديس توما فى الصفات الالهية من أن هذه الصفات متمايزا ذهنيا . بل انه يعترف من جهة أخرى بأننا لا نستطيع أن نجعل بين الصفات تمايزا عينيا , فتدخل الكثرة عل الذات الالهية (125) . لذلك يبتدع تمييزا يحسبه وسطا هو " التمييز الفعلى الصورى من جهة الشئ " ؛ ولكن فاته ان التمييز الفعلى من جهة الشئ هو فى الواقع تمييز عينى , فكيف يكون صوريا فى الوقت نفسه (126) ؟ . أما فى الارادة فهو – مثل جميع (121) Eyre: op. cit. p. 836. (122) يوسف كرم : تاريخ الفلسفة الأوربية ص 234 . (123) De Wulf: op. cit. Tome 2, p. 66. (124) Idem, p. 72.
(125) Gilson: op. cit. p.p. 598-599.
(126) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الأوربية ص 229 . (186) الأوغسطينيين – يقدم الارادة على العقل لأنها تأمر العقل وتوجهه (127) ؛ كما يرى فى خلق العالم ان العالم حادث ولايمكن افتراض القدم , وبذلك وضع ما جاء به الوحى من خلق العالم موضع الالزام , وأعطى اللاوجود وجودا سابقا ؛ بعكس ما قال به القديس توما من ارتباط الخليقة بعلتها بغض النظر عن الزمان (128) .
وهكذا يبدو من أراء دونس سكوت أن فلسفته امتازت – على الرغم مما فيها من عناصر انشائية – بطابع عام من النقد والهدم (129) . فغرضه الاساسى كان مناقضة أراء القديس توما من جهة وتوسيع نطاق اللاهوت من حهة آخرى ولكنه فى جميع ذلك لم يحقق أغراضه ولم يوفق فى فلسفته ؛ الأمر الذى حعل منه بداية للانحلال الذى تعرضت له الفلسفة المدرسية, بعد ما بلغته هذه الفلسفة من رقى وتقدم فى القرن الثالث عشر (130) . القرن الرابع عشر – انحلال الفلسفة المدرسية :
اذا كان القرن الثالث عشر يمثل – كما سبق أن ذكرنا – العصر الذهبى للفلسفة المدرسية , عندمت اتجهت هذه الفلسفة نحو التقريب بين العقل والدين ؛ فان الحال اختلف بالنسبة للقرن الرابع عشر (131) . وقد سبق ان رأينا كيف أخذ الاتجاه ضد العقل يقوى منذ أواخر القرن الثالث عشر على يد يوحنا دونس سكوت وكان الغرض من ذلك الاتجاه الرفع من شأن الدين واللاهوت . وقد قضى هذا الاتجاه على جهود مفكرى القرن الثالث عشر , وهدد بالفصل بين العقل والدين , (127) Harris, The Legacy of the middle Ages p. 248. (128) Eyre: op. cit. p. 837. (129) Harris: The Legacy p. 248. (130) Brehier: op. cit. p. 391. (131) De Wulf: op. cit. Tome 2, p. 154. (187) مما جعل القرن الرابع عشر يبدو سلبيا هداما , هذا على الرغم مما شهده هذا القرن من تقدم فى العلوم الطبيعية (132) .
ومن أبرز مفكرى القرن الرابع عشر الذين أخذوا يتشككون فى أهمية العقل ويتمسكون بالدين وأحكامه , وليم الأوكامى ( 1300-1350 ) William of Ockham وهو من فرنسسكان اكسفورد . وكثيرا ممن يعرفون وليم الأوكامى لا يجهلون الركن الأساسى من تفكيره , لأن جون لوك وخلفاءه من الحسيين استمدوا منه نظريته فى المعرفة (133) , وهى النظرية التى تعتبر محور تشكك أوكام فى الفلسفة والعلم . ذلك أنه يرى أن المعرفة العقلية التجريدية واقعة علىمعان مجردة , وهذه المعانى عبارة عن ادراكات غامضة تعبر عن الجزئيات تعبيرا عاما غير مجد (134) . فالألفاظ الدالة عل معان – مثل انسان – تدل على أشياء غير واضحة , فى حين أن الألفاظ الدالة على جزئيات – مثل سقراط – تدل على الأشياء نفسها ولكن بوضوح . وبعبارة أخرى فان الاسم – لا المعنى – هو موضوع العلم , على اساس أن هذا الاسم يرمز الى الجزئيات (135) . ومن هنا سمى مذهب أوكام بالاسمية , واعتبره الاسميون فى القرن الخامس عشر مؤسس مدرستهم (136) . واذا كان بعض النقاد يرى أن أوكام أفسد الفلسفة المدرسية , بعد أن جرد المعنى من قيمته الموضوعية , وأنه تورط فى أغلاط ومغالطات من السهل كشفها بالرجوع الى مؤلفات أرسطو والقديس توما (137) ؛ الا أن البعض الأخر من الباحثين المحدثين يعارضون هذا الحكم على أوكام , ويرون أنه مهتما (132) Eyre: op. cit. p. 838. (133) Ibid. (134) Gilson: op. cit. p.p. 641-642. (135) يوسف كرم: تاريخ الفلسغة الأوربية ص 236-237. (136) برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية ج 2 ص 263. (137) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الأوربية ص 241. (188) بأستعادة الصواب الى فلسفة أرسطو بعد أن ينقيها من مؤثرات أوغسطين والعرب؛ وأن شرح النقاد لأوكام قد افسدته رغبتهم فى ايجاد حالة من التدرج بين الفلسفة المدرسية والفلسفة الحديثة (138).
ومهما يكن من أمر , فان وليم الأوكامى يعتبر أخر أعلام الفلاسفة المدرسيين (139) . وسرعان ما اتضح فى نهاية القرن الرابع عشر أن جميع الظروف مهيأة للانتقال الى مرحلة جديدة فى الفلسفة . ولم تلبث هذه الظروف من ناحية , والحوادث التاريخية التى امتاز بها القرنان الخامس عشر والسادس عشر من ناحية أخرى , أن أدت جميعها الى دخول الفلسفة فى دور أخر عظيم بدآ حوالى سنة 1600 (140).
(138) برتراند رسل : تاريخ الفلسفة الغربية ج 2 ص 263-264 .
(139) Gilson: op. cit. p. 655.
(140) Eyre: op. cit. p. 843.
(189)
الباب السابع: الفكر السياسى والنشاط التشريعي
مميزات الفكر السياسى فى العصور الوسطى
امتاز الفكر السياسى فى أوربا العصور الوسطى بطابعه العالمى . اذ يدور هذا الفكر حول محور رئيسى , هو قيام عالم واحد يمثل فى جانبه الدنيوى تراث الامبراطورية الرومانية وسلطانها , وفى جانبه الروحى تقاليد المسيحية وكنيستها (1) . وبعبارة أخرى فان هذا الفكر قام على اساس وجود امبراطورية وكنيسة ؛ أو أمبراطور وبابا ليرعى الأول الأمور الدنيوية فى حين يرعى الأخر الجوانب الروحية (2) .
فالمفكرون السياسيون فى العصور الوسطى لم يؤمنوا بأن الامبراطورية الرومانية زالت بأنقراض الوثنية , بل اعتبروها قائمة فى ظل المسيحية , كما يبدو ذلك بوضوح فى تفكير دانتى الذى لم يعترف بوجود فجوة بين الامبراطورية الرومانية القديمة وامبراطورية العصور الوسطى ؛ وقال بأن أحداث القرن الخامس لم تؤثر مطلقا فى تطور الامبراطورية الرومانية واستمرارها (3) . حقيقة ان الامبراطورية انتقلت الى الشرق , أو – حسب تعريفه – اتجه النسر شرقا نحو العالم اليونانى البيزنطى se face Greco ؛ ولكن المهم هو أنه ظل محلقا فى الفضاء , مستمرا فى طيرانه دون أن يتوقف . وكان الرومان فى نظر دانتى هم شعب الله المختار المفضل (populo-santo ) , كما انه اعتبر امبراطورية الغرب (1)Bowle: Western Political Thought p. 180. (2) Hearnshaw: The Social and Political Ideas of some Great Med Thinkers, p.12. (3) Cariyle: The Political Theory in the West, vol. 3, p. 170. (190)
-عندما تم احياؤها – وريثة التراث الرومانى القديم (4) . وفى كل هذه الاراء عبر دانتى عن وجهة نظر العصور الوسطى تعبيرا امينا صادقا . مما جعل وجهة النظر هذه تبدو فى صورة محاولة لربط الأراء السياسية المتعلقة بالامبراطورية الرومانية بتعاليم المسيحية الخلقية (5) .
وهكذا ظلت نظرة الغربيين الى العالم طوال العصور الوسطى على أنه مجتمع سياسى دينى , تستند وحدته النهائية الى قوة الله وارادته . وهذا العالم الذى يضم جميع الناس يقوم من أجل هدف مشترك , ويحكم وفق قانون واحد يمثل فى جانبه الدنيوى التقاليد الرومانية , وفى جانبه الروحى تقاليد المسيحية (6) . واذا كان قد حدث خلاف بين المفكرين فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر حول هذه النظرية فان الخلاف لم يكن حول صحتها لأن الجميع أمنوا بها , وأنما كان حول طريقة تطبيقها , وضبط السلطتين الزمنية والروحية داخل نطاق مجتمع واحد هو مجتمع المسيحية السياسى (7) .
وعندما ازدادت الحياة الفكرية عمقا فى العصور الوسطى , أخذ المفكرون يتساءلون عن الأساس الفكرى للمجتمع , وعندئذ توصلوا الى نتائج كان لها أبعد الاثر فى الفكر السياسى . والواقع أنهم لم يكونوا مبتكرين فى النتائج التى توصلوا اليها , لآنهم نادوا بما سبق ان قال به أرسطو من أن سبب قيام المجتمع هو أن الانسان اجتماعى بالطبع (8) , وبعبارة أخرى فان مفكرى العصور الوسطى اتبعوا قول أستاذهم أرسطو فى أن الفرد لا يمكن أن يستسيغ الحياة الانفرادية بعيدا عن (4) Bowel: western Political Thought; p. 235. (5) Eyre: op. cit. p. 278. (6) Hearnshaw: The Social and Political Ideas; p. 12. (7) Gierke: Political Theories of the middle Ages p.p. 9-10. (8) Bowel: op. cit. p. 62. (191) بنى جنسه , لأنه فى هذه الحالة أما أن يكون حيوانا دون مستوى البشر أو ملاكا أسمى من مستوى البشر (9) . وهكذا قال القديس أوغسطين أن الطبيعة الانسانية اجتماعية , كما تمسك بقية مفكرى العصور الوسطى بان الأساس الأول للمجتمع هو طبيعة الانسان نفسها . وقد وضعوا هذه القاعدة فى قالب عملى , فقالوا ان الغرض من النظم الاجتماعية هو تنفيذ القانون الطبيعى . ومن هذا يبدو أن النظرية السياسية قامت فى اوربا العصور الوسطى على اساس تصور قانون طبيعى ودولة طبيعية (10) .
على أن لفظ " الطبيعة " استخدم فى الفكر السياسى للدلالة على معان متناقضة مختلطة . فهذا اللفظ استخدم فى أول الأمر للتعبير عن الأوضاع البدائية, ومن ثم أصبحت الحالة الطبيعية يقصد بها أما حالة الكمال التى تمتاز بالبساطة والبعد عن التعقيد , او حالة الهمجية الأولى وعدم النظام . هذا فضلا عن استخدام لفظ " الطبيعى" فى الفكر السياسى بمعنى السوى او العادى , وعلى ذلك فان طبيعة الانسان لا تتمثل فى حالته البدائية وأنما فى الحالة التى يصير عليها اذا تم نضجه (11) . وتبعا لوجهة النظر هذه , لا يكون هناك مبرر لربط " الحالة الطبيعية " بالزمن , وأنما هى حالة مثالية يجب أن يجاهد الانسان فى سبيل الوصول اليها . واذا كان الآمر كذلك فان القانون الطبيعى يصبح فى هذه الحالة مجموعة مبادئ من السلوك الطيب التى يتحلى بها البشر – من الجانب المثالى - لتصبح هذه المبادئ أساس الأخلاق . وهذا المعنى الأخير " للطبيعة " هو المعنى نفسه الذى قصده جمهرة المفكرين بوحه عام فى العصور الوسطى ؛ فهم عندما يتحدثون عن " قانون الطبيعة " انما يقصدون مجموعة ضخمة من المبادئ الخلقية التى يجب أن يتحلى بها الانسان ليصل الى مرتبة الكمال البشرى (12) . (9) Poole: Med Thought p. 214. (10) Eyre: op. cit. p. 279.
(11) Jacob: The Legacy of the middle Ages p. 510.
(12) Gierke: op. cit. p.p. 74-75. (192) ويتبع ذلك أن المجتمع الذى يقوم على اساس القانون الطبيعى كان به – عند هؤلاء المفكرين – هدف خلقى محدود . ومن الواضح أن مفكرى العصور الوسطى استمدوا هذه الأفكار من أراء الرواقيين من جهة ومشرعى الرومان فى أواخر عصور الحضارة القديمة من جهة أخرى (13) . وقد أدت جميع هذه الآراء الى الأعتراف بالقانون الطبيعى الذى يشمل مبادئ الأخلاق المتفق عليها فى جميع أنحاء العالم المتحضر , والملائمة لجميع البشر , وبذلك تختلف عن القوانين الوضعية المحلية الخاصة بامم معينة , وتسمو عليها (14) .
على أن هناك ظاهرة كان لها أثر كبير فى الفكر السياسى فى العصور الوسطى , تتمثل فى التباين الذى أثير بين القانون الطبيعى والقانون الوضعى . وبعبارة أخرى فانه كان لابد من التفرقة بين القوانين والنظم التى قامت على اساس الطبيعة , وتلك التى قامت على اساس العرف والتقاليد (15) . فالأولى لها قيمة خلقية جوهرية جديرة بالأهمية , فى حين كانت الأخرى لا تقوم الا على أساس الممارسات والتجارب , ولذا فانها ربما ادت الى غرض نافع فى بعض الحالات , ولكن ينقصها الطابع الخلقى الشامل الذى يميز القانون الطبيعى . وقد عبر مفكرو العصور الوسطى عن هذا التباين تعبيرا لاهوتيا . فقال القديس خريسستوم ( فم الذهب ) " عندما أتحدث عن الطبيعة فأنا أعنى الله , لأنه هو الذى أبدع العالم " (16) . وهكذا اتضح للمفكرين أن هناك فجوة واسعة بين الحالة المثالية للانسان كما تصورها الطبيعة , وبين النظم السياسية القائمة فعلا على أساس القوانين الوضعية ؛ لأنه بدا من المستحيل التوفيق بين عادات الانسان وقوانينه الضرورية, وبين الفكر الالهى الذى نبت منه القانون الطبيعى . ففى ظل القانون الطبيعى ألا (13) Bowel: op. cit. p.p. 82-84. (14) Carlyle: op. cit. vol. 1, p.p. 5-6. (15) Gierke: op. cit. p.p. 76-78. (16) Eyre: op. cit. p.p. 280-281. (193) تكون هناك حكومة , ولاحكام أو محكومون , لأن جميع الناس أحرار وسواسية ؛ وبالتالى لا ينبغى أن يكون هناك عبيد أو رقيق , ولايصح أن يبقى أى أثر للملكية الفردية , لأن الناس الأحرار المتساويين لهم أن يتمتعوا بكل ما خلقه الله لهم على قدم المساواة .
ولكن من الواضح أن تطبيق هذه الآراء يؤدى الى حالة من الفوضى والاضطراب , لأن المجتمع لا يمكن أن يستغنى عن حكومة أو ملكية فردية , كما أن عنصر الرق كان ركنا أساسيا فى بناء المجتمع الأوربى فى العصور الوسطى (17) . لذلك أتى المفكرون السياسيون بنظرية تردى الانسان وسقوطه , فقالوا أنه كان من الممكن أن يكتفى المجتمع بهذه المبادئ الأساسية من القانون الطبيعى وذلك قبل أن يضل الانسان سواء السبيل . أما وقد سقط الانسان وتردى فى الخطيئة , فقد غدا من الضرورى وجود قوانين وضعية تتمشى مع الوضع الجديد الذى تردى فيه الانسان (18) . وعلى هذا الاساس نظر المفكرون فى العصور الوسطى الى القوانين الوضعية على انه ينقصها السمو والكمال الذين يتصف بهما القانون الطبيعى ؛ ومع ذلك فانه لابد من هذه القوانين الوضعية لوقف الشرور وعلاج المثالب التى لازمت الانسان منذ أن تردى فى الخطيئة (19) .
وهنا نعود فنؤكد أن هذه التفرقة بين القانون الطبيعى والقوانين الوضعية أنما هى فى الواقع اقرار للفكرة الكلاسيكية , ولكن فى صيغة لاهوتية . وقد عبر عن هذه الفكرة فى القرن السابع القديس ايسيدور (560-636 ) حين قال " أن جميع القوانين اما الهية أو بشرية , فالقوانين الالهية تعتمد على الطبيعة فى حين تعتمد البشرية على العرف وبالتالى فان هذه القوانين الأخيرة يختلف بعضها عن بعض (17) Hearnshaw: The Social and Political Ideas p. 18. (18) Carlyle: op. cit. vol. 1, p.p. 144-146. (19) Eyre: op. cit. p. 281.
(194)
لأنها تتباين بتباين الأمم " (20) . أما فى القرن الثانى عشر فقد كتب جراشيان قائلا " هناك قوتان تحكمان البشر , هما قوة القانون الطبيعى وقوة العادة والتقاليد والقانون الطبيعى هو ما نصت عليه التشريعات السماوية والانجيل , من أنه يتعين على كل انسان أن يسلك تجاه غيره المسلك نفسه الذى يرتضيه لنفسه " (21) .
وخلاصة القول ان مفكرى العصور الوسطى بدءوا تفسيرهم الفكرى للنظم الاجتماعية والسياسية على اساس ثلاثة مبادئ وضعوها نصب أعينهم دائما : الأول : هو تصورهم للقانون الطبيعى على انه يعبر عن اقصى حالات السمو البشرى , وان هذا القانون مستمد من الفكر الالهى ليكون مصدرا للأخلاق . والثانى : هو الاعتقاد بان القوانين الوضعية ونظم الدول العلمانية قامت من وجهة النظر المثالية على اساس القانون الطبيعى , ولكنها تختلف اختلافا جوهريا عن القانون الطبيعى فى تباينها بين مكان وآخر , وفى انها راعت العادات والتقاليد التى جاءت نتيجة حتمية للحد من أثام الانسان (22) . والثالث : هو وجود فرق واضح ثابت بين القانون الطبيعى والقوانين الوضعية , كما ظهر ذلك بجلاء فى جميع المناقشات والبحوث التى دارت حول النظم السياسية . وعما اذا كانت هذه النظم طبيعية تتفق مع المبادئ العامة للأخلاق أو عرفية جاءت نتيجة لخطأ الانسان وكوسيلة لعلاج هذا الخطأ واقرار الأمن والسلام (23).
وفى ضوء هذا التباين بين القانون الطبيعى والقوانين الوضعية , عالج مفكرو العصور الوسطى ثلاث مشاكل كبرى هى الرق والملكية والدولة.
(20) Carlyle: op. cit. vol. 1, p.p. 106-108. (21) Taylor: op. cit. vol. 2, p.p. 297-298. (22) Eyre: op. cit. p. 281. (23) Idem p. 282.
(195)
الرق
أما مسالة الرق فتمثل لغزا عسرا فى الفكر السياسى منذ أيام اليونان القدامى , عندما نوقشت هذه المسألة فى ضوء الفروق التى سبق أن أشرنا اليها . وقد وصل أرسطو الى نتيجة هامة بخصوص الرق , فقال انه أمر طبيعى , لأن بعض الناس يصلحون بفضل طبيعتهم لأن يكونوا رقيقا ولا شئ غير ذلك (24) . أما مفكرو العصور الوسطى – وقد سبقهم فى ذلك الرواقيون الى حد ما – فاتخذوا رأيا فى الرق معارضا لرأى أرسطو على طول الخط . ذلك انهم نظروا الى المسالة من وجهة نظر تعاليم المسيحية , التى تقول بأن الناس جميعا متساوون أمام الله وان روح الرقيق تعادل تماما فى أهميتها روح السيد الحر (25) . على اننا نجد من ناحية أخرى أن الرق ظل قائما – فى صورة أو أخرى – فى اوربا العصور الوسطى ؛ ومع ان المفكرين رفضوا الاعتراف بأنه وضع طبيعى الا انهم التمسوا له مبررا عرفيا فى بعض الحالات. وهكذا نظر هؤلاء المفكرين الى الرق على أنه ظهر نتيجة الخطيئة والشر , ولكنهم اعتبروه نظاما تقليديا لابد منه لوقف بعض الاتجاهات الأثمة فى المجتمع البشرى (26) . فالعصور الوسطى لم تحكم على الرق مطلقا بالبطلان او عدم الصلاحية , ولكنها انكرت وجود " الرق الطبيعى " وتمسكت بانه يجب على السيد ان يسلك دائما مسلكا طيبا تجاه ما يتملكه من رقيق (27) . وبعبارة أخرى فان العصور الوسطى اعتبرت الرق مسالة عادة وعرف لابد منهما لتصريف أمور المجتمع , مع الاعتراف بعدم سلامة هذا الوضع .
