الهاجرية

من معرفة المصادر

الهاجريون، كتاب من تأليف باتريشيا كرونه ومايكل كوك، ترجمة نبيل فياض، الطبعة الأولى المترجمة 1999. نبيل فياض


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بطاقة شكر

إلى السيدة باتريشيا كرونه على زيارتها لنا في دمشق وعلى كل ما أرسلته إلينا من كتب ومراجع ومصادر ساعدت للغاية في فهم أرضية كتابة هذا العمل. إلى السيد مايكل كوك الذي تفضل مشكوراً بإرسال عمله الرائع « محمد » إلينا والذي ساعدنا أيضاً في فهم نظرته لصيرورة تكوين الإسلام. إلى الصديق إيكارت فورتس صاحب فكرة ترجمة هذا العمل. إلى الصديق ينس هانسن الذي كان واسطتي في التعرّف إلى السيدة كرونه. إلى الصديق لاورانس شيكوريللي على كل مقترحاته البناءة. وأخيراً إلى الصديق د.د. هارتر الذي لولا جهوده الخيرة لما رأت الكثير من أعمالي النور.


نبيل فياض


ملاحظة

«الهاجريون» كتابٌ ينضح بالمشاكل فعلاً؛ وإذا كنّا لا نوافق السيدين كرونه وكوك في كل ما كتباه، فإننا لا نخالفهما بالمقابل في كل ما كتباه أيضاً. وكان أفضل للهاجريون لو كُتِب بلغة اقل استعراضية - أكاديمية وأكثر عمقاً فكرياً. مع ذلك، يظل الهاجريون شهادة حيّة على عمق اطلاع الغرب على الفكر العربي والإسلامي وذلك مقارنة بعمق اطلاع العرب والمسلمين على أفكار غيرهم. يبقى أن نذكر أخيراً أننا استخدمنا بعض الألفاظ ذات الأصل غير العربي لأننا لم نجد في العربية ما يعطي معناها كاملاً والتي يجب أن نوضح ما تعنيه للقارئ العربي. - كوزموبوليتاني: 1 - شخص بمنظور عالمي وليس إقليمياً أو محلياَ؛ 2 - شخص ذو ثقافة عالمية؛ 3 - موضع مكون من أشخاص أو عناصر من كل أرجاء العالم؛ 4 - شيء موجود في معظم أنحاء العالم. - ميثة: قصة تقليدية تتضمن حوادث تاريخية ظاهرياً تفيد في الكشف عن رؤية عالمية لشعب ما أو تفسير عرف، اعتقاد، أو ظاهرة طبيعية. - أنتيك: الأزمنة التي سبقت العصور الوسطى وإفرازاتها المادية والثقافية. كذلك فقد استخدمنا مصطلح أمم Gentiles أو أغيار أحياناً وهو اللفظ الذي استخدمه اليهود لوصف الشعوب غير اليهودية، ليس بغير ازدراء؛ وآثرنا أن نفرق بين برابرة وبربر بإضافة كلمتي شمال إفريقيا إلى الأخيرة. ولابد أن نشير إلى أن الأولى لا تحتوي مضامين سلبية بالكامل - وهي أقرب ما تكون إلى مفهوم إرادة القوة غير المتسامية عند نيتشه: بمعنى الشعوب ذات القوة الكامنة والتي لم تصل بعد إلى الحضارة لتسامي بها تلك القوة. وكل الشعوب إذاً كانت برابرة في يوم من الأيام.

مدخل

الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة في العالم التي استمرت في حقبتها التشكيلية إلى ما بعد الألف الميلادية الأولى. إن ظهورها بالتالي يشكّل حدثاً غير اعتيادي، وبسبب جملة من الأسباب ذات الصلة، يبدو الحدث حدثاً متميّزاً. وهذا الكتاب هو محاولة لتفسير ذلك. عندما قمنا بمحاولتنا هذه تبنّينا مقاربة تختلف بشكل ملموس عن مقاربة الكتابات الأكثر تقليدية التي تناولت هذا الحقل. أولاً، إن روايتنا لتشكّل الإسلام كدين رواية جديدة جذرياً، أو بدقة أكثر إنها رواية تخرج عن النمط السائد منذ القرن السابع الميلادي: إنها تعتمد على الاستخدام المكثّف لمجموعة صغيرة من المصادر غير الإسلامية المعاصرة لتلك الحقبة والتي تمّ تجاهل شواهدها حتى الآن. ثانياً، لقد بذلنا الكثير من الطاقة، على الصعيدين الدراسي والفكري، حتى نأخذ بجدية الحقيقة الواضحة القائلة إن تشكّل الحضارة الإسلامية حَدَثَ في مرحلة متأخرة من مراحل الانتيك، بل في جزء متميز منه. أخيراً، فقد شرعنا، بنوع من الطيش، في خلق مخطط متماسك عام لأفكار في حقل لم يحفر العلم الأسس في الكثير من ميادينه بعد. قد لا يكون من السطحي بالنسبة لنا أن نحاول صون هذه المبادرة في وجه دهشة الاختصاصيين، لكن ذلك سيكون بلا معنى حتماً: فآخر ما يهمنا هو أن يقوّم الاختصاصيون عملنا، وحكم الاختصاصيين ليس عرضة للرشوة عبر مقدّمات الكتب. ما قيل سابقاً يكفي أيضاً لتحذير غير الاختصاصيين ممّا يجب أن لا يتوقعونه: هذا العمل هو حملة ريادية في بلدٍ قاسٍ للغاية، وليس سياحة بإشراف مرشدين وأدلاء سياحيين. مع ذلك ثمة جماعة متميزة واحدة من القرّاء والتي تحتلّ موقعاً خاصاً. لأنه رغم كون كل الشخوص الذين يظهرون في قصتنا ميتين، فالمنحدرون منهم أحياء جداً. أولاً، إن الرواية التي نقدّمها حول أصول الإسلام ليست تلك التي يقبل بها أيّ مسلم مؤمن: ليس لأنها تقلّل البتة من الدور التاريخي لمحمد، بل لأنها تقدّمه في دور يختلف بالكامل عن ذاك الذي أخذه في د الإسلامي. هذا كتاب خطّه كافران لمجموعة من الكافرين، وهو يعتمد على ما يجب أن يظهر من أيّ منظور إسلامي إجلالاً متطرّفاً لشهادات المصادر الكافرة. روايتنا ليست فقط غير مقبولة؛ بل هي أيضاً رواية لن يجد أي مسلم عنده حبّة خردل من إيمان أية صعوبة في رفضها. ثانياً: ثمة كمية لا بأس بها من هذا الكتاب قد لا تعجب المسلم الذي فقد إيمانه لكنه ظلّ يكن الفخار للأجداد. وما نرغب أن نؤكّد عليه لمثل هذا القارئ هو أن المعاني الإضافية التخمينية القوية للّغة التي حلّلنا بها تشكّل الحضارة الإسلامية لا تؤدي إلى أي حكم مبسط، لا مع ولا ضد. لقد قدّمنا الحضارة الجديدة كإنجاز ثقافي فريد، إنجاز لم تقدم أسلاب أجدادنا البرابرة أي شيء يوازيه على الإطلاق؛ لكننا بالمقابل قدّمنا الإنجاز كإنجاز حمل معه أكلافاً ثقافية استثنائية، وحاولنا قبل كل شيء أن نشرح الرباط بين الإنجاز والأكلاف. في مسار بحثنا هذا قدّم لنا يد العون عدد من الباحثين والمؤسسات البحثية. فقد بلغ من لطف الدكتور سباستيان بروك والسيّد غ.م. هوتينغ والدكتور م. ج. كيستر أن قدّموا لنا تعليقاتهم على مسودة قديمة للقسم الأوّل. أما الدكتور بروك، الدكتور ب. ج. فراندسن والبروفسور آ. شايبر فقد ساعدونا كلّ في مجال اختصاصه. كذلك فقد تمكّنا من الإطلاع على مخطوطة سريانية لم تكن إلى حد ما متاحة لنا وذلك عبر منحة من الأكاديمية البريطانية وسُهّل لنا الأمر إلى درجة كبيرة عبر لطف الأب وليم ماكوبر والدكتور ج. سي. ج. ساندرز. أما البروفسور برنارد لويس فقد بلغت الطيبة به إلى درجة أنه وضع بين أيدينا ترجمته لقصيدة قيامية يهودية حتى قبل نشرها. كذلك فإن معهد فاربورغ ومدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية ساعدا للغاية وبطرق مختلفة في إكمالنا لهذا البحث. إضافة إلى ديون إنجاز العمل السابقة تلك، نحب أيضاً أن نسجّل ما ندين به إلى تأثيرين لم يكن تخيّل هذا العمل ممكناً بدونهما. الأول كان تعرّضنا لمقاربة الدكتور جون وانسبرو الشكوكية حول تاريخية التقليد الإسلامي؛ ودون هذا التأثير لم تكن لتخطر ببالنا نظرية الأصول الإسلامية التي يقدّمها هذا الكتاب. الثاني هو التحليل القوي والمليء بالإيحاءات للمعنى الثقافي المُظْهَر في عمل جون دن؛ مع ذلك ربما كان بمقدورنا تقديم روايتنا لبدايات الإسلام دونه، لكن لم نكن لنمتلك غير الفكرة الأكثر ضبابية حول ما يمكن أن نفعل بها. أخيراً، نريد أن نشكر البروفسور ج. ب. سيغال على تعليمه إيانا اللغة السريانية، والدكتور د. ج. كامهي على تقديمه التلمود لنا. غني عن القول إن ما يجب الاعتراف به في هذه الحالة أن أحداً من هؤلاء الذين ساعدونا لا يتحمّل أية مسؤولية عن الآراء المعبّر عنها في هذا الكتاب.

ب. ك م. آ. ك

حاشية

من أجل مسح مساعد يغطّي معظم المصادر المستخدمة في هذا الكتاب، أنظر: S. P. Brock, «Syriac Sources for Seventh Century History», Byzantine and Modern Greek Studies 1976. من أجل ورود عبارة «أهل الإسلام» في نقش من عام 71هـ.، والذي أغفلناه في نهاية القسم الأول، أنظر: H. M. el- Hawary, «The second oldest Islamic monument known», Journul of the Royal Asiatic Society 1932, p. 290. من أجل تأريخ أقدم الكسرات القرآنية، والتي سترد في القسم الثالث، مع أن التأريخ ليس دقيقاً كفاية بالنسبة لنا، أنظر: A. Grohmann, «The problems of dating early Qur’ans», Der Islam 1958.

القسم الأول : الاسلام الى أين ؟؟

1 الهاجرية - اليهودية

في الواقع أن كل الروايات عن ظهور الإسلام الأوّلي تنظر إلى الأمر باعتباره بديهياً بحيث يبدو ممكناً استخراج الخطوط الخارجية على الأقل لعملية الصيرورة هذه من المصادر الإسلامية. لكننا نعرف جيداً أنه لا يمكن إثبات قِدَم هذه المصادر. فليس ثمة دليل قوي حول وجود القرآن بأي شكل قبل العقد الأخير من القرن السابع، والتقليد الذي يقدّم هذا النص المنزّل، المبهم إلى حد ما، في سياقه التاريخي، لم يُشْهَد على صحته قبل منتصف القرن الثامن. وهكذا فتاريخية التقليد الإسلامي تثير المشاكل بدرجة أو بأخرى: ففي حين لا توجد أسس خارجية متماسكة لرفضها، ليست هنالك بالمقابل أسس داخلية متماسكة للقبول بها. في هذه الظروف ليس من غير المعقول الاستمرار بالطريقة المعتادة وذلك عن طريق تقديم نسخة من التقليد محررة بطريقة معقولة كحقيقة تاريخية. لكن بالمقابل يبدو من المعقول إلى حد ما النظر إلى التقليد باعتباره دون محتوى تاريخي محدد، والإصرار على أن ما يدّعى أنه روايات لحوادث تاريخية في القرن السابع لا يفيد إلا في دراسة الأفكار الدينية في القرن الثامن(1). تقدّم لنا المصادر الإسلامية كمّاً وافراً من المجالات التي تساعد على القيام بهذه المقاربات المختلفة، لكنها لا تمدّنا إلا بالقليل مما يمكن استخدامه بأية طريقة حاسمة للفصل بين تلك المقاربات. إذاً فالطريقة الوحيدة للخروج من هذه المعضلة لا تكون إلا بالخروج من التقليد الإسلامي بالكامل والبدء من جديد. إذا اخترنا أن نبدأ من جديد، فسوف نبدأ بنص عقيدة يعقوب Doctrina Jacobi، وهو عبارة عن رسالة يونانية معادية لليهود سبّبها الاضطهاد الهراقلي(2). إنها موجودة على شكل حوار بين اليهود الموجودين في قرطاجة عام 634؛ لكن من المحتمل أيضاً أنها كتبت في فلسطين قبيل ذلك التاريخ أو بعيده بسنوات قليلة(3). وفي إحدى نقاط الجدل يُشار إلى حوادث تجري آنئذ في فلسطين وذلك على شكل رسالة من يهودي فلسطيني، اسمه ابراهيم(4): لقد ظهر نبي كاذب بين السَرَسنيين... إنهم يقولون إن النبي الذي ظهر مقبل مع السرسنيين، وهو يعلن عن قدوم advent الممسوح الذي سيأتي [tou erkhomennou Eleimmenou kei Khristou] فذهبت أنا ابراهيم إلى رجل عجوز مطلع للغاية على الأسفار المقدسة وأحلت إليه المسألة. وسألته: «ما رأيك، أيها السيّد والمعلم، بالنبي الذي ظهر بين السرسنيين؟» أجاب، وهو يتأوه للغاية: «إنه دجال. وهل يأتي الأنبياء بسيف ومركبة حربية؟ إن هذه الأحداث اليوم هي حقاً أعمال فوضى... لكن اذهب، يا سيد ابراهيم، واستعلم عن النبي الذي ظهر». وهكذا، قمت أنا، ابراهيم، بتحرياتي، وأخبرني أولئك الذين التقوه «ليس ثمة من حقيقة يمكن أن توجد عند النبي المزعوم، سوى إراقة الدماء؛ إما ما تقوله حول امتلاكه لمفاتيح الجنة، فهو أمر غير قابل للتصديق». ثمة نقاط هامة عديدة في هذه الرواية. إحدى هذه النقاط هي عقيدة المفاتيح. إنها بالطبع غير إسلامية، لكن ثمة مؤشرات خفيفة تفيد أنها كانت عقيدة بذل التقليد الإسلامي جهداً كبيراً كي يقمعها: هنالك مجموعة تقاليد تسامت فيها مفاتيح الجنة إلى استعارة غير مؤذية(5)، كذلك فإن قَسَمَاً بيزنطياً بالتنكّر للإسلام يذكر الاعتقاد القائل إن النبي كان سيأخذ مفاتيح الجنة وذلك باعتباره، أي الاعتقاد، جزءاً من العقيدة السرّية للسرسنيين(6). ليست المسألة عظيمة الأهمية، لكنها توحي أنه لدينا في «عقيدة يعقوب» طوراً من الاعتقاد أقدم من التقليد الإسلامي ذاته. لكن واقعة أن النبي مقدّم في النص بأنه كان على قيد الحياة زمن غزو العرب لفلسطين لها أهمية تاريخية كبيرة. فهذه شهادة تتناقض مع روايات سيرة النبي الإسلامية لكنها تجد توثيقاً مستقلاً في التقاليد التاريخية عند اليعاقبة، النساطرة، والسامريين(7)؛ أما المعنى العقائدي للتناقض فسوف يؤخذ بعين الاعتبار لاحقاً(8). لكن الشيء المذهل فعلاً في «عقيدة يعقوب» هو قوله إن النبي كان يبشر بقدوم «الممسوح الذي سيأتي». هذا يعني أن جوهر رسالة النبي، في أقدم شهادة متاحة لنا خارج التقليد الإسلامي، يظهر باعتباره مسيانية يهودية. يعزّ على المرء التآلف مع هذه الفكرة، لكننا نكرر أنها موثقة بدليل مستقل على نحو ملفت للنظر(9). في الموضع الأول لدينا سفر رؤيوي يهودي يرجع إلى منتصف القرن الميلادي الثامن، يدعى «أسرار الحبر شمعون بن يوحاي»، والذي يحتفظ بتفسير مسياني للغزو العربي(10). وبما أن المسيا ينتمي إلى نهاية النص الرؤيوي وليس إلى منتصفه، فهذا التفسير مأخوذ على الأرجح من سفر رؤيوي أقدم منه كُتب مباشرة بعد الحوادث التي يشير إليها(11). أما ما يهمنا في بحثنا الحالي فهو المقطع التالي(12): حين رأى أن مملكة اسمعيل كانت آتية، شرع يقول: «ألم يكف ما فعلته بنا مملكة ادوم الشريرة، حتى تأتينا مملكة اسمعيل أيضاً؛ وللفور أجابه متاترون أمير التشجيع بقوله: «لا تخف، ياابن الإنسان، فالقدوس المبارك لا يأتي بمملكة اسمعيل إلا لتخلّصكم من هذا الشر. إنه بحسب إرادته يقيم عليهم نبياً وسوف يفتح لهم الأرض وسوف يأتون ويحيونها بعظمة، وسيكون هنالك خوف مريع بينهم وبين أبناء عيسو». أجاب الحبر شمعون قائلاً: «كيف نعرف أنهم خلاصنا؟» أجاب: «ألم يقل النبي اشعيا: «فيرى ركباً، ازواج فرسان» الخ؟»(13) لماذا جعل ركّاب الحمير قبل ركّاب الجمال، في حين أنه لا يحتاج إلا لأن يقول: «ركّاب جمال وركّاب حمير»؟ لكن حين يأتي راكب الجمل(14) أولاً فالمملكة سوف تقوم عبر راكب على أحد الحمير. ومن جديد نقول: «ركّاب حمير»، كونه يركب على حمار، تظهر أنهم خلاص إسرائيل، مثل خلاص الراكب على أحد الحمير». إضافة إلى ما سبق، تحتوي «الأسرار» بعض الإشارات إلى القينيين المذكورين في سفر العدد 21:24 والتي لا يمكن فهمها إلا كتفسير مسياني بديل لمسألة الغزو(15). لن نتفاجأ أبداً إذاً حين نجد أن سفراً رؤيوياً يهودياً منذ ذلك الزمان يقدّم الغزو العربي الذي أنهى الحكم الروماني لفلسطين كحدث إيجابي في الدراما الإسكاتولوجية، فالموقف ذاته يظهر في مؤلَّف آخر مشابه، ألا وهو القصيدة الرؤيوية التي تدعى «في ذلك اليوم»(16). لكن كاتب المقطع المستشهد به آنفاً من «الأسرار» يفعل أكثر من هذا: فهو يقدّم دور الإسماعيليين ونبيّهم باعتباره جوهرياً بالنسبة للحوادث المسيانية ذاتها. وهذا التفسير يصبح ذا معنى حين يوضع جانب شهادة «عقيدة يعقوب» القائلة إن النبي كان في الواقع يعلن عن مجيء المسيا، وفي الوقت ذاته يقدّم تأكيداً مستقلاً على موثوقيته. قد يبدو غريباً بالطبع أن يقبل اليهود بأوراق اعتماد نبيٍ عربي مفترض باعتباره بشير المسيّا؛ لكن كان ثمة سابقة يهودية معروفة لقيام أحد العرب بهذا الدور(17). التأكيد المباشر الآخر على مسيانية «عقيدة يعقوب» يمكن أن نجده متحجراً في التراث الإسلامي، حيث يكشف لنا عرضياً عن هوية المسيّا ذاته: إنه عمر(18)، الخليفة الثاني وفق الترتيب الإسلامي والذي يحتفظ حتى التقليد الإسلامي بلقب مسياني له هو «الفاروق»، والذي يعني المخلص(19). في الوقت ذاته فإن دخوله القدس هو أداء مناسب لهذا الدور(20)، في حين يبدو أن «الأسرار» يجعله ينهمك في مهمة مسيانية موازية ألا وهي إعادة بناء الهيكل(21). وجود عمر بالاسم لم يترك بالطبع غير مصقول في التقليد الإسلامي. وبعدما نُسي المعنى الآرامي الأصلي للمصطلح بنجاح أخيراً، أحرز ايتمولوجيا عربية مأمونة الجانب كما اعتُقد أن هذا المصطلح أكّده النبي ذاته. لقد حاول رأي أكثر قدماً أن يجد تملّصاً تاريخياً أكثر منه إيتمولوجياً: فإن أهل الكتاب هم الذين سمّوا عمر بالفاروق، ثم انزلقت التسمية إلى حد ما على ألسنة المسلمين(22). إن الروايات التاريخية التفصيلية حول الطريقة التي كان يُحَيّى بها عمر الفضولي ببراءة في سوريا وذلك بوصفه الفاروق(23) تُوَازن من ثم بما يعزا إليه من أفعال تنكر على نحو مؤكّد دوره كمخلّص يهودي(24). لكن من المثير للسخرية أن عزو كل شيء للنبي بشكل حتمي قد يكون صحيحاً في هذا المثال. لأنه إذا كان ثمة دليل معاصر يفيد أن النبي كان يبشّر بقدوم المسيّا، يصعب أن يكون أمراً تصادفياً أن الرجل الذي جاء بعده يحمل لقباً مسيانياً صريحاً حتى في التقليد الإسلامي. لقد ركّزنا انتباهنا إلى حد كبير على السمة المسيانية لغزو فلسطين؛ لكن كما يمكن أن يكون متوقعاً، تقدّم لنا المصادر التاريخية دلائل على حميمية أكبر في العلاقات بين العرب واليهود في ذلك الوقت. فالحرارة في ردة الفعل اليهودية على الغزو العربي التي يشهد عليها سفر «عقيدة يعقوب»(25) ويقدّم أمثلة عليها نص «الأسرار» هي أقل ظهوراً للعيان بكثير في المواقف اليهودية اللاحقة(26). لكن الأكثر وضوحاً، هو غياب هذه الحرارة بالكامل من ردات فعل المسيحيين المعاصرين، سواء أكانوا أرثوذكساً(27) أم هراطقة(28). في الوقت ذاته، فالمصادر التاريخية تشهد على ترجمة تلك المشاعر الودية تجاه العرب إلى نوع من الانغماس السياسي العيني. «فعقيدة يعقوب» تشير إلى اليهود الذين يختلطون بالسرسنيين(29)، في حين يقول أحد المصادر الأرمنيّة القديمة إن حاكم القدس في أعقاب الغزو كان يهودياً(30). يُكَمّل الدليل على العلاقة الحميمة اليهودية - العربية عبر إشارات عدائية متميزة ضد المسيحيين من قبل الغزاة. فاليهودي الذي اعتنق المسيحية في «عقيدة يعقوب» يحتج بأنه لن ينكر المسيح، ابن الله، حتى لو أمسكه اليهود والسرسنيون وقطعوه إرباً(31). أما حامية غزة المسيحية فقد وضعت التصميم ذاته في خضم التطبيق العملي، واستشهدت نتيجة لذلك(32). وتتحدث إحدى التراتيل من ذلك الزمن عن آثام السرسنيين فتورد منها إحراق الكنائس، تدمير الأديرة، تدنيس الصلبان، وتجديفات مريعة ضد المسيح والكنيسة(33). كراهية سرسنية عنيفة للصليب توردها أيضاً رواية قديمة حول وصول الغزاة إلى جبل سيناء(34). واللازمة العقائدية لهذا كلّه تجد تعبيراً دقيقاً لها حين يجعل المرجع الأرمني السابق الذكر حاكماً اسماعيلياً قديماً يطلب من الإمبراطور أن يشجب «ذلك اليسوع الذي تدعونه المسيح والذي لم يستطع أن يخلّص حتى نفسه من اليهود»(35). ليس ثمة شيء هنا يثبت صحّة الصورة الإسلامية كحركة تخاصمت مع اليهود قبل الغزو، ونظرت إلى اليهودية والمسيحية بمجموعة التساهل والتحفظ ذاتها. ما لا تقدّمه المواد المفحوصة حتى الآن هو الصورة العينية عن الطريقة التي حدث بها هذا الارتباط اليهودي العربي. لأجل هذا يجب أن نرجع إلى أقدم رواية ذات الصلة بالموضوع والتي تتحدث عن سيرة النبي، رواية مقدّمة في تاريخ أرمني مكتوب في العقد السادس من القرن السابع يعزا للمطران سيبوس(36). تبدأ القصة بخروج اللاجئين اليهود من الرها بعدما استردها هرقل من أيدي الفرس عام 628 تقريباً: لقد خرجوا إلى الصحراء وجاءوا إلى جزيرة العرب، عند أبناء اسمعيل. فقد التمسوا العون منهم، وأفهموهم أنهم أقاربهم بحسب الكتاب المقدس، ومع أنهم [الإسماعيليون] على استعداد للقبول بهذه القرابة الحميمة، إلا أنهم [اليهود] لم يستطيعوا إقناع عامة الناس، لأن عباداتهم مختلفة. كان هنالك في ذلك الوقت اسماعيلي اسمه مهميت(37)، وكان يعمل تاجراً؛ لقد قدّم لهم نفسه، كما لو أن الله أمره بذلك، كبشير، كطريق إلى الحقيقة، وعلّمهم كيف يعرفون إله ابراهيم، لأنه كان مطلعاً على قصة موسى وملمّاً بها للغاية. ولأن الأمر جاء من العلى، فقد توحدوا كلهم تحت سلطة رجل واحد، في ظل شرع واحد، وعادوا إلى الإله الحي الذي كشف ذاته لأبيهم ابراهيم، بعد أن هجروا عباداتهم. حرّم عليهم مهميت أكل أي حيوان ميت، شرب الخمر(38)، الكذب أو الزنى. لكنه أضاف: «لقد وعد الله بهذه الأرض لابراهيم ونسله من بعده إلى الأبد؛ لقد عمل بحسب وعده [الله] حين أحب إسرائيل. والآن أنتم، أنتم أبناء ابراهيم، وعبركم ينجز الله الوعد الذي أعطاه لابراهيم ونسله. أحبوا فقط إله ابراهيم، اذهبوا وخذوا بلدكم التي أعطاها الرب لأبيكم ابراهيم، فما من أحد سيقدر على مقاومتكم، لأن الله معكم». ثم اجتمعوا كلّهم من حويلة إلى شور التي تجاه مصر [سفر التكوين 18:25]؛ لقد خرجوا من صحراء فاران مقسّمين إلى اثني عشر سبطاً وفق سلالات آبائهم. وبين قبائلهم الاثنتي عشرة قسِّموا الاثني عشر ألف إسرائيلي، ألف ألف لكل قبيلة، وذلك لهدايتهم إلى أرض إسرائيل. وانطلقوا، مخيّماً بعد مخيم، وفق نظام آبائهم: نبايوت، قيدار، أدبئيل، مبسام، مشماع، دومة، مسّا، حدار، تيما، يطور، نافيش وقدمة [سفر التكوين 25: 15-18]. هؤلاء هم أسباط اسماعيل... وجاء كل من بقي من شعوب بني إسرائيل لينضم إليهم، حتى شكّلوا جيشاً عظيماً. ثم أرسلوا بسفير إلى امبراطور اليونان، ليقول له: «لقد أعطى الله هذه الأرض إرثاً لأبينا ابراهيم ونسله من بعده؛ ونحن أبناء ابراهيم؛ وأنت أخذت بلدنا بما فيه الكفاية؛ تخلَّ عنها بسلام، وسوف لن نغزو بلادك؛ وإلا فسوف نسترد ما أخذت ونزيد عليه». تبدو هذه الرواية المتعلقة بأصول الإسلام وكأنها رواية غير مألوفة. إنها أيضاً واضحة في لا تاريخيتها وذلك في مزجها لعلم نشوء الأعراق التوراتي،كما أنها مخطئة حتماً في الدور الذي تعزوه لليهود اللاجئين من الرها. هذا الدور، بغض النظر تماماً عن استحالته جغرافياً، مستحيل تاريخياً فعلاً: فهو يعني أن دولة محمد لا يمكن أن تكون قد أسست قبل عام 628 بكثير، في حين أن لدينا دليلاً وثائقياً منذ عام 643 يفيد أن العرب كانوا يستخدمون تقويماً يبدأ بعام 622(39). وكانت فلسطين المحتلة آنذاك من قبل الفرس ستبدو نقطة بداية أكثر معقولية بكثير بالنسبة لليهود اللاجئين من الرها(40). مع ذلك فهذا المطلب لا يضعف الصورة التي يقدّمها سيبيوس عن بنيان العلاقات اليهودية العربية في الحقبة الموصلة إلى الغزو، وموثوقية هذه الرواية مؤكدة بشكل ملفت للنظر من قبل طرف غير متوقع تقريباً. فمقابل الرواية الإسلامية المعتمدة حول العلاقات بين محمد وأسباط اليهود في المدينة، يَظْهَر اليهود في وثيقة تعرف باسم «عهد المدينة» على أنهم يشكّلون أمة واحدة مع المؤمنين رغم احتفاظهم بديانتهم الخاصة، وهم يتوزعون دون أسماء متميزة ضمن عدد من أسباط العرب(41). وبما أن هذه الوثيقة مخالفة لما هو متعارف عليه على نحو واضح وتعتبر عنصراً دارِساً archaic للوهلة الأولى في التقليد الإسلامي، فاتفاقها في هذه المسائل مع أقدم الأوصاف الروائية حول أصول الإسلام هام إلى درجة كبيرة. وهكذا يمكن لنا أن نقبل بسيبيوس باعتباره يقدم الإطار الروائي الأساسي الذي تنتمي إليه حميمية العلاقات اليهودية - العربية المقدمة سابقاً في هذا الفصل. ما يجب على سيبيوس قوله له أهمية بالغة بحد ذاته أيضاً. فهو يقدم لنا في الموضع الأول تعبيراً واضحاً عن التوجيه الفلسطيني للحركة، وهي سمة متضمَّنَة في السيناريو المسياني ويؤكدها على نحو مستقل التقليد التاريخي لليعاقبة(42) ؛ وبالطبع فإن إصرار التقليد الإسلامي على أن عاصمة الغزاة، حتى في زمن الغزو، كانت مكة أكثر وليس القدس(43)، لا يخلو من بعض التوتر. وبشكل أكثر تخصيصاً، فإن تقديم الحركة باعتبارها مذهباً استرادياً موجهاً نحو استرداد حق بكورية للأرض المقدسة ممنوح إلهياً هو أمر يوحي بنوع من التجميع المسياني للمنفيين. بالمقابل فالنفي داخل الصحراء الذي تبدأ به القصة يمكن النظر إليه فعلاً باعتباره تشريعية لفنتازيا مسيانية راسخة(44). في الوقت ذاته فإن هذا الدور الذي يعزا للصحراء، إذا ما جمعناه مع تذكر لأسماء المواضع في الغزو الإسرائيلي الأصلي للأرض المقدسة(45) إضافة إلى العبارة القائلة إن النبي كان مطلعاً جيداً على قصة موسى، فإنه يوحي بقوة بالموازاة الحاخامية بين الفدائين الموسوي والمسياني(46): بكلمات أخرى، التأكيد موسوي أكثر منه داوودي. وهكذا فإن سيبيوس، دون أن يؤكد بشكل مباشر على المقولة المسيانية، يساعد في تقديم سياق عقائدي تشعر فيه المقولة بالألفة الكاملة. لكن سيبيوس يقدّم لنا أيضاً شيئاً يغيب بالكامل عن المصادر التي تم فحصها حتى الآن: وصف للطريقة التي قدّم بها النبي الأساس المنطقي للتدخل العربي في تمثيل المسيانية اليهودية. وهذا الأساس المنطقي مكوّن من استلهام ثنائي الطبيعة للأصل الابراهيمي للعرب وذلك بوصفهم اسماعيليين: حتى يضفي عليهم من ناحية حق بكورية بالنسبة للأرض المقدسة(47)، وكي يعطيهم من ناحية أخرى علم أنساب موحِّد. لم يكن أي من الاستلهامين دون سوابق(48). لكن إذا كان صعباً اعتبار الرسالة أصيلة جداً، فقد كانت تحتوي، إضافة إلى الأساس المنطقي لمشاركة الإسماعيليين في الخروج الإسرائيلي، بذرة هوية دينية عربية متميزة عن مقابلتها عند معلميهم والمحميين من قبلهم من اليهود. لا يوجد سبب معقول يدفعنا إلى الافتراض أن حاملي الهوية البدئية هذه دعوا أنفسهم «مسلمين». وأول ذكر لهذا المصطلح على نحو مبين كان في قبة الصخرة عام 691 وما بعد(49)؛ ولا نجده من ناحية أخرى خارج التقليد الأدبي الإسلامي حتى القرن الثامن(50). لكن مصادرنا تكشف عن تسمية للجماعة أكثر قدماً من السابقة، تسمية تتناسب جيداً مع سياق الأفكار التي قدمها سيبيوس. تظهر هذه التسمية في اليونانية بصيغة «ماغاريتاي Magaritai» وذلك في بردية تعود للعام 642؛ أما في السريانية فهي «ماهغري Mahgre» أو «ماهغرايه Mahgraye» والتي تظهر منذ البدايات أي من أربعينيات القرن السابع(51)؛ والمصطلح العربي المقابل هو مهاجرون(52). ثمة فكرتان متضمنتان هنا. الأولى، وهي شبه مفقودة في التقليد الإسلامي(53)، لها علاقة بعلم الأنساب: «المهغرايه»، كما يخبرنا مرجع سرياني قديم، هم المنحدرون من ابراهيم عبر هاجر(54). لكن بجانب هذه المكانة المعزوة إليهم هنالك أيضاً مكانة محرزة والتي يحتفظ بها التقليد الإسلامي بالكامل: المهاجرون هم أولئك الذين يشاركون في هجرة(55)، أي نفي. في التقليد الإسلامي نجد أن الخروج الذي نحن بصدده هو من مكة إلى المدينة، والذي يتطابق موعده مع بداية التقويم العربي عام 622. لكن ما من مصدر تاريخي قديم يشهد على صحة تاريخية هذا الخروج(56)، والمصادر التي تم فحصها في هذا الفصل تقدّم بديلاً معقولاً ألا وهو هجرة الإسماعيليين من الجزيرة العربية إلى الأرض الموعودة. هنالك نقطتان تعملان لصالح هذا البديل تستحقان أن توردا هنا. ففي الموضع الأول، مهاجرو التقليد الإسلامي هم العنصر القائد للجماعة الدينية الغازية ليس إلا؛ ومع ذلك فالمصادر اليونانية والسريانية تستخدم مصطلحي «ماغاريتاي» و«مهغرايه» مع كل ظهور للإشارة إلى الجماعة ككل(57). ثانياً، يحفظ لنا التقليد الإسلامي نماذج من استخدام «الهجرة» والمصطلحات المرتبطة بها في سياقات حيث لا تكون الهجرة ضمن الجزيرة العربية بل من الجزيرة العربية إلى الأقطار المغزوة(58). بل هنالك تقليد يحصر التسمية بفلسطين ضمناً: سوف تكون هنالك هجرة بعد هجرة، لكن أفضل الناس هم الذين سيتبعون هجرة ابراهيم(59). يمكن النظر إلى «المهغرايه» إذاً باعتبارهم المشاركين الهاجريين في هجرة إلى الأرض الموعودة، وفي هذه التورية تكمن أقدم هوية للدين الذي كان عند تمام الزمن سيصبح الإسلام.

2 الهاجرية دون يهودية

التفاهم المتبادل الذي مفاده أنه «يمكنك أن تكون في حلمي إذا استطعت أن أكون في حلمك» يمكن أن يقدّم قاعدة قابلة للتطبيق على الحلف بين اليهود والعرب في البريّة. لكن حين شُرِّعت فانتازيا مسيانية يهودية على شكل غزو عربي للأرض المقدسة، راح النجاح السياسي يبدو وكأنه يظهر نوعاً من الإرباك بالمنظور العقائدي. فعاجلاً وليس آجلاً، كان مزيج الفداء الإسرائيلي والنسب الإسماعيلي في طريقه لان يفسد. لأنه في صميم البرنامج المسياني كان السؤال الذي طرح ذات مرة على يسوع الناصري: «رب، ألا تريد أن تعيد الآن المملكة إلى إسرائيل؟» يسوع، بالطبع، أخذ موقفاً ممتازاً للتملّص من هذا السؤال، واستمر أصحابه في تشكيل ديانة حول هذا التملّص. لكن نجاح العرب تحديداً هو الذي منع انفصالاً تدريجياً عن المسيانية اليهودية، وتطلّب عوضاً عن ذلك صدعاً حاداً وآنياً. إن السياق الذي حدث فيه هذا الصدع فعلاً ربما يكون العمل الرمزي المركزي في البرنامج المسياني، ألا وهو ترميم الهيكل. فمن ناحية لدينا استعداد المصادر الأولى للحديث عن فعالية البناء العربية في الموقع وذلك باعتبارها ترميماً للهيكل(1)، وهو ما يوحي على الأقل بأن هذا هو ما أخذ العرب على عاتقهم القيام به أصلاً؛ ونحن لدينا، على نحو خاص، عبارة من «الأسرار» مفادها أن الملك الثاني الذي يظهر من اسمعيل سيكون حبيب إسرائيل وهو الذي «يرمم صدوعاتها وصدوعات الهيكل»(2). لكن من ناحية أخرى لدينا الرواية التي يقدّمها سيبيوس حول نزاع علني بين اليهود والعرب بشأن ملكية موقع قدس الأقداس، والذي أحبط فيه العرب خطة اليهود لاسترداد الهيكل وبنوا عوضاً عن ذلك مصلى خاصاً بهم(3). وليس من غير المرجح أن يكون «الأسرار» وسيبيوس يشيران إلى طورين متعاقبين من العلاقات اليهودية العربية(4). لكن سيبيوس يجعل روايته للصدع مباشرة بعد موجة الغزوات الأولى(5)؛ وتبدو أيام المسيا بأية حال وكأنها قصيرة الأجل نوعاً ما(6). أول شيء كان الهاجريون بحاجة له في هذه الورطة هو الأساس المنطقي للصدع مع المسيانية اليهودية. والتقليد الإسلامي يحتفظ لنا بدليل ما حول ما أبدعته الهاجرية في هذا السياق: فقد رأينا للتو الطريقة التي جعلت بها تسمية «عمر» «مخلّصاً» غير ضارة، وسوف نصل لاحقاً إلى القدر الغريب لفكرة «الخلاص» الموافقة لذلك(7). لكن مثلما كانت التبدلات بحد ذاتها هامة، فقد كانت إلى حد ما غير ضرورية أيضاً. ومنذ زمن طويل كان المسيحيون قد واجهوا المشكلة وحلوها بأسلوب مختلف جداً. ما أن انسلخ الهاجريون عن رعاياهم اليهود السالفين واكتسبوا أعداداً ضخمة من الخاضعين المسيحيين، حتى راحت عدائيتهم البدئية للمسيحية تتعرض للتآكل بشكل واضح. وهكذا فإن ايشوع يهب الثالث، الكاثوليكوس النسطوري بين عامي 647 - 658 تقريباً، يعلّق على موقف العرب حيال الكنيسة الخيّر إلى درجة عالية(8)، في حين كتب نسطوري آخر في الجزيرة السورية في العقد الأخير من ذلك القرن يذكر أن الغازين كانوا يحملون أوامر من قادتهم لصالح المسيحيين(9). في الوقت ذاته فإن قصة حياة البطريرك اسحق الراقوطي القبطية تشهد على العلاقات الرائعة التي كانت بينه وبين الحاكم عبد العزيز بن مروان في ثمانينات القرن السابع، وعلى حب الأخيرللمسيحيين(10). على هذه الأرضية كان متوقعاً نوع من التليّن العقائدي حيال شخص يسوع ذاته. وفي وصف لجدل بين بطريرك مسيحي وأمير هاجري والذي قد يكون حدث عام 644(11)، يبدو الأمير وكأنه لا يرفض مكانة يسوع المسيانية ولا يؤكدها(12). لكن أقدم دليل على هذا التليّن يمكن أن نجده في رواية محفوظة في كسرة من تأريخ ماروني قديم لأعمال معاوية بعد إذ صار «ملكاً» في القدس عام 659: فهو يبدأ بالصلاة في الجلجلة، الجثمانية وقبر العذراء، وهذه موافقة مسلكية على موت المسيح الخلاصي(13). وهذا أكثر مما كان يسلّم به التقليد الإسلامي: ليس في الإسلام أية فكرة عن يسوع كمخلّص، وعلى الرغم من قبول التقليد بمكانته المسيانية، إلا أنه يتدبّر الأمر لسرمدة الكراهية الهاجرية الأولى للصليب وذلك عبر استلهام ذكي للذوقانية(14). وبحسب المصدر الماروني، فقد حاول معاوية ذاته، أن يصك نقوداً دون الصليب(15). لكن ما يهمنا هنا هو الاعتراف بيسوع كمسيا، المتضمّن في عبادات معاوية والصريح في القرآن(16). إن أهم شاهد على هذا الإقرار موجود في رسالة ليعقوب الرهاوي (مات عام 708 تقريباً) حول مسألة نَسَب العذراء(17): يعترف الجميع، يهود، مهغرايه، ومسيحيون، بأن المسيح من نسل داود. ويعترف الجميع أيضاً، يهود، مهغرايه، ومسيحيون، أن المسيح، بالجسد، من نسل داود، ويعتبرون ذلك شيئاً أساسياً.. المهغرايه أيضاً.. يعترفون بثبات كلهم أنه [يسوع] هو المسيح الحق الذي كان سيأتي والذي أخبر عنه الأنبياء؛ لا جدل بيننا وبينهم في هذا الموضوع، لكن جدلنا مع اليهود. فهم يؤكدون لهم بطريقة تأنيبية. أن المسيح كان سيولد من داود، بل أن هذا المسيح الذي أتى ولد من مريم. يعترف المهغرايه بهذا بثبات، ولا يجادل أحد منهم فيه، لأنهم يقولون للجميع دائماً أن يسوع ابن مريم هو المسيح حقاً. ترتبط أهمية هذا المقطع بطريقة الاعتقاد أكثر منها بالمحتوى. فهي تمكّننا من أن نرى في الإقرار القرآني الجاحد واللامبالي نوعاً ما بيسوع كمسيا بقية عقيدة هاجرية مؤكدة بقوة في الجدل مع اليهود. وغرض عقيدة كهذه واضح بما يكفي. فقد قدمت المسيحية في شخص يسوع مسيّا متحرراً بالكامل من مقادير اليهود السياسية. وكل ما كان على الهاجريين فعله ليخلّصوا أنفسهم من كابوسهم المسياني الخاص هو استعارة المسيا من المسيحيين. في حين كان استبدال المسيانية اليهودية بمسيانية مسيحية أقل إفادة للهاجريين فقد كان مطوّراً لهوية دينية إيجابية خاصة بهم. وكلما قوي اعتمادهم على المسيحية ليفصلوا أنفسهم عن اليهود، كلما تعاظم خطر أنهم سينتهون بأن يصبحوا مسيحيين مثل غالبية الخاضعين لهم ليس إلا. وبمصطلحات مفاهيمية نقول إن المفتاح إلى استمراريتهم كان يكمن في الهوية الدينية البدئية المرسومة في الهاجرية اليهودية، وبشكل خاص في استلهام النبي لرب ابراهيم من أجل تقديم توحيدية غريبة على العرب وذلك باعتبارها ديانة أسلافهم(18). من نقطة البداية هذه واصل الهاجريون تطوير ديانة ابراهيمية بالمعنى الكامل للكلمة. في القرآن تبدو فكرة ديانة ابراهيم بارزة طبعاً. فهي تُقَوّم بوضوح كديانة مستقلة بذاتها (16: 124؛ 22: 77)؛ ولا يُصَنّف مؤسسها كنبي فحسب (19: 42؛ قارن سفر التكوين 20: 7) بل إنه وللمرة الأولى يُمنح كتاباً مقدساً، يدعى صحف ابراهيم (53: 35 وما بعد؛ 87: 18 وما بعد). المصادر العقائدية لهذا الدين تمتد إلى دور محمد الغامض كتابياً لكن الإحيائي الديني أساسياً (2: 123)، ويبدو أيضاً أنها قدّمت السياق الأولي لتطوّر الفكرة «إسلام»(19) . لكن النقطة الوحيدة التي تحتفظ عندها ديانة ابراهيم القرآنية بنوع المعقولية العملية هي الرواية حول تأسيسه، بالتعاون مع اسمعيل (20)، لما صار يعرف في التقليد الإسلامي بالحرم المكي (2: 118 وما بعد)(21). ما نفتقده في المعطيات القرآنية هو الشعور بمشروع عيني ومتكامل لديانة هاجرية. ويعوّض عن هذا الفقدان أحد المراجع المسيحية وذلك عن طريق تقديمه لفكرة وصايا ابراهيم - مشار إليها في «الاسرار» أيضاً(22) - وتحديدها بأنها الختان والأضحية. يتضمن هذا النص الذي يرجع إلى نهاية الحقبة الأموية، والذي هو جدل بالسريانية بين راهب من بيت حاله Hale وأحد أتابع الأمير مسلمة(23) الحوار التالي(24): العربي: لم لا تؤمن بابراهيم ووصاياه، إذا كان أباً للأنبياء والملوك، والكتاب المقدّس يشهد بصلاحه؟ الراهب: وأي نوع من الإيمان بابراهيم تتوقع منا، وأية وصايا هذه التي تريد منا مراعاتها؟ العربي: الختان والأضحية، لأنه تلقاهما من الله(25). مصدران آخران يقدّمان موازيات جزئية لهذا الاعتناق الهاجري للختان والأضحية في ظل تسويغ ابراهيمي. المصدر الأول هو مجموعة رسائل متبادلة يقال إنها كانت بين عمر الثاني والامبراطور ليون الثالث Leo III وفق ما يظهره تاريخ ليفوند الأرمني(26). وهنا نجد أحد توبيخات عمرللمسيحيين بأنهم بدّلوا اعتباطياً كل الشرائع، حيث حوّلوا الختان إلى معمودية والأضحية إلى افخارستيا(27). أما المصدر الثاني فهو نبوءة تعزا للقديس افرام تتحدث عن خروج الهاجريين من الصحراء، والذين يوصفون فيها بأنه شعب «يتمسك بعهد ابراهيم»(28). إذاً إن تحديد الأركان العبادية لديانة ابراهيم بمسألتي الختان والأضحية يمتلك مضمونين هامين. يهتم الأول بالعلاقة بين هذا الدين والإسلام. واستمرار عناصر العبادة الابراهيمية ضمن التقليد الإسلامي مسألة حقيقية طبعاً(29). لكنها فَقَدت مركزيتها الأصلية(30): ثمة ميل لامتصاص الأضحية في ذبح طقسي(31)، وهنالك شكوك أيضاً بالنسبة لضرورة الختان(32). بالمقابل، فباستثناء حالة الأضحية الخاصة في العاصمة الدينية، فإن الأساس المنطقي البطريركي [ابراهيم وسلالته هم البطاركة هنا] أقل كثيراً في ظهوره للعيان. وهكذا فنحن نواجه بتبديد عام لبنيان ديانة ابراهيم في الإسلام، وهي مسألة هامة ستؤخذ لاحقاً بعين الاعتبار(33). ثانياً: إن كلاً من الختان والأضحية مبرهن عليهما في جزيرة العرب قبل الإسلام(34)، وهنالك بالتالي نوع من فرضية يقول إنه يجب البحث هناك عن أصل الأعراف الهاجرية. أكثر من ذلك، فهذه الفرضية معززة في حالة الأضحية باعتبار آخر. فالمصادر المسيحية تشير إلىالأضحية بأنها كانت عرفاً عبادياً قياسياً في سوريا. وهكذا فالبطريرك اليعقوبي أثناسيوس البَلَدي، في رسالة له من العام 684 حول المحاذير الدينية للاتصال المسيحي مع الغزاة، يهتم على نحو خاص بامتناع المسيحيين عن أكل أضاحي «الوثنيين»(35)؛ أما يعقوب الرهاوي، فيذكر أن العرب يمارسون الختان ويركعون ثلاث مرات باتجاه الجنوب أثناء قيامهم بالتضحية، وذلك في معرض ذكره لبعض الملاحظات الهامة حول عادات الأرمن الدينية السيئة(36). إذاً فالأضحية خارج العاصمة الدينية، مهما كان إقرارها الكتابي الابراهيمي(37)، لا يمكن أن تكون عملياً استعارة من أحد المذاهب التوحيدية الأكثر قدماً. وهكذا لدينا أسبابنا في اعتبار أن الختان والأضحية استمرارية لعرف وثني في ظل درع ابراهيمي جديد(38). إن ما يوحي به هذا هو أن دور ابراهيم في التطوّر الأوّلي للهاجرية لم يكن فقط لإعطاء مكانة سلفية للنظرية التوحيدية؛ كان أيضاً لإضفاء مكانة توحيدية على عرف سلفي. وهذا حتماً هو السياق الذي اعطى الإسلام المصطلح الملفت للنظر حنيف، المرتبط بقوة كبيرة مع ابراهيم وديانته: فباستعارة كلمة كانت تعني «وثنياً» في مفردات الهلال الخصيب، واستخدامها لتسمية معتنق التوحيد الابراهيمي غير المسفسط، نجح الهاجريون في استنباط فضيلة دينية من الوصمة لماضيهم الوثني(39). في الوقت ذاته نستطيع أن نستبين في هذا التوجه بدايات إعادة تلاؤم بعيدة الأثر حيث أصبحت أصول بدايات تُرى في علاقة مدروسة وعضوية مع الإرث الوثني الفعلي أو المتخيل. لقد قدّمت ديانة ابراهيم نوعاً من الإجابة على السؤال المتعلق بكيفية استطاعة الهاجريين دخول العالم التوحيدي دون أن يفقدوا هويتهم في أي من تقليديه الكبيرين. لكنها بحد ذاتها كانت فكرة بسيطة وبالية للغاية وذلك كي تتمخض عن البنى الدينية الأساسية التي استلزمت مثل تلك الرغبة بالاستقلالية. على هذا الصعيد فالسامرية كانت الديانة التي لديها أكثر ما يمكن تقديمه للهاجريين. فالسامريون واجهوا مشكلة الانفصال عن اليهودية قبل المسيحيين، دون أن يمتصوا من قبلهم إطلاقاً. كذلك فقد حلّوا المشكلة بطريقة مختلفة للغاية عن طريقة المسيحيين، وذات صلة وثيقة للغاية بحاجات الهاجريين الآنية: ففي حين سامى المسيحيون المقولات اليهودية إلى نوع من المجاز، استبدلها السامريون ببدائل عينية(40). وبناء على هذه الصلة الأساسية، سُهِّل التقبل الهاجري للأفكار السامرية مفاهيمياً عبر إبراز موسى في كل من الهاجرية اليهودية(41) والسامرية، وسياسياً عبر حيادية الجماعة السامرية تحديداً(42). إن أقدم استعارة هاجرية من السامريين والتي نمتلك دليلاً عليها هي موقفهم من الكتاب المقدّس. ففي إحدى مراحل الجدل المشار إليه آنفاً بين البطريرك والأمير(43)، يطالب الأمير بأن يُفسّر له، كيف تختلف الطوائف المسيحية فيما بينها في مسألة الاعتقاد، إذا كان الإنجيل واحداً. فأجاب البطريرك(44): تماماً كما أن أسفار التوراة الخمسة الأولى هي واحدة، ومقبولة من قبلنا نحن المسيحيون ومن قبلكم أنتم المهغرايه، ومن قبل اليهود والسامريين، فكل طائفة تنقسم عن الأخرى دينياً؛ كذلك ايضاً دين الانجيل، فكل هرطقة تفهمه وتفسره على نحو مختلف. وهكذا فالهاجرية تصنّف كديانة تؤمن بأسفار التوراة الخمسة الأولى(45). بعد ذلك يتحوّل النقاش إلى مسألة ألوهية يسوع ومكانته كابن لله، فيطالب الأمير ببرهان من أسفار التوراة الخمسة الأولى. يجيب البطريرك بجملة من الشواهد الكتابية غير المتخصصة، والتي كان محتواها نبوئياً بوضوح. لكن ردة فعل الأمير في هذه المرحلة تبدو حاسمة(46): لم يقبل الأمير الشهير بهذه [الأقوال] من أسفار الأنبياء، وراح يطالب بأن [يُستشهد] بموسى كي يُثْبت له أن المسيح كان الله. إن القبول بأسفار التوراة الخمسة الأولى ورفض أسفار الأنبياء هو الموقف السامري من الكتاب المقدس. يمكن استبيان هذا الموقف من الكتاب أيضاً في بعض المقاطع من نسخة ليفون Levond للمراسلة بين عمر وليون(47). كان هذا أحد أسئلة عمر(48): لماذا لا يجد المرء في شرائع موسى أي شيء عن الجنة، جهنم، الدينوية الأخيرة أو القيامة؟ الإنجيليون.. هم الذين تحدثوا عن هذه الأشياء وفق فهمهم الخاص(49). على هذا يجيب ليون بنوع من الشرح لموضوعة الكشف التدريجي للوحي الإلهي، ملحاً على أن الله لم يتكلم إلى البشر مرة واحدة فقط عبر نبي واحد، ومنكراً موقف مستجوبه الذي يفيد بأن «كل ما ضمنه الله للعرق البشري كان قد أوحي إلى موسى»(50) . إلى جانب هذه الأصولية الموسوية يمكن ملاحظة الإنتقاص من الأنبياء الذي يظهر في أسئلة عمر الأخرى(51): لماذا لا تقبل كل ما يقوله يسوع عن ذاته، وتبحث في كتاتبات الأنبياء وفي المزامير واضعاً في ذهنك أن تجد شهادات تدعم تجسد يسوع؟ أنت.. غير راض بما شهد به المسيح عن ذاته، لكنك تؤمن بما قاله الأنبياء. لكن يسوع كان أهلاً للتصديق فعلاً، كان أقرب إلى الله، وقد عرف ذاته أكثر بكثير مما عرفته كتابات محرفة ومشوهة لأناس لا تعرفهم. على أية حال، فالطرف الهاجري يميل بوضوح إلى الموقف السامري من الكتاب المقدس(52). وطريقة تصوير أنبياء اليهود الكبار في القرآن - حيث نادراً ما نصادفهم- قد تكون بقية إسلامية لهذه العقيدة(53). كان لدى الموقف السامري من الكتاب المقدس ما يقدمه للهاجريين على مستويين. فبشكل نوعي، نجد أنه شطب الأساس الكتابي للعنصر الداوودي في المسيانية اليهودية - لا يوجد دليل في أسفار التوراة الخمسة الأولى على شرعية المَلَكية الداوودية ولا على قداسة القدس(54) ؛ وفي الوقت ذاته، فقد قام بشيء لتعزيز التأكيد البطريركي على ديانة ابراهيم. وبشكل أكثر عمومية، فالتقيّد بأسفار التوراة الأولى الخمسة دون الأنبياء حدّد موقفاً بالنسبة لمسألة المرجعية الدينية في شكلها الكتابي على الأقل، موقف كان قابلاً للحياة جدلياً في العالم التوحيدي(55). وهكذا وجد الهاجريون حلولاً لمعظم المشكلات الملحة التي واجهوها بعد الانفصال عن اليهودية. فديانتهم الابراهيمية وطدت أسس ما كانوا عليه، مسيانيتهم المسيحية ساعدتهم في تأكيد ما لم يكونوه، وموقفهم من الكتاب المقدس، إضافة إلى مساعدة المسيانية، منحهم نوعاً من المعرفة العقائدية الابتدائية، شيئاً يتفاخرون به. كانت المشكلة أن هذه الحلول بدت متنافرة مع بعضها بالمعنى الكامل للكلمة.

3 النبي مِثْل موسى

إن الجميع بين ديانة ابراهيم ومسيانية مسيحية مساعدة كان بحد ذاته جمعاً ملفتاً للنظر بغرابته، وإلحاق الموقف السامري من الكتاب المقدّس به لم يفد في جعله أكثر معقولية. من ناحية فإن رفض الأنبياء، بالدقة ذاتها التي استأصل بها الأساس الكتابي للمسيانية الداوودية، أفقد الإقرار بالمسيا المسيحي كلّ معنى؛ ومن ناحية أخرى، فإن الاعتراف بأسفار التوراة الخمسة الأولى دون غيرها كان يعني نوعاً من السيطرة الموسوية والتي أفسدت ديانة ابراهيم. لكن جذر المشكلة كان يكمن في أن الهاجريين لم يكونوا قد تصدوا بعد لمعضلة ورطتهم الدينية. فقد بدأوا بجمع مضطرب بين الفداء الإسرائيلي وعلم الأنساب الاسماعيلي؛ قد يتبدل المحتوى النوعي لكل مصطلح، لكن المشكلة الأساسية بقيت في جعل حقيقة دينية غريبة عليهم ملكاً لهم. لم يكن هنالك بالفعل سوى حلّين. فمن ناحية كان باستطاعتهم أن يتابعوا بطريقة المسيحيين الأثيوبيين، أي بأن يتبنوا لأنفسهم نسباً إسرائيلياً. لكن بسبب المسرحية التي اختلقوها حول سلسلة نسبهم الاسماعيلي، لا نتفاجأ إذا وجدناهم متعلقين به خلال كامل تطورهم العقائدي. ومن ناحية أخرى، إذا لم يكونوا ليذهبوا إلى الحقيقة، فالحقيقة قد تُحثَ على الذهاب إليهم. فعلى أساس علم أنسابهم الإسماعيلي، كان عليهم أن يشيدوا علم نبوة اسماعيلي ملائم. كانت خطوة جريئة بالنسبة لأمة محدثة النعمة دينياً للغاية، لكنها كانت طريق النجاة الوحيدة. التكيفات العقائدية الاستهلالية المحللة في الفصل السابق تركت محمد عاطلاً عن العمل جزئياً بطريقة متميزة. فقمع المسيانية اختزل رسالته إلى رسالة مبشر توحيدي ذي مكانة سيئة التحديد نوعاً ما. كان من المستحيل إعطاء هذه المكانة تحديداً أكثر دقة وذلك عبر الاستنجاد بفكرة إحيائي مرسل لإحياء ديانة ابراهيم(1). لكن من المواد المحفوظة في القرآن، كان سيبدو أن الاتجاه المسيطر كان في وضع النبي في صف واحد مع سلسلةمن المنذرين الذين لم يذكرهم الكتاب المقدس والذين أرسلوا إلى شعوب الأمم(2). وكون هذا الأنموذج القديم يعكس طوراً عقائدياً هاماً فذلك ما يوحي به من ناحية كثرة تقديمه والوضوح النسبي في ذلك التقديم(3)، ومن ناحية أخرى التأثير الذي يمارسه حتى على شخص موسى(4). والمفتاح الذي يوصلنا إلى سر جاذبيته لا بد أنه تموضع في جمعه بين البساطة والمراوغة: فاختزال الرسالة إلى تحذير مجرّد معطى في سياق إثني ضيّق جَنّب الحاجة إلى تعريف علاقته بحقل الوحي التوحيدي الأكثر اتساعاً. وحدها هذه العلاقة كانت بحاجة إلى تعريف لو أريد لعلم نبوة اسماعيلي أن يُخْلَق. كان على النذير العربي أن يتخطى دوره المحدود المريح نحو الأعالي الشاهقة للوحي الكتابي: كان عليه الآن أن يقف في صف واحد، ليس مع هود وصالح، بل مع موسى طور سيناء. سمتان في التركيبة الموسوية سهّلتا هذا الاصطفاف. الأولى كانت السهولة التي يمكن بها الانتقال ضمن المثال الموسوي من الفداء إلى الوحي، من البحر الأحمر إلى سيناء.لم يكن صعباً رؤية محمّد في دور قائد الخروج الموسوي، ولم يكن هنالك ما يمنعه من إكمال عمله بتلقي وحي على جبل مقدّس مناسب(5). تبدّل التوكيد ملاحظ على نحو ممتاز في الصيغ المتقابلة لعلاقة موسى بمحمد والتي يقدّمها لنا تاريخان أرمنيان: فبالنسبة لسيبيوس الأبكر تاريخاً، يبدو أن محمداً مطلع جيداً على قصة موسى، في حين يرى صموئيل الآني الأكثر تأخراً، أن اطلاعه على شريعة موسى(6) غير كامل. لكن الشاهد الأكثر لفتاً للنظر على هذا التبدل هو التطور الغريب في علم دلالة الألفاظ للمصطلح فرقان من معناه الآرامي الأصلي «فداء» إلى المعنى العربي الثانوي «وحي»(7): في الصورة الواردة في سفر اشعيا 7:21، حوّل الخلاص للراكب على الحمار إلى سِفر مقدس للراكب على الجمل(8). السمة الأخرى المساعدة في التركيبة الموسوية كانت الوعد الذي يرد في سفر التثنية حول «نبي مثل موسى»(9). يبدو القرآن ذاته متواضعاً جداً بحيث لا يختار النبي لهذا الدور: فالواقع أنه يقدّم وحيه كمجرد شهادة عربية على وحي موسى (11:46 وما بعد). لكن السيرة تمدّنا بأمثلة واضحة حول اعتبار أن محمداً هو النبي الذي يتحدث عنه سفر التثنية(10). وهكذا فالتركيبة الموسوية قدمت لنا كلاً من الإنموذج والإقرار من أجل إعادة صياغة دور محمد كحامل لوحي جديد. إن الموضع الذي كان على الهاجريين الإتكال على أنفسهم فيه تمثّل في تأليف كتاب مقدس فعلي لنبيهم، أقل غربة من كتاب موسى وأكثر واقعية من كتاب ابراهيم(11). لكن ما من مصدر قديم يلقي بأي ضوء مباشر حول كيف ومتى تَمَّ هذا. ففيما يتعلق بطريقة الإنشاء، ثمة سبب ما يدفعنا للافتراض بأن القرآن جُمع من عدد وافر من الأعمال الدينية الهاجرية الأقدم منه. وفي الموضع الأول، يمكن البرهنة على هذا العدد الوافر بطرق عديدة. فمن الجانب الإسلامي، يقدّم لنا القرآن ذاته إشارات غامضة تفيد بأن كمالية النص مسألة عويصة(12)، ومع هذا يمكن لنا أن نقارن الادعاء ضد عثمان بأن القرآن كان كتباً عديدة لم يترك منها غير واحد(13). ومن الجانب المسيحي، فإن راهب بيت حله يميّز بحدّة بين القرآن وسورة البقرة كمصدرين للشريعة(14)، في حين أن ليفون يجعل الامبراطور ليون يصف كيف أتلف الحجّاج «الكتابات» الهاجرية القديمة(15). ثانياً، هنالك دليل داخلي من الشخصية الأدبية للقرآن. فالكتاب ملفت للنظر في افتقاره للبنيان المتكامل، لكثرة غموضه وعدم تناسقه منطقياً في كلّ من اللغة والمضمون، لروتينيته في ربطه لمواد متباينة، ولادمانه على إعادة مقاطع كاملة في نصوص مختلفة. على هذا الأساس يمكن البرهان بشكل معقول أن هذا الكتاب ليس سوى نتيجة لتحرير متأخر وغير كامل لمواد مأخوذة من مجموعة تقاليد وافرة(16). في الوقت ذاته فإن عدم اكتمال التحرير يوحي أن ظهور القرآن كان بالضرورة حدثاً مفاجئاً، إن لم نقل سريعاً. لكننا نكرر القول، إنه لا يوجد شاهد قديم مباشر بالنسبة لتاريخ الحدث(17). وقبة الصخرة تشهد فعلاً، عند نهاية القرن السابع، بوجود مواد تعتبر قرآنية في نص يتوافق ليس نادراً مع النص الذي لنا(18)؛ لكنه لا يقدّم طبعاً أية إشارة بشأن الشكل الأدبي الذي ظهرت فيه هذه المواد اعتيادياً في ذلك الزمن. تظهر أقدم إشارة من خارج التقليد الأدبي الإسلامي إلى كتاب يدعى القرآن في حوار يرجع إلى نهاية الحقبة الأموية بين العربي والراهب الذي من بيت حله(19) ؛ لكنه كما رأينا، ربما كان يختلف بشكل معتبر في محتواه عن القرآن الذي نعرفه اليوم. على أية حال، ومع استثناء وحيد لأحد المقاطع من الحوار بين البطريرك والأمير والذي يمكن تفسيره كإشارة ضمنية إلى الشرع القرآني المتعلق بالإرث(20)، لا توجد أية إشارة تدل على وجود القرآن قبل نهاية القرن السابع. لكن المصادر المسيحية والإسلامية على حد سواء تعزو إلى الحجاج دوراً ما في تاريخ الكتاب المقدس الإسلامي. وفي الرواية التي يعزوها ليفون إلى ليون، يقال إن الحجاج جمع الكتابات الهاجرية القديمة وأتلفها ثم أحلّ محلها كتابات أخرى ألّفت وفق مذاقه الشخصي(21) ؛ لكن التقاليد الإسلامية أكثر تحفظاً، مع أنها بعيدة عن التناسق(22). وهكذا فليس من غير المرجح أننا نمتلك هنا السياق التاريخي الذي جمع فيه القرآن للمرة الأولى وذلك بوصفه كتاب محمّد المقدّس. ما أن وطّدت أقدام محمد في دور نبي كتابي موسوي، حتى كانت هويّة الدين الجديد آمنة أخيراً. ففي الموضع الأول، أدّى الانتقال من علم نبوة أكثر رجعية من اليهودية إلى علم نبوة أكثر تقدمية من المسيحية إلى إدخال الديانة التوحيدية الأكثر قدماً في منظور أكثر راحة. تقهقر الحضور الموسوي بشكل أو بآخر(23)، والتوراة كما يقول أحد التقاليد أُغرقت في بحيرة طبرية بنوع من التوقير(24). بالمقابل صار الهاجريون الآن في موقع يؤهلهم للاعتراف بأنبياء الشرع اليهودي(25)، ولتوسيع دور يسوع بوضعه بين موسى ومحمد في سلسلة متعاقبة من مشرعين عظام وفق الأنموذج الموسوي(26). ثانياً، لقد تلقت مشكلة إضفاء الصبغة القومية على النبوة حلاً فاعلاً لم تصل إليه من قبل قط(27). فظهور اسماعيليٍ خالص النسب في دور آخر مشرّع للتاريخ الديني حلّ التوتّر الأسوأ بين الحقيقة الغريبة والهوية الوطنية. في الوقت ذاته فإن جرأة هذا الحل جعلت ديانة ابراهيم،مع مناصرتها الخجولة للنبي الأخير الذي استطاع أن يشارك اسمعيل شرعياً مع إسرائيل، عقيمة مفاهيمياً(28). وما أن راح بنيانها يذوب، حتى انهارت فروضها العبادية أمام الدعائم الأقل رجعية لديانة محمد(29) . وصار الدين الجديد واثقاً كفاية الآن عموماً في بعده عن أصوله اليهودية بحيث يواجه اليهودية على أرضها الوطنية: حين بنى عبد الملك القبة التي أذاع فيها رسالة محمد النبوية، وضعها على صخرة الهيكل بالذات(30). في الوقت ذاته، فإن أحجار الدرج السامرية والإبراهيمية لديانة محمد قدّمت لها مقولة مركزية بالنسبة لمكانتها كديانة مستقلة، ألا وهي الإسلام(31). لقد ساهمت السامرية بفكرة الإسلام بمعنى التسليم لله. والفعل «أسلم» له أقارب في العبرية، الآرامية والسريانية. لكن في حين لا يقدم لنا الأدب اليهودي ولا الأدب المسيحي سابقة مقنعة للاستخدام الإسلامي(32)، فإننا نجد موازيات دقيقة في أهم نص سامري من الحقبة الماقبل إسلامية(33). يمكن للمرء أن يجادل طبعاً أن هذا يمثّل تلوثاً للتقليد النصي السامري بالتأثير الإسلامي؛ لكن في حالة الإسلام لا يبدو هذا الأمر مرجحاً، أقلّه لأن الاستخدام السامري، بعكس الإسلامي، مؤتلف مع مدى من الاستخدامات المشابهة من الجذور ذاتها ومن جذور أخرى(34). لكن إذا كانت السامرية قد قدمت للهاجريين الفكرة «إسلام»، فهي تقدّم فقط مفتاحاً لفهم أهمية اكتسابها بالنسبة لهم. إن سياق الفكرة في السامرية آبائي [الآباء هم ابراهيم وسلالته]، وأمثولتها القائدة ابراهيمية. وهكذا فقد كانت ديانة ابراهيم المكان الأنسب من أجل تمثّل الاستعارة وتطويرها؛ والمادة القرآنية تؤيد هذا الاستنتاج. وبشكل عام، تعطي هذه المادة إحساساً قوياً بالمكانة الأمثولية لتسليم ابراهيم وبالدور المركزي للتسليم في ديانته(35). أما من الناحية الأكثر خصوصية، فالمعالجة القرآنية لعهد اسحق، وهو المثال المفتاح لتسليم ابراهيم، مصاحبة بتفسير يبدو أنه ذو نكهة سامرية(36). يفعل هذا الدور لديانة ابراهيم شيئاً في المساعدة على تفسير الاهتمام الذي أولاه الهاجريون لفكرة سامرية شبه هامشية؛ لكن يصعب عليه تفسير سبب البروز الذي أحرزته هذه الفكرة في الإسلام. هنالك اتجاهان يمكن أن نبحث فيهما عن التحدّي الذي حث على هذه الإجابة. ففي الموضع الأول، علينا بوضوح أن نتعامل مع مقولة دينية عامة تحدّد العلاقة بين الإنسان والله وتحتل موقعاً مشابهاً لموقع العهد في اليهودية. وهكذا تنشأ احتمالية أن نرى في الإسلام نوعاً من التطوير لعهد ابراهيم في وجه تحدي العهد الموسوي. كان هذا سيجعل على الأقل معنى لسمة مستعصية للغاية في علم دلالات المصطلح، وهي حقيقة أن الاستخدام القرآني لمصطلح إسلام والصيغ المرتبطة به يتطلب باستمرار معنىً لازماً [مقابل المتعدّي في القواعد]، على نحو أوّلي ربما. المعنى الأكثر معقولية للجذر الذي نستحضره هنا هو معنى «السلام»، وفي الآرامية الترغومية(37) نجد شواهد جيدة على أن «يصنع السلام» تعني أسلم، اللفظة القريبة من إسلام، ومن هذا يمكن أن نبرهن أن المعنى الأولي لإسلام كان الدخول في عهد سلام(38). إذا كان الأمر كذلك، فإن إعادة تفسير هذا المفهوم على أساس معنى «التسليم» المتحكم بشكل مطلق يمكن أن ينظر إليه مباشرة على أنه كان بنية فصل العهد الهاجري عن العهد اليهودي. لكن إذا كان الإسلام المنافس المفاهيمي لإحدى الأفكار الموسوية، فهو أيضاً الخليفة التاريخي لفكرة أخرى. ففي الهاجرية الأولى شكّلت فكرة «الخروج» الواجب المركزي للدين، وقدّمت في الوقت ذاته اسماً لأنصاره(39). وبدا كما لو أن المقولة المركزية لديانة موسى كانت إشارة إلى البحر الأحمر. لكن حين صار الفداء كتاباً مقدساً، احتاجت الهاجرية إلى مقولة بمدى أكثر سينيائية. وهكذا حل إسلام محل هجرة باعتباره الواجب الديني الأساسي(40)، وصار المهغرايه بالتالي مسلمين.