(24) Carlyle: op. cit. vol. 1, p. 7. (25) Cam Med Hist. vol. 6. P.p. 613-614. (26) Poole: Med Thought p. 214. (27) Carlyle: op. cit. vol. 1, p. 123. (196)
الملكية الفردية
أما المسألة السياسية الثانية التى عالجها مفكرو العصور الوسطى فى ضوء الخلاف بين القانون الطبيعى والقوانين الوضعية فهى مسالة الملكية . وفى هذه المسالة أيضا ورثت العصور الوسطى وجهة النظر القديمة التى قال بها الرواقيون والتى نادت بأن القانون الطبيعى لا يعترف بالملكية الفردية . فجميع الأشياء – من الناحية المثالية – يمتلكها جميع الناس من أجل منفعتهم المشتركة العامة (28) . ولكن فلاسفة العصور الوسطى ومشرعيها كان عليهم – كما هو الحال فى مسألة الرق – أن يواجهوا حقائق الحياة القائمة ومطالبها العملية ؛ ومن هنا اعترفوا بقيام الملكية الفردية فى كل مكان على أساس أن القوانين الوضعية تبرر بقاءها .
وقد اتخذت مشكلة الملكية قالبا هاما فى ظل المسيحية ؛ نتيجة للطابع الروحى الذى امتاز به الدين السماوى الجديد (29) . وهنا اكتشف بعض الكتاب فى أوائل العصر المسيحى آثارا لنظرية الاشتراكية المتطرفة فى الانجيل (30) . ولكن مفكرى العصور الوسطى لم يأخذوا مطلقا بهذه النظرية , وأنما حكموا التباين بين الطبيعة والعرف ؛ فقالوا أن جميع الممتلكات وفقا للقانون الطبيعى – وهو القانون الالهى – تعتبر ملكا لله وهبها عباده جميعا للانتفاع بها (31) . ولكن عندما تردى الانسان فى الخطيئة , أدى حرصه وبخله الى استحالة بقاء هذا الوضع الخاص بشيوع الملكية , ومن ثم غدت الملكية الفردية أمرا ضروريا لمواجهة جشع (28) Gierke: op. cit. p. 80 & Carlyle: op. cit. vol. 1, p.p. 43-44. (29) Eyre: op. cit. p. 283. (30) " وجميع الذين أمنوا كانوا معا . وكان عندهم كل شئ مشتركا ؛ والاملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع كما يكون لكل واحد احتياج ." ( العهد الجديد – سفر أعمال الرسل ,الاصحاح الثانى ؛ 44-45 ) . (31) Cam Med Hist. vol. 6, p. 614. (197) الانسان من ناحية ولضبط هذا الجانب غير الطيب من تصرفاته وسلوكه من ناحية أخرى (32) . وعلى ذلك فان الملكية الفردية جاءت نتيجة للعرف , واعتمدت فى بقائها على القوانين الوضعية . وعلى الرغم من انها لا تمت الى النظم الطبيعية أو الى التشريعات السماوية بصلة ؛ فانه يجب احترامها كعلاج للخطأ الذى تردى فيه الانسان .
وكان لنظرية الملكية الفردية هذه – مع ما اتصفت به من طابع نظرى – نتائج عملية هامة ميزت وجهة نظر العصور الوسطى , عن غيرها من وجهات النظر التى عالجت هذه النظرية منذعصر الفليسوفلوك ( 1632-1704 ) . فنظرية العصور الوسطى فى الملكية اعتمدت قبل كل شئ على القوانين البشرية الوضعية؛ وعلى ذلك فان ما يعطيه القانون الوضعى للانسان يمكن أن يسترده القانون نفسه دون أن يكون فى ذلك مسا بالعدالة (33) . لذلك قال مفكرو العصور الوسطى بأن الفرد ليس له الحق فى التمسك بملكية خاصة قبل الحكومة الزمنية التىيعيش فى ظلها . كذلك قال مفكرو العصور الوسطى بأنه لما كان المبررالرئيسى لقيام الملكية الفردية هو أن هذه الملكية جاءت وليدة الخطيئة البشرية حتى صار بقاؤها ضروريا لعلاج هذه الخطيئة ومقاومة الجشع الانسانى ؛ فان هذه الملكية يجب الا تستخدم الا داخل نطاق الغرض من قيامها . وهنا يقرر القديس أوغسطين بأن الفرد الذى لا يحسن استخدام أملاكه يفقد حقه فى الاحتفاظ بهذه الأملاك (34) . وبناء على هذه الأراء السابقه لم يعترف مفكرو العصور الوسطى بمبدأ الملكية المطلقة بالمعنى الحديث الذى نفهمه . فالقديس توما الاكوينى يقول ان الملكية الفردية ليس معناها امتلاك الأشياء وحيازتها فحسب , بل أيضا حسن استخدام هذه الممتلكات والتصرف فيها . فالفرد ليس له حق الا فى امتلاك الضروريات
(32) Carlyle: op. cit. vol. 2, p.p. 137-138. (33) Eyre: op. cit. p. 283. (34) Carlyle: op. cit. vol. 1, p.p. 140-142. (198) التى يحتاج اليها , وكل ما عدا ذلك يجب أن يكرسه للصالح العام . ومعنى ذلك أن دفع الصدقات لم يكن ضربا من الاحسان فى نظر مفكرى الغرب فى العصور الوسطى , وانما كان فرضا حقا على القادرين (35) .
وخلاصة القول ان الفارق بين النظرية الحديثه ونظرية العصور الوسطى فى الملكية , هو أنه فى حين نميل نحن الى الاعتقاد بأن الملكية الفردية تخول لنا حقا مطلقا على الأسياء المملوكة ؛ اذا بوجهة نظر العصور الوسطى تتجه نحو اعتبار الملكية الفردية نوعا من الأمانة أو العهدة التى حصل عليها الفرد بتخويل من العرف .
الدولة
أما المسألة السياسية الثالثة التى عالجها مفكرو العصور الوسطى فى ضوء الاعتبارات السابقة , وبخاصة التفرقة بين القانون الطبيعى والقوانين الوضعية , فكانت مشكلة قيام الدولة العلمانية أو الوحدة السياسية . وقد بلغت هذه المشكلة درجة كبيرة من الخطورة فى أوائل العصور الوسطى , عندما كان يخشى أن يستغل بعض دعاة المسيحية تعاليم الدين الجديد فى اتجاه غير اجتماعى (36) . وعلى الرغم من أن هذه الخطوة لم تتم , الا انها تركت أثرا واضحا فى الفكر السياسى للعصور الوسطى ؛ بل انها ظهرت جلية فى كتاب " مدينة الله Civitas Dei" للقديس أوغسطين , وهو الكتاب الذى فاق أثره أى كتاب آخر فى سياسة العصور الوسطى (37) .
وتتمثل الفكرة الأساسية التى يدور حولها هذا الكتاب فى المقارنة بين مدينة
(35) Eyre: op. cit. p. 284.
(36) Gierke: op. cit. p.p. 2-4. (37) Poole: Medieval Thought p. 43. (199) الله – وهى التى تضم مجموعة المؤمنين الأبرار من عباد الله – ومدينة الأرض (Civitas Terrana ) (38) . وهنا نشير الى أن الخلاف مازال قائما حول ما يقصده القديس أوغسطين بمدينة الأرض , وعما اذا كان المقصود بهذه المدينة الامبراطورية الرومانية فى العصر الوثنى بالذات أو غيرها (39) . ولكن الثابت هو أنه يقصد بوجه عام ما يمكن أن نسميه الوحدة السياسية أو الدولة , التى يصر القديس أوغسطين فى أكثر من موضع على وصفها بأنها تمثل روح الشر والاثم (40) . ذلك أن " مدينة الأرض " نشأت من شهوة الانسان ورغبته الجامحة فى السيطرة والتحكم ( Libido dominants ) , كما أن بقاءها مبنى على أسس من سفك الدماء والحرب والسلب والعنف .
ولم يكن القديس أوغسطين وحده هو الذى عبر عن هذا الشعور العدائى نحو الوحدة السياسية أو الدولة فى العصور الوسطى , اذ لم يلبث البابا جريجورى السابع بعد ذلك بستة قرون أن أظهر هذا الشعور نفسه واخذ يتساءل " من منا يجهل أن الملوك والحكام استمدوا وجودهم وسلطانهم من أناس لا يعرفون الله , وانهم يستجيبون لاغراء الشيطان , فيحكمون شهوتهم العمياء فى السيطرة على اخوانهم من البشر ! " كذلك نجد هذا الرأى نفسه يردده بعد ذلك البابا الوسنت الثالث . ثم ظهر فى المرسوم البابوى الشهير الذى اصدره البابا بونيفيس الثامن سنة 1302 (41) .
ومع أن هذا الحكم الجائر على الدولة العلمانية ترك أثرا واضحا فى الفكر السياسى للعصور الوسطى , الا أننا لا يصح أن نتخذه نموذجا لتعاليم تلك العصور (38) Cam. Med. Hist. vol. 6, p. 607. (39) Hearnshaw: Some Great Political Idealists of the Christian era. P.p. 17-18. (40) Jacob: The Legacy of the middle Ages p.p. 512-513. (41) Eyre: op cit. p. 285. (200) لأن الكتاب أنفسهم الذين تطرفوا فى وجهة النظر السابقة , لم ينكروا فى بعض المواضع مبررات قيام الدولة (42) . ذلك أن مفكرى العصور الوسطى بوجه عام اعتبروا الوحدة السياسية وليدة الأثم , ولكنهم لم يقروا بأن الدولة أثمة على طول الخط . وهنا نجدهم مرة أخرى يستغلون الفرق بين النظام الطبيعى والنظم الوضعية , فقالوا ان القانون الطبيعى يقضى بالمساواة التامة بين جميع الناس أمام الله . وأنه ليس لفرد – بحكم الطبيعة – أن يدعى السيطرة على اقرانه من البشر (43) . ولكن نتج عن الخطيئة التى تردى فيها الانسان أن ظهرت فى الدنيا نزعة نحو العنف والعدوان ورغبة فى السيطرة , الأمر الذى أدى الى تحكم بعض الناس فى غيرهم . على أن هذا لم يكن – فى نظر مفكرى العصور الوسطى – الا جانبا واحدا من المشكلة . ذلك أن الحكومة العلمانية – على الرغم من التسليم بأنها جاءت وليدة الأثم – أصبح بقاؤها ضروريا لعلاج الشرور التى فاضت بها الحياة الدنيا (44) .
فالحكومة الدنيوية اذا جاءت عن طريق الخطأ , ولكنها غدت العلاج الالهى للأخطاء البشرية , ومن ثم وجب احترامها وطاعتها (45) . ويبدو هذا الرأى واضحا فى كتاب دانتى عن الملكية (De Monarchial ) فهو يسلم بأن الحكومة الدنيوية آثمة فى تكوينها ونشأتها , ولكنه يعترف بأن السلام لايمكن أن يسود الحياة العملية الا بقيام سلطة قاهرة تمنع العنف وتقر العدالة (46) . (42) Hearn haw: The Social and Political Ideas. P. 20. (43) Carlyle: op. cit. vol. 1, p.p. 126-128. (44) Idem p. 130. (45) Idem vol. 2, p.p. 146-147. (46) Hearnshaw: The Social and Political Ideas, p. 126 & Bowel: op. cit. p.p. 233-
236.
(201)
وخلاصة القول , أن الرأى السائد فى العصور الوسطى بخصوص هذا الموضوع هو أن الدولة العلمانية نبتت أصولها من أوضاع أثمة , لأنها لا تقوم على أساس المساواة الطبيعية بين الناس ؛ ولكن بقاء هذه الدولة أمر ضرورى لعلاج ما تفيض به الحياة البشرية من آثام . والدولة فى علاجها لهذه الأثام تعتمد على الله ولذلك يجب أن تحظى بالاحترام والطاعة من جميع المسيحيين المخلصين (47) .
# # # #
وقد ظهر أثر المبادئ والأراء السابقة بوضوح فى تطور الفكر السياسى فى غرب أوربا فى العصور الوسطى . من ذلك ان القول بأن الحكومة الزمنية – مع كونها غير طبيعية – الا ان لها وظيفة دينية مقدسة فى علاج الآثام والشرور ، هذا القول ادى مباشرة الى نظرية حق الملوك الالهى أو المقدس (48) . حقيقة ان هناك عوامل أخرى كثيرة أسهمت فى بناء هذه النظرية ونموها ، لاسيما قول الفريق الامبراطورى – أثناء النزاع مع البابوية – بأن " الامبراطور يستمد سلطته من الله مباشرة " ولكن الفكرة التى قامت عليها نظرية حق الملوك الالهى تكمن بوجه عام فى رأى العصور الوسطى فى الدولة الزمنية . فالعصور الوسطى نظرت دائما الى الحاكم العلمانى على أنه أداة الله فى القضاء على العنف والشر (49) .
على أنه اذا كانت العصور الوسطى قد قالت بأن الحاكم العلمانى – سواء كان ملكا أو امبراطور – يتقلد منصبه بمقتضى حق الهى ، الا ان هذه العصور لم تقر مطلقا مبدأ عدم مسئولية الحكام العلمانيين عن افعالهم ، لأن هذا المبدأ لم يكن الا (47) Eyre: op. cit. p. 286. (48) Hearnshaw: The Social and Political Idea, p. 21. (49) Gierke: op. cit. p.p. 30-32.
(202)
فكرة قديمة أحياها ملوك القرن السابع عشر (50) . والواقع أن التنكر لمبدأ عدم مسئولية الحكام العلمانيين يعتبر تطبيقا جديدا انظرية العصور الوسطى عن الحكومة الدنيوية (51) . فمفكروا العصور الوسطى اعتبروا الملكية – وما يرتبط بها من حكومة زمنية – ليست الا وظيفة وآمانة ، وأنه يتحتم على صاحب هذه الوظيفة الوفاء بالتزامات ثابتة معينة (52) . وقد أدت هذه النظرية فى النهاية الى القول بانه لما كانت الدولة العلمانية وحاكمها قد جاءا نتيجة للاثم وعلاجا له ، فان الحكمة من بقائهما أصبحت رعاية مصالح الأفراد الذين تألفت منهم هذه الدولة ، وليس للحاكم أن يفرض على هؤلاء الافراد التزامات غير مشروطة (53) . ومن الواضح ان هذه الفكرة – التى تختلف عن كثير من النظريات السياسية القديمة والحديثة ازاء الدولة – تمثل رأيا خطيرا على جانب كبير من الأهمية . ذلك انها تحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم فى ضوء مجموعه من الحقوق والواجبات المتبادلة (54). وهنا يلخص القديس توما الأكوينى أهم مظهر للنظرية السياسية فى العصور الوسطى فيقول " ان المملكة ليست ملكا للملك ، وانما الملك ملك للمملكة " . Regnum non est. propter regime sed Rex Propter regnum
ويفسر ذلك بأن الله اقام ملوك الأرض لا لتحقيق مكاسبهم الخاصة ، وانما لتحقيق الصالح العام . ثم يضيف القديس توما الى ماسبق ، قوله بأن القانون المدنى يجب أن يستهدف الصالح العام ، والا فقد صفته الالزامية كقانون (55). (50)Eyre: op. cit. p. 286. (51) Cam. Med. Hist. vol. 8, p. 642. (52) Gierke: op. cit. p. 34. (53) Cam. Med. Hist. vol. 8, p. 642. (54) Gierke: op. cit. p. 34. (55) Hearnshaw: The Social and Political Ideas, p. 96 & Bowle: op. cit. p. 208. (203)
بل ان بعض مفكرى العصور الوسطى لم يترددوا فى نقد نظرية الملكية المطلقة فحنا السالسبورى يفرق بين الملك والطاغية أو الدكتاتور ، فيقول ان الأول يخضع للقانون فى حين يتجاهله الثانى . ولما كانت الملكية نظاما الهيا مقدسا فأن اساءة استخدام سلطته تعتبر خيانة فى حق الله ؛ وهنا يوصى حنا السالسبورى باستخدام السيف لمعاقبة الملك المستبد على هذه الخيانة . كذلك يقرر أن قتل الطاغية فى هذه الحالة ليس أمرا مسموحا به فحسب ، بل يعتبر هذا الاجراء " حقا وعدالة aequum et justum " (56) .
والواقع ان الطغاة المستبدين احتلوا أسفل درك فى التفكير السياسى فى العصور الوسطى ، حتى أن دانتى افرد لهم فى الجحيم نهرا خاصا يغلى بالدماء يعذبون فيه أما القديس توما الأكوينى فقد أصر دائما على ان مقاومة الطاغى ليست حقا للمحكومين بل واجبا عليهم (57) . وهكذا يبدو أن العصور الوسطى فى غرب أوربا لم تقر مطلقا فكرة عدم مسئولية الحكام ، كما قالت بأن التعسف يضيع حقوق الحكام ، لأن القانون الطبيعى يجب أن يظل فوق الدولة وقوانينها الوضعية. وهذه الأراء هى التى تمثل فى مجموعها فكرة العصور الوسطى عن الحرية (58).
ومن الواضح أن القول بأن سلطة الملك يجب أن تقوم على أساس مراعاة الصالح العام لرعاياه ، وأن لهؤلاء الرعايا الحق فى عصيان الملك اذا أخل بالمبادئ التى تبرر قيامه فى منصبه ؛ هذه الآراء لا يفصل بينها وبين مبدأ سيادة الشعب سوى خطوة قصيرة . هذا الى مبدأ المساواة الطبيعية بين الناس أمام الله ، يحمل فى طياته كثيرا من دلائل الديمقراطية ومبادئها (59) . ويتضح هذا الرأى (56) Carlyle: op. cit. vol. 3, p.p. 143-145. (57) Pool: Med. Thought p.p. 210-216. (58) Eyre: op. cit. p. 287. (59) Gierke: op. cit. p.p. 37-38.
(204)
فى ضوء التاكيدات الكثيرة التى صدرت عن مفكرى العصور الوسطى بأن الملك خاضع للقوانين المطبقة على الجماعة التى يحكمها ، أو كما قال القديس أمبروز ان الملك ليس فوق القانون وأنما هو مقيد بقوانينه (60) . وفى القرن الثانى عشر فرق حنا السالسبورى بين الملك والطاغية على هذا الأساس (61) ، كما تبنى هذه الفكرة المشرعون الاقطاعيون فى القرن الثالث عشر ، مثل بومانورا Beaumanoir الذى قال بأن ملك فرنسا مقيد بتقاليد شعبه (62) . ومثل حنا الأبلينى Jean d’Ibelin الذى أكد هذا المبدأ نفسه فى دستوره الخاص بمملكة بيت المقدس اللاتينية ، ومثل المشرع الانجليزى براكتون Brocton الذى عبر عن الفكرة السابقة فى قالب تهكمى لطيف فقال بأن الملك " لا يصح أن يكون دون اى شئ آخر ، عدا الله والقانون " ! (63) . فمفكروا العصور الوسطى اعتبروا السلطة هبة من الله وهبها عباده ، وهؤلاء الأخيرون أنابوا عنهم ملكا لمباشرة هذه السلطة ؛ لذلك تجب عليهم طاعة الملك مادام يباشر سلطاته على الوجه السليم . ومن هذه الفكرة نستطيع ان نتلمس جذور نظرية العقد الاجتماعى التى نادى بها بعض المفكرين الأوربيين فيما بعد (64) . بل ان هذه النظرية ظهرت واضحة فى القرن الثانى عشر فى مؤلفات مانجولد Mane gold الذى استخدم فعلا لفظ " عقد partum " فى تفسير العلاقة بين الحكام والمحكومين (65).
ومهما يكن الأمر ، فان فكرة تحديد سلطة الحكومة من جهة وفكرة المساواة
(60) Carlyle: op. cit. vol. 1, p.p. 163-164. (61) Hearnshaw: The Social and Political Ideas p. 78. (62) Bowle: op. cit. p. 185. (63) Eyre: op. cit. p. 288. (64) Gierke: op. cit. p. 88. (65) Carlyle: op. cit. vol. 3, p.p. 166-169. (205) الأصلية الطبيعية بين جميع الأفراد والطوائف من جهة أخرى ، هما بلاشك أهم ما تمخض عنه الفكر السياسى فى أوربا العصور الوسطى .
القانون الروماني
فاذا انتقلنا الى دراسة القانون الرومانى ، فاننا نجد انفسنا أيضا مضطرين الى الرجوع الى العصر الرومانى نفسه ، لنتتبع جذور النشاط التشريعى فى أوربا العصور الوسطى (66) . ذلك أن القانون الأساسى للجمهورية الرومانية كان عبارة عن نظام تقليدى خاص بالمواطنين الرومان الذين يتمتعون بالجنسية الرومانية وحدهم . ولكن عندما صارت روما عاصمة لعالم البحر المتوسط ، اضطرت المحاكم الرومانية الى أن تكمل القانون المدنى الخاص بالمواطنين الرومان (ius-civile ) بقانون آخر عام أكثر شمولا ومرونة ، ولايختص بالمواطنين الرومان وحدهم (ius gentium ) (67). وقد روعى فى هذا القانون الأخير أن يتناول العلاقات بين أهالى جميع بلاد الامبراطورية ؛ ومن ثم احتوى كثيرا من التشريعات والنصوص القانونيية الهامة التى تشمل الحجج والشركات والزواج والوراثة وغيرها . ولما كان هذا القانون العام اوسع افقا واكثر شمولا من قانون المواطنين الأول ، فانه أخذ يؤثر فيه تاثيرا سريعا . وسرعان ما تداخل القانونان بعضهما فى بعض نتيجة للتوسع فى منح الجنسية الرومانية لأهالى الولايات الرومانية من ناحية ، ولأنتشار آراء الرواقيين ذات الصبغة العالمية من ناحية أخرى (68) . والمعروف أن الفلسفة الرواقية نادت بأن توجيهات العقل تؤلف قانونا طبيعيا (ius natural ) يربط جميع الناس برباط خلقى متين ، وبالتالى يسمو على التشريعات المحلية التى تسنها كل دولة (69) . (66) Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 698. (67) Cam. Med. Hist. vol.5, p. 700 & Stephenson: Med. Hist. p. 13. (68) Eyre: op. cit. p. 41. (69) Idem p.p. 13-14. (206)
وهناك ثمة تطور طرآ على القانون الرومانى عندما حاول دقلديانوس اصلاح مرافق الامبراطورية وانقاذها من الهوة التى انزلقت اليها ، فحعل ارادة الامبراطور – ممثلة فى مراسيمه – هى الارادة العليا التى يجب أن تسمو على جميع ماعداها من تشريعات وقوانين . وهكذا صار القضاة خدام الامبراطور – لا العدالة – فيجب أن يلموا أولا بالأوامر الامبراطورية ويحرصوا على تنفيذها فى أحكامهم ، ثم بعد ذلك يأتى دور التشريعات المدنية وأقوال الفقهاء والمشرعين . ومع ذلك فان هذا التطور لم يقض على قواعد القانون الرومانى الراسخة ، فاستمرت الاجراءات القضائية تسير وفق الأسس السابقة (70) .
وسرعان ما أدت كثرة الأوامر والمراسيم الامبراطورية وتعارضها ، الى نوع من الفوضى فى شئون القضاء والتشريع ، الأمر الذى تطلب جمع المراسيم الامبراطورية الصادرة منذ عهد الامبراطور قسطنطين وتبوبيها ، وهى المجموعة التى تمت فى عهد الامبراطور ثيودسيوس الثانى سنة 438 ونسبت اليه (71) . وكان التشريع العلمى المنظم قد اختفى تقريبا منذ أخذ العالم الرومانى ينحدر فى طريق التدهور ، فسادت أوربا عند مستهل العصور الوسطى قوانين عرفية مستمدة من عادات الشعوب الجرمانية المختلفة التى غزت العالم الرومانى . وسرعان ما تأثر كثير من هذه الشعوب الجرمانية – لا سيما القوط – بمجموعة القوانين الرومانية التى جمعها ثيودسيوس الثانى ، الأمر الذى ساعد على بقاء بصيص من الحضارة الرومانية فى غرب أوربا فى العصور المظلمة التى أعقبت سقوط الامبراطورية الغربية (72) . هذا وان كان من الثابت أن غزوات البرابرة فى القرن الخامس لم تقتلع جذور القانون الرومانى من غاليا وايطاليا وأسبانيا(73) (70) Stephenson: Med. Hist. p. 36. (71) Thompson: op. cit. vol. 1, p. 94. (72) Cam Med. Hist. vol. 2, p.p. 55-56. (73) Meynail: The Legacy of the middle Ages p. 364. (207)
على أن أهم عمل قانونى شهدته أوربا العصور الوسطى ارتبط باسم جستنيان امبراطور الدولة الشرقية (527-565) . والحق أن ما قام به هذا الامبراطور من جمع القانون الرومانى وتبويبه وتنظيمه ، حقق لاسمه الخلود على صفحات التاريخ . وكانت المحاكم الرومانية فى ذلك الوقت – فى القرن السادس – تعتمد على مجموعتين قانونيتين ، مجموعة تشمل الأوامر والتشريعات التى سنها الأباطرة ، وأخرى تشمل كتابات المشرعين والفقهاء من رجال القانون (74) . وكانت أخر محاولة بذلت لجمع تشريعات الأباطرة وتنظيمها هى المحاولة التى انتهت بصدور مجموعة ثيودسيوس الثانى كما سبق . ومع ذلك فان هذه المراسيم الامبراطورية ظلت مفككة متناثرة ، ينقصها الكثير من التنظيم والانسجام ، أما كتابات فقهاء الرومان وأقوالهم فقد أوشكت أن تندثر وتضيع نتيجة لاهمالها وتشتتها وصعوبة الرجوع اليها فى مكان واحد ، الأمر الذى هدد بحرمان الأجيال التالية من أعظم جوانب التراث الفكرى الرومانى (75) . لذلك فكر جستنيان فى جمع مختلف أطراف القوانين والتشريعات السابقة – امبراطورية وغير امبراطورية- مما كان له أثر بالغ فى مستقبل القانون الرومانى بوجه خاص وتاريخ العصور الوسطى بوجه عام (76) .
ولم يكد جستنيان يلى عرش الامبراطورية البيزنطية حتى عين تريبونيان على رأس لجنة من رجال القانون لجمع الدساتير الامبراطورية ونشرها . وكان أن أتمت اللجنة عملها فى أقل من عامين ، وصدرت المجموعة الامبراطورية التى نسبت الى جستنيان (Codex Justinian’s ) (77) . وتشمل هذه المجموعة – التى صدرت سنة 529 – أكثر من أربعة ألاف وستمائة وخمسين مرسوما أو تشريعا (74) Eyre: op. cit. p. 40. (75) Cam. Med. Hist. vol.5, p.p. 702-703. (76) Painter: A Hist. of the middle Ages p. 8. (77) Cam. Med. Hist. vol. 2, p. 59. (208) امبراطوريا ، بعضها اصدره جستنيان والباقى اصدره أسلافه من الأباطرة (78) . ولما كان الامبراطور جستنيان قد استمر فى اصدار كثير من التشريعات والأوامر الامبراطورية بين حين وآخر ، فان هذه الأوامر المستحدثة أطلق عليها اسم المتجددات أو القوانين الجديدة (Novella Constrictions ) (79) . ثم كان أن زاد جستنيان عدد أعضاء اللجنة التشريعية الأولى ، وعهد اليها بمهمة أصعب هى جمع وتبويب تراث المشرعين ورجال القانون الرومان . وأخيرا تمخض هذا المجهود الضخم سنة 533 عن صدور الموسوعة ( Digest ) وهى تجمع خلاصة ما كتبه فقهاء العصر العلمى (130 ق.م – 184 م ) ، وتقع فى خمسين كتابا ، ينقسم كل منها الى فقرات ، على رأس كل فقرة بيان باسم الذى أخذت عنه وعنوان الكتاب وموضوعه (80) . وبذلك حافظت هذه الموسوعة على أسلوب كبار فقهاء العصر العلمى أمثال بولس والبيان وغيرهما (81) . على ان هذه الموسوعة كانت اضخم من ان يستطيع الرجوع اليها طلاب القانون فى سهولة . ولذلك أصدر جستنيان موجزا يسهل على الطلاب استخدامه , وسمى هذا الموجز (القواعد Intuitions ) .
ومن مجموعة الدساتير الامبراطورية والموسوعة وموجز القوانين ، نتج ما عرف باسم "مجموعة القانون المدنى Corpus Juries Civilis " ولسنا فى حاجة الى التدليل على اهمية هذه المجموعة – وبصفة خاصة الموسوعة – التى لولاها لضاعت جهود فقهاء الرومان ، ولأصبح من الصعب بل المستحيل الوقوف على تراثهم القانونى (82) . أما وقد حفظت الموسوعة هذه الدراسات والتشريعات التى (78) Vasiliev: Hist. de I’ Empire Byzantine, Tome 1, p.p. 189-190. (79) Cam. Med. Hist. vol. 2, p. 62. (80) Idem p. 60. (81) Haskins: The Renaissance of the Twelfth Century p.p. 196-197. (82) Vasiliev: op. cit. Tome 1, p. 192. (209) انجبتها عبقرية الرومان ، فقد صار من الممكن استغلالها فى القيام بنهضة قانونية فى اوربا ، متى سمحت الظروف بذلك . ولم يكن من المنتظر ان تشهد أوربا مثل هذه النهضة فى الظروف العسيرة التى مرت بها فى الفترة المظلمة الممتدة حتى القرن الحادى عشر ؛ وان كان من الثابت وجود مدارس قانونية حينئذ فى روما وبافيا ورافنا (83) . ومهما يكن الأمر فان جانبا كبيرا من جوانب النهضة الاوربية التى سطعت فى القرن الثانى عشر يتمثل فى العناية بالدراسات القانونية ، واحياء التشريعات الرومانية التى أمكن الوقوف عليها من مجموعة حستنيان . ومن الثابت أن رائد هذه النهضة القانونية فى القرن الثانى عشر كان ارنريوس الذى تمتع برعاية ماتيلدا أميرة تسكانيا (84) . والذى حعل من مدينة بولونا الايطالية مركزا لمدرسة قانونية عظيمة ناصرت البابوية ونافست مدرسة رافنا ربيبة الامبراطورية (85) . وقد بدا ارنريوس بدراسة مجموعة جستنيان ، ثم اتخذها محورا لتدريس القانون فى بولونا بطريقة منظمة معتمدا فى ذلك على المناقشة والبحث زيادة على الشرح ، مما يعتبر بداية لنهضة قانونية فعلية (86).
ويطلق لقب الشراح (Glossators) على خلفاء ارنريوس لمدة قرن أو أكثر من الزمان . ذلك أنه لم يكد ينتصف القرن الثانى عشر حتى ظهر بعض تلاميذ ارنريوس الذين برزوا فى العلوم القانونية ، مثل بلجاروس ومارتين وهوجو ويعقوب ؛ وهم الذين أطلق عليهم اسم الدكاترة الأربعة . ويبدو من الوثائق المعاصرة أن هؤلاء الأساتذة الأربعة حصلوا على شهرة واسعة كمستشارين للامبراطور فردريك بريروسا فى مجمع رونساجليا Roncaglia سنة 1158 (87) . (83) Vinogradoff: Roman law in Med Europe, p.p. 38-43. (84) Rashdall: op. cit. vol. 1, p. 115. (85) Vinogradoff: op.cit. p. 36. (86) Rashdall: op. cit. vol. 1, p.p. 120-124. (87) Meynail: The Legacy p. 367. (210) أما السبب فى اطلاق اسم "الشراح" على خلفاء ارنريوس من اعلام القانون ، فهو أنهم وجهوا جهودهم نحو شرح القانون وعمل تفسيرات وشروحات (glosses) لمواده (88) . وأمتازات هذه الشروح فى أول الأمر بالايجاز المطلق ، حتى أنها لم تتجاوز كلمات قليلة بين الأسطر ، وفقا للطريقة الشائعة حينئذ فى شرح نصوص الانجيل . ولكن بتعاقب الشراح ازدادت التفسيرات والتعليقات ، حتى خرجت من بين السطور فامتدت الى الهوامش الجانبية ، بل لقد فاقت فى بعض الأحيان حجم النص الأصلى (89) . وأخيرا ضاقت الهوامش عن الشروح والتفسيرات ، فاستلزم الأمر تخصيص كتب خاصة لشرح النصوص القانونية . ومن هذه الكتب ما تناولت كتابا بالتحليل العام – وسمى هذا النوع المجمل Summa ومنها ما اهتم بالمبادئ العامة التى تستقى من كتاب أو نص ، وسمى هذا النوع المبادئ Brocarda (90) .
وهكذا لم تقف جهود شراح بولونا عند حد تهذيب النصوص القديمة وتحديد معانيها ، وأنما تعدت ذلك الى تحليل المواد القانونية وشرحها ، على أساس مناقشتها وتفنيدها فى ضوء الأسلوب المنطقى الذى ازدهر فى القرن الثالث عشر (91) . وقد ساعد على ظهور هذه النهضة القانونية فى الشطر الأخير من العصور الوسطى ازدهار التجارة ، وحاجة النشاط التجارى الى دراية بالأصول القانونية من ناحية ، وتفكك النظام الاقطاعى وقيام الملكيات القوية التى الفت نفسها فى حاجة الى قوانين اوسع افقا من القوانين المحلية من حهة أخرى . هذا كله بالاضافة الى ما كان هناك من نزاع بين البابوية والامبراطور ، وحاجة كل فريق الى دعم مركزه عن طريق الحجج والأسانيد القانونية . ولم يلبث أن امتد (88) Cam. Med. Hist. vol. 2, p.p. 736-737. (89) Vinogradoff: op. cit. p.p. 46-47. (90) Haskins: The Renaissance p. 204. (91) Meynail: The Legacy of the middle Ages p.p. 369-370. (211) الاهتمام بالدراسات القانونية من بولونا وايطاليا الى بقية البلدان الأوربية ، حيث اهتمت الجامعات الناشئة بدراسة القانون اهتماما متفاوت الدرجات حسب الظروف التى أحاطت بكل منها (92).
==== القانون الكنسي ==== وفيما عدا القانون الرومانى ، شهدت العصور الوسطى تقدما كبيرا فى القانون الكنسى ، وهو القانون الدى ترجع مبادئه الأولى الى عصر الامبراطورية (93) . والمقصود بالقانون الكنسى (Canon law ) القانون الدينى الذى أخذت به الكنيسة الغربية ذات النفوذ الواسع فى أوربا العصور الوسطى . فاذا كانت الدولة فى حاجة الى قانون لتنظيم مرافقها المختلفة ، فان الكنيسة الغربية فى العصور الوسطى لم تكن أقل حاجة من الدولة الى قانون خاص بها ؛ لا سيما بعد أن صارت الكنيسة قوة عالمية تجاوزت حدودها كافة الحدود السياسية , وتمتعت بكل ما للدولة من مقومات . ويكفى أن الكنيسة الغربية كان لها رئيسها الأعلى وهو البابا ، ولها اراضيها الواسعة ، ورعاياها من حمهور المسيحيية فى مختلف البلدان الغربية ، كما كانت لها أحكامها وشرائعها ومحاكمها ، بل سجونها (94). وهكذا تمتع رجال الكنيسة بسلطة قضائية واسعة ، وصارت دور القضاء الكنسية تباشرنفوذا واسعا فى غرب اوربا ، فى وقت غدت المحكمة البابوية بمثابة محكمة استئناف عليا ، تستأنف أمامها القضايا من مختلف بلدان غرب اوربا ، وعندئذ يكون مصيرها أما النقض أو الابرام (95) . (92) Vinogradoff: op. cit. p.p. 59-131. (93) Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 705. (94) Haskins: The Renaissance p.p. 213-214. (95) Ullmann: Growth of Papal Government p.p. 359-381. (اوربا العصور الوسطى ) (212)
على أن هذا النشاط القضائى الذىباشرته الكنيسة استلزم وجود عدد كبير من المتخصصين فى احكام القضاء الكنسى من جهة ، كما استلزم تنظيم القانون الكنسى وتبويبه ليسهل الرجوع اليه وتداوله من جهة أخرى . والواقع أنه جاء وقت فى العصور الوسطى صارت القوانين الكنسية تعانى كثيرا من مظاهر الارتباك والتناقض . والمعروف أن القانون الكنسى يستمد أحكامه من الكتاب المقدس وأقوال القديسين ، زيادة على قرارات المجامع الدينية والمراسيم البابوية (96) . وكان لابد من ترتيب هذه المادة وتنظيمها ، ولكن لم تبذل محاولات جدية فى هذا الصدد حتى كان القرن الحادى عشر ، وعندئذ ظهرت محاولات قام بها برخارد أسقف وورمز (Burchard of Worms ) وانسلم أسقف لوكا ( Anselm of Lucca) وايفو Ivo أسقف شارتر (97) . على أنه لا يوجد شك فى أن أهم محاولة شهدتها العصور الوسطى لتنظيم القانون الكنسى كانت تلك التى قام بها جراشيان Gratian فى القرن الثانى عشر ، وهو الذى نجح فى فصل اللاهوت عن القانون الكنسى ثم تنظيم هذا القانون وترتيبه (98) . وقد وضع جراشيان مجموعة للقانون الكنسى نسبت اليه وانقسمت الى ثلاثة أقسام : القسم الأول يتألف من مائة باب وباب تعالج مصادر القانون الكنسى ، والقسم الثانى يشمل نحوا من ستة وثلاثين قضية مختارة مع مناقشة هذه القضايا فى ضوء القانون الكنسى ، وأخيرا يشمل القسم الثالث خمسة أبواب فى العبادة والطقوس الكنسية (99) . وسرعان ما أحرز عمل جراشيان أهمية كبرى حتى جعلته الكنيسة فى مقدمة مجموعة القانون الكنسى Corpus Juries Canonic التى قامت بجمعها . وهنا نلاحظ أن البابوية اختارت لمجموعة القوانين الكنسية اسما مطابقا لاسم مجموعة جستنيان فى القانون المدنى (Corpus Juries Civilize ) مما يدل على ان القانون الكنسى اقتفى أثر القانون (96) Stephenson: Med Hist. p. 340 & Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 706. (97) Eyre: op. cit. p. 275. (98) Gabriel le Bras: The Legacy of the middle Ages, p. 326. (99) Haskins: The Renaissance p. 215. (213)
الرومانى فى تطوره (100) . والواقع أن العلاقة بين القانون الكنسى والقانون المدنى الرومانى كانت قوية واضحة . كما بدت فى ثلاث نواح هامة : أولها أن القانون الرومانى كان مصدرا قويا استقى منه القانون الكنسى ، وثانيها أن القانون الكنسى اقتفى اثر القانون الرومانى فى تطوره وترسم خطاه فى دراسته ، وثالثها أن القانون الكنسى جاء بمثابة رد فعل قوى للقانون الرومانى ، حتى يكون للبابوية سند قوى تستند اليه كما استندت الامبراطورية الى القانون المدنى (101) .
ومن البابوات الذين عنوا عناية فائقة بتنظيم القانون الكنسى وتبويبه البابا اسكندر الثالث (1159-1181) والبابا لوكيوس الثالث (1181-1185) والبابا جريجورى التاسع (1227-1241) (102) . وهكذا تم تنظيم القانون الكنسى ، فأصبح مادة قائمة بذاتها تدرس فى الجامعات الأوربية الناشئة الى جانب القانون الرومانى . هذا الى أن البابوية رأت فى انتشار القانون الكنسى توسيعا لنفوذها وتقوية لسلطانها ، وأدركت أن هذا القانون يجد منافسا خطيرا فى القانون الرومانى – الذى يمجد دائما سلطة الامبراطورية والاباطرة – لذلك لجأت البابوية سنة 1219 الى تحريم دراسة القانون الرومانى على رجال الدين فى جامعة باريس
وخلاصة القول ان العصور الوسطى سهدت نشاطا كبيرا فى ميدان القانون والتشريع ، وهو نشاط أخذ فى الازدياد كلما اقتربت تلك العصور من نهايتها نتيجة لازدياد النشاط السياسى والاجتماعى والاقتصادى فى القارة الاوربية .
(100) Stephenson: op. cit. vol. 1, p. 341.
(101) Rashdall: op. cit. vol. 1, p. 134.
(102) Cam. Med. Hist. vol. 5, p.p. 713-714.
(214)
الباب الثامن: العلوم
ظلت الفكرة سائدة حتى القرن التاسع عشر بأن العلوم – بمعناها البحث الحديث- لم تكن معروفة فى أوربا العصور الوسطى . لكن من الواضح أن هذه الفكرة تحوى كثيرا من الخطأ والمبالغة ، للأن العصور الوسطى بوجه عام عرفت العلوم والدراسات العلمية بنسبة تفاوتت بتفاوت النشاط الفكرى الذى شهدته تلك العصور (1) .
والواقع انه يمكن تقسيم تاريخ العلوم فى العصور الوسطى الى ثلاث مراحل : المرحلة الأولى أو المظلمة وتشمل الفترة بين سنتى 400 – 900 ومهمتها ايصال بعض بقايا تراث الفكر القديم الى العصور التالية ؛ والمرحلة الثانية وتشمل الفترة بين سنتى 900-1200 وهى التى شهدت تدفق العلوم والمعارف العربية على غرب أوربا ؛ وأخيرا تاتى المرحلة الثالثة الممتدة حتى نهاية العصور الوسطى وتمثل عصر ازدهار الدراسات العلمية ، وهو الازدهار الذى أدى الى النهضة العلمية فى العصور الحديثة (2) .