4 النسخ السامرية

اليهودية ضمن أشياء أخرى هي التكريس الديني لحكم ما: تكريس عاصمته، القدس، وتشريع دولته، المَلَكية الداوودية، الحكم ذاته اخنفى منذ زمن طويل، لكن ذكراه بقيت، بأنشط ما يمكن في الطموحات الإحيائية للمسيانية. وكان على أية حركة دينية تفصل ذاتها عن اليهودية أن تطرد غصباً عنها شبح هذه الحكومة(1). لقد فعل أتباع يسوع ذلك عن طريق تحويل معنى المسيا ومدينته إلى روحانية صاافية: كانت أورشليم سماوية جيدة كفاية لطائفة لم تكن مملكتها في هذا العالم(2). لكن الهاجريين، كونهم امتلكوا قوة سياسية آنية، طالبوا بحلّ ذي صفة أكثر شدة وعينية. وهنا يمكن أن نجد الإرث البنيوي الدائم من السامرية للإسلام، رغم التعقيدات التي أحدثتها طائفة من التفاعلات الثانوية، وذلك على شكل زوج ملحوظ من النسخ الهاجرية(3). أوّل هذين هو الحرم المكّي. فقد كان جوهر السامرية رفض الحَرَم في القدس واستبداله بالحرم الإسرائيلي الأقدم منه في شكيم. كان هذا يعني أنه حين تحلّل الهاجريون بدورهم من الالتزام بالقدس(4)، كان باستطاعة شكيم تقديم أنموذج بسيط ومناسب لخلق حرم جديد خاص بهم. التشابه مدهش. فكل طرف يقدّم البنيان الثنائي الجانب لمدينة مقدسة مرتبطة بقوة مع جبل مقدّس قريب منها، وفي الحالتين نجد أن الطقس الأساسي يتمثل في حج من المدينة إلى الجبل. في الحالتين الحرم هو موضع أسسه ابراهيم، فالدعامة التي قدم عليها ابراهيم قربانه في شكيم تجد ما يقابلها في ركن الحرم المكي(5). أخيراً، في الحالتين نجد أن الحرم المرتبط بإحدى المدن يرتبط بقوة ايضاً مع قبر أحد الآباء [ابراهيم وسلالته] المناسبين: يوسف (مقابل يهوذا) في الحالة السامرية، واسمعيل (مقابل اسحق) في الحالة المكية. هذه المتوازيات هي الأكثر لفتاً للنظر في أنّ الحرم المكي هو بوضوح ليس سوى نهاية لتطور معقد. في السطور التالية سوف نعيّن العمليات الفاعلة في هذا التطور، ونحاول تقديم رواية تأمّلية للطريقة التي قد تكون تفاعلت فيها. في الموضع الأول، يمكن البرهان على أن موضع شكيم الهاجرية في مكة مسالة ثانوية. فالتقليد الإسلامي لا يدعنا نشك، طبعاً، بان مكة كانت الحرم الابراهيمي الأصلي للاسماعيليين؛ لكن لا يوجد عوز في الدليل كي نقترح أن الأمر احتاج لبعض الوقت قبل أن يعرف الهاجريون ما إذا كانوا ذاهبين أم عائدين(6). سلبياً، ما من مصدر قديم خارج التقليد الأدبي الإسلامي يشير إلى مكّة بالاسم. وعلى ما يبدو فإن أقدم الإشارات هي تلك الموجودة في إحدى النسخ السريانية من سفر ميثوديوس القيامي المنحول؛ لكن رغم أن السفر ذاته يعود إلى نهاية القرن السابع، فالإشارات إلى مكة التي تميّز هذه النسخة تبدو على الأرجح ثانوية(7). أما الإشارة المسيحية الثانية فترد في «التواصل البيزنطي العربي»(8)، وهو مصدر يرجع إلى بداية حكم هشام(9). القرآن، من ناحية أخرى، يقدّم إشارة واحدة إلى مكة (48: 24)، وذلك في سياق عمليات عسكرية ذات علاقة بالحرم، لكنه لم يموضع الحرم هناك قط فعلاً(10)؛ وهو يشير إلى قبلة ملغاة يصعب جداً في السياق تحديد موقعها بأنه في القدس (138:2). إيجابياً، يخبرنا القرآن ذاته باسم المكان الذي كان فيه الحرم بالفعل: بكه (96:3).والتقليد الإسلامي يبذل جهداً كبيراً كي يطابق هذا المكان مع مكة(11)، في حين لا يلقي أيّ من مصادرنا بأي ضوء على موقعه الأصلي. مع ذلك فثمة مصدر غير مؤكّد التاريخ، ألا وهو النص الآرامي السامري المعروف باسم الأساطير، والذي يوحي بأن الاسم بكة قد يكون بقية مرحلة مهجورة من البحث عن حرم هاجري. وبحسب هذا النص، فإن أبناء نبايوت بنوا مكة، كما هو مكتوب: «وأنت آت (بكه) نحوآشور. وكان قد نزل قبالة جميع أخوته» (سفر التكوين 25: 18)(12). البكه b’kh في هذه الآية، التي تصبح باكا baka في العبرية السامرية(13)، هي إشارة واضحة إلى المكان الذي نعرفه في القرآن باسم بكّه، وسياق الآية يربطه بأحكام مع موت اسمعيل. هذا التمرين المرهق في فقه لغة الكتاب المقدّس قد لا يكون بالطبع أكثر من مثال على انتيكية سامرية عنيدة. لكن قد يكون لدينا هنا أيضاً بقية محاولة هاجرية للحصول من معلميهم السامريين على إقرار من أسفار التوراة الخمس الأولى بحرم هاجري(14). وهكذا يبدو معقولاً أن نفحص خريطة شبه الجزيرة العربية من اجل آثار محتملة لحرمات منبوذة، وفي هذا السياق يقدّم عدد من الأمكنة سمات هامة. في الحجاز ذاته، الدليل غير مرض إلى درجة كبيرة لأنه مستمد بالكامل تقريباً من التقليد الإسلامي. مع ذلك ثمة موضعان يستحقان الملاحظة: يثرب، التي سنعود إليها لاحقاً(15)، والطائف. الطائف تقدّم محاكاة غير خالية من الشك لشكيم وذلك في أنهما (بالمقارنة مع مكة) حرمان متوضعان في بيئتين تشتهران بالخضرة(16)؛ وأنها مادة تقليد إسلامي مشكوك به، يفيد أنها كانت ذات يوم مكاناً في فلسطين(17). بعيداً نحو الشمال تتحسّن نوعية الدليل، مع أن المشاكل تظل تزوغ من حل دقيق. نصل الآن إلى منطقة توجد فيها شواهد قوية على الاستيطان اليهودي في الأزمنة الماقبل إسلامية، منطقة رسمت لها جغرافيا مقدسة في الترغومات اليهودية. هنا، وذلك مقابل أعماق الجنوب، لم يكن على الهاجريين أن يبدأوا من لاشيء - وهو أحد الأسباب التي تفسّر كونه مكاناً جيداً للبداية. قدّمت الترغومات، عبر عادتها التي تتجلّى في تحديث أسماء المواقع في الكتاب المقدّس، نسخاً من سفر التكوين نُقلت فيها جولات الشخوص المفتاحية - ابراهيم، هاجر، واسمعيل - إلى شمال غرب شبه الجزيرة العربية(18). في الموضع الأول، قدّمت بعض هذه الترجمات الترغومية تصويراً خرائطياً سطحياً لذلك الإقليم في شبه الجزيرة العربية(19). وكانت النتيجة إضفاء صفة آبائية [من الآباء ابراهيم وسلالته] على المراكز العبادية النبطية في البتراء والوسا. ونحن لا نعرف إلى متى استمرت هذه التقاليد الوثنية في تلك المنطقة. لكننا لاحظنا لتونا إعادة تقويم حنيفية مميزة لعرف وثني مطبق هنا، وقد أشير منذ زمن طويل إلى وجود بعض الروابط الملفتة للنظر بين العبادات الوثنية في ذلك الإقليم من شبه الجزيرة العربية والعبادة المكية كما نعرفها في التقليد الإسلامي(20). في الموضع الثاني، فقد قدّمت ترجمات أخرى تصويرات خرائطية أكثر عمقاً لم يعد فيها الموقع الحدودي الوسا بل حغرا(21)، أي مدينة الحجر العربية(22). أهم مسألة هنا هي الربط بين ذكر حغرا وموت اسمعيل في سفر التكوين 18:25. وهكذا فالحجر كانت موضعاً لا لبس فيه لرفاة اسمعيل. وكون الهاجريون استخدموا هذا فعلاً فهو أمر توحي به إحدى السمات الغريبة للطبوغرافيا المكّية: فحتى في مكة، نجد أن اسمعيل مدفون في الحجر. بكلمات أخرى، يبدو أن لدينا هنا موازياً ملفتاً للنظر لحالة بكة. وفي الحالتين يظهر الهاجريون وكأنه خرجوا ليجدوا لأنفسهم حرماً من سفر التكوين 18:25، في الحالة الأولى عبر التوراة السامرية، وفي الحالة الثانية عبر الترغوم اليهودي؛ وفي كلتا الحالتين يبدو أنهم هجروا الموقع، آخذين معهم اسمي المنطقتين إلى مستودعهم المكي النهائي(23). وهكذا فالترجمات الترغومية قدّمت الشمال الغربي باعتباره ارضاً مناسبة لحرم هاجري؛ وصلات مكّة بالحجر ووثنية المناطق الريفية من شبه جزيرة العرب توحي بأن هذه الإمكانية ربما تكون استُغِلّت. فرضية كهذه كانت ستتناسب مع بروز الشمال الغربي في جغرافية القرآن المتعلقة بشبه جزيرة العرب والتي قد تكون هزيلة إلى حد ما(24)، وستخلق معنى لبعض الإشارات المجهولة المصدر في التقليد الإسلامي والقائلة إن الحرم كان موجوداً في إحدى المراحل في شمال المدينة(25)المنورة. لكن أهمية الشمال الغربي الترغومي في جغرافيا الهاجريين المقدّسة تُؤَكّد على نحو هو الأعظم إثارة عبر ما نعرفه عن التاريخ الأولي للقبلة: يبدو أنهم اتجهوا في الصلاة إلى مكان ما في الشمال الغربي من جزيرة العرب. في الموضع الأوّل، لدينا الدليل الأركيولوجي على وجود مسجدين أمويين في العراق، مسجد الحجاج في واسط وآخر يُعْزا إلى الحقبة ذاتها تقريباً قرب بغداد. هذان المسجدان متوجهان شمالاً إلى درجة كبيرة بمقدار 33 درجة و30 درجة على الترتيب(26)؛ ومع هذا يمكن لنا أن نقارن الشهادة الأدبية التي تفيد أن القبلة العراقية كانت نحو الغرب(27). ثانياً، لدينا الدليل الأدبي المتعلق بمصر(28)، فمن الجانب الإسلامي هنالك تقليد يقول إن مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط كان متوجهاً نحو الشمال البعيد، وكان لابد من تصحيحه تحت حكم قره بن شريك(29). من الجانب المسيحي لدينا عبارة شهيرة ليعقوب الرهاوي، وهو شاهد عيان من ذلك الزمن، تقول إن «المهغرايه» في مصر كانوا يصلون إلى الشرق نحو الكعبة(30). والجمع بين الدليل الأركيولوجي من العراق والدليل الأدبي من مصر يشير دون لبس إلى حرم في شمال غرب الجزيرة العربية، وبهذا يصعب أن نتجنب الاستنتاج بأن موقع الحرم الهاجري في مكة كان ثانوياً. المصدر الكبير الآخر للاهتمام في الجغرافيا المقدسة لشبه جزيرة العرب كان البحث عن سيناريو مناسب لأعمال النبي الموسوية. بادئ ذي بدء كان هذا يعني اختيار موقع جديد للخروج الهاجري. سلبياً، أخلي سبيل النبي من المغامرة الفلسطينية الأصلية عن طريق تنقيح تأريخي جعله يموت قبل سنتين من بدء الغزو(31). إيجابياً، فقد بُحث في الغزوات غير الفلسطينية عن وجهة أقل إرباكاً للخروج: يحفظ لنا التقليد الاسلامي آثار نقل فكرة الأرض الموعودة إلى غزو العراق(32)، وتعميم الخروج بحيث يشمل كل الأراضي المغزو(33). لكن الحلّ المحدّد كان في فصل الخروج عن الغزوات بالكامل وإعادة موضعته داخل شبه جزيرة العرب. وهكذا أصبح «يوم الفرقان» في القرآن (41:8) حدثاً في سيرة النبي، يتماثل في التقليد الإسلامي مع موقعة بدر. وعلى نحو معكوس صار تجمّع المنفيين اليهود في فلسطين على يدي الفادي طرداً لهم من شبه جزيرة العرب على يدي خليفة مسلم(34)، وصارالمتعاونون اليهود في المغامرة الفلسطينية أنصار المدينة المنورة العرب (لكنهم ليسوا اسماعيليين)(35). وهكذا فالخروج المتبدّل الموقع خُتم داخل وضعه العربي الجديد عبر التقليد القائل، «لا هجرة بعد فتح مكة»(36). يبدوأن تبديل موقع الخروج عملية معقّدة لأنه يتضمّن بالضرورة أكثر من مكان، والتقليد الاسلامي يعمل بمقولتين أساسيتين: الخروج يأخذ النبي إلى «الإقليم»، المدينة المنورة(37)، حيث يتحضّر لاستعادة العاصمة، أم القرى. من المعقول تاريخياً الآن أن نفترض أن النبي شرع في غزو فلسطين من إحدى القواعد في شبه جزيرة العرب(38).و يمكن لنا أن نتخيل أن هذه القاعدة كانت يثرب(39)، مع أن الربط بين المدينة ومدين(40) والمعقولية الجغرافية عموماً قد يوحيان بموقع أبعد شمالاً. مع ذلك فالمقولة الحاسمة هي العاصمة، الفلسطينية اصلا، لكنها في القرآن توجد في شبه الجزيرة العرب دون التباس(41). لقد أمكن مقاربة مشكلة موضعة عاصمة كهذه بإحدى طريقتين. لقد تجلّى أوضح الحلول في رفع تدريجي لمكانة القاعدة حتى تصبح بمكانة العاصمة ليس إلا: أعيد تفسير «ريف» محمد الآن على أنه «مدينته». وكون هذا الحل قد تم تبنيه في بعض النواحي فذلك ما توحي به السمة الحاضرية الملفتة للنظر التي تبديها المدينة في بعض الوجوه: إنها بحد ذاتها حرم(42)، وهي بالنتيجة القدر النهائي للخروج الهاجري(43)، والعاصمة السياسية دون ريب للتاريخ الإسلامي الأولي(44). كان البديل هو أن يتمحور الخروج حول المكانة الإقليمية للقاعدة: فقد احتفظت المدينة، إذا صح القول، بدواميتها، في حين انتقل الغزو المقدّس من القدس إلى مكة. ورغم سمات العاصمة التي تحملها المدينة، فهذا هو الحل الذي يميل إليه التقليد الإسلامي أساساً. في هذه النقطة نحتاج إلى تذكّر سمة هامة للخلفية العقائدية: التقدّم من ديانة ابراهيم إلى ديانة محمد. فمن الواضح أن القصد من الحرم الإبراهيمي كان العاصمة الهاجرية؛ لكن بالنسبة لإسلام متخيل كديانة لمحمد، ربما يبدو الحرم المحمدي مركزاً أكثر مناسبة. لكن الواقع أن ما ظهر كان تسوية احتفظ فيها محمد باليد العليا: «كانت مكة حرم ابراهيم والمدينة حرمي»، كما يقول النبي(45)، لكن مكة ظلت المركز العبادي للإسلام. تبدو عودة مكة إلى سابق عهدها مفاجئة هنا: يمكن للمرء أن يتوقع أن يكون الحرم الابراهيمي قد استُوعب أو ترك للانهيار جنباً إلى جنب مع العبادة الابراهيمية. والتفسير الذي سنقترحه هو أن أولوية مكة أنقذت عبر وضع دور موسوي غريب آخر فوق الحرم الابراهيمي. وحين صار الفداء كتاباً مقدساً، وجد الهاجريون أنفسهم بحاجة إلى سيناء في الجزيرة العربية. بل أكثر من ذلك، فقد كان عليهم أن يجدوها في جزء من شبه جزيرة العرب أقل تلوثا باليهودية من المدينة المنورة، مسرح الصدع الهاجري - المنقول والملقى به إلى الخلف - مع اليهود. يبدو معقولاً في الواقع أن نحلل المبنى المكّي المركّب باعتباره حرماً ابراهيمياً شوّهه وحي موسوي. في التقليد الإسلامي، السيناء المكية التي يتلقى عليها النبي أوّل وحي له هي بالطبع حراء(46). لكن عرفات، الجبل الذي ينتمي إلى المبنى المركب الابراهيمي، يحمل أيضاً آثار التلوث الموسوي. ففي الموضع الأول، نجد أنه في حين توحي صيغة الحج بالحج السامري إلى جبل جرزيم، يقدّم محتواه الطقسي موازيات مدهشة للوصف التوراتي لانتظار الإسرائيليين عند جبل سيناء(47). ويبدو الأمر كما لو أن الطقس كان إعادة تمثيل لانتظار الاسماعيليين لنبيهم الخاص الذي كان قد صعد جبلهم الخاص. ثانياً، يختلف المبنى المكي المركّب بإحدى السمات الهامة عن المبنى المركّب في شكيم: فقد نُقل «بيت الله» من الجبل إلى البلدة(48) - مع أن طقس الأضحية الفعلي، وهو أمر قد لا يبدو متناسقاً، خَلّفه وراءه(49). ولو أن الأنموذج كان في إحدى المراحل سينيائياً أكثر منه جرزيمياً لأفاد ذلك في شرح هذه التعرية للجبل. على أية حال، فقد تمّ تبني مكة باعتبارها مسرح آيات محمد المنزلة الأولى؛ وبهذا نمتلك أساسيات الأنموذج الملفت للنظر لجغرافيا الحجاز المقدسة، والتي تُقَسّم الأدوار الموسوية للنبي بين حرمي ابراهيم ومحمد المتمايزين. النسخة السامرية الكبيرة الأخرى كانت أساساً منطقياً للمرجعية السياسية بين الهاجريين. فالمسيانية اليهودية، بغض النظر تماماً عن كونها يهودية، كانت في الاساس تشريعية دينية لحدث ذي علاقة بالمناخ، وليس لمرجعية متنامية. بالمقابل، فالامبراطورية المسيحية التي أزاحها الهاجريون كانت مجرد ضم لمنطومتين مفاهيميتين متمايزتين الأمر الذي لم يقدم أي أساس منطقي ديني جوهرياً لحكم امبراطوري(50). وما لم يستطع المسيحيون ولا اليهود استنباطه كان تشريعية دينية جوهرياً لمرجعية متنامية. وقد كان هذا، بما يكفي من الغرابة، ما استطاع السامريون تحديداً تقديمه: القيمة السياسية المركزية في السامرية هي التشريعية المتواصلة لكهنوتية هارونية(51). وهكذا مكّن الكهنوت الأبدي الهاجريين من مغادرة السنوات الألف دون الوقوع في فخ المَلَكية(52). الإمامة الإسلامية(53) هي نسخة سامرية هو أمر يوحي به التشابه البنيوي بين العرفين. ففي كلتا الحالتين لدينا منصباً تُدمج فيه سلطة سياسية ودينية فائقة، وفي كلتا الحالتين المؤهل الأولي للمنصب هو الجمع بين المعرفة الدينية والنسب المقدّس(54). التشابه واضح بما يكفي، وقد عُرِف منذ زمن طويل: فالسامريون أنفسهم في كتاباتهم العربية تَبَنّوا الإمامة من أجل تفسير كهنوتهم العالي الخاص(55). لكن التشابه في حالة الإمامة العلوية هو الأكثر إدهاشاً. ففي الموضع الأول،تأخذ المعرفة الدينية، عند الشيعية كما عند السامرية، نكهة سرّانية مميزّة(56). ثانياً، يُشحذ المؤهل النَسَبي عبر تحدّر من أحد أقارب النبي المتميزين، أي هارون في الحالة السامرية وعلي في الحالة الإسلامية(57)؛ التشابه يصبح واضحاً تماماً في التقاليد الشيعية التي تدعم مطالب علي بالإمامة عبر تأكيد الفرضية القائلة إن علياً لمحمد هو مثل هارون لموسى وتطوير هذه الفرضية(58). ثالثاً، في بعض الملاحظات المتعلقة بشيعية الحرب الأهلية الثانية والتي ترد في نص عربي يبدو أنه يرجع إلى زمن معاصر لتلك الحرب تقريباً يمكن أن نجد أوضح تشخيص للمرجعية الدينية في الإسلام، والذي يرافق بتسمية مدهشة لرجال الدين هي كهنة(59). أخيراً، من الممكن تماماً أنه قد يكون لدينا في الرواية القرآنية المتعلقة بالعجل الذهبي إدانة مجازية للدور السامري في خلق الكهنوت العالي العلوي(60). كما في حالة الحرم المكي، فحالة أنموذج سامري بسيطة إلى حد ما أساساً. لكن هذه الحالة تحتاج هنا أيضاً إلى توصيف وذلك عبر محاولة لإجمال التطور الذي مرّت به المفاهيم في الهاجرية قبل أن تصل إلى شكلها الإسلامي الأخير. وعلى ما يبدو فإن مصدر التشويشات في هذه الحالة كان الانبعاث الثانوي للتأثير اليهودي. لم تكن فكرة مرجعية كهنوت عالٍ غريبة طبعاً على اليهودية الربّانية. لكن السمة الفعلية للمرجعية الدينية كما هي موجودة في هذا الوسط كانت مناقضة بوضوح للأداء الناعم لعرف كهذا. وفي نهاية المطاف فهذا يفيدنا كثيراً في وصف الافتراق بين الإسلام الأرثوذكسي والشيعية: فمع تشتت المرجعية الدينية بين جماعة علمانية متعلمة غير منظّمة(61)، لا نتفاجأ حين نجد المؤهل النسبي وقد تراخى والتعاليم الإمامية وقد فقدت حدّها السرّاني. وعلى المدى القصير، تساعد الخلفية الربّانية في تفسير ظهور حركة في الوسط اليهودي العراقي القوي عرّت الإمامة من سمتها الكهنوتية. لقد قبل الخوارج بالإمامة عموماً - فأي بديل عياني كان على اليهودية أن تقدّمه؟ لكن المعرفة التي يتمتع بها الإمام كانت مجرّدة من أية صفة سرّانية، كما رُفضت فكرة النسب المقدّس(62). وعلى نحو ملائم للغرض يعزو التقليد الإسلامي للخوارج الذين انشقوا عن عليّ في الحرب الأهلية الأولى شعار «لا حكم إلا حكم الله»: رغم الشكل السامري المتميز للشعار، يبدو محتواه إلى حد ما وكأنه إنكار لأحد الامتيازات الكهنوتية - العالية الأساسية(63). لكن أهم إسهام يهودي كان يتجلّى في إعادة الإصرار على الدافع المسياني الأصلي للهاجرية اليهودية في وضع مفاهيمي جديد. وفي العراق عاد المسيا من جديد بهيئة المهدي(64). عقائدياً، التحول الذي اجتازه المسيا المقموع كان كبيراً، ويبدو أن الأكثر ترجيحاً فعلاً هو أن الأنموذج لأجل المهدي لم يكن المسيا أصلاً بل موسى الذي يبعث حياً(65). لكن مهما كان التفاوت العقائدي، فمن الواضح كفاية أن المهدي ورث دور الفادي السياسي الذي يكمن في قلب المسيانية اليهودية. وهكذا يبدو معقولاً بالمصطلحات الجينية تحديد هوية المحاولتين الهاجريتين المتمازيتين تماماً لتعريف معنى سياساتهم: التشريعية المستمرة لكهنوت سامري عالٍ وذلك مقابل إتمام وشيك لمهدوية يهودية جديدة. ويبدو شبه معقول أيضاً بلغة المصادر الإسلامية أن نلحّ على السمة المتميزة بل المتعارضة للفكرتين في منتصف القرن الثامن على الأقل. فمن ناحية لدينا الإمامة المتناقلة في السلالتين الكهنوتيتين العلويتين للحسن والحسين، اليعيزر وايثامار المخطط السامري، وتحرر هاتين السلالتين من التلوث المهدوي حتى حقبة ما بعد الثورة العباسية. ومن ناحية أخرى لدينا السلالات من خارج العائلة المقدس. وهم مدّعون لا يمتلكون أية مكانة داخل المخطط السامري والذين يبدوا أن أدوارهم الأولية كانت مهدوية(66). مع ذلك ففي إحدى المراحل، والتي قد تكون في نصف القرن الذي أعقب الثورة العباسية، راحت الفكرتان المتعارضتان تؤثر كل بالأخرى. لكن ما يهمنا بشأن هذه العودة للعلاقات الودية ليس سياستها بل آليتها المفاهيمية المركزية. من السمات البارزة للعقيدة والتي تعزوها المصادر الإسلامية لعبد الله بن سبأ هي تلك التي تقول إن علياً وريث محمد وذلك في نوع من التشابه الصريح مع يشوع في علاقته بموسى(67). وهذا الاستخدام للمخطط الموسوي يمتلك مفهومين ضمنيين هامين. في الموضع الأول، لم يكن يشوع مجرد خليفة لموسى، بل كان خليفته الوحيد. والقول إن علياً، ليس باعتباره الأول في سلسلة كهنة عاليين، بل باعتباره الخليفة الوحيد للنبي، كان لتوضيح المستقبل من أجل مجيء المهدي. ثانياً، إن اعتبار علي مثل يشوع مناسب ليجعل منه رجلاً علمانياً غير مرتبط بالنبي، وذلك مقابل أخ كهنوتي(68). يتضح النقاء القديم لهذه العقيدة عبر الطريقة التي تتوضح فيها حقيقة أن علياً لا يمكن أن يكون هارون ويشوع في آن. لكن تعايش خيارين متنافسين لعلي كان سينتهي على الأرجح بنوع من الاندماج، والمفتاح إلى فهم الفكرة الإسلامية عن الإمامة هو تحديداً انصهار الشخصين الموسويين. فالخليفة اليشوعي والأخ الهاروني دخلا في تسوية تجعل من علي ابن عم النبي(69). ومن ناحية أكثر عمومية، اندمج الكهنوت الأبدي والخلافة الوحيدة في سلسلة من الخلفاء الكهنوتيين إلى حد ما، مع تحديد شيعي متميّز للخليفة الأخير في السلسلة وذلك باعتباره المهدي. وتتوحد مؤهلات المنصب - المعرفة الدينية، السرانية تقريباً، والنسب المقدّس، المحدّد بشكل ضيق تقريباً - مع الانموذج الخاص بالسلالة الحاكمة لسرمدة الكهنوت السامري العالي. لكن تحديد هوية العرف على أنها خلافة للنبي إنما يشكّل بقية التلاعب المهدوي بشخص يشوع. عن هذا الدمج يُعَبّر بلطافة في إعادة تفسير لفكرة الخلافة(70): فقد صار خليفة الله خليفة لرسول الله(71)، وأول خليفة من هذا النوع خُلِق عن طريق الإلقاء بزمن وفاة النبي في عام 632(72) وذلك بعد تهيئة الخليفة في فجوة السنتين.


5 بـابـل

مع ارتقاء محمد إلى دور نبي ذي كتاب وتمثّل الاستعارات السامرية، أفسحت الهاجرية المجال لشيء يمكن إدراك إسلاميته. يمكن موضعة التحول بشكل معقول في نهاية القرن السابع، وبشكل أكثر تحديداً في زمن حكم عبد الملك. فمن ناحية، تظهر البقايا النَقْدِيه، الوثائقية والمعمارية من هذه الحقبة سمة دينية جديدة ومؤكدة(1). ومن ناحية أخرى، تميّزت الحقبة في التقليد الإسلامي بتدمير وإعادة بناء حَرَمات(2)، بالصراعات السياسية الدائرة حول المقولات المهدوية والإمامية، وبمحاولة فرض نصّ قرآني قياسي - ذكريات تجد بعض التأكيد من خارج التقليد(3)، وهي توحي بقوة بحقبة تغيير ديني عنيفة. أكثر من ذلك، فالبحوث المعاصرة تُرْجع إلى حقبة حكم عبد الملك أصول اللاهوت الإسلامي(4). ولدينا بالتالي ما يدعونا إلى افتراض أنّ خطوط الإسلام العريضة كما نعرفه الآن ظهرت في بدايات القرن الثامن. لكن لا يوجد ما يدعونا لأن ندخل في هذه الخطوط العريضة الثقافة الحاخامية التي هي سمة بارزة جداً للإسلام الكلاسيكي(5). ففي الموضع الأول، تطوّر كهذا غير محتمل بديهياً. فإسلام عبد الملك ظهر تحت حمايةٍ سورية، ولم يكن هنالك في البيئة السورية ما يجبر الهاجريون على توحيد الشرع المقدس مع العلمانية المثقفة. والارتباط الهاجري الاستهلالي مع اليهودية كان قصيراً جداً في فترته ومسيانياً جداً في محتواه حتى يترك فضالة سكولاستية كبيرة. بالمقابل فالتخلل البطيء للتأثير الثقافي من البيئة المسيحية الغامرة لم يكن محتملاً أن يدفع الهاجريين في هذا الاتجاه. قبل كل شيء، فالسامرية، صاحبة الأثر الكبير على الهاجرية في حقبتها التشكيلية، قدّمت أنموذجاً كان المعارض الجوهري للأنموذج الحاخامي، وبلغة التجسيد الاجتماعي للمرجعية الدينية، تتميز السامرية بتعاليم سرانية لنخبة كهنوتية وراثية؛ وبلغة المحتوى الفكري لهذه التعاليم، فالسامرية، مع تأكيدها الموسوي، لا يبدو أنها كانت ديانة هالاخية بالدرجة ذاتها التي لليهودية(6). في الموضع الثاني، فإن دليلاً قاصراً كالذي لدينا والذي يتعلق بالسمات ذات الصلة بالهاجرية(7) إنما يميل لتأكيد هذه الاستدلالات بطريقتين. أولاً، هنالك إشارات من الجانب الإسلامي إلى التفاهة النسبية لصنف الشرع الديني في الهاجرية. فالشرع الإسلامي يحتفظ بذكريات عن ممارسة شرعية أموية، لكنه نادراً ما يحتفظ بأي شيء يمكن تسميته شرعاً أموياً(8)؛ بالمقابل، فالكتاب المقدّس الذي أورثته الهاجرية للإسلام كان كتاباً متواضعاً على نحو متميّز في محتواه الهالاخي(9). ثانياً، من الجدير بالملاحظة أنه بقدر ما توجد إشارات إلى معرفة شرعية، فهي إنما تشير إلى شرع مقدّس يعتمد مباشرة إن لم يكن بسذاجة على الكتاب المقدّس(10). نحن متأكّدون في الواقع تماماً بأن الإسلام أحرز شكله الحاخامي الكلاسيكي في ظل اليهودية البابلية، وربما في أعقاب انتقال السلطة من سوريا إلى العراق في منتصف القرن الثامن. يبدو أن الأنموذج اليهودي مترسخ وذلك عبر الحقيقة القائلة إنه ما من دين غيره قدّم الجمع ذاته بين الشرع المقدّس والعلمانية المثقفة، وهذا التشابه البنيوي العام مُعَزّز بدليل من استعارات نوعية، أكثرها وضوحاً الطريقة ومصطلح قياس(11). البيئة البابلية لا يمكن أن تكون عرضة للشك: فقد كانت بابل في هذه الحقبة مركز اليهودية الحاخامية الذي لا يضاهى، وبالمقابل فإلى هذه المنطقة عزا البحث من الجانب الإسلامي أصول الشرع الإسلامي(12). بالمقابل فإن موقف المدارس العراقية الأولى من مصادر الشرع قريب من موقف الحاخامين. وعلى نحو خاص، هنالك القبول دون تفكير تقريباً بتقليد شفوي موضوع آلياً في ظل حماية عامة وذلك عن طريق ربطه بالنبي. فالحاخامون يرون أن تقليدهم الشفوي عموماً إنما يرجع إلى موسى، وذلك بحسب المثل الذي يقول إن «كل التوراه(13) هي هالاخا موسوية من سيناء(14)». كذلك فالمشرعون العراقيون يستخدمون «سنّة النبي» لإضفاء تصديق عام مشابه على تقليد مدرستهم الحي(15). في الوقت ذاته يظهر أن دور الكتاب المقدس في الشرع الإسلامي الأولي كان في الحدود الدنيا(16)، وهو ما يعكس على الأرجح توحيداً لأنموذج مشنائي مبسط مع الظهور المتأخر للقرآن(17). وهكذا فثمة ما يغوي المرء كي يقول إن هالاخا العراق بريئة من الكتاب المقدس مثلما أن كتاب سوريا المقدس بريء من الهالاخا. أنهيت هذه البراءة بعنف عبر الجلبة داخل الدين حول مكانة التقليد الشفوي والتي ظهرت في النصف الثاني من القرن الثامن. كان هذا الجدل حدثاً ذا أهمية كبيرة عند الجماعتين اليهودية والمسلمة على حد سواء، بل يبدو أن عدواه انتقلت الى أهم جماعة مسيحية في بابل، ألا وهي النساطرة(18). ففي كل من اليهودية والإسلام، برز تحدّ لطريقة التفكير الراسخة وذلك عبر رفض كامل للتقليد الشفوي لصالح أساس كتابي وحيد للشرع المقدّس. من الجانب اليهودي، أخذ هذا الرفض شكل القرّائية. ومن الجانب الإسلامي، يظهر في صيغة عقيدة اعتزالية أولى(19). إذا كانت القضية هي ذاتها عند كلا الطائفتين، فقد كانت المصادر المتاحة للجماعتين المتعارضتين مختلفة للغاية. ففي الحالة اليهودية، كان الحاخامون معتادين على أن ينسبوا تقليدهم لموسى كما كان باستطاعتهم إيراد سلسلة من الأسناد لتوطيد موثوقية النقل(20)؛ وهذه السلسلة كانت مصقولة كما يجب لمواجهة التحدي القرّائي(21). لكن الحاخامين لم يكونوا في موقع يؤهلهم للمضي بهذه الطريقة بالنسبة لكل فقرة إفرادية من التقليد. فتاريخ نقله بين موسى والحاخامين كان قد استحوذت عليه مقولات والتي كانت موحدة بشكل أخرق للغاية بحيث يمكن اعتراف بهكذا تفريق. من هنا جاء البعد التلمودي للعلم الحاخامي، محاولة الغمارا لتوطيد أسس الرأي القائل إن الفقرات الإفرادية لم تكن متساوقة تبادلياً فحسب بل مُقَرّة كتابياً أيضاً(22). ولأن الحاخامين كانوا يمتلكون مجموعة ضخمة ومتنوعة من الأسفار المقدسة مع كم لا بأس به من المحتوى الهالاخي، فقد كانت الفرص لإثبات كهذا غنية تماماً. يمكن لنا أن نبرهن الآن أن أي رفض أصولي للتقليد لا يحتاج بحسب مكوناته إلى أكثر من أن يوجد ضمن المعاني المستحاثية للكتاب المقدّس. حتى ذلك الحد فالفرق بين الرفضين اليهودي والإسلامي يقول ببساطة إنه حيثما يجد الأول تلقيمه في المسيانية القمرانية(23)، يجدها الآخر في العقلانية اليونانية(24). لكن ليست كل الأسفار المقدسة سهلة الانقياد لأغراض الأصوليين على نحو متعادل، وفي هذه الحالة فإن اختلاف الموقف بين المجموعتين حاسم لكن ليس دون اختلاف في حسمه. وفقط لأن الحاخامين كان لديهم المصادر الكتابية لغماراهم، استطاع مناوؤهم من القرّائين أن يأملوا بإضفاء موقف شرعي قابل للتطبيق على ما يمكن للمرء أن يدعوه اختزالهم المشنا إلى مدراش. وهكذا فالأسفار العبرانية المقدّسة، المحمّلة للغاية بثقل التمثيل القياسي، كانت كافية للحفاظ على فعالية القرّائية كدين هالاخي(25). لكن المعتزلة كانوا أقلّ حظاً: فكتابهم المقدس كان أقصر، أقل تنوعاً، أقل في محتواه الهالاخي، والسلالة الناتجة تظهر بطريقتين. فمن ناحية، يبدو الشرع المعتزلي وكأنه جذر كله دون فروع(26): فهم يحاولون إجهاد الأسس الكتابية للشرع بالعقل، وينتهون بالعقل عوضاً عن الشرع. ومن ناحية أخرى، فالرفض الكامل للتقليد الشفوي ذاته يختفي من مذاهب المدرسة(27) . كان الشرع الإسلامي سعيداً دائماً في وضع ذاته تحت حماية قرآنية عامة؛ لكن اختزال المشنا فقرة فقرة إلى مدراش هو فقط عملية غير ملائمة في الإسلام. بالمقابل، فالحاخامون المسلمون كانوا في وضع أفضل بكثير من نظرائهم اليهود والذي أهّلهم كي يستجيبوا للتحدّي الأصولي. فتاريخ نقل التقليد الشفوي بين النبي وعلماء القرن الثامن كان ما يزال لدناً بطريقة مرضية. وكان ممكناً بالتالي الدفاع عن التقليد الشفوي فقرة فقرة، وذلك بإرجاع كل عنصر إفرادي إلى النبي عبر سلسلة أسناد مناسبة. ففي حين فشل الأصوليون في اختزال المشنا الإسلامية إلى مدراش، كان علماء التقليد قادرين على تمجيدها عبر تكثير الأسناد، فنقدية الأسناد هي الغمارا الإسلامية(28). يمكن بالتالي النظر إلى انتصار الحل الشافعي لمشكلة التقليد كاستجابة مناسبة لمنطق الحالة. لكنه كان أكثر من ذلك. فالقبول الساذج بالتقليد الشفوي بين المشرّعين العراقيين الأوائل، ورفضه الكامل بين المعتزلة، يكشفان على حد سواء عن الاعتماد الهاجري القديم على النماذج غير الاسلامية، وهي في هذه الحالة النماذج اليهودية(29). نجد الآن أن أول ظهور لحلّ الشافعي، مثله مثل الكثير غيره، كان في بابل(30)؛ ويمكن ربطه بأسلوب هامشي بأفكار حاخامية أقدم منه(31). مع ذلك تظل الحقيقة أنه دون سابقات يهودية أساساً. فقد أحرز الهاجريون حلاً جديداً، مستقلاً وفاعلاً، لإحدى معضلات الوحدانية المثقفة؛ وبهذا وصلت تابعيتهم غير المبجلة للشعوب التي غزوها إلى نهايتها أخيراً. لكن التطور الذي أحرز به الإسلام هذا التميّز الأكاديمي كان أيضاً الإنكار النهائي لأصوله الخلاصية. فحين ترك الهاجريون في مسار المغامرة المسيانية الأصلية شبه جزيرة العرب، فقد فعلوا ذلك كي يصلوا إلى هدفهم، كي يرسخوا أقدامهم في أرض موعودة والتي كانت ملكاً لهم، كي يستمتعوا بحق إرث مؤكد إلهياً. وفسح الخلاص اليهودي المجال بالتالي للنسخ السامرية: الكاهن الأعلى أخذ مكان المسيا، الحرم الابراهيمي أخذ مكان حرم القدس. كان انتقالاً إلى ركن أدنى مقاماً، تحولاً من السَعَر اللحظي إلى الاستمرارية المؤسساتية، لكنه بحد ذاته لم يكن أمراً غير سعيد. فالسامرية ليست ديانة نفي، والارتباط بين حرمها وكهنوتها، مهما بدا متكلفاً بالمعنى الكتابي(32)، قديم وحميم. مع ذلك فقد كُسِر هذا الارتباط في الإسلام. فمتطلبات السياسة استدعت وجود عاصمة هاجرية في الأقاليم المغزوة، سياسة ديانة تطلّبت أن يكون موقعها في أعماق الجزيرة العربية. وربما أن معاوية لم يلبس تاجاً، لكنه لم يكن راغباً بالعودة إلى كرسي محمد(33). ويبدو أنه في إحدى المراحل كان ثمة اهتمام معين باسترداد الارتباط. ومهما كانت درجة المصداقية التي يمكن أن نعزوها للتقاليد التي تتحدث عن محاولة عبد الملك نقل الحجر إلى القدس، فقبة الصخرة هي مبنى عواصمي معمارياً(34). ومقابل هذا الإيحاء بمحاولة أموية براغماتية لإحضار الحرم إلى الكهنوت الأعلى يمكن وضع التصميم الطوباوي لابن الزبير لأخذ الكهنوت الأعلى إلى الحرم. لكن من ذلك الحين فصاعداً صار الصدع قطعياً. كانت النتيجة إدخال صفة سَبَوية (من سبي) في العلاقة بين المرجعية السياسية والجغرافيا المقدّسة في الهاجرية. وحين أدت الثورة العباسية إلى نقل الكهنوت العالي من سوريا إلى بابل، كانت خشبة المسرح مهيأة لانحطاطه النهائي إلى جالوتية مجردة(35)، إلى ظل لأحد الظلال، وللاختفاء أخيراً على أيدي المغول بصحبة نظيره اليهودي. وحتى عند الإماميين، فقد نقل الكهنوت العالي غير الفاعل سياسياً من عاصمته العلوية إلى الأسر البابلي، وتضاعف الأسر في أحد المسارات عبر إختفاء كان متسامياً transcendental بالفعل. أما أولئك الشيعة الذين استمروا في النظر إلى حقيقة الكهنوت العالي كقيمة دينية مركزية، فقد ظلّ أمامهم بالطبع بديل أسر بابلي مضاعف مع خروج إلى قمم الجبال الخروجية في قزوين أو اليمن. لكن في بابل ذاتها كانت القيمة - المفتاح للسياسة الدينية هي استمرارية يائسة للاستكانة الحاخامية في وجه حكومة غريبة أو مرتجلة(36) . وهكذا فالتطور الديني الطويل والمعقد للهاجريين لم يكن دون استدارية تهكمية. فقد بدأت أوديسيتهم الدينية وانتهت، وفي الصيرورة تمّ إلغاء الحرم السامري في شبه جزيرة العرب والكهنوت العالي السامري في سوريا. لكن كان ثمة تطوّر مأساوي أيضاً في الاستدارية الظاهرية. فقد فسحت يهودية فلسطين الخلاصية الدرب أمام يهودية بابل الأكاديمية، وبشارة صهيون فسحت الدرب أمام سلام بابل. لقد هجر الهاجريون المسيا فقط كي ينتهي بهم الأمر مع جالوت، ورفضوا المقدَش اليهودي فقط كي ينتهوا في المديناه ذاتها(37). كان هنالك بالطبع فرق حاسم: فالهاجريون كانوا سجّان أنفسهم، وسبيهم حتى تلك الدرجة كان سبياً أفضل يقينياً(38). وظلوا يمتعون بخصال الشرف، الحب، الطاعة، وقوافل الأصدقاء. ورغم إحراق حرمهم في إحدى المناسبات، إلا أنه لم يُدَمّر كما دُمِّر الهيكل اليهوي: لم يصبحوا قط بالفعل نَدّابي مكة. ورغم كل تصوّفهم، فقد حافظوا على بقية حماسة والتي أمكنها حتى بين الأئمة أن تُفْعّل في وقت بعينه عن طريق خطر حكم كافر(39). لكن إذا كانت نِعَم السبي المفروض ذاتياً أساسية، فتكاليفها ذهبت نحوأعمق الأعماق. لقد ذهب اليهود إلى السبي فاقدين كل شيء بسبب الحقد الغامر لإحدى القوى الكافرة؛ وإذا كان السبي عقاباً لهم على خطاياهم، فالله على الأقل أرسل البابليين كي يعاقبوهم(40). إن مجمل الحرمان تحديداً، وسمته الخارجية المنشأ أساساً، كانا يعنيان أن اليهود لديهم التطهير والأمل. لكن المغول جاءوا متأخرين جداً كي يؤدوا خدمة كهذه للاقتصاد الشعوري للإسلام. دون تطهير، كان الماضي مفسداً. وغير العرب لا توجد سوى شعوب قليلة تستطيع أن تدعي وجود تاريخ ناجح إلى درجة مريعة وذلك في الحقبة الممتدة من الغزوات الأولى حتى سقوط الأمويين؛ مع ذلك فالمصادر الكلاسيكية تتنفس هواء خيبة فأل مطلقة. فقد وُسِم الأمويون بأنهم ملوك، سياستهم بأنها استبداد، ضرائبهم بأنها ابتزاز(41)، غزواتهم بأنها تجمير(42)، واعتقاداتهم بأنها فسق؛ وحدها الأطراف الخاسرة في الحربية الأهليتين كان لها أمل بنوع من التقديس ذي علاقة بالماضي(43). لكن الجائحة تمتد حتى إلى تاريخ الخلافة الراشدة في قلب شبه الجزيرة العربية، وتلتهم الموقف الأخلاقي لأبطال الغزو من أمثال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد. وبالمقابل، فدون التطهير، لم يكن هنالك أمل: ذويان الماضي كان يعني ذويان المستقبل. وحين ذهبت اليهود إلى السبي، أخذوا معهم ذكرى ماضٍ مقدس صارت استعادته مستقبلاً قيمة دينية مركزية. أما الهاجريون، فلأن غزواتهم الخاصة هي التي أخذتهم إلى السبي، ولأنه لم يكن عندهم قامعون سوى أنفسهم، لم يكن لديهم ماضٍ مناسب أن يُسْتَرد: فكل مجد قيدار فشل. وفي حين يأتي المسيا لاستعادة الواقع السياسي للمَلَكية الداوودية، يملأ المهدي العالم بعدلٍ لا لون له تاريخياً فقط(44). وحينما يكون تجمع المسبيين الإسرائيليين مقولة مركزية في البرنامج السياسي، يبدو تجمّع الإسماعيليين الاسكاتولوجي فنتازيا مسيحية صرفة(45). قد يمتلك الباكون على صهيون ذات يوم جَمَالاً بدل الرماد؛ لكن ليس لاسماعيل فاد، فقد استمتعوا به أيام عمر الفاروق. وزوابع الجنوب خفت لتترك الإسلام، مثل اليهودية، ديانة يسيطر عليها التقيد الحرفي بشرع الحاخامين البابليين: لكن في حين أن الوجه الآخر للعملة في اليهودية هو الأمل المسياني الوجه الآخر للعملة في الإسلام هو التسليم الصوفي.

ملحق القيني؛ السبب والعرف

القيني: في «الأسرار» (أنظر سابقاً، هامش 12 ف 1) ثلاثة مقاطع تشير إلى سفر العدد 12:24. وهذه الآية تشكّل جزءاً من نبوءة بلعام المسيانية الكلاسيكية، وتقول: «ثم رأى القينيين، فأنشد قصيدته وقال: متين مسكنك، وعلى الصخرة وكرك» (التورية قِن [بالعبرية «وكر»] وقِني [بالعبرية قيني] مفقودة من الترجمة). وبحسب ترقم الأسطر في نص يلنك Jellinek، ترد المقاطع في «الأسرار» كما يلي: (1) وراح [في السياق، الحاخام شمعون] يجلس ويفسّر «ونظر إلى القينيين» (السطر الرابع ف، تضيف كسرة الغنيزا (أنظر: Lewis, ‘Apocalyptic Vision”, p. 309) الكلمات الثلاث اللاحقة من الآية. (2) من جديد، «تطلع إلى القينيين»: وأي مَثل أخذه الشرير [بلعام]، باستثناء أنه حين رأى أبناء أبنائه [القيني] الذين كانوا يقومون ويخضعون إسرائيل، راح يبتهج ويقول: «قوي مسكنك»؟ إنني أرى أن أبناء الإنسان لا يأكلون إلا بحسب وصايا إيتان الإزراحي (السطور 21- 25 ؛من أجل الإشارة إلى إيتان، أنظر الهامش 22 من الفصل الثاني). (3) وهو [في السياق، الملك الإسماعيلي] يبني مسجداً (هيشتاحواواياه) هناك على صخرة الهيكل، كما يقال، «على الصخرة وكرك» (السطر28). من هو القيني؟ في «صلاة الحاخام شمعون بن يوحاي»، وهو سفر قيامي من أيام الصليبيين أُدخِلَت فيه نسخة من «الأسرار»، نجد الإجابة واضحة بما يكفي أساساً: القيني يمثل مملكة ظالمة تسبق مباشرة مملكة اسمعيل (Lewis, “Apocalyptic Vision”, pp. 312f). وسواء أكان علينا أن نفكّر بروما (أنظر شرح لويس للنص السابق، ص312) أو بفارس (قارن: الحصار القيني للقدس، المصدر السابق، ص312)، فالأمر لا يهمنا كثيراً. لكن هل نستطيع البحث عن الجواب في «الأسرار»، المصدر الذي يبدو أن شخصية القيني في «الصلاة» مأخوذة منه؟ حجتان تشيران إلى أننا لا نستطيع ذلك، وعلينا بالمقابل أن نماثل بين القيني والعرب أنفسهم. في الموضع الأول، لدينا الدليل الداخلي. سلبياً، ما من سبب يدفعنا لاعتبار أن القيني يسبق العرب، لأنه مذكور قبل وبعد ظهور مملكة اسمعيل؛ وليس هنالك على نحو خاص أي سبب لاعتباره يمثّل روما، التي تقدّم لتوها على أنها ادوم (السطران 2 و6). إيجابياً، هنالك سبب طيب للمطابقة بين القيني والعرب، إذ يُستشهد بسفر العدد 21:24 وذلك بشأن أعمال بناء على جبل الهيكل. ثانياً، هنالك دليل خارجي. فثمة تقليد راسخ يتعلق بهوية القيني. الترجمة القياسية هي «شلمانيوم» (أنظر على سبيل المثال، اونكلوس، يوناتان المنحول ونوفيتي على سفر التكوين 19:15، واونكلوس، الترغوم المتشظي ونوفيتي على سفر العدد 21:24)، وهو اسم لقبيلة عربية ذات علاقة قوية بالأنباط (أنظر على نحو خاص: Stephanus of Byzatium, Ethnika, s.n. “Salamioi”). هنالك ترجمات أخرى تشمل الأنباط (التلمود البابلي، رسالة بابا بترا، الورقة 56 آ، لكن النص مشوّه)، «العرب» (التلمود الأورشليمي، شبعيت، الورقة 35ب)، و «يثرو المهتدي»(يوناتان المنحول على سفر العدد 21:24). على أساس مما سبق، فالتطابق مع روما أو فارس مستبعد بقدر ما التطابق مع العرب مناسب. إذا كان القينيون في «الأسرار» يمثّلون العرب، فما هو هدف هذاالتحديد لهوية القينيين؟ إن تفسير سفر العدد 12:24 المقدّم في الجملة الأولى من المقطع الثاني معاد جداً للقينيين. لكن عدداً من سمات هذا التفسير يدعو للريبة. فأولاً، هنالك وعد بالتفسير في المقطع الأول، لكنه لا يظهر إلا بعد ستة عشر سطراً فقط. ثانياً، إن شرح إشارات بلعام للقينيين التكميلية وذلك بوصفها تعبيراً عن شعوره العدائي للإسرائيليين هو أمر غير مناسب إطلاقاً: بلعام هو نبي وهو لا يستطيع بالتالي أن ينطق بغير الكلمات التي يضعها الله في فمه. ثالثاً، يتناقض هذا الشرح المُخْتَرع بالكامل مع أرضية التفسير الحاخامي لهذه الآية، كما سنرى لاحقاً بعد قليل. هنالك بالتالي أسس قوية لأن نشك بأن التفسير المعادي للعرب لسفر العدد 12:24 في النص الذي بين أيدينا الآن يجب أن يكون دسّاً ثانوياً، إعادة تنقيح يمكن مقارنة دوافعها بدوافع تحييد التفسير المسياني لسفر اشعيا 7:12 وذلك من قبل سفري دانيال 39:11 وحزقيال 13:4. في أية حالة، نستطيع أن نستدل ما الذي كانت عليه رسالة هذا التفسير المُرَاقب؟ في الموضع الأوّل، نجد أن الحاخامين يوردون سفر العدد 21:24 وذلك بالعلاقة مع يثرو (التلمود البابلي، سنهدرين، الورقة 106آ؛ خروج راباه 27: 3، 6؛ قارن التفسير الترغومي «للقيني» باعتباره «يثرو المهتدي» المذكور آنفاً). ويثرو بالطبع هو حمو موسى وهو أنموذج للهداية.(B. J. Bomberger, Proselytism in the Talmudic Period, New York 1968, pp. 182 - 9). لذلك فمن غير المفاجئ أن يأخذ الحاخامون هذه الآية كإعلان إلهي في صالح يثرو، وهنالك افتراض قوي يوحي بأن التفسير الأصلي «للأسرار» كان سيفعل الشيء ذاته. ثانياً، إن المصدر الأولي لهذا الموقف الخيّر تجاه القينيين هو مشاركتهم في حوادث الخلاص الأوّل. وهكذا فنقاشات الحاخامين لمصدر الموقف المميّز من الكتبة القينيين (وهم الركابيون في الوقت ذاته) الذي يبديه سفر الأخبار الأول 55:2 تستشهد على نحو منتظم بسفر القضاة 61:1، الذي يقول إن القينيين «صعدوا من مدينة النخل مع بني يهوذا إلى برية يهوذا... وسكنوا مع الشعب» (التلمود البابلي، سنهدرين، الورقتان 104 آ و106آ؛ قارن سيفره على سفر العدد 29:10). وهكذا يبدو معقولاً جداً أن التفسير الأصلي «للأسرار» كان يشير إلى هذه المشاركة. ثالثاً، يبدو واضحاً المضمون المسياني لهذه المادة: فإن تطبيقاً بسيطاً لمبدأ التشابه بين الخلاصين الموسوي والمسياني (أنظر الهامش 46 من الفصل الأول) يمكنه أن يمدّنا بمقدّمة منطقية دقيقة لدور عربي في المغامرة المسيانية اليهودية؛ ومن جديد نقول إن التفسير المُرَاقب لا بد أنه كان يحتوي مقدّمة منطقية من هذا النوع. فضلاً عن ذلك، ثمة مصدر مدراشي متأخر والذي يقدّم موازياً موحياً. فمخيري يدخل في موادّه حول سفر اشعيا 7:52 بعض الملاحظات عن دور الركابيين في العصر المسياني. إنهم هم الذين سيأتون بالبشرى إلى القدس، بل هم الذين سيدخلون الهيكل ويقدّمون القرابين هناك. (J. Spira (ed.), Yalqut ha-Makhiri al Yeshayahu, Berlin 1894, p. 195). والركابيون، كما يقول سفر الأخبار الأول 55:2 بوضوح، هم القينيون (ظرف ليس دون أهمية في سياق تحريم الخمر). وبالتالي، في نظر الحاخامين، فهم أبناء يثرو وأحفاده (أنظر مثلاً: مخيلتا د. رابي اشمعيل، عمليق، 4 لسفر الخروج 27:18). هل أن شخصية القيني هي الفضالة لما كان ذات مرة سفراً قيامياً مستقلاً؟ ثلاث نقاط توحي بذلك. أولاً، من الصعب تسويغ أن يظهر العرب كقينيين واسماعيليين ضمن تفسير واحد لأحد الأسفار القيامية. ثانياً، المقاطع القينية مندمجة على نحو فقير مع بقية السفر القيامي: فمما يلفت النظر هنا أن المقطع الأول بشكل خاص هو في غير محله (فالتحضير للمباشرة في تفسير لسفر الخروج 21:24 نادراً ما يكون ردة فعل مناسبة لرؤيا اسكاتولوجية لا يلعب فيها القينيون أي دور على الإطلاق، والواقع أننا نعود إلى الرؤيا مباشرة). ثالثاً، هنالك اختلاف في اللغة. فكما ظهر من الهامش 13 في الفصل الأول لا يكون تفسير اشعيا 7:21 ذا معنى إلا إذا أُورِد المقطع من الترغوم أصلاً، في حين أنه في المقطعين الثاني والثالث حول القينيين، نجد أن اللغة العبرية هي المطلوبة (من أجل التورية إتان في المقطع الثاني، أنظر الهامش 22 من الفصل الثاني؛ المقطع الثالث ينحى إلى اعتبار «الصخرة» على أنها إشارة إلى صخرة الهيكل، وهو رباط يغدو مفقوداً نوعاً ما لو استبدلناه بالترجمات الترغومية «جرف الصخرة» (نوفيتي)، «جروف الصخور» (يوناتان المنحول)، «جرف» (الترغوم المتشظي) و «حصن» (أونكلوس)). لدينا إذاً أسبابنا كي نعتقد أن «الأسرار» يحتفظ بفضالة تفسيرين مسيانيين مستقلين أصلاً للغزو العربي. السبب والعرف: إذا كان تحليلنا للعلاقة بين المقولات الفقهية الإسلامية واليهودية صحيحاً، فهو يحتاج لأن يمتدّ إلى فكرتين يهوديتين أقل وضوحاً. أولاً، تميّز الشرع الإسلامي الأول ببروز مصطلح رأي وذلك بمعنى «رأي» (أحد الأفراد) أو «تفكير» (بشكل عام) (Schacht, Origins, pp. 79, 89ff) وقارن: (van Ess, Untersuchungen, p. 27): وله مرادفات تشمل فقه (Encyclopaedia of Islam, s. v.). أما المصطلحات اليهودية المقابلة فهي دَعَت (فردية عادة لكن ليس دائماً) وشعارا (عامة، لكنها غالباً ما تكون مرافقة بالفعل شعر لتقديم وجهات نظر فردية). (أنظر: (Bacher, Exegetische Terminologie, s.vv). والاستخدام اليهودي، كالاستخدام الإسلامي الأولي، ليس انتقاصياً. ثانياً، يعير الشرع الإسلامي الأولي اعتباراً غالباً لسلطة العامة أو العرف: عمل أو سنّة (Schacht, Origins, pp. 58ff; van Ess, “Untersuchungen, p. 42)، والأخيرة غير محددة هويتها بعد على أنها سنّة النبي. المعادلان اليهوديان هما منهغ ومعسه (Encyclopaedia Judaica, s.v.v). وعند الجانبين على حد سواء نجد الفكرة القائلة إن العرف يمكن أن يبطل الشرع (قارن عبارة منهغ مبطل هالاخا مع ما يقوله شاخت في كتابه Origines, pp. 65 (حيث يفتقد ابن قاسم مصطلح هالاخا لمعسه فقط، 80)). يمكن رؤية أثر الجدل من القرن الثامن حول هذه المقولات عند كلا الجانبين، لكن لا يخفى على أحد أنه أكثر عنفاً في الحالة الإسلامية. فأولاً، إن إعادة التأكيد اليهودية على مرجعية التقليد الشفوي إنما تقود إلى الإنقاص من قيمة السفارا: لاحظ زعم يهوداي غاون (عام 760 تقريباً) بأنه لم يجب قط على سؤال ما لم يكن لديه دليل من التلمود ومصادقة عملية من معلمه، الذي أخذها بدوره من معلمه (Gizberg, Geniza Studies, vol. ii, pp. 55ff. من الجانب الإسلامي (ما عدا الظهور بعيد الأمد لتقليد مشابه) لدينا تحولان يعادل أحدهما الآخر: رأي الذي تحط قيمته بحيث يصبح مصطلح شتيمة (فبعدما تم تعيين هويته على أنه فردي، تخلّصوا منه باعتباره ذاتياً)؛ وفقه الذي يُرَفس إلى أعلى الدرج ليصبح اسماً للشرع عموماً. ثانياً، منهغ يخضع للضغط أيضاً: ومن جديد فإن يهوداي غاون هو الذي يكتب إلى الارض المقدسة(فلسطين) ليحضّ على ترك العادات التي تمّ تبنيها تحت وطأة الاضطهاد البيزنطي وذلك لصالح التزام كامل بالشرع (الفلسطينيون، الذين هم القرويون في هذه القصة، ردّوا بنوع من العناد أن العرف يطرد الشرع) (المصدر السابق، ص‎ص 559 وما بعد). التطوّر الموازي في الإسلام هو الهجوم على الذرائع الشرعية للعرف: والشافعي يُقَابل بالعناد ذاته في «أرض اسمعيل» مثله مثل يهوداي في الارض المقدسة (أنظر على نحو خاص: Schacht, Origins, p.65). ونعيد ثانية، إن التطور الإسلامي مضاعف السمات: عمل تخفض قيمته إلى عرف مجرد ويُهْمَل تقريباً، لكن سُنّة ترفع إلى مستوى سنّة النبي وتصبح فائقة على ما عداها. نود العودة أخيراً إلى مسألة الأسبقية في الرفض الأصولي للتقليد الشفوي. فالشافعي الذي يجادل أولئك الذين يرفضون كل التقاليد لأجل القرآن (المصدر السابق، ص‎ص 40 وما بعد)وبن بابوي الذي يشجب أولئك الخنازير الذين يدرسون التوراة المكتوبة لكنهم ينكرون الشفوية (Ginzberg, Geniza Studies, vol ii, p. 571) متزامنان ونحن نعرفهما من المصدر الأصلي؛ ونحتاج إلى بضع وخزات ضمير بشأن إرجاع الرفض الذي يديناه إلى عنان بن داوود وضرار بن عمرو.لكن كم هو أقدم من ذلك؟ من الجانب اليهودي، المسألة هي إلى أيّ مدى يشير الشيئيلوت الذي هو لاحاي من شفحا (مات عام 752) إلى القرّائية باعتبارها حركة كانت في طور النشوء أثناء حياته. ومن الجانب الإسلامي، هل على المرء أن يقرأ موقف ضرار في تلك المعلومة المتشظية التي لدينا حول آراء عمرو بن عبيد (مات عام 761)؟ مع ذلك يتبقى لنا دليل الأصولية الساذجة (أصولية دون رفض واضح للتقليد الشفوي) في مرحلة مبكرة جداً من تطوّر الإسلام (أنظر الهامش 20 من الفصل الثالث)؛ وانطباعنا بأن هذا الدليل يسبق القرآن ذاته زمنياً يعززه الجدل حول عقوبة الزنا (أنظر الهامش 17 من الفصل الخامس)، ما يتضمنه مصطلح أهل الكتاب من أن المسلمين الأوائل لم يكونوا يقرّون إلا بكتاب واحد والذي هو ليس كتابهم، بل حتى بعض النصوص القرآنية (الهامش 10 من الفصل الخامس). ورغم جهلنا بشرع سامري من هذه الحقبة؛ فثمة ما يستحق الاعتقاد أن هذه الأصولية الساذجة ربما صاحبها، أو أوحى بها، موقف سامري من الكتاب المقدس (قارن هنا مع إصرار المرقاه بأننا «لا نؤمن [بأي شيء] خارج توراتك [يالله]» (Ben Hayyim, Literary and Oral Tradition, p. 196). يبدو الآن وكأن هذه الأصولية تمتلك نوعاً من البقاء في نصّين يُقَال إنهما يرجعان إلى نهاية القرن السابع، وهما قديمان بالفعل. إنهما يجمعان بين الجهل الملفت للنظر بالحديث والاعتماد الكبير على الكتاب المقدّس (وهو هنا طبعاً القرآن) ويصفان بين الحينة والأخرى القرآن بمزاج أصولي (من أجل رسالة عبد الله بن إباض أنظر: Schacht, “Sur l’expression” Sunna du Prophete”, p. 363؛ ومن أجل رسالة الحسن البصري، أنظر:

Pitter, “Studien zur Geschichte der islamischen Frommigkeit” p. 68).