الدور الأول : التطور العلمى فى فجر العصور الوسطى
يبدو ان الجزء الذى وصل الى العصور الوسطى من التراث العلمى للعصور القديمة لم يكن عظيما فى كمه أو موضوعه ، لأن الرومان كانوا قوما عمليين لم يهتموا كثيرا بما خلفه اليونان من تراث علمى ؛ فاكتفوا بمختصرات بحوث اليونان واهملوا أصول هذه البحوث التى ظلت مجهولة فى غرب اوربا حتى القرن (1)Hearnshaw: Med. Contributions to Modern Civilization, p. 106. (2) Idem. P.p. 114-115. (215) الثانى عشر ، عندما عرفها الغربيون عن المسلمين . ومع ذلك فان بعض المختصرات والكتيبات اليونانية حظيت باهمية كبيرة فى غرب أوربا العصور الوسطى ، مثل كتابات جالينوس Galen فى الطب ، وهى الكتابات التى ظلت متداولة حتى عرفت مؤلفاته كاملة فى مدرسة سالرنو فى القرن الحادى عشر ؛ وذلك عن طريق ترجمة هذه المؤلفات عن التراجم العربية التى نقلت عن السريانية او الأصل اليونانى (3) . أما فى الرياضيات ، فقد شغف الرومان بالمساحة والتخطيط ، حتى صرفهم أهتمامهم بهذه الناحية عن الرياضيات البحتة. وقد قام منلاوس السكندرى Menelaus of Alexandria ببعض بحوث قلكية فى روما سنة 98م ، كما ألف بحثا فى حساب الأوتار وآخر فى الأشكال الكروية ، ولكن قدر لهذه البحوث التى وضعها منلاوس أن تظل فى طى النسيان حتى القرن الثانى عشر عندما عرفها غرب اوربا لأول مرة فى العصور الوسطى (4).
ويبدو أن هيمنة الكنيسة واللاهوت على الفكر الغربى فى العصور الوسطى كانت من العوامل الأساسية التى أدت الى عدم ترك مجال للدراسات العلمية ، لأن العقيدة المسيحية –كما قال المعاصرون – تقوم على اساس الايمان فى حين يعتمد العلم على التعقل (5) . ويكفى أن يطلع الفرد على كتابات مفكرى العصور الوسطى – مثل القديس أوغسطين – ليدرك مدى التأخر العلمى الذى كانت عليه بلاد الغرب المسيحية ، هذا الى أن اصرار الكنيسة على توجيه الناس نحو الحياة الباطنية أعمى انظار المعاصرين عن العالم الطبيعى المحيط بهم . فالقديس أوغسطين (354-430) يبدى دهشته من أن الناس يذهبون بتفكيرهم بعيدا للتامل فى ارتفاع الجبال أو دراسة مدارات الكواكب ، ويهملون التأمل فى انفسهم ، بل أن القديس أوغسطين نفسه يهزأ من فكرة كروية الأرض التى عرفها اليونان قبل ذلك بقرون ، ويصرح بأن فكرة اتقاطريين – الذين يحيون فى الجهة المقابلة من سطح (3) Dampier: A Hist. of Science p.p. 61-62. (4) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 777. (5) Cam Med Hist. vol. 8, p.661. (216)
الارض – انما هى فكرة خاطئة هرطقية (6) . والى جانب هذا الانحطاط فى التفكير العلمى ، انتشر الاعتقاد فى الخرافات والمعجزات بين أهالى اوربا فى العصور الوسطى ، حتى قضى السحر على البقية الباقية من المعرفة العلمية (7). على انه ليس معنى ذلك ان التفكير العلمى انعدم تماما فى تلك الفترة المظلمة من اوائل العصور الوسطى ؛ اذ وجد من المفكرين من أعطى الدراسات العلمية قسطا من عنايته . فالفليسوف المعروف بيؤثيوس (480-524) دون عدة رسائل عظيمة ونافعة ، احداها فى علم الحساب (De institution arithmetical) والثانية فى الموسيقى (De institution music ) والثالثة فى علم الهندسة ( Geometrical) (8). كذلك زود مارتيانوس كابلا (ت 500) غرب اوربا بدائرة معارف كاملة فى تسعة كتب تناولت الحساب والهندسة والفلك والموسيقى ، زيادة على النحو والجدل والبلاغة وغيرها . ويبدو أن الفلك والرياضيات بوجه خاص احتلت مكانة خاصة عند المعاصرين لاهميتها فى تحديد الأعياد الدينية .
ولم تكن الدولة البيزنطية فى حال أحسن من الغرب من حيث التقدم العلمى . ذلك أن الامبراطور جستنيان أغلق مدارس أثينا الوثنية سنة 529 ، وبذلك انطفأت شعلة علوم اليونان وفلسفتهم فى هذا الركن الشرقى من اوربا ، وفر الى البلاط الفارسى جمع من علماء تلك المدارس ؛ ما جعل عاصمة الفرس أعظم مركز ثقافى فى ذلك العصر . فازدهرت فيها الرياضيات والعلوم الطبيعية والفلسفية بعد أن التقت فيها علوم اليونان بعلوم الهند (10) .
ثم كان أن ظهر الاسلام وقامت الدولة الاسلامية ، فأدى فتح العرب لفارس والشام ومصر الى انتقال التراث العلمى الذى خلفه اليونان والفرس والهندوس اليهم ؛ وأصبحت بغداد مركزا لنهضة علمية كبرى فى الوقت نفسه الذى قامت (6) Thorndike: A Hist. of Magic and Experimental Science, vol. 1, p.p. 504-522. (7) Coulton: Life in the middle Ages vol. 1, p.p. 41-44. (8) Hearn haw: Med. Contributions to modern Civilization p. 116. (9) Cam Med Hist. vol. 3, p. 535. (10) Vasiliev: op. cit. Tome 1, p. 198. (217) النهضة الكارولنجية فى غرب أوربا. على انه يلاحظ أن هذه النهضة الأخيرة كانت تعليمية اهتمت باحياء الأداب دون أن يكون للعلوم نصيب منها (11) . وتتمثل أقصى ما وصلت اليه المعرفة العلمية فى غرب اوربا فيما بين القرنين السابع والتاسع فى موسوعة ايسيدور القشتالى (ت636) ومؤلفات بدى (ت735) ومعجم سالومونيس Glossae Salomonis الذى وضع فى دير سانت جال ونسب الى سالومونيس الثالث رئيس أساقفة كونستانس . وجميع هذه المؤلفات الثلاثه السابقة استلهمت مادتها واستمدت معلوماتها من كتاب التاريخ الطبيعى لمؤلفه بلينى الرومانى القديم (12) .
الدور الثاني: وصول علوم العرب الى غرب أوربا
واذا كانت العلوم قد اضمحلت فى غرب أوربا فى أوائل العصور الوسطى ، فانها ازدهرت فى العالم الاسلامى . ولم يكن كل العلماء الذين انجبتهم الحضارة الاسلامية من العرب ، لأن كثيرا منهم كانوا فرسا أو يهودا مستعربين ؛ ولكنهم درسوا وكتبوا باللغة العربية التى أضحت اللغة العالمية السائدة من حدود الهند والصين شرقا الى اسبانيا غربا (13) . وقد امتازت هذه النهضة الاسلامية من أول الأمر بطابعها العالمى ، مما جعل الفرق واضحا بينها وبين النهضة الكارولنجية من حهة والنهضة البيزنطية فى القرن التاسع من جهة أخرى (14) . ذلك أن الظروف الجغرافية والتاريخية شاءت أن تجعل الدولة الاسلامية ملتقى التيارات الفكرية اليونانية والفارسية والهندية . وليس هذا هو موضع الغرابة وانما الملاحظ هو أن الرياضيات الهندية تقدمت وتطورت مستقلة بعيدة عن تاثير الرياضيات اليونانية ، حتى التقى التياران معا فى كنف المدارس الاسلامية وبين رحابها (15) . (11) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 777. (12) Hearnshaw: Med. Contributions p. 118. (13) Dampier: op. cit. p. 82. (14) Eyre: op. cit. p.p. 294-195. (15) Dampier: op. cit. p. 100. (218)
ويضيق بنا المقام عن ذكر أسماء علماء المسلمين المبرزين فيما بين سنتى 750 ، 1100 ؛ وما قام به هؤلاء العلماء من اعمال تركت أثرا بارزا فى تاريخ الحضارة ؛ ولكننا نكتفى بالاشارة الى بعضهم . فمن هؤلاء العلماء جابر بن حيان الكوفى فى القرن الثامن الذى اشتغل بالكيمياء وألف فيها موسوعة كبيرة ضمنها وصف كثير من المركبات الكيميائية التى لم تكن معروفة من قبل ، مثل حامض النيتريك ( ماء الفضة ) والبوتاس وروح النشادر وغيرها ؛ كما وصف كثيرا من العمليات الكيميائية مثل التقطير والترشيح والتصعيد والتبلور (16) . وبعد ذلك يأتى الخوارزمى فى القرن التاسع ، وهو الرجل الذى نبغ فى الرياضيات والفلك والجغرافيا ، ومزج الرياضيات اليونانية بالهندية ، ووضع قواعد علم الجبر وصنف فيه . ثم يأتى البتانى المتوفى سنة 929 وهو من أعلام الفلكيين بفضل ما توصل اليه من نتائج بارزة جديدة فى علم الفلك (17) . اما الرازى (ت923) فكان من اشهر أطباء العرب والف طثيرا من البحوث الكبيرة فى الطب ، وشاركه فى هذا الميدان العلمى ابن سينا (1037) الذى كان اشهر علماء المسلمين على الاطلاق ، حتى ان كتابه " القانون " يعتبر اكبر دائرة معارف طبية عرفها الشرق والغرب جميعا فى العصور الوسطى (18) . اما الحسن بن الهيثم (ت1020) فكان من اشهر العلماء فى الطبيعة فاشتغل بالعدسات والبصريات وكتب فى الضوء والمرايا رسائل عديدة ، اعتمد عليها واستفاد منها بعد ذلك بقرنين روجر بيكون فى الغرب (19) . واخيرا نختتم هذه السلسلة من مشاهير علماء الاسلام بالاشارة الى عمر الخيام – أبرز الرياضيين فى الربع الأول من القرن الثانى عشر . على ان الحياة الفكرية والعلمية فى العالم الاسلامى أخذت تستنفد قوتها تدريجيا منذ ذلك الحين بعد ان حمل المسلمون لواء المعرفة فى العالم – شرقية وغربية – عدة قرون توصلوا فيها الى معارف ونتائج جديدة ، لم يعرفها معاصروهم من الأمم الا عنهم ؛ (16) Cam. Med. Hist. vol. 8, p. 667. (17) Delambre: Hist. de L’astronomie du Moyen Ages, p.p. 10-60. (18) Cam. Med. Hist. vol. 4, p. 297. (19) Dampier: op. cit. p. 101. (219) الأمر الذى جعل الحضارة الاسلامية – باعتراف الغربيين – اعظم حضارة شهدها العالم على الاطلاق فى العصور الوسطى (20) .
ذلك ان العرب استخدموا نظام الأعداد الهندى واستخدموا الصفر فى الحساب (21). وكشفوا عن أصول الجبر وأضافوا اليها حتى خلقوا منه علما حقيقيا طبقوه على الهندسة . أما فى الهندسة وحساب المثلثات ، فانهم لم يقفوا عند معلومات اليونان التى توصل اليها اقليدس وغيره ، وانما جددوا وأضافوا اضافات جديدة لم يعرفها غيرهم من قبل فأدخلوا المماس الى علم حساب المثلثات ، واقاموا الجيوب مقام الأوتار ، وحلوا المعادلات المكعبة ، وتعمقوا فى بحوث المخروطات . كما تقدموا بالميكانيكا ووصفوا كثيرا من الاتها فى كتبهم . وفى الفلك انتشرت المراصد العربية فى جميع بلدان المشرق والمغرب الاسلاميين (22) ، واستطاع علماء المسلمين تعيين انحراف سمت الشمس تعيينا دقيقا وحددوا طول السنة الشمسية بالضبط ، ووضعوا جداول لأمكنة الجداول السيارة ، وتوصلوا الى نظرية دوران الأرض ، واستخدموا الاسطرلاب والبوصلة . كما صححوا كثيرا من الأخطاء التى وقع فيها من سبقهم ، ولاسيما ما يتعلق بتقدير بطلميوس السكندرى لعرض البحر المتوسط (23). أما فى علم الفيزياء فقد توصل المسلمون الى نتائج فائقة فى العدسات والبصريات والمرايا الكرية، وأجروا تجارب لايجاد العلاقة بين وزن الهواء وكثافته ، كما عالجوا النظريات المتعلقة بالجاذبية ومركز الثقل (24). كذلك فى الكيمياء توصلوا الى كثير من العناصر وحاولوا تحيليلها أو تركيبها ، واستخدموا فى تجاربهم أجهزة لم تكن معروفة من قبل ، كما استخدموا القوة الناجمة عن انفجار البارود فى دفع قذائف الى مسافات بعيدة. وأخيرا خطا المسلمون بالطب خطوات واسعة ، فشخصوا كثيرا من الأمراض المستعصية، (20) Thompson: op. cit. vol. 2, p.p. 778-779. (21) Ball: A Short Account of the Hist. of Mathemation, p. 150. (22) Cam. Med. Hist. vol. 4, p.p. 298-299. (23) Delambre: op. cit. p.p. 10-60. (24) Singer: From Magic to Science p. 90. (220) واستغلوا معلوماتهم فى الكيمياء لايجاد علاج لها ، كما الفوا كثيرا من الدراسات الجامعة فى وصف الأمراض وطرق علاجها وخصائص الأدوية (25).
ولا يتسع هذا البحث للافاضة فى اهمية النتائج العلمية التى توصل اليها علماء المسلمين ، فى الوقت الذى كانت اوربا تتخبط فى ظلمات الجهل . ولكن المهم هو ان هذه العلوم والنتائج التى توصل اليها المسلمون اخذت تنتقل الى غرب أوربا قبل أن يبدا نجم الحضارة الاسلامية فى الأفول (26) . أما المعابر الرئيسية التى انتقلت عليها هذه الحضارة الاسلامية الى الغرب الأوربى ، فكانت أسبانيا ثم صقلية ثم المشرق ، حسب ترتيب أهميتها (27) . وعلى الرغم من ان المسلمين كان لهم مركزان ثقافيان كبيران فى الغرب هما الاندلس وصقلية ، الا ان الاتصالات الثقافية بين الغرب المسيحى من جهة والدراسات العربية من جهة أخرى ظلت محدودة حتى أواخر القرن الحادى عشر . ولعل من أسباب ذلك صعوبة تعلم اللغة العربية ، حتى ظهر فريق من الأوربيين أدركوا أهمية هذه الدراسات ، وأقبلوا على ترجمتها الى اللاتينية فى حماسة ومثابرة (28) . وأول هؤلاء المترجمين الاوربين كان قسطنطين الافريقى ( Constantine’s Africanus ) ، وهو من مواليد قرطاجة ، رحل الى الشرق حتى انتهى به المقام سنة 1056 فى دير مونت كاسينو حيث انتظم به راهبا الى ان توفى سنة 1087 . وقد قام قسطنطين هذا بترجمة بعض المؤلفات العربية أهمها الكتاب الذى ألفه على بن العباس فى القرن العاشر فى الطب (29) ، هذا فضلا عن بعض التراجم العربية لكثير من المؤلفات اليونانية القديمة ، مما ترك أثر عميقا فى دراسة العلوم فى جنوب ايطاليا ، حتى أن مدرسة الطب فى سالرنو تدين بنشأتها الى تراجم قسطنطين الافريقى . كذلك ظهر فى دير ريخناو Reichenau – وهو أحد الأديرة البندكتية فى سويسرا – راهب اسمه هرمان الكسيح (Hermann the Cripple ) (1013-1054) ، كتب بحوثا هامة فى (25) Browne: Arabian Medicine p.p. 55-73. (26)Cam Med Hist. vol. 8, p. 667. (27)(28) Hearnshaw: Med Contributions, p. 123. (29) Rashdall: op. cit. vol. 1, p. 81. (221) الرياضيات والفلك استعان بها خلفاؤه فى القرن التالى . واذا كانت معرفة هرمان هذا باللغة العربية موضع شك كبير – ولاسيما أن عاهته حالت دون سفره الى اسبانيا أو غيرها من مواطن الدراسات العربية – الا أن كتاباته عن كثير من التيارات والمؤثرات العربية ، مما يرجح وصول هذه المؤثرات اليه عن طريق رجال العلم المتنقلين فى ذلك العصر (30).
ثم كان أن اشتد تيار حركة الترجمة عن العربية فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر . ففى صقلية وجنوب ايطاليا ترجم ايوجنيوس البالرمى ( Eugenius of Palermo ) كتاب المرئيات لبطلميوس السكندرى عن العربية سنة 1150 ، وأعقب ذلك ترجمة ترجمت مؤلفات أخرى لبطلميوس السكندرى ، وبخاصة فى الفلك والرياضيات عن العربية . واشتهر من المترجمين الصقليين عندئذ فرج بن سالم اليهودى (ت1285) (31) .
على أن أسبانيا كانت الملتقى الطبيعى للغتين العربية واللاتينية ، بعد أن ازدهرت فيها الحضارة الاسلامية ، وازدحمت مدنها بالمؤلفات العربية فى العلوم والفلسفة وغيرهما . ثم كان أن ساعد سقوط طليطلة فى أيدى المسيحيين سنة 1085 على اتجاه كثير من طلاب المعرفة اليها للتزود بالدراسات العربية الاسلامية سواء كانت أصلية أو مترجمة عن اليونانية ، حتى أصبحت طليطلة بالذات المركز الرئيسى لحركة الترجمة عن العربية (32) . ومن هؤلاء الذين قصدوا أسبانيا فى ذلك العصر للوقوف على المعارف العربية وترجمتها الى اللاتينية أديلارد الباثى وهرمان وجيرارد الكريمونى وروبرت الشسترى وغيرهم (33) . هذا فضلا عن اليهود والمستعربين الأسبان الذين عكفوا على ترجمة المؤلفات العربية مثل دومونيقوس جونديسالفى Dominicus Gondisalvi وبطرس الفونسى Petrus Alfonsi وحنا الأشبيلى John of Seville وغيرهم . والى ريموند رئيس أساقفة (30) Hearnshaw: Med Contributions p. 120. (31) Singer: op. cit. p.81. (32) Hearnshaw: Med Contributions p. 123. (33) Singer: From Magic to Science p. 80. (222) طليطلة يرجع الفضل فى انتعاش حركة الترجمة عن العربية ، اذا أنشأ مكتبا لترجمة أمهات الكتب التى زخرت بها طليطلة فى النصف الأول من القرن الثانى عشر (34) .
وقد ترتب على هذه الحركة ثورة علمية وفكرية شاملة فى غرب أوربا . ذلك أن المعارف الجديدة التى نقلت من العربية الى اللاتينية جعلت الأوربيين يفيقون من الظلمة والجهالة التى عاشوا فيها قرونا طويلة ، ويقبلون على الدراسات العلمية الجديدة فى شغف ونهم . ففى الحساب عرفت أوربا نظام الأعداد الهندى عن العرب وهو النظام الذى تتغير فى قيمة الرقم بتغيير وضعه من خانة الآحاد الى العشرات أو المئات .....؛ وبذلك أخذت أوربا تنبذ نظام الأرقام الرومانية العقيم الذى وقف عقبة كئودا فى سبيل تقدم العمليات الحسابية (35) . وقد نسب الأوربيون هذا النظام العددى الجديد الى الخوارزمى ، العالم الرياضى الشهير الذى ترجمت بعض بحوثه الى اللآتينية فى القرن الثانى عشر (36) . ويرجح أن البابا سلفستر الثانى (ت1003) – الذى قضى بعض السنوات فى شمال أسبانيا – كان من أوائل الأوربيين الذين نقلوا نظام الأعداد العربى الى الغرب ، هذا بالاضافة الى ما قام به ذلك البابا من تشجيع ترجمة بعض المؤلفات العربية التى توضح وظيفة الآسطرلاب (37) . أما الصفر فلم تعرف أوربا استعماله الا عن طريق العربية فى القرن الثانى عشر ، حتى قال بعض الكتاب المحدثين ان فكرة الصفر تعتبر أعظم هدية قدمها المسلمون الى غرب أوربا (38) . ونستطيع نحن أن ندرك أهمية الصفر فى علم الحساب اذا تصورنا كيف يكون الحساب بلا صفر . وفى سنة 1145 ترجم روبرت الشسترى كتاب الخوارزمى فى الجبر الى اللاتينية ، وبذلك عرف الغرب الاوربى علما جديدا لأول مرة . أما فى الهندسة وحساب المثلثات فقد ترجم كثير من (34)Rashdall: op. cit. vol. 1, p. 353. (35) Eyre: op. cit. p. 298. (36) Ball: op. cit. p. 298. (37) Hearnshaw: Med. Contributions p. 120. (38) Eyre: op. cit. p. 229. (223) المؤلفات العربية الى اللاتينية ، وبخاصة جداول حساب المثلثات التى وضعها الخوارزمى والتى ترجمها أدلارد الباثى (39). وفى الفلك ترجم الأوربيون كتاب "الزيج الصابئ " للبتانى عدة مرات الى اللاتينية ، فازدادت معرفة الأوربيين الغربيين بهذا العلم . أما فى الفيزياء ، فقد ترجمت بعض مؤلفات الحسن بن الهيثم (ت 1020) والخازن البصرى (ت 1038) الى اللاتينية ، ومن هذه المؤلفات استقى روبرت جروستست Robert Grosseteste وروجر بيكون وغيرهما معلوماتهم. كذلك ترجم الأوربيون مؤلفات جابر بن حيان الكوفى فى الكيمياء ، كما ترجموا بعض مؤلفات الرازى وابن سينا فى الطب (40).
الدور الثالث : ازدهار العلوم فى غرب أوربا
ويبدو أن وصول هذه المعارف العلمية الجديدة الى غرب أوربا أثار فزع الكنيسة التى خشيت أن ينشأ عن الاهتمام بها أضعاف شأن اللاهوت واهماله (41). على أن الكنيسة كانت لا تستطيع منع تداول هذه المعلومات ودراستها ، ومن ثم لجأت الى التوفيق بينها وبين اللاهوت حتى لا ينتهى الأمر الى زعزعة الثقة فى تعاليم الكنيسة (42) . ومع أن العصور الوسطى لم تعرف خطا فاصلا – كالذى نعرفه اليوم – بين ميدان الدين وميدان العلم ؛ الا أننا يمكننا تقسيم المجتهدين فى غرب أوربا فى القرن الثالث عشر الى فريق حصر اهتمامه الرئيسى فى اللاهوت والعقيدة وفريق آخر اتجه نحو العلوم (43) . وعلى رأس الفريق الأول كان اسكندر الهاليسى (Alexander of Hales) والقديس توما الأكوينى ، فى حين برز من الفريق الثانى روبرت جروستست أسقف لنكولن (ت1253) ، وميخائيل سكوت الذى تمتع برعاية الامبرطور قردريك الثانى ، والبرت الكبير (39) Ball: op. cit. p. 165. (40) Hearnshaw: Med Contributions p. 127. (41) Coulton: Life in the middle Ages vol. 2, p.p. 58-62. (42) Taylor: Med. Mind. Vol. 2, p.p. 432-436. (43) De Wulf: op. cit. p.p. 256-259.
(224) Albertus Magnus (ت 1280) ؛ وعلى راس هؤلاء جميعا يأتى روجر بيكون (ت1294) (44). وهنا تسترعى نظرنا ظاهرتان واضحتان، الأولى أن معظم هؤلاء الأعلام من المهتمين بالعلوم الجديدة كانوا من الانجليز – مثل أديلارد الباثى وروبرت الشسترى ودانيل المورلى Daniel of Morley وجروستست ، وروجر بيكون ؛ فى حين كان ميخائيل سكوت انجليزيا من أصل أيرلندى . أما الظاهرة الثانية فهى أن معظم هؤلاء الأعلام كانوا من منظمة الدومينكان أو منظمة الفرانسسكان ، وان كان الفارق واضحا بين هاتين المنظمتين الدينيتين ، فبينما كان علماء الدومينكان يغلب عليهم طابع المحافظة فى الناحية الفكرية ، والرغبة فى التوفيق بين العلوم القديمة والجديدة لصيانة كيان التقاليد والدين ؛ اذا بالفرانسسكان يغلب عليهم طابع التطرف والمغالاة ، ونقد القديم والثورة عليه (45).
على أن قصور عقلية العصور الوسطى فى مجال التفسير العلمى حال دون ادراك وحدة الطبيعة ، فالانسان فى غرب أوربا فى العصور الوسطى اعتقد أن كل شئ له قيمة وأهمية منفصلة عن قيمة أى شئ آخر وأهميته . وكان روجر بيكون هو الذى أدرك أكثر من غيره أن الظواهر الطبيعية جميعها متوافقة ومتألفة ، وهو التألف الذى يؤدى الى وحدة الطبيعة ؛ فقال بأن الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات تؤدى الى وظائف مختلفة لشئ واحد هو الطبيعة . هذا مع الاعتراف بأن بيكون أمن بكثير من الآراء والمعتقدات التى سادت عصره ، وأهمها أن الغرض الأساسى من الدراسات العلمية والفلسفية هو خدمة اللاهوت (46). ويبدو أن بيكون استقى الالهام الأول لأفكاره من جروستست ، الذى أخضع الفيزياء والكيمياء والفزيولوجيا وغيرها لهندسة الكون . فجميع المظاهر الطبيعية فى نظر جروستست كان يمكن ارجاعها الى خطوط وزوايا ومسطحات ، والدائرة هى الشكل التام لأن الضوء ينتشر على شكل دائرى (47) . (44) Dampier: A Hist. of Science p. 91. (45) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 785. (46) Dampier: op. cit. p. 100. (47) Thorndike: Hist. of Magic, vol. 2, p.p. 436-456. (225)
أما النتائج التى توصل اليها بيكون – رائد البحث العلمى بمعناه الحديث – فيمكن تلخيصها فيما يلى : اولا : أنه حاول وضع نظام للمعرفة الطبيعية يفوق المستوى الذى كان قائما فى عصره ، ويعتمد قبل كل شئ على المشاهدة والتجربة . وثانيا : أنه ادرك أهمية معرفة اللغات الأجنبية والقديمة ، فحاول أن يتعلم اليونانية والعبرية على أسس علمية ، وكذلك العربية . وثالثا : أنه طبق أسلوبه التجريبى فى الوصول الى نتائج هامة فى البصريات والعدسات والفلك والجغرافية والرياضيات وغيرها (48) . وهكذا استطاع بيكون أن يتنبأ بامكان الوصول الى اختراع سفن تسير بألات دون حاجة الى مجداف أو شراع ، وطائرات يحرك الانسات أجنحتها كما يفعل الطير ، ومفرقعات ملتهبة تبيد الجيوش ، وروافع ضخمة لرفع الأثقال ، وعقاقير سامة تبيد الحشرات والهوام ، ومصابيح تضئ دون أن ينفذ وقودها .... الى غير ذلك من الاختراعات التى توصل اليها الانسان فعلا فيما بعد ، والتى تثبت أن بيكون رسم للعالم الحديث الطريق الذى سار فيه فعلا (49) .
ومن هذا يبدو أن علماء الغرب فى العصور الوسطى لم ينقصهم النشاط الفكرى وأنما أعوزهم التنفيذ العملى . فعلماء العصور الوسطى كانوا أقل جهلا مما نتصور فلم يوجد منهم من اعتقد ان الأرض مسطحة ، كما عرفوا خسوف الشمس فى حين قضى أحدهم – وهو أديلارد الباثى – عامين فى دراسة ظاهرة المد والجزر ، وتوصل الى نظرية معقولة لهذه الظاهرة ؛ كما قال بمبدأ خلود المادة وعدم فنائها ، وان لم يستطع اثبات هذا المبدأ لعدم توافر المعامل والأجهزة لديه (50) . أما نظريات البصريات والعدسات فقد استقاها علماء الغرب من العرب . فأفاض بيكون فى وصف العدسات وأهميتها فى تكبير الكتابة ورؤية مالا يمكن رؤيته بالعين المجردة . هذا فى حين قضى دونس سكوت Duns Scouts شتاء فى باريس فى حساب الاعتدالين مستعينا بالرياضيات العربية واليونانية (51) . (48) Hearnshaw: Med Contributions p.p. 142-143. (49) Thorndike: op. cit. vol. 2, p.p. 654-655. (50) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 786. (51) Ibid. (226)
ومعنى ذلك أن العالم الحديث يدين للعصور الوسطى بكثير من قواعد التقدم العلمى . فالقرن الثالث عشر كان لا يقل عن عصر النهضة الايطالية فى سرعة التقدم العلمى . وقد بلغت المعرفة العلمية فى القرن الثالث عشر درجة من الغزارة والتنوع واجتذاب واهتمام الناس ، بحيث أصبح من المتعذر الاكتفاء بمؤلفات بلينى وايسيدور . وهنا ظهرت مجموعة من مؤلفى الموسوعات العلمية الضخمة مثل اسكندر نكام Alexander Neckham (1157-1217) الذى كتب فى " طبيعة الأشياء " (52) ، وبارثليمو انجليقوس Bartholomew Anglicus الذى الف فى "خصائص الأشياء " . وفيما عدا هذين الانجليزيين ظهر فنسان الفرنسى Vincent de Beauvais (ت1264) الذى كتب ثلاثة مؤلفات هى " مرآة الطبيعة " و"مرآة العقيدة " و" مرآة التاريخ " (53) .
ولا يفوتنا فى ختام هذا العرض السريع للتطور العلمى فى العصور الوسطى أن نشير الى الامبراطور فردريك الثانى (1194-1250) الذى كان أكبر راع للعلم والعلماء فى عصره (54) . وليس هذا مجال الكلام عن شخصية فردريك الغريبة ذات الجوانب المتعددة ، وانما نكتفى بالاشارة الى أنه أولع بالبحث عن كل أمر غريب للوقوف على حقيقته ، كما شغف بمختلف الدراسات اللغوية والفلسفية والرياضية والعلمية ....(55) ، وقد انتهز فردريك فرصة حضوره الى الشرق للمشاركة فى النشاط الصليبى وأخذ يبحث بالتعاون مع بعض علماء المسلمين فى المسائل المتعلقة بالهندسة والفلك والمنطق والبصريات . أما اهتمامه بالطب ووظائف الأعضاء فكان عظيما . وقد حظى برعاية الامبراطور فردريك الثانى عدد كبير من العلماء أشهرهم ميخائيل سكوت الذى دخل بلاط الامبراطور حوالى سنة 1227 ، وكتب له عدة بحوث فى العلوم الطبيعية والمنطق والفلك والميتافيزيقا والكيمياء (56). كذلك اتصل ليورنارد البيزى – أشهر علماء الرياضة فى عصره - (52) Gilson: op. cit. p.p. 326-327. (53) Idem p. 402. (54) Kantorowitz: Frederick the Second p.p. 334-336. (55) Haskins: Studies in Med Culture p. 124. (56) Thorndike: op. cit. vol. 2, p.p. 316-317. (227) ببلاط الامبراطور فردريك ، وحل عدة مشاكل رياضية فى حضرة الامبراطور ، كما الف له بعض المصنفات الرياضية (57) . وقد اعتاد فردريك الثانى أن ينعم بجوائز سخية عل كل عالم يقدم اليه جديدا يسترعى انتباهه فى ميدان العلم ، مما جعل منه أكبر راع للدراسات العلمية فى عصره (58) .
وهكذا شهد الغرب الأوربى فى أواخر العصور الوسطى نشاطا علميا غزيرا أستمر حتى القرن السادس عشر . والواقع أنه يمكن اختيار سنة 1453 لتكون حدا فاصلا بين النشاط العلمى فى العصور الوسطى والحديثة ، اذ ظهر فى تلك السنة بحثان علميان قاما على أساس الطريقة العلمية التجريبية بحيث يبدوان اقرب الى منهج التفكير الحديث منهما الى منهج العصور الوسطى . أما البحث الأول فقد كتبه رجل بلجيكى اسمه أندرياس فساليوس Andreas Vesalius ويتناول البحث تركيب الجسم الانسانى وبنائه De Fabric Corporals Humane ؛ فى حين كتب البحث الثانى رجل بولندى اسمه نيقولا كوبرنيقوس Nicholas Copernicus ويتناول فيه حركة الأجرام السماوية ودوراتها ؛ ( De revolutionilus erbium Coelstium ) (59) .
(57) Kantorowicz: Fredrick the Second p.p. 341-343. (58) Thompson: op. cit. vol. 2, p.p. 787-790. (59) Hearnshaw: Med Contributions p.p. 111-112. (228)
الباب التاسع: الآداب
التطور الأدبى واللغوى فى فجر العصور الوسطى
لم تقتصر مظاهر ضعف الامبراطورية الرومانية وانحلالها على ما اصابها من تدهور ادارى واقتصادى واجتماعى ، وانما انعكست صورة هذا الانحلال أيضا فى انحطاط اللغة اللاتينية وغروب شمس الأدب الكلاسيكى القديم (1) . على أنه ربما كان فى اطلاق لفظ " انحطاط " على التغيير الذى اعترى اللغة والأدب عند نهاية العصور القديمة شئ من التطرف أو البعد عن الواقع ، اذا نظرنا الى هذه التغييرات على أنها جانب من التطور العام الذى مرت به أوربا لتلائم اتجاهات العصور الوسطى وحضارتها . فهذه التغييرات اذا يمكن أعتبارها تعويضا عن الخسائر التى ألمت بالحضارة القديمة ، أو بعبارة أخرى يمكن اعتبارها اتجاها لاحلال شئ حديد محل آخر قديم مفقود (2) .
الواقع أن اللغة اللاتينية تعرضت لتغيرات ضخمة فى مدى القرنين ونصف القرن الواقعة بين تاكينوس (55-120) واوغسطين (354-420) . ذلك أن انتشار المسيحية فى الغرب خلال تلك الفترة لم ينشأ عنه ادخال الفاظ جديدة من أصل يونانى فحسب ، بل أدى أيضا الى استحداث كلمات حديدة وابتكار تعبيرات لم تكن معروفة من قبل لتلائم الأراء والمعتقدات والطقوس الدينية التى أتت بها المسيحية. وقد نجم عن هذا التطور تغيير عظيم أصاب اللغة اللاتينية نتيجة لتطرق كثير من الألفاظ العامية والدارجة الى اللغة الفصحى من جهة ولاستحداث كثير من الكلمات
(1)Poole: Med Thought p. 6. (2) Tayior: The Med Mind p.p. 10-12. (229) والتعبيرات الجديدة من جهة أخرى (3) . ويبدو هذا واضحا عند المقارنة بين اللغة اللاتينية الفصحى كما كتبها شيشرون واللغة اللاتينية الجديدة او الدارجة التى استخدمها كتاب العصر المسيحى منذ ترتوليان ( حوالى سنة 200 فصاعدا) . وهكذا انتهى عصر البلاغة والبيان الذى امتاز فيه الأسلوب اللاتينى باختيار اللفظ وانسجام العبارة واتزان الجملة ، وحل عصر جديد انسابت فيه الكلمات وفقا لانسياب الأفكار ، دون عناية باختيار اللفظ أو العمل على تحقيق نوع من الانسجام بين مختلف العبارات (4) . من ذلك أن الفعل لم يعد يأت فى نهاية الجملة ليختتمها كما هو الحال فى اللاتينية الكلاسكية ، وأنما صار يأتى حيثما شاء له الفكر دون مراعاة لأصول الأسلوب ، كذلك استخدمت كثرة من الألفاظ للتعبير عن معان لم يستعملها فيها مطلقا كتاب العصر الكلاسيكى ، بل كان من الصعب فهمها على هؤلاء الكتاب . أما قواعد النحو الكلاسيكية ، فلم تعد تحظى بعناية كتاب العصر المسيحى الجديد الذين أضروا بها وخرجوا عليها ، بحيث لم يكد القرن الثالث الا كان هناك نوع من اللاتينية العامية تشبه الى حد كبير اللاتينية التى سادت غرب اوربا بعد ذلك بثلاثة قرون – اذا استثنينا الألفاظ الدخيلة التى أتت عن طريق الجرمان . وهذه اللاتينية العامية أو الدارجة (5) هى التى صارت فيما بعد أما للغات الرومانسية فى أوربا ، وهى اللغات المشتقة عن أصل رومانى لاتينى كالفرنسية والايطالية والأسبانية والبرتغالية . هذا وان كانت اللغة الجرمانية – التى احتفظت بسيطرتها على الجهات الشمالية من أوربا – قد أسهمت هى الأخرى بألفاظ عديدة فى اللغات الرومانسية ، وذلك عن طريق احتلال الفرنجة لغاليا والقوط الغربيين لأسبانيا واللمبارديين لايطاليا (6) .
وثمة مظهر أخر من مظاهر التأخر الذى أصاب أوربا فى ذلك العصر يتمثل فى (3) Fologno: Latin Thought p. 22. (4) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 794. (5) عرفت هذه اللاتينية عادة باسم Lingua vulgaris او Lingua rustica أوLingua plebeian وكلها مترادفات بمعنى اللغة العامية او الدارجة او الشعبية . (6) Taylor: op. cit. vol. 2, p.p. 250-252. (230) تدهور مستوى الخط والكتابة ، فى المخطوطات أو الوثائق الحكومية المعاصرة . ففى العصور القديمة كانت الكتابة تدون على مجاميع من أوراق البردى أطلق عليها اسم (volumina) ، ولكنها منذ القرن الأول الميلادى أصبحت تدون على صفحات من الرقائق الجلدية مقطوعة على هيئة مربعات قائمة الزوايا وأطلق عليها المجاميع أو الكتب المربعة (codices quadrati) . ومعظم المخطوطات التى ترجع الى العصر الميروفنجى أو القوطى من هذا النوع . أما الخط فكان على ثلاثة أنواع هى الحروف الكبيرة (majuscule) ؛ والحروف البوصية (uncial) ؛ والحروف الصغيرة (minuscule) . ولم يلبث أن أدى انتشار الحهل الى فساد الخط وتعذر قراءته ، فوقع الكتاب فى أخطاء عديدة ، مما افسد الكتابة افسادا يبدو بوضوح فى الترجمة اللاتينية للانجيل فى ذلك العصر (7) .
أما دعائم هذا الأدب اللاتينى الجديد فقد أرسى قواعدها فى ميدان النثر القديس جيروم فى ترجمته اللاتينية للانجيل (vulgate) ، والقديس أوغسطين فى كتاباته اللاهوتية ، لا سيما " مدينة الله " و " الاعترافات " (8) . ذلك أن ترجمة الانجيل اللاتينية لم تؤثر شكليا فى أدب العصور الوسطى لعدة قرون فحسب ، بل أثرت أيضا فى تفكير تلك العصور . ويكفى للتدليل على ذلك أن اللاهوت وعلم الكنسيات (ecclesiology) ، والقوانين والتشريعات ، والتاريخ ، تأثرت كلها الى حد واضح بترجمة الانجيل اللاتينية . فبعض النظم الكنسية – مثل ضريبة العشور – مأخوذة عن الكتاب المقدس . كما أن الملكيات البربرية التى قامت فى أوربا العصور الوسطى أخذت بمبادئ الحكومة الثيوقراطية التى ورد اليها أكثر من اشارة فى العهد القديم بوحه خاص (9) . أما القديس أوغسطين فقد وضع فى كتابه "مدينة الله " فلسفة سياسية لأوربا العصور الوسطى ظلت قائمة حتى القرن الثالث عشر(10) (7)Thompson: vol. 2, p.p. 794-795. (8) Taylor: The Med Mind vol. 2, p. 180. (9) ( لانه يولد لنا ولد ، ونعطى أبنا وتكون الرياسة على كتفه ، ويدعى أسمه عجيبا مشيرا الها قديرا أبا أبديا رئيس السلام ) " سفر أشعياء الاصحاح التاسع ، 6" (10) Gilson: op. cit. p. 127. (231) وتدور هذه الفلسفة حول محور واحد هو أن الكنيسة من عمل الله وأن لها وظيفة مقدسة تبرر سيادتها على السلطة الزمنية ، فى حين أن الدولة من عمل الانسان ، ولذلك فهى تتصف بالنقص والشر ولابد من خضوعها لنفوذ الكنيسة . وتختلف "الاعترافات" فى طابعها عن " مدينة الله " لأنها عبارة عن ترجمة شخصية روحية تفيض بالزهد والتقوى فى قالب فلسفى يتسم بطابع الأفلاطونية الحديثة (11) .
وفى هذا الأدب الجديد امتزجت الوثنية بالمسيحية ، والدين بالدنيا ، والقديم بالجديد ؛ مما كان له أبعد الأثر فى النواحى الحضارية والتاريخية . ولم يكد يحل القرن الرابع الا كان الاتجاه الأدبى الجديد قد شق طريقه ، حتى تم له الانتصار فى القرن السادس ، عندما ظهر بوضوح فى ميدان النثر والشعر (12) .