وهكذا تبرز الاحتمالية القائلة إن الأرضية الآنية للرفض الواضح للتقليد الشفوي في اليهودية والإسلام لم تكن يهودية بل إسلامية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القسم الثاني : الانتيك ما مصيره ؟؟

6 الحضارات الإمبريالية

باستطاعة رؤيا الى العالم تعدّدية الآلهة أن تظهر مدىً غنياً وحاذقاً من المعاني من واقع متعدّد الوجوه. مع ذلك فمن المحتمل أن تفعل هذا بكلفة عالية: فما يظهر أن معانيها تكسبه في التعددية، يظهر أنها تخسره أيضاً في السلطة. فتعددية الآلهة، على نحو خاص، ليست متوحدة بما يكفي لتفصح بقوة فعلية عن التضامن الذاتي للشعب، ولا هي كاسحة بما يكفي لتقديم وصف ثاقب فعلي لطبيعة الكون الموضوعية. والمشكلة أنه لا يوجد بديل وحيد لتعددية الآلهة في هذين الدورين. الأول يقوم به بأفضل ما يمكن إله شخصي، والثاني مفاهيم لا شخصية - استقطابية مفهومة جيداً في المقابلة بين اليهودية والبوذية. وفي حين أنه من الممكن تماماً خلط المقولات أو إساءة استخدامها(1)، لا يبدو محتملاً إيصال القوى الكامنة للطرفين إلى حدودها العليا في الوقت ذاته. والخيارات التي قام بها الإيرانيون واليونانيون كانت أقل توحيداً إلهياً من الخيارات المتجسّدة في اليهودية والبوذية؛ لكنها كانت مختلفة بما يكفي لتقديم مفتاح لفهم الانفراق اللاحق في تاريخ الشعبين. يظهر أن السياق الفكري الذي أخذت فيه الزرادشتية شكلها إنما كان مشتركاً بين الإيرانيين واليونانيين والهنود: ففي الحقبة ذاتها تقريباً، وبالمصادر الفكرية ذاتها تقريباً(2)، باشرت الشعوب الثلاثة في التحوّل من إرث تعددي الآلهة متحلل تقريباً إلى علم كون مفاهيمي أكثر وحدانية. لكن السياق التاريخي لسيرة زرادشت في إحدى سماته الحاسمة إنما يذكّرنا بموسى أكثر مما يذكرنا ببارمنيدس أو بوذا: لقد شُكّلت الزرادشتية في وسط محكوم بالمواجهة الاثنية بين إيران وطوران Turan. لذلك فمن غير المفاجئ أن تكون العلاقة الجينية بين المنظومة الكونية الزرادشتية والمنظومة الكونية عند اليونان أو الهنود أقل لفتاً للنظر في المحاولة الأخيرة من علاقة التشابه بين الإله الزرادشتي وإله العبرانيين؛ لكنهم ركّبوا خارج علم الكون هذا إلهاً شخصياً شكّلت مواجهته لقوى الشر المعنى الأهم للكون(3).بالمقابل فقد امتلك كهنة المجوس Magi فلسفة بمعنى لم يمتلكها فيه الحاخامون: لكنها كانت فلسفة موجهة نحو الفهم التأملي لعملية صيرورة كونية غير شخصية بأقل من توجهها نحو مشاركة فاعلة في صراع كوني شخصي. لقد امتلك هذا مفهومين ضمنيين أساسيين بالنسبة لشخصية الملة الزرادشتية. ففي الموضع الأول، الزرادشتية هي التي عرّفت إيران كأمة منفصلة. إيجابياً، الزرادشتية هي تكريس للاثنية الآرية: أهورا مازدا هو «إله الآريين»(4) بقدر ما هو يهوه «إله إسرائيل». وسلبياً، الزرادشتية ليست قابلة للتصدير لغير الآريين Anéran(5). يمكن النظر إلى الثنوية الزرادشتية كالتوحيدية اليهودية، مبدأياً، كحقيقة لكل الجنس البشري؛ لكن عملياً نجد أن الأمثولية المانوية، كالأمثولة المسيحية،وهي أمثولة لجعل الرسالة العالمية متاحة للعالم كلّه، لم تكن تصديراً للديانة بل خلق لديانة جديدة(6). ومثل اليهودية، كان باستطاعة الزرادشتية أن تتسامح بوجود شعاع محدد من الأنصار من غير اليهود أو الزرادشتيين أصلاً: الأرستقراطيون المتعاونون من الشعوب المقهورة في الحالة الإيرانية يتماثلون مع المشايعين روحياً في الحالة اليهودية. لكن الزرادشتية ظلت طائفة دينية متجذرة أساساً في أرض ولادتها. وبالنسبة للعالم الخارجي، كان الآريون شعباً مختاراً بقدر ما كان اليهود كذلك. في الموضع الثاني، فإن النتيجة الطبيعية للتمايز الإثني الخارجي كانت إلتزاماً بقابلية انتشار اجتماعي داخلية. لم تقدّم النظرة الاعتبارية الزرادشتية أي تكريس للامبالاة فلسفية نحو الميول المحبة للميثولوجيا عند الجماهير. وزرادشت لم يسام التعددية الإلهية التقليدية للإيرانيين، بل فككها وأصلحها؛ وكان على كل من الجماهير وآلهتها الانحياز جانباً في الصراع الكوني الذي غمر كل شيء. وبعض الآلهة القديمة، كمثرا، عاد للظهور بجانب الملائكة؛ وبعضها الآخر، كإندرا، أعيد تقويمه باعتباره شيطاناً. لم يكن باستطاعة عبادة الشياطين بالمفهوم الزرادشتي أن تكون شيئاً أقل من الخيانة الكونية والقومية. وما حصل فعلاً بالنسبة للخبث الشيطاني كان طبعاً مسألة عرضية تاريخياً؛ ولا يبدو أن البارثيين على نحو خاص اهتموا به كثيراً. لكن النقوش الأخمينية تشهد على محاولة لاستئصال عبادة الشيطان، والمقولة تبدو مفضّلة في الحقبة الساسانية(7). وهكذا لم يكن المكان للشياطين وعابديهم في إيران بأرحب من المكان للبعليم وعابديهم في إسرائيل؛ فداخلياً، كان الآريون أمة من الكهنة بقدر ما كان اليهود كذلك. باختصار، لقد بنيت الزرادشتية كي تكون حصرية أفقياً وشاملة عمودياً في آن: أي بكلمات أخرى، ديانة أمة. إذا ما كان الدوران القوميان لأهوار مازدا ويهوه متشابهين بشكل مدهش، فإن دوريهما البيئويين كانا متعارضين بالكامل. فيهوه كان إله الغزاة البرابرة لكنعان المستقرة والمتحضّرة: باسمه خرجوا من الصحراء، وباسمه انسحبوا إلى الغيتو حين تمّ رد الغزاة في نهاية الأمر. أهورا مازدا بالمقابل كان إله مجتمع كنعاني مستقر يدافع عن طريقته في الحياة في وجه الغزاة البدو؛ إنه قد لا يظهر كإله معقد ثقافياً وفق طريقة انكي Enki، لكنه ليس على الإطلاق بربرياً ملتزماً بطريقة يهوه. وكانت النتيجة سعادة في العلاقة بين الزرادشتية والإرث المؤسساتي لوسطها الكنعاني وهي علاقة كانت غائبة بشكل ملحوظ عن اليهودية. في الموضع الأول، أمضت الزرادشتية حياتها في تعايش سهل مع الكهنوت المجوسي؛ واستطاع الكهنة المجوس أن يشاركوا في إدراك القوة القومية الكامنة للزرادشتية بطريقتين. فبالنسبة إلى التحديد الخارجي للشعب المختار، فقد عززت المكانة الدينية للنسب الكهنوتي على نحو مناسب المكانة الدينية للنسب الاثني: الآريون، في الشريعة التي ينسبها راولنسن إلى اديموس، هم أولئك الذين يعتبرون كهنة المجوس كهنتهم(8). أما بالنسبة للتماسك الداخلي للطائفة، فقد قدّم الكهنة المجوس أوليات لعرف يمكن جعل العقيدة فعالة اجتماعياً معه: الكهنوت المجوسي للأزمنة الأخمينية صار الكنيسة الزرادشتية للأزمنة الساسانية. في الموضع الثاني، فقد أضفت الزرادشتية معنى دينياً لا لبس فيه على المَلَكية الآرية. ففي إيران كما في إسرائيل، كان ثمة نوع من التكريس ذي الجوهر الديني متاحاً للقيادة السياسية الفاعلة للشعب المختار في وجه أعدائه. لكن في الحالة الإسرائيلية فإن رفض الإرث الكنعاني كان يعني ذهاب هذه البركة إلى الأنبياء والقضاة الأوائل كان أسهل من ذهابها إلى الممالك القومية المتأخرة. بالمقابل، ففي إيران كانت توأمية الديانة والمَلَكية أساسية تاريخياً وليس فيها أية مشاكل عقائدياً؛ والإقرار بشرعية الحكم الملكي لمجتمع مستقر حمل معه الإقرار بشرعية البنيان الأرستقراطي الذي يتماشى معه(9). وفي النقوش الأخمينية نجد أن أهورا مازدا هو الإله الوصي على مَلَكية آرية، وكل الثائرين على هذه السلطة يفسرون على أنهم ممثلون للكذب(10). التقليد الزرادشتي بالتالي هو الإفصاح عن هوية متكاملة تماماً. ويظهر التواجه الكوني للخير والشر عقائدياً من جديد في التواجه الاثني لإيران وغير إيران؛ أما عرفياً فإن الدور الديني للكهنوت المجوسي يُقابل بدور سياسي للمَلَكية الآرية. ويصعب أن تفاجئنا استمرارية تقليد كهذا في وجه الغزو المقدوني؛ بل إن الانتعاش الجزئي على أيدي البارثيين يتجاوز أي شيء أحرزه في الحقبة ذاتها المصريون أو البابليون. والإحياء «الخالص- النسب» للتقليد على أيدي الساسانيين كان بالطبع نتاجاً أقل قابلية للتنبؤ به - لم يكن عليهم أن يبدأوا إنعاشاً أحادي الهدف لما كانوا يعتقدون أن المقدونيين أطاحوا به. لكن إذا كان الوصول إلى الهدف عطية عَرَضية تاريخية، فالقوة الكامنة كانت إلى حد كبير عطية التقليد ذاته: المشروع الذي نفّذه الساسانيون في إيران لم يكن بالمستطاع حتى تخيّله في اليونان Hellas. إذا كانت الحالة الإيرانية تقارب الحالة اليهودية في تأكيدها على دور إله شخصي، فالحالة اليونانية تقارب الحالة البوذية في تأكيدها على الدور لمفاهيم غير شخصية. ومثل الإيرانيين، كان لليونانيين أعداؤهم البشريون: الطرواديون ميثولوجياً، والفرس تاريخياً. لكن الطرواديين كانوا بعيدين جداً في الزمن، ومتمثلين جداً للثقافة العامة لنخبة بطولية، وذلك كي يتمتعوا بما يؤهلهم لأن يكونوا خطراً طروادياً على طريقة الحياة الآخية؛ في حين كان الفرس متأخرين جداً في الزمن، ونتيجة لذلك بعيدين جداً في المسافة، وذلك كي يضعوا نغمة التطور الفكري للهلينية(11). هذا التطوّر بالتالي هو محاولة غامرة للإمساك ليس بالعدائية البشرية بل بالسفاسف الكونية. فاليونانيون طوّروا علم كون مفاهيمي ليضعوا به الكون وآلهته في نصابهم الصحيح، وليس ميثة إلهية ينغمسون بها كمشاركين في دراما كونية. وهكذا فإن مضامين علم الكون الزرادشتي بسبب طبيعة الملّة التي ناصرته تأخذ شكلاً معكوساً في الحالة اليونانية. ففي الموضع الأول المفاهيم اليونانية، بسبب كل تداعياتها مع أسلوب الحياة اليوناني، لم تقدّم أساساً قابلاً للحياة حتى يفرد اليونان جانباً كشعب مختار(12). وإذا ما ابتعدت الحقائق الفلسفية عن تقديم وسيلة ناقلة معقولة للهوية الإثنية، فإنها تصبح مَلكية مشرعة لكل من هو قادر عليها أو يرغب بقبولها. الزرادشتية كانت عقيدة والتي بدأت حُكْماً في إيران وظلت حكماً في إيران؛ بالمقابل فاليونانيون كانوا سعيدين في أن يعزوا أصول مفاهيمهم للمصريين، وواصلوا في الوقت المناسب نقلها إلى الرومان. الفلسفة اليونانية لم تصبح هامدة في أرض مولدها فعلاً وفق طريقة البوذية(13)؛ لكن لم يكن ممكناً استخدامها لفرز أرض مقدسة معزولة عن بقية العالم. في الموضع الثاني كانت هذه النزعة نحو الانتشار مترافقة بعجز عن كمال عمودي: فكما لم تكن الحقائق الكونية للثنوية الزرادشتية لغير الآريين مبدأياً، كذلك تماماً فالحقائق الكونية للفلسفة اليونانية لم تكن للجماهير مبدأياً. لكن هذا لا يعني أن الفلاسفة اليونان كانوا غير مبالين كالبوذيين الهنود نحو «ديانة البشر». فالأبيقوريون أهملوا اعتقادات الجماهير باعتبارها خرافة جاهلة، في حين شرّعها المشاؤون كرموز لحقيقة عالية. فمن ناحية، إذا كانت هذه هي الروح التي قارب بها الفلاسفة الديانة الشعبية، فليس يهم كثيراً الشعب الذي اختاروا مقاربته: فما فعله ابيقور وزينون لأجل ديانة اليونان، استطاع لوقراسيوس وباناتيوس أن يفعلاه تماماً لآلهة الرومان أيضاً. ومن ناحية أخرى، فحين حدث وجُعلت الجماهير تحت السيطرة، ظهر الأبيقوريون مبدأياً مهدئين للأعصاب بقدر ما كان المشاؤون مبدأياً جامدي الشعور(14). الفلسفة اليونانية لم تكن إصلاحاً للديانة اليونانية(15)، فهي لم تكن تملك الرغبة ولا الطريقة لجعل اليونانيين أمة فلاسفة. باختصار، حيثما تصنع الزرادشتية أمة، تصنع الهلينية نخبة ثقافية كوزموبوليتانية. وكما افتقدت الهلينية القوة الكامنة الأيديولوجية الموجودة في الزرادشتية، كذلك تماماً افتقدت أيضاً تجسيدها للعرف. فمن ناحية، لم يكن لدى الهلينية كهنة المجوس: الكهنة اليونانيون لم يوزّعوا فلسفة قومية، والفلاسفة اليونانيون لم يكونوا بديلاً لكهنوت قومي. ومن ناحية أخرى، فالعلاقة شبه الغامضة بين الهلينية والسياسة لم تعطِ تكريساً لسياسة قومية. فتاريخياً، ارتبط الفكر اليوناني بقوة بحياة حكومة المدينة. وهكذا فبؤرته السياسية النوعية كانت وفق المعايير الإيرانية ضيقة جداً: فبالرغم من طموحات الفلاسفة للمَلَكية، لم تكن الجمهورية شرعة لمَلَكية قومية أكثر من الإلياذة(16). أما مفاهيمياً، فاهتمام الفلاسفة السامي بالكون كان يتضمن ميلاً لأن يكون فوق السياسة. وهكذا فبؤرتها الفكرية العامة كانت وفق المعايير الإيرانية واسعة جداً: فإذا كان التأمل الفلسفي هو الخير الأرفع، يصبح إختيار المرء أن يتفلسف في مكتبة الاسكندرية أو في حوض أثيني مسألة ذوق. النتيجة كانت هي أن المَلَكية الهلينية لم تستطع أن تكون حكومة قومية. والواقع أن الغزوات المقدونية خلّصت الفكر اليوناني من هاجسه السياسي الأبرشي المحدود: فحكومة المدينة، باعتبارها عتيقة الطراز سياسياً، استمرت أساساً كشكل ثقافي. لكن ما أن تحرّر الفلاسفة من مشاغل الحكومة، حتى عادوا إلى مشاكل الكون الدئمة. وصار مواطنو المدن مواطنين للكون، وليس لليونان؛ وأفسح المجال ترابطهم المشترك، ليس لتضامن إثني، بل لأخوية بشرية. على أساس من هذه الأرضية، استطاع الملوك المقدونيون أن يزعموا أنهم ينتقمون للهلينية من الفرس وأنهم يعملون كحماة لها في الأراضي البعيدة؛ لكن هذه الأدوار ظلت خارجية بالنسبة لتقليد لا تمتلك المَلَكيات الهلينية داخله أيةمكانة جوهرية موثوقة. لم يكن ممكناً أن يوجد أخمينيون فرس، وعلى هذا الأساس لم يكن ممكناً أن يوجد ساسانيون يونان؛ وكان على تأسيس مملكة اليونان أن ينتظر بافاريي القرن التاسع عشر. وهكذا فقد كان ثمة ما يحول دون إحراز العالم اليوناني لكمال سياسي وديني من مصادره الخاصة. لكن في الوقت ذاته فإن سمة التقليد جعلته ينفتح على تلك النِعَم خارج الحدود. وفي الموضع الأول،كان لدى الهلينية فائض أنصار خلف حدودها الإثنية؛ وهكذا فقد استطاع اليونانيون أن يُغْزَوا من قبل روافدهم الثقافية الخاصة، في حين لم يستطع الإيرانيون أن يعانوا من هذا القَدَر إلا على أيدي أعدائهم الأيديولوجيين(17). وفي الموضع الثاني، لم يكن لدى الهلينية سوى مصادر قليلة للتحكم الأيديولوجي بجماهيرها؛ وهكذا استطاع اليونانيون أن يغيّروا ديانتهم على أيدي مرسلين من ديانة غريبة، في حين لم يكن ممكناً تحطيم القبضة الزرادشتية على شعب إيران إلا عن طريق الغزو. وكانت النتيجة أن إيران ظلت محافظة على بنيانها ذي الكيان الموحِّد حتى دمَّر الغزاة الهاجريون حكمها وسياستها بضربة واحدة، في حين كان اليونان يدينون بتلك الوحدة الدينية والسياسية والتي دُلّسَت عليهم إلى إمبراطور روماني وإله يهودي. لقد فعل هذا التدليس المزدوج شيئاً من أجل ربط العالم اليوناني ببعضه، لكنه أبعده كثيراً عن أن يصبح إيران غربية. سياسياً، كانت هنالك العلاقة الغامضة بين اليونان والرومان. من ناحية المبدأ، قد يكون الرومان أكملوا تلقيهم للثقافة اليونانية بتبني الإثنية اليونانية؛ لكن عملياً كانت عندهم الرغبة والوسيلة على الاستمرار في أن يكونوا مختلفين إثنياً، ولأنهم وجدوا أنفسهم عند هوميروس متحدرين من طروادة فقد واصلوا تثقيفهم للفلسفة اليونانية إنما بثوب لاتيني. وكانت النتيجة بمعنى ما إعطاء اليونانيين تكاملية سياسياً والرومان تكاملية ثقافياً داخل حضارة إمبريالية يونانية - رومانية. لكن هذه الحضارة الثنائية الوجه كانت تعني في الوقت ذاته توتراً ثنائي الوجه. فاليونانيون، رغم امتلاكهم لسندات تملك الثقافة، لم يستطيعوا أن يفقدوا بالكامل قط ريفيتهم السياسية؛ أما الرومان، فرغم سعادتهم بتطورهم من دولة المدينة إلى الإمبراطورية، لم يستطيعوا قط أن يحيوا بطريقة ينسون معها بالكامل ريفيتهم الثقافية. دينياً، كانت هنالك العلاقة الملتبسة بين «اليونانيين - الرومان» واليهود. لقد دعا العالم القديم إلهاً شخصياً وتجربته الإله الحارس لشعب صغير وسيء الطالع إلى حد ما. العلاقة الناتجة عن ذلك كانت محفوفة بالمشاكل بطريقتين. ففي الموضع الأول، كان معنى الدعوة أن يهوه كان إلهاً شخصياً؛ لكن جعل إله شخصي مسؤولاً عن كون مفاهيمي هو أمر يتضمّن علىالأرجح كمية لا بأس بها من عدم الراحة عند كلا الجانبين. في الموضع الثاني، لقد وضع ماضي يهوه الاثني خارج الحضارة التي تبنته الآن. المسيحيون طبعاً ضحوا بإثنيتهم كي يحوّلوا اليونانيين إلى دينهم، بعكس الرومان الذين حافظوا على إثنيتهم وغزوهم. لكن رغم تجريد يهوه من طابعه القومي، فقد أحضر معه سجلاً كتابياً تفصيلياً لماضٍ قومي متميز ثقافياً(18). وهكذا فقد اتحدت ثقافة يونانية، حكومة رومانية وديانة يهودية. وحتى في شكله البيزنطي، فقد ظل هذا التقليد مجرّد ضمّ سطحي لعناصر من أصول مختلفة، والذي كانت مكوّناته الثلاثة في توتر متبادل كامن. لقد ظهر إيطالوس التعيس الحظ، وهو راهب من القرن الحادي عشر وتلميذ لبسيلوس، كبربري لاتيني بالنسبة لآنا كومنينا، كفيلسوف متزندق علىنحو خطير بالنسبة للكنيسة، وكشخص مضحك في «لباسه الجليلي» بالنسبة لحكماء الأنتيك في العالم السفلي(19). لقد كان البيزنطيون ورثة الهلينية، مع ذلك فبسبب احترامهم لديانتهم لم يغامروا في أن يدعوا أنفسهم هلينيين(20)؛ لم يكن فرجيل أو شيشرون يعنيان أي شيء لهم، مع ذلك فبسبب احترامهم لدولتهم دعوا أنفسهم روماناً(21). والواقع أنهم لم يبالوا كثيراً بمدى عمل بيزنطة: فحين يكون المرء على قمة العالم، يستطيع أن يتحمل أن يكون غير مترابط. لكن الامر كان يتضمّن شيئاً هاماً والذي يمكن لظروف أقل طيبة أن تفعّله: فما جمعه التاريخ على نحو مهلهل، كان باستطاعته أن يفككه بالسهولة ذاتها تماماً.