أما الشعر المسيحى فقد أصبح يعتمد على أوزان ايقاعية ، وتخلى عن المقاييس الكلاسيكية المعروفة ، الأمر الذى جعل الترانيم والأناشيد الكنسية تمتاز بنوع من الوقع الموسيقى ساعد على انتشارها ، وبالتالى على انتشار المسيحية بين الشعوب البدائية (13) . وكان أول من برز من شعراء المسيحية هو الشاعر كوموديان Commodian الذى عاش قرب منتصف القرن الثالث ، ثم ظهرت بعد ذلك ترانيم القديس امبروز ، والأشعار الدينية التى نظمها برودنتيوس . وقد امتاز شعر برودنتيوس هذا – وهو شاعر أسبانى (348-405) – بروحه العالمية التى تهز المشاعر وتبعث على الأمل وتحث على التواضع (14) . على أن أبدع شعراء المسيحية الأوائل كان القديس بولينوس النولاوى St. Paulinus of Nola (353-431) ، وهو مواطن من غاليا قضى حياته قسيسا منواضعا فى كنيسة سانت فيلكس بنولا فى جنوب ايطاليا. وقد ظهرت فى أشعاره تلك القوة التى فتت فى عضد الحكام المضطهدين للمسيحية وأتباعها ، وبثت روحا قوية فى المسيحية (11) Eyre: op. cit. p. 806. (12) Thompson: op. cit. vol. 2, 796. (13) Taylor: op. cit. vol. 2, p.p. 216-217. (14) Waddell: Med Latin Lyrics, p. 297.
وأنصارها (15) .
ولم تكن جميع الأشعار التى نظمها الشعراء المسيحيون دينية فى موضوعها ، اذ وجد عدد كبير من شعراء القرنيين الخامس والسادس كانوا مسيحيين بحكم المولد ، ولكنهم ظلوا وثنيين فى تفكيرهم وتقاليدهم . ومن الغريب أن هذا النوع من الشعراء كانوا جميعهم من غاليا ، التى ظلت تحتفظ بقسط قوى واضح من التقاليد الكلاسيكية ، على الرغم من خضوعها لسيطرة الفرنجة والقوط الغربيين والبرجنديين (16) . ومن أمثلة هذا النوع من الشعراء أوزونيوس Ausonius فى القرن الرابع (310-395) الذى أمتازت جميع اشعاره بمذاق كلاسيكى وثنى (17). وفى القرن الخامس ظهر سيدنيوس أبولينارس Sidonius Apollinaris الذى عرف بصدق ايمانه حتى تولى منصب أسقف كليرمونت . وعلى الرغم من ذلك فقد اعتاد أن يكتب فى أوقات فراغه رسائل جميلة لأصدقائه تفيض بالاتجاهات الكلاسيكية ، كما خلف مجموعة من الأشعار تعبر عن التقاليد الكلاسيكية والوثنية وان امتازت بروحها المسيحية الصادقة . ومثل هذا القول ينطبق أيضا على فورتناتوس Fortunatus (530-603) ، وهوشاعر من شعراء العصر الميروفنجى قضى حياته فى غاليا يعمل فى بلاط بعض ملوك الفرنجة (18) .
أما عن النثر فى تلك الحقبة . فقد ظهرت مجموعة من الكتاب الذين عالجوا التاريخ والفلسفة والسياسة وغيرها . وأبرز هؤلاء الكتاب سليكيوس سفروس Sulpicius Severus الذى كان قانونيا غلبت عليه روح الرهبانية ؛ فكتب مؤلفا عن حياة القديس مارتن التورى – الذى عرفه شخصيا – وكان لهذا الكتاب أثر كبير فى انتشار الديرية بالغرب ، فضلا عما امتازبه من أسلوب لاتينى صحيح (19) . أما جريجورى التورى Gregory of Tours فأمتازت كتابته بعدم وجود (15) Idem: p.p. 291-296. (16) Paris: Literature Françoise p.p. 22-23. (17) Waddell: op. cit. p. 291. (18) Idem p. 300. (19) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 798. (233) أى أثر فيها للتقاليد الكلاسيكية والوثنية ؛ فهو يمثل العصور الوسطى تمثيلا صادقا فى اللغة والروح . وقد كتب كتابا عن " تاريخ ملوك الفرنجة " يعتبر مصدرنا الآساسى عن تاريخ غاليا فى ذلك العصر ، ويمتاز بأسلوبه اللاتينى الدارج وملاحظاته الطريفة ومعلوماته النافعة (20) .
وعلى العكس من غاليا ، افتقرت ايطاليا فى القرن الخامس الى كتاب ملحوظين سواء كانوا مسيحيين أو وثنيين . وربما كان عدم الاستقرار الذى ساد ايطاليا فى ذلك القرن مسئولا عن انهيار الانتاج الأدبى . أما فى القرن السادس – عندما استقرت أوضاع البلاد تحت حكم الملك ثيودريك القوطى – فقد أخذ الوضع يتغير فى ايطاليا . وكان أكبر كتاب ذلك العصر الفليسوف بيؤثيوس (410-525) الذى يعتبر أبرز أدباء الغرب المسيحى بأكمله ، لا ايطاليا وحدها (21) . ففيه اجتمعت أجمل خصائص التراث الكلاسيكى والتقاليد الوثنية مع مثالية المسيحية وفلسفتها الأفلاطونية . ذلك أنه تهيأت لبيؤثيوس عدة صفات جعلت منه شخصية بارزة فى عصره ، اذ كان من رجال الدولة المبرزين ، كما أنه انحدر من أعرق البيوت الرومانية فى ايطاليا ، هذا زيادة على أنه أمن بالمسيحية ايمانا صادقا عميقا . وقد قدم الى الفكر الغربى خدمة جليلة بترجمة منطق أرسطو الى اللاتينية ، فضلا عن البحوث الخاصة التى كتبها فى الحساب والهندسة والموسيقى . على أن أعظم ما قدمه للفكر الغربى كان كتابه " سلوى الفلسفة " الذى كتبه وهو فى سجنه . ويشبه هذا الكتاب اعترافات القديس أوغسطين فى أن المؤلف ترجم لنفسه ترجمة روحية فى ضوء فلسفة المسيحية (22) .
أما كاسيدورس (Cassiodorus ) وزير ثيودريك فكان كاتبا طراز آخر . أذ ألقت رسائله التى كتبها ضوءا ساطعا على أحوال ايطاليا السياسية والحضارية فى عهد القوط الشرقيين (23) . وقد ألف كاسيدورس كتابا فى تاريخ القوط ، ولكنه فقد ولم (20) Paris: op. cit. p. 27. (21) Foligno: op. cit. p. 50. (22) Brehier: op. cit. p.p. 10-13. (23) Taylor: op. cit. vol. 1, p.p. 93-97. (234) يصلنا ، وكان من المحتمل أن يمدنا بمعلومات قيمة عن تاريخ ايطاليا فى القرن السادس ، مثل المعلومات التى أمدنا بها جريجورى التورى عن تاريخ غاليا فى العصرنفسه . وعلى الرغم من أن كاسيدورس لم يكتب شيئا يمكن اعتباره أدبا خالصا ، وأنه لم يكن فيلسوفا أو شاعرا ، الا أن آثره فى أداب العصور الوسطى لا يمكن اغفاله ، لأنه حاول ان يثبت فائدة العلوم الدنيوية وأهميتها (24) . كما أنه قام بتأسيس دير فيفاريوم فى آواخر أيامه ، ومنح مكتبته الخاصة لذلك الدير . هذا فضلا عن مثابرته على البحث والكتابة ؛ كما سن سنة طيبة للاديرة والديريين فى المحافظة على التراث الكلاسييكى وفى محاولة تأليف كتب جديدة .
والواقع أنه لم يصلنا من ايطاليا فى العصر القوطى الا انتاج مؤرخ واحد هو جوردين Jordanes – صاحب كتاب " تاريخ القوط " وأهمية هذا المؤلف هى أنه أول كاتب من البرابرة يصلنا انتاجه . ولذلك أمتاز أسلوبه اللاتينى بالخشونة والضعف ؛ ولكنه أول من ادخل الأساطير والقصص الخرافية الجرمانية فى الأدب الغربى (25) .
أما أسبانيا فقد أنجبت الى جانب الشاعر برودنت كاتبا مبرزا – هو أورزيوس Orosius – الذى كان تلميذا للقديس أوغسطين ، والذى وضع مؤلفا عنوانه "سبع رسائل تاريخية للرد على الوثنيين " . وقد حاول فى هذا المؤلف أن يدلل بأمثلة من التاريخ على أن متاعب الانسانية وسقوط الامبراطوريات ليس شيئا جديدا ، وأنه من التعسف أن ينسب المعاصرون المصائب التى حلت بأوربا حينئذ الى المسيحيين وديانتهم . وعلى الرغم من ان هذا الكتاب لا يعتبر تاريخا حقيقيا ، الا فى الجزء الآخير منه فقط – الذى ينتهى بحوادث سنة 417 – والذى تنحصر أهميته التاريخية فى علاج الأحداث المعاصرة ، الا أنه حصل على شهرة واسعة فى العصور الوسطى (26) . وفى الوقت الذى بلغت قوة القوط الغربيين ذروتها فى أسبانيا ، ظهر أسقف أشبيلية (ت636) الذى أمتاز بأسلوبه الخصب البارع (27) . (24) Poole: Med Throught, p. 6. (25) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 799. (26) Taylor: op. cit. p.p. 82-83. (27) Foligno: op. cit. p.p. 25-26. (235)
على أن معين الغرب أخذ ينضب فى الفترة الواقعة بين القرنين الرابع والسادس بحيث لم يبقى من التراث الكلاسيكى الا بصيص خافت من النور عند نهاية القرن السادس ، كما اعترف بذلك جريجورى التورى نفسه. وفي الوقت الذى كان جريجورى التورى يكتب تاريخه فى غاليا (538-594) ، أخذ البابا جريجورى الأول أو العظيم ( 590-604) يوجه كل جهوده وامكانات منصبه نحو الوعظ والارشاد وسير القديسين والبحوث اللاهوتية، صارفاً بصره – وابصار من حوله- عن الكلاسيكيات (28) . ذلك أن هذا البابا كان معاديا للتراث الكلاسيكى الذى أوشك أن يزول فى ذلك الوقت لولا جهود الرهبان الايرلنديين فى حفظ هذا التراث (29) . وقد بدا غروب الأدب الكلاسيكى سنة 529 على وجه التحديد ، وهى السنة التى أغلق فيها جستنيان مدارس أثينا الفلسفية الوثنية القديمة ، كما أسس فيها القديس بندكت ديره المعروف فى مونت كاسينو (30) . ومنذ ذلك الوقت أخذ نجم الدراسات الكلاسيكية فى الأفول سريعا فى غرب أوربا.
ولكن شاء حسن حظ الحضارة الأوربية أن يحظى الأدب اللاتينى الكلاسيكي في ذلك العصر ببعض المريدين والأنصار ، على الرغم من روح العداء التى أحاطت به من كل جانب . ذلك أنه لا يوجد شك فى أن الكنيسة ودت حينئذ لو انهار الأدب الكلاسيكى بأكمله لأنه وثنى الأصل ؛ بل وجد فعلا زعماء الكنيسة – مثل جريجورى العظيم – من كان يرجو أن تمكنه الظروف من تحقيق ذلك . ولكن أعجاب المعاصرين بسحر الأدب الكلاسيكى وسمو مستواه، ساعد على حفظ ذلك التراث من الضياع (31). هذا الى ان الطبقة المثقفة فى المجتمع الأوربى رغبت فى حماية التراث الرومانى القومى من حهل البرابرة الذين تدفقوا على غرب أوربا وهددوا حضارته بالضياع فى القرنين الخامس والسادس . ويبدو أن هذه الرغبة فى انقاذ ما يمكن انقاذه من تراث الماضى حركت مشاعر المثقفين من المسيحيين (28) Poole: Med Thought p. 7. (29) Cam. Med. Hist. vol. 3, p. 501. (30) Vasiliev: op. cit. Tome 1, p. 198. (31) Thompson: op. cit. vol. 6, p. 800. (236) والوثنيين على حد سواء ، حتى استطاع رجال مثل كاسيدورس وايسيدور أن يحققوا نوعا من الوفاق بين الكنيسة والأداب الدنيوية (32) .
وفى الوقت الذى أصيب الأدب اللاتينى بفتور فى القرن السابع وأوائل الثامن ظهرت نهضة عظيمة فى أيرلند تزعمتها الكنيسة والأديرة الأيرلندية ، وقدر لها أن تخفظ الكثير من مظاهر الثراث الأدبى الكلاسيكى من الضياع (33) . وهكذا استطاعت أيرلند أن تحمل مصباح المعرفة فى ذلك العصر المظلم ، الذى انتشرت فيه الفوضى ومظاهر عدم الاستقرار فى بلاد غرب أوربا (34) . وسرعان ما أدى حب الايرلنديين للهجرة الى انتشار نهضتهم وذيوعها فى البلاد المجاورة ، لاسيما بعد أن أسسوا أديرة شهيرة فى صلب القارة ، ظلت محورا للنشاط الفكرى عدة قرون . وقد بلغت هذه الحركة ذروتها فى القرن الثامن على عصر بدى (675-735) وهو الأديب الفذ الذى يمثل عصرا اكتملت فيه صورة الأدب اللاتينى فى العصور الوسطى (35) . ولم تمضى أيام على وفاة بدى حتى ولد الكوين (735-804) الذى يعتبر حلقة الوصل بين النشاط الفكرى فى ايرلند وبريطانيا من ناحية وغاليا وبقية الغرب من ناحية أخرى ؛ والذى كان أبرز أعلام النهضة الكبيرة التى تعهدها شارلمان بالرعاية فى أواخر القرن الثامن .
الأدب فى النهضة الكارولنجية
والواقع أن الفضل يرجع الى النهضة الكارولنجية فى انقاذ الأدب اللاتينى من الهوة السحيقة التى تردى فيها فى القرن السابع ، كما انها منحته قوة دافعة ظهر أثرها بعد ذلك فى النهضة الأوتية أو السكسونية فى المانيا ، وفى المدارس الديرية الكبرى التى ازدهرت فى القرنين التاسع والعاشر . وهنا نسجل أن الانحلال السياسى الذى تعرض له غرب أوربا فى القرن التاسع لم يصحبه – لحسن الحظ – تدهور فى الدراسات الأدبية ، الأمر الذى جعل القرنين التاسع (32) Hall: Introduction to the study of Classical Texts p.p. 68-71. (33) Cam Med Hist. vol. 3, p.p. 501-506. (34) Poole: op. cit. p. 8. (35) Eyre: op. cit. vol. 2, p. 368. (237) والعاشر يحتفظان بمستوى ثقافى لائق فى الدراسات الأدبية كالتاريخ والشعر (36) .
وجمع شارلمان حوله – فى بلاطه بمدينة آخن (اكس لاشايل ) – أبرز علماء عصره الذين أجتذبهم من بلاد أوربا ، مثل الكوين من انجلترا ، وبولس اللبماردى وبطرس البيزى ، وثيودلف الأورليانى ، ورابان مور مقدم دير فولدا ؛ هذا فضلا عن سكرتيره أينهارت ومساعده انجلبرت (37) . وأمتازت النهضة الكارولنجية باتساع افقها وصبغتها التعليمية . وتغلب الطابع الدينى عليها . كذلك احتل التاريخ والتدوين التاريخى ركنا هاما فى هذه النهضة ، فكتب بولس اللبماردى " تاريخ اللمبارديين " ، كما كتب اينهارت "تاريخ حياة شارلمان ". ويعتبر الأخير من أهم كتب التراجم فى العصور الوسطى ، على الرغم من تقيد المؤلف بمنهج المؤرخ الرومانى سيتونيوس Suetonius (69-141) فى تراجمه لأباطرة الرومان (38) . وقد غدت الترجمة – التى وضعها اينهارت لحياة شارلمان – مثلا يحتذى به فى الكتابات التاريخية المعاصرة ، حتى أن ثلاثة من الكتاب قاموا بوضع تراجم لحياة لويس التقى ، ابن شارلمان وخليفته (39) .
وهناك جانب آخر من الكتابات التاريخية هو الحوليات التى مهدت فى العصر الكارولنجى لمولد نوع جديد من التدوين التاربخى ، قدر له أن يظل قائما حتى نهاية العصور الوسطى . ذلك أن هذه الحوليات لم تكن مجرد وقائع وصفية ، وانما كانت – كما يبدو من اسمها (annals ) سردا لأهم أحداث السنوات المتعاقبة كل سنة على حدة . وقد نشأ هذا النوع من التدوين التاريخى لأول مرة فى الغرب فى نورتمبرلاند بأنجلترا ، حيث جرت العادة فى الأديرة بتدوين الحوادث الكبيرة أولا فأولا . ومن المحتمل أن يكون الكوين هو الذى نقل هذا الأسلوب الى غاليا ، حيث آمن شارلمان بأهميته ، فأمر الأديرة باتباعه فى تدوين حوادثها (40) . (36) & (40) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 801. (37) Waddell: The Wandering Scholars p. 39. (38) Cam Med Hist. vol. 3, p. 517. (39) Lavisse: op. cit. Tome 2, Livre 1, p. 347. (238)
وكانت هذه الحوليات صغيرة ، قليلة الأهمية فى الأديرة الصغيرة ؛ أذ أنها لم تتعد ذكر الاحداث المحلية . ولكنها صارت فى الأديرة الكبيرة – مثل دير لورخ Lorsch ودير سانت برتن St. Bert in - على جانب كبير من الأهمية وغزارة المادة التاريخية. والى جانب هذه الحوليات الديرية ، وجد نوع آخر عرف باسم الحوليات الملكية (Annals Royals ) التى دونت تحت اشراف رجال البلاط ، وتناولت تاريخ الكارولنجيين منذ تقسيم شارل مارتل لمملكته بين أبنائه . كذلك لم تهمل الكتابات التاريخية فى العصر الكارولنجى سير القديسين . هذا زيادة على الكتب التاريخية المتعددة التى تناولت أخبار الحروب والحوادث ، مثل كتاب " تاريخ الحروب الأهلية " لمؤلفه نيثارد Nithard فى القرن التاسع (41) .
واذا كان الشعر قد فاق النثر فى العصر الكارولنجى ، فان هذا التفوق لم يكن فى الجودة والكيف بقدر ما كان فى الكثرة والكم ، لأن الاتجاه السائد غلب استعمال الشعر فى مختلف شئون الحياة ، حتى أن معظم الأدباء المعاصرين – مثل بولس والكوين وانجلبرت وثيودلف – فرضوا الشعر . كذلك خلف لنا ذلك العصر نحو سبعين أو ثمانين قطعة شعرية من أغانى المآثر Chansons de Geste التى تناول بعضها أعمال شارلمان أو أحداثا هامة تمت فى عهده (42) . عل ان الطابع الغالب على الشعر الكارولنجى كان دينيا ، لأن معظم ناظميه كانوا من رجال الكنيسة ، زيادة على أن شعراء ذلك العصر استلهموا أشعارهم من شعراء المسيحية مثل برودنتوس وفورتناتوس (43) . وكان أبرز شاعرين فى العصر الكارولنجى على الاطلاق – سواء فى الشعر الديى أو الدنيوى – هما والفرد سترابو Walafrid Strabo (809-849) أحد رهبان دير ريخنو ، وسدوليوس سكوت Sedulius scotus (848-874) ، وهو راهب أيرلندى أستقر فى لييج . وقد كتب الأول فى شعر الحكمة والشعر الغنائى ورسائل دينية منظمومة ، كما خلف قطعة رائعة عنوانها " وصف الحديقة Hortulus " وصف فيها حديقة (41) Taylor: op. cit. vol. 1, p.p. 234-235. (42) Cam. Med. Hist. vol. 6, p.p. 816-824. (43) Paris: op. cit. p.p. 48-50. (239) دير ريخنو (44). أما الثانى فقد ألف باقة من الأغانى الجميلة (Carmina ) امتاز بعضها بدقة النظم – مثل " الحوار بين الوردة والزنبقة " – والبعض الأخر من أغانى الشراب التى تجلت فيها شخصية ذلك الراهب الأيرلندى المرحة . على أن أهم ما قام به سدوليوس سكوت ، كان ترجمة بعض أجزاء من الانجيل فى قالب شعرى ؛ ومازالت بعض هذه الأشعار الدينية تستخدم فى ترانيم الكنيسة حتى اليوم (45). ومهما يكن الأمر فأنه يؤخذ على شعر العصر الكارولنجى بعده عن الحياة العامة ، وضعف الصلة التى تربطه بالحياة الشعبية ؛ هذا بالرغم من وفرة هذا الشعر وغزارته (46) .
ولعل خير ما يصور لنا مدى العناية بالأدب الكلاسيكى فى القرن التاسع ، هو أن عدد ما وصل الينا من المخطوطات الكلاسيكية – التى ترجع أصولها الى العصور القديمة ، والتى أعيد نسخها فى القرن التاسع – بلغ سبعا وثلاثين وثلثمائة مخطوطا ؛ فى حين أنه لم يصل الينا من هذا النوع من مخطوطات القرن العاشر سوى مائة وخمسة عشر مخطوطا ، ومن القرن الحادى عشر ستة وخمسين مخطوطا (47) . وكان رائد هذه الحركة العظيمة هو الكوين ، الذى أخذ يعمل فى جد ونشاط لتصحيح المخطوطات القديمة وتنظيمها واعادة نسخها مصححة ؛ وذلك بعد أن تعرضت تلك المخطوطات فى الفترة الواقعة بين القرنين السادس والثامن للأهمال والتحريف والضياع (48) . ويعتبر أهم ما قام به الكوين فى هذا الباب مراجعة الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس مراجعة دقيقة شاملة . أما سرفاتوس لوبوس Servetus Lupus - مقدم دير فريير – فكان اعظم المهتمين بالأداب الكلاسيكية اللاتينية فى القرن التاسع ، كما أن رسائله التى كتبها (44) Waddell: The Wandering Scholars p. 32. (45) Waddell: Med. Latin Lyrics p.p. 319-320. (46) Haskins: The Renaissance of the Twelfth Century p. 135. (47) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 802. (48) Guizot: Hist. de la Civilization en France Tome 2, p. 185.
(240)
فى الموضوع القت ضوءا ساطعا على هذه الآداب (49) .
وفى وسط هذه التيارات الكنسية والكلاسيكية ، ظل الأدب الجرمانى القومى يحاول أن يشق لنفسه طريقا ولو ضيقا . ومن المعروف أن شارلمان كان جرمانيا بحكم اصله وطبيعته ، ولذلك لا نعجب اذا حرص على الاحتفاظ بمجموعة من الأغانى والأشعار الجرمانية ، كما حاول أن يجمع قواعد اللغة الجرمانية ، بل اطلق على الرياح والأشهر أسماء جرمانية (50) . أما الأغانى الجرمانية ، فكانت حينئذ عبارة عن مجموعة من أناشيد الحب والحرب والمغامرة ، ولكن الكنيسة اعتبرت هذه الأغانى صوره من صور الوثنية فوقفت منها موقفا معاديا ، حتى احرقها لويس التقى –خليفة شارلمان – وبذلك حرمنا من هذا المصدر القيم للأداب الجرمانية وأصولها اللغوية .
الأدب فى القرن العاشر
ربما بدا من كلامنا السابق عن النهضة الكارولنجية أن هذه النهضة اقتصرت على غاليا وجزء من المانيا ، وهى الجهات التى كانت تمثل قلب الأمبراطورية الفرنجية . ولكن حدث فى القرن العاشر ، عندما نهضت المانيا فىظل الأسرة السكسونية أن انتقلت النهضة الأدبية الى شمال المانيا حيث ازدهرت فى أديرتها (51) . ذلك أن الامبراطور أوتو العظيم لم يعمل على اقتفاء أثر شارلمان فى الجانب السياسى فحسب بل أيضا فى الجانب الحضارى ، مما أدى الى ازدهار الثقافة فى المانيا . وكان رائد تلك الحركة الفكرية بروتو Bruno رئيس أساقفة كولونيا ، الذى أظهر اهتماما بالغا بتشجيع العلم والثقافة ، كما دفعه شغفه بعلوم القدماء الى تعلم اللغة اليونانية من الرهبان الأيرلنديين فى المانيا (52) . وهكذا تمخضت النهضة الأوتية أو – السكسونية – عن بضعة أعلام مثل ويدوكند Widukind مقدم دير كوربى وأمهر كتاب التاريخ فى المانيا ، وهورتسويثا (49) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 802. (50) Taylor: op. cit. vol. 2, p. 249. (51) Poole: Med Thought p. 74. (52) Waddell: The Wandering Scholars p. 66. (241) Hortswitha التى دونت مجموعة من القصص الدراسية فى أسلوب لاتينى على درجة كبيرة من الجودة والنقاوة ، جعلت علماء النهضة الايطالية فى القرن الخامس عشر يشكون فى صحة نسبه هذا الانتاج اليها (53).
أما ايطاليا التى لم يبرز فيها كاتب ملحوظ فى القرن التاسع – باستثنا أنسطيوس الكتبى الذى كان متعالما أكثر منه عالما - فقد شهدت فى القرن العاشر موهبة فذة فى شخص ليتو براند أسقف كريمونا ، الذى بلغ من أجادته لليونانية أن أختاره الامبراطور أوتو الأول مبعوثا الى القسطنطينية . وقد ترك ليتوبراند هذا عدة بحوث بعضها فى وصف الحياة والعادات فى الدولة البيزنطية ، والبعض الآخر عبارة عن خليط من المعلومات التاريخية والجدل والهجاء والدعابات الفكاهية (54) . والواقع أن ليتو براند كان أبرز أديب مثقف فى عصره ، وقد اشتهر بتعليقاته اللاذعة مثل قوله بأن الايطاليين " مغرمون دائما بحب سيدين (يقصد البابا والامبراطور) ، وهم لايتظاهرون بحب أحددهما الا لأنهم يكرهون الآخر ! " (55) .
أما فرنسا فكانت فقيرة فى الانتاج الأدبى فى القرن العاشر ، ولم يبرز فيها سوى مؤرخين أحدهما فلودورد Flodoard صاحب حوليات ريمس (922-966)، والثانى ريتشر Richer مؤلف " أربع رسائل فى التاريخ " . وقد أمتاز الأول بالأمانة والدقة فى كتابته ، فى حين حاول الثانى أن يؤرخ لانقلاب سنة 987 الذى أدى الى قيام أسرة كابيه ، كما استعمل خليطا غير متجانس من الاصطلاحات والألفاظ الفنية والحربية والادارية ، مما جعل أسلوبه اللاتينى من الصعوبة بمكان (56).
الأدب فى القرن الحادى عشر
أما القرن الحادى عشر فقد شهد تطورات سياسية خطيرة فى أوربا ، مثل (53) Foligno: Latin Thought p.p. 92-93. (54) Taylor: op. cit. vol. 1, p.p. 257-258. (55) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 803. (56) Waddell: The Wandering Scholars ps. 68, 73. (242)
انتشار حركة الاصلاح الكلونية ، والنزاع حول التقليد العلمانى بين البابوية والامبراطورية ، وازدياد نفوذ البابوية فى السياسة الأوربية ، وغزو النورمان لصقلية وجنوب ايطاليا فضلا عن غزوهم لانجلترا ، والحروب الصلبية .......... ويبدو أن هذه الأحداث العظيمة كان لها أثرها فى صرف أنظار المعاصرين عن الأدب والنشاط الأدبى ، بحيث لم يخلف لنا ذلك القرن شيئا يستحق الذكر سوى ماتركه فى ميدان الدراسات التاريخية (57) . أما أبرز المؤرخين فى ذلك العصر فهو أدم البرمنى Adam of Bremen الذى الف كتابا عنوانه " أعمال رؤساء أساقفة هامبورج ". ويحوى هذا الكتاب معلومات تاريخية هامة عن شمال المانيا، وبصفة خاصة العناصر السلافية الرابضة على نهر الالب . كذلك ألف أدم كتابا آخر تناول فيه أحوال سكندناوة وأيسلند وجرينلند فى تلك العصور ، وهو يعتبر مصدرا أساسيا لأحوال هذه البلاد حينذاك من النواحى التاريخية والجغرافية والبشرية والاقتصادية (58) . وفى عهد الامبراطور هنرى الرابع كتب راهب اسمه برونو كتابا عنوانه " تاريخ ثورة سكسونيا " ، وهو يمتاز بالدقة والأمانة . كذلك دونت فى المانيا فى القرن الحادى عشر عدة تراجم هامة تناولت بوحه خاص حياة مشاهير الأساقفة . أما فرنسا وايطاليا فقد ظهرت فيهما وقتئذ بعض الكتابات التاريخية التى تناولت حياة كبار الشخصيات المعاصرة – مثل ماتيلدا أميرة تسكانيا – أو الأحداث الهامة – مثل غزو النورمان لجنوب ايطاليا – أو أخبار بعض كبار الأمراء الاقطاعيين فى فرنسا ، مثل أمراء بيت أنجو (59) .
الأدب فى القرن الثانى عشر
على أن أحداث القرن الثانى عشر ، وما ترتب عليها من يقظة شعوب غرب أوربا من جهة ، وزيادة الاتصال مع المسلمين فى الشرق والغرب من جهة أخرى أدت الى اثارة نهضة كبيرة فى مدارس غرب أوربا (60) .
وقد احتل النشاط الأدبى والدراسات الانسانية جانبا أساسيا من تلك النهضة (57) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 804. (58) Beazley: The Dawn of Modern Geography vol. p. 9. (59) Thompson: op. cit. vol. 2, p.p. 804-805. (60) Eyre: op. cit. p.p. 269-270. (243) الفكرية والعلمية الجديدة ، التى أخذت تظهر منذ نهاية القرن الحادى عشر لتتبلور فى القرن الثانى عشر . وهكذا تم أحياء الأدب اللاتينى الكلاسيكى على الرغم من الفتور الذى أصاب دراسته فى القرن العاشر (61) . وسارت العناية بالدراسات الأدبية الكلاسيكية جنبا الى جنب مع المعارف الجديدة فى العلوم والرياضيات والفلسفة والطب والقانون وغيرها . وقد بدات حركة احياء الأدب الكلاسيكى – كما هو الحال فى البحث العلمى – على يد جربرت الريمسى Gerbert of Reims ثم انتقلت من ريمس الى شارتر على يد تلميذه الأسقف فلبرت Fulbert (62) . وكان هلد برت Hildbert أسقف تور شاعرا لاتينيا موهوبا ، بلغ من سلامة أسلوبه وجمال تعبيره أن علماء النهضة الايطالية شكوا فى صحة نسبة أشعاره اليه ، حتى قال بعضهم بأن هذه الأشعار لابد وأن تكون نماذج من الشعر الكلاسيكى استكشفت فى القرن الحادى عشر (63) . حقيقة أنه وجد فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر بعض ذوى الأفاق الضيقة من رجال الدين ، حاولوا اقتفاء سياسة البابا جريجورى العظيم فى أواخر القرن السادس ، فنادوا بمحاربة الأدب الكلاسيكى واعدامه ، بحجة أنه مظهر من مظاهر الوثنية . ولكن هؤلاء كانوا قلة ولم يصبحوا خطرا حقيقيا على الأدب الكلاسيكى (64) . أما الخطر الذى هدد الأدب الكلاسيكى فى القرن الثانى عشر فقد أتى نتيجة لمنافسة منطق أرسطو والاتجاه العلمى الجديد فى الحياة الفكرية ، مما لم يترك مجالا واسعا للدراسات الأدبية الكلاسيكية (65) . ومع أن احياء الدراسات الكلاسيكية كان أضعف مظاهر القرن الثانى عشر ، الا أن ذلك الاحياء لم يندثر كلية تحت ضغط الفلسفة والعلوم الجديدة ، فقد ظهرت كتابات لاتينية تسترعى الانتباه مثل رسائل أبيلار وأشعار هلدبير ومؤلفات حنا سالسبورى ، وكلها تستحق الاعجاب والتقدير (66) . (61) Haskins: The Renaissance of the Twelfth Century p. 115. (62) Poole: op. cit. p. 98. (63) Pirenne, Cohen Focillon: op. cit. p. 206. (64) Haskins: The Renaissance of the Twelfth Century p.p. 96-98. (65) Ibid. (66) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 809. (244)
أما مراكز العناية بالدراسات الكلاسيكية فكانت الأديرة البندكتية ، بحكم أقدميتها وانتقال تراث النهضة الكارولنجية اليها من ناحية ، وبحكم أنها لم تشارك المنظمات الديرية الجديدة فى الاهتمام بالحركات المتعلقة باصلاح الكنيسة ولم تقحم نفسها فى التيارات السياسية المعاصرة من ناحية أخرى . وهكذا ظلت الأديرة البندكتية بمثابة المستودع الأساسى للدراسات الكلاسيكية ، حتى ورثتها المدارس الأسقفية فى هذه المهمة وغدت الأخيرة مركزا للدراسات الكلاسيكية وغير الكلاسيكية من العلوم الجديدة (67) .
وقد احتل انشاء الرسائل Epistolary Composition المكانة الأولى فى ميدان البلاغة فى ذلك العصر ، عندما ازدهر فن كتابة الرسائل فى بولونيا بايطاليا – أعظم مدارس القانون فى العصور الوسطى – ثم انتقل بعد ذلك الى فرنسا حيث وجد بيئة صالحة فى مدرسة أورليان . وتمثل الرسائل التى كتبت حينئذ فى تور وأورليان نوعا راقيا من النثر اللاتينى البليغ ، وبخاصة تلك التى ترجع الى عهد فيلب أوغسطس (1180-1223) والتى تناولت محاورات خيالية بين الشتاء والربيع ، وبين الروح والجسد ، وبين الانسان والشيطان .... ولا تقتصر أهمية هذه الرسائل على ما بلغته من مستوى رفيع فى البلاغة ، بل ترجع هذه الاهمية أيضا الى ما تلقيه من ضوء ساطع على أوضاع العصر الذى دونت فيه (68) .
أما الشعر اللاتينى فقد بلغ فى القرن الثانى عشر درجة كبيرة من الرقى والكثرة والتنوع . ويبدو أن هذا الشعر تأثر الىحد واضح بالشعر الكلاسيكى من ناحية ، وبالطابع الدينى من ناحية أخرى . فالأثر الكلاسيكى يبدو واضحا فى أشعار هلد بير (ت1123) ، وبخاصة القصيدتين اللتين نظمهما عن روما ، وأبدى فيهما أسفه لزوال مجدها القديم ، كما أضفى عليها آيات التبجيل فى عصره لقيام البابوية فيها (69) .
أما الطابع الدينى فيبدو فى أشعار أبيلار ماربود ، فضلا عن كثير من الأشعار (67) Rashdall: Med Universities vol. 1, p.p. 43-44. (68) Haskins: The Renaissance p.p. 142-148. (69) Pirenne Cohen Focillon : op. cit. p. 206. (245) الدينية التى تناولت قصصا من الانجيل وسير القديسين ، وغيرها من الموضوعات الدينية . ويحتل هؤلاء الشعراء الثلاثة مكانة كبيرة فى ميدان النشاط الأدبى فى القرن الثانى عشر ، اذ يعتبر هلد بير أعظم شعراء عصره ، وقد عالج معظم فنون الشعر ، كالرثاء والمديح والموضوعات الدينية والخلقية. أما أبيلار (1079-1142) فكان شاعرا مجيدا ، الى جانب كونه من رجال الدين الذين اشتغلوا بالفلسفة . وقد نظم كثيرا من الاشعار الدينية فضلا عن بعض الأناشيد التى تدل على عقلية ممتازة (70) . وأخيرا ياتى ماربود Marbode (1035-1123) الذى تنسي اليه بعض الأشعار الدينية بالاضافة الى اشعار أخرى تمجد الشباب والحب والنساء (71) .
ومن الواضح أن أخصب أنواع الشعر فى العصور الوسطى كانت الترانيم والأغانى . أما الترانيم الدينية فقد أمتاز أسلوبها بالتفخيم ، وانتقاء الألفاظ الكفيلة بأن تضفى رداء من المهابة والجلالة على الحياة الدينية ، فى حين دار معظم موضوعات هذه الترانيم حول القصة الأزلية المتعلقة بالله والانسان مثلما جاءت فى العهدين القديم والجديد (72) . وأما الشعر الغنائى فقد ظهر منه نوع يعبر عن العواطف الانسانية وروح حب الطبيعة والتعلق بجمالها . وقد اطلق على هذا النوع من الشعر اللاتينى الغنائى اسم الشعر الجلياردى Goliardic lyric poetry نسبة الى شخصية غامضة مجهولة اسمها جولياس Golias اعتقد المعاصرون أنها مصدر الالهام الروحى للشعراء الجليارديين (73) . ومهما يكن الأمر فان الشعر أمتاز بطابعه الدنيوى وروحه الفكاهية الخفيفة التى غلبت عليها الرغبة فى الاستمتاع بملاذ الحياة من شباب وخمر ونساء (74) . ولما كان الشعر الجلياردى (70) Waddell: Med Latin Lyrics p.p. 162-169 & 336. (71) Pirenne Cohen Focillon: op. cit. p. 206. (72) Paris: Literature Françoise au Moyne Ages p. 145. (73) Thompson vol.2 p. 807. (74) Symonds: Wine Women and Songs p. 191 & Haskins: The Renaissance p.187
(246) يتعارض مع آراء الكنيسة ورجال الدين تعارضا حادا ، فان الشعراء الجليارديين وقفوا موقفا عدائيا من رجال الدين – كبيرهم وصغيرهم – واتخذوهم موضوعا لسخريتهم ونقدهم اللاذع ؛ حتى المسيح والبابوية وفروض الدين لم تسلم من تهكمهم وهزلهم ؛ الأمر الذى سبب فزعا كبيرا للكنيسة ، فعقدت عدة مجامع دينية لتحريم هذا النوع من الشعر وانزال اللعنة باصحابه (75) . وكان هذا التطاول على الكنيسة ورجالها ومحاولة النيل منها وهدم نظمها ، من العوامل التى جعلت رجال حركة الاصلاح الدينى فى القرن السادس عشر يعتمدون على الأشعار الجلياردية فى اثبات مفاسد الكنيسة الكاثوليكية (76) .
ويبدو أن معظم الشعراء الجليارديين كانوا من طلبة العلم الجائلين الذين أخذوا يتنقلون فى ذلك العصر من مدرسة الى أخرى ومن بلد الى أخر ، يرددون شعرهم الفكاهى ويجدون فيه السلوى عن متاعب الحياة ومشاقها (77) . وقد حفظ لنا التاريخ اسمين من أعلام الشعر الجلياردى نسب اليهما كثير من المقطوعات الشعرية الخفيفة . أما الأول فهو هيو الأورليانى (1090-1150) الذى تعلم فى باريس ثم علم فيها ، حتى انتقل الى شمال فرنسا بعد أن فقد ثروته ومنصبه ، فأخذ يخفف عن نفسه بهذا النوع من الشعر الفكاهى الذى تجلت فيه شخصيته ومواهبه . وقد ساعد على نبوغه فى الشعر تعمقه فى الدراسات الكلاسيكية واحاطته بأوزان الشعر اللاتينى الكلاسيكى (78) . وأما الشاعر الثانى من أعلام الشعر الجلياردى فنجهل اسمه الحقيقى ، وان كان من الثابت انه خلف جولياس فى زعامة هذه المدرسة الشعرية الفكاهية ، حتى اطلق عليه فى المراجع لقب الشاعر الأول أو أمير الشعراء Archipoets (ت1165) (79) . وكل ما نعرفه عنه هو أنه كان معاصرا لفردريك بربروسا واشتغل فى بلاطه ، كما أمتازت أشعاره (75) Waddell: Wandering Scholars p.p. 260-268. (76) Symonds: Wine Woman and Songs p. 7. (77) Pirenne, Cohen Bouillon: op. cit. p. 207. (78) Haskins: The Renaissance p. 179. (79) Waddell: Med Latin Lyrics p.p. 338-340. (247) بالأحكام والتنوع وخفة الروح (80) .
الأداب الشعبية والمحلية =
على أننا اذا كنا فى كلامنا عن الأدب الغربى فى العصور الوسطى قد التزمنا جانب الأدب اللاتينى ، وبحكم بقاء اللاتينية لغة الكنيسة والمتعلمين ، فليس معنى ذلك أن عامة الناس لم يكن لهم أدب شعبى خاص بهم (81) . ذلك أن طبقة العامة فى غرب أوربا لم تعرف اللاتينية الفصحى ، وانما عرفت اللغة التى توارثها الناس عن اجدادهم – سواء كانت هذه اللغة لاتينية دارجة أو جرمانية . هذا مع ملاحظة أن اللغات الوطنية المحلية vernacular لم تنهض لتعبر عن النشاط الأدبى قبل القرن الحادى عشر (82) . والى أن قامت اللغات المحلية بهذه المهمة كان لعامة الناس – من سلالة العناصر الجرمانية والكلتية – أدابها الشعبية . ولكنها كانت أدابا غير مكتوبة ، تألفت من أغان وقصص واساطير يتناقلها الناس شفاها ويتوارثها الخلف عن السلف . والواقع أنه مهما بلغت بدائية شعب او قوم ، فان لكل شعب مقدرته على التعبير التصويرى الذى قد يبدو لنا تافها وبسيطا ، ولكنه لا يخلو من جمال فطرى (83) .
ويلحظ المتتبع للأدب الغربى فى النصف الأخير من القرن الثانى عشر أن هذا الأدب لم يعد لاتينيا خالصا . ذلك أن تيار اللغات المحلية أخذ يقوى ويشتد فى ذلك العصر ، تمهيدا لظهور اللغات الحديثة الخاصة بمختلف بلدان غرب أوربا ؛ الأمر الذى يجعل من النصف الآخير من القرن الثانى عشر مرحلة انتقال من الأدب اللاتينى الخالص الى الأداب الوطنية الناشئة (84) .