7 أقاليم الشرق الأدنى

كانت سوريا، مصر والعراق جميعاً مراكز لتقاليد ثقافية قديمة جداً. لكن ما من تقليد من هذه التقاليد ظل على حاله خلال ألف عام من الحكم الأجنبي لكل من الأخمينيين، اليونانيين، الرومان، البارثيين، الساسانيين والذي سبق الغزوات العربية. بالمقابل فالمستوى المتدني للاندماج الثقافي الذي ميّز على نحو خاص الإمبراطوريتين « اليونانية - الرومانية» والبارثية ضمن عدم اختفاء أي من هذه التقاليد بالكامل. وفي القرن الثالث بعد المسيح يمكن أن نجدها على قيد الحياة؛ لكن في القرن الثالث أيضاً كان التسامح الثقافي القديم سيصل إلى نهايته. ولو كان العرب اختاروا تنفيذ غزواتهم في هذه المرحلة، لكانوا قد وجدوا ثقافة محلية وأخرى امبريالية تتعايشان الواحدة قرب الأخرى - كما كانت عليه الحال فعلاً في شمال إفريقيا؛ وعلى العكس من ذلك، فلو أنهم أجّلوا غزواتهم حتى القرن العاشر لأمكن لنا أن نتخيل (مع أن الأمر ليس مرجحاً جداً) أنهم لن يجدوا شيئاً غير طبقة مثقفة محلية تعيد بإخلاص إنتاج الثقافة الإمبريالية - كما فعلوا في اسبانيا فعلاً. لكن بما أنهم اختاروا أن يغزوا مصر والهلال الخصيب في القرن السابع، فقد كان ما وجدوه فعلاً هو ثلاثة تركيبات متمايزة إلى درجة عالية، تطورت تحت حماية درع مسيحي في ردة فعل على ضغط العاصمة على الانحراف الثقافي. إن قدرة الهلينية والثقافات المحلية على التعايش دون إزعاج تقريباً إنما كانت نتيجة الفصل الهليني بين النخبة والجماهير، سياسياً كمواطنين وخاضعين، ثقافياً كيونانيين وبرابرة، فكرياً كأنصار للمفاهيم وأنصار للأسطورة. وبما أن اليونانيين كانوا يعملون إما بحقائق عالية ذات تخلل اجتماعي محدّد أو بحقائق قابلة للتخلل الاجتماعي لكن قيمتها الفكرية محددة، فالتوتر بين المعايير والاعتقادات المتصارعة داخل الامبراطورية كان قد أُبطل مفعوله: فالنخبة اليونانية - الرومانية كانت مُحَرّرة من الالتزام بعرض حقائقها الفائقة الخاصة على الجماهير، في حين لم يكن لديها من جهة أخرى ما يبرر سحبها من البرابرة الذين كانوا راغبين في اعتناق تلك الثقافة. ولو أن أولئك الذين قبعوا بعيدين لم يُتَابعوا وأولئك الذين جاءوا لم يُرْفَضوا، لاستطاع الأولون أن يُتركوا للعيش بسلام وفق أساليبهم البربرية في حين كان يمكن التوقع من الأخيرين أن يتنكّروا لأساليبهم البربرية بالكامل. وهكذا ففي طول الحقبة وعرضها استنضبت الهلينية أعدداً ثابتة من البرابرة؛ لكن لأن الهلينية لم تكن تهتم في جعل القيم المحلية تتسلل من أجل اكتساب أحد الأشخاص، فإن بعضاً من هؤلاء الذين اعتنقوا ثقافتها إنما كانوا يخونون أصولهم المحلية. وهكذا فالامبراطورية الرومانية التي كانت تسير سياسياً ككونفدرالية لحكومات مدن تحت إشراف مفكك للإمبراطور الروماني،وفكرياً ككونفدرالية مدارس فلسفية تحت إشراف مفكك للآلهة المدينية، كانت مثل شبكة واسعة ترمي خيوطها الرفيعة على مجموعات متنافرة من البرابرة: الخيوط، أينما كان، كانت تمسك برجال لصقلهم بالثقافة المتناسقة للغاية ذاتها، لكن عيون الشبكة كانت، أينما كان،واسعة بما يكفي لجعل غالبية البرابرة ينجون ومعهم لغاتهم، عقائدهم، وأعرافهم غير المهذبة. كان حقل الدين طبعاً استثناء في هذا الأنموذج العام للفصل بين الأمور اليونانية والأمور البربرية. وإذا كان البرابرة في هذا الصدد مخوّلين بامتلاك آراء لايعرفها اليونانيون، فلا يوجد ما يمنع تبادلاً توفيقياً أصيلاً؛ والتوفيقية الدينية طبعاً هي إحدى السمات الأكثر لفتاً للنظر في الحضارة الهلينية. مع ذلك فقد استمرت الفجوة الأخلاقية بين النخبة والجماهير: فحيثما كان اليونانيون يرون مفاهيماً كان القرويون يرون معات ma’at، أمّا الكهنة المحلّيون، الذين وقع على عاتقهم واجب حفظ الحقيقة، فقد افتقدوا الإرادة والأسلوب على حد سواء للسيطرة على التنوعات الاجتماعية والجغرافية لعقائدهم(1). كان للتطورات التي وضعت حدّاً لهذه الحالة في القرن الثالث وما بعد وجهان. ففي الموضع الأوّل، بدّلت الروح الحربية البنيان الإداري للإمبراطورية، حارمة الموظفين الكبار في العالم اليوناني - الروماني من احتكارهم للسلطة السياسية والإستقامة الثقافية على حد سواء. سياسياً، فقد انهزم اليونانيون طبعاً أمام الرومان مع الغزو الروماني؛ لكن امبراطوراً يرتدي قناع المواطن الأول لم يستطع أن يكون شخصاً معادياً بالكامل لدولة المدينة، ولم تفسح الحكومات المحلية لدول المدن المجال أمام حكم امبراطوري مباشر إلا تحت وطأة تأثير الغزوات البربرية. ومن تحت قناعه ظهر الآن أصحاب المقامات العليا Princeps في هيئة سيطرة dominus، وأفسحت دائرة مجلس الشيوخ Curiales الحصرية المجال أمام الموظفين officiales البيروقراطيين الدخيلين. ومع الإزالة المنظمة للأرستقراطية التقليدية، حصل سكان الأقاليم على فرصهم لصنع مسالك معيشية مربحة مالياً كبيروقراطين سواء مركزياً أم محلياً، بل حتى كأباطرة، ومن غير المدهش، أن سكان الأقاليم استجابوا. وهكذا فقد أحرز البرابرة السابقون مشاركة في حكومة الإمبراطورية، في حين أحرزت الحكومة الامبراطورية بالمقابل تشعبات محلّية. وعام 211 صار الجميع مواطنين شكلياً لكنهم كانوا موالٍ أساسياً في مسار القرون التي تلت.و سياسياً لم يكن هنالك مواطن ولا مولى، بل كان الإمبراطور كل شيء وفوق كل شيء. من الناحية الثقافية، فقد بُرهِن على الشمولية المتأصلة للحضارة الهلينية عبر تبنيها طبعاً من قبل الرومان. لكن دولة المدينة ظلت التجسيد العيني لأسلوب الحياة اليوناني، وكما استطاع اليونانيون تعريف السياسة فوضوياً على أنها مسألة دول المدن حتى القرن الثالث، كذلك استطاعوا أيضاً تعريف الثقافة بأنها مسألة أسلوب حياة يوناني حتى جعل زوال دولة المدينة الفكر اليوناني متاحاً للجميع دون أدنى لبس. لقد تلقى البرابرة الآن دروساً في القواعد، علم البيان أو القانون وذلك بأمل الحصول على وظيفة حكومية بطريقة أوتريبوس Eutropius(3)، أو درسوا الحكمة اليونانية كي يحرزوا آراء دينية بطريقة بورفيروس Porphyry(4)؛ ومع فقدان الموظفين الكبار للسلطة وأسلوب الحياة على حد سواء، بدأت المصطلحات التوفيقية للتجارة بالتبدّل. ثقافياً، لم يعد هنالك يونانيون ولا برابرة، بل تعليم كان كل شيء وفوق كل شيء. في الموضع الثاني، فقد غيّرت المسيحية البنيان المعرفي للإمبراطورية، حارمة الموظفين الكبار من احتكارهم للحقيقة. وكان الإله المسيحي قد ورث صفتين- مفتاحين من ماضيه الإثني واللتين كانتا تميزانه عن الآلهة الأخرى ذات الشعبية في ذلك الزمن. فمن ناحية لم تسمح غيرته بالحدود المعرفية ولا الإجتماعية، والمبشرون المسيحيون بالتالي كانوا يبشرون أساساً بالحقيقة ذاتها للنخبة والجماهير على حد سواء. والحقيقة أن المسيحيين اكتسبوا شيئاً من الاحتقار الهليني للبرابرة والجهلة idioati؛ لكنهم ظلّوا مع ذلك صيّادي بشر والذين لا ينوون ترك أصغر سمكة تهرب منهم، وفي سياق مسيحي صار رفض اليونانيين المتكبّر شأناً إحسانياً لمتطلبات الأنفس الأدنى منهم شأناً. من ناحية أخرى فقد تطلب تماسك يهوه شكلاً من التعريف الإثني، فبعدما فَقَد أسباطه ليصبح إله غير اليهود، مال بشكل غير طبيعي لأن يتبنى عوضاً عنهم الحكومة التي وُضِع فيها(5). وقد أدى التقاء غيرته بالفلسفة اليونانية بالتالي إلى أرثوذكسية مبينة مفاهيمياً مفروضة على عَبَدة الأقانيم وعبدة القديسين على حد سواء؛ في حين ولّد التقاء تماسكه بالإمبراطورية الرومانية منظمة إكليروسية أُمْكِن جعل هذه الأرثوذكسية عبرها فعالة اجتماعياً(6). ومعرفياً لم يكن هنالك فلاسفة ولا جهلة، فالمسيح كان الكل وفي الكل(7). رغم أن التطوّر في إيران كان أقل شهرة على نحو مطلق، إلا أنه لم يكن مختلفاً. فكونفدرالية الممالك المفككة التي كانت قد شكّلت الإمبراطورية البارثية، أفسحت المجال لمملكة مركزية ساسانية، في حين وصل التيار المحب للهلينية ثقافياً واللامبالي دينياً عند البارثيين إلى نهايته مع استرداد الساسانيين لمبدأ زرادشتي متكامل. وبما أن أهورا مازدا هو إله الآريين، فقد أظهر الساسانيون اهتماماً مماثلاً بشأن إبقاء الأرثوذكسية ضمن حدود الإمبراطوية الإيرانية؛ وبما أنه في حيازة مَلَكية مركزية، فقد أنشأوا منظمة مماثلة، ولو أولياً، من أجل فرضه بالقوة. في كلا الإمبراطوريتين كانت الزيادة في الدمج تعني الزيادة في التضامن - حروب كراسوس وأوردس أفسحت المجال لحملات هرقل وكسرى الثاني العنيفة؛ وفي كلا الإمبراطوريتين كانت الزيادة في الدمج تعني الزيادة في التوتر بين الأجزاء المكونة لكل إمبراطورية - فالريفية المحلية الهادئة البال أفسحت المجال للتحوّل الديني والأبجدية اليونانية - الرومانية في الغرب(8)، وللهربادات التبشريين في الشرق(9). ولو أن كل القرويين المحليين كانوا برابرة أصليين لكان التوتر دون شك محدوداً: فاختيار الحضارة في شكلها اليوناني أو الروماني المحتوم، لم يكن خياراً صعباً بالنسبة لسكان قاريا أو للسلت. بالمقابل فإن الرفض القبائلي للحضارة من قبل البلميين أو بربر شمال افريقيا لم يشكل مشكلة كبيرة. لكن بالنسبة إلى السكان المحليين في الشرق الأدنى فالثقافة اليونانية - الرومانية لم تكن الشكل المحتوم أو الأكثر مرغوبية فعلاً والذي باستطاعة الحضارة تقديم ذاتها على الأرض من خلاله؛ وإذا كان التسامح الثقافي مكّنهم من الحفاظ على هويتهم الذاتية، فقد أجبرهم التعجرف الثقافي الآن على تأكيدها على نحو فاعل في وجه ثقافة العاصمة، أو على إعادة تأكيدها ضمنها. وتحديداً لأن المسيحية كانت في الوقت ذاته الحقيقة الفائقة لثقافة العاصمة والحقيقة الوحيدة التي دانت بها هذه الثقافة للبرابرة فقد أعطتهم الفرصة لضرب اليونان في الدين مثلما ضربهم اليونان في الفلسفة. والآلهة الإثنية التي أُمكِن أن يُقر لها بفضل الوحدة الأخلاقية لبيزنطة وإيران أُمكن أيضاً لها ذاتها أن تُدخل في رصيدها الإنشقاق الديني لمصر وسوريا والعراق. قبل عام 525 ق.م. كانت الهوية المصرية نتاجاً دقيقاً للغاية لكل من الجغرافيا، الإثنية، اللغة،شكل الحكم، والدين، فالعناصر المختلفة تعرّف كلّها تحديداً الكيان ذاته. فالجغرافيا (أو النيل) كانت هبة الإله وقد حالت لألوف السنين دون انقسام مصر رغم توالي أشكال الحكم عليها كمرزبانية فارسية، مملكة بلطيمية، إقليم روماني، وأبرشية مسيحية؛ في حين أُعْفيت العناصر الباقية من تآكل كامل في الحقبة البلطمية بفضل ظرفين رئيسين. في الموضع الأول، فقد كان لدى مصر، بعكس سوريا وبابل، ديلم في مملكة النوبة التابعة لها، والذي ضمّ المعيار الصحيح للتصلب السياسي والإتكالية الثقافية وذلك من أجل القيام بدور المجدد للملكية الفرعونية إذا ما ذهب الفراعنة ذات يوم: لقد انشق الطيبيون تحت حكم الملوك النوبيين من عام 206 إلى عام 185ق.م(10)، وربما أن ملكاً نوبياً ثالثاً هو الذي حرّض على الثورة الطيبية عام 165(11)، وبأية حال فقد واصلت طيبة كونها متنفّساً لكراهية أمون التقليدية لملوك الشمال حتى عام 88 ق.م(12). وفي نهاية المطاف كان على البطالمة أن يصبحوا هم أنفسهم مجددين، خاصة بعدما واجهوا إمكانية تجديد وطني من الجنوب وضم روماني من الشمال: صار ملوك البطالمة فراعنة بألقاب وحفلات تنصيب وعاصمة مصرية كاملة، واستعيدت أملاك الكهنة وامتيازاتهم(13). ولو أن الغزو الروماني لم يحصل، لواجه البطالمة خطر أن تمتصهم الدولة المصرية. في الموضع الثاني فإن اليونانيين، رغم عددهم القوي في الإسكندرية، كانوا خارجها شبه مشتتين في البلد. «الإسكندرية في مصر» كانت بالطبع مدينة غير مصرية بالكامل، أما الاسكندرانيون، فرغم الوجود المحتوم لعناصر مصرية بينهم، فقد ظلّوا يعتبرون غير مصريين حتى في الحقبة المسيحية(14)؛ لكن البطالمة أسّسوا بعكس السلاجقة بضع مدن يونانية، واستقرت الغالبية الساحقة في قرى وحواضر الولاية حيث بدأوا بسرعة يصبحون مصريين(15)، رغم الحظر المفروض على الزواج المتبادل. ولو أن الرومان لم يغزوا مصر، لما استطاع اليونان تجنّب أن تمتصهم الإثنية المصرية. يمكن القول إذاً إن روما أنقذت اليونانيين. وكان هذا يعني خسارة الحكم الفرعوني التي لا تعوض: فمن جهة استُبْدل الملوك البطالمة المتعاقبين ورجال دينهم المخصيين اليونانيين - المصريين بإمبراطور روماني وفريقه اليوناني - الروماني(16)؛ ومن جهة أخرى أستُبدلت القوات اليونانية - المصرية بجيش روماني متمركز خارج مصر وبنخبة تجارية جديدة ذات أصول إثنية مختلطة وثقافة هلينية داخلها(17). وحدهم الكهنة حافظوا على وجودهم طيلة تاريخ من الخسارة الثابتة، ليس فقط للسلطة والثروة(18)، بل أيضاً للأمل: فقد ظل باستطاعتهم التمرد في ظل حكم ماركوس اورليوس(19)، لكن في نهاية الحقبة الرومانية لم يكن باستطاعتهم سوى أن يندبوا مصر المقدسة(20). ذلك يعني أيضًا خسارة الثقافة الفرعونية التي لا تعوض: القواميس الهيروغليفية في القرن الأول بعد المسيح تعلن مبكّراً زوال اللغة في الثالث(21)، في حين أن تاريخ التقليد المصري كما هو يُعكس في السلسلة الكهنوتية المتعاقبة من بتوسيريس ومانثو، حيرمون وبطليموس المندي، وصولاً إلى الكتّاب الهرمسيين، هو تاريخ ذوبان متواصل. مع ذلك فقد كان أمراً حاسماً أن يحافظ الكهنة على استمراريتهم: ولو كان الحكم الوطني استمر لمدة كافية في شكله البلطيمي بحيث يترك خلفة صورة afterimage قوية، لكانوا قادرين على إبقائه على قيد الحياة. ربما لم يكونوا قادرين على أن يحاربوا، لكنهم بعكس السوريين كان لديهم على الأقل ما يبكون عليه(22). على نحو مشابه فقد كان أمراً حاسماً أيضاً أن الرومان لم يؤسسوا مدناً ولم يستعمروا الريف(23)؛ ولو أن الإثنية الوطنية تواصلت في ظل البطالمة إلى اليونانيين المتمصرين، لكانت قادرة على السيطرة على الريف. قد يكون المصريون اُفْقروا ثقافياً، لكنهم بعكس السوريين، عرفوا علىالأقل من هم يكونون. بكلمات أخرى، اختفت الحضارة الوطنية، لكن الهوية ظلت: لم يعد ممكناً استرداد الكيمه، لكن ما يزال باستطاعة البقية أن تسترد مصر المقدسة. مع ذلك فإن استرداداً كهذا لم يصبح مُلِحَّاً وممكناً إلا بعد أن شدّت المسيحية العلاقة المفككة بين مصر، الإسكندرية في مصر، والإمبراطورية الرومانية التي كانت كلتاهما جزءاً منها: مُلِحّاً لأن مصر وجدت نفسها وقد أمسكت بها البنى العقائدية والمنظماتية الصارمة للكنيسة الهلينية، وفي حين استطاعت الاسكندرية اليونانية الحفاظ على هويتها وتفوقها الفكري ضمن هذه البُنَى، كان الريف المصري مواجهاً بامتصاص مجرّد؛ وممكناً لأن البُنى العقائدية والمنظماتية ذاتها التي أُمْسِكت بها مصر لأجل العالم اليوناني الروماني أُمْكِن استخدامها أيضاً للإفصاح عن هوية مصرية ضمنه. لذلك كان أول آثار المسيحية إبطال مفعول التوتر السياسي بين الإسكندرية والإمبراطورية الرومانية(24) بينما ازدادت في الوقت ذاته حدة التوتر الثقافي بين مصر والعالم اليوناني - الروماني ككل؛ لكن ردات الفعل المصرية الأولى كانت متميزة وغير فاعلة في آن. فمن ناحية وصل النزوع المصري إلى التباهي بشهدائهم الوطنيين في مواجهة العالم الخارجي إلى درجة التأزم وذلك مع الانشقاق الملاطيوسي Melatian وتشكيل كنيسة الشهداء، المسيطر عليها قبطياً والمناصرة لمصر العليا، لكن المحكوم عليها بالفشل في نهاية الأمر(25). ومن ناحية أخرى فقد قاد البحث الوطني عن منافذ للهروب من الشبكة اليونانية - الرومانية بالمصريين إلى إسقاط الحضارة بالكامل، رافضين الثقافة الروحانية والمادية على حد سواء(26)؛ وربما أن أمونيوس(27) حارب لأجل حكمة اليونان في الإسكندرية وربما قرأها أوريجانس في أسفاره المقدسة، لكن القديس أنطونيوس رفض اكتسابها(28) وشجبها ديوقلس(29)؛ مثل ذلك فالإسكندرانيون ربما استمتعوا بفوائد الحضارة، لكن النسّاك رفضوا كلاً من المآوي التي صنعها الإنسان والأطعمة التي صنعها الإنسان وذلك باعتبارها جزءاً من العالم الملوّث الذي كانوا يحاولون نسيانه(30). وبتشخيصهم لاستيائهم من الحضارة على أنها إحدى نتائج سقوط آدم في المعصية وخروجه من الجنة، فقد حاولوا استرداد بربرية آدم البريئة: فكما أغوت إحدى عاهرات المعبد انكيدو كي يدخل في الحضارة،كذلك أغوت خطيبة للمسيح أحد المصريين كي يغادرها «كرجل عجوز عار والذي كان يأكل مع الوحوش»(31). مع ذلك فقد كان ثمة مستقبل لردة الفعل الثانية هذه. كان تطور الرهبنة هو التغيّر الحاسم. فها نحن نجد القديس أنطونيوس يجمع أتباعه ضمن جماعات شبه رهبانية؛ ومع باخوميوس فسحت المغاور الطريق أمام مستوطنات رهبانية أكثر اتساعاً، مثلما أفسح النساك الطريق أمام ألوف النزلاء، والاستقلالية المنعزلة أمام قواعد وقوانين لرؤساء أديرة أصحاب قوة متزايدة، ومع حلول القرن الخامس دانت كل مصر تقريباً بآرائها إلى الأمثولية الرهبانية(32). وإذا ظل النسّاك يمسكون بالفخار الشكلاني للمكان، فأمثولتهم الزهدية اتُهِمت الآن بالبراعة النسكية؛ وهكذا فقد تم تبريد همّة العزلة، الإفراط في الحماسة في الصلاة وفي إماتة الجسد وطلب الشهادة وذلك لصالح الحياة المشتركة، الإطاعة، وقبل كل شيء، العمل(33). إذاً، فكلّ الرهبان، سواء أكانوا أعضاء في الأديرة الباخومية أو في المستعمرات شبه النسكية، كانوا يعملون لإعالة أنفسهم ولإعالة الفقراء(34)؛ فالزراعة وحرف أخرى كانت تُمَارس واكتست الصحراء بالحدائق، الحقول، الغابات والبساتين وذلك لتشجيع المزارعين المسيحيين الذين آمنوا أن «الصحراء كانت قادرة على أن تغلّ فواكه لأولئك الذين يؤمنون بالله»(35). وإذا كانت صحراء مصر قد بَنَت كنيسة الأمم(36)، فإن كنيسة الأمم بالمقابل بَنَت مصر المقدّسة في الصحراء. مع هذا التطوّر اختفى على نحو متميّز الخط الحاد الذي يفصل بين القداسة والعالم: كان الراهب قادراً بالطبع على تكريس حياته كلها لله، لكن العامل الذي ينشط في العالم قد يعادل الرهب في القداسة أو حتى يتفوق عليه(37)؛ والجميع كانوا يعملون بطرق مختلفة للأمثولة ذاتها، لكن الأديرة كانت تمثّل، إذا صح القول، الكيبوتزيم. نتيجة لذلك أضحت مصر تمتلك عنصرين متمايزين ومتنافسين كمونياً: فمن جهة لدينا الإسكندرية، مقر البطريرك الذي كان يحكم أبرشيته المكتنزة بكل المصادر المنظماتية والفكرية للكنيسة الهلينية(38)؛ ومن ناحية أخرى لدينا الصحراء، مقر الرهبان الذين حكموا الأبرشية ذاتها بكل المصادر الشعورية للفلاحية المصرية. أما ما يمكن لهذا التنافس فعله لو أنه دخل في التاريخ المفتوح فذلك ما لا يُروى لأنه قُمِع من قبل مصالح متبدّلة. فدون دعم الإسكندرية، لم يكن باستطاعة الرهبان إحراز ميثة، بغض النظر عن فرضها، تفصح عن هويتهم الإقليمية المحلية الخاصة: ذلك هو الدرس الذي كان على الرهبان أخذه من الفشل الملاطيوسي(39). لكن بالمقابل، دون دعم الرهبان،لم يكن باستطاعة الإسكندرية السيطرة على الأبرشية، بغض النظر عن فرض مفاهيمها الخاصة على العالم اليوناني - الروماني: ذلك هو الدرس الذي أخذه أثناسيوس من التهديد الملاطيوسي(40). وهكذا كان هنالك تحالف: فالبطاركة تلقوا دعماً رهبانياً في محاولاتهم لتأكيد الصدارة الفكرية الإسكندرانية، والرهبان تلقوا دعماً من البطاركة في محاولاتهم لإيجاد إيمان مصري(41): لقد دافع ديوسقورس عن عقيدة كيرلس المونوفيزية مع جيش من الرهبان السيئي السلوك في مجمع اللصوص في أفسس عام 449(42)، وبالمقابل أضحى البطريرك المونوفيزي القائد الفرعوني للأقباط(43). هذا الحلف المقدّس، أو غير المقدّس، بين البطريركية اليونانية والفلاحية المصرية هو الذي صنع الكنيسة القبطية، والذي تخرج منه سماتها الثلاث الرئيسة. ففي الموضع الأوّل إن القوام الاجتماعي للكنيسة القبطية هو البساطة الريفية وليس النخبوية المدنية. لقد كان في مصر، بالطبع، طبقة أرستقراطية بفضل الإصلاحات الإدارية العائدة إلى القرن الثالث. هذه الإصلاحات، مع أنها احتوت هنا مثل أي مكان آخر انتقالاً للسلطة، فقد عملت بطريقة خاصة تقريباً في مصر: فبما أن مصر كانت دائماً إقليماً مركزياً إلى درجة عالية، فالانتقال لم يكن من النخبة المدنية إلى البيروقراطيين الريفيين، بل من البيروقراطيين اليونانيين إلى نخبة ريفية(44). بهذه الطريقة فالنخبة الهلينية في الحواضر والقرى، والتي رأت روما أن من مصلحتها حمايتها، كانت تقدّم معظم الحكّام خارج الإسكندرية مع حلول القرن الخامس(45) بحيث تطورت لتصبح طبقة من أقطاب محليين والذين امتلكوا كلهم تقريباً الريف برمّته وسيطروا عليه مع حلول القرن السادس(46). لكن رغم تمازج المصريين، فهذه الطبقة الأرستقراطية المتمازجة أثنياً اليونانية ثقافياً لم تستطع أن تزعم تمثيل مصر المقدسة؛ وهكذا، بعكس آشوريا، فالفلاحون، وليس هذه الطبقة الأرستقراطية، هم الذين شكّلوا الكنيسة المحلّية. لكن بالمقابل، فرغم ثقافتهم اليونانية، فالأرض التي كانوا يسيطرون عليها كرّستها الكنيسة القبطية؛ وهكذا، بعكس سوريا، لم يُرْفَضوا للحال والتو. والاختيار الصعب بين شجب مونوفيزي للسلطة واحتفاظ ملكاني بها لم يكن مجهولاً بالطبع في مصر(47)، لكنه لم يكن اختياراً شائعاً جداً. وهكذا فثروة الأبيونيين Apions(48) وسلطتهم الكبيرتان لم تجعلا منهم بأية حال يونانيين أخلاقياً: فقد نجحوا، بعدما صنفوا أنفسهم كأبناء بلد مصريين وبعدما احتلّوا مكانة عالية محلياً ومركزياً، في الاحتفاظ بعقيدتهم المونوفيزية قبالة الإمبراطور رغم الضعف آنئذٍ(49)، وفي استرداد مكانتهم الدنيوية قبالة الأقباط عن طريق الأعمال الخيرية والدعم السخيين(50). وقد قال أحد التجار لبفنوتيوس(51)، «ثمار تجارتي من أجل الصالحين»؛ وهذا الشعار كان أحد الشعارات التي كرّس بها، ليس فقط الأبيونيون، بل بشكل عام المصريون أصحابا الأطيان، مكانتهم الدينية(52). وإذا كانت الطبقة الأرستقراطية التي أقرّت مصر بشرعيتها باعتبارها الطبقة الأرستقراطية الخاصة بها غير فرعونية، فربما أنها زعمت في أحد الأوقات أنها بطلمية. في الموضع الثاني، فإن القوام العاطفي للكنيسة القبطية هو الشوفينية الإثنية واللغوية: إن شرف مصر الذي حرّض بحسب الرواية القبطية على غزو قمبيز(53) يعاود الظهور في شكل التضامن الإثني للرهبان المونوفيزيين في وجه اضطهاد هرقل للأقباط(54)، الفخار اللغوي للمسيحيين الأقباط في مقاومة الغارات العربية(55)، ومجد مصر في مدائح القديسين المصريين(56). سوف تعود الآلهة إلى السماء، ومصر، هذه الأرض الأقدس، بعد أن تترمل من آلهتها، سوف تموت - تلك هي الترنيمة الجنائزية للكاهن الوثني(57)؛ «إفرحي وابتهجي يا مصر، مع كل أبنائك وكلّ تخومك، لأنه سيأتي إليك محبّ الإنسان» - ذلك هو جواب الكنيسة القبطية(58). في الموضع الثالث، فإن القوام الفكري للكنيسة القبطية لم يكن فلسفة اسكندرانية بل جلافة فلاحية: كان كيرلس آخر لاهوتي هام، وكان يوحنا فيلوبونوس الفيلسوف الأخير، أمّا ما بقي من الأدب القبطي فهو بليد ثقافياً بقدر ما هو نابض بالحياة شعورياً. إن انعزال مصر عن الاسكندرية والذي أكّد استمراراً قوياً للهوية المصرية كان في الوقت ذاته عزلاً للإرث المصري عن الفكر اليوناني والذي لم يؤمّن غير على استمرارية ضئيلة للحقيقة المصرية؛ كذلك فرغم استمرارية معينة في تاريخ السحر المصري، فإن مشاركة هذا الإرث في ثقافة مصر القبطية كانت محددة ببضع مواضيع شعبية(59). ولو أن الاسكندرية احتكرت على نحو أقل الفعالية الفكرية في مصر الوثنية، أو لو أن الكهنة الهلينيين كانوا ممثلين على نحو متعادل في كافة أرجاء الإقليم، أو لو أن الإقليم امتلك نخبة مدنية رفيعة الثقافة من أصل وطني، فلربما قبلت مصر الوثنية بالفكر اليوناني باعتباره وطنياً في جانبه الأخلاقي؛ عوضاً عن ذلك، رفضت مصر المسيحية الإرث الوثني باعتباره يونانياً في جانبه الأخلاقي(60). لقد قدّمت مصر القبطية رجالاً عمليين من نمط باخوميوس أو شنودة، لكنها لم تقدّم مفكرين، وإذا ما قارناها مع سوريا والعراق، فهي لم تكن تمتلك سوى تعليم رهباني ابتدائي. هذا لا يعني أن مصر كانت ستنفصل عن الامبراطورية البيزنطية سواء سياسياً أم ثقافياً حتى دون الغزوات العربية. والحقيقة طبعاً أن الامبراطور كان شخصاً خارجياً بالنسبة لمصر المقدسة، كما أن المصريين أصروا على أن يبدأوا تاريخهم باضطهاد ديوقليتيانوس وليس باهتداء قسطنطين(61)؛ لكن فرعوناً بسلطة اكليروسية فحسب، طبقة أرستقراطية بثقافة يونانية - رومانية فحسب، ومعابد مترامية في الصحراء فحسب ليست هي العناصر المكونة لحكم مستقل قابل للحياة؛ وسكان الكيبوتزات في الصحراء لم يعتريهم الوهم بشأن حاجتهم إلى امبراطور في القسطنطينية يمكنه أن يصدّ البرابرة. بالمقابل فالجلافة الريفية القبطية لم تكن قادرة على تقديم أسس لثقافة مستقلة قابلة للحياة. مع ذلك فالسمات الخاصة بالكنيسة القبطية قدّمت العناصر المكوّنة للإقليمية الفلاحية المتميزة على نحو بارز: مصرٌ متميزة عن بقية العالم بقداستها الخاصة لكنها مرتبطة به مع ذلك بوصفها أمثولة للجنس البشري - بكلمات أخرى، مصرٌ وفق أنموذج قدّمه آخر الكهنة الوثنيين(62) ؛ أو مصرٌ متميزة عن بقية العالم بإثنيتها الخاصة وطبقتها الأرستقراطية شبه الوطنية لكنها مرتبطة به مع ذلك كعضو في الإمبراطورية «اليونانية - الرومانية» - بكلمات أخرى، مصرٌ أنموذج عُكِس في نهاية الحقبة العثمانية(63). بعكس مصر، فقد اتسع العراق ليس لهوية إقليمية واحدة، بل لهويتين، هما الآشورية والبابلية. لقد عانت الثقافتان على حد سواء، طبعاً، من تدمير عنيف عند سقوطهما قبل الغزوات العربية بألف سنة: فكما حوّل نابوبالاسر والميديون آشوريا إلى «ركام وخرائب» عام 612 ق.م(64)، كذلك فقد دكّ أحشورش أسوار بابل، جرّد مواطنيها من أملاكهم وحوّل إلهها إلى سبيكة ذهبية وذلك بعد ثورة 482 ق.م(65). مع ذلك فقد بقيت الهويتان على حد سواء، الأولى تحت حماية درع مسيحي، والثانية تحت حماية درع وثني. كان هذا التقسيم غير العادي للعمل بين المسيحية والوثنية نتيجة الأثر المختلف للحكم الأجنبي على الإقليمين. فآشور، التي لم يكن لديها الثروة الخرافية ولا الأهمية الإستراتيجية التي لبابل، تركت وشأنها فعلاً من قبل الأخمينيين والسلوقيين(66) ؛ ولأن العالم الخارجي حكم عليها بالنسيان، فقد استطاعت أن تعيد تجميع ماضيها المجيد بنوع من الهدوء(67). وهكذا فحين عادت المنطقة إلى بؤرة التاريخ في ظل حكم البارثيين، فقد عادت بتعريف آشوري للذات، وليس فارسياً، بغض النظر عن اليوناني؛ أُعيد تجديد معبد آشور، وأعيد بناء المدينة(68)، وعادت إلى الوجود دولة خلافة آشورية على هيئة مملكة أديابين التابعة(69). وضع الساسانيون حداً لاستقلال هذه المملكة(70)، لكنهم لم يستبدلوا الحكّام المحليين بطبقة بيروقراطية فارسية: مع أن مكانتهم أُنْقِصت بحيث أصبحوا خدماً مطيعين للشاهنشاه، وبالتالي استمرت موجودة طبقة أرستقراطية وطنية(71). مع ذلك، ففي هذا الصدد، كان موقعهم في الدولة الفارسية غير مريح. ففي ظل حكم البارثيين راح الشاهنشاهات يطالبون بوحدة دينية ردّاً على الأهمية السياسية(72)؛ أما في ظل حكم الساسانيين فقد فعلوا ذلك على نحو منظم، وفرضوا بالتالي حقيقة فارسية على الهوية الآشورية. وطالما كان مستوى الإندماج متدنياً أُمْكِن تغطية هذا التنافر بمحاولات توفيقية(73)؛ لكن ما أن وضع الساسانيون الطبقة الأرستقراطية المحلّية في تماس أقوى مع البلاط الفارسي، حتى أُغْلِقت عيون الشبكة(74). وهكذا فقد عملت مَلَكية فارسية من أجل إله إثني في الشرق ما عمله إله إثني من أجل ثقافة يونانية في الغرب، تمسّك الآشوريون بنسبهم، لكنهم بعكس أقاليم الغرب لم يكن باستطاعتهم أن يتهرطقوا فحسب: فحتى زرادشتية هرطوقية ظلت من منظور مفاهيمي فارسية، لذلك كان الآشوريون بحاجة مقابل الفرس إلى ديانة مختلفة بالكامل(75). من ناحية أخرى، فحتى مسيحية أرثوذكسية ظلت مجرد يونانية بالتداعي، لذلك فمقابل الإغريق تبدو هرطقة ما وكأنها تفي بالغرض. وهكذا، بعد انعطاف عبر اليهودية، تبنى الآشوريون المسيحية ووجدوا هرطقتهم في النسطورية(76). بابل، بالمقابل، لم تترك وشأنها قط. وبمعزل عن دياسبوراتها اليهودية الضخمة، فقد تدفق إليها مهاجرون فرس في ظل حكم الأخمينيي، يونانيون في ظل حكم السلوقيين، والمزيد من الفرس مع الساسانيين؛ والأخيرون بنوا عاصمتهم هناك وأضافوا في أحد الأوقات دفعة أخرى من الغرباء أيضاً وذلك على شكل أسرى حروب سوريين ويونانيين(77). ونتيجة لذلك تحلّل شكل الدولة البابلي. والحقيقة أن شبح بابل راح يطارد العراق الأدنى نحو قرنين من الزمن في هيئة مملكة مسين Mesene التابعة والتي صارت آرامية بسرعة(78)، رغم أن مؤسسها حاكم إيراني؛ ولاشك أنه كان ثمة ملوك آراميون آخرون في ظل حكم البارثيين(79). لكن في الموضع الأول فقد بدت الهوية البابلية لمسين ضعيفة(80)، وفي الموضع الثاني فإن اختيار الساسانيين للعراق الأدنى كمركز لإمبراطوريتهم لم يترك مجالاً أمام وجود أرستقراطية وطنية، وفي حين كان لدى الآشوريين ذكرى واضحة لماضيهم، لم يكن لدى البابليين ذلك(81). قد يتوقع واحدنا أن تذوي الهوية البابلية بالكامل، ولو أنها ظلت موجودة فذلك ليس لأنها تذكرت ذاتها في العزلة، بل لأنها تسامت بذاتها واكتسبت احتراماً عالمياً: فاليونانيون انحنوا مذعنين لعلم التنجيم البابلي واستعاروه دون أن يخفوا أصله الكلداني(82)، ومن ثم فالكلدانيون استطاعوا أن يستعيروا الفلسفة اليونانية دون أن يفقدوا هويتهم. لقد ولّد إنصهار الوثنية اليونانية والبابلية مجموعة متنوعة من الديانات ذات العلاقة بالتنجيم والتي استطاعت، بعكس الوثنية الأم، أن تحافظ على وثنيتها في وجه الحقائق الفائقة للزرادشتية، والتي كانت، بعكس المسيحية، ممتلكة من قِبَل ماركة إثنية:الآشوري لم يمتلك غير هوية،والمسيحي لم يمتلك غير حقيقة، لكن الكلداني كان يمتلك هوية وحقيقة في آن. لذلك حافظ الوثنيون على تواجدهم في بلاد الكلدان. امتدّت المسيحية، بالطبع، إلى بابل؛ لكن في حين كانت في آشوريا طريقة لتكريس هوية إقليمية، فقد كانت في بابل طريقة لإزالة التكريس عن الهويتين. فبالنسبة لبيئة العراق الأدنى الكوزموبوليتانية العالية، كانت المسيحية، كالمانوية، احتجاجاً على الديانات الإثنية، وليس طريقة للوصول إلى ديانة إثنية: المانوية تسامت بالحقائق الكلدانية والفارسية عن طريق ضمها كأفكار أقل قيمة وذلك ضمن مخطط للأشياء أوسع وأكثر فخامة، أما المسيحية فقد فعلت الشيء ذاته عن طريق رفض الطرفين بوصفهما متماثلين. لم يفتقد مسيحيو العراق الأدنى الهوية قط: كانوا يضمون الفرس، اليونانيين، العيلاميين، الآراميين، القطرية، العرب وآخرين(83). ومثل الآشوريين، كان باستطاعتهم أن يسمّوا أنفسهم سريانه وذلك مقابل الوثنيين؛ لكنهم لم يتشاركوا بين أنفسهم بأية هوية قط: الهوية الوحيدة التي كان عليهم وراثتها كانت الكلدانية، وعندما غيّر الكلداني دينه رفض اثنيته كمجوسي وثقافته كزرادشتي(84). المسيحيون الآشوريون يمتلكون سابقة أصيلة لاسمهم، لكن المسيحيين لم يدعوا كلدانيين إلا بطريقة استعمال الشيء في غير محلّه(85). كان هنالك بالتالي نسختان متمايزتان عن المسيحية في الكنيسة النسطورية: فمن ناحية كنيسة آشوريا المحلية، وهي تأكيد شوفيني على هوية ريفية؛ ومن ناحية أخرى كنيسة فارس الحضرية والتي كان مركزها في بابل، وهي تأكيد كوزموبوليتاني على حقيقة أممية. لكن إذا أُمْكِن مقارنة كنيسة آشوريا في هذا الصدد بالكنيسة المصرية، فشوفينيتها أخذت شكلاً مختلفاً إلى حد ما. فقد احتفظت مصر بإثنية ولغة مميزتين لها ضمن طبقتها الفلاحية، في حين كانت طبقتها الأرستقراطية تنتمي إلى العالم الهليني الأكثر اتساعاً؛ آشوريا بالمقابل امتلكت طبقة أرستقراطرية مميزة لها، في حين شاركت العالم الآرامي الأكثر اتساعاً في إثنيتها ولغتها. وهكذا ففي حين كانت الشوفينية القبطية إثنية ولغوية، استدارت شوفينية آشوريا إلى ذكريات ماض مجيد. في هذا السياق فإن اهتدائين جاءا في الوقت المناسب أفادا في تنقية الملوك الآشوريين من سوء سمعتهم حيال الكتاب المقدّس. الأول هو سردانا، ابن سنحريب، الملك الثاني والثلاثون لآشوريا بعد بيلوس وحاكم ثلث العالم المأهول، والذي أذعن لرسالة يونان التوحيدية وشرّع صوم نينوى الذي أنقذ نينوى من الدمار(86) ؛ وبما أن الصوم أنقذ الآشوريين من غضب الرب في الماضي، فقد أعاد تشريعه سابريشو من كرخا دي بيت سلوخ لإنقاذهم من الوباء بعد ألف سنة(87).و الثاني هو إعادة تحرير نسخة اعتناق إيزاتيس الثاني الذي من أديابين اليهودية في نسخة اعتناق نارساي الآشوري المسيحية(88). كان هذا يعني أن الآشوريين كانوا موحدين قبل المسيح ومسيحيين بعده، والماضي بالتالي قاد نحو الحاضر دون أي شرخ. وهكذا فتاريخ كارخا دي بيت سلوخ يبدأ بالملوك الآشوريين وينتهي بالشهداء الآشوريين: فرعون أسسه(89) والشهداء جعلوه «حقلاً مباركاً للمسيحية»(90). يشبه ذلك أنه في القرن السابع قبل المسيح وقف العالم كله مرعوباً من ساردانا(91)، وفي القرن السابع بعد المسيح احتل القديسون مكانه باعتباره «شمس آثور» و «مجد نينوى»(92). بالمقابل، فالكنيسة في بابل، لم تكن تمتلك فخار مصر اللغوي والإثني ولا فخار آشوريا التاريخي. وبالمقارنة مع مصر فقد حددوا هويتهم كأغيار(93) واستخدموا الفارسية والسريانية على حد سواء(94). وبالمقارنة مع آشوريا، فقد تخلّوا للوثنيين عن الماضي البابلي: فنمرود، الذي هو في آشوريا أحد الأسلاف من الملوك والذي كانوا يحتفلون بذكراه تحت أسماء القديسين المسيحيين(95)، احتُفِظ في بابل بمماثلته مع زرادشت(96) فأضحى إما مرفوضاً كمؤسّس للوثنية الفارسية(97) أو اُدْخل في حل استرضائي باعتباره المرشد الذي يوحى إليه والذي قاد المجوس في البحث عن المسيح(98)؛ لكنه في كلا الحالتين ظل غريباً. كذلك فبقدر ما أن التقليد الذي مثله ايشوداد المسيحي الذي من مرد يبدو مفصولاً بالكامل عن الماضي البابلي، رغم ضخامة تعاليمه، بقدر ما أن التقليد الذي يمثله ابن وحشية يبدو في علاقة حب كاملة مع الماضي البابلي، رغم ضخامة أخطائه. مع ذلك فقد اختلفت الكنيستان الآشورية والبابلية على حد سواء عن كنيسة مصر في توجههما الأرستقراطي؛ الأولى لأن هويتها الآشورية أُلْبِسَت ثوب أرستقراطية وطنية، والثانية لأن الإنفصال عن هوية وطنية سمح لها بقبول كامل للقيم الأرستقراطية الفارسية. وهكذا فنبلاء الكنيسة الآشورية هم الذين كوّنوها: التسلسل اللانهائي للفلاحين في أقوال آباء الكنيسة المصريين يفسح المجال هنا إلى تسلسل لا نهائي لعلّية القوم في أعمال الشهداء الفرس، وفي حين أن عليّة القوم المصريين لم يستطيعوا افتداء مكانتهم الدنيوية إلا بالمضي نحو المونوفيزية، فالمصادر النسطورية تطفح فعلاً بالإقرار الشرعي بالطبقة الأرستقراطية(99). إن خوف آشوريا على نمروداتها أو سنحاريباتها المحليين مقترن باجلالها الحضري للسلالة الملكية لأي سابا، يوحنان، أو غوليندخت(100)، والنساطرة بالتالي كانوا متوحدين في تقديرهم العالي للسلطة، الثروة، وللشهرة الدنيوية(101). والواقع أنه من حين لآخر كان تعصّب الشاهنشاهات يحول دون العمل في البلاط الملكي(102) ؛ مع ذلك فالأقطاب المحليون استطاعوا البقاء في السلطة، كما لعب العلمانيون دوراً بارزاً في الكنيسة النسطورية، أما الشاهنشاهات المتسامحون فقد كانوا يتلقون الخدمات الطوعية لمواليهم المسيحيين(103)؛ من بين كل العلمانيين نجد يزدين الكركوكي الموظّف الأميري المسؤول عن الضرائب والجزية والغنائم لخسرو الثاني، والذي كان مبجلاً باعتباره «المدافع عن الكنيسة بطريقة قسطنطين وثيودوسيوس» (104). وهكذا فالنساطرة كانوا متشابهين في اتحاد موقفهم من الملك الفارسي: فالجميع قبلوا بالتفوق السياسي للإمبراطورية الفارسية، وحتى الآشوريين لم يكن باستطاعتهم أن يأملوا بإعادة إحياء سنحاريبية؛ لكن ما أثار حنقهم كان تعصب الزرادشتية الإثني، لذلك فقد كان هدفهم هداية الشاهنشاه إلى المسيحية وليس الإنفصال عن حكمه(105). كأعضاء في كنيسة أرستقراطية كان النساطرة يختلفون أيضاً عن الأقباط في امتلاكهم لثقافة علمانية غنية: فتقديرهم الرفيع للسلطة الدنيوية كان مقترناً بتقديرهم الرفيع للعقل البشري،وهي مسألة صادق عليها اللاهوت النسطوري. كان مرجعهم الرسمي، وهو ثيودوروس المصيصي، يعرف بالطبع عقيدة سقوط آدم التقليدية، والتي ترى حالة الخلود والمباركة الأولى قد عُطِّلت بالإثم وأفسدت على نحو تصاعدي وذلك حتى العودة الدرامية للنعمة مع الموت الخلاصي ليسوع. لكنه كان يعلّم أيضاً عن عقيدة أخرى تحكي عن حالة نقص أوّلية تقدّم الإنسان منها في ظل الهداية الإلهية حتى أُعيد اكتساب الخلود مع قيامة المسيح الأمثولية(106). وهكذا فقد أكدت العقيدة الأولى على حاجة الإنسان للنعمة، في حين أكدت الأخرى على قدرته على مساعدة ذاته: إذا كان للتوجيه الإلهي أي تأثير فالإنسان يجب أن يكون بالضرورة قادراً على التمييز بين الخير والشر وأن يعمل بما يمليه عليه عقله، ولذلك يجب أن يكون الشر فعلاً للإرادة وفعلاً ضد المعرفة الخيّرة(107). هذا الرأي الثاني هو الذي اختاره النساطرة، وإذا لم يمضوا في طريقهم نحو البيلاجية(108)، أو يختزلوا الفداء إلى مجرد رمز لخلود مستقبلي(109)، فهم حتماً عظّموا العقل على حساب النعمة(110). لقد أدى امتلاك التفكير العلماني لملاذ آمن اجتماعياً وعقائدياً إلى أمرين بالنسبة للثقافة النسطورية. أولاً، في حين كانت الكنيسة القبطية ريفية جلفة، كانت الكنيسة النسطورية أكاديمية. بل إن أكثر ما يلفت النظر في المسألة، هو أنها دشنت واحدة من مدارس اللاهوت التي لا علاقة لها بالأديرة القليلة العدد في الشرق الأدنى وذلك حين هاجرت مدرسة الرها إلى نصيبين(111)، ونصيبين بدورها أوجدت سلسلة مدارس أخرى أصغر منها حجماً؛ كذلك فقد دشنت مدرسة ثانية مع استقرار سجناء الحرب في جنديسابور(112). وبشكل عام فقد تكرّر تأسيس المدارس الواحدة تلو الأخرى في حياة وجهاء النساطرة، والقليل من الأديرة كان دون مدرسة (113). ثانياً، في حين رفضت الكنيسة القبطية الفكر اليوناني باعتباره فكراً وثنياً من الناحية الأخلاقية، فقد أضفت عليه الكنيسة النسطورية صفة شرعية باعتباره مسيحياً جاء قبل أوانه. لأنه لم تكن ثقافة آشورية تلك التي كانت تُعَلَّم في المدارس الآشورية: الإفقار الثقافي في آشوريا لم يكن أقل انتشاراً من الإفقار الثقافي في مصر، وكما كان الإرث المصري في الأدب القبطي محدداً بمقولات من القصص الشعبي، كذلك تماماً كان الإرث الآشوري في الأدب المسيحي محدداً بأحيقار، وزير الملوك الآشوريين(114). لكن بعكس الفلاحين المصريين، استطاعت النخبة الآشورية استعاضة ما فقدته بالحقائق الشاملة للفلسفة اليونانية. فهم لم يترجموا الفلاسفة فحسب بل مجّدوهم(115)، وفي الوقت المناسب صار النساطرة ماهرين في الفلسفة بما يكفي لأن يصدّروها إلى العرب من جديد(116). في الوقت ذاته فإن مصير الرهبنة عند النساطرة كان بالتالي مختلفاً عن مصير الرهبنة بين المونوفيزيين. فقد بدأت مسيحية مابين النهرين كحركة رهبانية وفق الأنموذج السوري، مع كنيسة أبرشية مكّونة من «أبناء العهد»(117) المنذورين. لكن كما وجد القبط أن باستطاعتهم أعادة بناء مصر المقدسة في الصحراء، كذلك تماماً وجد الآشوريون أن باستطاعتهم إعادة خلق صورة لنظام حُكْمهم حول طبقتهم الأرستقراطية. لذلك يبدو مفاجئاً، أن النظام النسكي قد استؤصل بالفعل، وذلك مع تبني العقيدة النسطورية: لم يبق من «أبناء العهد» إلا الاسم(118)، فألغيت عزوبة رجال الدين(119)، ولم تعد الرهبانية تحظ بالتشجيع(120). بالمقابل فحين عادت النسكية في نهاية الأمر، كانت في شكل جديد ومختلف. وكما في مصر، فقد نُظِّمت الرهبانية وفق الأنموذج الباخومي؛ مع ذلك فمقارنة بمصر كان الرهبان لا يمثّلون سوى مرحلة إعدادية في المسيرة الروحانية. وكما في سوريا، فإن النساك هم الذين حافظوا على فخار المكان؛ مع ذلك فمقارنة بسوريا كان سبب وجودهم إيفاغرياًEvagrian (121). وهكذا لم يكن لدى العراق كيبوتزيم: لم يكن النساطرة ينفرون من السكن في الصحراء، لكنهم كانوا يفعلون ذلك بسبب العزلة التي تصاحب هذا السكن، وليس كي يزرعوا الزهور في الرمال. لكن بالمقابل، لم يكن لدى العراق قديسون عموديون: فالنساطرة لم يكرهوا إماتة الجسد، لكنهم كانوا يفعلون ذلك ليعفوا أنفسهم من الخدمة الكهنوتية المرهقة بسبب متطلباتها التي لم يكن لديهم لها وقت ولا تفكير لأنهم كانوا يلاحقون الرؤيا السرانية لله، وليس لمعاقبة الجسد على خطاياه(122). بالمقارنة مع مصر وآشوريا فإن إقليم سوريا المتشظي لم يمتلك قط لا هوية ولا هويتين، وعوضاً عن ذلك كان مشكّلاً من مجموعة وحدات دقيقة سياسية، إثنية ودينية. ما من أحد كان يتذكّر في مصر تلك الأيام التي كان فيها لكل ولاية ملك، أما اللقب الفرعوني فلا يُذكّر إلا بأن البلد كانت ذات يوم مملكتين؛ بالمقابل ففي سوريا كان الجميع يعرفون أنه، قبل أيام أغسطس، كان لكل مدينة، وعملياً لكل قرية، ملكها الخاص بها(123). كذلك فقد كان لمصر اثنيتها الوحيدة والفريدة، لكن سوريا كانت مقسّمة بين الفينيقيين، الآراميين، اليهود، الكنعانيين، العرب، إلخ؛ وفي حين كان لمصر ديانتها الوحيدة والفريدة، كانت تعددية الملوك المحليين في سوريا مقترنة بتعددية بعليم (جمع بعل)محليين. إن تأثير الغزو الغريب على مجموعة الهويات ذات النطاق الصغير هذه كان مدمّراً. فمن ناحية لم يكن ثمة فرعون سوري للأنباط أو لزنوبيا كي يستردوه، أو للسلوقيين وللرومان كي يرثوه؛ وحب الهلينية بالنسبة للإثنين الأولين يقترن بفشل الإثنين الآخرين في إدامة أي بنىً سياسية محلية(124). ومن ناحية أخرى لم يستطع الغزاة ترك الريف وشأنه. وبعكس البطالمة الذين استطاعوا حكم مصر باسكندرية ضد ممفيس وبطليماس ضد طيبة، كان على السلوقيين أن يبنوا مدينة لكل ملك مدينة؛ وحين استطاعت الهوية الوطنية لمصر أن تهدّد باستيعاب اليونانيين، لم تستطع إثنيات سوريا الوطنية سوى أن تخسر كياناتها الفردية لتبزغ كإثنية آرامية مقابل اليونانيين. وهنا كما هناك، حافظ الكهنة على وجودهم. لكن بسبب السمة المتشظية للتقاليد التي كانوا يمثلونها، وتعرضهم الكامل للهلينية، فقد كانت قدرتهم على حفظ الهوية الوطنية بالضرورة محدودة جداً. فمن منظور ثقافي، لم يكن ثمة مانثو Manetho أو بيروسوس Berossus سوري: وفيلون الجبيلي، الذي دوّن التقليد الفينيقي، لم يكن كاهناً محلياً بل أنتيكياً يكن حباً هلينياً للعلوم السرية الشرقية(125)؛ في حين أن هليودوروس، الذي ربما كان كاهناً في حمص Emesa، كتب كروائي يكن حباً هلينياً للعجائب الشرقية(126). من الناحية السياسية، لم يكن لدى الكهنة السوريين ما يحاربون لأجله أو يبكون عليه: فأورانيوس انطونيوس الذي صدّ الفرس بالحمصيين المحليين، لم يكن ايزودورس الذي حارب الرومان بالبوكولوي boukoloi(127) المحليين؛ في حين أن جوليا دومنا كانت تطمح إلى صنع أباطرة رومان، وليس ملوكاً سوريين، تماماً كما أن نوستاليجيتها كانت للوثنية اليونانية عموماً، وليس لطقوس حمص المقدسة على نحو خاص(128). وهكذا اختفت أشكال الحكم الوطنية ليس فقط مادياً، بل أيضاً أخلاقياً: فكما استطاع إيونوس Eunus الذي حمسته الإلهة سيرا Dea Syra كي يحارب من أجل حريته الشخصية في صقلية الرومانية القديمة أن يعلن أنه ملك هليني ليس إلا(129)؛ كذلك تماماً فإن ثيودورتيس الذي ألهمته مسيحيته كي يدافع عن استقلاليته الثقافية في أواخر العصر الروماني في سوريا استطاع استعمال الملوك الفينيقيين ليزعم فقط عن امتلاك سابق لحقيقة يهودية(130). وحدها الرها، التي حافظت على استقلال متقلقل وفق الأنموذج الآشوري حتى عام 216، حافظت على ذكرى ملوكها المحليين(131)؛ وفي حين كانت اديابين حكومة خلافة آشورية، فإن اوسرهونة Osrhoene لم تكن مملكة متياني شاحبة(132). لكن من كان السكّان الآراميون لمدينة يونانية محكومة من سلالة ملكية عربية بين فارس وروما، حين هم بلا ماض(133)؟ لقد اختفى ملوك المدن وذكرياتهم بالضرورة من أرض البشرعلى حد سواء، ومعهم اختفت الهويات التي أُضِفيت عليهم. وظل إقليم مصر الروماني كيمه Kème، فكيمه هي التي حافظت على وجود الغزو الغريب، لكن فينيقيا كانت مجرّد إقليم روماني، فسوريا كانت النتاج لغزو أجنبي(134). على نحو مشابه، فالثقافات المحلية جرى طمسها. وفي حين كانت الفعاليات الفكرية اليونانية في مصر مركزة على نحو كبير في الإسكندرية، كان في سوريا الكثير من تلك المراكز. فالكهنة المتهلينون ونخبة مدنية كانوا موجودين في كل بقعة من تلك الأرض، وهكذا فقد قبلت سوريا الوثنية بالثقافة اليونانية باعتبارها محلية أخلاقياً: كُرِّس يوليانوس على يديّ كاهن سوري، والكاهن السوري أرسل ابنه إلى مدرسة يونانية(135)؛ الأباطرة كافأوا أبناء الإقليم السوريين بمنصب محلي، وأبناء الإقليم السوريون تلقوا تعليماً يونانياً - رومانياً(136). لذلك لن نتفاجأ إذا ما وجدنا سوريا تقدّم سرباً من الأدباء المتهلينين لم تقدّم مصر ما يوازيهم لا كماً ولا نوعاً: ربما أن بوسيدونيوس الأفامي كان من أصل يوناني، لكن بورفيريوس وامبليخوس كانا سوريين حتماً؛ أما أميانوس مارسيلينوس الأنطاكي الذي كتب باللاتينية فكان على الأرجح يونانياً، لكن لوقيانوس السميساطي كان حتماً سورياً يكتب باليونانية وهلم جرى. في هذه الظروف فإن البنيان المعرفي للهلينية لم يستطع، كما في مصر، أن ينحط بحيث يترك السكان المحليين يكتوون بنار خرافاتهم. الوجه الآخر للتسامح الثقافي هو التعددية الثقافية، وإذا كان المصريون قد وجدوا أن سوقهم الثقافية راكدة في عزلة عن العاصمة الهلينية، فالسوريون بالمقابل وجدوا أن سوقهم الثقافية مغمورة حقاً بحقائق منافسة من المدن القريبة. التعددية الثقافية طبعاً هي ظاهرة مدمرة دائماً، وما من أحد في مصر الأنتيك المتأخر خرج منها معافى بالكامل. لكن إذا كان السوريون امتلكوا هوية راسية برسوخ في شكل حكم أو اثنية أو ماض أو إله اثني، أو في الأربعة جميعاً وفق الطريقة اليهودية، فقد كان من الصعب عليهم الاسهام بتلك المشاركة غير المتناسقة في عصر القلق اليوناني - الروماني.واليونانيون والرومان، لأنهم اخترعوا الحضارة، نجوا من الخطر دون اغتراب غير ملائم عنها(137) ؛ في حين أن اليهود، لأنه كانت لهم هويتهم الفريدة، استطاعوا أن يرفضوا الحضارة دون أن تترك توتراً غير ملائم على تقليدهم الذاتي(138). لقد عرف المصريون كذلك من هم كانوا، حتى لو أن حقائقهم كانت قد بدأت تترنح(139)؛ ولو بدأ الكون يظهر مقلقلاً، فقد كان لديهم على الأقل تقنية عريقة لجعله فاعلاً في السحر - فن محلي للأنتيك العظيم في مصر والذي كان خارجها مجرد سبيل آخر في الزحف العام نحو الموثوقية والحقيقة(140). بالمقابل، فحقائق الحرانيين لم تستطع أن تتداعى، حتى لو كانت لديهم شكوك ربما بشأن من كانوا: كمواطنين محليين من بابل، كانت لديهم ديانة تنجيمية تفوق بالكامل تقلبات العالم الدنيوي(141). لكن غالبية السوريين كانت أقلّ حظاً. وإذا كانوا قد حصلوا على أكثر من حصتهم من القلق، فذلك لأنهم كانوا نسيج وحدهم في فقدانهم الكامل لهوياتهم وحقائقهم لصالح ثقافة تخلت بالكامل عن مسؤولية الحلول محل تلك الهويات والحقائق. وهكذا فقد كانوا محرومين على نحو فريد من البديهيات والتي يقيّمون بها البضاعة الغريبة المقدّمة لهم ويدمجمونها. فهم لم يستطيعوا من ناحية أن يسلّموا بصحة شيء: فهم لم يفقدوا آلهتهم الوطنية فحسب، بل نسوا أيضاً ما اعتادت الآلهة على قوله. ومن ناحية أخرى، لم تكن ثمة مجموعة آلهة واحدة يستبدلون بها آلهتهم، بل كثرة مضطربة من آلهة مختلفة بشرائع مختلفة لأناس مختلفين(142). ودون يقينيات فهم لم يستطيعوا أن يرفضوا ويوفقوا، ودون رفض أو توفيقية لم يكن باستطاعتهم الحفاظ على عالمهم في حالته الصحيحة؛ ولأن الحقيقة لم تعد واحدة، فقد تعهّدوا المبدأ النسبي، وهو مرض بعل ثقافي أفسحت فيه لغة الحقيقة الفائقة السلفية المجال أمام لهجات لا حصر لها ذات تداول محلّي صرف(143). إن فقدان واقع بديهي كان يعني فقدان القدرة على خلق معنى لتلك المشاكل التي تهدّد على نحو متكرر بابتلاع العالم البشري لنظام مليء بالمعاني - المرض، الشر، الجنون والموت؛ ولان العالم كان مجرداً من معنى الفطرة السليمة، فقد أُعيد إسكانه عوضاً عن ذلك بالشياطين الكابوسيين. لم يكن السوريون نسيج وحدهم طبعاً في مطاردة الشياطين لهم؛ فقد كان التدخل الشيطاني الطريقة الوحيدة التي عبّر بها كون متفسّخ للجنس البشري عن حالة الفوضى التي يعيشها في نهاية عصر الأنتيك(144). لكنهم كانوا نسيج وحدهم حتماً في المعدل والقوة اللذين ضربتهم بهما هذه التواصلات الشيطانية. وكما كان على أولئك الذين أكلوا للغاية من شجرة المعرفة أن يعانوا من أكثر أنواع السقوط المعرفي كارثية إذا صح القول، كذلك تماماً هي حالة أولئك الذين ابتلوا بأكثر التطفلات استحواذية وغولية من العوالم المجهولة. لقد مالت هذه التطفلات خارج سوريا لأن تمثّل مناطق من اللغو، الإثم والشر مطوقة محصورة في عالم ظل بالإمكان حمله على تقديم معنى(145)؛ لكنها في سوريا مالت إلى التفشي في العالم، ملوثةً الإنسان والمادة بِشَرٍ تجاوز المخيلة البشرية(146). مع المسيحية، عاد المعنى والنظام: الحقيقة عادت من جديد، ومن جديد عرفت هويات المتطفلين المرعبين والطريقة التي كان يجب معاملتهم بها على حد سواء. لقد تلقّى السوريون كزهّاد أسلحتهم لمحاربة النسل الشرير للاختلاط الثقافي، وكزهّاد دخل السوريون الكنيسة: «أبناء العهد» الذين شكّلوا الكنيسة الأولى كانوا منذورين nazirs، فهم عزّاب امتنعوا عن الخمر واللحم وفق التقليد النذوري القديم(147). مع النذورية المسيحية عادت النعمة إلى عالم ساقط: وحدهم المنذورين كانوا يستحقون أن يتلقوا التعميد والأفخارسيتا(148) ؛ وكل من عداهم كانوا مجرد أشخاص يُحَضّرون للتعميد واعتناق المسيحية. لكن إذا كانت النعمة قد فعلت شيئاً لتعويض آثار السقوط من الجنة، فالجنة ظلت غير مستعادة. فمن ناحية، لم يكتشف السوريون في اكتشافهم لحقيقتهم الجديدة هويتهم القديمة: فآراميو سوريا ظلوا غير فينيقيين. ومن ناحية أخرى، فحقيقتهم الجديدة لم تمنحهم إثنية جديدة: فآراميو سوريا ظلّوا غير يهود. نظرياً، ربما بقوا آراميين طبعاً بطريقة النساطرة(149)؛ لكنهم لم يستطيعوا ذلك عملياً. ولأنهم فقدوا كنوزهم الخاصة، لم يكن باستطاعة السوريين سوى ربط الهوية الآرامية بالوثنية اليونانية التي أدّت إلى هذا الضياع(150). وهكذا فإن قابلية الحرّانيين الوثنيين للاحتفاظ بالهوية هي الوجه الآخر لإنكارها من قبل السوريين المسيحيين: فبفضل المطابقة بين الآراميين والهلينيين والوثنيين(151)،شكل الحرانيون ملّة كما فعل الكلدانيون تماماً، أي هوية وطنية منصهرة مع وثنية مختارة وجماعة دينية سوف تُسْتَرد ذات يوم كشكل للحكم(152) ؛ في حين أن السوريين، بفضل المطابقة بين السوريانه والمسيحيين، تخلّوا عن إثنيتهم الوثنية من أجل مسيحية أممية وأورشليم سماوية سوف تسترد ثانية عند نهاية الزمان فقط. بكلمات أخرى، كان السوريون الضحايا المزودجين لتعددية متآكلة ووحدانية أممية. فكسوريانه، نجد أنهم صُنِّفوا مع الآشوريين الذين أطاحوا بثقافتهم في الماضي، وهي تسمية خاطئة كانوا يدينون بها للإغريق الذين استمروا في طرحها في الحاضر(153). وكمسيحيين، كانوا متميّزين عن الآراميين الذين حافظوا على ما تركه الغزاة من التقليد الوطني. كسوريانه كانوا قرويين محليين، وكسوريانه كانوا منفصلين أيضاً عن ريفهم الإقليمي الخاص. وكان باستطاعة المسيحية أن تخبرهم بما كانوه أمام الله والشيطان، لكنها لم تستطع أن تقول لهم ما كانوه في هذا العالم. وبما أن عيون شبكة الحضارة اليونانية - الرومانية أغلقت عليهم، فما صار يهم كان على وجه التحديد ما كانوه أمام اليونانيين. وبالنظر إلى أن هويتهم السورية كانت فارغة، كان يمكن للمرء أن يتوقع منهم ردة فعل بأن يصيروا يونانيين - سواء بالانتقاص من قيمة أصلهم الريفي للإندماج مع عالم حضري وذلك وفق طريقة القاريين Carians القدامى، أو بتعظيم قيمته للمحافظة على نوع من التمايز ضمن ذلك العالم وفق طريقة النبطيين المعاصرين لهم. وإذا كان الإسكندر قد سرق هويتهم، فربما أنهم بالمقابل سرقوا هويته كي يدّعوا أنهم سوريون مقدونيون(154)، أي أحفاد المستوطنين المقدونيين الذين انطبعوا بالصبغة الآرامية - إعادة تعديل للنسب استطاعت قصة الإسكندر المحلية تقديم وسيلة مناسبة لها كي تنتشر. مع ذلك فهم لم يصبحوا يونانيين. فالسوريون - المقدونيون تُركوا كي يموتوا دون خلائف، وهكذا فقصة الإسكندر المحلية ليست سوى اسكاتولوجية(155). إن السبب لهذا العوز الواضح للمخيلة بَيّن كفاية: إن العوز لأي دمج بعيد المرمى بين الحقيقة والهوية والذي مكّن الآشوريين من تبني مسيحية يونانية - رومانية دون أن يصبحوا يونانيين هو ذاته الذي أدّى إلى حرمان نسب يوناني من جاذبيته للسوريين. ربما أن كلاً من أفلاطون وأغسطس يمتلك شرعية معينة بأنه كان لهما بعض الفضل في المساهمة بانتشار المسيحية بطريقة أو بأخرى، لكنهما لم يستطيعا أن يصبحا مسيحيين أساساً: إذا لم يكن أفلاطون غير موسى يتحدّث اللغة الأتيكية(156)، فيسوع ظلّ غير يوناني، وإذا كان أغسطس وحّد العالم من أجل عودة المسيح(157)، فقد ظلّ غير يهودي. فقط عندما سقطوا جميعاً ضحايا للغزو العربي ذاته، بدأ يلوح عليهم أنهم كلّهم كانوا من الأرومة ذاتها: فقد راح النسب الرومي يثبت أنه جذاب فعلاً بالنسبة لمسيحيي الجزيرة من القرن العاشر، وهو ما لم يكن بالنسبة لمسيحيي بلاد مابين النهرين في القرن السادس(158). كذلك فالسوريون لم يستطيعوا أن يبقوا ببساطة سوريين حينما كانوا يتبنون الثقافة الهلينية وفق طريقة الرومان: إن إضفاء صفة الأمّة، سواء على الزيت أو على الثقافة، يتطلب أمة، وفي حين امتلك الرومان أمة نشيطة بحاجة إلى حضارة، امتلك السوريون حضارة محتضرة بحاجة إلى أمة(159). وهكذا فمقابل التبنّي الروماني لنسب ضد - يوناني من الملحمة الهوميروسية(160)، لدينا العجز السوري عن فعل أي شيء غير ترجمته لأحد الخلفاء العرب(161)؛ ومقابل روما الجمهورية التي دافع فيها كاتون Cato عن صحة ماض قومي قاس في حين واصل سيبيون Scipio عملية إضفاء الصبغة القومية على الثقافة اليونانية، لدينا سوريا المسيحية التي لم يستطيع فيها سوريوس سبوخت سوى المدافعة عن الكمالية الثقافية للأمم غير اليونانية عموماً، في حين كان يحاول إضفاء الصبغة القومية على علم الفلك باعتباره بابلياً(162). لكن إذا لم يستطيعوا الحفاظ على هويتهم وتأميمها، فهم بالاحرى لم يستطيعوا رفض الثقافة اليونانية ببساطة والمضي كبرابرة - الخط الذي أخذه على نحو صريح أو بشكل ضمني الكتّاب المعادين لليونان adversus Graecos من تاتيان(163) إلى ثيودوريتوس(164). والحقيقة أن هذا الخط، بالطبع، نال جوائزه في بداية الأمر: فيسوع لم يكن يونانياً والشهداء الذين ألبسهم الظلم اليوناني- الروماني تاجهم كانوا إلى حد كبير الكنز الخاص بالبرابرة(165). لكن كان واضحاً أنه خط دون مستقبل: ففي نهاية الأمر تبنى الهلينيون الحقيقة البربرية، وهذه الحقيقة بحد ذاتها لم تقدّم إثنية ولم تكرّس أخرى. لقد كان الماضي المسيحي يهودياً وهو بالتالي لا سبيل إليه(166)؛ أما الحاضر المسيحي فقد كان أممياً وهو بالتالي غير متجانس ثقافياً. وبالنسبة لأولئك الذين كان لديهم هوية، فقد قدّم هذا وسيلة نجاة مناسبة من الاغتراب الثقافي: فأورشليم السماوية، بحمد الله، لم تكن منافساً جَدّياً لروما أو أثينا أرضيتين. لكن بالنسبة لأولئك الذين كانوا بحاجة إلى هوية، فقد كان ذلك يعني أن السبي المسيحي على الأرض صار عينياً بطريقة مريعة: إذا كان لدى اليهود الجاهلية والسماء القدس، فإن شيئاً لم يبق أمام السوريين سوى التحضّر للموت وانتظاره. أثناء ذلك، ربما حاول أحدهم بالطبع أن يطوّق المشكلة عبر الإلحاح على أن النسب غير مهم أساساً. فاليونانيون ليسوا أفضل من البرابرة، لأنهم كلهم ينحدرون من آدم(167)؛ واللغة الأتيكية ليست أفضل من باقي اللغات، لأنها كلّها تقول الشيء ذاته(168)؛ والهلينية ليست أفضل من بقية الثقافات، لأنهن جميعاً مبدعات على نحو متعادل(169). وإذا كان كلّ الناس من آدم وآدم من تراب، فما من سبب يفسّر لماذا يجب أن يحتكر اليونانيون الثقافة اليونانية(170) ؛ لكن بالمقابل، إذا كانت الثقافة اليونانية تنتمي إلى البشر جميعاً، فليس هنالك ما يجعلها سوريةً تحديداً(171). وهكذا ظلت المشكلة: اليوننة لم تكن حلاً؛ وإضفاء الصبغة القومية على الثقافة اليونانية لم يكن باستطاعتهم لأنهم كانوا يفتقدون الأمة - لم يكن لديهم سوى أسلاف روحانيين؛ ورفض الثقافة اليونانية لم يكن باستطاعتهم لأنهم افتقدوا البديل - لم يكن لديهم سوى ثقافة روحانية. وهكذا فمعضلة السوريين كانت مشابهة لمعضلة أبناء عمومتهم البونيين في شمال إفريقيا، والذين على نحو مشابه تدبروا أمرهم كي يتمسّكوا بتمايزية إثنية ولغوية واهية دون غيرها: فلاتينية فينقيي شمال إفريقيا لم تكن أكثر من يونانية سوريي فينيقيا. لكن إذا كانوا تجنّبوا أن يمُتصوا حين كانت عيون الشبكة واسعة، فهم لم يكن لديهم ما يحاربون به حين ضيقتها المسيحية إلى حجم ثقب إبرة؛ والطرفان على حد سواء اخُتزلا إلى هروب غبي، إلى فرار جماعي مذعور من الحضارة والحياة ذاتيهما، مطوحين بأنفسهم من على الصخور، رامين بأنفسهم إلى الوحوش الضارية، مضرمين النار في أنفسهم، أو أنهم كانوا فقط يهيمون حتى الهلاك، في الصحراء، حيث كان الرهبان المتأخرون سيجدون جثثهم المتجففة ويتعجبون منها(172). مع حلول القرن الرابع بدا أن قدر فينيقيي شمال إفريقيا هو الانقراض بطريقة أو بأخرى، ومقابل انتحارهم المُحاول، لدينا قراءة القديس أغسطينس للسالوس ( « ثلاثة») البوني باعتباره بشيراً لاستيعابهم الوشيك من قبل خلاص Salavito لاتيني(173) . لكن حين قرّر السوريون ذات مرة أن يحافظوا على نسبهم، لم يكن ثمة سؤال حول تملّق الخلاص Sotéria اليوناني لهم أو إجبارهم على أن يُستَوعبوا من قبله. مسيحيون أمام الله وريفيون أمام اليونانيين، لم يكن باستطاعة السؤال غير أن يكون كيف كان عليهم أن يعطوا معنى لمكانتهم الإزدواجية. الجواب هو أنهم لم يستطيعوا أن يعطوا ذلك. من الممكن تماماً أن تخلق فضيلة مسيحية من هوية محلية، وهذا تحديداً ما فعله المصريون والآشوريون. لكن ضمن ثقافة مسيحية لا يمكن أن تخلق فضيلة محلية من هوية مسيحية، وهو ما حاوله السوريون. لقد كان السوريون أبناء للمسيحية بمثلما كان الباكستانيون ابناء للإسلام. في كلا الحالتين حدّدت الديانة أتباعها خارج نسيجهم العلماني، آرامياً كان أم هندياً؛ لكنها تفشل في الحالتين على حد سواء في تقديم بديل، المسيحية لأنها لا تكرّس أية إثنية، والإسلام لأنه يكرّس إثنية تبدو بعيدة جداً، رغم الجهود الباكستانية الحثيثة. ومثل مصر وآشوريا، طوّرت سوريا مسيحيتها الإقليمية، المتميزة عن بقية العالم المسيحي وذلك بوساطة إحدى الهرطقات من ناحية ونظام رهباني لنوعها الخاص من ناحية أخرى. لكن مصر كانت لديها المضامين التي ستحمل الماركة، في حين كان على سوريا أن تبحث عن مضامين من الماركة ذاتها؛ وعلى الرغم من الجهود السورية، فحتى المسيحية الهرطقية لا تكفي لصنع إنسان. فدون إثنية، دون جاهلية، ودون أثينا، لم يكن لديهم شيئاً كي يكونوا، كي يبكوا على هذا الجانب من جنة عدن أو يحبوه. وبما أنه لم يكن لديهم ما يمكن استرداده غير جنة عدن، فقد وضعوا أعينهم على إعادة غزو السماء - الأرض التي غادر إليها الشهداء، وليس الأرض التي جاءوا منها. لقد ظلّ السوريون منذورين(174) أساساً. لكن مفهوم الكنيسة المتهلين خرج ناجحاً رغم الصعوبات طبعاً: فمع نهاية القرن الثالث أو بداية الرابع(175) تم قبول المتحضرين للعماد السابقين في عضوية كاملة، ومع تحوّل «أبناء العهد» إلى مجموعة منعزلة تم جلبهم تدريجياً إلى سيطرة الإكليروس ومن ثم استيعابهم من قبل الرهبان من ناحية ورجال الدين الأدنى مرتبة من ناحية أخرى(176)؛ وبعد ذلك لم يستمر الرأي القائل إن كل مسيحي هو راهب إلا بين المساليين وغيرهم من الهراطقة(177). لكن سوريا لم تستفد كثيراً من فكرة جماعة المؤمنين ekklesia؛ وإذا لم يعد باستطاعة الكنيسة أن تكون عهداً، فقد صارت عوضاً عن ذلك رهبانية على نحو طاغٍ، وضمن رهبانيتها توجهت على نحو طاغ نحو النذورية الإنعزالية(178). وفي حين كان للأقباط كيبوتزاتهم وللنساطرة سرانياتهم المثقفة، كانت الكنيسة السورية محكومة برجال أخذوا على عاتقهم أن تظل على قيد الحياة، لكن لفترة قصيرة فقط. لقد ظلّ العالم بالنسبة لهم أساساً سدوم وعمورة اللتين ليس بالإمكان أن يكون فيهما شيئاً مقدّساً واللتين على الراهب أن لا يستدير لينظر إليهما ثانية أبداً، فما أن قرر ضمّ نفسه إلى رياضيي المسيح المنعزلين أولئك الذين حاربوا أنفسهم حتى سيطروا على الشياطين(179)، حتى بدا أن الدور المناسب الوحيد الذي كان باستطاعته التعامل عبره مع العالم الذي تَرَكه هو دور طارد الأرواح الشريرة(180). كانت الأمثولة المصرية أنه على الرهبان أن يعملوا، يناموا، يأكلوا ويصلّوا معاً، أن يعملوا حتى على حساب الصلاة؛ لكن بالنسبة للسوريين لم يكن باستطاعة الرهبان سوى أن يقصروا أهدافهم على أمثولة استخدام اليدين فقط للصلاة، وتحمّل الجوع، العطش وصلوات المساء،كلٌ لوحده(181). لقد ترك الأقباط حضارة كي يبنوا غيرها في الصحراء، حيث راحوا يحاربون شياطينهم اليونانيين عن طريق جعل الصحراء مزدهرة؛ لكن السوريين تسلّقوا الأعمدة، تاركين البشر من أجل السماء، محاربين العالم بإماتة الجسد. كان باستطاعة الأقباط الأمل بتكريس مصر، لكن السوريين لم يأملوا إلا بتكريس أنفسهم، إلا بالصعود إلى السماء عبر الهبوط إلى الجحيم وانتظار أن تشعّ نعمة الله من بين أقذار ترابهم الأرضي(182). كذلك لم يكن هنالك الكثير مما باستطاعة السوريين فعله بالكهنوتية الهلينية. فكما كان «أبناء العهد» والنساك هم الممثّلون للكنيسة السورية وليس الأبرشيات، كذلك أيضاً فإن النساك العلمانيين وليس الرعاة الكهنوتيين هم الذين مالوا إلى تجميع النعمة وتوزيعها: قوى عجائبية لطرد الأرواح، شفاء الأمراض، إقامة الموتى والأفعال المشابهة المتوالدة خارج القنوات الرسمية للإحسان الإلهي، كما أن النساك في أكثر من مناسبة أضفوا على أنفسهم حق منح القرابين المقدسة(183). لكن النساك لم يستطيعوا أن يأملوا بأن يحلّوا محلّ الهرم الكهنوتي. مع ذلك فالأساقفة بالمقابل لم يستطيعوا أن يأملوا بإيقاف تدفق النعمة من خارج القناة الكهنوتية. وهكذا فالتنافس الحاصل بين النعمة المُحْرزة والنعمة المعزوة وصل إلى نوع من التسوية في مرحلة مبكرة؛ فالأساقفة على نحو شبه دائم كانوا يختارون من بين النسّاك(184)؛ أما النسّاك المتفوقون في إحراز النعمة فكانوا يميلون إلى تحقيق مكانة رسمية كان يفترض أن تلك القوى مأخوذة منها(185). كذلك لم يستطع السوريون أن يفعلوا بالأسقفية الشيء الكثير. وما كانت تشكله أنطاكية هو أبرشية الشرق الرومانية، وليس حكومة ماضٍ خالٍ(186)، وهكذا لم تتعرض إلا للقليل من الضغط من أجل أن يكون طاقم العاملين فيها سوريين حصراً. لقد ساد السوريون بالطبع، لكن البرابرة الآخرين، سواء أكانوا أثيوبيين، آراميين، مسيحيين من فارس(187)، أو مصريين(188)، لم يكونوا مستبعدين أبداً. لم تستطع أية منظمة أرضية أن تكون أورشليم سورية: لقد استطاعت مصر أن تقدّس كنيسة مرئية، لكن سوريا لم تستطع أن تقدّس غير الأفراد. إذا كانت سوريا قد وجدت أن الكنيسة الهلينية غير مساعدة، فالأخيرة وجدت أن سوريا صعبة المنال. أولاً، إن بطريركية إنطاكية لم تكن مَلَكية: ففي حين حكم كيرّلس مواليه على نحو مباشر بأسلوب فرعون، فقد ورث يوحنا الأنطاكي ملوك المدينة بهيئة مطارنة صعبي المراس. ثانياً، لم يكن لدى الأبرشية جيش: ففي حين كان باستطاعة كيرلس أن يجنّد كتائب قوية من الرهبان الأقباط، لم يكن باستطاعة يوحنا الأنطاكي في أفضل الأحوال غير أن يحشد فدائيين من العموديين أو يستجدي تدخّل البرابرة(189). لذلك لا نتفاجأ حين نكتشف أن حلفاً بين الرهبنة المحلية والبطريركية اليونانية، كذلك الذي شكّل الكنيسة القبطية في مصر، فشل في الظهور في سوريا. فمن ناحية فشلت في تبنّي هرطقة خاصة بها، رغم الحقيقة القائلة إن نسطوريوس كان بطريرك القسطنطينية وقد تلقّى دعم يوحنا الأنطاكي حين اصطدم مع كيرلس(190). ومن ناحية أخرى، حين حصلت سوريا في نهاية الأمر على هرطقتها المصرية، فقد فعلت ذلك بشكل مستقل عن أنطاكية وذلك على يدي يعقوب البرادعي - الذي لم يكن بطريركاً وحاكماً بالأسلوب الفخم للبطل المصري، بل قديس فقير ومضطهد في التقليد الزهدي، يقطع الفيافي على قدميه والذي ساعده في المحاولة الأخيرة أحد الملوك العرب(191). وفي حين تشكّلت الكنيسة القبطية على يد فلاحيها، والكنيسة النسطورية على يد نبلائها، فكنيسة سوريا أُسست بالتالي على زهادها. وكان هذا يعني، بالطبع، أن سوريا كانت في موقع أقل ضعفاً من غيرها حتى تغذي آمال انفصال سياسي - وذلك مقابل الإسكاتولوجي - عن الإمبراطورية الرومانية: لم يكن ثمة بديل يمكن تبجيله. الحق أن ملكاً مسيانياً سوف يأتي من بعلبك، لكن فقط عند نهاية الزمان حين سنكون كلنا موتى(192)؛ أما الآن فيبدو أن أيّ حكم دنيوي هو مثل الآخر عملياً(193). لكن ذلك كان يعني بوضوح أيضاً أن سوريا لم تستطع أن تضفي على طبقتها الأرستقراطية الدنيوية الصفة الشرعية، سواء أكان هؤلاء يونانيين مستقرين في سوريا منذ زمن طويل مثل أوربانوس(194)، أو كانوا سوريين انغمسوا منذ زمن طويل في الثقافة اليونانية مثل والديّ ثيودوريتوس(195). المكوث في السلطة، الثروة، والمنصب، كما رأى تاتيان بحق، كان مكوثاً في الجنوب غير المقدّس، في حين كان الانسحاب منها وعياّ سليماً مقدساً(196)؛ لقد بدا أنّ كل من يتعلق بالعالم هومدان باعتباره يونانياً ملكانياً(197)، في حين أن كل من كان يرغب بالانضمام إلى السوريانه المونوفيزية كان عليه أن يتبرأ منه حتماً(198). فقط في الرها، التي كانت مباركة فعلاً في هذا العالم، استطاعت عقيدة مونوفيزية أن تكرّس طبقة نبيلة علمانية(199). وفي أي مكان آخر كانوا سيتخلون عن مناصبهم، سيبيعون أملاكهم، سيوزعون مواردهم على الفقراء ويتركون اسرهم بفعل اعتناق للدين عنيف نمطياً؛ وهكذا فالأنموذج شكّل شرخاً جذرياً مع ماض لم تستطع ثمار تجارتهم فيه أن تكون لأجل راحة الأخيار(200)؛ نكراناً للذات مفاجئاً حيث أصبح حتى العظماء أهلاً معه لأن يحتقروا العالم ويعاملوا أموره باحتقار(201)، وذلك عبر تبنيهم لحياة مقدّسة مثل النساك والرهبان المتسولين الجوالين، الذين يشحذون الازدراء من أجل أنفسهم الصالحة(202). بالمقابل، فقد كانت الأسس الزهدية للكنيسة السورية تعني أن سوريا لم تستطع إضفاء طابع شرعي على تعاليمها الدنيوية، وحطام السفينة الهليني الضخم الذي كان يطوف دون مرساة في الأدب السوري لم يستطع أن يجد بالتالي أرضاً صلبة قط. هذا لا يعني القول إنه لم يكن ثمة كهنة متهلينون: في هذا الصدد لا تُقارن سوريا على نحو سيء جداً مع آشوريا(203). كذلك فهو لا يعني القول إن النساك كانوا قرويين: الرهبان السوريون ليسوا فلاحين مصريين(204). لكن إذا كانت الهلينة الشاملة لسوريا الوثنية تعني أنه كان ثمة كم طيب من التعاليم اليونانية هنا وهناك(205)، فقد كانت تعني أيضاً أن الوعاء المسيحي كان بالتالي هشّاً: السوريون قبلوا كوثنيين بالفكر اليوناني وأضاعوا هويتهم، أما كمسيحيين فقد هدّد الفكر الوثني بتقويض أسس هويتهم الجديدة والوحيدة. وهكذا فقد امتلكت سوريا مدرسة وأديرة كان فيها الإرث الإغريقي جزءاً أساسياً من المنهج الدراسي، حيث أمدّنا برجال كنيسة ضليعين في القواعد والبلاغة الإغريقية القائمة على الكتابات الوثنية، وقد استمر رجال الدين هؤلاء في ترجمة الفلاسفة، وكتابة تفاسير لأرسطو، وتأليف مقالات علمية(206)؛ لكن سوريا امتلكت أيضاً مدارس وأديرة أزالت الإرث اليوناني من منهجها الدراسي، حيث قدّمت لنا رجال كنيسة ضليعين في قواعد وعلم بلاغة سريانيين مؤسسين على الأسفار المحلية(207)، وقد استمر هؤلاء في تأليفهم لسير القديسين، إضافة إلى أحاديث في الإيمان ومقالات ضد حكمة اليونان السامّة(208). وهكذا لدينا من ناحية ثيودوريتوس الذي يدافع عن الفلاسفة باعتبارهم مسيحيين تقريباً، ولدينا من ناحية أخرى افرام الذي يهاجم كلّ شيء يوناني باعتباره وثنياً بشكل مطلق(209)؛ ومن ناحية رغبة يعقوب الرهاوي في تعلّم اليونانية، ومن ناحية أخرى رفض الرهبان الغاضب لتعلمها(210). لذلك فقد تمثّل التعايش القلق - مقابل التحالف - بين كنيسة متهلينة وعهد سوري والذي سيطر على المسيحية السورية في حقل الابستمولوجيا أيضاً: فمن ناحية كان ثمة رجال مثل فيلوكسينوس الذي كان يدافع عن كمال العقل البشري، ومن ناحية أخرى كان ثمة رجال مثل رابّولا الذي ارتأى أن العقل البشري فاسد جذرياً(211). بالنسبة لفيلوكسينوس، وهو راهب إفاغراني، لاشيء أسوأ للعالمَ من انغماسه في المشاكل التافهة للحياة اليومية(212)؛ لقد كان عالم الكثيرين الذين ربما يُبرّرون بالسلوك الفاضل، أو بكلمات أخرى، بالشريعة التي تبررّ بها يسوع ذاته قبل أن يتعمّد(212)؛ وحدهم أولئك القليلون الذين فصلوا أنفسهم عن المشاكل الدنيوية استطاعوا فعلاً الوصول إلى الكمال وأن يتبرروا بالنعمة الإلهية(214). وبالنسبة لفيلوكسينوس فقد كان الإيمان عينين جديدتين وأذنين جديدتين(215)، إضافة تكميلية لفقرنا الطبيعي بالحواس(216)، بعداً رابعاً يمكن للعقل فيه أن يمسك بالحقيقة التي يصعب الوصول إليها، القابعة خلف ظواهر العالم الزائلة، وأن يدرك جلالة الله الراسخة(217). بالمقابل، فإن رابّولا لم يعرف غير عالم ساقط أفسد فيه الإثم الجسد، وبلّد العقل وبدّد أسس الوجود الإنساني بالذات(218)؛ فكما أن الشريعة لم تكن كافية - خارج النعمة لا نستطيع أن نعرف ماهية الحياة التي تخشى الله - كذلك تماماً فإن الأمل بفهم حقائق ليست في متناول اليد بدا لاغياً - عقل الإنسان الضعيف لا يستطيع أبداً أن يفهم ما يعرفه عبر النعمة(219). لذلك على المرء أن يؤمن، يحب ويطيع، لا أن يفتش، يبحث ويستعلم(220)، لأن الإنسان يستطيع من خلال إرادته البشرية بالنعمة الإلهية أن يعيش حياة فاضلة؛ يستطيع المرء أن يجني ثماراً طيبة تحت نور الشمس، لكن لا يعمي عينيه إلا بالتحديق في الشمس(221). لم يكن الإيمان بالنسبة لرابولا ملحقاً بالعقل، بل على وجه التحديد، بديل له(222). لقد آمن فيلوكسينوس حتى يفهم، وبحث حتى يجد؛ لقد باع بضاعته الدنيوية حتى يشتري الحكمة السرانية(223). لكن رابولا آمن حتى يُشْفى، أطاع حتى يُخَلّص؛ لقد باع بضاعته الدنيوية ليخلّص نفسه من الشياطين، وصلب عقله وجسده معاً ليجمّل سماءه. كان فيلوكسينوس المدافع الوحيد تقريباً عن العقل في سوريا، لكن بالمقابل لم يكن رابّولا الظلامي الأوحد: فإبستمولوجيته تمتلك أصداء في مناطق أخرى من الأدب السرياني(224)، تماماً كما أن مسيرته تعكس أصداء حياة نسّاك سوريين آخرين لا حصر لهم والذين لم يجعلوا الصحراء خضراء، ولم يمارسوا فلسفة مسيحية، لكنهم كانوا منذورين وظلّوا كذلك. إذاً، فالناسكون السوريون، ابستمولوجياً وسلوكياً، قُدّوا من أديم واحد: فبعدما تسلّحوا بالأسفار المقدّسة التي استمدوا منها هويتهم، وإيمانهم وعملهم، انطلقوا يحاربون شياطينهم في بحثهم عن النعمة. كان هنالك إذاً نوع من التشابه بين سوريا عام 200 قبل الميلاد وسوريا عام 600 م. فقد تعايش في الزمنين نخبة مدنية وكهنوت متهلين مع تقليد محلّي: في المدن أخذ الموظفون المسيحيون محلّ الإداريين الوثنيين، كما حلّ من هو مسيحي من كهنة، خطباء، مفكّرين، وعلماء محلّ نظرائهم الوثنيين؛ في حين تطلّع السكان المحليون في الريف إلى الصحراء من أجل الهداية والوحي اللذين حصلوا عليهما سابقاً من آلهتهم المحلية. لكن إذا كان الدمج الثقافي والذي أحدثته المسيحية قد فشل في خلق تحالف بين الطرفين، إلا أنه بدّل بعنف ميزان القوى التجادلي: فمع حلول عام 600م، تحوّل التقليد المحلّي، الذي ظل على مدى أربعمئة سنة يفقد بثبات المعقولية والمصادر الفكرية تحت تأثير حقائق غريبة، إلى بديل حسن التجهيز ومترابط منطقياً. فأولاً، المنذور السوري، رغم رفضه للعالم الإمبراطوري، إلا أنه كان نتاج ثقافة إمبراطورية مثله مثل سوريا والسوريانه على نحو دقيق. وهكذا كان في متناول يده مصادر ثقافية محنّكة، وفي حين لم يستطع الفلاحون الأقباط سوى تحويل أفسس إلى مجمع لصوص باستخدام نوع من الثورة الفكرية، فقد استطاع رابّولا تقديم مذهبه المقاوم لانتشار المعرفة لمجموعة من المستمعين المثقفين في القسطنطينية(225). ثانياً، لقد اختلف المنذور عن الثقافة الإمبراطورية، مع أنه كله نتاج لها، وذلك في امتلاكه لمرسى صلب في الريف. كان باستطاعة حطام السفينة الإمبراطورية أن يظل طافياً في سوريا عبر الحقيقة الصريحة التي تقول إنه صدف وأن كان امبراطورياً؛ لكن ذلك كان حدثاً تاريخياً عارضاً، وإذا ما كان على الغشاء السياسي والإكليروسي للعالم اليوناني - الروماني أن ينفجر، لكان المنذور هو الذي سينقذ السوريين، لأنه كان كل ما يملكون.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القسم الثالث : الاصطدام

8 الشروط المسبقة لتشكيل الحضارة الإسلامية

الحضارة الإسلامية هي النتاج لغزو بربري لأراض ذات تقاليد ثقافية قديمة جداً. وهي بحد ذاتها فريدة في التاريخ. لا يوجد عوز طبعاً لتجارب غزو بربري في تاريخ الحضارة؛ لكن بقدر ما لا يدمّر البرابرة الحضارة التي يغزونها، بقدر ما يسرمدونها عادة. كذلك ليس هنالك أي عوز لانتقالات بربرية إلى الحضارة في تاريخ البرابرة؛ لكن بقدر ما لا يستهلك البرابرة ألوف السنوات لتطوير حضارة خاصة بهم، بقدر ما يستعيرونها عادة. لكن علاقة العرب بالأنتيك لا تتناسب مع أي من هذه النماذج. مع ذلك فمما لا يسترعي انتباه خاص طبعاً أن العرب لم يكونوا برابرة بحيث يستأصلون الحضارة ولا أصلاء بحيث يخترعون حضارة خاصة بهم. لكنهم كانوا غير عاديين فعلاً في أنهم عاجلاً أم آجلاً، لم يكسبوا أنفسهم ولم يفقدوها في الحضارة التي غزوها. عوضاً عن ذلك، كان نتاج اصطدامهم مع الأنتيك تشكيل حضرة جديدة للغاية من مواد قديمة جداً، وكان ذلك سريعاً إلى درجة أنه لحظة استقرار غبار الغزو كانت صيرورة التشكيل قد مضت قدماً للتو. وأية محاولة لفهم هذا الحدث الثقافي الفريد لا بد أن تبدأ بإظهار ماذا كان عليه وضع الغزاة والمغزويين بحيث صار نتاج كهذا ممكناً. إن أي درع حامٍ لتشكيل حضارة جديدة في عالم الأنتيك كان لابد أن يُقَدّم من قبل أعدائه. والحقيقة الحاسمة حول هؤلاء الأعداء هي أنهم كانوا من نوعين. فأولاً كان هنالك البرابرة الخارجيون الذين أشرنا إليهم للتو، والذين يمضون «حياتهم المنعزلة» خلف حدود العالم المتحضّر. ووجودهم بحد ذاته لم يأخذ سوى وضعية التهديد المألوف بغزو بربري: بمعنى أنه كانت لديهم القوة لقلب الحضارة، لكن ليست لديهم القيم لاستبدالها(1). ثانياً، كان عند الأنتيك عدو أكثر من غير عادي والذي تمثّل في هيئة اليهود الموجودين ضمن حدوده، والذين يعيشون في الغيتو رفضهم للعالم اليوناني - الروماني. لقد شكّل وجودهم إدانة أخلاقية للحضارة: بمعنى أنه كانت لديهم قيمهم الخاصة التي يرفضون بها الثقافة السائدة، لكن حتى في مأواهم الصغير كانت تنقصهم القوة لقلبها. لم يكن باستطاعة أي من الفريقين تقديم أي نوع من الحماية من عنده من أجل تشكيل حضارة جديدة. لم يكن هنالك قط أي شيء مما يقال له حضارة يهودية، ولم يكن هنالك قط أي شيء مما يقال له حضارة بربرية. مع ذلك فقد كان ثمة شيء تكميلي واضح معيّن: إذا كان ممكناً إدخال القوة البربرية والقيم اليهودية في مؤامرة ما، كان من المحتمل تماماً أن تستطيعا أن تحققا سوية ما عجزتا عن تحقيقه كل على حدة. للوهلة الأولى نرى أن شروط مؤامرة كهذه كانت منتشرة على نحو ملحوظ. وفي نهاية الأمر، فقد استسلم عالم الأنتيك، في الشرق والغرب على حد سواء، للغزو البربري والقيم اليهودية أخيراً. مع ذلك كان ثمة فرق أساسي: الغزو الجرماني وانتشار المسيحية كانا عمليتين تاريخيتين منفصلتين في الغرب. إنتشار المسيحية، من ناحية، لم يكن غزواً عسكرياً. فالمسيحية،كالهاجرية، كانت نتاج تبشير بالقيم اليهودية في بيئة أممية. لكن في الحالة المسيحية فقد عرفت المسيانية فشلاً براغماتياً في سياقها اليهودي الأصلي، نهاية بشعة لمهنة في الطب الشعبي، قبل تسويقها بين شعب أممي والذي كان متحضراً، متغاير الخواص إثنياً، وخاملاً سياسياً. والسنوات التي أمضاها بولس الرسول في شبه جزيرة العرب قبل اعتناقه المسيحية كانت غير بارزة في السياسة الدينية للمسيحية: المؤسس أعلم أتباعه أن المسيح ليس في الصحراء (متى 26:24). وعوضاً عن ذلك، بدأت المسيحية في شكلها البوليسي الاختراق السلمي للعالم المتحضر. وهذا القرار قدّم كلاً من الدافع والوسيلة لتغيير بعيد المدى والذي به تم مُسَاماة أكثر الملامح خشونة في الإرث اليهودي إلى استعارة مجازية. لقد قدّم الدافع بحيث لا يكون باستطاعة اليهودية تسويق ذاتها في العالم المتحضر دون أن تتفاهم معه، وقدم الوسيلة بحيث أن الثقافة الهلينية السائدة لهذا العالم كانت هي الخبيرة تحديداً في تسامٍ كهذا. اعتُبر أن الحقائق الحرفية للنسب اليهودي هي استعارات مجازية، وبذلك أُبْطِلت قدسية الإثنية اليهودية وصار ممكناً للأمم أن يصبحوا أبناءً للعهد؛ في الوقت ذاته فإن ديانة cult الروح أذابت قساوة التحريم لحرفية الشرع، والأمل العيني بخلاص لإسرائيل في هذاالعالم استُبْدِل بالانتظار التَقَوي لخلاص المؤمنين في العالم الآخر. لكن هذه المساماة للإرث اليهودي لم تكن وبأي شكل كاملة طبعاً: فالمسيحية إجمالاً ليست مرقيونية، تماماً مثلما أن البوذية الصينية ليست زن. مع ذلك يبقى أن المسيحية حلّت مشكلة تخليص جوهر القيم اليهودية من الغيتو عبر وسيلة ترك مادة القيم خلفها. اليهودية في شكلها المسيحي هَدَت الحضارة إلى الإيمان على حساب القبول بها(2). من ناحية أخرى، فالغزوات الجرمانية لم تكن حركة دينية. كان لدى الجرمان بالطبع قوتهم البربرية، وربما أنهم بدأوا باستخدامها بما يكفي من الوحشية: شَرَع حاكم قوطي في بداية القرن الخامس بإحلال قوطيا مكان رومانيا (3). لكن من ناحية، القوط، وهم لاجئون من الهون و الذين صاروا حلفاء الرومان، كانت تنقصهم القوة لخلق أيّ نوع من قوطيا مثير جداً للذكريات والعواطف؛ ومن ناحية أخرى، فحتى لو كانوا قادرين على إقامة امبراطورية قوطية عاصمتها في الوطن وشرع قوطي امبراطوري بطريقة المغول، فإن إنجازهم كان سيظل غير كافٍ لتقديم درعٍ حامٍ لإعادة صنع حضارة. لذلك كانوا بحاجة إلى قيم دينية وقوية؛ لكن لم يكن لهم وجود ديني تقريباً. لقد بدأ الجرمان في معظم وقتهم كوثنيين لأنهم جاءوا من الخارج؛ وانتهوا كمسيحيين لأنهم أضحوا في الداخل. لكن لم تستطع لا الوثنية ولا المسيحية تقديم ما كانوا بحاجة إليه: الوثنية الجرمانية كانت بعيدة جداً عن المعايير الدينية السائدة في العالم المتحضّر، والمسيحية كانت قد فرغت لتوها من قبول هذا العالم وهدايته، والإثنان لم ينصهرا تاريخياً مع الغزو. وهكذا فقد كانت فضالة الغزوات الجرمانية فضالة إثنية مجرّدة، إرثاً محلياً والذي ظل على قيد الحياة ليقدّم الأساس النهائي، ليس لحضارة جديدة، بل لكراهيات قومية داخل حضارة جديدة. وكالقيم اليهودية للمسيحيين، فقد استطاعت القوة البربرية للجرمان عبور الحدود إلى داخل الحضارة لكن فقط على حساب الإستسلام لها. كان هنالك بالطبع نوع من الإرتباط بين القوةوالقيمة في الشكل القوطي للآريوسية. لكن في ضوء ما قلناه سابقاً، فمن الواضح أن الأمل كان ضعيفاً في قيام الشكل القوطي للآريوسية بأية مؤامرة فاعلة ضد الحضارة. ففي الموضع الأول، كانت هنالك الطريقة التي تبناها بها القوط(4). فقد وصلت الآريوسية إلى القوط بالطبع قبل أن يعبروا الدانوب؛ لكنها لم تبدأ مع ذلك بهدايتهم على أي مستوى.وأولفيلا، مثل محمد، كانت له هجرته؛ لكن هروبه كان من الاضطهاد القوطي إلى الحماية الإمبراطورية الرومانية(5). وحين تبعه القوط في الوقت المناسب كغزاة، فقد فعلوا ذلك في معظم الوقت كوثنيين يدخلون إمبراطورية محبذة للآريوسية. وفقط حين وصل القوط إلى الغرب، وبدأوا باعتناق الآريوسية في بيئة ذات غالبية أرثوذكسية، شُكِّل الحلف بين الهرطقة المسيحية والإثنية البربرية. ثانياً، في اعتناق القوط للآريوسية، كانوا يتبنون ليس ديانة خاصة بهم بل هرطقة موجودة من ديانة موجودة، هي المسيحية. ورغم مفردات التحقير الخريستولوجية، لم يكن الآريوسيون يهوداً. فمن ناحية اشتركت الآريوسية مع المسيحية الأرثوذكسية في قبولها للحضارة السائدة: لم تكن في موقع يؤهلها لأن تعتبر العالم اليوناني - الروماني كنعاناً ثقافية. ومن ناحية أخرى كانت الآريوسية تنتمي مع المسيحية إلى أحد اشكال اليهودية المطهّرة من الهوية الإثنية: لم تكن في موقع يؤهلها لتكريس الأسباط القوطية عبر تقديمهم في دور الإسرائيليين الغزاة. وهكذا فحتى لو انصهرت الآريوسية مع الغزو القوطي بالمفهوم التاريخي، فقد كانت ستفتقد المصادر الأيديولوجية لاستثمار تلك الفرصة. إن الصلة الناتجة بين الهرطقة الآريوسية والإثنية القوطية كانت من بعض النواحي قوية تماماً. فالآريوسية صارت بالنسبة للقوط «إيماننا الكاثوليكي» وذلك مقابل «الديانة الرومانية»(6)، وكان هنالك إحساس محدّد بأنها كانت ديانة للقوط دون سواهم(7). لقد قام الحلف بشيء لإطالة مدى استمرارية محتوى الطرفين اللذين يشكلانه: فقد حمى الآريوسية من أن تُستوعب في المسيحية الأرثوذكسية، ودعم الهوية القوطية كي لا تستوعبها الإثنية الرومانية. لكن لا المُكوِّن الآريوسي ولا القوطي كان كتيماً بأية حال أمام الثقافة الشائعة. وهكذا كان هنالك ملوك قوط وإكليروس قوطي، لكن لم يكن ثمة «عبد الملك» قوطي: في إسبانيا القوطية الغربية صارت الطبقة البيروقراطية تستخدم اللغة اللاتينية، واللغة المعاد إصلاحها لم تكن تحمل أية أساطير آريوسية(8). كانت الآريوسية وسيلة دفاع فاعلة تماماً عن هرطقة وإثنية، لكنها لم تكن تحمل أي أمل في خلق حضارة ما. في الشرق أُمْكِن بسهولة الإنتهاء الى النتيجة ذاتها إلى حد كبير. ولو أن الإسلام انتشر بطريقة المسيحية الهادئة، لتعلّم بالضرورة كيف يوفق بين تقاليد الشعوب التي أدخلها في ديانته - كيف يبحث عن آلهة مجهولة، كيف يقدّم ذاته كنوع من الحقيقة والتي قد تهتم النخب الموجودة بأن تعترف بها، وكيف يحوّل كتابه المقدّس إلى مصطلحات بإمكانهم فهمها(9). لقد برهن الإسلام بين حين وآخر على مرونة مدهشة وذلك حين تواجه مع مصطلحات التجارة التوفيقية من ذلك النوع الذي واجه المسيحية الأولى:التكيفات الدخيلة لإسلام مسالم مع تقاليد جاوا أو داغومبا(10) لا تمدّنا بامثلة عن التعبير القائل «الإسلام يجبّ ما قبله»(11). بالمقابل فالعصب الثقافي للإسلام لم يصمد دائماً في سياقات حيث الإسلام ذاته كان متعرضاً لغزو غريب: لاحظ ضعف التصلّب الديني والقبول بمطالب شرعية القانون والنسب غير الإسلاميين في الشمال الشرقي في أعقاب الغزو المغولي(12). ولو استطاع إسلام التاريخ الفعلي أن ينحني بهذه الطريقة أمام التقاليد غير المخضعة لجاوا الهندوسية أو داغومبا الوثنية، وأن يتراجع أمام التقاليد الغازية للمغول أو في وقت ما للغرب، عندئذ فمن باب أولى يمكن تماماً تخيل أن إسلاماً انتشر بشكل سلمي منذ البداية، قد انتهى كديانة ذات شكل حكم روماني وحضارة يونانية، أو كإيمان أممي يشمل عدداً كبيراً من شعوب مسلمة والتي تحتفظ بثقافات أسلافها جنباً إلى جنب مع ديانتها الجديدة(13). بالمقابل لم يكن على الغزوات العربية أن تأخذ شكل حركة دينية. ولو أن الشرق الأوسط غُزي من قبل عابدين وثنيين للعزّى واللات عبر إعادة تمثيل أقل تلاشياً للغزو النبطي لسوريا، لما اختلف مسار الغزاة الديني كثيراً ربما عن مسار الفرانكيين(14). ولو كانت الغزوات استهلت تحت حماية اللخميين أو الغساسنة، لو أنها نجمت عن نسخة أكثر دوامية عن الإمبراطورية الرومانية والتي لها صلة قوية بمصالح واحدة أو أخرى من الهرطقات المسيحية الكبيرة، فمن غير المرجح أن الأهمية الثقافية للعرب كانت ستختلف كثيراً في النوع عن الأهمية الثقافية للقوط الآريوسيين. ولم يكن الغزاة في أي من الحالات في موقع يؤهلهم كي يتركوا وراءهم أكثر من الأسس السياسة والثقافية لقومية نهائية والتي يمكن مقارنتها بالأسس السياسية والثقافية للهنغار أو للسلاف الأرثوذكس(15). عوضاً عن ذلك، فالغزو البربري وتشكيل الإيمان اليهودي الذي كان سينتصر أخيراً في الشرق كانا جزءاً من الحدث التاريخي ذاته. ما هو أكثر من ذلك، فأن التحامهما كان واضحاً في الشكل الأولي للعقيدة التي كانت ستصبح الإسلام. لقد وحّدت بشارة محمد بين حقيقة دينية مستعارة من التقليد اليهودي وإفصاح ديني عن هوية إثنية لأتباعه العرب. وهكذا ففي حين كانت العقيدة الآريوسية مجرد حقيقة والإثنية القوطية مجرّد هوية، فالهاجرية كانت الإثنيتين معاً. وفي مسار ارتقائهم التالي، طوّر الهاجريون حقيقتهم بشكل يفوق تقريباً حدود إدراكنا وأرسوا هويتهم في ماض وثني مفصّل. لكن من ناحية، فالحقائق الدينية التي انتقوها، لأنها كانت يهودية منذ البداية ولم تكن قط مسيحية إلا بشكل هامشي، خلقت هوة بينهم وبين مواليهم أوسع من تلك التي استطاعت خلقها هرطقة مجردة في الغرب: فهرطقتهم كانت أكثر من هرطقة. ومن ناحية أخرى ظلّ شنتوهم أقل من شنتو: فقد تم التعبير عن هويتهم البربرية بمصطلحات مأخوذة من الكتاب المقدس بما يكفي لأن تكون مفهومة وقابلة لأن يُدَافع عنها باللغة الدينية للعالم الذي غزوه. وفي الوقت ذاته، بقي الرباط العضوي بين حقيقتهم وهويتهم. إذاً، إن بنيان العقيدة الهاجرية جعلها قادرة على استمرار طويل الأجل، وتماسك مجتمع الغزو ضمن أنها استمرت فعلاً. لقد نالت القيم اليهودية مساندة القوة البربرية، ونالت القوة البربرية تكريس القيم اليهودية؛ والمؤامرة أخذت شكلاً. لقد حصّن هذا الشكل الهاجريين ضد الثقافات التي غزوها بطريقتين اثنتين. ففي الموضع الأول، لم تكن ثمة دعوة للقيم اليهودية التي تبنتها الهاجرية لأن تتليّن بطريقة المسيحية. فمن الناحية التاريخية، تركت هذه القيم الغيتو لا لتهدي العالم بل لتغزوه؛ ولم يكن الغزاة بحاجة للتوسّل إلى القيم الثقافية لمواليهم. ومن الناحية المفاهيمية، فصل الهاجريون أنفسهم عن اليهود عن طريق إعادة ترتيب الأمور وليس مساماتها(16): بدل تطوير فكرة «إسرائيل حقيقيةVerus Israel » بطريقة المسيحية الأممية، قاموا ببساطة باستبدال الإثنية الإسرائيلية بأخرى إسماعيلية(17)؛ وبدلاً من تطوير مذهب الخلاص بالإيمان وليس بأعمال الشريعة البولسي، واصلوا استبدال حرفية الشرع الموسوي بحرفية الشرع المحمدي. وهكذا حافظوا على ذلك الجمع بين إثنية حرفية وحرفية شرع ديني وهو ما شكّل اساس «الحياة الانعزالية» اليهودية(18). فالله، مثل يهوه، كان إلهاً غيوراً. ثانياً، إن التكريس الذي استطاعت القيم اليهودية إضفاءه على القوة البربرية كان تكريساً مثيراً جداً للأفكار والذكريات. قد يكون اليهود عاشوا في الغيتو، لكن الميثة myth التي أفصحت عن عزلتهم عن العالم الكنعاني المحيط بهم كانت ميثة الأسباط الإسرائيليين في الصحراء(19).وهكذا فاستبدال الإسرائيليين بالإسماعيليين في دور الشعب المختار أدّى إلى ما هو أكثر من تكريس الهوية الإثنية للغزاة: لقد طوق «حياتهم المنعزلة السابقة» المنعزلة في الصحراء بهالة دينية متميّزة أيضاً. لقد تلقفت الهاجرية الاغتراب عن الحضارة لكل من الغيتو والصحراء وصهرته. وبدا الأمر كما لو أن الغزو القبائلي لكنعان أوصل مباشرة إلى المقاومة الفريسية للهلينية عن طريق إختصار عنيف للتاريخ الإسرائيلي: ففي حين تلقت اليهودية إلى حد ما البصمة الحضارية لمَلَكية شرق - أدنوية، احتفظت الهاجرية بقساوة الحياة الركابية في البرّية. وهكذا فقد رفض الهاجريون الإنجازات الثقافية للشعوب المغزوة وكأنها أشياء كنعانية كريهة، ووضعوا أسس حياتهم الثقافية في الماضي القبائلي لوطنهم العربي الأصلي. وهكذا فالتعارض بين الشرق والغرب كان أساسياً. ففي الغرب، كان الأثر المادّي للغزوات الجرمانية كارثياً: فقد تحللت الإمبراطورية واختفى جهازها البيروقراطي، ودخلت ثقافتها في عصر الظلمات. بالمقابل فدور القيم المسيحية في هذه القصة كان لطيفاً إلى درجة مدهشة. والحقيقة أن مسيحيي الإمبراطورية الرومانية أولوا اهتماماً خاصاً بالطبع لمسألة اعتبار أنفسهم في السبي. لكن سبيهم كان سبياً متسامياً استخدموه لتعزيتهم عن أوطانهم الخاصة ليذهبوا إلى مواطنهم وليتحركوا بذاتهم in sedibus suis peregrinos esse se noverunt، ليذهبوا إلى in sedibus suis درسوا كتابات الماضي الوثني. إن رد أغسطينس على الغزو الوثني المتمثل بالإنسحاب إلى فراش موته وأفلوطين على شفتيه لا يدل على اغتراب ثقافي عميق عن عالم الأنتيك(20). وهكذا فمن المناسب القول إن استمرار الأنتيك في القرون التي أعقبت موت أغسطينس كان إلى حد كبير بسبب الدور المحافظ للكنيسة المسيحية، ومن الطبيعي أن ينظر المسيحيين في العصور الوسطى إلى أنفسهم باعتبارهم الوريثين الشرعيين لهذا الإرث البالي، حتى لو لم يكونوا يستحقون ذلك. أما في الشرق، فأدوار الجرمانيين والمسيحيين، إذا صح القول، بدت معكوسة. ورغم الدمار الأولي الذي أحدثته الغزوات العربية، استمر واقع الإمبراطورية مع الكثير من آليته، كما تمت المحافظة علىمستوى ثقافي بحيث كان العالم الإسلامي في أحد الأوقات في موقع يؤهله لأن يقوم بنقل كبير للتعاليم الهلينية إلى الغرب. وإذا كانت الغزوات الهاجرية أقل إيذاء للأنتيك من غزوات الجرمانيين، فإن مفاهيمهم آذته بأكثر مما آذته مفاهيم المسيحيين. فالسبي الهاجري،كالسبي اليهودي، كان عن هذا العالم، لذلك حمل معه اغتراباً أكثر عينية عن بيئته الثقافية: حتى الأشاعرة ماتوا نادمين على ما حملوه من أثقال من حكمة اليونان السامة(21). وهكذا فقد تعذّر على الهاجريين، بسبب إيمانهم، أن يرثوا بشكل مباشر أياً من تقاليد العالم الذي غزوه. لكن قرون الإسلام الأولى لم تكن بأية حال عصر ظلام أواخر عمر الأنتيك؛ إنما النور الذي ألقي عليها كان يجب أن يُخْضَع لاستقطاب أجنبي للغاية. رغم أن هذا الصهر للقوة والقيمة كان ضرورياً لو كان الغزاة يريدون خلق حضارة جديدة، فقد كان بعيداً عن أن يكون كافياً لتمكينهم من فعل ذلك بصرف النظر عن البيئة الثقافية. وربما أن نقطتين سلبيتين واضحتين تقدّمان شيئاً يوحي بما كان عليه الشرق الأدنى في القرن السابع بحيث صار أرضاً خصبة لمثل هذه المغامرة. أولاً، لو أن العرب غزوا شرقاً أدنى مكوّناً من مجموعة تقاليد متكاملة، لكل تقليد هويته وحقيقته، لبدوا إلى حد كبير وكأنهم المغول: الفرصة التي لا سابق لها لهؤلاء الغزاة القادمين من آسيا الوسطى كي يمزجوا الحضارات المختلفة التي غزوها لم تصل الى مستوى كونها تغييراً من أجل صهرها. ثانياً، لو كان العرب غزوا شرقاً أدنى مندمجاً في كيان ثقافي موحّد، لكانوا وقعوا إلى حد كبير في الورطة التي وقع فيها غزاة الصين من البرابرة المتعاقبين: لم يستطع أولئك البرابرة، وقد واجههم تعريف موحد للغاية لما كانت عليه الحضارة ولما عليها أن تكون، سوى الاستسلام بنوع من اللباقة للتمثيل الثقافي المحتوم؛ فهم لم يكونوا في موقع يؤهلهم لأن يشرعوا في إعادة تشكيل ما كانوا أغاروا عليه(22). هذه الإمكانيات المتمايزة مفاهيمياً هي أيضاً أقطاب ارتقاء تاريخي. فتاريخ الحضارة في الشرق الأدنى يبدأ بالتعددية - سومر ومصر - وربما في وقت مناسب ظهر في شكل حضارة بيزنطية صلبة، وذلك مع زوال الخطر الإيراني وإنقطاع علاقة تقاليد الهلال الخصيب القديمة في الواقع مسألة مثلها مثل التقاليد القديمة لبلاد الأناضول. هذا يعني أن بيزنطة ربما كانت في نهاية الأمر السبب في التجانس الذي كان، وفق الواقع التاريخي، إنجاز الإسلام. من الواضح في هذا المنظور أن الأسباب التي أفضت إلى شرق أدنى القرن السابع لابُد أن يُبحث عنها في الموقع الوسيط بين القطبين. يحتاج هذا الموقع الوسيط لأن يُشرح بثلاثة طرق. أولاً، الشرق الأوسط - باستثناء إيران - كان منطقة فقدت شعوبها حضاراتها القديمة واستبدلتها بما تستعيره من الآخرين؛ لكنهم فعلوا ذلك دون أن ينسوا أنهم كانوا ذات يوم متحضرين ودون أن يدمجوا هوياتهم في هويات أصحاب التقاليد التي استعاروها. ولهذه الحالة كان ثمة شبيه صغير في الغرب اللاتيني: لقد أحرز الإسبان حضارة متكاملة ودمجوا هويتهم في هوية الرومان الذين جاءوا إليهم بالحضارة، في حين احتفظ بربر شمال افريقيا ببربرية متكاملة غير ملونة بأية حضارة(23). وهكذا فقد كان موجوداً في الكثير من أرجاء الشرق الأوسط انفصال بين الحقيقة الأجنبية والهوية المحليّة. ثانياً، لقد أدّى فقدان شعوب الشرق الأوسط لحضاراتها الخاصة إلى جعلهم ريفيين بثقافة خاصة إلى حد ما، هي الهلينية. والهلينة، رغم أصولها الإثنية، كانت كما رأينا ملائمة لأن تصبح ثقافة نخبة كوزموبوليتانية(24).على الصعيد التاريخي فإنها تطورت أيضاً، كما رأينا، بطريقة والتي سحبت معها بعضاً من لسع أصلها الإثني ونخبويتها الاجتماعية على حد سواء. وهكذا فقد كابد الشرق الأوسط من عملية مجانسة ملحوظة للحقيقة الثقافية، والحقيقة الثقافية فقدت بالتالي الكثير من خصوصيتها الأوليّة. ثالثاً، لقد خضع الشرق الأوسط لما يشبه دينياً هذه الصيرورة الثقافية. فبعدما استعار ثقافته من اليونانيين، أخذ الآن ديانته من اليهود؛ وكما أن الهوية اليونانية للحقيقة الدينية شحبت إلى حد كبير مع زوال الدولة المقدونية وانهيار المدن، كذلك تماماً فإن هوية التوحيد اليهودية فقدت لسعتها مع زوال الدولة اليهودية وتخليص البشارة من الغيتو. وهنا من جديد، كان الشرق الأوسط يجتاز عملية مجانسة الحقيقة، وفي هذه الحالة الحقيقة ذاتها قطعت علاقاتها مع ماضيها الإثني. يبدو أن هذه العلاقات بين ريفيي الشرق الأوسط وحقائقهم المستعارة، كانت أساسية لتشكيل الحضارة الإسلامية. أولاً، ثمة علاقة بين الريفيين وثقافتهم. فمن وجهة نظر الثقافة ذاتها، هذه العلاقة كانت تعني وجود تكاملية كامنة معينة بين الهلينية والهاجرية: فبنيان مجتمع الغزو الهليني تحلّل ليترك طبقة حضارة رقيقة على الهوية، وبنيان مجتمع الغزو الهاجري كان موشكاً على التحلل ليترك طبقة هوية رقيقة على الحضارة، وكان ثمة اساس هنا لصفقة ثقافية لا يمكن تخيّل مثلها بين الهاجرية وإيران.فمن وجهةنظر العرب، الشخصية الريفية للثقافة التي واجهوها جعلتها أقل طغياناً - في هذا الصدد بدا من الحكمة غزو سوريا دون بيزنطة، تماماً مثلما كان من الحصافة أخذ إسبانيا دون روما؛ بينما في الوقت ذاته جعل تآلفهم النسبي مع شعوب الهلال الخصيب - وهم نتاج لمنطقة مجاورة جغرافياً ولتاريخ طويل من التعامل الثقافي مع العرب - الحضارة في هذا الشكل الريفي أقرب كثيرا إلى متناول أيديهم. أما من وجهة نظر الريفيين أنفسهم، فالشخصية الخاصة جداً لريفيتهم جعلتهم جماعة تناسب بشكل ملفت للنظر العمل كوسطاء ثقافيين. فالشخصية الأجنبية لحقائقهم - خاصة في حالة الهلينية - والشخصية الشاحبة لهوياتهم - وحالة سوريا تأتي في الطليعة - كانتا تعنيان أنهم لم يكونوا سادة الثقافة بقدر ماهم تجارها.أما الإيراني الذي اعتنق الإسلام فكان خائناً لحقبة كاملة من تاريخ قوي ومتكامل؛ لكن حين قرّر الغزو الهاجري تفكيك الوحدة الزائدة المجردة في التقليد البيزنطي، استطاع الإقليميون العمل كمُعرّين مساعدين للإرث المحجوز عليه دون أي إحساس يمكن مقارنته بشعور خيانة الكهنوتdes clercs trabison. باختصار، فإن العلاقة بين الريفيين وثقافتهم مكّنت الهاجريين من تعريض أنفسهم للحضارة لكن فقط في شكل مُصفّى عبر مجموعة خاصة من المصافي الريفية. ثانياً، لقد امتلكت علاقة الريفيين بإيمانهم اليهودي طاقات كامنة ثقافية هامة. لكن أكثر الأمور وضوحاً، هو حقيقة أن المسيحية والهاجرية كانتا على حد سواء تحويرين للحقيقة اليهودية ذاتها والتي أنعمت على دين الغزاة مفهومية، لم يكن ممكناً تخيّل التمتع بها قبل بضع قرون في الشرق الأوسط الوثني. في الوقت ذاته فحقيقة أن الشرق الأوسط صار يمتلك الآن ليس تداولاً للحقيقة عالمياً معتمداً واحداً بل إثنين أدت إلى ظهورية احتمالية التفكير في أن أحدهما ضد الآخر: ففي حين صك النبطيون حين غزوا دمشق نقداً محباً لليونانيين في نوع من التحالف المحتوم مع الثقافة التي هزموها، استطاع الهاجريون أن يصكوا ضدها نقداً محباً للتوحيد؛ مقابل ذلك، فالريفيون استطاعوا أن يبيعوا الهلينية دون أن يخونوا أسلافهم ولا ربّهم. لكن قبل كل شيء فقد كان المهم هو الاختلاف بين التداولين: وفي نهاية الأمر لم يكن حدثاً حصل بين ضحايا التعصب المسيحي، فقد كان هروب اليهود من هرقل وليس هروب الفلاسفة من يوستنيايوس هو الذي أدى خروجه exodus إلى ظهور الاسباط العربية(25). لأنه في تبنّي حتى نسخة ملطفة من اليهودية، نزلت الحضارة على البر مع نوع من كعب أخيلوس الأيديولوجي(26). واستفادة الهلينية من فظاظة الاسباط البربرية كانت قليلة كاستفادة الكونفوشيوسية منها (27)؛ لكن المسيحية، كديانة مشتقة من التقليد الإسرائيلي، كانت مفتوحة على الإيحاء المغوي القائل إن الفظاظة التي كانت رذيلة بالنسبة للحضارة أمكن أن تكون أيضاً فضيلة توحيدية. قد تناولنا للتو، ما الذي كان يعنيه هذا بالنسبة للعرب أنفسهم حين أعادوا تمثيل غزو كنعان، أما النقطة التي يجب أن نؤكّد عليها هنا فهي التبدّل الدقيق في السيناريو الأيديولوجي الذي يحدث حين يكون الكنعانيون أنفسهم المناصرين الملتزمين بنوع من عبادة يهوه كنعانية إلى حد ما. هذه المرة لم يكن الطابور الخامس الكامن البربري ضمن الحضارة مقصوراً على البغايا(28). يجب أن تربط هذه الاعتبارات بديهياً طبعاً بالشكل الفعلي للغزو العربي: والتعارض المهيمن هنا هو بين إيران وبيزنطة. فإيران لم تكن شيئاً قيماً جديراً بالاقتناء بالنسبة للبرابرة المندمجين في إعادة تشكيل لحضارة: فتقليد متكامل لم يتأثر إلا بلطف بحقائق اليونانيين واليهود، كان العرب عديمي التبصر ثقافياً بما يكفي لابتلاعه إجمالاً. ولو كانت إيران كل ما غزوه، فإن حظوظهم في خلق حضارة كانت ستصبح في حدودها الدنيا؛ لكن والحالة هذه، فمن الواضح أن إيران كانت أكبر أعبائهم. مع ذلك فقد ساعدت في الحدث عدة عناصر في سحب أسوأ شيء من بين أسنانها. والشيء الأوضح، هو أن إيران كانت ضائعة إلى حد ما في حقل الغزاة الواسع. أما الأمر الدقيق، فهو أنه كان ثمة نزع سلاح معيّن للمدن الإيرانية عبر تآلب للظروف: فمن ناحية كانت العاصمة الساسانية - لأسباب جغرافية تظهر جزئياً مع الأخمينيين - تقع خارج الموطن الاثني لإيران في الوسط الكوزموبوليتاني في العراق الأدنى؛ ومن ناحية أخرى كانت العاصمة الهاجرية - لأسباب ناجمة عن التاريخ السياسي الأوّلي للهاجريين - في الحقبة الحاسمة التي أعقبت الغزوات موجودة في إقليم بيزنطي وليس في العاصمة الساسانية. نتيجة لذلك تُرِك حطام العاصمة الساسانية كي يهترئ دون الدعم الذي كان سيتلقاه لو كان موجوداً في قلب موطنه الإثني، أو الانتباه الذي كان سيجلبه لو كان في موضع العاصمة الهاجرية. لكن الجغرافيا السياسية للعلاقة الهاجرية بالعالم البيزنطي كانت مختلفة للغاية: فتقليد أُمْكِن تفكيكه كان بحد ذاته مجبوباً جغرافياً. وبعكس إيران، كان لبيزنطة مركزها السياسي في ما يمكن دعوته نسبياً قلبها الإثني، وعلى هذا الأساس كانت بعيدة عن ريفيي الهلال الخصيب: يونانيو سوريا لم يكونوا شيئاً بالمقارنة مع فرس العراق. ومقابل غزوهم السريع والكامل لإيران، ترك العرب بيزنطة الأناضول المتهلينة دون غزو حتى أواخر العصور الوسطى. وهكذا فقد أوصل الهاجريون، بطريقة ملائمة، مبادرتهم الثقافية إلى أقصى درجاتها حين كانوا يهبطون بالعاصمة الساسانية إلى مكانة ريفية ويشيدون عاصمتهم الخاصة في ريف بيزنطي متعنت. ومن نقطة التقاطع بين الوحدانية البربرية والريفية المتحضرة هذه ولدت الحضارة الإسلامية.


9 قدر الأنتيك I هوجرة الهلال الخصيب

يبدو أن التفاعل الداخلي بين الهاجرية وأقاليم الهلال الخصيب هو العملية الأكثر حسماً وتعقيداً في تشكيل الحضارة الجديدة. وهي أيضاً عملية نجد في تحليلها أن أقدار الأقاليم داخل هذه الحضارة من جهة، ومساهماتهم بها من جهة أخرى، هي في المحاولة الأخيرة غير قابلة للفصل. مع ذلك فأبسط شيء هو أن نبدأ على نحو أحادي الجانب بالحقيقة التاريخية الفجّة القائلة إن الهلال الخصيب كان قد أُسلم أو عُرِّب على نحو غامر عاجلاً أم آجلاً. لكن من المفيد أن نبدأ بالمسارات المتنوعة للطوائف المختلفة في العراق. كان ضعف الموقف المسيحي في العراق ذا شقين: فالبنيان الأرستقراطي لكنيستهم جعل المسيحيين قابلين اجتماعياً لأن يُغزوا من قبل إله غيور، والطبيعة الاممية لحقيقتهم جعلت من السهل نسبياً عليهم أن يتركوها من أجل حقيقة أخرى. لكن مع أن هذه النقاط تنطبق بشكل متساو على كنيسة آشوريا الريفية وكنيسة بابل العاصمية، كان هنالك مع ذلك فرق بين الإثنتين بشأن آليات الإنهيار. لقد قامت الكنيسة الآشورية بشكل شبه حصري على أكتاف طبقة أرستقراطية من ملاك الأراضي، وكان الأرستقراطيون والفلاحون على حد سواء آراميين حصرياً.لقد استفاد الآشوريون بالتالي من دماثة يهوه المسيحية لتكريس خلفة صورة after - image شكل حكمهم الآشوري الخاص، ومع أن الإثنية الآشورية كانت بحد ذاتها ضعيفة ومنتشرة في آن، فمسيحيو شمال بلاد مابين النهرين تمتعوا كآشوريين بتضامن إثني، اجتماعي وتاريخي والذي كان في آن دنيوياً ومتسامياً: بعكس المسيحيين الحضريين فهم لم يكونوا مجرد أبناء للعهد وأخوة في المسيح. إذاً، كان النبلاء والفلاحون متآزرين هنا. ولو كان المسلمون مهيأين لأن يتسامحوا بوجود طبقة أرستقراطية محلية ذات إيمان محلي، فلربما استمر وجود المسيحيين كأديابين في ظل حكم عربي؛ بالمقابل، فلو تطوّع المسلمون لتكريس الطبقة الأرستقراطية باعتبارها طبقتهم، لربما غيّر المسيحيون جميعاً دينهم في خلفة صورة مسلمة لأديابين. لكن المسلمين لم يظهروا عملياً التسامح المطلوب ولم يكن للنبلاء ذلك الاهتمام في أن يعتنقوا الدين. وكانت النتيجة أن النبلاء والفلاحين على حد سواء ظلّوا مسيحيين(1)، النبلاء انحطوا تدريحياً إلى فلاحين(2)، والفلاحون انحطوا تدريجياً إلى ضحايا عزّل للصوص البدو الذين كانوا يغيرون عليهم من الصحراء وللجيوش التركية والمغولية التي زحفت عبر أراضيهم بين مراكز الحضارة. فمع خسارتهم لنبلائهم لم يعد لديهم أيّ ممثلين يحافظون على استمراريتهم، كما أنهم لم يمتلكوا قط أية ديانة إثنية تمنعهم عن تبديل دينهم: بل إن نينوى لم تكن بديلة لصهيون، تماماً مثلما أن الكهنة الظلاميين(3) لم يكونوا خلفاء للحاخامين؛ ومع أنهم رفضوا أن ينتهوا بالكامل من على وجه البسيطة، فإن ما كان على الأوروبيين اكتشافه بجانب آثار ماضيهم كان بقية مؤسفة لآشوريا. بالمقابل فقد كان لدى المسيحيين في بابل طبقة ارستقراطية يهيمن عليها الفرس في ريف ذي غالبية آرامية من ناحية، ونخبة مدنية من أصول متنوعة مشابهة من ناحية أخرى. هنا، إذاً، استُخْدِمت كياسة يهوه المسيحية لإزالة التكريس عن شكل الحكم الفارسي بحيث يمكن للمسيحيين القبول به، وبالمقابل فالإستمرارية الإثنية والاجتماعية للكنيسة كانت هنا متسامية صرفة. وهذا بالطبع جعل كنيسة الحواضر لدنة للغاية: فما قدّمه النساطرة إلى ملك ملوك علماني لم يكونوا ليمنعوه عن خليفة علماني(4)، ولو لم تكن الحكومة المسلمة دينية جوهرياً، فلربما حافظ المسيحيون على وجودهم. لكن هذا جعل كنيسة الحواضر مفككة جداً أيضاً: ففي شمال بلاد مابين النهرين دعم الجهاز الإكليروسي تواصلية أخلاقية كانت موجودة من قبل بين النخبة والجماهير، أما في بابل فقد كان عليهم خلقها - مهمّة لا يبدو أن نجاح التوجه الأرستقراطي للكنيسة كان فيها متميزاً. لذلك، حين قرّر كل النبلاء بالإجماع التمسك بها كمسيحيين(5)، تركهم فلاحوهم يفعلون ذلك كمسلمين؛وبعدما غادر الفلاحون باتجاه بصرى بثبات منذ منتصف الحقبة الأموية وما بعد(6)، صارت «الدلتا الكلدانية» إقليماً مسلماً صلباً مع حلول منتصف القرن التاسع(7). استسلمت النخبة المسيحية الباقية في المدن للوحدانية الهاجرية بشكل أساسي عبر التعددية المتهلينة التي أوجدها العباسيون، وهي الظاهرة التي أدّت في حاصل الأمر إلى هلاك كل النخب المدنية غير المسلمة باستثناء اليهود.وحين استدرج عصر التنوير العباسي غير المسلمين من غيتوياتهم كي يشاركوا في نقاش عقائدي متبادل حول الحقيقة السارية في لغة الفلسفة العالمية في البلاط البغدادي، كانت النتيجة هجوماً متجدداً غير مفاجيء لدوار النسبية: فمن ناحية لم تعد الحقائق المنافسة معزولة بالفصل المادي، ومن ناحية أخرى لم تعد مبقية جانباً بالفصل الفكري. فاللغة المشتركة حرمت التفاسير التقليدية للتعددية الدينية من معقوليتها الطائشة القديمة، وذلك مع عاقبة جديدة وقلقة تقول إن كلاً من التفاسير والحقائق وضِعَت في نصابها الصحيح وتوقفت بالتالي عن أن تكون فائقة. كان هنالك بعض الذين ساروا في طريق الرواقية، فاستخدموا الأديان مثل آرمات البلدية من أجل التبصّرات الأكثر رفعة للفلسفة المفاهيمية: هكذا كان الفارابي(8)، إخوان الصفا والدوائر الإسماعيلية الأخرى(9)، أوكتاب علة العلل السرياني الذي يعود إلى القرن التاسع(10) ؛ بالمقابل، كان هنالك بعض الذين ساروا في طريق الأبيقورية، رافضين الديانات مثلها مثل العديد من الخرافات ومتبنين على نحو متصلب ضدها الحقائق الفائقة للفلسفة: هكذا كان العديد من الزنادقة(11)، الدهريين(12)، الرازي(13)، ابن الراوندي(14)، اليهودي هيوي البلخي(15)، أو الكلداني ابن وحشية(16). لكن في جميع الأحوال فقد سببت هذه التعددية الدينية اضراراً للآلهة، معيدة بابل الفكرية إلى حيث كانت تنتمي(17). كان واضحاً أن غير المسلمين هم الذين كانوا سيخسرون في هذا البحث عن حقيقة فوق الحقائق. فغير المسلمين كانوا في موقف دفاعي في حين لم يكن المسلمون كذلك، ونسبية حقائقهم كانت تعني نسبية دفاعاتهم(18). كان للمسيحيين ميزة على اليهود تجلّت في أن المسيحية كانت قد توصّلت منذ زمن طويل إلى تفاهم مع الفلسفة المفاهيمية، وأولئك المسيحيون الذين جُلبوا إلى تبديل الدين عبر الفلسفة مباشرة كانوا بالتالي قلّة(19)؛ كما كانت لهم ميزة على الكلدانيين الوثنيين تجلّت في أن الفلسفة لم تكن وسيلة نقل هويتهم، الأمر الذي جاءت منه السهولة الكبرى التي استطاعوا بها أن يتشاركوا مع المسلمين في الهوية. لكنهم بالمقابل كانوا أضعف من اليهود والوثنيين في السهولة التي استطاعوا بها تبديل حقيقتهم الدينية حين خلق تيار التنوير ثقافة ذات جاذبية علمانية: لقد استطاع علي بن عيسى، كمسلم في بغداد، أن يدرس الفلسفة والطب اليونانيين، أن يهذب القواعد، الشعر والأسلوب الخاص بالعمل الكتابي، أن يبحث في الديانة الحرانية، أن يجادل اليهود، وأن يكتشف أية مسيحية كانت قد تركت في التصوّف الإسلامي(20). والمسيحيون الذين لم يكن لديهم صهيون ولا بلاد الكلدان لإبقائهم في «حياة منعزلة» اختفوا في هيئة مسلمين منشقين(21). من ناحية أخرى فاليهود والوثنيون كانوا في القارب ذاته إلى درجة أن الطرفين دمجوا حقائقهم بهوياتهم(22)، وقد مُثّل الطرفان بطبقة علمانية مثقفة.كان هذا يعني، أن هؤلاء، بعكس المسيحيين، لم يكونوا غير حصينين للغزو الغريب؛ ومن النظرة الأولى نعرف أن الجماعتين كانتا في موضع جيد على نحو متعادل لمقاومة تبديل الدين. لكن كان ثمة فرق حيوي بالطبع: الحقيقة اليهودية كانت إلهاً شخصياً، وحقيقة الوثنيين كانت مفاهيم غير شخصية. وكان هذا يعني شيئين. ففي الموضع الأول، لم تستطع الدوائر التنجيمية للكلدانيين توليد وحدة إثنية، تضامناً اجتماعياً، ولا معنىً تاريخياً. فمن منظور إثني كانت الدوائر دون شعب مختار؛ ومن منظور اجتماعي لم تكن مفهومة إلا للنخبة؛ أما من المنظور التاريخي فلم يستطيعوا سوى تفسير الحاضر، لكن ليس تسويغه. استطاع اليهود إطاعة إلههم، البكاء على شكل حكمهم، الامل بخلاصهم؛ لكن الكلدانيين لم يستطيعوا سوى دراسة ثورات جموحة. والحقيقة أن اللب التنجيمي للوثنية المتأخرة اجتاز طبعاً تعديلات لا نهائية في إدراك حقيقة أن البشر يعذّبون بعواطف دنيوية؛ فمن ناحية كان الكلدانيون ينوحون على حكمهم ويأملون أن دورهم سوف يعود(23)، ومن ناحية أخرى طوّروا همّاً معيناً لأجل الجماهير(24). مع ذلك بقيت حقيقة أن النجوم لم تستطع الافصاح عن هذه المشاعر: المسألة تحديداً هي أنه كان يجب أن تكون فوقها، وطالما ظلّت النجوم على حالها لم يكن باستطاعة المنجمين أن يتبنوا منظوراً أرضياً أكثر تماسكاً. مع ذلك، لم يكن مرجحاً أن تحرز الجماهيرموضوعية كهذه؛ ومن ناحية إذا أيقظت النجوم شعباً بحيث أنكر تأثيرها(25)، ومن ناحية أخرى جعل منها هذا الشعب تقدمة تضامن ومعنى عبر عبادة cult إله إثني، لا نستغرب إذا أطاعت الجماهير النجوم وغيّرت دينها(26). في الموضع الثاني، فإن الشخصية المفاهيمية للوثنية الكلدانية كانت تعني أن أنصارها لم يستطيعوا المشاركة في حقيقتهم دون طمس هويتهم. والشرائع الكونية تستطيع أن تكون حقيقة خاصة فقط عبر حق التأليف أو النشر copyright، وليس بالعمل؛ وحيثما أصبح المرء يهودياً أو صادر الإله اليهودي، استطاع ممارسة علم التنجيم بأعظم ما يمكن من التسليم المهذّب. لقد استطاع المسلمون أن يستعيروا الحقائق الكلدانية، دون أن يغامروا بأن يصبحوا كلدانيين؛ لكن الكلدانيين الذين باعوا حقائقهم باعوا أيضاً هويتهم، وهذا لم يستطيعوا فعله في بيئة مسلمة دون أن يغامروا بالإختفاء هم أنفسهم فيها. وهكذا فقد استسلمت النخبة الوثنية للتعددية الإسلامية: حين استطاع واحدهم أن يكون مسلماً ممارساً للتنجيم، لم يعد لدى الوثنيين حقيقة يقاومون بها. وخروج ثابت بن قره وأمثاله من حرّان(27) في القرن التاسع، قاد بالتالي إلى تبديل هلال الصابئي لدينه في القرن العاشر في بغداد(28) ؛ في حين لم يستطع ابن وحشية في القرن العاشر سوى إعادة التأكيد على حقوق التأليف والنشر الشعوبية(29). وحدهم اليهود كان لديهم إله إثني: وبعكس المسيحيين فقد استطاعوا أن يتحمّلوا أن يكونوا شكوكيين ويحافظوا مع ذلك على إثنيتهم اليهودية، وبعكس الكلدانيين فقد استطاعوا أن يتحمّلوا ممارسة التنجيم ويحافظوا مع ذلك على إلههم اليهودي(30). الإله اليهودي لم يتواءم بالطبع مع المفاهيم، وقد كان ثمة يهود جيء بهم بالتالي إلى تبديل الدين بوساطتها(31)؛ لكن معظمهم كان يمضي وقته في العبث بهذه اللعب المفاهيمية الجديدة ليس إلا. لقد استعار سعاديا غاؤون الفلسفة، أطاع إلهه وناح على حُكْمه، في حين استسلم ابن وحشية لإله ما واستعار لغة يهودية ليندب بها حكمه(32). وهكذا استمر يهود بابل في تجمعهم في الأزمنة المعاصرة عبر فدائهم العلماني؛ أما الوثنيون، فلم يبق منهم للأزمنة المعاصرة سوى المندائيين لينشدوا الفداء في الثورات الماركسية(33). وهكذا رغم أن العراق صار بلداً ذا غالبية مسلمة، فقد ظل قدره هوجرة لا ترحم. ففي الموضع الأول، ظل من بقي من المسيحيين «سرياناً»(34): رغم تبني اللغة العربية(35) منذ البداية والإختفاء المطلق للغة السريانية السريانية كلغة أدبية(36)، استمرت اللغة السريانية كلغة طقوسية في كافة أرجاء الإقليم وكلهجة عامية في معاقل الآشوريين الريفية(37)؛ على نحو مشابه، فرغم الجهل الكلّي الذي انحدر إليه الآشوريون، فهم لم يشكوا في هويتهم غير العربية. وهكذا فقد كان مجيء الأوروبيين يعني إحياء السوريانه، واختفاءهم النهائي ضمن العرب لكن ليس كما في سوريا. ففي حين كان على مسيحيي سوريا العودة إلى ماركة الروم المستعربين، فقد قبِل مسيحيو العراق تحديداً لهويتهم ككلدان وآشوريين(38) ؛ وفي حين كان على مسيحيي سوريا قيادة المسيرةنحو خلق ثقافة عربية حديثة، تبنّى مسيحيو شمال العراق لغة سريانية حديثة؛ وفي حين كان على مسيحيي سوريا تقديم النظريات للقومية العربية، تاق الآشوريون إلى حكم جديد في مدينة نينوى الجميلة وسهل الموصل الخصيب(39). في الموضع الثاني، فقد ترك الذين غيّروا دينهم خلفة صورة: صورة لآشوريا مسقطة على شاشة عربية في حالة المسيحيين، وصورة لبابل في شكلها الكلداني في حالة الوثنيين. لقد كان للآشوريين أحد أشكال الحكم في حين كان المسيحيون الحضريين فوق كل أشكال الحكم، لذلك لا يبدو مفاجئاً أن آشوريا ظلت على قيد الحياة رغم الأزمات عبر المسيحيين فقط. لكن في الوقت ذاته فالآشوريون شاركوا في اثنيتهم(40) أما المسيحيون الحضريون فكانوا فوق كل الإثنيات؛ ومن غير المفاجئ أيضاً أن المسيحيين فشلوا في أن يتركوا بصمتهم إثنياً أو لغوياً في الإسلام: من جهة لم يكن هنالك شعوبية سورية(41)، ومن جهة أخرى لم يكن هنالك مسلمون سريان(42). لكن إذا فشل الذين غيّروا دينهم في الاحتفاظ بحضارتهم باعتبارهم «سوريانه» فقد استطاعوا مع ذلك أن يحتفظوا بها كعرب جنوبيين؛ فبعد أن استقر مسيحيو نجران العرب في نجران الكوفة كي يكونوا قطب الرّحا، صار «عربي من دير قنّاء» يعني يمنياً مزيفاً(43). وهكذا فقد صار المسيحيون الذين بدلوا دينهم عرباً، لكن عرباً بصفة مميّزة؛ وقد كان جزءاً من هذا الإرث العربي المختلف إلى حد ما، أن آشوريا المبدّلين(44) لدينهم عادت للظهور. فملك مدينة حترا في شمال بلاد مابين النهرين كان إذاً إمّا آشورياً(45)، عربياً يحمل لقباً آشورياً(46)، أو ببساطة عربياً من جنوب شبه الجزيرة(47)؛ وإذا كانت الذاكرة صحيحة تماماً في أنه هزم سبتيموس سويروس(48)، وأنه هُزم بدوره على يد شاهبور(49)، فهو أيضاً الذي اشتهر على نحو وهمي للغاية بأنه قاد حملة سنحاريب ضد القدس أيام ارميا(50). كذلك فإن ملك الحيرة الواقعة في جنوب بلاد مابين النهرين كان يعتبر إمّا آشورياً أو عربياً من جنوب شبه الجزيرة(51)، وإذا كانت سلالة حكام الحيرة ذائعة الصيت لإحرازها مآثر كتابية [من الكتاب المقدّس]، فقد استطاعت على الأقل أن تنحدر من احيقار(52) ؛ في حين أن أحيقار ذاته، المعروف في العربية المسيحية، يعاود الظهور في ثوبه الإسلامي باعتباره لقمان الحكيم(53). خلفة الصورة الكلدانية، بالمقابل، عادت للظهور بما لها من حق خاص. فالكلدانيون، بعدما دمجوا حقيقتهم مع هويتهم، كانوا مُلزمين بمقاومة التعريب باستخدام كل المصادر اللغوية، السياسية، والثقافية التي كانت تحت تصرفهم. وهكذا صارت الدعاية للآرامية صادرة أساساً عن خلفية وثنية(54)، تماماً مثلما أن الوثنيين وحدهم هم الذين قدّموا مسلمين يتكلمون الآرامية(55). وملوك بابل المذكورون في الحكايات، كهنتها أصحاب الحكمة السرانية، أدباؤها وحكماؤها استُحضروا مع قوة، رغم تشحيب التقليد(56)، ضمنت لبابل خلفة صورة في الإسلام لا تماثلها غير خلفة صورة إيران (57). لكن الحماسة الكلدانية أحبطت نفسها بنفسها: ففي حين اجتمع الشعوبيون الآخرون في كورس من المحتجين على هوية الإسلام العربية، وجّه ابن وحشية كراهيته دون تمييز إلى كل الذين هدّدوا الصدارة الكلدانية، سواء أكانوا عرباً، فرساً(58)، يونانيين(59)، آشوريين(60)، أو حتى سوريين(61).ولأن الكلدانيين فصّلوا هويتهم بلغة مفاهيم كونية، كان على الحضارة إما أن تكون كلدانية بالكامل، أو أن تترك الكلدان وشأنهم(62). لكن بما أن مفاهيم الكلدان وصلت إلينا في نسخ أوضح من اليونان وإيران، فالكلدانيون فقدوا حقوق التاليف والنشر؛ وبما أنهم عاشوا في العراق الأدنى،لم يستطيعوا أن يُتركوا وشأنهم؛ وهكذا فعلى الرغم من كل الحيوية البدئية لخلفة صورتهم، أضاع الكلدانيون إثنيتهم في إثنية العرب مثلما فقدوا حقائقهم في الإسلام. وهكذا فقد كانت مسارات طوائف العراق المختلفة بعيدة عن التطابق: العلاقات المختلفة بين هوياتهم وحقائقهم من ناحية، والتجسيدات الاجتماعية المختلفة للتقاليد المتنوعة من جهة أخرى، أدت إلى إمكانيات متفاوتة للغاية لمقاومة الهوجرة. لكن هذه الاختلافات تخفي مع ذلك تناسقية عامّة: فكل الطوائف العراقية، سواء أكانت مسيحية، يهودية أم وثنية، تميزت بمعرفتها الكاملة لكينونتها، ولم تكن أيّ منها بحاجة خاصة إلى هوية عربية. وباستثناء اليهود، فقد غشيتهم الهاجرية كلهم تقريباً، لكن ما غشاهم كان دون أدنى التباس قدرهم، وليس قسمتهم. بعكس التجربة العراقية، فالهاجرية لم تكن قدر سوريا بل خلاصها. والحقيقة أن النعمة ظلت بالطبع مخفية زي نقمة. الهاجريون في نهاية الأمر ليسوا مسيحيين، والسريان كان لديهم دون شك التصميم الكبير كي يستمروا كالسابق. لكن رغم أنهم قد يكونون أحسّوا بوجودهم في موقع يؤهّلهم كي يستمروا كغير عرب تحت اسم المسيحية مثلما استمروا كغير يونان تحت اسم المونوفيزية، فالواقع أن السريان كانوا محكومين بالقدر المحتوم. لقد استمر السريان في بيزنطة المسيحية لأن المسيحية مجرّد دين. لقد كانت في آن الحقيقة الحضرية الفائقة والحقيقة الوحيدة التي لم يخترعها الحضريون؛ وطالما كانت الحقيقة والهوية بهذه الطريقة متمايزتين مفاهيماً، استطاع السريان اللعب بواحدة ضد الأخرى. بالمقابل، فلأن المسيحية مجرّد دين، أو بكلمات أخرى حقيقة يمكن توحيدها مع أية إثنية أو شكل حكم، فقد استطاع المسيحيون أن ينجحوا في البقاء في سوريا المسلمة(63): انطباعات حول يهود عرب، زرادشتيين عرب، أو بربر عرب لا تثير أية مشكلة، لكن المسيحيين العرب هم وجع الرأس الوحيد للمسلمين. وهكذا ففي حين حاول أبو عيسى الأصفهاني، بهافريد وحاييم إنقاذ هوياتهم الإثنية والسياسية عن طريق صفقات توفيقية مع الحقيقة الهاجرية الجديدة، كان صعباً على المسيحيين أن يثوروا باسم المسيحية(64) مثلما كان سهلاً عليهم للسبب ذاته أن يقبلوا بالعرب كمخلصين لهم(65). مع ذلك فلأن المسيحية كانت مجرد دين ايضاً لم يستطع السريان المحافظة على وجودهم حين توقف التمييز بين الحقيقة والهوية الحضريتين عن الوجود. لقد استطاعوا ضرب اليونانيين بعقيدتهم البربرية، لكنهم ضد الهاجريين كانوا بحاجة إلى هوية دنيوية، ومن الأفضل أن تكون هوية مصهورة مع حقيقتهم؛ وهذا ما لم يكن لديهم. ربما أربك الهلينيين أن يسوع لم يكن يونانياً، لكن كان عليه أن يكون سورياً ملتزماً جداً حتى تترك إثنيته انطباعاً كهذا على الهاجريين؛ كذلك فربما أثّر في نفوس الهلينيين أن الإبداعية الثقافية لم تكن يونانية بحتة، لكن شعوبية السريان المسيحية الصرفة لم يكن عندها شيء لهزم الفخار الثقافي للهاجريين(66). لقد استطاع الغساسنة العرب المشاركة في إحياء كنيسة سريانية وذلك باعتبارهم رفاقاً في البربرية ضد اليونانيين؛ لكنهم لم يكونوا برابرة سوريين ضد العرب، وإذا كان جبلة بن الأيهم قد آثر خروجاً مسيحياً إلى بيزنطة(67)، فإن معظم مواليه وطنوا أنفسهم بصورة لائقة كهاجريين في سوريا. مسيحيون بالنسبة لله وبرابرة بالنسبة لليونانيين، كان السريان بحاجة إلى هوية أكثر تماسكاً ضد العرب. لذلك، حين بدا واضحاً أن العقاب الإلهي كان سيستمر أطول كثيراً من المدّة العادية التي تستمر بها الهزات الأرضية، الجفاف، الجراد، الأوبئة والغزوات التي يؤدّب بها الرب عادة الذين يحبّهم، بدأ السريان يلينون. ومع نهاية القرن الثامن أضحى العقاب على خطايا المسيحييين والذي كانوا يأملون أن يكون مؤقتاً عقاباً أبدياً على هرطقات اليونانيين على ما يبدو(68) ؛ وحين هدّد الصليبيون في القرن الثالث عشر بإعادة الخلقيدونيين، كان هنالك اتفاق جازم بأن الغزوات كانت قد جعلتنا في موقع أفضل(69). وربما تكون اللغة العربية قد بدأت بشن غارات على اللغة السريانية كلغة محكية في وقت قديم قدم بدايات القرن الثامن(70)؛ وهكذا فبحلول القرن العاشر أضحت اللغة السريانية إحدى اللغات الأدبية المسيحية(71)، وتوقف التحدّث بها مع حلول القرن الحادي عشر(72)، أما بحلول القرن الرابع عشر فتوقفت عن أن تكون مكتوبة(73). في ذاك الزمان اختفى كلّ اليعاقبة تقريباً من بين العرب، وورث الملكانيون اللقب سوريانه(74)؛ ومع حلول القرن السادس عشر اختفى كل اليعاقبة تقريباً في الإسلام(75)، وتابع الملكانيون في وراثة أسلافهم الغساسنة(76). وحين جاءت الإرساليات الأوروبية إلى سوريا، كان من بقي من المسيحيين باستثناءات قليلة «أولاد عرب» في لغتهم المحكية، الأدبية والطقسية، وفي الثقافة والسلف(77). فالجنة المفقودة بالنسبة لليونانيين كانت الجنة المعاد اكتسابها مع العرب: فبعدما خلّصهم يسوع المسيا في العالم التالي، احتاج الأمر إلى عمر الفاروق كي يخلّصهم في هذا العالم(78). لكن إذا حافظت أقلية مسيحية صغيرة على وجودها عبر القرون، فإن الغالبية العظمى من السوريانه بدّلت الهوية والحقيقة على حد سواء. وكما قدّم الفصل بين الهوية والحقيقة الحضريتين المحرّض والآلية على حد سواء لبقاء السوريين في مواجهة اليونانيين، كذلك تماماً فإن اندماجهما شكّل الآن شركاً وقبضة على المُخَنَّق على حد سواء في مواجهة الهاجريين. فالسوريين من ناحية لم يعد باستطاعتهم الاستمرار داخل الإسلام بأكثر من استطاعتهم الإستمرار خارجه: بعكس الإيرانيين، لم يمتلك السوريون هوية علمانية، وإذا كان هنالك مسلمون فرس لم يكن هنالك قط أي سوريانه مسلم. ومن ناحية أخرى لم يكن لديهم ما يحفزهم على محاولة الاستمرار في الإسلام، مع أنهم حاولوا ذلك حتماً خارجه: بعكس الإيرانيين، لم يكن لديهم ما يخسرونه، و يتطلّب الأمر معرفة واسعة للحصول على شعوبي سوري(79). في الوقت ذاته، فالسمة التشتيتية على نحو استثنائي للإستيطان العربي في سوريا كانت تعني أنه، إذا لم يكن العرب ليمتصوا ضمن السوريين، فالسوريون كانوا سيمتصون على نحو أسهل ضمن العرب. لذلك نجد أن اعتناق سوريا الإسلام مفقود بالكامل في المصادر الإسلامية مثله مثل تحوّل الثقافة السورية إلى إسلامية. فالتواريخ لا تسجل تدفّق فلاحين إلى المدن العربية وفق الأنموذج النسطوري ولا ثورات فلاحية كاسحة وفق الأنموذج القبطي، ويحتاج الأمر إلى مراجعة المصادر السريانية لإظهار أن السوريين لم يكن عليهم أن يُستَدرجوا من البلد ولا أن يسحقوا: بدأت العملية مبكراً(80) واستمرت دون هوادة(81). كذلك فالتواريخ لا تسجّل أية محاولة سورية لإدخال حضارتهم في الإسلام: والأمر يحتاج إلى مراجعة المصادر السريانية لإظهار أن ما كان لديهم من حضارة إنما عبؤوها كمسيحيين(82)، أما ما عبؤوه كمسلمين فلم يكن سانخونياتون، جوليا دومنا، ولا القديسين السوريين، بل مجد قيدار(83). فالمسيا السوري ليس ملك بعلبك، بل السفياني الذي سيعيد امبراطورية معاوية السورية والذي سيأتي، إن شاء الله، قبل نهاية الزمن حيث سنكون أحياء كلّنا(84). بالمقابل فالثقافة السورية كانت عرباً وزواحف معاً: ففي ذلك الوقت تحديداً، حين كان البلاط العباسي يشتري الفلسفة اليونانية من النساطرة، تبنّى ابن ثيودوسيوس، وهو أحد خمّاري دمشق، اسم حبيب بن أوس الطائي ليصبح مدافعاً عن عرب جنوب شبه الجزيرة، وقد كان شاعراً عظيماً وجامعاً أعظم للقطع الأدبية الهامة والذي كان سيتلو قصائدة في ثوب بدوي أمام مأمون(85) ناكر للجميل. وسواء أكانوا مسيحيين أم مسلمين، فقد اكتشف السوريين أخيراً من هم كانوا. ما أن تلاشت سوريا من أيدي المسيحيين والمسلمين على حد سواء، حتى بدا أن محاولة إحيائها لم تستطع أن تكون غير سخيفة بعكس الفرعونية. فقد كان باستطاعة مصر المعرّاة من غزاتها الموحدين أن تظل كيمة Keme بالنسبة للأقباط؛ لكن سوريا الخاضعة للتعامل ذاته لم تكن لتراها غير عين أنطون سعادة(86) الرفيعة في علميتها. لقد عادت الفرعونية إلى ماضٍ حقيقي، لكن سوريا لم تمتلك أيّ هرم قط في مواجهة زوابع الجنوب. من هنا، فإذا كان قدر المسلمين السوريين أن يصبحوا أصحاب نزعة عروبية شاملة، فقدر المسيحيين لم يستطع أن يكون غير ضرب المسلمين في العروبية مثلما ضربهم المسلمون بها في البداية. وهكذا أصبح الإسلام المتطهر من زوائده التوحيدية(87) ثقافة عربية بالنسبة لجرجي زيدان، قومية عربية بالنسبة لنجيب عزوري، إشتراكية عربية بالنسبة لميشيل عفلق، ومقاومة عربية بالنسبة لجورج حبش. أما الأقباط والنساطرة فهم الصهاينة الذين فقدوا مطلبهم بالأرض التي امتلكوها ذات يوم(88)؛ لكن السوريين انضموا إلى الفلسطينيين.