ويمكن تقسيم المصادر التى نبعت منها الأداب المحلية فى العصور الوسطى (80) Haskins: The Renaissance p. 181. (81) Paris: Literature Françoise au Moyne Ages p.p. 2-3. (82) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 809. (83) Waddell: Poetry in the Dark Ages p. 7. (84) Pirenne Cohen Bouillon op. cit. p.p. 204-205. (248) الى ستة ؛ هي التراث الكلاسيكى القديم ، والانجيل ، والجرمان ، والكلت ، والفيكنج ، والمسلمون ومن شابههم من العناصر الشرقية . ومع أن هذه القنوات الفكرية المنفصلة تداخلت على مر الزمان وامتزجت تياراتها الى حد كبير ، بحيث تشابهت الموضوعات . والبواعث فيها جميعا ؛ الا أن الخلافات والفروق ظلت واضحة فيما بينها وبين البعض . ذلك أن الأصول الأولى للتيارات السابقة استمرت محتفظة بخصائصها من جيل الى آخر ، دون أن تمتزج بغيرها من الآراء الا امتزاجا سطحيا طفيفا ، لا يغير من حقيقتها أو جوهرها (85) .
ومن الواضح أن التراث الكلاسيكى – اليونانى واللاتينى – كان أقدم منبع للأداب الوطنية فى أوربا العصور الوسطى ؛ اذا ظلت الأساطير والقصص والروايات التاريخية لبقديمة المرتبطة بذلك التراث متداولة فى غرب أوربا . وبظهور المسيحية وانتشار تعاليم الكنيسة فى مختلف أنحاء غرب أوربا ، صار الكتاب المقدس يمثل مصدرا جديدا للالهام الأدبى ، حتى غدا كل حدث ورد فى ذلك الكتاب موضوعا لتعبير أدبى – منظوما أو منثورا (86) . على أن الجرمان الذين غزت قبائلهم غرب أوربا فى العصور الوسطى ، كانت لهم أغانيهم الحربية الحماسية ، وأبطالهم الذين صارت أعمالهم وبطولتهم محور كثير من القصص المعاصر . وقد سجل مؤرخو العصور الوسطى الذين عالجوا تاريخ الشعوب الجرمانية – مثل جوردان Jordan’s صاحب تاريخ القوط ، وجريجورى التورى مؤلف تاريخ الفرنجة ، وبولس اللمباردى مدون تاريخ اللمبارديين – كثيرا من أساطير البطولة التى ترتبط بتاريخ هذه الشعوب المبكر ، لأنهم لم يجدوا مصدرا أخر – عدا هذه الأساطير – يستقون منه معلوماتهم عن نسأة الشعوب الجرمانبة. كذلك كشفت البحوث التى تمت فى القرن الأخير النقاب عن مدى ما تمتعت به الشعوب الجرمانية من تقدم أدبى ، بعد الوقوف على كثير من الآثار – النثرية والشعرية – عند الفيكنج وبخاصة فى أيسلند والنرويج (87) . ومهما يكن الأمر (85) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 810. (86) Taylor: op. cit. vol. 2, p. 200. (87) Cam. Med. Hist., vol. 6, p. 837& Thompson: op. cit. vol. 2, p.p. 811-812. (248) فأن أهم الميادين التى ظهرت فيها الأداب الوطنية الناشئة فى أواخر العصور الوسطى ، كانت أشعار الملاحم من حهة وأشعار الترو بادور من حهة أخرى ، مما جعل لهذين النوعين أهمية خاصة تتطلب معالجة كل منهما على حدة .
شعر الملاحم
كان الرأى السائد حتى زمن قريب هو أن الملاحم التى عرفها غرب أوربا فى العصور الوسطى جاءت وليدة نمو أدبى بطئ ؛ وأن الملحمة – على الصورة التى نعرفها – كانت فى القرنيين التاسع والعاشر نوعا من الأغانى والقصص الشعرية. حتى كان عصر الحروب الصليبية ، وعندئذ ظهرت مجموعة من الكتاب جمعت هذه القصص والأغانى وحولتها الى ملاحم مترابطة . على أنه ثبت خطأ هذا الراى واتضح أن ملاحم أوربا العصور الوسطى جاءت عملا ابتكاريا مبتدعا ، وليست تحويرا أو جمعا لانتاج سابق . وهذه الحقيقة على جانب عظيم من الأهمية ،لأنها تثبت لنا أنه عند القرن الثانى عشر ، كانت اللغات الوطنية المحلية قد بلغت درجة من النضج سمحت لها بالتعبير عن المعارفوالمشاعر – من حب وكراهية وخوف وأمل وياس – فى صورة قصص أمتاز بالحيوية والخصب (88) .
وأكبر مجموعة من شعر الملاحم فى العصور الوسطى هى المجموعة التى انتجتها فرنسا ، والتى تمتاز بأهميتها البالغة للمؤرخ والأديب واللغوى . ذلك أن هذه المجموعة تعتبر خير مرآة انعكست فيها صور المجتمع الاقطاعى وحياة الفرسان والمجتمع الدينى . وكان شارلمان أهم شخصية اتخذتها أشعار الملاحم موضوعا لها ، فاحتل مكانة بارزة فى أغانى المآثر Chansons de gets التى دونت باللغة الوطنية ، والتى أخذت تنتشر انتشارا واسعا فى عصر الحروب الصلبية (89) . وفى ذلك العصر بالذات ظهرت فى الأدب الشعبى الاسطورة القائلة
(88) Pirenne, Cohen, Bouillon: op. cit. p.p. 243-244. (89) Taylor: op. cit. vol. 1, p.p. 574-575. (249)
بزيارة شارلمان لبيت المقدس ، وهى زيارة صورتها الاسطورة فى قالب سلمى (90) . أما أغنية رولان Chanson de Roland فقد ظهرت لأول مرة على عصر الحملة الصلبية الأولى ، وأظهرت شارلمان فى ثوب الصليبى الذى قام بحرب دينية مقدسة ضد مسلمى الاندلس (91) . وقد دونت أغنية رولان باللغة الفرنسية الناشئة فى أسلوب جميل يجمع بين البلاغة وقوة التأثير ، مما مكن رجال الدين من استغلالها فى الدعوة للحروب الصلبية فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر (92) .
ويبدو أن كثيرا من أغانى المآثر كان الغرض منها تشجيع المعاصرين على الحج وزيارة الأماكن المقدسة فى كومبوستلا وروما وفلسطين ؛ كما يبدو أن نسبة كبيرة من هذه الأغانى كتبها بعض رجال الدين . وبعبارة أخرى فان هذه الأغانى كانت نوعا من الدعاية الدينية فى العصور الوسطى ، اتخذت شكل ملاحم (93) .
وهناك مجموعة أخرى من أشعار الملاحم المنظومة باللغات الوطنية الناشئة تحتل مكانة خاصة فى الأدب الأوربى الوسيط ، هى المعروفة بأشعار الملك آرثر . وقد ظهرت هذه الأشعار حوالى سنة 1200 ، مما جعلها تصور المجتمع الاقطاعى بعد أن هذبته آداب الفروسية وتقاليدها (94) . وتبدو الفروسية فى هذه الأشعار أقرب الى أن تكون وظيفة مقدسة تباركها الكنيسة ، اذ يحتفل برفع الفرد الى مرتبة الفروسية وتدشينه دينيا ، فيقضى الليلة السابقة لتدشينه بجوار مذبح الكنيسة لتطهير نفسه مما علق بها من آثام ، ثم يغتسل بماء طهور وفقا للطقوس الدينية ، وأخيرا تنتهى هذه الاجراءات الدينية بالصلاة من أجل العذراء . وهكذا صارت هذه المجموعة الشعرية من روايات الملك آرثر مصدرا لمزيد من القصص
(90) Lanyon: Hist. de la Literature Françoise p.p. 23-25. (91) Cam Med Hist., vol. 6, p.p. 816-817. (92) Paris: Literature Françoise p. 71. (93) Pirenne, Cohen, Bouillon: op. cit. p.p. 211-216. (94) Linson: Hist. de la Literature Françoise p. 86.
(250) الخيالى الذى انتشر فى كثير من بلدان أوربا العصور الوسطى (95) .
وأخيرا نلاحظ أن جميع بلدان الغرب الأوربى شهدت منذ سقوط الامبراطورية الرومانية جماعة من الرواة والمنشدين والحواة والمشعوذين ، اختلفت السنتهم وتباينت تسمايتهم (96) . ولكن جمعت بينهم حرفتهم اذ دأبوا يتنقلون بين الضياع والحصون والآديرة والأسواق وطرق الحجاج ، ليتعيشوا من انشاد أغانيهم الشعبية وعرض العابهم (97) . وقد شابهت هذه الفئة من الناس المنبوذين او الغجر ؛ حتى انهم عرفوا بسوء الخلق وانحطاط المستوى الاجتماعى والخلقى . مما جعل الكنيسة فى العصور الوسطى تصدر عدة تشريعات ضدهم (98) . كذلك شابه أولئك المنشدون الشعراء الجليارديين فى خفة روحهم واغانيهم ، مع الفارق الأساسى وهو أن شعر الجليارديين جاء لاتينيا ، لأن معظم هؤلاء الشعراء كانوا من الطلبة الجائلين ، والقساوسة الهاربين ، أو الرهبان الشاردين ، وكلهم يعرفون اللاتينية ويتغنون بها (99) .
التروبادور والشعر الغنائي
وفى ختام كلامنا عن الشعر الغربى فى العصور الوسطى ، يصح أن نشير الى أن الشعر الغنائى المنظوم باللغات الوطنية ترحع نشأته الحقيقية الى جنوب فرنسا أو اقليم بروفنسال على وجه التحديد (100) . ومع أن هذا الشعر البروفنسالى يدين بقسط ما للشعر اللاتينى الذى عرفته العصور الوسطى ، الا أن البحوث الحديثة أثبتت تأثر الشعر البروفنسالى بالموشحات الأندلسية العربية ، التى تمتاز بخفة أوزانها ورقتها وخيالها ، فضلا عن موضوعاتها التى تدور حول الغزل (95) Pirenne: Cohen Bouillon: op. cit, p.p. 216-217. (96) أطلق على هؤلاء الرواة أسماء كثيرة عرفوا بها العصور الوسطى منها mimi, gleemen, ministrels, historiones, jongleurs. (97) Paris: Literature Françoise p.p. 80-162. (98) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 820. (99) Waddell: The Wandering Scholars, p.p. 171-173. (100) Lawson: Hist. de la Literature Françoise p. 86.
(251) العفيف والحب العذرى (101) . وقد عرف الشعراء الذين تغنوا بهذا النوع من الشعر البروفنسالى باسم " التروبادور " ، وهو لفظ لا يستبعد أن يكون تحريفا لعبارة " طرب دور " – اى " دور طرب " بالعربية ، مع تقديم الصفة على الموصوف كما هو الحال فى معظم اللغات الأوربية (102). وأول من نعرفه من شعراء التروبادور هو وليم التاسع أمير أكوتين (1087-1127) ، وهو الذى عرف بالمرح وحب الموسيقى والغناء . وسرعان ما تكاثر شعراء الترو بادور ، وأخذوا يتجولون من مكان الو أخر ، وقد حمل كل منهم قيثارته ليغنى أشعاره على أنغامها (103) . وتحت رعاية خلفاء وليم التاسع ، ترجم بعض الأدياء فى النصف الأخير من القرن الثانى عشر قصيدة " فن الحب Ares Amatory " للشاعر اللاتينى أوفيد (43 ق.م – 16 م ) وهى القصيدة التى أصبحت بمثابة انجيل شعراء الترو بادور (104) .
ولم يلبث ذلك الشعر البروفنسالى أو التروبادورى أن انتشر فى جميع أنحاء أوربا ، مثل أغانى المآثر والملاحم وقصص الملك آرثر . وهنا أيضا صار لذلك اللون من الشعر أثره الفعال فى رفع مستوى فرسان أوربا وتعليمهم أساليب التغنى بالغزل العفيف (105) . وقد اتضح بالبحث أن غزل الفروسية الذى انتشر بعد ذلك فى المانيا تاثر الى درجة كبيرة بأشعار الترو بادور التى نشأت فى جنوب فرنسا (106) .
ويبدو أن المعاصرين وجدوا فى الأدب الوطنى المحلى مخرجا من سيطرة اللاهوت والعلوم المدرسية . حقيقة أن العنصر الدينى كان بارزا واسع الانتشار فى ذلك النوع أيضا من الأدب الوطنى ، ولكن هذا العنصر الدينى كان ممثلا فقط (101) Pirenne, Cohen, Focillon: op. cit. p.p. 216-217. (102) انظر احمد امين : ظهر الاسلام الجزء الثالث . (103) Paris: Literature Françoise p. 162. (104) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 820. (105) Lanson: Hist. de la Literature Françoise p. 87. (106) Draper: A hist. of Intellectual Development of Europe vol. 2, p.p. 33-34. (252) بالقدر الذى يناسب العلمانيين ، لا رجال الكهنوت . وخير دليل على ذلك أن هذه الآداب الوطنية الناشئة حظيت برعاية الملوك والأمراء المعاصرين أمثال هنرى الثانى بانجلترا (107) ، وهنرى الأسد بسكسونيا ، وأمراء شامبنى وغيرهم من الأمراء الذين زخر بلاطهم بالشعراء والمؤرخين . وكانت هذه الرعاية التى حظى بها الأدب والأدباء من الملوك والحكام شيئا جديدا على الحياة الأوربية فى العصور الوسطى ، وظل أثرها قويا حتى القرن الثامن عشر . أما فى القرن الثالث عشر فأن أبرز الحكام تشجيعا للأدب – فضلا عن العلم – كان الامبرطور فردريك الثانى الذى جمع حوله العلماء والأدباء ، كما حضرت مجموعة من شعراء الترو بادور تتويجه فى روما سنة 1220 (108) .
الشعر القصصى والتمثيلي
وقد عرفت أوربا العصور الوسطى نوعا آخر من الشعر القصصى أطلق عليه اسم Fabliaux ، امتازت منظوماته بأنها قصيرة ، تغلب عليها روح الفكاهة والبعد عن التكلف فى الأسلوب (109) . وانتشر هذا النوع من الأشعار فيما بين القرنيين الثانى عشر والرابع عشر ، ولكنه ظل دائما يعبر عن الذوق الشعبى والبورجوازى ؛ بمعنى أنه كان يمثل أدب الأسواق والعامة ، بعكس الحال مع أغانى المآثر والملاحم التى ظلت تمثل أدب الحصون الاقطاعية والارستقراطية الحربية فى مجتمع العصور الوسطى (110) .
أما التمثيليات الدينية فى العصور الوسطى فقد ولدت داخل الكنيسة ، وأستمدت مسرحها وموضوعاتها ومناظرها وأسلوبها من وحى الكنيسة ، وقام بأدوارها قسيسون ورهبان ؛ وبذلك لم يبق الا المشاهدين والمستمعون فقط الذين كانوا من العلمانيين . وقد أطلق على هذه التمثيليات اسم تمثيليات المعجزات . ويرجح معظم الباحثين ان هذا النوع من التمثيليات لم يكن له وجود فى العصور (107) Stubbs: Seventeen Lectures on Med. and Mod. Hist. p.p. 137-143. (108) Kantorowicz: Frederick the Second p. 324. (109) Lanson: Hist. de Literature Françoise p.p. 103-104. (110) Paris: Literature Françoise p.p. 127-129. (253) الوسطى قبل القرن الحادى عشر (111) . ولما كانت هذه التمثيليات قد ظهرت فى وقت اشتد فيه ساعد اللغات الوطنية كالايطالية والفرنسية والبروفنسالية والأسبانية ، فان هذه التمثيليات الدينية أخذت تعمل – عن طريق غير مباشر – على أدخال كثير من الفاظ اللغات الوطنية فى لغة الكنيسة اللاتينية (112) . وسرعان ما تطور الأمر حتى أصبحت هذه التمثيليات تبدأ بافتتاحية لاتينية ثم تستانف باللغة الوطنية السائدة ، ثم صارت التمثيلية كلها باللغة الوطنية . واخيرا انتهى التطور بالاقلاع عن الموضوعات الدينية واختيار موضوعات دنيوية بحتة لتكون محورا لهذه التمثيليات ، وبذلك أنفصلت التمثيلية عن الكنيسة وغدت انتاجا علمانيا دنيويا (113).
ايطاليا ودانتي
أما ايطاليا بالذات فلم تظهر فيها أية عبقرية أدبية مبتكرة فى العصور الوسطى قبل القرن الثالث عشر . حقيقة ان الايطاليين شاركوا بقية شعوب أوربا العصور الوسطى فى انتاجهم الأدبى ، ولكنهم لم ينتجوا قطعة أدبية ممتازة ، ولم تتمخض قريحة أحدهم عن ملحمة خاصة يفخرون بها فى ذلك الشطر الأول من العصور الوسطى (114) . ويعلل بعض الباحثين هذا النضوب الأدبى فى ايطاليا بأن جهود الشعب الايطالى انصرفت الى ناحيتين من نواحى النزاع السياسى ، أولاهما النزاع بين البابوية والامبراطورية ، والأخرى جهاد المدن اللمباردية فى سبيل استقلالها ويبدو أن هذه الأحداث – التى كانت ايطاليا مسرحها الرئيسى – أعمت أنطار الايطالببن عن الأدب والفنون واللاهوت ، فى حين انصرف المبرزون الى الدراسات القانونية والنشاط السياسى (115) . وكانت اللغة الايطالية قد أخذت تنهض وتبرز شيئا فشيئا شأنها شأن اللغات الوطنية الناشئة ، حتى صارت قبل (111) Haskins: The Renaissance p.p. 170-174. (112) Thompson: op. cit. vol. 2, p.p. 823-825. (113) Pirenne, Cohen Bouillon op. cit. p.p. 408-412. (114) Thompson: op. cit. vol. 2, p. 818. (115) Symonds: Italian Literature p. 10. (254) مولد دانتى صالحة للتعبير الأدبى شعرا ونثرا ، لاسيما فى صقلية وجنوب ايطاليا ، وقد حبا الامبراطور فردريك الثانى هذه اللغة الناشئة بعطفه ورعايته ، فجمع فى بلاطه جمعا من شعرائها (116) . وتستطيع هذه المجموعة من الشعراء الايطاليين – التى بلغت نحو الثلاثين فى بلاط فردريك الثانى – أن تفخر بأمرين : أولهما أنهم كانوا أول من استعمل الايطالية فى الكتابة ، وثانيهما أنهم كانوا أول من ابتكر ذلك النوع من القصائد المعروفة باسم السونت (sonnet ) (117) .
ثم كان أن ظهرت على مسرح الأدب عبقرية فذة أنجبتها ايطاليا فى ختام العصور الوسطى . ونقصد بهذه العبقرية دانتى (1275-1321) الذى كتب عدة أشعار شهيرة ، أولها عن " الحياة الجديدة Vita Nuova " التى استلهمها من حبه لسيدة اسمها (Beatrice ت 1290 ) لم يستطيع أن يتزوج منها ولم تخاطبه سوى مرة واحدة ، ولكن حبها ظل عالقا فى قلبه (118) . كذلك كتب دانتى دفاعا عن اللغة الوطنية ( De Vulgari eloquentia ) ، وهو دفاع مكتوب باللاتينية ليتمكن المثقفون من قراءته ، ذكر فيه اقتراحاته للتهوض باللغة الايطالية الجديدة والتوحيد بين لهجاتها لتصبح أداة فعالة فى التعبير الأدبى (119) . أما رسالة دانتى عن الملكية (De Monarchia ) فكانت باللاتينية أيضا وتناولت طبيعة الدولة . على أن أبرز انتاج دانتى كان الكوميديا الالهية أو المقدسة . وهى أشبه بدائرة معارف نظمها بالايطالية ، وتخيل فيها رحلة الى العالم الآخر ، فى اسلوب يمتاز بالروعة وجمال التصوير . ولا تقتصر أهمية هذه الكوميديا على انها أول انتاج كامل ضخم بالايطالية الصحيحة فحسب ، بل ترجع أهميتها أيضا الى الآراء (116) Foligno: Epochs of Italian Literature p. 9 & Kantorowicz: op. cit. p. 325. (117) السونت نوع من القصائد يغلب عليها الطابع الغزلى . تنظم على هيئة مجموعات ، تتألف القصيدة من 14 بيتا أو 12 بيتا حسب اختلاف العصور وتمتاز بوزنها الخاص الذى يتطلب ترتيب الابيات وفق نظام خاص أيضا ، المجموعة المؤلفة من اربعة أبيات ينتهى البيت الأول منها بحرف A مثلا ثم البيتان الثانى والثالث بحرف B ثم الرابع بحرف A وهكذا . (118) Pirenne Cohen, Bouillon p. 338. (119) Foligno: Epochs of Italian Literature p. 10.
(255)
القوية الجريئة والمعانى العميقة التى عبر عنها دانتى فى انتاجه (120) .
(120) Pirenne Cohen Bouillon: op. cit. p.p. 336-351.
(256)
(أوربا العصور الوسطى )