10 قدر الأنتيك ii المصادرة الثقافية للهلال الخصيب

بفضل التوحيد اليهودي امتلك الهاجريون الذين غزوا سوريا حقيقة وهوية؛ لكن الإثنتين لم ترقيا إلى مستوى حضارة. فمن ناحية لم تكن في أي منهما أية إجابات على مشكلات الحياة المستقرة، ومن ناحية أخرى فإن وجود تلك الإجابات في الأراضي التي غزوها جعل من المستحيل على الهاجريين التأني في تطوير أجوبتهم. بالمقابل، فبفضل التعددية الهلينية، كان لدى كنعانيي سوريا القرن السابع حضارة وحقيقة؛ لكن الإثنتين لم ترقيا إلى مستوى هوية. فمن ناحية كانت حقيقتهم دينية صرفة، ومن ناحية أخرى فالحضارة لم تكن حضارة خاصة بهم. وهكذا كان العرب والسوريون قادرين على نحو فذ لأن يساعدوا بعضهم بعضاً. ولو أن العرب غزوا الإقليم في القرن الثالث بعد المسيح، لم يكن لخروج النخبة اليونانية إلى العاصمة أن يترك للغزاة الكثير مما يمكنهم تملّكه؛ ولو أنهم انتظروا حتى القرن العاشر، لما ترك تآكل الهوية السورية مسافة كبيرة بين الثقافة والريفيين المحليين. لكن ما حصل هو أن الهاجريين أسسوا عاصمتهم في إقليم حيث التوحد بين حقيقة مسيحية وهوية شاحبة أدّى إلى اغتراب ثقافي ليس أقل عينية من توحد حقيقة يهودية وهوية بربرية بين الهاجريين أنفسهم. لقد أُحيل بين السوريين وبين قبولهم لتقاليد العالم الذي استوطنوه، تماماً كما أحيل بين الهاجريين وبين استيلائُهم على تلك التقاليد حين غزوا ذلك العالم. من هنا، إذا كان هنالك نوع من التكامل العام بين احتياجات ومصادر الهاجريين والريفيين الإقليميين، ففي سوريا كان هذا التكامل الأوضح ظهوراً. لقد كانت سوريا بالفعل مليئة بالملكية الثقافية التي لا صاحب لها؛ وفي حين كان العراقيون مؤهلين حتماً للعمل كمعرّين مساعدين، فإن المطورين السوريين للبربرية هم الذين كانوا بحاجة فعلاً لأن يروجوا لثقافة يونانية مقابل الهوية: لم يستطيعوا إضفاء الصبغة القومية علىالحضارة إلا كعرب. بالمقابل، فالعرب في اختيارهم لاستيراد الهلينية من السوريين استطاعوا النجاة من التابعية الثقافية للمطورين النبطيين للحضارة: لقد أحرزوا حضارة بزي نتاج عربي. وهكذا فعمل القوة tour de forceالعربي كان مقترناً بعمل ضعف tour de faibless سوري عامة معادل: سواء أوصف ذلك كتبنٍ سوري لشبه الجزيرة العربية أو كمصادرة عربية لسوريا، فقد كان قدر سوريا أن تختفي وأن تكون مساهمتها بالتالي حاسمة وصعب إدراكها بالفكر. من السهل الاستيلاء على ملك ثقافي لا مالك له مثلما هو صعب تقصّي أثر مالكيه، وإذا كانت الإرسالية الحضاروية السورية تتمثل في هوجرة ثقافتها، فالهاجريون كانوا سيظهرون وكأنهم خلقوا بأنفسهم هذه الثقافة فعلاً. ولأن أولاد الهاجريين تعلّموا على يد الكهنة المسيحيين في سوريا عبد الملك(1)، استطاع المتوكل تحديداً أن يطرد أولاد المسيحيين من المدارس الإسلامية والكهنة المسيحيين من سامرّاء الإسلامية(2). بكلمات أخرى فالسوريون كانوا مؤهّلين على نحو فريد لتطوير حضارة ضمن توجيهات وُضِعت من قبل الدرع الهاجري الحامي. بادئ ذي بدء، لم يكن السوريون يمتلكون تقليداً متكاملاً والذي باستطاعتهم إما نقله إلى غزاتهم أو معاناة ضياعه منهم. ومن وجهة نظر الغزاة القبائليين، فالفرق بين الغزوات الإسماعيلية والإسرائيلية للأرض تمثّل في أن البعليم الثقافي للكنعانيين المتهلينين لم يعد يمتلك قوة للإغواء؛ أو لنقل التصوير لما وَجَب أن يكون في وقته غزواً ثانياً للأرض، فلو أن يسوع تخلى اضطرارياً عن هذا العالم لإمبراطورٍ روماني، فمن باب أولى أن الهاجريين لم يقعوا تحت إغواء مضاد للتخلي عن العالم الآخر للكهنة المسيحيين. وهكذا فإن سوريا التي لم تكن تمتلك غير امبراطور غريب، وكنيسة غريبة، اجتنبهما الهاجريون بسهولة للحفاظ على صهرهم للدين والسياسة في نوع من الإمامية السامرية. لكن مع أن هذا كان حافزاً أساسياً لحفظ الديانة الهاجرية، فهو بحد ذاته لم يمنع بقاء الحضارة الهلينية(3). ولو كان السوريون أحسّوا أن حضارتهم ملكهم فعلاً، فلربما بالتالي قرنوا مصيرهم بمصير الكهنة الأمويين في محاولة لإنقاذ تراث أكثر تكاملية. مع ذلك فرغم الإشارة العرضية إلى مثل هذا التعاون(4)، فقد أحس الإمبراطور ببعض التوق إلى نظام روماني للمجتمع(5) تماماً مثلما أحس الأسقف ببعض التوق إلى نظام يوناني للكون. وهكذا فإن ما أشرع له الأبواب كل من الإمبراطور، النخبة وفلسفتها عند رحيلهم كان عهداً، أمثولة نذرية، وكتاباً مقدّساً: بكلمات أخرى، المصادر غير الكافية لرفض ضمني للحضارة. لقد قام الكنعانيون في حاصل الأمر بمحاولة عمل هاجرية(6)لكنهم فشلوا،فقد كانوا يفتقدون الأسباط، وهكذا فحين وصلت الأسباط في نهاية الأمر، كانت الهاجرية لا الهلينية هي التي مثّلت الإغواء(7). ثانياً، لقد كان أمام السوريين أخيراً هوية متكاملة يحصلون عليها. في هذا الصدد تبدو حالة أبي تمام أنموذجية: كابن لثيودوسيوس لم يستطع في أفضل الأحوال سوى تقليد اليونانيين، لكن كابن لأوس فربما نافسهم أو حتى تفوّق عليهم. وكما أن معاوية في سوريا هو الذي جمع المعلقات(8)، كذلك تماماً فإن أبا تمّام هو الذي مجّد الماضي العربي عبر ذروته البطولية في ذي قار(9). كان على أنطونيوس التكريتي كمسيحي أن يستشهد بهوميروس وبلوتارخ إضافة إلى إفرام ليثبت تفوق اللغة اليونانية(10) ؛ لكن البحتري، ميمون بن مهران وبني المهاجر كانوا متحررين كمسلمين لهم دمجهم المفاهيمي للجاهلية، الحكم والكتاب المقدس، من الشعراء المستوردين، الحيوات الشبيهة والأسفار المقدسة المترجمة على حد سواء. وهكذا فقد استطاع البحتري أن يكتب شعراً عربياً لخليفة عربي(11)، تماماً كما استطاع ميمون ابن مهران خدمة آخر، فيعلّم أولاده ويدوّن مآثره(12)، وكما استطاع أبو المهاجر أن يخدم غيره، فيعلّم أولاده ويتخصص في الكتاب(13)، وذلك ضمن الإطار الموحّد المطمئن للفَرَادة العربية ذاتها. لقد انتزعت حبكات من الدرامات الهلينية، مقولات من الروايات الهلينية، قطع وأجزاء من الفكر اليوناني(14)، وزوائد ونتائج من الشرع الروماني(15) عن سياقاتها الأصلية لتقديم مواد لأجل صرح عربي. وفي كل الحالات كان العرب يزودون بالبنى، والسوريون يجبرون ممتنين على تقديم أحجار البناء. كانت هذه السمة المتحاشية بذاتها عن الناس والتي ميّ‍زت الدور السوري تعني شيئين. أولاً، لقد مكّنت البرابرة من وضع نبرتهم الثقافية الخاصّة. ففي حين لم يستطع الرومان المتعرضون للتقليد اليوناني سوى تقديم جاهليتهم في شكل ملحمة هوميروسية، ولم يستطع المانشوس Manchus في الصين الكونفوشيوسية سوى تحويل جاهليتهم إلى أسئلة مقالاتية من أجل امتحانات الدولة، لم يكن الهاجريون مكرهين على ذلك النحو كي يعيدوا صياغة هويتهم بحسب اللغة الثقافية لمواليهم. ولو أن السوريين صاروا مع حلول القرن السابع يونانيين غيورين مثلما صار السلت الايبريون روماناً، فلربما طالب معاوية بوضع مجموعة المعلقات في شكل إلياذة عربية؛ لكن مهما كانت المكانة النهائية للشعر العربي، فناقلوه لم يكونوا مقلدين دون المستوى لهوميروس. مقابل ذلك، فلو أن العاصمة العربية تموضعت في العراق، فلربما أمر عليّ بتحرير edition للماضي العربي وفق أنموذج تحرير الإيرانيين لماضيهم؛ لكن مهما كان دور حمّاد الراوية(16) في نقل الشعر القبائلي وتزويره، فهو لم يكن أحد أسلاف الفردوسي. وهكذا فقد كان العرب في موضع يؤهلهم لاعتبار جاهليتهم كثقافة متميزة على نحو خاص. ثانياً، إن التحاشي بالذات عن الناس السوري كان يعني أن سوريا استطاعت العمل كمرشِّحة، ليس فقط للتقليد اليوناني في سوريا ذاتها، بل أيضاً للتقاليد الأخرى، يونانية أم غير يونانية، والتي رُشِّحت للتو عبر بيئة إقليمية في مكان آخر. وهكذا ففن الحكم الإيراني لم يصلهم إلا عبر نسخة عبد الحميد بن يحيى الريفية، الذي ربما كان مسيحياً من الأنبار، والذي يبدو أيضاً وكأنه جمع بين الأنموذج الرسائلي لإقليميي سوريا البيزنطية والأنموذج الرسائلي لإقليميي العراق الساساني، خالقاً بالتالي توليفة عرببية خاصة والتي وضعت في نهاية الأمر نبرة مكتب المحفوظات العربي(17). لم يمتلك الهاجريون في سوريا تواريخ البلاط البيزنطي ولا الحوليات الملكية الساسانية كي يتعاملوا معها: فكما صانتهم السريانية من بيروكوبيوس Procopius، كذلك تماماً حصلوا على تاريخهم الإيراني عبر جنوب شبه جزيرة العرب، من أشخاص مثل عبيد بن شارية، وهو يمني يفترض أنه استمد معرفته من الإيرانيين المحليين. على نحو مشابه ففي اليمن أحرز الإيراني وهب بن منبه مجموعة معارفه اليهودية التي نقلها إلى هاجريي سوريا، تماماً مثلما أن اليمني الأوزاعي هو الذي قدّم لهم الشرع اليهودي(18). بهذه الطريقة استطاع الهاجريون تَحمّل تعرّض لنسخ شاحبة في دمشق قبل أن يتوجب عليهم مواجهة التقاليد الأكثر تكاملية في العراق. فالسوريون لم يهوجروا أنفسهم والثقافة التي عرفوها قبل الغزو فحسب، بل أيضاً كل ثقافة أُحْضِرت إلى إقليمهم بعد ذلك. كان هنالك استثناءان فقط لهذه الجاهزية العامة عند السوريين لتسويق هكذا ثقافة والتي جاءت في طريقهم كقطع غيار. فأولاً، كان لديهم كنز خاص بهم في هيئة المنذور؛ والناسك السوري ظهر من المحن على نحو غير مفاجىء ليس في كماليته فحسب، بل وعلىنحو مبكر أيضاً، في هيئة أبي ذر، أبي الدرداء، وأمثالهم(19)، والذين راحوا مع الوقت يتطورون ليصبحوا قديسين صوفيين. وثانياً، كان لدى السوريين تقليد لاهوتي متكامل بما يكفي لأن تعيد المفاهيم المسيحية ظهورها في زيّ إسلامي، بشكل مقتصد في الغيلانية(20) وبشكل أكثر امتلاء في جرأته في القدرية(21)؛ ولو أن سوريا ظلّت العاصمة فلربما لعبت دوراً في نقل الفلسفة اليونانية أكبر من الذي لعبته فعلياً(22). مع ذلك فقد كانت هاتان المساهمتان بحد ذاتيهما قصريتين تبادلياً إلى حد ما. ليس هنالك بالطبع تنافر جوهري بين الصوفية واللاهوت، فبقدر ما يمكن تعريف الصوفية كمسيحية معرّاة من منظومتها الإكليروسية، لم يكن هنالك ما يمنع أن يكون اللاهوتيون والصوفيون فروعاً من الفلسفة اليونانية ذاتها؛ وقد كانوا كذلك في العراق فعلاً. لكن مع أن اللاهوتيين السوريين ورثوا شيئاً من مفاهيم الكنيسة الهلينية، فقد سرمد الصوفيون السوريون قيم المنذورين المنافسة. وبما أن السوريين كانوا متحضّرين للتخلّي عن المدن للحاخامين المسلمين إذا كان الأخيرون بدورهم سيحولون «شعب الأرض» إلى منذورين مسيحيين، فقد عاشت سوريا على نسكيتها النذورية وليس على مفاهيمها اللاهوتية. وكما كانت الفلسفة اليونانية استمراراً للمسيحية النسطورية وليس اليعقوبية(23)، كذلك تماماً أيضاً فالإرث اليوناني في الصوفية مأخوذ من العراق، لا من سوريا(24). بعضهم عراقي الثقافة سوري الزهد، كما هي الحال مع أخوان الصفا(25)، وهكذا فليس من غير الملائم أن يتلقى السوريون فلسفتهم اليونانية عبر بغداد(26). والمنذور عمر بن عبد قيس الذي نُفي من البصرة ربما كان سيجد بيئة أكثر تجانساً في سوريا معاوية(27)، لكن القدريين الذين اختفوا من سوريا وجدوا بيئة أكثر تجانساً في بصرة المعتزلة(28). لقد سفح أبو الدرداء دموعاً مسيحية لا تخطئها العين(29)، وأفراد قبيلة بني عذرة كانوا مبتلين بحب أفلاطوني مهوجر(30)؛ لكن سرمدة الإرث اليوناني بحد ذاتها لم يكن ممكناً أن تكون عمل السوريين. وبعدما نفجر الغشاء الإكليروسي والرهباني للهلينية، لم يكن للسوريين ولا للعرب مصلحة في الحفاظ على محتوياته كما هي؛ ونَقْل التقليد الهليني، وذلك عوضاً عن سحقه، كان بالتالي لابد أن يكون مساهمة عراقية على نحو غامر. كان العراق إقليماً ذا مصادر ثقافية أكثر غنى من سوريا، لكنه كان أيضاً إقليماً لم يستمر فيه تشحيب الهوية ولا مجانسة الحقيقة لفترة طويلة. ولو أن الغزاة الهاجريين اختاروا أن يجعلوا عاصمتهم في كوفة علي وليس في دمشق معاوية، فإن فرصهم بالتالي لخلق حضارة جديدة كانت ستكون أقل كثيراً جداً. فأولاً، كان للثقافة العراقية مالكون محدودون للغاية، والتبعية الثقافية المحتومة كان يمكن أن تتطور بسهولة إلى قبول ثقافي: كان الأمر سيحتاج إلى كم كبير من الجَلَد الكهنوتي لتقديم تقاليد متكاملة باعتبارها هاجرية فطرياً، وحتى لو سارت المسائل على هذا النحو، فالحاخامون فشلوا في سحقها بالكامل(31). ثانياً، امتلك العراق إرثين متنافرين، هما اليهودي والهندو - أوروبي. لقد صُفِّي الإرث اليهودي أساساً عبر الكوفة، التي تخصصت من ثم في الشرع، فولّدت هرطقات إمامية، ورأت انبعاث المسيانية مع المختار؛ أما الإرث الهندو-أوروبي فقد صُفِّي أساساً عبر البصرة، والتي تخصّصت من ثم في القواعد وفقه اللغة، فأنجبت المعتزلة، ورأت عودة ظهور الأفكار الفارسية حول المَلَكية من ناحية(32)، والديانة الفارسية، اليونانية والهندية على شكل الزندقة(33) والصوفية من ناحية أخرى. من هنا فحتى لو أثبت الهاجريون أنهم قادرون على تحمّل خصال التبعية الثقافية، فهم لم يستطيعوا تجنب خصال الصراع الثقافي - كما لم يفعلوا حقاً حين اجتمعت الكوفة والبصرة في بغداد أخيراً. ولو أن دراما ابن حنبل والمأمون مُثِّلت بعد الحرب الأهلية الثانية وليس الرابعة، فلربما تفككت الهوية الدينية الجنينية للغزاة بالكامل، تاركة الهاجريين كي يختفوا ليصبحوا يهوداً ومسيحيين عاجلاً أم آجلاً. وحتى كما كان عليه الأمر، فقد توجّب على الصراع أن يترك تنافراً والذي أضحى سمة الإسلام الدائمة. وهكذا فقد كانت حصيلة الحرب الأهلية الأولى ذات أهمية ثقافية رئيسة: لأن سوريا النذورية حمت الهاجرييين من التقليد الحضري في حواضرهم فقد تجنبوا التبعية الثقافية، ولأن سوريا المسيحية لم تقدّم سوى حقيقة واحدة فقد تجنبوا الصراع الثقافي. وهكذا فقد استمر الهاجريون طيلة قرن من الزمن في تلقي ثقافتهم، عراقية وغير عراقية، بجرعات صغيرة على أيدي السوريين؛ وبما أنهم استخدموا الحماية فهذا مكّنهم من تحصين هويتهم الدينية الخاصة، والحصيلة في العراق العباسي لم تعد قدر الهاجرية بل قدرالحضارة. إن نتيجة الترقية العباسية للعراق إلى مكانة عاصمية كانت بالتالي فورة لسوية متزايدة للغاية من الصراع الثقافي بين مجموعة أكثر تمايزاً من أنصار الثقافة: بكلمات أخرى، فالوضعية التعددية هي التي كانت تنزل مثل ذلك الدمار بالولاءات الدينية للنخب غير الإسلامية. وفي هذا الصدد فالجلبة بين الأطراف الدينية حول مكانة التقليد الشفوي تبدو أمثولية: عنان بن داود وأبو حنيفة اللذان يناقشان الشريعة في سجن الخليفة(34) يقترنان مع ثيودورس أبو قره والعلماء الذين يناقشون الدين في بلاط الخليفة(35) و مع الشعوبيين الذين يناقشون الثقافة مع وزير الخليفة(36). لكن في الوقت ذاته فقد حصلت هذه الحوادث ضمن قيود محددة للغاية. فمن ناحية كان هنالك حدود الآن على حرية تناولها للإرث اليهودي: وهكذا لم يعد هنالك أي شك أنه كان على الإسلام أن يجد تجسيده الديني كشرع منزّل، يحتوي كل شيء، ذي أنموذج يهودي، والعباسيون وفقاً لذلك أقرّوا بالحاخامين عوضاً عن محاولة وضع شرع أمبراطوري(37). لكن من ناحية أخرى كان هنالك حد أيضاً لا يستطيعون تجاوزه في محاولة الاستغناء عن الإرث الهندو-أوروبي: لم يكن هنالك حتى ذلك الوقت الكثير من الشك بأنه كان على الإسلام أن يجد تجسيده السياسي في إمبراطورية موحدة على النمط الفارسي، والعباسيون بالتالي استعاروا آداب سلوك من البلاط الفارسي عوض الإنسحاب إلى داخل الغيتو. لكن إذا أُمْكِن أخذ هذين القيدين الأساسيين كما أعطيا، فقدكان تنافرهما التبادلي يعني أن نتائجهما لم يكن أخذها كما أعطيت. وجوهر المسألة يكمن في الموقف الغامض للحاخامين المسلمين كحاخامين بالغزو. فبعدما تركوا الغيتو، لم يعد باستطاعتهم أن يرفضوا ببساطة إرثاً من أجل الآخر بطريقة اليهود؛ لكن كونهم فعلوا ذلك كغزاة وليس كمبشرين، لم يعد بإمكانهم دمج الإثنين ببساطة بطريقة المسيحيين. عوضاً عن ذلك، وُضِعوا وفق تنظيم الحاخامين في بيئة حيث كتلة المادة الغريبة كانت تضغط في اتجاه القبول الثقافي، وكان عليهم القبول ببعضها ولو حتى كي يعطوا جوهراً لتقليدهم المحدث النعمة ليس إلا. يمكن أن نبدأ بأكثر حالات التمثل الحاخامي نجاحاً، ألا وهي قدر الشرع الروماني. بالنسبة لأغراضنا الآنية يمكن التفكير بنظام تشريعي بلغة هرمية: التعريف الأكثر تجريدية للنظام يتناسب مع القمة، وتتناسب كتلة التفاصيل والأجزاء مع القاعدة، أما في الوسط فلدينا طبقة هي في آن أقل رفعة وأقل خصوصية وهي التي تودع فيها بُنى النظام وإجراءاته المميزة. وهكذا فالشرع الروماني، في ترتيب تنازلي،كان يتكوّن من مقولة «الشرع المدني»، علم الفقه، وكتلة الشرع الأساسية. نقول الآن إنه إذا كان على الحاخامين المسلمين أن لا يقبلوا بالهرم ككل ولا يرفضوه ككل، فقد كان عليهم تفكيكه؛ ومن أجل هذه العملية كان وسط الهرم هو المنطقة الحاسمة. لأنه لو استطاع الحاخامون التخلص من الوسط الروماني واستبداله بنظرية فقهية خاصة بهم، لأضحى ممكناً بالنسبة لهم تبديل الشرع المدني بشرع مقدّس: فمن ناحية استطاعوا على القمة استبدال مقولة الشرع المدني بإرادة الله،ومن ناحية أخرى استطاعوا إعادة تشكيل الشرع الأساسي على القاعدة لتقديمه كتطوير لإرادة إلههم وككنز خاص بأمتهم(38). لقد ساعد ظرفان إثنان الحاخامين المسلمين إلى حد كبير في تحقيق هذا الاستبدال.ففي الموضع الأول، فقد أحرز العرب أمثولتهم من اليهود في مرحلة مبكرة: ففي الزمن الذي يُزعم أن أبا حنيفة وعنان التقيا فيه في سجن الخليفة، كان الهاجريون يقتربون من نهاية تبعيتهم الدينية لليهود. ثانياً، كان الهرم الغريب هشاً بشكل غير اعتيادي: لأنه، بعكس شرع سوريا، كان شرع العراق النسطوري منفصلاً سياسياً عن أرومته الرومانية. وكانت النتيجة أن الفقه الروماني اختفى فعلاً. فالنساطرة قبلوا بالشرع المدني للأباطرة الرومان لأنهم كانوا مسيحيين، وأطاعوا الشرع العام للأباطرة الفرس لأنهم كانوا مواليهم؛ لكن النظرية الوحيدة التي استطاعت أن تستحوذ على اهتمامهم المفاهيمي كانت نظرية الشرع المسيحي. وهكذا مال الفقه لأن يُخْتَزل إلى مبادئ مسيحية، في حين انزلق الشرع المدني إلى شرع كنسي وصار الشرع العام قبولاً بالعدالة التنفيذية للدولة. من ناحية، كان هذا يعني أن النساطرة في غيتوهم الفارسي صاروا مكافئين تقريباً لما استطاع فعله ورثة مبدأ الخلاص بالنعمة البولسي بالشرع الحاخامي؛ ومن ناحية أخرى كان هذا يعني أن العلاقة بين قمة الهرم الشرعي وقاعدته صارت مقلقلة إلى أبعد حد. في الوقت ذاته فإن طلاق الشرع النسطوري من الحكم الروماني أثّر في شخصية القاعدة ذاتها. فالشرع الأساسي للنساطرة كان يفقد طابعه الروماني، من جهة عبر تحويله الذي استمر زمناً طويلاً إلى شرع كنسي، ومن جهة أخرى عبر إشابته المتواصلة للشرع الروماني بالعرف الفارسي. باختصار نقول، إنه في حين احتفظ شرع سوريا الروماني بشكل متكامل وبالتالي مقاوم، كان سهلاً نسبياً على المسلمين في الحالة النسطورية إدخال أمثولتهم الخاصة في الوسط وسحق شرع أساسي والذي كان قد لُيِّن لتوه عند القاعدة(39). وهكذا كان هنالك الشكل المميّز للشرع الإسلامي: إرادة الله فوق القمة، في الوسط تأتي نظرية فقهية تدول حول فكرة شرع نبوي، وفي القاعدة نجد خليطاً مشوشاً من مواد أنظمة تشريعية أكثر قدماً تعود إلى منطقة الشرق الأوسط مطحونة داخل كتلة غير ذات بنيان من تقاليد نبوية غامرة. لم يكن في العملية ما يمنع أن تخرج إلى السطح كمية طيبة من الشرع الروماني؛ لكن المقولة بحد ذاتها رميت عند التخوم تماماً. وفي الكلمة قانون وقف الشرع المدني مداناً باعتباره نجاسة غريبة؛ وتم التأكيد على المسألة عن طريق إسقاط أصول الشرع الإسلامي في قلب شبه جزيرة العرب(40). كان التقليد اليوناني أقلّ عرضة إجمالاً من التقليد الروماني لهذا النوع من التعامل. فمفاهيم الفلسفة لم يكن بالإمكان سحقها لأن جوهرها بالذات كان بنيانها. لكن بالمقابل فهذه المفاهيم ذاتها هي بالضرورة موضع شك الحاخامين: ابستمولوجياً لأنها غير شخصية، اجتماعياً لأنها نخبوية، وإثنياً لأنها غريبة. حتى هذا الحد لم تكن حالة الفلسفة اليونانية تختلف طبعاً عن حالة الفقه الروماني. لكن في الموضع الأول، فقد امتلك التقليد اليوناني مركز جاذبية مختلفاً للغاية. فالفقه لا يستطيع أن يطمح إلى أكثر من أن يكون خادماً لشرع اساسي؛ لكن في سياق يوناني فالعلم الأساسي كان كما هو معروف تابعاً للفلسفة. وهكذا لم يكن بالإمكان تخيّل أن الحاخامين يضربون الوسط أو يعيدون تشكيله حتى يستولوا على الهرم: فهم لو فعلوا ذلك لكانوا ببساطة سيدمّرونه. وفي الموضع الثاني، فحتى لو تمكنوا من ضرب الوسط، فإرثهم اليهودي لم يكن باستطاعته تقديم بديل ولم يفعل ذلك. كان هنالك على الأقل نظرية يهودية ضمنية حول طبيعة الشرع، لكن النظرية اليهودية حول طبيعة الطبيعة كانت ببساطة مذهباً توحيدياً والذي شطب المقولة بالكامل. وهكذا كان على الحاخامين إما أن يمسكوا بالقرّاص المفاهيمي أو أن يدافعوا عنهم: أن يوحدوا بين كتابهم المقدس والفلسفة لتوليد لاهوت مفاهيمي يندمج فيه الله مع المفاهيم، أو أن يجعلوا كتابهم المقدس في مواجهة الفلسفة كي يقضوا عليها بالكامل. وبما أنهم لم يستطيعوا أخذها، فقد رفضوها. لكن إذا كان من الضروري أن يضيع معنى الهرم اليوناني عن الحاخامين، فقد ظلت هنالك إمكانية إنقاذ العلم الأساسي الذي عند قاعدته. لأنه إذا كانت عمليات الإرادة الإلهية في مسائل الشرع سهلة الإنصياع للفقه التوحيدي، لم يكن هنالك سبب يفسّر لماذا يجب على عملياتها في مسائل المادة أن لا تثبت سهولة الإنصياع للعلم التوحيدي. وبين تأكيد هليني على شرع طبيعي والذي أرسل الله في غيبة سببية، وتأكيد يهودي على إرادة الله والتي اختزلت السببية إلى شطحات لحالاته النفسية، ظلت هنالك أرضية وسطى محدّدة: استطاع المرء أن يسأل على نحو معقول عن الإله الذي كان عليه أن يشكّل مجموعة من العادات المعوّل عليها، أي «سنة الله» وفق التعبير الفَرِح في القرآن. وهكذا فقد استطاع المسلمون تبجيل إرثهم اليهودي عن طريق المحافظة على عالمهم خالياً من الشرع الطبيعي بقدر ما كان حكمهم خالياً من الشرع المدني؛ لكنهم بالمقابل لم يستطيعوا الإفلات من تشويش إرادية شاملة عبر تحويل طب اليونان الوثني إلى طب الإسلام النبوي(41). لكن المحاولة فشلت، وكان هذا لسببين واضحين. فأولاً، لم يكن ثمة أمثولة يهودية متاحة - وهو ماترك على عاتق المسلمين العبء الإضافي لواجب اختراعها بأنفسهم. ثانياً، إن الرباط بين الفلسفة والعلم الأساسي كان سيئاً. ولو أن المسلمين استكشفوا التجريبية العنيدة للتقليد الهيبوقراطي عن طريق إزالة الزوائد التالوية للنظرية النفسانية، لكانوا وجدوا أنفسهم مع كتلة جزيئات يسهل إعادة تجميعها تحت حماية درع سنّة الله؛ لكن هذا الكشف لم ينجز في إسلام القرن التاسع، بل في أوروبا القرن السابع عشر، والعلاقة بين الطب وميتانظريته الفلسفية كانت بالتالي كما تدل كل الظواهر جوهرية. وما كان يصح على الطب كان يصح من باب أولى على علم التنجيم: ولو أن المسلمين لم يستطيعوا عزل هيبوقراط، فإن إستطاعتهم على استخلاص المعلومات التجريبية للألواح المسمارية من التفاسير اليونانية النظرية التي كانت تتخلّلها كانت أقل. لأنه لم يكن بالإمكان صيرورة التقليد اليوناني إبستمولوجياً، كان مستحيلاً بالمقابل تقديمه بطريقة غير مؤذية إثنياً. لقد أُمْكن بالطبع إنقاص قيمة إثنيته. فالمفاهيم هي من طبيعة كوزموبوليتانية، والتاريخ فعل الكثير كي يوضح هذا: فبعدما جُرِّد من شكل حُكمه على يد المقدونيين، ومن آلهته على يد اليهود، ومن لغته على يد المترجمين السوريين، حُرّر التقليد الفلسفي بطريقة فاعلة من منبته اليوناني مثلما حُرِّر الشرع النسطوري من منبته الروماني. وكما ألحّ الجاحظ على نحو ملائم للغرض، فالفلسفة اليونانية، لم تكن رومانية ولا مسيحية(42)؛ ومن الملائم إلى هذا الحد أن نرى في البيروني خوارزمياً مسلماً يقدّم دفاعاً رواقياً عن الوثنية الهندية(43). لكن إذا كان الواقع يقول إن المفاهيم هي فوق الخصوصية وهو ما يسهل عليها الانتقال، فهو أيضاً يجعل من الصعب عليها أن تأخذ الصبغة القومية. وإذا كانت الفلسفة مبدأياً «مشتركة بين كل الأمم والطوائف»(44)، فللسبب ذاته لم يكن هنالك ما يجعلها عربية بشكل خاص - وهو ما كان المعضلة السورية القديمة(45). أقصى ما أمكن فعله هو محاولة تأكيد حقوق التأليف لأحد الكتّاب - وهو ما كان المعضلة الكلدانية القديمة. لكن في حين استطاع قومي يوناني من القرن الخامس عشر مثل بلثون Pelthon القيام بهذه الحركة على أرض وطنه(46)، فالمسألة كانت ستحتاج إلى جهد كبير لتقديم مزاعم مماثلة من جانب العرب. هنالك تلميح شبه موحٍ إلى هذا التكتيك: نظرية الفارابي القائلة إن الفلسفة نشأت في بلاد مابين النهرين(47) أدت إلى نتيجة فحواها الإضفاء عليها مكانة أحد أنواع «فلسفة ابراهيم». لكن يصعب القول إن الإنعطافية الإثنية للفلسفة انتهت مع محمد، وتكتيك الاستيلاء الإثني لم يحظ بأية فرصة للنجاح فعلية. وإذا لم تستطع الفلسفة أن تكون عربية، فذاك جعلها غير حيادية إثنياً بقدر ماهي غريبة على نحو صريح. وهكذا شُهِّر بالفلسفة على اعتبار أنها تقليد Tradition أجنبي إلى درجة أن أسماء أعظم رجالها كانت بربرة يعسر لفظها على ألسنة المؤمنين الحقيقيين(48)؛ بالمقابل، لم نكن نتوقع هذا الشكل من التسامح الذي استمتع به الشعر العربي، رغم قَدَريته اللادينية، لأنه كان عربياً (49). وهكذا فالرفض الحاخامي للفلسفة كان إبستمولوجياً وإثنياً في آن. ونتائجه ليست بعيدة عن التلمّس: يمكن تقصّيها بحذق في درجات التوفيقية المختلفة التي واجهها المسيحي فيلوبونوس من القرن السادس والمسلم الكندي من القرن التاسع في محاولتيهما لإعطاء تفسيرات فلسفية للعقيدة الدينية(50)؛ أو يمكن محاكاتها بسخرية فجة في قول لقاضٍ سني من القرن الثالث عشر من أن الإسلام، بحمد الله، ليست لديه أدنى حاجة لمنطق مهما كانت نوعيته، وإنه يجب تخيير الفلاسفة بين الإسلام أو السيف(51). وإذا كانت تضامنية القيم الإسلامية لم تُلغ علنياً الهلينية بطريقة عنيفة للغاية، فإن أعداءها على مستوى المبدأ قاموا بمحاولة عنيفة لقتل الفيزيك والميتافيزيك بإعادة التقليد اليوناني ذاته: ذرات ديموقريطس هي على وجه التحديد رمال على شاطئ البحر الأحمر في مذهب التصادفية الإسلامي(52). ربما أن فكرة فلسفة مسيحية تعتبر عويصة بنتيجة مفيدة؛ لكن انطباع فلسفة إسلامية، كما لاحظ الحاخامون في القرن التاسع عشر بحق، هو تناقض في المفاهيم(53). على هذه الأرضية المحبطة من العدائية الدينية المتواصلة، كان تاريخ الفلسفة الإسلامية طويلاً وليس غير مؤثر. لكن إذا كان تآكل مكانتها بطيئاً، فقد كان ايضاً لا هوادة فيه. لقد اختزلت علوم القدماء على نحو مضطرد إلى نوع من البورنوغرافية الفكرية، والنخبة ثاقفت تلك العلوم إلى ثقافة- فرعية مضنية وسيئة السمعة(54). ربما لم يجد هاسدربال القرطاجي الهليني مكاناً للفلسفة في موطنه، لكنه استطاع على الأقل تركها للإحترام الأكاديمي في أثينا (55) ؛ لكن حين وجد حي بن يقظان نفسه على نحو مشابه في غير موضعه في الإسلام، لم يكن أمامه سوى العودة إلى جزيرته الصحراوية(56). وهكذا كان قدرا الشرع الروماني والفلسفة اليونانية في نهاية الأمر متساوقين. ففي حالة الشرع فقد أُزيل بنجاح الشكل المفاهيمي، وهكذا بحيث أُمكن إعادة تحزيم كتلة التفاصيل عديمة الشكل باعتبارها نتاجات محلية عبر نَسبِها إلى النبي أو إلى ماض قبائلي معياري؛ أما في حالة الفلسفة فقد رفضت المفاهيم الاستمرار، مع نتيجة تقول إن الهرم برمته فشل في تبديل هويته الثقافية في الانتقال واحتفظ ببصمة أصله عن طريق السمة التشخيصية. فقد أدينت فلسفة الأنتيك باعتبارها فلسفة، تماماً كما أدين شرعه باعتباره قانوناً؛ لكن بعكس الشرع الأساسي، لم يحرز الطب الأساسي أي تكريس قط. وهكذا فقد فَقَد الشرع الروماني طبيعته، في حين فشلت الفلسفة في التطبيع؛ لكن قدري الطريقين كانا عدم السعادة. لقد كانت ثقافة الشعوبيين في ديوان وزير الخليفة فارسية على نحو غامر، وإن لم يكن حصرياً. وكانت قيمتهم المركزية أمثولة سياسية والتي نستطيع تقديمها من جديد على شكل هرم: فكرة سلالة ملكية على القمة، منظومة مجتمع ارستقراطية في الوسط، وعلم فن حكم في القاعدة. وهنا، بالطبع، لا نتعامل إلا بشكل قليل نسبياً مع المفاهيم المجردة والكوزموبوليتانية: النظام الفارسي للمجتمع مَثَّل تقليداً حاضرياً مرتبطاً بحميمية قوية مع إثنيته ومنبته الديني بحيث كان بحاجة ماسة إلى إفصاح نظري. لم يكن الرباط بالطبع خالياً من النزاعات: فكما كان مزدك الفارسي قادراً على رفض النظام الاجتماعي الإيراني باسم زرادشت، كذلك أيضاً كان المسيحيون الآراميون قادرين على القبول به باسم المسيح. لم يكن باستطاعة النساطرة أن يعملوا للتقليد الإيراني ما عملوه مع الرومان؛ لكن التقليد الذي واجهه العرب في العراق كان قادراً مبدأياً على الأقل على أن يفقد قدسيته وإثنيته. إذاً، فقد كان من الممكن مبدأياً بالنسبة للغزاة البرابرة أن يقبلوا بالإرث الإيراني على أساس أنه كان يمثّل حضارة ليست متنافرة مع الإسلام، مع أنها غير إسلامية جوهرياً. أما عملياً، فإن الصهر الهاجري للحقيقة والهوية كان يعني أن الثقافة الفارسية كانت ستُرفَض على أساس أنها لم تكن عربية، تماماً مثلما أن الماضي العربي كان سيقدّس حتى لو وضحت لا إسلاميته. ردة فعل المسلمين من غير العرب أخذت شكل سلسلة يائسة من المحاولات لتحرير الإسلام من غشائه العربي. وحركة الخوارج كانت واحدة من أقدم الوسائل الدينية المستخدمة في هذا السبيل؛ لكن مع أنه أُمكن استخدام حركة الخوارج لإزالة القداسة عن الإثنية العربية، فهي لم تكن وسيلة مناسبة لتكريس الحضارة(57). وهكذا فسحت المجال أمام الزندقة، وهي مانوية إسلامية حاولت إزالة القداسة عن كلّ من الإثنيتين الفارسية والعربية كي تضم ثقافة الأولى إلى ديانة الثانية؛ لكن بقدر ما كانت المانوية معادية شكلانياً لكل من المادة والتوحيد، كانت فرصها للنجاح في هذه المغامرة ضعيفة. وهكذا حالما تحوّل وشل معتنقي المذهب إلى فيضان، أفسحت المانوية الطريق بدورها أمام الشعوبية، وهي حركة من المسلمين من غير العرب كانوا ينشدون إضفاء الشرعية علىحضارتهم بالبرهان على أن الإسلام منذ البداية كان غير عربي(58) وذلك دون الاستعانة بالهرطقات.وهكذا فقد ولّد الضغط المتسق للإسلام العربي على الحضارة غير العربية رجالاً اشتركوا في الاستراتيجية الثقافية ذاتها رغم تنوع تكتيكاتهم الدينية. فلدينا الخارجي أبو عبيدة، الذي كرّس نفسه نظامياً لأمثولة تطهيرية لسلطة سياسية وذلك كي يدافع عن أمثولة فارسية لسلطة تاجية(59) ؛ المانوي ابن المقفع، وهو نبيل إيراني كانت الحضارة بالنسبة له أنتيكاً كبيراً(60)، والذي شرع كمولى للعرب في تعليم سادته البرابرة أن يكونوا حرّاسها، فيدرّسهم آداب المائدة، ويحوّل لغتهم إلى أداة مسفسطة لتعبير أدبي، ويتطوع من أجل برنامج لتحويل ديانتهم إلى عقيدةٍ إمبراطوريةٍ مطواعة(61)، ليواجه موته تحت التعذيب وهو في سن السادسة والثلاثين ليس إلا(62)؛ أو الشعوبيون عموماً الذين أشاروا بيأس، وقد حصرتهم في الزاوية ديانة عنيدة، إلى أن كل الحضارات، بالله عليك، كانت غير عربية، فسواء الفراعنة، النماردة، القياصرة، أو الشاهنشاهيون، الشعراء، الفلاسفة أو الأنبياء قبل محمد، كل هؤلاء أنجبهم غير العرب في سياق بناء حضارات الجنس البشري في حين كان العرب يأكلون السحالي في صحرائهم(63). وسواء اتخذنا موقفنا بناء على تقوى أبي عبيدة الخوارجية، وجاهة ابن المقفع الأرستقراطية، أو سخريات الكورس الشعوبي وتفاخره وتهكمه وشتائمه، فجوهر الرسالة كان ذاته: الإسلام ديانة لكل الأمم(64). وحده الدمج الهاجري للمعنى الديني بالقوة العنيفة للغزوات حكم على هذه المحاولة العملاقة بالفشل: ولو توقف الإسلام عن كونه ديانة عربية بالكامل، فإن شدة المشاعر الشعوبية بالذات، التواصل الطويل لنضالهم، والدلالات السيئة لمصطلح شعوبية في الازمنة الحديثة، كل ذلك يظهر بوضوح كاف أن الشعوبيين لم يكونوا أبطال الإسلام بل ضحاياه(65). لذلك لم يكن كافياً أن لا تتنافر الثقافة الفارسية مع الإسلام: كان يجب أن تُجعل إسلامية جوهرياً. وبما أن هذا كان عملاً عظيماً لا يستطيع إنجازه سوى الحكمة السرانية للكهنة، والذي فشل العباسيون في الواقع في إتمامه، فإن ما بقي من قدر التقليد الفارسي تُرك في أيدي الحاخامين. كان التقليد مريباً بالنسبة للحاخامين بناء على حسبتين. ففي الموضع الأول لم يستطع قط أن يصبح عربياً جوهرياً، مع ذلك فهذه السمة الأجنبية تم تلافيها إلى حد ما بحقيقة أن الفرس صاروا في الوقت المناسب مسلمين؛ وهكذا فقدت البقية الإثنية للتركة الفارسية الكثير من الوصمة التي احتفظت بها تركة اليونانيين. وصار ممكناً إلى حد ما الإقرار بالأصل الفارسي لمواضيع ثانوية في الحضارة الإسلامية(66). أما في الموضع الثاني فالتركة الفارسية كانت متنافرة، ربما ليس مع الإسلام بحد ذاته، بل حتماً مع الإسلام في شكله الحاخامي. فالصنو الحاخامي للهرم الفارسي لم يستطع أن يتشكّل إلا من الله، طبقة علمانية غير متناسقة، وشريعة موحاة. وهكذا فقد اغتصب ملك الملوك موضع الإله الإسلامي؛ ورغم أن الكهنة استطاعوا تبنّي جوهر التقليد الملكي دون اسمه وذلك على أساس أنه إسلامي جوهرياً، فالحاخامون لم يستطيعوا سوى رفضه باعتباره كافراً أساساً(67). على نحو مشابه لم تكن ثمة طريق يمكن جلب الحاخامين عبرها للقبول بنظام أرستقراطي للمجتمع والذي كان يهدد العلاقة المباشرة بين الله والمؤمن الفرد؛ واالطبقة الأرستقراطية الوحيدة التي استطاع الحاخامون إضفاء الصبغة الشرعية عليها كانت منحدرة من النبي العربي. أخيراً لم تكن ثمة أمثولة والتي باستطاعة الحاخامين إقحامها لإنقاذ قاعدة الهرم: كطبقة نبيلة دينية صرفة فإن المنحدرين من النبي استطاعوا أن يصبحوا حاملين لأصول حكم فارسي مسحوق لكن ليس بأكثر مما استطاع شرع ديني صرف أن يحتوي حطام امبراطورية متشظية. والنتيجة كانت بالتالي تنويعة على إرث اليونان: لقد دخل الهرم برمّته واستمر، ضرب ودقّ، لكنه لم يجرّد من طبيعته ولم يُطَبّع(68). ينشأ الإختلاف عن الحقيقة القائلة إنه في حين استطاعت الفلسفة أن تتدبر وجوداً دقيقاً تقريباً بين الحاخامين المسلمين والمماليك الأتراك طالما كان هنالك منشقون مسلمون، فالدرجة المنخفضة للإفصاح النظري المميز للفكرة الأرستقراطية كانت تعني إنها قلما استطاعت الإبقاء على الاختفاء المادي للبيوتات الأرستقراطية. لقد فقد دادويا المبارك مكانته الأرستقراطية ليصبح مجرد أداة مالية استطاع الحجاج شلّها بحرية؛ أما ابن المشلول، ابن المقفع، فقد ظل بإمكانه تعزيز أمثولاته الأرستقراطية كحاجب مجرد والذي استطاع الخليفة إعدامه بحرّية. لكن حفيد المشلول، الذي عاش دون أذية ليموت موتاً طبيعياً، لم يترك خلفه ورثة أرستقراطيين ولا أمثولات أرستقراطية: لقد عزّى نفسه عوضاً عن ذلك بالحقائق الأبدية للفلسفة اليونانية التي كان يترجمها للبلاط العباسي(69). من هنا، ففي حين كان على الحاخامين أن يشنوا حرباً على الفلسفة اليونانية لا نهاية لها، وإن كان واضحاً أنها رابحة، فقد انخسف وسط الهرم الإيراني ببساطة وإلى الأبد. ودون أن يكون عندهم وَسَط لتقديم الأمثولة، لم يستطع الحاخامون إزالة طبيعية أصول الحكم الإيرانية ولاتطبيعها كما فعلوا مع الشرع الروماني؛ لكن بالمقابل، فدون وسطه الحاسم، أُمكن على الأقل التساهل مع الهرم الإيراني بينما لم يكن ذلك ممكناً مع اليوناني. وهكذا فنحن لدينا بقايا لمنظومة مجتمع إيراني وذلك في إعادة صياغتها السنّية على أنها الله، الملوك وأصول الحكم، والتي تتواجد ببساطة مع المنظومة السنية القائم على الله، الطبقة العلمانية والشرع المقدّس، دون إضفاء الصبغة التشريعية على أيّ منهما أو مقاومتها إلى درجة كبيرة. لقد كُسرت الشرعية السلالية للملوك الفرس عبر إله عنيد وذلك لتقديم سياسة تصادفية(70)، واستطاع الملوك الحفاظ على شرعية أدواتية معينة، تماماً مثلما استطاع علمهم أن يستمر باعتباره ترسانة دنسة لأصول الحكم. بقدر ما يمكن تعريف الحضارة الإسلامية على أنها ذلك الذي بقي بعد طحن الأنتيك عبر الطاحونة الحاخامية، أُمكن أن يكون هنالك استثناءان هامّان للاختزال العام لبدائل السحق أو الرفض. فقد وُضِع التصوف والفن بالكامل تقريباً خارج مجال التعريف الحاخامي، وبذلك أمكن لكليهما أن يُترك كي يتطور دون أن يتعكر نسبياً بالصراع بين الكهنة العباسيين والحاخامين البابليين. كانت الصوفية بالطبع مريبة بالنسبة للحاخامين بقدر ما كان عرفها موجهاً لتجسير الهوة بين الإنسان والله؛ كما كانت لعنة بالنسبة لهم بقدر ما أن نظريتها استبدلت سر المسيحية المبتور بأحدية الهند المستوردة(71). لكن أولاً، فرغم أن المقاربتين الصوفية والتشريعية إلى الله متنافستان كونياً، فقد مالتا لأن تكونا متكاملتين وليس حصريتين تبادلياً؛ وما دام الصوفيون ممسكين عن الازدهاء العلني بأحدية غير متحفظة، كان الحاخامون المسلمون قادرين ببساطة على التعايش معهم بطريقة نظرائهم اليهود. ثانياً، صار المتنافسون كمونياً بحاجة إلى بعضهم في الإسلام. ولو أن المسلمين عاشوا تقواهم التشريعية في غيتو ابستمولوجي، لكان من الممكن تماماً أن يظلّ التعايش صعباً كما كان في أيام أبي يزيد البسطامي أو الحلاج السيء السمعة. لكن صدف وأن هُدِّد الحاخامون بالشرائع والمقولات الموضوعية للفلسفة اليونانية إلى درجة أنه كان عليهم هم أنفسهم أن يستخدموا مفاهيم موضوعية للدفاع عن الإرادة الشخصية لإلههم؛ وبما أن المفاهيم دفعت بالإله في منطقة متطرفة من العالم الآخر دون تأسيس لشرائع قياسية من هذا العالم، فقد كانت المطاردة الصوفية لوجه الله وليس الدراسة التجريبية لأفعاله هي التي أوحت بذاتها باعتبارها مكمّلاً للقراءة التقوية لكلماته. لذلك لم تستدرّ الصوفية ومضامينها رفضاً حاخامياً آلياً. لكن بالمقابل، لأن الصوفية تطورت خارج مجال التعريف الحاخامي، فهي لم تكن بحاجة لأن تلجأ إلى السحق المنظوماتي ذاته للعناصر التي دخلت فيها. فالصوفيون لم يذهبوا بعيداً بحيث يقدّموا إقراراً لا إعاقة فيه حول اعتمادهم على مصادر أجنبية وذلك بطريقة «الفلاسفة المسيحيين» في العراق النسطوري؛ ومقابل ذلك رموا ببعض استعاراتهم داخل شبه جزيرة العرب(72). لكن الصوفية إجمالاً تمثّل حالة توفيقية إسلامية أصيلة. الفن، بعكس الصوفية، كان مجرد ممارسة فهو من ناحية توقف عن امتلاك اية علاقة عضوية مع النظرية: مفاهيم الجمال اليونانية كانت منذ زمن طويل همّ الفلاسفة وليس الفنانين. ومن ناحية أخرى لم تكن للفن علاقة إيجابية مع الإله اليهودي: المحتوى الجمالي للمذهب التوحيدي اختُزل إلى تحريم الصور المحفورة. وهكذا فبعدما مارس الأمويون اجتهادهم الكهنوتي في هذه المسألة عن طريق ملء قصورهم الصيفية، وقبة الصخرة أيضاً، بثروة من الصور الجميلة جداً، تدخل الحاخامون في الواقع لسحق الفن عن طريق فرض التحريم الوحداني؛ والى هذا الحد فإن تلفيفة زينة البناء اليونانية المختزلة إلى الآرابيسك هي المعادل الدقيق للشرع الروماني المختزل إلى التقاليد النبوية. لكن خارج هذه المسألة المناظرة غير قابلة للتطبيق: تحريم الصور المحفورة لم يكن أمثولة لفن نبوي؛ وما أن فُرِض على الفنانين، لم يعد مجال الفن يهم الحاخامين بأكثر مما كان يهدّدهم. وهكذا فقد ظل الفن في الإسلام حرفة مجردة، إنه عمل المعماريين، مهندسي الديكور والمزخرفين. ولأنه لا توجد نظرية إسلامية حول الفن، لا يوجد أصول للأرابيسك، فلا الأرابيسك ولا أشكال الفنون الأخرى كان من الواجب إعادة توضيبها باعتبارها نتاجات غربية محلية(73). تبعاً لذلك لم يكن هنالك ما يمنع تهجيناً لأشكال فنية غريبة، مثلما أنه لم يكن هنالك ما يمنع تهجيناً لنباتات غريبة، في العالم الإسلامي؛ وإلى هذا الحد، نجا الفن، كالصوفية، بالبدائل من السحق أو الرفض. مع ذلك فالقوة السلبية لكل هذه الحالات تظلّ هي ذاتها: الإسلام لم يستطع التطبيع إلا عبر إزالة الصبغة الطبيعية. وسواء أقُبلت الآلهة الغريبة أم رفضت، فالمسلمون لم يقرّوا إلا بمصدر شرعي أوحد لأمثولاتهم الثقافية والدينية: شبه جزيرة عرب نبيهم. وبالنسبة للبرابرة الذين غزوا أقدم مراكز الحضارة البشرية وأكثرها إجلالاً، كان هذا جولة قوة لا مثيل لها في التاريخ؛ لكن على هذا الأساس لم يستطع قدر الحضارة في الإسلام سوى أن يكون قدراً تعيساً إلى درجة استثنائية. وفي المحاولة الأخيرة فقد كان دمج المعنى اليهودي مع قوة الغزو العربي من ناحية، والاغتراب الثقافي المتطرّف للسوريين من ناحية أخرى، هو الذي حدّد لماذا وأية حضارة إسلامية كان يجب أن تكون. وبعكس القوط الآريوسيين، لم يكن مقدراً للهاجريين أن يختفوا في الثقافة التي غزوها. مع ذلك فهم لم يستطيعوا كغزاة أن يدعموا الشخصية العينية «لحياتهم المنعزلة» سواء في الصحراء أم في الغيتو. وكانت الحصيلة حضارة جديدة. لكن كما أن الآريوسية القوطية لم تكن كافية، كذلك تماماً فالهاجرية كانت كثيرة جداً. الهاجرية بُنيت كي تتحاشى الثقافة الكنعانية التي غزتها؛ وهذا التحاشي الذي أفاد مبدأياً في منع امتصاص الهاجرية في الحضارة ظل معيقاً لامتصاص الحضارة في الهاجرية. بالمقابل، فكما كان العراق التعددي كثيراً جداً، كذلك تماماً كانت سوريا النذورية أيضاً قليلة جداً. فالسوريون أبعدوا أنفسهم عن الحضارة الكنعانية التي استوطنوها؛ وهذا البعد الذي أفاد مبدأياً في منع امتصاص السوريين ضمن الهلينية مضى كي يدعم تصلّب الهاجرية. ذات مرة أغوت إحدى عاهرات المعبد أنكيدو كي يترك بريته من أجل الحضارة؛ وكانت حضارة سومر تستحق ذلك، رغم كل ما تكلّفه. وإلى ذلك الحد كان صحيحاً ومناسباً أن خروج نبونيدوس إلى يثرب كان في أحسن الأحوال خصوصية ثقافية(74) ، ولو أن مروان الثاني أمضى وقته في حران في دراسة الحكمة القديمة فإن ذلك سيبدو نتيجة طبيعية مناسبة. مع حلول القرن السابع بعد المسيح عُرّيت المعابد من عاهراتها: كانت الوحدانية هي التي أغوت العرب على ترك برّيتهم، كما أ ن حضارة سوريا فقدت قوتها على الإغواء. عوضاً عن ذلك تقاطع خروج العرب من الصحراء باسم يهودية مهوجرة مع المحاولة السورية لاسترداد خروج في يهودية أممية. والنتيجة كانت حضارة؛ لكنها كانت حضارة منتابة بالغيتو والصحراء.وبقدر ما كان العرب منتابين بالغيتو، كانوا، كاليهود والوثنيين، نادبين على ماضٍ مفقود. لكن في حين بكى اليهود على صهيونهم والوثنيون على أرض كلدانهم، كان العرب عند مياه بابل يندبون على برّية.

11 قدر الأنتيك III تصلّب الحضارة الإسلامية

كانت الحضارة الإسلامية في الهلال الخصيب نتاج التفاعل بين الغزاة والمغزوين. بالمقابل، ففي غير هذا المكان، كانت الحضارة الجديدة بحد ذاتها حضارة أحد أطراف التفاعل. والصفقات التي وقعها السوريون والعراقيون مع ديانة متصلبة خلقت حضارة والتي كانت بمعيار ما نتاج احتياجاتهم الثقافة الخاصة. لكن كان على الباقين أن يصلوا إلى تفاهم، ليس فقط مع ديانة متصلبة، بل أيضاً مع حضارة متصلبة لم يلعبوا أي دور في تشكيلها. وفي هذه الظروف الخشنة، من المفهوم أنهم ساهموا أقل وعانوا أكثر. أكثر الأمثلة درامية على الحالة الأخيرة هو قَدَر التقليد الإيراني في وطنه الإثني. لقد كانت إيران كل شيء لم تكنه سوريا، ولا يحتاج الأمر إلا إلى القليل من التخيّل حتى نفهم أن ما كان نعمة في ثوب نقمة بالنسبة لطرف كان مصيبة غير مُقَنّعة بالنسبة للطرف الآخر. ففي حين كانت سوريا إقليماً، كانت إيران إمبراطورية؛ وفي حين كانت سوريا تفتقد الهوية إلى درجة أنها احتاجت إلى الغزاة القبائليين، كان لدى إيران هوية منصهرة مع حقيقة وذلك في تجربة مقاومة الغزو القبائلي؛ وفي حين استطاع السوريون أن يصلوا إلى أن يروا العرب كمخلّصين، لم يستطع الإيرانيون سوى أن يتصوّرا طوران العائدة مع إله غريب؛ وفي حين استطاع السوريون إعادة بناء ركام أحجار بنائهم على شكل صرح عربي، كان الصرح الإيراني قد قُدّ من صخرة مفردة والتي لم يكن بالإمكان غير أخذها أو تركها. والمسلمون بالطبع لم يستطيعوا أخذها ولا تركها؛ لكنهم كما فشلوا في اختزال قصر خسرو إلى أحجار بناء من أجل مبنى إسلامي معصوم(1)، كذلك تماماً فقد فشلوا أيضاً في اختزال فارس إلى بلد إسلامي معصوم. يمكن لنا أن ندلّل على عظم الكارثة التي ضربت إيران بالمقارنة مع الأرضية الأكثر حذقاً لليونان والهند، اللتين مثلتا مثل إيران تقاليداً حضرية، والتي كان لإيران ذاتها علاقة بها. لقد امتلك الهنود تقليداً تعايشت فيه مجمل عناصر محلية دون اندماج(2)؛ في حين أوصل التطور اليوناني إلى تقليد تعايشت فيه مجمل عناصر متغايرة في اندماج سطحي تاريخياً. وهكذا إذا أمكن مقارنة الهند بصخرة واحدة غزيرة النقوش من الأعلى والأسفل، فقد كانت بيزنطة بالمقابل صرحاً مفرداً بُني بأنواع مختلفة من أحجار البناء. وحين خضعوا للغزو الإسلامي كان الهنود واليونانيون بالتالي في نوع من المركب ذاته وذلك مقابل الإيرانيين: فمن ناحية، كان احتمال عودة ظهور تقاليدهم كهويات متكاملة ضمن الإسلام أقل من احتمالية عودة ظهور تقاليد إيران؛ في حين من الناحية الأخرى، كان للعناصر الإفرادية في تقليدهم فرصة أفضل لامتصاص أو تكيف تدريجيين. في الوقت ذاته، فقد عُزِّر هذا الفرق بين التقاليد بقوة عن طريق إختلاف سرعة الغزو. ففي حين غزيت إيران بكاملها في القرن السابع، نجا اليونانيون والهنود من هذا القدر حتى وقت أكثر تأخراً. وقد شكّل يونانيو الأقاليم البيزنطية الذين انهزموا أمام الغزاة العرب طبقة سكانية رقيقة؛ لكن هنود السند كانوا أكثر كثافة، مع أنه كان إقليماً صغيراً ونائياً. بل لقد تركت غزوات الترك الأكثر انتشاراً ولايات بيزنطية وهندوسية دون غزو حتى القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ولأن هذه التقاليد استمرت لفترة طويلة خارج الإسلام، فقد كان هنالك بالتالي ضغط عليهاأقل بحيث تعاود الظهور على السطح في شكل متكامل من داخله. وهكذا كان ممكناً للإسلام في بلاد اليونان والهنود أن يسكت عن الديانة الشعبية في حين كان يمتص مفاهيم النخبة. فمن ناحية، لم يكن لدى الإسلام الأرثوذكسي أية شكوك حول لياقة المسيحية المتسامحة - ديانة مختلفة لكن الإله ذاته - وقد كان باستطاعته إقناع ذاته بتسامح قسري حيال الوثنية الهندية والمنظومة الاجتماعية التي سارت معها. ومن ناحية أخرى، استطاع المسلمون تحرير مفاهيم اليونانيين والهنود من نسجها الإثنية مثلما يبدو أن الإيرانيين قد فعلوا قبلهم. في الوقت ذاته، لم تعدإلى السطح في الإسلام أية هوية يونانية أو هندية متكاملة. ليس ثمة استرداد لبيزنطة إسلامية(3)، بغض النظر عن غوبتات Guptas إسلامية؛ لم يكن هنالك شعوبية يونانية ولا هندية؛ ولم يكن هنالك صاحبٌ هندي للنبي، أما صاحبه اليوناني، صهيب، فقد فَقَد عصبه الإثني على نحو يلائم الغرض ليبحث عن العزاء في نسب عربي زائف(4). وحين دخل يونانيو الأناضول العالم الإسلامي في نهاية الأمر، لم يفعلوا ذلك كيونانيين بل كأتراك مسلمين؛ في حين قام مسلمو الهند بعدهم بكل ما في وسعهم كي يتبعوا خطى اليوناني صهيب. الحالة الإيرانية كانت مختلفة جداً. فإيران كانت قد ابتُلِعت ككل في مرحلة مبكرة من تاريخ التوسع الإسلامي. كان لدى بقايا الجيش البيزنطي بيزنطة يمكنهم التراجع إليها؛ لكن الأساورا انتهوا في البصرة كحلفاء للغزاة(5). ربما كان هنالك أمراء إيرانيون في الصين(6) وتجار إيرانيون في الهند، لكنهم كانوا تجمعات لاجئين محدودة الحجم. ورغم ثورة ميديا الكبيرة والتي تعود إلى زمن أولي والتي أرّخ لها سبيوس(7)، لم يبق هنالك أي جزء من إقليم غير مُخْضع استطاع التقليد المتكامل فيه أن يستمر دون أن يمسّه الإسلام.كان على الإيرانيين أن يصنعوه داخل العالم الإسلامي أو لا يصنعوه إطلاقاً. كانت النتيجة اصطداماً رأساً برأس.وإذا كان جوهر الهلينية مفاهيمها، فقد أُمكن إلى حد ما استعارتها؛ وإذا كان جوهر الهندوسية طبقاتها، فقد أُمْكِن إلى حد كبير أن تترك وشأنها. الفلسفات الإنسانية كانت رفيعة جداً، ونظام الطبقات البشري كان شعبياً جداً، وذلك بحيث بدا متعذّراً على الغزو الإسلامي ضرب أيّ من الإثنين في الموقع الأشد إيلاماً؛ لكن المفاهيم والطبقات على حد سواء كانت إلى حد ما هامشية بالنسبة للأرضية التي يُعَرّف عليها الإسلام بأكثف ما يمكن. لكن لم يكن ممكناً تخيل هذا النوع من المواءمة الزوراء في حالة إيران. فإله الآريين كان بالنسبة لشعبه الإله القاتل(8) بقدر ما كان إله إسرائيل. وفي أيام الأخمينيين عرفت إسرائيل بالطبع موقعها، والعلاقات بين الإلهين كانت سلمية بما يكفي(9). لكن حين صادر الاسماعيليون إله إسرائيل وانطلقوا يغزون العالم معه، لم يعد هنالك ما يكفي لكبح غيرته المفرطة. كانت رهانات الطرفين هي على هوية صُهِرت فيها الإثنية، الديانة، ونظام الحكم تحت حماية إله حارس أوحد: لقد أمكن تفكيك بيزنطة، لكن إيران لم يكن ممكناً سوى سحقها. في عرضنا لنتائج هذا الاصطدام، يمكن نبدأ بشكل الحكم. فمن ناحية، لدينا في إيران شكل حكم ذو مكانة دينية قوية جوهرياً: الدين والدولة كانا توأمين. التوأمية لا تعني بالطبع التطابق بين الدين والدولة الذي يميّز المفهوم الإسلامي للإمامة؛ لكنها علاقة أكثر حميمية من تلك التي أُحْرزت في بيزنطة، حيث لم يكن بين الدين اليهودي والدولة الرومانية حتى قرابة دم. ومن ناحية أخرى، لدينا دين غازٍ كانت فيه مكانة شكل الحكم دينية جوهرياً أيضاً. كانت المسيحية سعيدة عموماً في مسحها للمُليكين (تصغير ملوك) المولودين من أودين والملوك صانعي المعجزات للشعوب الذين هدتهم إليها بقدر ما كانت سعيدة قبل ذلك في الاعتراف بالإمبراطور الروماني(10). وحتى في حالة المسيحية الغازية، فلم يكن هنالك سبب ذو جوهر ديني يفسّر لماذا يجب على الغزاة المسيحيين أن لا يحترموا أشكال الحكم الدارسة للخاضعين لهم(11)؛ بينما حتى في حالة المسيحية البربرية، لم يكن هنالك سبب ذو جوهر ديني يفسّر لماذا يجب على البرابرة المسيحيين أن لا يعيدوا إحياء إمبراطورية رومانية مقدّسة. لكن الأمر ليس كذلك في الإسلام. ففي بعض المناطق الهامشية قبل الغزاة المسلمون فعلاً باستمرارية الإمارات التقليدية: أنظر الحماية المفروضة على سلالة اسروشنه(12) الملكية الوطنية. بالمقابل، ففي بعض المناطق الهامشية عادت أشكال حكم وطنية للظهور في تلك المحميّات في زي إسلامي: أنظر الخوارزشاهات(13). لكن المأمول من تطور كهذا في إيران كان ضئيلاً. وهكذا فبعد فشل المحاولات الأولى لتجديد تقليد شكل الحكم الزرادشتي، عُزِل هذا الأخير في جبال الديلم. وفي الوقت المناسب جاء دور الديالمة، ومثل البويهيين، مثل البارثيين قبلهم بألف سنة، زعم هؤلاء أنهم ينحدرون من السلالة الملكية الساقطة وأعادوا إحياء لقبهم «ملك الملوك»(14). وأخذ السلالة الملكية الإسلامية لهذه الخطوة دليل باهر على التصميم الإيراني على الاستمرار في الإسلام أكثر من أي شيء آخر. لكن رغم أن الديالمة كانوا على استعداد لإسقاط عدائيتهم للإسلام من أجل «إمبراطورية فارسية مقدسة(15)»، فالمسلمون لم يكونوا راغبين بقبول ذلك؛ وما بقي من المغامرة البويهية كان إسهاماً في الألقاب الشرفية الإسلامية وليس أي معنى عميق لاستمرارية إيران الساسانية. إن الموت الفعلي للزرادشتية بالمعنى الديني هو مؤشر درامي على أثر الإسلام القوي وشمولية غزوه. هنالك اليوم دولة اليونان المسيحية ودولة الهند الهندوسية؛ أما الزرادشتيون فهم مجرد أقلية. لم يكن الموت بالطبع آنياً: فحتى القرن العاشر ظل هنالك وجود حي سياسياً للديانة القديمة في الديلم، تماماً مثلما كان هنالك وجود حي عقائدياً في فارس القرن التاسع؛ وبروز المقولات الهلينية في كتب القرن التاسع ووجود كتاب مقدس زرادشتي بصيغة مكتوبة قد يكونان دلائل محتملة على قدرة زرادشتية على التكيف مع البيئة الجديدة(16). لكن لم يكن هنالك مسألة جدّية حول إحياء ديني في إيران: ملوك الملوك هذه المرة لم يكن لديهم قرطير. من استطاع الآريون أن يكونوا إذاً حين لم يعد المجوس كهنة لهم؟ في بادئ الأمر كان السؤال ما إذا كان باستطاعة شيء من الديانة القديمة أن يظهر مع شيء من الإسلام على أيدي الأنبياء التوفيقيين في النصف الثاني من القرن الثامن. لكن نجاحهم كان عابراً: لم يكن لينبثق برغواطا إيراني من سيرة بهافريد، وتوقع أحد الهراطقة الخوارج الأوائل بأن الله سيرسل نبياً جديداً من غير العرب لإبطال ديانة محمد(17)، مهما بدا مناسباً لتوقع ظهور تركيا القرن العشرين، فقد ظلّ غير منجز في إيران العصور الوسطى. لم يكن ثمة خيار سوى القبول بالإطار الإسلامي كما هو، والمسألة كانت إذاً ما إذا باستطاعة هوية إيرانية أن تتكيف داخله. لأسباب سنعرضها على نحو أوفى في مرحلة لاحقة، قدّم التشيع نسخة من الإطار الإسلامي مقبولة على نحو خاص. فمن جهة، الإمام المعصوم وملك الملوك كانا ضحايا التاريخ السنّي ذاته - وألم يتزوج الحسين من أميرة فارسية(18)؟ ومن جهة أخرى، فالسرانية الشيعية كانت،كمونياً، مذهباً توفيقياً - وألم يكن الفارسي، صاحب النبي شخصية مركزية في هذه السرانية؟ وحين يصرّ مصدر سرياني لثورة المختار من تلك الحقبة على التغايرية الإثنية لأتباعه ويتوقع منهم بالكامل أن ينهوا السيطرة العربية(19)، فنحن لا نستغرب أن يقبل الكرماثيون الذين جاءوا لاحقاً بالكامل بالدجال الفارسي والذي توقعوا منه أن يخلصهم من الديانة العربية(20). مع ذلك فالتقارب بين التشيع وإيران كان محدوداً للغاية. وإلى حد ما، كان هذا التقارب مسألة صدفة تاريخية: فبعدما ضيّع البويهيون فرصتهم، لم يُلْبَس التشيع خلفة الصورة لإيران الساسانية إلا مع ظهور الصفويين فقط؛ لكن في هذا الوقت فإن بنيان الحضارة الإسلامية كان قد أُسس إلى درجة الحيلولة دون تطور التناظر الخارجي إلى تناغم داخلي. مع ذلك، يمكن لنا أن نشك ما إذا كان الأمر سيختلف كثيراً لو أن إيران أصبحت دولة شيعية تحت حماية البويهيين. يبدو ممكناً بالكامل طبعاً أن تماثل إحدى الطوائف الشيعية ذاتها مع إثنية غير عربية، كما فعل النقطويون في إيران(21)، أو أن تتمثل أفكاراً غير إسلامية حيوية من وسط كهذا، كما فعل النزاريون في الهند. لكن نوعية الطائفة التي تفعل هذا بحكم الطبع هامشي بالنسبة للمشهد الإسلامي. بالمقابل، يبدو ممكناً تماماً أن يتبنى شعب غير عربي شيعية ذات مركزية لا نزاع فيها في مكانتها الإسلامية، كما هي الحال مع الإمامية في إيران الحديثة. لكن مركزية تقليد كهذا بالذات، تحول دون أي إفصاح فاعل للغاية عن هوية غير عربية. لقد أخذت الإمامية شكل هرطقة مثقفة ومحترمة في الوسط السني والناطق بالعربية في العراق الحَضَري، كما أن قادتها، مع أنهم ربما تملّقوا بنوع من الكياسة أحد البويهيين باعتباره «ملك الملوك»(22)، لم يكونوا بكطاشاً أمكن تطعيم دينهم بالشطط الأممي للنقطويين أو للنزاريين(23). الحقيقية طبعاً أن أي ديانة عالمية يجب أن تصل إلى نوع من التفاهم مع الخصوصيات.والقضية بالنسبة للإسلام هو أنه لا يفعل ذلك إلا على أسس تبدو، من وجهة نظر أية أمة غير عربية طموحة، غير مرغوبة أبداً: هرطقة متطرّفة أو خرافة شعبية. مثالنا على الحالة الأولى هو علم الكون عند النقطويين؛ ومثالنا على الحالة الثانية هو الميثة التي اخترعها بربر اية اته Ait Atta الشمال إفريقيين كي يضفوا على جبلهم المقدّس المحلي مكانة إسلامية(24). لقد كان للإيرانيين أيضاً خرافاتهم والتي حاولوا أن يحتلّوا بها لأنفسهم مجالاً إثنياً مريحاً في الإسلام(25). لكن بما أن الإيرانيين كانوا شعباً أضخم وأكثر مركزية من أن يختار تطرّف النقطويين أو خرافة اية اته الجاهلة، فقد ظلت خصوصيتهم الإثنية بالضرورة دون إفصاح كاف في الإسلام(26). من هنا فالحقل الوحيد الذي أمكن أن يحدث فيه انبعاث مستمر لإيران كان الثقافة. كانت ثقافة إيران قبل الإسلام مركزة حول الدين بقدر ما كانت عليه ثقافة الإسلام العربي. لكن رغم - وربما بسبب - الدمار الواسع للتقليد القديم، كان ثمة احتمالية على الأقل كي تطفو على السطح من جديد ثقافة إيرانية مطهرة من التلوث في العالم الإسلامي. في الموضع الأول كانت هنالك إمكانية عودة إيرانية ثقافية لكن بلغة الغزاة: الشعوبية. لقد كانت حركة عنيفة لكنها عاجزة. فحين ترجم منثو وبيروسوس قبل ذلك بألف سنة أمجاد مصر وبابل الغابرة إلى لغة غزاتهم اليونانيين، فقد فعلا ذلك ككاهنين، كعضوين في نخبة محلية تمتعت بنوع من التشريف في العالم الهليني باعتبارها مستودعات حكمة شعوبهم القديمة. إنما لم يكن هنالك مجوس مسلمون: في إيران القرن التاسع لم يكتب كاهن أكبر كمنوشهر(27) عن طائفته إلا باللغة الكهنوتية القديمة. وهكذا فقد كان إعادة تقديم التراث الإيراني باللغة العربية عمل الخارجين عن الدين وليس الكهنة. لكن الموالي الإيرانيين لم يكونوا نخبة محصنة تعمل على سرمدة تقليد قديم؛ لقد كانوا المطبّعين المحتقرين لمجتمع غزاة قبائليين، المطورين المتحضرين للبربرية. أما نشوزهم عن مجتمعهم الخاص فهو لم يعنِ طبعاً أنهم تطهروا من كل الشوائب خلال عملية-الصيرورة: وقد قيل، إخدش شعوبياً، فستجد زرادشتياً(28). المسألة هي أن الإسلام لم يكن بحاجة لأن يفعل أي شيء لطبيعة الاحتكام إلى التقليد الإيراني في سياق كهذا؛ إنه فقط امتص ما أهمه من حتاته. في الموضع الثاني، كانت هنالك احتمالية خلق ثقافة إيرانية إقليمية داخل الوسط الإسلامي(29). لم تكن ثمة مسألة استمرارية مباشرة للتقليد القديم هنا: التقليد الأفستي في إيران الإسلامية لم يكن يمتلك ولا بصورة من الصور المكانة الثقافية التي امتكلها التقليد السنسكريتي في جاوا المسلمة، وليس هنالك ما يماثل استمرارية الأدب الجاوي بالخط المحلي بعد قبول الإسلام في اللغة البهلوية(30). وهكذا فقد تشكّلت اللغة الأدبية الجديدة عوضاً عن ذلك من اللغة المحلية المكتوبة بالخط العربي، وغالباً ما كان استخدامها في بادئ الأمر ذا دافع مصلحي. مع ذلك فقد كانت ظاهرة مختلفة للغاية عن الظهور العرضي للغة اليونانية بالخط العربي والذي كان لأجل أغراض تكثير المعرفة البشرية(31): أصبحت الفارسية لغة أدبية إسلامية وهو ما لم تستطع فعله اليونانية. وبفعلها هذا، قدمت وسطاً أمكن للتقليد الإيراني فيه أن يصبح في متناول اليد في إيران المسلمة؛ فقد صارت الشاهنامه بالنسبة للإيرانيين، القرآن(32) ، أو يمكن أن نقول الهوميروس(33). ومقابل الشخصية المُجْهَضة لإظهارات إيران السياسية والدينية في الإسلام، أثبت هذا الانتعاش الثقافي أنه حاسم. ومن أحد المعايير على قوته أنه حين دخل في نهاية الأمر اليونانيون والهنودمع تعاقب القرون في الإسلام، فإن تمثلهم الثقافي أُنجز باعتبارهم أقاليم من الإسلام الإيراني، وليس العربي. أما ما بقي من أقاليم ضمن حدود الغزو الإسلامي - مصر، إسبانيا، وشمال إفريقيا - فقد أحرزت كلها واجهات إسلامية لا عيب فيها: وهي، بعكس الهلال الخصيب،لم تساهم فعلاً بأي شيء للإسلام الحَضَري، وقد فشلت، بعكس فارس، في الاحتفاظ بتمايز إقليمي. ليس من غير الطبيعي أن نجد الأسباب خلف الواجهات، ويمكن تقديمها بأفضل ما يمكن على أنها عكس الحالات التي فحصناها للتو. إذا بدأنا بالنظر خلف واجهة مصر المسلمة، فسوف نجد أنفسنا وقد عدنا إلى الأقباط؛ وفي بعض النواحي تبدو درجة طمس مصر القبطية مفاجئة. ففي الموضع الأول، كانت الهوية القبطية قابلة للمقارنة في قوتها مع الهويات في العراق؛ وكان سيبوس قد أشار على نحو ملفت للنظر إلى مرونتها الأولية، وهو الذي يتحدّث عن تحولات عربية ضخمة إلى المسيحية في مصر في زمن حيث ميزان القوى السياسية كان يتبدّل بين لحظة وأخرى(34). بالمقابل فإن تجانس الحقيقة استمر في مصر إلى مسافة أبعد حتى من سوريا،وكان ذلك إلى الحد الذي أمكن لمصر فيه أن تظهر كموضع مناسب لبث ثقافة مجردة من الإثنية. وهكذا أُمكن للمرء أن يتوقع أن يجد في الإسلام إرثاً قبطياً يمكن مقارنته مع إرث النساطرة. وإذا لم يكن الأمر كذلك فهذا قبل كل شيء يعكس الحقيقة القائلة إن الكنيسة القبطية كانت كنيسة فلاحين في حين كانت الكنيسة النسطورية كنيسة نبلاء: بكلمات أخرى مصر القبطية كانت عراقاً معكوساً اجتماعياً. وأهمية العكس واضحة في طرق ثلاث. أولاً، كانت ريفية الكنيسة المصرية تعني أن الإقليم غيّر دينه ببطء. والأقباط الذين كانوا معتادين على أن يعوّلوا في امورهم على القادة الفلاحين، سواء في القرية أم في الدير، لم يؤثر بهم رحيل الطبقة الأرستقراطية أو انهيارها مثلما أثّر في فلاحي بلاد آشور؛ وحين تعرضوا إلى ضغط الضرائب العربية، فرّوا من قراهم إلى مناطق أخرى أو إلى الأديرة، لكنهم لم يفرّوا إلى مدن عربية كما فعل فلاحو بابل(35). وكانت النتيجة مقاومة قبطية مؤثرة لتبديل الدين؛ ورغم موحات الارتداد التصادفية(36)، إلا أن السبيل لم تتمهد إلى اعتناق مصر الإسلام ببطء لكن بصلابة(37) أخيراً إلا بعد الضغط المالي الذي قاد بالفلاحين جميعاً إلى ثورة في ظل العباسيين الأوائل والتي كانت نتيجتها قمعاً أدى إلى دمار المنظومة القروية. ثانياً، كانت الفلاحية تعني أن القبط ليس لديهم ما يساهموا به. فبعدما فشل الفكر اليوناني في أن يكون مقبولاً في الكنيسة القبطية، راحت الريفية ذات التوجه الداخلي للجماهير القبطية تُضَاهى باسكندرية ذات توجه خارجي وطبقة أرستقراطية متهلينة؛ وهكذا فحين انقطع الأخيرون بسبب الغزوات العربية عن العالم اليوناني الأكثر اتساعاً، فهم إما غادروا أو انقرضوا. كدّت مدرسة الاسكندرية واجتهدت للمحافظة على وجود ضعيف لمدة قرن قبل أن تنتقل إلى أنطاكية، فحرّان، وأخيراً إلى بغداد(38)؛ وظل باستطاعة خالد بن يزيد بن معاوية أن يحصل على كتبه في الخيماء من الفلاسفة اليونانيين في مصر(39)، أما ذو النون المصري الذي عاش في القرن التاسع فقد كان مطّلعاً بما يكفي على تراث الاسكندرية اليوناني والنسكية المسيحية للريف المصري وذلك كي يضمهما في صوفيته الإسلامية(40). لكن ما وجده العرب حين شقّوا في نهاية الأمر الصفوف الصلبة لجماهير الفلاحين كان أساساً إثنية وحشداً من القديسين المصريين. وكما أن مصر المسيحية لم تنتج فلاسفة تضاهي بهم الأدباء النساطرة الذين ورثوا مدرسة الإسكندرية في بغداد(41)، كذلك تماماً فإن مصر المسلمة لم تقدّم مدرسة شرائع(42)، ولا حركة لاهوتية(43) ولا الكثير من الشعراء، بغض النظر عن هرطقة أو أمثولية سياسية. فقط حين أحرز الإقليم ثقافة إسلامية صلبة من الخارج استرد موقعه البارز الفكري القديم. ثالثاً، كانت الريفية تعني أن مصر استبدلت إقليميتها المتميزة ضمن هرطقة مسيحية بإقليمية مُقَلَّدة ضمن إسلام أرثوذكسي. قد يتوقع المرء أن تترك الهوية القبطية بقية من خصوصية في الإسلام على الأقل. لكن الى حد ما لأن الوشل الثابت من الذين يبدّلون دينهم امتلك فرصاً قليلة لحشد مصادره القبطية ضد قبضة الإسلام الإثنية الخانقة، وبشكل أكثر تحديداً لأن الهوية القبطية كانت بريئة من المصادر الثقافية بقدر ما كانت الثقافة السورية بريئة من المصادر الإثنية، لم تترك مصر القبطية أي حطام خلفها. فمن ناحية لم يكن هنالك مسلمون أقباط: اختفت اللغة القبطية كلغة محكية حتى بين المسيحيين(44)، بل أن رنينها في اللهجة العربية المصرية يبدو ضعيفاً إلى درجة ملفتة للنظر(45). ومن ناحية أخرى لم يكن هنالك سوى أوهن تلميح إلى خلفة صورة قبطية. لكن المصريين لم يفقدوا كل اهتمامهم طبعاً بماضيهم الماقبل-إسلامي: فرعون في أدبهم يبدو أكثر من ذلك السافل الذي يصوره القرآن. مع ذلك فمصر المرتدي(46) وأشباهه هي حفيدة مصر المنجمين(47) وليست حفيدة مصر الفلاحين؛ وسمة هذا النوع الجديد أنتيكية على نحو حسّي أساساً، إنها انغماس في القصور الرائعة والمعابد المقدسة لموكب احتفالي باطني وواه. ربما أنها تحمل الآثار الباقية من صوت وضراوة قبطيين محددين(48)؛ لكن لا يوجد فيها ما يصلح للمقارنة مع التذكر الملحمي للمجد الماقبل إسلامي الذي يتخلل شاهنامه الفردوسي، أو مع العمق الشعوري لاستغاثة ابن وحشية بالماضي البابلي. ربما كان باستطاعة هرطقة أقل عناداً في طموحاتها الحَضَرية من الإسماعيلية أن تنقذ ما بقي من الصوت والضراوة(49) ‎؛ لكن اهتمام الفاطميين في قاعدتهم المصرية كان محدداً بالموارد التي كان باستطاعتها تقديمها لهم من أجل مغامرات كان معناها يكمن في مكان آخر. من هنا ففي حين أمكن إدخال الخصوصية الباقية من الإرث الإيراني والخاصية العرضية للتقليد الإمامي في إيران ضمن تساوق خارجي معين، فإن مصر فقدت البقية وأنقذت العَرَض في آن. لقد استمر الأقباط كأقباط بالطبع رغم تبنيهم للغة العربية، وبعكس من بقي من بلاد آشور فقد حافظوا على سندات تملك ماضيهم الفرعوني. لكن الأقباط في هذا لم يكن لديهم سوى أساس صغير كي يخلقوا هوية مصرية حديثة أو يشاركوا بها. وكانوا نتيجة لذلك منفيين في وطنهم الخاص: استعداد الأقباط للإنضمام إلى جيرانهم المسلمين باسم مصر قوبل بتهيؤ المسلمين لإرسال جيرانهم الأقباط إلى فلسطين باسم الإسلام(50). والأهرامات التي كان عليهم تقديمها كانت في أفضل الأحوال مقتنىً غامضاً: فرعونية في مصر مسلمة مع أقلية قبطية كانت ملعونة مرتين، مرة كوثنية عنيدة ومرة كمسيحية تشييدية(51). مصر في الإسلام لم تكن أمة أو حتى بلد بقدر ما كانت مجرد مكان. لقد حلمت مصر الهلينية بعودة الفراعنة، وربما حلمت مصر البيزنطية بإحياء البطالمة في الوقت المناسب؛ لكن مصر العثمانية لم تستطع أن تحلم إلا بإحياء مملوكي. وبقدر ما كانت مصر تحلم بأية حال، كان باستطاعة المرء القول إنها ما تزال بلداً. لكنها كانت بلداً لم يتبدل فيه أنموذج مصر البيزنطية بقدر ما عُكِس. تحت حكم اليونانيين كانت الجماهير الفلاحية هي التي مثّلت الخصوصية المنطوية على ذاتها، في حين كانت النخبة متوجهة بثبات نحو العالم الخارجي: خذوا الأبيونيين وزملائهم الأرستقراطيين، مع ذلك ظلت مصر فضالة الكيمه. لكن في ظل حكم العثمانيين كانت النخبة وليس الفلاحين هي الممثلة للخصوصية: خذوا علي بيه وخلفاءه الخديويين، ومصر أصبحت بقية الجمهورية العربية المتحدة. تبدو إسبانيا للوهلة الأولى حالة تبعث على الكثير من الحيرة. فمن ناحية، امتلكت إسبانيا ثقافةً إقليميةً قائمةً على التقليد مع كل ما يستلزمه القبول الثقافي، وهويةً إسبانية رومانية مع كل ما يستلزمه الضمان الإثني. ومن ناحية أخرى، كانت إسبانيا في آن إقليماً نائياً للغاية في العالم الإسلامي، وأيضاً، بمحض المصادفة إقليماً منشقاً سياسياً. مع ذلك فالحضارة الإسلامية قدّمت في إسبانيا واجهة شرقية لا عيب فيها مثلها مثل مصر وساحل شمال أفريقيا(52). بل إن المسيحيين أظهروا درجة من التمثل داخل الثقافة الإسلامية يصعب أن نجد ما يوازيها في الشرق(53)، كما أنها لا تجد شبيهاً لها بين زرادشتيي إيران: لم يكن هنالك شيء يمكن أن ندعوه فارس مزرابية. بالمقابل، فإسبانيا لم تقدم ما يوازي عودة إيران للسطح في الإسلام. لم تكن ثمة حركة بين المسلمين المحليين لإحياء إمبراطورية رومانية أو مَلَكية قوطية(54)، بل أن المسيحيين المزراب قدّموا شهداء(55)، وليس أدعياء. أما اللغة الرومانسية، فعلى الرغم من استمرارها كلهجة محلية، إلا أنها لم تصبح قط لغة أدبية إسلامية بطريقة اللغة الفارسية: الغَرَض من الشهنامه هو إثارتها المدوّية لذكريات ماض قومي مجيد، أما غرض بيوت الشعر باللغة الرومانسية في الموشحات الأندلسية فهو تحديداً خلوّها من التقليد الأدبي(56). وهكذا يبدو ملائماً القول إن أكثر السمات لفتاً للنظر في الشعوبية الإسبانية - كما كانت عليه الحال - كانت اعتمادها على النماذج الإيرانية(57). هنالك غياب مشابه لأي مطلب ديني بتميز إسباني داخل الإسلام. فإسبانيا لم تقدّم أي بهافريد: النبي التوفيقي الوحيد الذي كان يمكن أن يظهر على التراب اسياني كان بربرياً(58) شمال إفريقي. كذلك فإسبانيا لم تبدِ أي تقبّل لأشكال الإسلام الهرطقية، الأقل تقيداً إثنياً(59). بل إن اختيارها للمدرسة التشريعية السنية يخبرنا بالقصة ذاتها: عوضاً عن تمييزها لذاتها باعتبارها الملجأ الأخير للأوزاعية السورية، فقد تبنت إسبانيا مالكية المدينة(60)، وهي أكثر المدارس التشريعية الحضرية ثباتاً بين كل المدارس. لكن لا يبدو بالمقابل أن الحكم الأموي الذي استمر طويلاً استُغِلَّ لعزل البلد. لم يبد هنالك بالطبع أي شيء إسباني جوهرياً على الأمويين - الحكم القرشي في نهاية الأمر هو شيء اشترك فيه مواطنو إسبانيا مع مواطني السند؛ لكن حتى إذا لم يكن الإسبان ميالين لأن يصبحوا مروانيين غربيين(61)، فإن حكمهم الأموي سمح بشيء من الإغتراب وشيء من التعلق بالماضي المهجور إزاء العالم الإسلامي الحضري: ظل الجند لفترة طويلة يشكّلون أساس الجيش الإسباني بعد إفساح المجال للمماليك في مناطق واقعة في أقصى الغرب كإفريقيا(62). لكن إذا كانت إسبانيا في محصلة الأمر مختلفة إلى حد ما، فهي لم تقم بأدنى محاولة لرفع الاختلاف إلى سوية التمايز، وربما أن مسلمي إسبانيا مالوا إلى التأخر عن اللحاق بالزمن، لكن لم يكن هنالك أدنى شك باستعدادهم لأن يعيشوا زمنهم تماماً: لم يكن النسب الأموي حائلاً دون تسريحات الشعر العباسية(63). مع ذلك، فالأمر لم يبدُ كما لو أن الإسبان كانوا يتحولون إلى جماعة صلبة من المسلمين المستعربين، كما كانت عليه الحالة في ساحل شمال إفريقيا تقريباً. كانت هنالك أعداد ضخمة من المسيحيين المستعدين للموت للتباهي بديانتهم غير الإسلامية، وكانت هنالك أعداد ضخمة من المسلمين المستعدين للقتال في سبيل الدفاع عن هويتهم غير العربية(64). مع ذلك فحين حاول ابن حفصون، وهو أعظم واحد بينهم، أن يعطي تعبيراً أكثر تحديداً عن هذه الهوية غير العربية في الإسلام، لم يجد أمامه طريقة غير أن يصبح مسيحياً(65). يكمن مفتاح فهم هذا الوضع خلف الواجهة في موقف المزرابيين، وهم المجموعة التي تشكّل الطرف المعاكس للموالي الإيرانيين: ففي حين حارب المسلمون الإيرانيون للحفاظ على ثقافتهم في الإسلام، وليخلقوا بالتالي ثقافة إيرانية - مسلمة متميزة، كان المسيحيون الإسبان سعداء في استخلاص الثقافة من الإسلام، ومن ثم خلق ثقافة إسبانية - مسيحية متميزة. ومن الواضح أن المفتاح لفهم هذا من جديد هو السمة التعددية للإرث الإسباني مقابل إرث إيران. فأولاً، لم تكن إسبانيا على الصعيد الثقافي غير إقليم روماني تقريباً. كان لبريطانيا الماقبل رومانية طابع حضري معين وذلك باعتبارها مركز الدراسات الدرودية المتقدمة(66)، أما بريطانيا المابعد رومانية، فقد كانت سلتية صريحة، بقدر ما لم تكن جرمانية. لكن لا يوجد هنا ما يمكننا مقارنته بإسبانيا. ثانياً، كانت إسبانيا إقليماً لا يوجد ما يميزه في المسيحية الغربية. وثالثاً، عانت إسبانيا من غزو جرماني. وهذا الغزو لم يختف دون أثر كما كانت الحالة عليه في إفريقيا كما أنه لم يخلق بلداً بربرياً صلباً كما كانت الحال عليه في إنكلترا؛ كذلك فهو لم يؤد أيضاً إلى محاولة لإيجاد هوية قوطية متكاملة بطريقة الإسلام العربي. لكنه عنى زمن الغزو العربي أن إسبانيا كان لها شكل حكم جرماني خاص بها والذي كان يتعايش ببساطة مع عضوية إسبانيا في الثقافة الرومانية والمسيحية الغربية. على المستوى السطحي، فقد خلقت جغرافية الغزو الإسلامي إذاً حالة مشابهة للحالة التي نشأت في إيران: ديلم إسبانية في لاس أستورياس، حيث التجأ النظام القديم في ظل سلسلة من أدعياء القوطية، وذلك مقابل فارين Fars إسبان في الأندلس، حيث عاشت الديانة القديمة في ظل حكم إسلامي. لكن تعددية الولاءات الإسبانية وشخصيتها جعلت القوى الكامنة للوضعين مختلفة للغاية. ففي الموضع الأول، ربما كانت لاس أستورياس الملجأ الأخير للملَكَية القوطية، لكنها لم تشكل أية أهمية بالنسبة للثقافة الرومانية أو للمسيحية الغربية عموماً. وفي نهاية المطاف فإن أفضل ما استطاع الديلميون فعله هو التحوّل إلى المسلمين وإحياء لقب ملك الملوك ضمن عالم إسلامي اخترقوه كمرتزقة. لكن مسيحيي لاس أستورياس كان خلفهم بقية أوروبا المسيحية: لم تكن لديهم حاجة لإرساليات زيدية لذلك استمروا في إحياء الإمبراطورية الرومانية(67) خارج عالم إسلامي والذي دخلوه بطريقة إعادة الغزو reconquista. ولأنه كان لديهم شيء مميّز سياسياً في شكل المَلَكية القوطية، استطاع الإسبان إعادة تأسيس النظام القديم في الجبال؛ لكن بالمقابل لأن العنصرين المكونين للنظام القديم أي الروماني والمسيحي لم يكونا إسبانيين بل فقط أوروبيين، فقد استطاعوا وضع أيديهم عليه كله وإعادة فرضه أخيراً على الجنوب. ثانياً، لقد عملت التعددية ذاتها على نحو مختلف جداً في الجنوب. فقد أزال الغزو الإسلامي شكل الحكم القوطي ليترك إقليماً رومانياً ومسيحياً. بلغة دينية، فإن أولئك الذين ظلّوا مسيحيين استفادوا الآن من العوز لولاء ثقافي جوهري في المسيحية مثلما استفادوا من قبل من عوزها للولاء السياسي الجوهري: كما كانوا قادرين على القبول بمَلَكية قوطية دون إثنية قوطية أو ديانة آريوسية، كذلك تماماً كانوا قادرين الآن على أخذ الثقافة العربية دون الإثنية العربية أو الدين الإسلامي. وهكذا فقد توحدت تعددية القيم الثقافية المسيحية مع استمرارية النظام القديم خلف الحدود الإسلامية لتمكّن المزرابيين من أن يستعيروا دون أن يذعنوا. وهكذا فقد حافظت الإقليمية الغيورة للإسبان، داخل الإسلام وخارجه، علىاستمراريتها مع تحولهم من حاضرة رومانية إلى حاضرة إسلامية؛ لكن في حين أن الواجهة الإسلامية التي خلقها الولاء الثقافي لبغداد كانت إلى حد ما غير متميزة، فإن الستارة الخلفية المسيحية التي أدت إلى ظهورها كانت بالضرورة غير اعتيادية إلى درجة عالية(68). مقابل الأقباط والمزرابيين، أطل بربر شمال افريقياخلف واجهة إفريقيا الأغالبة بدرجة كبيرة حتى أنهم من وقت لآخر كانوا يبرزون ليقدّموا واجهة من عندهم. لم يكن متخيلاً أن باستطاعتهم أن يستمرّوا كحاضرة بطريقة الإيرانيين. فهم في الواقع لم يكونوا شيئاً بالنسبة للعالم المتحضر، إنهم مجرد مجموعة من البرابرة الهامشيين والذين كانوا يمتلكون كل الأسباط المفتقدة إلى الثقافة والتي كان السوريون المثقفون بحاجة لها. وفي هذا كان غزاتهم العرب الشعب الذي اتفقوا معه بأعظم مايمكن. مجابهة العرب صنعت لبربر شمال افريقيا شيئاً لم يصنعه لهم الرومان قط: لقد أدخلتهم في مواجهة أُمْكن فيها أخذ لغة أعدائهم للإفصاح عن وضعهم الخاص. كان الإسلام ديناً مبيناً، دين مبين للأسباط والحاخامين.تحتاج المدن، الطبقات الأرستقراطية، المفاهيم وكل ما يميّز الحضارة كي تؤدي عملها بشكل سلس إلى ديانة لا يمكن فهمها بسهولة، كالتي كان الإيرانيون في نهاية الأمر فخورين في وصفها(69)؛ لذلك فقد عانت الحضارة عندما غيّر الأسباط والحاخامون موطن إقامتهم. لكن السوريين الذين كانوا ضحايا الحضارة وبربر شمال افريقيا الذين لم يكونوا بحاجة إليها استمروا على حد سواء في الإحراز كل بطريقته الخاصة. لم يستطع السوريون إحراز هوية من قيم الثقافة اليونانية - الرومانية عندما كانوا ينكرون أنهم يونانيون، ولم يستطع بربر شمال افريقيا الإفصاح عن هويتهم عندما كانوا ينكرون أنهم رومان. وأي من الطرفين لم يرغب باتباع أمثولة الإسبانيين، الذين كانوا روماناً أكثر من الرومان، ففي حين حاولت سوريا المستقرة أن تقوم بتركيبة إقليمية، اختار بربر شمال افريقيا عوضاً عن ذلك أن يظلوا جانباً. وبعكس السوريين، لم يكن لدى بربر شمال افريقيا ما يساهمون به ولا الرغبة في أن يصبحوا عرباً؛ لكنهم فهموا الأسباط واستطاعوا استخدام الحاخامين، وفي ظل شرط مضمونه أنه باستطاعتهم حماية إثنيتهم في وجه جذب إسلام عربي، كان سهلاً عليهم كفاية تبني هوية بلغة القيم الإسلامية. وبأية حال لم يكن لديهم ما يفقدونه في تلك العملية: لم يكن هنالك شيء يمكن إعتباره ثقافة وحكماً وديانة بربرية شمال افريقية مندمجة. ويقدم غنى حضور بربر شمال افريقيا وتنوعه في شمال إفريقيا المسلم وذلك مقابل مجهوليتهم البربرية أيام الرومان واحداً من أكثر الأمثلة التوضيحية لفتاً للنظر عن البيئة التي بدا فيها الإسلام وكأنه في بيته على نحو هو الأكثر حقيقية. لقد أخذت محاولة بربر شمال افريقيا للإفصاح عن هوية بمصطلحات إسلامية شكلين، كما هي الحال في إيران. ما هو أكثر جذرية كان تطوير النسخ البربرية الشمال افريقية عن الإسلام العربي: جاء أنبياء بربر شمال افريقيا بآيات موحاة بربرية شمال افريقية (70). لقد اختفى النمط في نهاية الأمر؛ لكنه في أحد الأمثلة قدّم شكل حكم بربري شمال افريقي مستقلّ ومتميز دينياً، هو البرغواطة، الذي استمر حتى القرن الثاني عشر. ما هو أكثر اعتدالاً، هو أن الخصوصية البربرية الشمال افريقية وجدت تعبيراً لها في تبنّي أشكال هرطوقية للإسلام(71). فمن ناحية لدينا الخوارج البربر الشمال افريقيين، المتجسدين عرفياً قبل كل شيء في إمامية تاهرت الاباضية بسلالتها الملكية الإيرانية وميولها الشعوبية(72)؛ ومن ناحية أخرى لدينا الشيعية البربرية الشمال افريقية في هيئة الأدارسة، انتثار الدويلات العلوية من الحقبة ذاتها(73)، والمذهب الإسماعيلي في قتامة. ومن جديد نقول، إن الظاهرة اختفت في نهاية الأمر تقريباً: التواجد الاباضي في شمال إفريقيا اليوم محدود، والسلاطين الأشراف، رغم نسبهم العلوي، لم يكونوا كالصفويين بالنسبة لبربر شمال افريقيا. لكن الانتصار النهائي للمالكية في شمال إفريقيا كان مغنماً صعباً بقدر ما كان سهلاً في البداية في إسبانيا. مع ذلك ففي البعد السياسي كانت أناقة هذا الانتقال من كونهم مختلفين خارج روما إلى كونهم مختلفين داخل الإسلام هي الأكثر وضوحاً. وبعكس الديالمة، لم يكن لدى بربرشمال افريقيا ماض سياسي يفقدونه في الإسلام، ولا حتى مَلَكية فاندالية يأخذونها إلى الجبال. ففي الديلم كان عمل الإرساليات الهرطوقية بطريقة من الطرق زائداً عن الحاجة: فحتى حد تذكّرهم للمَلَكية الساسانية، لم يكن الديالمة بحاجة إلى إمامة إسلامية. لكن بربرشمال افريقيا الذين لم تكن لديهم ذكريات كهذه، لم تكن أيديولوجياتهم السياسية مضطرة لأن تكون دينية في الهامها. الى ذلك الحدكانوا واقعين في الورطة ذاتها التي وقع فيها فاسير وأكسيدو، القائدان المقدسان الدوناتيان اللذان أقاما الدنيا ولم يقعداها في المنطقة الواقعة خلف الساحل الإفريقي أيام أغسطينس(74). مع ذلك فالمسألة الدوناتية، رغم كل صحتها، لم تستطع أن تكون مسألة سياسية جوهرياً: لا تمتلك المسيحية شكلاً للحكم، إنما فقط مسيا محجوباً واستكانية مخصية، وهكذا كان على السيركومسيلويونيين Circumcellions أن يحاربوا كمشاركين من خلف الكواليس في انشقاق إكليروسي للمدن الساحلية. في هذه الحالة فإن مجيء الإسلام كان يعني إعادة توزيع بيئوية عنيفة للمعنى السياسي. ففي الأيام الخوالي كان حكم الساحل يعني تمثيل روما الخالدة، في حين أن تربية اسباط في الداخل كانت تعني أن يكونوا خلف حظيرة السياسات المتحضرة. لكن هذا التقابل عُكِس في منظور إسلامي: أن تحكم الساحل صار يمثل الآن سلطة غير شرعية ترجيحياً، في حين أن تربية الأسباط في المناطق الداخلية صار عمل الولي الصالح. وهكذا ففي حين كان على فاسير وأكسيدو أن ينتزعا معناهما من انشقاق سياسي في الساحل، أخذ أبو عبد الله الشيعي وأبو يزيد معناهما مباشرة من مذهب الإمامية. وفي حين خرج المسلمون الديالمة من جبالهم وأعادوا إحياء أحفاد أردشير، فعل بربرشمال افريقيا المسلمون ذلك لصالح البيت النبوي. لقد حطّم تصلّب الحضارة الإسلامية إيران في الشرق ومسح الأقاليم اليونانية - الرومانية في الغرب؛ لكن بربرشمال افريقيا احتلوا موقعاً فريداً أهلهم لأن يجعلوا هذا التصلب خاصاً بهم.


12 قدر الهاجرية

إن قوة الهاجرية في إعادة تشكيل عالم الأنتيك تكمن في توحيدها بين القيم اليهودية والزخم البربري. مع ذلك فرغم كل قوته، فقد أُفْسِد هذا الانصهار بين الحقيقة والهوية بتوتر لايمكن حلّه. التوتر كان ثابتاً، وأفضل ما يمكن مقاربته هو عبر المقابلة بين روايتين قديمتين جداً بشأن محاولات الهاجريين لنشر ديانتهم. تصف الأولى استشهاد حامية غزة بعد الغزو بفترة قصيرة. لقد دعيت الحامية إلى هجر إيمانها، وإنكار المسيح، والمشاركة في طقوس السارسانيين؛ وكانوا بالمقابل سيتمتعون بالمجد ذاته الذي تمتع به السارسانيون أنفسهم(1). ولحسن الحظ، ووفق حدود معرفتنا للحدث، فقد صمدت الحامية واستشهد الرجال عن بكرة أبيهم(2). أما الدليل الآخر فيشير إلى وصول الغزاة إلى جبل سيناء لإجبار السارسانيين المحليين على الإرتداد عن المسيحية(3). فاستسلموا(4) كلهم باستثناء واحد وترك لهم مسألة أن ينضموا إلى السارسانيين في ديانتهم. والمضمون واضح ومفاده أن الغزاة لم يظهروا أدنى اهتمام في إدخال الرهبان المسيحيين في ديانتهم(5). يمكن تفسير الفرق بين موقف السرسانيين من جنود غزة من ناحية وموقفهم من رهبان سيناء من ناحية أخرى إلى حد ما بمصطلحات كرونولوجية. فنحن لا نعرف على وجه الدقّة متى وصل الغزاة إلى جبل سيناء، لكن ربما أنه حدث بعد سقوط غزة ببعض الوقت. لا يمكن أن يُشَك أن قدر حامية غزة، وهي تُوَاجه بخيار محفوظ في الإسلام الكلاسيكي للمشركين من العرب، إنما يعكس الميل البدئي المعادي للمسيحية عند الهاجرية - اليهودية؛ في حين يمكن النظر إلى الحوادث على جبل سيناء في ضوء الإنسحاب الهادئ الذي جاء بعد ذلك داخل عالم ديانة ابراهيم الضيّق إثنياً. والدلائل القديمة الأخرى حول مسألة تبديل الدين تنصاع إلى درجة ما للمعالجة ذاتها. مع ذلك فهنالك طريقة أكثر تحليلية لمقاربة هذا الفرق. فحتى في شكل الهاجرية - اليهودية، فالديانة الجديدة أُسِّسَسْت في هوية إثنية متميزة(6)؛ وحتى في شكل ديانة إبراهيم، فهي ظلت تمتلك حقيقة كونية كمونياً(7). وإذا كان قتل حامية غزة لإحقاق الحق شكّل معنى، فإن تجاهل رهبان سيناء في مسار إدراك الهوية بالمقابل شكّل معنى أيضاً. ومزج الاثنتين معاً شكّل معنى أيضاً: فقد كان مستحيلاً إيصال الحقيقة والهوية إلى حدهما الأقصى في الوقت ذاته. المسار الأكثر وضوحاً كان دون شك نحو إيصال الهوية إلى حدّها الأعلى. والهاجرية في نهاية الأمر كانت بحثاً عن حقيقة تناسب نسباً هاجرياً(8)، وبما أن الهاجريين الأوائل كانوا غزاة، وليس مبشرين، لم تكن هنالك مناسبة للتضحية الآنية بالإثنية الامر الذي يميّز انتشار المسيحية. وهكذا فقد كان باستطاعة الهاجرية أن تبحث عن الحفاظ على ديانة إثنية بطريقة اليهودية، وأن تتذمّر من أن الذين هدتهم إليها كانوا قساة على اسمعيل كالجذام(9) . بتعابير عينية، كان هذا خياراً مريحاً في البدئ. فقد عنى من ناحية،أن الهاجريين دفعوا حصصاً من الأرباح بالنسبة الى التماسك الأيديولوجي بين صفوف الغزاة. وفي زمن متأخر كحقبة الوليد الأول، قُتِل القائد التغلبي على أساس أنه من العيب أن يعبد زعيم العرب الصليب(10). ومن ناحية أخرى، فإن إيصال الهوية إلى حدها الأقصى ساعد في البداية على إبقاء أولئك الذين هم من غير العرب والذين شاركوا الغزاة في قرعتهم في مواقعهم الثابتة، بغض النظر عن حقيقة قناعاتهم الدينية: بل لقد كان المتحوّل الى الدين الذي دعا نفسه مهاجراً زبوناً بالقدر ذاته الذي كانه التابع الطفيلي الذي حافظ على ديانة أجداده. وهكذا فالهاجرية عند كلا الجانبين كانت تكريساً مناسباً للبنيان البدئي للمجتمع الغازي. مع ذلك فإن فكرة هاجرية في صورة إثنية لليهودية كانت معضلة عويصة: في سمتين وثيقتي الصلة بالموضوع، لم يكن الهاجريون مثل اليهود. أولاً، لو كان الهاجريون شعباً مختاراً، فمكانتهم كانت مكانة حديثي نعمة على نحو مربك(11). ربما حلّوا هذه المشكلة مبدأيّاً عن طريق إعادة سبك مجمل تاريخ التوحيد منذ ابراهيم حتى الانتصار المجيد للإسماعيلين، وذلك عن طريق الابتداء بعطية عهد لاسمعيل في توراة هاجرية(12). أما عملياً فلم يكن لديهم الجلد على ذلك. وهكذا فقد كانوا في موقع يؤهلهم لأن يشرعوا،كورثة للتقليد ذاته الذي حجب عنهم الميراث، لإعادة تلقي روح النبوة بعد طريق متعرجة طويلة على نحو محرج(13). أكثر من هذا، فإن مكانة محدثي النعمة التي احتلوها لهم كانت تعني أن الهاجرية لم تستطع أن تكون حصرية إثنياً إلا على حساب كونها ضيقة النظر إبستمولوجياً. وبحكم الضرورة كان على محمد أن يُقَدّم كمؤسس متأخر لملّة موازية لملّتي موسى ويسوع؛ فهو لم يستطع أن يحل محلّهما أو أن يظهر كخليفة لهما. وهكذا كان على حقيقة مكانة الإسلام أن تُسَيَّج بنسبية علم - نبوية والتي من الواضح جداً أنها مؤشر فشله، حتى في شكلها الكلاسيكي، في أن يصبح ديانة عالمية دون أدنى تحفظ(14). وأحرزت بالتالي وسيلة الدفاع الاجتماعية عن الهوية الهاجرية على حساب إنزال المرتبة العقائدية للحقيقة الهاجرية. ثانياً، لقد كانت الهوية الهاجرية في نهاية الأمر قابلة لأن يدافع عنها اجتماعياً؛ وهذا للسبب ذاته الذي مفاده أن الهاجريين، بعكس اليهود، كانوا غزاة. يمكن استبعاد العالم الأممي من الغيتو لأنه لا يمتلك رغبة بدخوله عموماً، في حين يستفيد الغزاة من لامبالاة كهذه حيال الدخول في صفوفهم من قبل مواليهم.لقد استطاع التعريف الذاتي الإثني للهاجريين تحمل الوشل الأول دون جهد أيديولوجي لا طائل منه؛ لكنه لم يستطع أن يأمل بالإستمرار دون تآكل حين يصبح الوشل فيضاناً بعد ذلك. وهكذا فقد كان أي إلحاح على إيصال الهوية إلى حدها الأعلى يهدّد على المدى الطويل بتخفيض درجة الهوية و الحقيقة على حد سواء. كان البديل إيصال الحقيقة إلى حدها الأقصى. وحتى في شكل لديانة ابراهيم يحمل صفات الدسّاسّية العرقية، لم تكن الهاجرية أكثر من توقير لأحد الأسلاف: كانت أيضاً حقيقة توحيدية في نقائها البدئي، المعيار الذي ابتعدت عنه الملل الأخرى، الأكثر سفسطائية. ومن باب أولى فإن ارتقاء محمد إلى دور نبي صاحب كتاب جديد يقف في صف واحد مع موسى ويسوع أضفى على رسالته مكانة عالمية لا لبس فيها. في الوقت ذاته فقد كانت إحدى المكرمات العربية هي أن يُقْفَل تاريخ الوحي التوحيدي بأحد الاسماعيليين. لكن كان ثمة غصة في الحلق. فإذا وجب أن تكون للرسالة هذه الشخصية الرفيعة، فبأي طريقة كان باستطاعة الإثنية الاسماعيلية لحامل الرسالة أن تكون أكثر من حدث تاريخي عارض؟ لكن إذا كانت الحالة كذلك، فليس من الواضح كيف استطاع دور العرب في بداية تاريخ الديانة أن يمتلك أية أهمية جوهرياً، أو كيف استطاع أيّ تسويغ ذي جوهر ديني أن يوجد لأجل صدراتهم التالية داخل الملّة(15). المسألة مُتَضمَّنة في حدث حامية غزة: لو كانت الهاجرية حقيقة كونية بما يكفي لأن تطلب مصادقة جنود رومانيين، فالأمر المنطقي الوحيد هو أنه كان على الغزاة تعزيز جاذبيتها عن طريق إبداء استعدادهم لأن يتشاركوا بشرفهم مع أعدائهم المقهورين. لأنه إذا كان إيصال الهوية إلى حدها الأقصى أدّى إلى ديانة إثنية بالصورة اليهودية، فإن إيصال الحقيقة إلى حدها الأقصى أدى إلى ديانة أممية بالصورة المسيحية؛ وجدير بالملاحظة هنا أنه في حين أن كل المسيحيين هم أبناء للعهد مجازياً، فالإثنية الحرفية الوحيدة التي لا تمثل في المسيحية هي إثنية اليهود. هل كان على الهاجريين إذاً أن يسيروا في الدرب التي سار بها قبلهم اليهود المتنصرون(16)؟ لقد تعايشت في الحدث على نحو مضطرب المطالب الخاصة بالحقيقة والهوية داخل ملّة دينية مكوّنة من لب عربي والذي لم يكن شعباً مختاراً تماماً(17) وظل غير عربي والذي لم يكن أممياً تماماً(18). لقد قبل الإسلام بمعيار ما بموت «الحياة المنعزلة» الإثنية، وصار بمعنى ما ديانة كونية؛ لكنه فعل ذلك دون توقف نبيه عن أن يُجَل في بلده الأم(19). وهكذا فالمنزلة الدينية للعربي ولغير العبربي ضمن الملّة كانت مسألة مشوشة للغاية. فالقرآن من ناحية أعلن أن أكرم الناس عند الله أتقاهم (13:49)، في حين أصرّت تقاليد لا حصر لها على أنه ليس هنالك نسب بين الله والمؤمن غير نسب الطاعة(20)، وأنه لا فضل لعربي على غير عربي إلا بالتقوى(21)؛ شهادات على تأكيد شمولي على الإحراز لميزة دينية ذات نمط مألوف من المسيحية. ومن ناحية أخرى، نجد النبي يعلن أن حب العرب هو جزء من الدين ويحذّر ملّته بأنكم «حين تكرهون العرب فأنتم تكرهونني»(22) ؛ آراء لم يكن التقليد المسيحي ليضعها في فم مؤسّسه فيما يتعلّق بإثنيته الخاصة، وهي في الوقت ذاته شهادات على ميل معاكس إلى تخصيص الميزة الدينية بإسناد نَسَبي(23). وهكذا فالمبدآن المتناقضان تمتّعا بفعالية خلاصية(24). كذلك فإن العلاقة بين الإثنية واعتناق الدين تظهر تناقضاً ضدياً مشابهاً. فمن ناحية، رفض الفقهاء إنزال مكانة معتنق الدين إلى مكانة التابع(25) - حركة عملية في اتجاه الانفكاك من بنيان المجتمع الغازي لصالح إسلام أممي. لكنهم من ناحية أخرى أنجزوا هذا الرفض عن طريق استبدال التبعية بعلاقة قربى والإصرار على التمثل الآلي للمبدّل لدينه أو لسلالة هذا الشخص، في الإثنية العربية(26) - إعادة تأكيد نظرية على التوق الهاجري القديم إلى الملّة الإثنية لشعب مختار، والذي وجد له دعماً طقسياً في استمرارية الختان. كل الناس من آدم وآدم من تراب؛ ومع ذلك فقد كانت العربية لغة آدم في الجنة(27). لم تستطع الهاجرية أن تدعم دمج الدين والإثنية وفق الأنموذج اليهودي، ولا أن توفّق بين ذاتها وبين انفصالها وفق الأنموذج المسيحي؛ وقد أدّى التصادم الإثني بين الهاجرية وشعوب الأنتيك إلى حضارة والتي وقعت بثبات ودون إمكانية إنقاذ بين كرسيين. لو أن الهاجريين بدأوا كشعب مختار وفق أنموذج اليهود، لكانوا قد أحرزوا سريعاً عرفاً سياسياً مختاراً وفق أنموذج السامريين. وهكذا فإن الدمج بين الدين والإثنية قُرِن بدمج بين الدين والسياسة. وبعكس المسيحيين، لم يكن لدى الهاجريين سبب كي يُحِلّوا مسيانيتهم الأصلية في روحانية غير سياسية: لقد قمعوا مسياهم، لكن مملكتهم ظلت من هذا العالم إلى حد كبير. وبعكس الجرمان، فقد استطاع الهاجريون أن يصنعوا معنىً معيارياً من مملكتهم دون استعانة بتقليد دنيوي لمَلَكية بربرية(28) ولا بالتقاليد الإمبراطورية للأقاليم المغزوة: تباين الأدوار حين راح الملك القوطي أوريك يتصرف وكأنه الكاهن الأكبر للطائفة الأريوسية يُحَلّ في الإسلام بطريقة أنيقة(29). وهكذا فإن استبدال المسيا بكاهن أكبر حفظ الشخصية الدينية جوهرياً لشكل الحكم الهاجري الأصلي(30). الانتقال من سوريا إلى بابل لم يدمّر بالكامل هذه القداسة الجوهرية. لكن إذا استمرت فكرة الإمامة في الوجود، فقد كانت تُجَرّد على نحو متزايد من الفعالية العملية. سقط الكاهن الأكبر بين الحاخامين: رغم كل الموارد التي وضعتها السلطة والكهنوتية في متناول المأمون(31)، فإن ابن حنبل هو الذي كان يحارب في ميدانه. ومرجعية الكهنوت الأعلى في الإسلام الأرثوذكسي، رغم أنها لم تخضع قط لاحتباس رسمي، فقد كانت متآكلة بعمق(32). لم تعد الإمامة منطمرة في سياق كهنوتي أكثر اتساعاً: أفسحت كهنوتية الأنموذج السامري المتكاملة الطريق أمام تعايش مضطرب بين كهنوت عال وأساس بناء حاخامي - أساس بناء اعتاد منذ فترة طويلة على الاغتراب السياسي وعلى غياب السلطة الحاخامية، والذي افتقد في شكله الإسلامي حتى فضالة الموارد المنظماتية لليهودية الحاخامية المتأخرة(33). وهكذا فالانفصال الحاخامي المتميز بين التقوى والسلطة نُظِّم في الإسلام في صيغة إفرادية خاصة على حساب الكهنوت العالي. إن غيمة الشكوك التي تحيط بعلاقة أبي يوسف بالسلطان ترمي بثقلها على موثوقيته كناقل للتقليد الديني(34)، العناد الهادئ الذي واجه به ابن حنبل بنوع من اللامبالاة الاضطهاد الذي عانى منه على يد المأمون والإحسان الذي عانى منه على يد المتوكل(35)، والتصلّب الطقوسي لأداء سحنون في دور غير مرغوب لقاضٍ (36)، كلّ هذه مواضيع مميزة لثقافة تكمن فيها الفضيلة الدينية ليس في الممارسة التشريعية للسلطة السياسية، بل في اجتناب التلوّث بها. إن هروب التقوى والتعليم إلى الحاخامية ترك أثواب السلطة الكهنوتية بالية على نحو متزايد. فعلى المستوى العقيدي، لم تكن الأسس التي أقام عليها العباسيون الأوائل مزاعمهم التشريعية مقبولة في الإسلام الأرثوذكسي(37)، في حين أن الأسس التي أقر عليها الإسلام الأرثوذكسي بشرعية العباسيين دمّرت مغزى الثورة العباسية(38). وعلى الصعيد السياسي، توقفت الإمامة باعتبارها العرف المركزي لشكل الحكم الإسلامي عن أن تكون فاعلة بشكل أو بآخر: لا يهم من وجهة النظر هذه ماإذا أقمنا موقفنا على الإهانة المطوّلة للكسل العباسي(39)، إنبعاث المَلَكية في الشرق(40)، أو بخس شرفية لقب الخليفة في الغرب(41). أمّا الإمامة السنية، فقد مالت، بقدر ما استمرت في تواجدها، لأن تصبح إمامة شرفية أكثر منها إمامة هوية(42)، وصار الإسلام السنّي كمذهب سياسي يهتم بإقرار شبه غير محدّد بواقع السلطة السياسية أكثر من اهتمامه بتكوين سلطة سياسية شرعية(43). وكانت عملية الصيرورة المكمّلة هي إنزال مرتبة الحكومة المقدسة إلى مرتبة ريف شبه هرطقي. وفي «الحياة المنعزلة» للإمامتين الإباضية والزيدية، حُوّل الكهنوت العالي إلى شرعة قابلة للحياة معيارياً فقط وسط السياسات القبائلية القديمة والحرمانات المادية الفاحشة للجبال والصحاري، أنموذج لحكومة ذات تعاطف أيديولوجي حميم مع سيرة النبي ذاته في دواخل شبه جزيرة العرب. كان البديل للإمامة تبني الثقافة السياسية للشعوب المغزوّة. وكما هي الحال مع القبول بحكم الواقع de facto بالهوية الأممية، فقد كان هذا مساراً هو في آن مقحم على الهاجريين من قبل وضعهم كغزاة برابرة وممنوع عليهم عبر قيمهم اليهودية؛ ومن جديد كانت النتيجة معقدة ومتنافرة. فمن ناحية، رفض الهاجريون التقاليد الإمبراطورية التي سمح بفضلها لحكومة عالم مدني بالمرور باعتبارها شرعية. ولأنهم لم يكونوا مجرّد مسلمين، فهم لم يستطيعوا القبول بالإمبراطوريات بطريقة المسيحيين؛ ولأنهم لم يكونوا مجرّد عرب، فهم لم يستطيعوا إحياءها بطريقة الفرنكيين. و ما احتفظ به المسلمون من الفكر السياسي لإيران الزرادشتية لم يكن في المحاولة الأخيرة قيمه بل معناه العام(44): صارت السياسات اقتصاديات بلا منازع(45). وبذلك كان زوال الشرعية السياسية خارج الريف كاملاً: لأنه لم يكن قادراً بحد ذاته على إضفاء تشريعية إيجابية على حكومة مجتمع مدني، فقد دمّر الإسلام في الوقت ذاته الموارد التشريعية للتقاليد التي غزاها. من ناحية أخرى، فقد كان على الهاجريين بالضرورة أن يسرمدوا الجهاز الإداري للحكومة الإمبراطورية في الأراضي التي أخضعوها؛ لكنهم لم يستطيعوا إضفاء الطابع الشرعي عليه وذلك بلغة قيمهم الدينية الخاصة(46)، كذلك فقد كانت قدرتهم أقل على إعادة صياغة تلك القيم كي تلبّي حاجاته(47). في تاريخ الصين ثمة توتر عضوي وحميم بين النظرية الكونفوشيوسية والعرف المتمسك بالشرع(48)؛ أما بين النظرية الإسلامية والعرف الماقبل إسلامي فهنالك ببساطة خليج فاغر فمه. الحكم الإمبراطوري وأسسه الاجتماعية ظاهرة معقدة ومحاكية لما قبلها، ومثل هذا الحرمان من الموارد التشريعية ليس أمراً تافهاً. فهو أولاً يفعل شيئاً في سبيل تفسير زوال الطبقة الأرستقراطية في الإسلام: لا نتفاجأ إذا وجدنا طبقة الغزو الأرستقراطية القبائلية وقد تفسخت في وقت مناسب، لكن ما يلفت نظرنا، هو أنه بدلاً من أن تفسح المجال لطبقة ارستقراطية إمبراطورية جديدة فقد خسرت سلطتها لصالح القادة وشرفها لصالح الأولياء - إنفصال إسلامي متميز(49). ثانياً، إن ندرة الموارد التشريعية التي هي في متناول يد الحكام المسلمين تساعد في تفسير الحقيقة القائلة إن جيش الغزاة القبائلي لم يفسح المجال أمام فيالق هاجرية بل أمام مملوكين مستوردين، وهم ظاهرة إسلامية مميزة(50). وحصيلة ذلك كانت أسلوب حكم والذي هو لم يستطع، رغم أنهم ائتلفوا على اعتباره مسلماً تقريباً، أن يكون إسلامياً على وجه الخصوص فقط. وهكذا فقد وقع شكل الحكم الإسلامي ضحية لمؤامرة القوة والقيمة اللتين أدان لهما بوجوده أصلاً. فالعدائية القبائلية القديمة تجاه الحكومات الغريبة والجائرة للمجتمعات المستقرة اتفقت مع اغتراب الحاخامين عن دنيوية السلطة السياسية الموجود كلّها، وكانت النتيجة أن المخيلة السياسية للإسلام ظلّت مثبتة على الصحراء. هذا التثبت ليس دون تشابه معين مع إحدى القيم الرئيسة لفهم الشيوعية الصينية والتي يمكن التعبير عنها بالقول «أحمر خير من خبير»: فضيلة سياسية تستوطن في تواصلية القداسة الصارمة لدار الهجرة في ينان، وليس في السفسطة التكنوقراطية الدنيوية لساحل كانتون والذي كان على المهاجرين الماويين أن يغزوه في نهاية الأمر(51). ومهما كان مستقبل الإحمرار والخبرة في الصين، فإن المحاولة العباسية لأن تكون أسوداً وخبيراً كانت فاشلة. وبعد ذلك استُقْطِبَ التاريخ الإسلامي. فمن جهة لدينا الإماميات في الريف، والتي كانت أمينة لألوانها ومحرومة من الخبرة؛ ومن جهة أخرى، اختلاط السواد والخبرة في الاستكانية الرمادية للمجتمع المسلم المستقر. وهكذا فالتاريخ الإسلامي متميّز بخطر الإغارة القبائلية على المجتمع المستقر والتي هي ليست مادية فقط، كما في حالة الصين التقليدية، بل ايضاً أخلاقية، كما تميّزت السياسات الإسلامية بانفصال أساسي بين الحكومة المقدسة والحضارة. في حقل الثقافة يتكرّر شيء من العلاقة ذاتها بين الإسلام والحضارة التي غزاها. فمن ناحية، لدينا إرث كان كنز الهاجريين الخاص: جاهلية، مكتمّلة ببطولتها وشعرها، والتي حرّرت المسلمين من الاتكال على جاهلية اليونانيين(52) وشكّلت الأساس لثقافة أدبية إسلامية. لقد أمكن للصينيين أن يشيروا باحتقار إلى رائحة الغنم التي أفسدت شعر أدباء السلالة البربرية، لكن الشعر العربي هو رائحة الجِمَال. مع ذلك فلو استطاع هذا الإرث في صيغة مدروسة كما يجب أن يحلّ بالكامل تقريباً محلّ ثقافة الأنتيك الأدبية، فهو لم يستطع إنجاز الخدمة ذاتها للمسلمين في نطاق الفكر المنظوماتي. فالجاهلية العربية تطورت على نحو مختلف جداً عن جاهلية اليونانيين: كان الأحناف، وليس الماقبل سقراطيين، هم الذين حدّدوا الطريق من الجهل إلى الحكمة في صحراء شبه جزيرة العرب، وكان نبي، وليس فيلسوفاً، هوالذي أدان وثنية الشعراء. أن تفكر فقد كان يعني أن تفكر بمفاهيم، والمفاهيم كانت نتاج تطور ثقافي لليونانيين. ومن ناحية المبدأ، كما رأينا، لم يستطع الإسلام تمثّل الفكر اليوناني ولا التعايش معه؛ مع ذلك فالمسلمون لم يستطيعوا إنكار تقنيات الفكر المتحضربأكثر ما استطاعوا إنكار تقنيات حكومة متحضرة. وكانت النتيجة ثقافة منزوعة من مكانها بعمق. أكثر الأمثلة شمولية على هذا الإنتزاع هو ذبول التماسك الفكري والمعنى الشعوري في بنيان الكون الإسلامي. وفي هذا المجال كان المسلمون ورثة لعالمين مؤسسين منذ زمن طويل، وهما عالم العبرانيين وعالم اليونانيين. كان العبرانيون شعباً صغيراً يعيش ملتصقاً بإلهه الإثني الفريد. وكان لصغر ميزان هذا العالم وضيق بؤرته أثران تكامليان. فمن ناحية، كان عالماً إختيارياً: لم يكن ثمة دعوة لإرادة إلهه كي تأخذ صبغة عرفية في شكل نظامي مُعتمد. ومن الناحية الأخرى، فقد عُدِّلت الاستبدادية بالحميمية: ثورات يهوه الشرسة كانت خطرة على نحو مفزع للمعنيين بالأمر، لكنها كانت أيضاً مفهومة على نحو يعيد الإحساس بالطمأنينة. اليونانيون، بالمقابل، وضعوا آلهتهم في نصابها الصحيح وحوّلوا العالم إلى عملية المفاهيم المنظمة والمتسقة. وسواء أقمنا موقفنا على محاولة زرع معنى ميتافيزيكي جوهري في الكون في تقليد الرواقيين، أو على محاولة تعريته لصالح سببية مادية لا هوادة فيها ولا لين، فالأمر من وجهة النظر هذه غير هام. ففي أي من الطريقين، كان الكون اليوناني كوناً خالياً من الإستبدادية الشخصية. بمعنى من المعاني فقد كان عالم العبرانيين وعالم اليونانيين مختلفين إلى درجة أنه كان من العبث محاولة التوفيق بينهما(53). فالآلهة الشخصية والمفاهيم غير الشخصية لا تصنع كي تختلط،حقيقة بقدر ما هي محجوبة على نحو مؤلم في اللاهوت المسيحي بقدر ما هي مكشوفة على محو مفرح في الميثولوجيا الشيفية(54)(من شيفا). تستطيع الآلهة الشخصية أن تصنع معنىً أخلاقياً آنياً للكون(55)، وتستطيع المفاهيم غير الشخصية أن تصنع له معنىً سببياً بعيداً، لكن من المستحيل إيصال الدفء الشعوري والمنظومة المفاهيمية إلى الحد الأقصى على نحو متزامن(56). إن أية ديانة تقيم لاهوتاً منظّوماتياً على أسس من قدرة الله البديهية سوف تُعَذَّب بالتالي بقلق المعتزلة بشأن اللاتماسك الأخلاقي الحاصل،تماماً مثلما أن الديانة التي تقيم لاهوتاً منظوماتياً على أسس من خيره البديهي سوف تولّد قلقاً زورفانياً بشأن عدم التماسك السببـي الحاصل. مع ذلك فحلّ وسط بين العالمين كان ممكناً عملياً، بل لا غنى عنه، خارج حميمية الغيتو الإثنية المعزولة. وإذا أُمكن تمثل العبرانيين بهرطقة أخذت خطاً ليناً عند المفاهيم، واليونان بمدرسة أخذت على نحو مشابه خطاً ليناً عند الآلهة، فمن الواضح أنه كانت هنالك إمكانيات للتوفيق بين الطرفين وخلطهما ببعض. لم يكن ممكناً تحقيق إصلاح ذات البين بين الحاخامين والابيقوريين؛ لكن المسيحيين والرواقيين كان باستطاعتهم الوصول إلى تفاهم. فمن ناحية، خَنَس الإله العبراني إلى مسافة ميتافيزيكية مناسبة: حيث البحث المسيحي المتواصل عن حضورات روحانية أكثر حميمية ومألوفية، رغم التأكيدات المتكررة حول العطف الإلهي. لكن من ناحية أخرى، فقد تعلّم يهوه في نهاية الأمر أن يندب مفوضاً عنه: رغم التجددات المتواترة لجريان الكون العجائبي، فإن جريانه الفعلي تمّ التخلّي عنه الى حدٍ كبير للمفاهيم. ورغم أن الإله المسيحي يظل في نهاية الأمر طاغية، فهو مع ذلك إله مستنير إلى حد ماوفق المعايير الهلينية. لم يعد يُعطى بحد ذاته إلى فعل مجهد للغاية؛ لكنه أظهر ثبوتية تعويضية،كرمز فوق الشرائع غير الشخصية. لقد أفسحت الآلهة الغيورة اليهودية المجال لجوهر إلهي يوناني، تماماً مثلما أفسح السلوك التقوي الحاخامي المجال لأرثوذكسية الأساقفة المفاهيمية. المسلمون، بالمقابل، ورثوا أسوأ مافي العالمين. والمواجهة بين الإرثين حدثت وفق شروط مختلفة للغاية. كانت نتيجة الغزو الهاجري إخراج التوحيد في أصلب أشكاله الحاخامية من الغيتو ؛ لكن بالمقابل فأولئك الذين يغزون العالم لا يستطيعون أن يرفضوا بعزم ثابت المحاولة لخلق معنى سببـي منه، فالغزو أعطى الهاجريين مسلكاً سهلاً إلى الموارد الهلينية التي تطلبتها المحاولة. وكانت النتيجة التنافر الذي لا سبيل إلى تسويته بدل التسوية المسيحية. وحين هدّدت أرثوذكسية مفاهيمية بتولّي إدارة غيتو مبالغ في تمدّده، كان على الحاخامين المسلمين أن يطوّروا بأنفسهم دوغماتية لم يكن لها مكان في التقليد الحاخامي: اخْتُزلت السمات الحميمية لإلههم الشخصي إلى تشبيهية [نسبة الصفات البشرية إلى الإله] باردة تُفسّر بتجهيلية نظرية غير عملية(57). في الوقت ذاته أُجبر اللاهوتيون على تطوير لودية Luddism مفاهيمية لم تكن جزءاً من التقليد الفكري: اختزلت مفاهيم الكون الأنيقة غير الشخصية إلى تصادفية معادية للمفاهيم، وهو دمج شاذ لإرادية مؤمنة بوجود إله وذَرّية atomism ملحدة للدفاع عن سيادة إله عبراني في وجه حيل السببية الهلينية. ومثل الإله المسيحي، خَنَس الله [إله المسلمين] عن عالم أتباعه: ففي حين تعاهد العبرانيون مع إلههم، استسلم الهاجريون ليس إلا، وفي حين صعد موسى الجبل ثم نزله حاملاً للألواح ومصلحاً لذات البين، تلقّى محمد آياته الموحاة عبر وساطة تابع ملائكي. لكن بعكس الإله المسيحي، لم يعوّض الله عن هذا الابتعاد بأن يعلّم التفويض: لقد أضاع حميمية الإله العبراني لكنه استبقى استبداديته، وتوقف عن أن يكون حضوراً مادياً دون أن يصبح جوهراً ميتافيزيكياً. وبعد أن انقطعت شخصية الإله العبراني عن السياق المحتوي «للحياة المعزولة» الإثنية، لكن دون أن تمسها المفاهيم الكوزموبوليتانية للأمم، افسحت المجال أمام قدرة غريبة وغامضة أفرغت الكون من الدفء الشخصي والمنظومة اللاشخصية على حد سواء. ونتائج هذا الإفراغ تبدو سريعة التفشي على نحو مدهش في الإسلام المتأخر. فمن جهة نجد في كل مكان تقريباً من العالم الإسلامي المحاولة لاستعادة الدفء المفقود وذلك من خلال الصوفية: بعدما حُرِم كحاخام من إلهه الشخصي، استسلم للصوفية، حتى لو كان حنبلياً قاسياً للغاية مثل ابن تيمية(58). ومن ناحية أخرى، لدينا الإدراك الأجرد لكون دون معنى أخلاقي أو سببي والذي يميّز الإسلام الشعبي: انحط التسليم للإله إلى نوع من التنجيم التصادفي. في مستوى أقل سمواً نوعاً ما، كان هذا التفاعل يعني أن المسلمين ورثوا سببية العالم اليوناني دون أن يرثوا معناه الفلسفي. فإرادية قاسية هي في نهاية الأمر نوع من رديف لاهوتي للإمامية الإباضية: تشدّد دقيق في المبدأ، لكنه لا يساعد كثيراً في العالم المتحضّر حين يصل إلى مرحلة القيام بالأمور. بل يجب على أنصار إله تصادفي أن يصلوا إلى نوع من التكيف السلوكي مع الحقيقة التي مفادها أنهم يعيشون في كون له نوع من الاستقلالية السببية. في عالم كهذا يبدو أن علوماً كالطب والنجامة تمثّل تقنيات سلطة متلاعبة وتكهنية هائلة الحجم. وكما لم يستطع الحكّام المسلمون الإستغناء عملياً عن التقنيات المالية للعالم الماقبل إسلامي بفضل التقيّد بالحرفية النظرية غير العملية، كذلك تماماً فهم لم يستطيعوا أيضاً أن يتاح لهم العمل دون خدمات أساتذته ومنجّميه بفضل تصادفية نظرية غير عمليّة. الأنبياء غير المتعلمين جميعاً هم على غاية ما يرام في امور الدين؛ لكن في أمور العلم الليسكنويون Lysenkos ترف أيديولوجي مكلف. وهكذا فالسوق المتواصلة لعدالة الفرس المساعدة على قضاء الغرض قُرِنت بسوق متواصلة لعلم اليونانيين المساعد على قضاء الغرض(59). لكن إذا كان العرف أمراً لا غنى عنه، فالنظرية لم تكن مقبولة؛ وحقل القيم الأكثر اتساعاً والذي كانت بفضله علوم اليونانيين أكثر من تلاعبات سحروية ظل مشبوهاً بعمق في الإسلام(60). وهكذا فإن عدم تماسك الحضارة الإسلامية في أبعادها المكونة من الإثنية، شكل الحكم والنظرة الاعتبارة هو عدم تماسك متناسق على نحو ملفت. ربما كان لهاجرية اختصاصية أن تقدّم التكريس الديني «لحياة منعزلة» عينية بطريقة اليهود إلى حدٍ ما: صَهْر عمودي ضيّق رُبطت فيه ملّة إثنية خاصة بإنموذج ثقافي وسياسي مميّز تحت رعاية إله مؤمن على نحو مطلق بمذهب الاختيار. وربما كان لإسلام شامل أن يتطور إلى «ديانة مجردة» بطريقة المسيحية إلى حدٍ ما: طبقة أفقية رقيقة مرتبطة فقط عبر حدث تاريخي مع شكل حكم وثقافة محددين، قانعة لأن تقبل بسياستها من الفرس وبحكمتها من اليونانيين.لم يكن محتملاً حدوث أيٍّ من البديلين تاريخياً: لقد جعل الغزو الهاجريين قابلين للتخلّل جداً بحيث لا يبقون مثل اليهود وأقوياء جداً بحيث لا يصبحون مثل المسيحيين. لكن أياً من الحالتين لم يكن باستطاعتها خلق حضارة، وذلك مقابل رفض حضارة موجودة أو القبول بها. مع ذلك فإذا كان الإنجاز خاصاً بالهاجريين، كذلك أيضاً كانت الكلفة. فالهاجريون لم ينتهوا إلى هذا الشيء ولا إلى ذاك، لا متراصين على نحو مريح ولا متفضفضين على نحو مريح. ليس الأنتيك وحده الذي عانى حين أُقْحِمت المحتويات القديمة في شكل الهاجرية؛ فإن قدر الهاجرية في الحضارة الإسلامية كان بطريقته الخاصة غير سعيد أيضاً.

13 الإسلام الصدوقي

دون اندماج للقوّة البربرية بالقيمة اليهودية لم يكن ممكناً لشئ كالحضارة الإسلامية أن يوجد، ووقفة الإسلام الصلبة مقابل إرث الأنتيك كان بالتالي جزءاً من الثمن الذي كان يجب أن يُدفع من أجل وجوده بالذات. لكن إذا كان إنكار هذا الدمج بين القوة البربرية والقيم اليهودية يعني إنكار الحضارة ذاتها، فليس واضحاً أبداً أنّ قوة بربرية كبيرة للغاية في المرحلة الأولى، والقيم اليهودية ذاتها في التطور الثانوي، كانتا مطلوبتين لتكوين تلك الحضارة. وهكذا يبرز سؤال يقول ما إذا كان باستطاعة الهاجرية أن تتطور بطريقة والتي كانت ستخفض من السعر بشكل جوهري دون أن تخسر البضاعة؛ أو، ولو كان هنالك شعور بأن تفكيراً تامّلياً كهذا يتجاوز مجال التاريخ، ما إذا كانت قد تطورت في الواقع بطريقة هي خارج التقليد المركزي الذي درسناه حتى الآن. بين الحدين الأقصيين لاكتساح عنيف للحضارة وفق أنموذج المغول ولتسرب سلمي فيها وفق أنموذج المسيحيين، ثمة تجربة غير اعتيادية لغزو مجهد تقريباً. فقد وجد الهاجريون عموماً أن اكتساح حضارة ليس أكثر مشقة مما وجده المغول، وعندما قاموا بذلك ذهبت عموماً النتيجة سدى على البرابرة: لم تبق حضارة يمكن اكتسابها من الصعوبات التي عرفها العرب في إخضاع شمال أفريقيا أو القوقاز. مع ذلك فقد كان ثمة استثناء هام. كان لدى إيران الشرقية الإمارات المحصنة جيداً والحضارة المحصنة جيداً على حد سواء؛ وحين واجه الهاجريون هذه الإمارات، وجدوا أنفسهم ولو لمرة واحدة في تاريخ غزوهم الذي لم يتطلب جهوداً أنهم مجبرون على تقديم تنازلات لبنيان سلطة محلّي، ودون مفاجأة وجدوا أن عليهم الوصول إلى نوع من التفاهم مع الحضارة التي مثّلها ذلك البنيان أيضاً. لم يُسْحَب شعب شرق إيران إلى الجنّة بالسلاسل(1)، فقد دخلوها كحلفاء(2)، ونتيجة لذلك كان عندهم ما يقولونه بشأن اختيار خط الرحلة. على الصعيد التاريخي، فإن استمرار منظومة اجتماعية إيرانية بمباركة إسلامية يساعد كثيراً في تفسير لماذا كانت اراضي الحدود النائية وليس فارس الحَضَرية هي التي لعبت الدور القيادي في الإنبعاث الإيراني. ومع أنه أُمْكن للنبلاء والكهنة أن يكونوا بين شعبهم، فإن نخبة إيران الغربية لم تكن في موقع يؤهلها لأن تساوم الغزاة من أجل مكانة أعلى من التيار العام لمعتنقي الدين التابعين؛ وسواء اختاروا أن يعيشوا بجانب إرثهم في عزلة عن الغزاة، أو التخلّي عنه من أجل حياة مشتركة معهم، فالإرث ذاته كان قد حكم عليه بالزوال. فقط في خراسان وماوراء سوكسانيا مالت المصطلحات التوفيقية للتجارة إلى صالح الذين اعتنقوا الدين، وتبعاً لذلك استطاع هنا المجوس المتأسلمون في هيئة الأنبياء التوفيقيين والأرستقراطيون المتأسلمون في هيئة السلالات الوارثية الحاكمة تقديم مساهمة لإيران متأسلمة والتي استمرت بعد خسارة الطرفين أمام الحاخامين والمملوكين(3). يساعد استمرار منظومة اجتماعية إيرانية كثيراً أيضاً في تفسير دور إيران الشرقية كواحدة من آخر حصون الإبستمولوجيا الهلينية. وإذا أمكن تصدير المفاهيم اليونانية إلى أية نخبة، فمع حلول القرن الحادي عشر لم يبقَ سوى أقليات قليلة يمكنها استيرادها: من وجهة النظر هذه يبدو مناسباً تماماً القول إنه في خوارزم ألّف الرواقي البيروني سجله المتبحر وإن كان انفعالياً لآثار الماضي. على الصعيد المفاهيمي، تتيح إيران إلماحة سريعة لما كان ربما سيحدث، أي إسلام هجر تركيزه على الصحراء كي يكرّس المدن، الطبقات الأرستقراطية والمفاهيم، وتخلّى عن تركيزه على العرب ليفسح المجال أمام هوية غير عربية. ولو أن الشعوب المغزوة في المناطق الأخرى كانت قادرة على نحو مشابه على إعاقة سرعة إيقاع الغزو العربي، فلربما نجحوا كما هو مفروض في إحراز صفقات مرغوبة مشابهة. لكن الأمر كان معكوساً، فقد أدى فشلهم في فعل ذلك بإيران الشرقية إلى الوقوع دون مفر في الورطة ذاتها. الشأن الثاني الذي كانت فيه الحضارة الإسلامية على نحو قابل لجدل مكلّفة بأكثر مما يحتاج الأمر، هو قيمها اليهودية. وفي هذه الحالة يمكن اعتبار أن البدائل ذات الصلة تاريخياً هي النماذج للأديان الثلاث التي ساهمت كثيراً في تشكيل الهاجرية: اليهودية، المسيحية والسامرية. ومن الواضح أن فكرة تطور ثانوي يقرّب الهاجرية من اليهودية أو من المسيحية لا تمتلك ما تقدّمه في هذا السياق. وعلى نحو خاص، لا الخوارج ولا الصوفية يوحيان بأنهما وسيلتان معقولتان لإعادة صنع الحضارة. الأولى كانت تطهيرية جداً، والثانية كانت متساهلة جداً، بحيث لم تتمكنا من الإمساك بإرث الأنتيك بطريقة فاعلة تكوينياً. كان القدر المناسب لحركة الخوارج هو أن تستهلك «حياتها المنعزلة» خلف حدود العالم المتحضر(4)؛ في حين كان الدور المناسب للصوفية هو أن لا تمضي إلى ما هو أبعد من تليين حدود حضارة جاءت إلى الوجود في حماية درع مختلف للغاية(5). الأنموذج السامري أكثر أهمية. والطابع السامري محدّد بسيطرة كهنوت متعلّم لكنه مكوّن وفق علم الأنساب والذي في الوقت ذاته يمارس تلك السلطة السياسية المتواجدة ضمن الجماعة(6). لقد رأينا كم تمّ تبنّي هذا الأنموذج في الإسلام، ويمكننا أن نتخيل تماماً أنه استطاع في الواقع أن يسود هناك: الإرث المسياني لصحراء اليهودية لم يُلْزم بحد ذاته الهاجريين بإرث بابل الحاخامي. لابد أن نوضح الآن أن الثقافتين الكهنوتية والحاخامية تختلفان في مسألتين أساسيتين. ففي الموضع الأول، فإن مكانة أحد الكهنة هي أولاً مسألة إسناد نَسَبي، أما مكانة الحاخام فهي تحرز إلى حد كبير عبر التعلّم. لذلك فالكاهن في موضع يؤهله كي يخاطر بتعليمه: وهو لا يضع نَسَبه بذلك موضع الريبة. لكن الحاخام الذي يتلاعب بتقليد الآباء يقوض أسس هويته كحاخام. وفي الموضع الثاني، يميل هذا الاختلاف في دور التعليم لأن يُقْرَن باختلاف في الشكل. فالعمود الفقري للتعليم الحاخامي هو الحرفية الظاهرية لشرع ديني حاو لكل شيء؛ أما القوام الأساسي للتعليم الكهنوتي فيصبح بسهولة الاجتهاد السراني لنخبة ثقافية. لايبدو أن هذه الطاقة التوفيقية الكامنة استُغِلّت كثيراً من قبل السامريين أنفسهم. مع ذلك فالتقابل تاريخياً بين كهنوتية السامريين وحاخامية اليهود يعكس استقطاباً حدث قبل قرون في منطقة اليهودية المتهلينة؛ وفي العدائية التبادلية بين الصدوقيين والفريسيين، تبدو القوى الكامنة التوفيقية المختلفة للغاية لهذين الشكلين الدينيين للمرجعية ظاهرة جداً للعيان. في هذا السياق كانت نقطة الخلاف بالطبع هي القبول بالحضارة المنتشرة، وليس خلق حضارة جديدة؛ فاليهود لم يكونوا غزاة. لكن على افتراض أنه في أعقاب الغزوات الهاجرية كان إسلاماً صدوقياً وليس فريسياً ذلك الذي اشرف على التفاعل الثقافي الحاصل. هل كان باستطاعة تلك الكوكبة أن تقدم من ناحية المبدأ حضارة جديدة أكثر تكاملاً من الحضارة التي ظهرت بالفعل؟ في الموضع الأول، لا يمكن لنا الشك أن إسلاماً صدوقياً كان باستطاعته تقديم مجالات أكثر راحة لما بقي من هويات الشعوب المغزوة.فبشكل من الأشكال، سار النسب الكهنوتي بالطبع ضد هذا مباشرة. ففي حين أن رفض الخوارج للنسب المقدّس فتح بحد ذاته كل الأدوار الدينية أمام غير العرب، فإن الإلتزام الشيعي بنسب علي حفظ الأدوار الأساسية لإثنية النبي الخاصة. وهكذا ليس هنالك من شيء غير مناسب في مسحة الافتخار الجاهلي التي تجري عبر شكل معين من الأدب الشيعي(7). لكن الأمر الأكثر جوهرية هو أن حصر النسب المقدس بالكهنوت أفرغ إثنية الطبقة العلمانية من أهميتها الدينية، والرخصة الكهنوتية التي أضفيت على العائلة المقدسة سهّلت التلاعب بهذه الحيادية الإثنية. وهكذا فمهما كان عمل القوة الخوارجي مؤثراً في إضفاء الصبغة الشرعية على حكم كاهن أعلى فارسي لطبقة علمانية من بربرشمال افريقيا، فقد كانت الأمور تسير مع غير العرب عملياً بالمقابل على غاية ما يرام عبر قرن مصيرهم بمصير كهنوت عربي. من الجانب الشيعي، لدينا احتجاجات عامّة مناسبة بأن الإثنية العربية غير لازمة(8)؛ ومن الجانب الأممي، فإن مجموعة من شعوب غير عربية تلعب بمفاتن الشيعية. جزئياً، فإن هذا الدور للشيعية إنما فقط يكرر الدور الخوارجي. هذا يعني القول، إنه قدّم شكلاً للإسلام أكثر ملاءمة لهويات الشعوب التي لا تمتلك حضارة يمكن أن تفتقدها - بربرشمال افريقيا، الترك، الألبان(9). لكن ماهو أكثر أهمية من هذا بكثير هو الاستعداد لسرمدة شيء أكثر من الإثنية المجردة والذي يظهر على نحو غير كامل في العلاقة التي تطورت بين الشيعة والإيرانيين. وحتى في أعظم صدوقية لكل عالم ممكن، كان لابد من وجود حدود دون شك لاحتماليات لمثل هذه العودة للعلاقات الودية(10)؛ وفي عالم حيث التيار السني صاغ المعاييرلما كان هرطقة محترمةولما لم يكن، كانت هذه الحدود، كما رأينا، ضيقة للغاية. لكن إذا كان انتهاء إيران كدولة شيعية صدفة تاريخية، فهي صدفة موفقة بطريقة غير اعتيادية. في الموضع الثاني، فالسؤال المطروح هو ما إذا كان باستطاعة إسلام صدوقي إضفاء الصبغة الشرعية على التشكيل لحضارة إسلامية والتي شكّل فيها إرث الأنتيك جزءاً من أساسٍ ثقافي متكامل، والذي سيطرت عليه هندسة معمارية إسلامية دون أن تجرّده من طبيعته. هل أُمْكِن أن يكون هنالك شكل حكم إسلامي والذي تمت فيه المواءمة بين عرف الحكومة المدنية ونظرية الحكومة المقدسة(11)، ثقافة إسلامية كان فيها إرث شبه جزيرة العرب الأدبي مرتاحاً مع إرث اليونان المفاهيمي، عالم إسلامي تمت فيه مساواة في الرتبة بين سيطرة إله شخصي ونظامية علم غير شخصي؟ ومن جديد نقول، إن المواد التي يساهم بها المسار الفعلي للتاريخ بجواب هي متشظية ومليئة بالإيحاءات في آن. ظاهرتان تاريخيتان تستأهلان الاهتمام في هذا السياق. الأولى، هنالك العلاقة بين سلالتي التاريخ الإسلامي الأولي الكهنوتيتين الكبيرتين وبين إرث الشعوب التي غزوها(12). فمن الجانب الأموي، الدليل الأول أركيولوجي. وآثار سوريا الأموية تشعرنا بتوازن ثقافي وسط الثروات الفنية والمعمارية للعالم القديم وهو شيء لم يستطع حاخامو بابل إحرازه قط(13): قاعة الألعاب الرياضية التي بناها الكاهن الصدوقي الأكبر جاسون Jason في محاولة لتبديل أورشليم إلى مدينة يونانية تجد صداها الأخير في الرياضيين الذين يزينون القصر الأموي في قصير عمره. أما من الجانب العباسي، فلدينا رباطة جأش الخلفاء الأوائل الثقافية الشهيرة والتي هي من نواح أخرى محيّرة، والتي يمكن اعتبار أن اللدانة التوفيقية للكهنوت العالي تقدّم مفتاحاً مفاهيمياً لها. ولو أن العباسيين الأوائل قدموا أنفسهم كأئمة رافضيين(14)، فربما أنهم استطاعوا بسبب تلك المقدرة فقط أن يضفوا الصبغة الشرعية على التقليد الملكي الفارسي دون أن يفقدوا قداستهم الدينية الفطرية. على نحو مشابه، فعن طريق دمج الإمامية بالمهدية استطاعوا تشكيل طبقة أرستقراطية إسلامية جوهرياً، من جهة عبر استخدام الإشتراك في الحدث الأبوكاليبتي الذي تحيى ذكراه بأسمائهم(15) وذلك باعتباره شِرعة لطبقة أرستقراطية حكومية تخلف طبقة القبائل الأرستقراطية(16)، ومن جهة أخرى عبر مزاولة اجتهادهم الكهنوتي الخاص كما في التكريس الليبرالي للطبقة الأرستقراطية الفارسية في شرق إيران(17). وأخيراً، عبر دمج الإمامية بالإبستمولوجيا اليونانية استطاعوا أن يكفلوا لاهوتاً مفاهيمياً لشطب حرفية الشرع، وأن يستخدموا عقلهم حيث شطب شرع إعتزالي التقليد النبوي(18). باختصار، لقد استطاعوا بعقل مقدس أن يليّنوا قساوات النزعة القبائلية المقدسة وأن يسهلوا تقبّل الحضارة الشعوبية. الظاهرة التاريخية الأخرى الهامة هنا هي القبول النسبي بالمفاهيم اليونانية الذي أظهرته الشيعية(19). فمن ناحية هنالك ولع الشيعة المعتدلة بالمذهب الإعتزالي: لاحظ الدمج الجزئي للإعتزالية في الإمامية واستمرارها المتكامل في الزيدية(20). ومن ناحية أخرى هنالك الهلينية الأكثر قوة التي تظهر بين أتباع المذهب الإسماعيلي: لاحظ تقبّل الإسماعيلية الشرقية(21) لفلسفة أفلاطونية جديدة، والتوفيقية التنجيمية الملفتة للنظر لرسائل إخوان الصفا(22). نستطيع أن نرى أيضاً في السلوك الشيعي شيئاً من الآليات الاجتماعية والفكرية، للإسلام الصدوقي. فمن منطلق اجتماعي تشترك الشيعية والهلينية - مقابل الإسلام السنّي - في انقسام أساسي بين الخاصة والعامة: الكهنوت العلوي مقابل العلمانيين في الحالة الشيعية(23)، والنخبة الفلسفية مقابل الجماهير في الحالة الهلينية. وهكذا فما كان موضع جدل في العلاقات بين الشيعية والهلينية كان اندماج حكمي النخبة، والأمر المناسب الوحيد هو أنه كان على الطرفين أن يخسرا أمام إسلام العامة الحاخامي(24). ومن منطلق فكري فقد قدّم هذا التناظر الاجتماعي الأساس الذي استطاع العمل الطرفان عليه. فمن ناحية استطاعت الهلينية تقديم حشوة فكرية خفية لمطالب الكهنوت العلوي السرانية: مفاهيم وتنجيم للتوسّع في اسم الرب والتقويم. ومن ناحية أخرى، فقد أُمْكن استخدام حكمة الكهنة السرانية كنوع من تفويض مطلق لإضفاء الصبغة الشرعية على قبول ما كان في الواقع حكمة اليونانيين: الاستعارات الهلينية في الشيعية كُرّست على نحو خاص عبر عزوها إلى عائلة النبي(25). وهكذا فهنالك أساس للافتراض القائل إنه كان بإمكان حضارة إسلامية أفضل تكاملية التشكّل في ظل حماية إسلام صدوقي. فمن منظور استدلالي، كان كهنوت وفق الأنموذج السامري في موقع يؤهله لأن يجمع بين قبول ثقافي غائب عن الأنموذج اليهودي وبين قوة لإعادة التشكيل غائبة عن الأنموذج المسيحي. ومن منظور استقرائي، فالتاريخ يقدّم لنا لمحات خاطفة لكنها مليئة بالإيحاءات حول النمط الذي ربما عالج فيه إسلام صدوقي هويات الأنتيك وحقائقه. وهذه المسائل تؤسس معاً معقولية معينة لعالمنا الافتراضي. لكن في العالم الفعلي يبدو أن الذي أشرف على تشكيل الحضارة الإسلامية كان إسلام فريسي، وهنالك سبب تاريخي طيب يدفعنا للإفتراض أن الأمر لم يكن على غير ذلك النحو.وبحد ذاته يظهر فشل المأمون أمام ابن حنبل طبعاً أن المحاولة العباسية كانت قد جرت في وقت متأخر جداً ليس إلا، وقت يبدو من الواضح فيه أن بنيان السلطة الحاخامي للإسلام قد أشيد مرة وإلى الأبد. لكن الواقع أن الأسباب التي تفسّر ليس فقط لماذا فشل العباسيون، بل أيضاً لماذا كان عليهم أن يفشلوا، إنما ترتبط بطريقة استخدام الأمويين للكهنوت قبلهم. لقد شكّل الكهنوت بالنسبة للأمويين المورد الوحيد الذي كان بحوزتهم لإكمال واجبين متمايزين، هما إنشاء الهوية الدينية الهاجرية وخلق حضارة هاجرية. مع ذلك فالظروف التي واجهوها تآمرت عليهم بحيث جعلت من شبه المستحيل عليهم أن يستخدموا سلطتهم الكهنوتية في الإثنين معاً. ففي إنشاء هويتهم الدينية كان على الأمويين اتباع إسوتين سالفتين، هما السامرية والمسيحية. من ناحية، كان باستطاعتهم أن يختاروا الأولى، كما فعلوا واقعياً، وأن يستخدموا كهنوتيتهم لإحداث إسقاط بالمعنى الحرفي لإرثهم اليهودي على سيناريو عربي. لكنهم بعكس السامريين، فقد حَوَّلوا أنفسهم بذلك إلى كهنة في السبي؛ وعلىأساس بروز بابل بين غزواتهم وبروز رجال الأسباط بين الغزاة، كانوا بذلك يغامرون بحفر قبورهم لصالح تواطؤ الأسباط والحاخامين والذي كان سيؤدّي إلى رفض الحضارة. من ناحية أخرى، فقد كان باستطاعتهم اتباع الأسوة المسيحية، كما كان على العباسيين بمعنى من المعاني أن يفعلوا، ومن ثم يتسامون بإرثهم اليهودي إلى استعارة مجازية. لكنهم بعكس العباسيين لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى موقع يؤهلهم لأن يسلّموا جدلاً بصحة هويتهم الدينية؛ وعلى أساس رجحان كفة المسيحيين بين مواليهم، كان عليهم أن يُمْتَصّوا في المسيحية وفي حضارة مسيحية. والطريقة الوحيدة التي استطاع الأمويون أن يضمنوا بها استمرارية الدين الهاجري وبقائية الحضارة المغزوة كانت ستؤسس علاقة مختلفة تماماً بينهم هم أنفسهم وبين الأديان التوحيدة السابقة: علاقة لا تقوم على إسقاط بمنظور حرفي ولا على تسامٍ مجازي، بل على وسيلة غير مسبوقة بالكامل لإضفاء الصبغة القومية على نحو فوري. ولو أن الهاجريين قدّموا نسباً عربياً لأورشليم، الأنبياء والأسفار المقدّسة، عوضاً عن تزيين شبه جزيرة العرب باورشليم، موسى وتوراة، لكانوا نسخوا بثبات وعلى نحو نهائي كلاً من اليهودية والمسيحية - عوضاً عن التعايش معهما في تخليط غامض من المحاكاة والتعاقب الخطّي(26) . لكن هذا كان سيتطلّب جَلَداً، جلد لم يكن يمتلكه، في المحاولة الأخيرة، حتى عبد الملك؛ وإلى المدى القائل إن الخيار لم يكن واقعياً قط، فليس من المفاجئ أن الأمويين اختاروا أن يتعلّموا من السامريين الذين أعطوهم الكهنوت ذاته. والنتيجة النهائية لهذا الخيار كانت اختزال الكهنوت إلى وجود مستحائي في عالم كانت حيواناته الحية حاخامية. يبقى أن نضيف أن مصير الكهنوتية لم يكن أكثر سعادة في الشيعية ذاتها. وحيث أن تماسك القوة العدائية جعل من غير المحتمل على نحو متزايد أن يكون ممكناً تأسيس إمامة علوية في العالم المتمدن، فقد استجاب شيعة العراق في اتجاهين مختلفين للغاية. فمن ناحية اختار الإماميون أن يظلوا حيثما كانوا مهما كانت التكلفة الأيديولوجية، وأن يشرعوا في تكييف إرثهم الجهادي أصلاً مع الضروريات الأكثر إستكانية لبيئتهم. لقد حاولوا بمنظور عام، إبطال مفعول علاقتهم بالإسلام الأرثوذكسي عن طريق تلطيف حدّة(27) السمات الأكثر إيذاء للشعور في إرثهم أو إخفائها(28). أما بمنظور خاص، فقد رُكّز الحق في استهلال ثورة شرعية في بادئ الأمر في سلسلة منفردة من أئمة ثقة غير نشطاء (29)، لكنه مُحِق بالكامل في نهاية الأمر وذلك مع إرسال الإمام إلى غيبة متسامية حقاً(30). وهكذا فقد كانت سياسة الإمامية إحياءً لأكثر سياسات الغيتو استكانية(31). من ناحية أخرى، فقد اختار الزيديون متابعة طموحاتهم السياسية مهما كانت التكلفة البيئوية. بمنظور عمومي، الزيدية متميزة بخاصية مغامراتية لا يمكن كبحها والتي تتناقص بكل شيء مع استكانية الإماميين الشديدة الوطأة(32). وبمنظور خصوصي، فالتخليط البيئوي للمغامرات الزيدية الأولى يتناقض مع الشخصية الملفتة للنظر في تعقيدها لنجاحاتهم المستمرة؛ حين استقر الـغبار، راح الزيديون يقايضون غيتوهات بابل المدنية بالأسباط الجبلية لقزوين واليمن(33). وكان على الإمامية الزيدية أن تستقر كحجر زاوية لنمط صيغة دولة قبائلية قائمة في نهاية الأمر على الرضى الذي لا يمكن لغير القداسة أن تحثه، وذلك في غياب التركيزات الهامة للسلطة أو الثروة(34). في هذه التطورات المتباينة وصلتنا السياسات الشيعية متكاملة في تطورين اثنين. ففي نهاية الأمر التزمت الإمامية والزيدية على حد سواء بأمثولة إمامة شمولية فعلية. لكن في حين ضحت الإمامية بالواقع لتحتفظ بشمولية ظل، ضحت الزيدية بالشمولية على حساب إحراز حقيقة أبرشية ضيقة(35)؛ وفي حين ظلت الإمامية هرطقة حَضَرية على حساب إنكار الممارسة العملية، ظلت الزيدية هرطقة عملية على حساب إنكار الحواضر(36). يمكن بسهولة توضيح المضامين الثقافية لهذا التفسخ السياسي. فمن ناحية، قاد التطور الإمامي مباشرة إلى إعادة امتصاص السلطة الكهنوتية العليا في الوسط الحاخامي للغيتو. وانتهت مؤامرة غير ناجحة على نحو مثير للشفقة ضد أئمة الضلال كمؤامرة ناجحة على نحو مثير للتهكم ضد أئمة الهداية؛ والبقية الهامة الوحيدة من السلطة الكهنوتية كمنت الآن في الحقيقة القائلة إن الحاخامية الإمامية، إذا صح القول، ظلّت تنائية(من تنا)، في حين ظلت الحاخامية السنية مجرد أمورائية(من أمورا). ومن ناحية أخرى، أضحت الإمامية الزيدية بذرة والتي تنمو فقط على أرضية حجرية. لقد انسحبت الزيدية من الحضارة كي تحيا في تعايش تكافلي مع البربرية، وتبدو «أبيض أفضل من خبير» صيغة معتدلة لرسالتها العقائدية وسجلها السياسي. لقد حافظ الأئمة الزيديون في معاقلهم الجبلية على تعهد مؤثر بالتعليم(37)؛ لكن مساهمة سلطتهم الكهنوتية في تشكيل الحضارة كانت بالضرورة في حدودها لدنيا. باختصار نقول، إن الإماميين هجروا إمامتهم وانسحبوا إلى داخل الغيتو، في حين حافظ الزيديون على إمامتهم وانسحبوا إلى داخل الريف؛ لكن في الحالتين، كانت الحصيلة تنمّ عن الانفتاح الثقافي للصدوقيين أقل مما تنمّ عن «الحياة المنعزلة» الفريسية. على هذه الأرضية قامت الشيعية في شكلها الاسماعيلي بآخر محاولاتها، والتي هي بطريقة أو بأخرى أكثر محاولاتها تأثيراً، للجمع بين القداسة والحضارة(38)؛ وفشلها شهادة حية على صعوبة المشكلة. كهرطقة إسلامية، فقد بُنيت الإسماعيلية في عمق تنظيمي وأيديولوجي فريد، بمعنى أنها تعددية بيئوياً(39) ومرنة عقائدياً في آن(40). وحوّلت مقدرتها على ضبط التوترات الناتجة، الحفاظ على توازن دقيق متعلّق بمجموعة من الخدمات السياسية المحلية، إلى فكرة دينية - سياسية مسيطرة وحيدة: مهدية إمامية والتي وعدت بحقيقية الإمامية الزيدية دون محدوديتها الأبرشية، وبعالمية الأبوكاليبس الإمامية دون عدم لزوميتها السياسية. من منظور تنظيمي، فالشخصية المفتاح في هذا البنيان كانت الداعي، الذي يجمع بين مكانة محلية في مشكاة بيئوية ضيقة وبين دور ذرائعي في مؤامرة عالمية أكثر عظمة(41). في هذا التوازن يكمن كل من القوة المميزة للمنظمة الإسماعيلية وقابليتها المميزة للانجراح. فمن ناحية لدينا هنا محاولة ديناميكية لتجاوز التكيفات البيئوية للإمامية والزيدية: في الأولى، بالمقابل، لم يعد هنالك شخص أُمكن لشخص محلي أن يتآمر لصالحه، في حين كان الإمام ذاته في الثانية شخصية محلية ذات مكانة كاملة دينية. لكن من ناحية أخرى، فقد كان ممكناً الإخلال بالتوازن في أي من الاتجاهين بسهولة: عن طريق دارة قصيرة صرف بها الداعي حوالة المهدي المصرفية لحسابه الخاص(42)، أو عن طريق تبخير المؤامرة الأكثر اتساعاً والذي بفضله امتلك دوره معناه البيئوي(43). وهكذا فالمرونة التنظيمية للإسماعيلية كانت معلقة بين تهديدات الصلابة العنيدة من جهة والإنتفاخ غير المحدود من ناحية أخرى. من منظور أيديولوجي، فمفهوم الإسماعيلية المركزي هو مهدية محايثة تولّد علاقة بين الحاضر والمستقبل هي في آن لدنة إدراكياً ومتوترة شعورياً. ومن جديد نعيد أن التوازن متزعزع. لو أن الحوالة المصرفية المهدية تُقبض الآن، يتقوّض المستقبل داخل الحاضر، ويفسح التوازن المجال أمام اللامعنوية الجوهرية للواقع المابعد اسكاتولوجي: ربما أن عبيد الله المهدي كان سيبدو أكثر سعادة كإمام زيدي. ولو أن الحوالة المصرفية لن تقبض أبداً، فانحسار المستقبل المهدوي يفرغ الحاضر من معناه السياسي، ويكون التوتر الشعوري مفقوداً: ربما أن الداعي المثقف من القرن الحادي عشر، الكرماني، كان سيبدو أكثر سعادة أكثر كحاخام إمامي(44). أو لنقدّم الأمر على نحو مختلف قليلاً، فالمقدرة على الإقناع في الإسماعيلية تعتمد على قوة استعاراتها المجازية: لكن لو ثُفِّلت الاستعارات المجازية إلى حقيقة حَرْفية(45)، كما في عقيدة الدروز الأولى، أو مُدِّدت إلى صوفية مجردة(46)، كما في كتابات ناصر خسرو، لتدمّر عندئذ التوازن الدقيق بين التلميحية والتملّصية. لأنه على الإسماعيليين، كالماركسيين، أن يخفوا تحت مظهر خادع الحقيقة القائلة إن عليهم أن يختاروا في المحاولة الأخيرة بين أن يقبضوا ثمن وعدهم إمامة روسية قذرة أو أن يرفضوا قبض ثمنه في جالوت فارسي عقيم؛ لكن عظمة الإسماعيلية، كعظمة الماركسية، إنما تكمن في رؤيا لا بد أن تَبلى معقوليتها عاجلاً أم آجلاً. لقد حاول النزاريون أن ينجوا من هذا الشرك عن طريق الحجة القديمة بأنهم بدأوا من جديد. لكن الأمر يحتاج إلى أكثر من الجِدّة لإحداث إصلاح، واليوتوبية السطحية «للتبشير الجديد» إنما يدلّ عليها جيداً الهجمة السريعة لمحدودية التفكير والانهيار الموازي للفلسفة إلى سحر(47). وكانت النتيجة بالفعل مجرد إمامية زيدية أخرى في الريف، مع ثقلة إضافية من إرث عقائدي مفصّل على نحو غير معقول ومساعدة هامشية من غيتو إمامي والذي أدان ببقائه إلى وجوده على هامش العالم الإسلامي. ففي نهاية الزمان جاءت حوادث التاريخ بالإمامة إلى الغيتو: انتهى الكاهن الأعظم في الهند البريطانية مثلما ابتدأ في بلاد اليهودية الأخمينية، أي القائد لجماعة دينية صغيرة أمام حكامها الإمبراطوريين الخيّرين البعيدين. وفي هذا الموقع أحرز الإسلام الصدوقي أكثر نجاحاته الثقافية درامية. لقد أعلن الآغاخانات إلغاء الغيتو(48) وتقبّلهم للحضارة؛ وإذا كانوا يفضلون مضمار سباق الخيل على قاعة الألعاب الرياضية، فقد كانوا مع ذلك ورثة مستحقين للكهنة الكبار في منطقة اليهودية الهلينية. لكن مهما كانت انتصارات الإسلام الصدوقي في هذا الموقع الغريب والمستبعد، فقد تُركت لبقية العالم الإسلامي أدواته الفريسية الخاصة: «حتى لو أننا صدوقيون، فنحن مع ذلك نخاف من الفريسيين»(49).

14 قسوة التاريخ الإسلامي

يتميز التاريخ الإسلامي بما يلفت النظر من ضيق للموارد الخاصة بالمعنى في اللغة وثبوتيتها.لقد كان مركّباً طبعاً من العناصر الثلاثية الكلاسيكية، العبرانية والبربرية ذاتها التي رُكّب منها تاريخ أوروبا. لكن في حين ظلت المصادر الثلاثة في أوروبا متمايزة، فقد رفض الإسلام العنصر الأول ودمج الاثنين الآخرين؛ ونتيجة لذلك تتركز موارده على نحو ثقيل في تقليد أوحد وذي خصوصية دينية. لقد رأينا للتو ما كان يعنيه هذا بالنسبة لشخصية الحضارة الإسلامية في علاقتها مع الحضارات التي خلفتها. مع ذلك فالأمر يستأهل إعطاء التحليل نوعاً من التأكيد عن طريق توسيع المقارنة لتشمل تاريخ أوروبا المختلف للغاية. لأنه كما تتحمل المصدرية الفردية للتقليد الإسلامي عبء الشخصية الأحادية القاسية للكثير جداً من التاريخ الإسلامي، كذلك تماماً فتعددية المصادر للثقافة في أوروبا هي الشرط المسبق أيضاً لتطورها التاريخي المعقد. فعبر تفاعل التقاليد المتغايرة تاريخياً لكن المخوّلة ثقافياً كان الأوروبيون مبتلين بذلك السعي الذي لا يهدأ خلف الحقائق التي منعت فاوستسوس القَلِق عن الاستمرار في حديقة غرتشن؛ على نحو معاكس، في حين أنه بعدما أحرز المسلمون اتزان الموثوقية، لم يتعرضوا لإغواء نظرة خاطفة على الحقيقة النهائية.وفي حين يبدو هذا التعارض أساسياً إلى درجة أنه يمكن اعتباره بديهياً، فإنه يمكن توضيحه مع بعض الدقّة عبر مقارنة النتائج المختلفة للأصولية في مجالي الحقيقة والهوية في عالمي أوروبا والإسلام. نقطة البداية بالنسبة لنا هي نوع من الموازاة بين ظهور الإسلام وظهور الإصلاح البروتستانتي. ففي الشرق والغرب على حد سواء، أحرز عالم الأنتيك نسخة ملطفة من اليهودية وذلك في هيئة المسيحية. وفي الشرق والغرب على حد سواء، وبمقتضى الحال جعل هذا التبني الجزئي للقيم اليهودية مشروع أخذ هذه القيم بجدية أكبر متاحاً. وفي كليهما، وجد المشروع تجسيداً تاريخياً في حركات رفضت مسيحية متفسّخة على الأسس ذاتها نوعاً ما: هنالك الإصرار ذاته على وحدانية قاسية ضد تعددية آلهة مسيحيي الأيام الأخيرة أو وثنيتهم، البتر ذاته للسر من العلاقة الأخلاقية بين الناس وإلههم(1)، والإزالة ذاتها للصبغة الطبيعية عن المجتمع والطبيعة عبر تحويل سلطة الكون إلى الحكم المطلق للإرادة الإلهية(2). لكن خلف هذه النقطة، يقدّم الشرق والغرب تقابلاً بسيطاً وأساسياً. ففي الشرق كان التوجه في القرن السابع نحو تيار عبراني أكثر شمولية حركة متولدة في الخارج: القيم ليهودية ظلت خارج المسيحية الشرقية روحانياً مندمجة مع قوة البرابرة الذين ظلوا مادياً خارجها. لكن فشل الآريوسية القوطية في القرن الرابع في الغرب في الاحتياط سلفاً لظهور الإسلام كان يعني أنه لم يعد ممكناً إعادتها إلى المسرح في القرن السادس عشر: ظل باستطاعة اليهود طبعاً تقديم قسطهم من اللاجئين، لكن سويسريي القرن السادس عشر لم يعودوا برابرة والذين كان ممكناً تسجيل أسمائهم في نوع من الاكتتاب للإطاحة بالمسيحية أو بالحضارة(3). تبدو الشخصية ذات المنشأ الداخلي للبروتستانتية - أو للكالفينية، من أجل تحديد المناقشة - بالمقارنة مع الإسلام حاسمة بسبب علاقتها بما كان قبلها. والمسألة تنطبق على مستويي الأفكار والوقائع على حد سواء. فعلى صعيد الأفكار، استطاع استعمال أصولي للإرث العبراني في المسيحية توفير ترخيص مفيد للتدمير (4). لكن حتى بالنسبة لديانة كانت مجموعة أسفارها المقدسة تتضمن العهدين القديم والجديد، فإن الأصولية لم تكن مورداً يكفي لأن يبنى به العالم من جديد. وفي أية حال فالأصولية المسيحية هي بالضرورة صرح دون أساس: فعن طريق فقدانها لأسسها في الاستعارة المجازية تحديداً صارت المسيحية ديانة عالمية(5). وهكذا فالحقيقة القائلة إن الكالفينة استطاعت أن تطال الإرث العبراني من خلال المسيحية فقط كانت تعني أن مواردها المتميزة الخاصة بالمعنى في اللغة كانت مُقْفَرة إلى درجة عظيمة وذلك بالمقارنة مع موارد الإسلام المتميزة الخاصة بالمعنى في اللغة. إن التصوّر العسكري للكالفنية والذي يجد تجسيداً عينياً له في جيوش الرب من القرن السابع عشر، تصور الحج غير المتوقف الذي يجد أداءً تمثيلياً عينياً في الهجرات الدينية إلى جنيف أو ماساشوشتس،والتوق المتكرر لمنظومة سياسيةذات جوهر ديني، إنما هي تلميحات عديدة مخذولة لمقولات الجهاد، الهجرة، والإمامة الإسلامية. لكنها لم تستطع أن تكون أكثر من تلميحات: فالصليبيون كانوا الأسوة شبه الوحيدة التي استطاع الكالفنيون تقديمها كحجة على روحهم العسكرية(6)، وجولات ابراهيم لم يكن باستطاعتها امتلاك معنى جغرافياً حرفياً لتقليد يقول «الجنة وطننا الأم»(7)، بل أن دور النبي المنذر المأخوذ من العهد القديم والذي انتحله قديس مناصر للقضية مثل جون نوكس كان طفيلياً على وجود الملوك الظالمين الذين كان على النبي أن ينذرهم(8). ربما كانت جنيف مدينة كالفن المنورة، لكن نويونس لم تكن مكة؛ وحتى في البرية الأميركية فإن قدرة القديسين على تخيل شكل حكم مقدس تبدو ضامرة على نحو مريع وفق المعايير الإسلامية(9). على صعيد الوقائع، فالحقيقة القائلة إنه كان على الكالفنية بحكم الضرورة أن تُفسد أوروبا من الداخل وليس أن تغزوها من الخارج استلزمت بالمقابل قبولاً بعيد المدى بما مضى قبلها. بل إن انتشار الكالفنية لم يحدث بالطريقة الهادئة للمسيحية الأولى: كانت مسيرتها قابلة للمقارنة في عنفها بمسيرة الإسلام الأولي على الأقل. كانت المسألة أن مداخل الكالفنية العسكرية كمنت في حرب أهلية، وليس في الغزو. بعدما غزا الإسلام إيران، استطاع أن يعير انتباهه قليلاً لمعايير الطبقة الأرستقراطية الفارسية؛ لكن دون احتكام عميق للطبقة النبيلة الفرنسية، لم يكن للكالفنية الفرنسية أن تحتفظ بأي أمل(10). وهكذا فقد كان على الكالفنية بالضرورة أن تأخذ كنقطة انطلاق لها النزعات الثقافية والسياسية لسكان المدن السويسريين، الأرستقراطيين الفرنسيين، أو كرام الناس الإنكليز؛ وهنالك تكيف سياسي إضافة إلى فقر أيديولوجي في الحقيقة القائلة إن الكالفنيين عملوا على إفساد السياسات المعاصرة لهم تحت اسم الأعراف الدنيوية والقديمة الضيقة. إذا تحولنا من سياسات أوروبا المعاصرة إلى جذورها الثقافية النهائية، فالصورة هي ذاتها أساساً. وحتى في نسخته المحررة مسيحياً، ظل باستطاعة الإرث العبراني أن يوحي بالسؤال القائل ماذا كانت حاجة القديسين للحضارة إذا كان الإله ذاته بربرياً. وهذا التحلل القوي من التحالف مع الحضارة طُبّق عرضياً في أكثر الأوساط تطرفاً: أدان جون نوكس الذي عاش في القرن السادس عشر التراث الكلاسيكي لأنه لم يجد قيمة إلا في «الإعادة الأبدية» لكلمة الله(11)، شجب جون وبستر الذي عاش في القرن السابع عشر الحب الإكليريكي «لذلك التعليم البشري الذي حُرم منه الناس البسطاء»(12)، لكن أندفاع البيوريتانية عموماً لم يكن نحو رفض التراث الكلاسيكي جوهرياً بل أن تخضعه «لكالفينية» سطحية في الشكل. وهكذا فقد اعترف كالفن ذاته بقيمة الأعراف السياسية لليونانيين الوثنيين؛ لكنه حفظ لإلهه اليهودي ماء وجهه عبر تصنيف هذه الأعراف على أنها «أميز عطايا الروح الإلهية»(13). كذلك فإن انكريز مذر سلّم جدلاً بصحة العلة اليونانية للماراثون؛ لكنه فقط أضفى عليه الصبغة المسيحية عبر عزوه ليس إلى الصدفة الحسنة بطريقة التاريخيين الوثنيين، بل إلى الحقيقة القائلة إن الإغريق «كانت نفوسهم مُحرّكة على نحو سري وغير مرئي من قبل الملائكة»(14). وإذا كان المرء لا يستطيع أن يجعل اليونانيين مماثلين للملائكة تقريباً، فهو يستطيع على الأقل أن يجعل الملائكة مماثلين لليونانيين ؛ والحب البيوريتاني للإله العبراني لا يقود إلى التبرؤ من اليونان بل إلى تبنيها الاستعادي من قبله. تبدو هذه النتيجة مدهشة في حقل الفلسفة على نحو خاص. ربما استخدم الكالفنيون مبدأياً إحياء الحكم الإلهي غير المحدود للقضاء على تراث اليونانيين المفاهيمي؛ وهنالك رائحة حنبلية قوية في كل من المقت الكالفني العام لأي ميل للخوض في مياه لاهوتية عميقة(15) وفي التهمة النوعية التي وجهها وبستر لرجال الجامعات «بأنهم سحبوا اللاهوت داخل طريقة منطقية محددة ومحكمة، وبذلك سيجوه بأعمال وإظهارات أحد إسرائيل المقدّس»(16). لكن الاستجابة البيوريتانية للفلسفة لم تكن رفضاً عميقاً عموماً بل كلفنة سطحية. لقد كان من الممكن طبعاً إحداث هذا التمثّل عبر خلق صنف شكلاني من «الفلسفة النبوية» مشابه لصنف «الطب النبوي» الشكلاني في الإسلام: من هنا جاءت «الفلسفة الموسوية» المسيحية شكلانياً وذات المحتوى الهرمزي جوهرياً(17). لكن الحل الكالفني المميز كان استلهام الإله ذاته: عوضاً عن صرفه باعتباره إحدى صيغ العقل البشري التي اخترعها اليونانيون الوثنيون، مُجِّد «منطق الله»(18) باعتباره جزءاً من الإرادة الإلهية والذي تمّ التكرّم عليهم به على نحو جزئي لا يكن غيبه. لم يصنع الكالفنيون بالطبع أرسطويين متحمسين؛ لكن الرفض الكالفني لأرسطو لم يؤد إلى حنبلية بل إلى راموسية(19)، وذلك في تقديم منطق جديد والذي كان بدرجة ًقوية جدا كالفنياً بالتداعي، إن لم يكن على نحو جوهري تماماً. وهكذا ففي حين كتب ابن تيمية، وهو حنبلي صارم متحفظ، بالعربية ليحذّر المؤمنين الحقيقيين من منطق اليونانيين(20)، كتب اليوت، المبشر البيوريتاني الذي لا يقل عنه تقوى بالألغونية، ليقدّم لهنود أميركا المعرفة بمنطق الله(21). وهكذا لم تستطع الكالفنية تدمير ما جاء قبلها لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى الثقافي(22). هذا لا يعني طبعاً القول إن الكالفنية كانت في أي من المجالين محافظة. لكن شخصيتها الداخلية النمو، عوزها لأي محتوى متميز بعمق والذي تجعل به ذاتها مميزة، صبّها لطاقاتها الثورية في صرامة نمط ملحوظة: إذا كانت المسألة مناطة بالأدوار التي يجب تمثيلها فلم يكن هنالك شيء جديد جداً تحت الشمس الكالفنية، وكان على الجِدّة بالضرورة أن تكمن في التُقى المتميز للتمثيل. لم يكن أمام الله خيار سوى أن يحب الظروف (في القواعد) Adverbs(23). وبما أن الطهارة (نلاحظ أن البيوريتانية مشتقة كتسمية من الطهارة purity) أساس يتطلب ملّة دينية أكثر من الإثنية، فقد كان على الكالفنيين أن يعملوا لأجل هويتهم بطريقة لم يعمل بها الإسلام؛ وهكذا ففي حين كانت حقيقة ونسب كافيين لمحمد، كان على كالفن أن يلد أيديولوجيا ويعمل مجموعة قيم أخلاقية. نقول الآن إن ما كان موجوداً من أجل تفعيل هذه الصرامة هو الموارد السياسية والثقافية لأوروبا عصر النهضة. لكن كما كانت أوروبا نهاية العصور الوسطى عالماً ملتزماً بإله عبراني إنما لم يتمثل صورته إلا على نحو ناقص، كذلك تماماً كانت أيضاً عالماً ملتزماً بمفاهيم اليونانيين لكنه لم يتمثّل منطقها إلا على نحو ناقص. وكونها مسيحية مجردة، فقد ظل باستطاعة أوروبا القرن السادس عشر أن تُهَز حتى جذورها عبر حركة إصلاح؛ لكن بالمقابل، كونها مسيحية مجردة، فقد ظل بإمكانها أن تمتلك عصر نهضة. الإسلام بالمقابل، لم يمتلك أياً من الاثنتين، لأنه بحد ذاته ديانة جديدة وحضارة جديدة. وبما أن قيم السياسات الحديثة والعلم الحديث نتاج التفاعل بين عصر النهضة وحركة الإصلاح أساساً، ينتج عن ذلك أن الآليات المفاهيمية التي ولِّدت عبرها تلك السياسات وذلك العلم لم تكن قابلة لأن تُتخَيّل في العالم الإسلامي. لأنه في حين مال شد عيون الشبكة العبرانية مع مجيء الإسلام إلى إلغاء المفاهيم بالكامل في الشرق، فإن شدّ عيون الشبكة مع ظهور الكالفنية في الغرب أدى إلى جعلها أكثر نفوذية من أي وقت مضى. في حالة أصول السياسات الراديكالية، فالمسألة تستحق المعالجة على الصعيدين التاريخي والاجتماعي. فعلى الصعيد التاريخي، يبدو أن الإلحاح المشترك للإسلام والكالفنية على العلاقة الآنية بين المؤمن وإلهه هو مذيب قوي لشرعية كل البنى السياسية الفاصلة. لكن في حين أن قوة هذا في الإسلام كانت لتنقية العالم لصالح سلطان مستبد وغير شرعي، لم تستطع الكالفنية ذلك ولم تخلق خواء أخلاقياً قابلاً للمقارنة. وهكذا فقد كانت قوتها التدميرية مستخدمة لصالح قيم سياسية أخرى: في البداية أصولية أعراف قديمة(24)، وفي النهاية فلسفة مفاهيم مستقبلية(25). من منظور اجتماعي، فالإصرار المشترك في الإسلام والكالفنية على أحادية علاقة كل المؤمنين بإلههم هو مذيب قوي للعزل الهليني القديم للنخبة عن الجماهير في ثوبه المسيحي الشاحب. لكننا نعيد من جديد أن النتاجين الإسلامي والكالفني كانا في نهاية المطاف متعارضين تماماً. فظهور الإسلام، الذي دعمته النهضة السنية في الوقت المناسب، قاد إلى الغزو الروحي للنخبة من قبل إله ذي غيرة متزايدة؛ لكن ظهور الكالفنية، الذي عاكسته العلمانية في الوقت المناسب، قاد إلى الغزو الفكري للجماهير من قبل مفاهيم ذات قساوة متزايدة(26). وفي حين كان الرفض الإسلامي للكهنوت يعني تقويض آمال الفلاسفة، فإن علمنة كل المؤمنين المابعد كالفنية كانت تعني أن الفلاسفة صاروا صياديي بشر(27): مقابل السياسات الظلامية الإستكانية للسلطانية، لدينا السياسات العقلانية الفاعلة للثورة(28). فقط في النأي لشبه جزيرة عربية قبائلية، بكل ما فيها من فعالية دينية مستوطنة، توصل تاريخا البيوريتانية إلى إظهارٍ لمعيارٍ محددٍ من التلاقي. إن المذهب الإيماني الداعي إلى المساواة بين البشر عند خوارج حضرموت العصور الوسطى والمذهب المفاهيمي الداعي إلى المساواة بين البشر عند معاصريهم من الأفاتارات الماويين يشتركان، في نهاية الأمر، بالكراهية العقائدية ذاتها لعائلة النبي العربي. يُظهر هذا التقابل في سمته الإدراكية أحد الشروط الضرورية لتطور العلم الحديث. فالعلم الحديث يقوم على علاقة متوترة بين النتائج المجنونة للعقل التأملي الذي يزعم أن الأرض مستديرة، والملاحظات العادية للإدراك البشري التي تظهر أن تسطّحها واضح. إن تثقيف التفكير التأملي يؤدي نمطياً إلى تعددية مذاهب فلسفية، مدارس تتعايش في الاختلاف وتزدهر في مسألة التساهلات لتهتم بسلوكها الدنيوي البائس؛ في حين تميل التجربيبة على نحو معاكس لأن تجد تجسيداً لها في المسندات، وهي مصنفات مكرسة لتصنيفٍ مُغَفَّل لخصوصيات مجردة. لكن لا الأولى ولا الثانية ترقى بحد ذاتها إلى مرتبة العلم؛ فحتى يتولد علم يجب أن تندمج شرائع السماء والأرض. لقد ورث العالمان الأوربي والإسلامي علىحد سواء عن الإغريق مفهوم الشرائع السماوية التي لا تتغير، بجانب المذاهب الرئيسة للتيارات الفلسفية الهلينية. لكن بما أنه في الإسلام لم يكن ممكناً أخذ مفهوم كهذا على نحو جدّي إلا في الدوائر الهرطقية، فإن السعي وراء تفكير تأملي في بيئة مسلمة، مهما بدا قوي التأثير وفق معايير أوروبا العصور الوسطى، كان يجب أن يقصر عن بلوغ السوية المُحْرَزة في عصر النهضة. كانت طاقات الفلاسفة المسلمين، المواجهين بعالم أرثوذكسي عدواني، قد استحوذ عليها الدفاع عن الفكرة القائلة إن العالم مُعْطى مع لوغوس تحديداً؛ لكنهم لم يكونوا في موقع يؤهلهم لأن يسلّموا بوجود هذا اللوغوس وأن يستمروا في البحث عن سرّ أفعاله الداخلية. فمن ناحية استجرّت العدائية الأرثوذكسية الفلاسفة كي يرقعوا نقاط الاختلاف بين أفلاطون وأرسطو لا أن يستثمروها وذلك لإقامة جبهة موحدة(29)؛ ومن ناحية أخرى قدّمت للمذاهب الفلسفية ميلاً لا تخطئه العين كي تنزلق إلى الحق الإدراكي: الأبيقورية، وفق مقتضيات الحال، كانت قد فقدت الكثير من جَلَدها المادي حتى تصبح أفلاطونية جديدة(30)، في حين فقدت الأفلاطونية الكثير من جَلَدها التأملي حتى تصبح باطنية(31). وفي حين أن إضفاء الصبغة الرياضياتية على الكون في فكر غاليله ميّز انتصار العقل التأملي في أوروبا، فإن التأمل الإسلامي في التناسب الصوفي للأرقام ميّز هروب العقل إلى الحكمة السرّانية للإمام(32). مقابل ذلك، فقد ورث العالمان الأوروبي والإسلامي على حد سواء عن اليهود الفكرة القائلة إن الله مسؤول عن كل خصوصية يمكن ملاحظتها على الأرض(33). لكن بما أن المسيحية لم تأخذ الفكرة جدياً بأي ميزان، فقد كان على الأصولية في بيئة مسيحية، مهما بدت مؤثرة وفق معايير كاثوليكية العصور الوسطى، أن تعمل في نهاية الأمر دون الأساس الذي امتلكته في الإسلام. لقد استطاع كالفن أن يؤكد طبعاً «أنه ما من ريح تنشأ أو تهب أبداً، إلا بأمر خاص من الله»(34)، وهو رفض لعلم الأحوال الجوية المادي عند المَلطيين(35) مثل أي شيء مرفوض أساسياً في الإسلام؛ لكنه لم يستطع عملياً أن يلغي مقولة الطبيعة من العالم المسيحي بأكثر مما استطاع المسلمون إنقاذها لأجل كونهم. ولو كان البروتستانت قادرين علىأن يعملوا مع الكتاب المقدس حصرياً، لربما سار كالفن على خطى الأصوليين المسلمين في إدانة «من يتعلم علم الفلك والفنون المعقدة الأخرى» وذلك باعتباره كافراً ناشئاً؛ لكن البروتستانت بعدما جعلوا كتاب الطبيعة بجانب كتاب إلههم‎، كان على الكافر كمونياً أن يذهب ببساطة إلى «مكان آخر»(36). بالمقابل، فقد كان فرنسيس بيكون دون كتاب الطبيعة سيمتلك تحديداً الجمع بين العلم الواسع والشك بالفلسفة الأرسطوية ليجعل ابن حزمٍ يعزف علىنغمة رذائل التشبيه بتطبيقه على كتاب الله؛ لكنه عوضاً عن ذلك «ذهب إلى مكان آخر» للعزف على نغمة فضائل الاستقراء بتطبيقه على أعمال الله. وفي نهاية المطاف كان على البروتستانت أن يتبنّوا عرضية ثنائية: لقد استطاعوا إزالة شرائع النعمة، لكنهم استطاعوا فقط أن يجعلوا شرائع الطبيعة أكثر عدم قابلية لأن يدرك كنهها. نقول الآن إن تولي التجريبيين البروتستانت للسلطة في عالم تجريبي هو الذي أغلق تحديداً فتحات الشبكة الكونية: لم يعد باستطاعة الحقائق المجردة أن تنزلق عبر الشبكة التي نشرها العقل التأمّلي. من هنا فقد كان على العقل السرّاني والمادة الظاهرية أن يوافقا على العقيدة العلمية ذاتها، وكان على الطبيعة أن تُستَقصى، أو أن تُعَرّض للتعذيب التجريبي، لإجبارها علىتقديم دليل تجريبي في وجه الحس العام(37). وهكذا ففي حين أنتج التقاء الإرثين الهليني والعبراني في الشرق عرضية إسلامية، ولد عنه في الغرب علم أوروبي. ولهذا التقابل الإدراكي مثيله الاجتماعي أيضاً: ففي حين وجدت الأصولية الإسلامية تجسيداً لها في التاجر الفقيه الذي سلّم إرادته لله، المتشكك بالعالم لكنه المتأكد من أن الشريعة تقود إلى الخلاص(38)، فقد قادت العرضية الثنائية البروتستانت في نهاية الأمر إلى مجتمع سُلِّمت إرادة الله فيه إلى الرأسماليين والعلماء الإختباريين. إذا كان الإسلام، بحمد الله، ليس بحاجة إلى أي نوع من المنطق، فأوروبا، بحمد العلم، لم تكن بحاجة إلى أي إله(39). وهكذا فقد حال التاريخ الإسلامي دون شدّ عيون الشبكة والذي اندمجت به المفاهيم السياسية مع الحقائق الاقتصادية لتقديم سياسات حديثة، والمفاهيم السماوية مع الحقائق الأرضية لتقديم علم حديث. لكنه حال بالمقابل دون توسيع تعويضي لعيون الهوية والذي نشدت أوروبا من خلاله الحصول على الراحة من التضييق المزعج لعيون شبكة الحقيقة: لم يستطع الإسلام أن يلد قومية. لم يستطع أن يفعل ذلك لأن الإسلام والقومية يمثلان أشياء مختلفة وحصرية تبادلياً عما يستطيع تقليد أن يعمله مع برابرته. لقد حافظت أوروبا على ثقافتها الكلاسيكية، إلهها اليهودي وغزاتها البرابرة متمايزين مفاهيمياً؛ وكانت بالتالي في موقع يؤهلها لأن تستلهم أسلافها البرابرة من أجل تقديم التكريس التاريخي لوجود تعددية أمم ضمن ملّة تتشارك في حقيقة. أمم بالنسبة لديانتهم اليهودية وأمم بالنسبة لحضارتهم اليونانية الرومانية، كان سكان ألمانيا أحراراً في أن يكونوا ألماناً بالنسبة لأنفسهم(40). وهكذا فقد بدا ملائماً أنه في الحقبة حيث كان الغرب يبحث عن استرداد وضعية ديانته وثقافته الأصلية الأولى شرعت أوروبا شمال الألب في إعادة صقل أنسابها البربرية(41). لكن الإسلام بالمقابل دمج بين غزاته البرابرة وبين ديانته وثقافته على حدٍ سواء(42): فمن ناحية، كرّس أمة واحدة فقط، هي الأمة، ومن ناحية أخرى أعاق التلاعب بالأنساب غير العربية لاستخدامها كألقاب شرعية لهوية متمايزة داخل هذه الأمة. لقد كان عدم تجانس النسل في العالم الإسلامي حقيقياً كفاية؛ لكن لم يبدُ ممكناً تأويل هذه الرذيلة الإسلامية كفضيلة غربية قبل تلقي القومية في أوروبا. وهكذا ففي حين طورت أوروبا قومية علمانية، لم يستطع الإسلام أن يلد غير القومية الدينية للعرب والشعوبية اللادينية للأمم. كان لدى أوروبا بالتالي ثلاثة أصول يمكن أن تعود إليها، في حين لم يكن لدى العالم الإسلامي غير أصل واحد: مقابل الإصلاح الديني، عصر النهضة، والقومية، لا يستطيع الإسلام أن يعرض سوى السلفية، وهي عودة إلى الديانة، الثقافة والإثنية الموحدة للأسلاف الأخيار(43). لقد أدت ردات الفعل التفاعلية للتاريخ الأوروبي إلى خلق حداثة طوقت العالم؛ أما ردة فعل الإسلام التوحيدية فقد أدت إلى خلق وهابية في البرية الواقعة في قلب شبه جزيرة العرب. إن عوز تعددية الأصول، بحد ذاته، ليس حاجزاً بالطبع أمام تنوعية المعاني الثقافية: لاحظ العمق الثقافي للماضي الصيني المعياري، أو المدى الكيفي للتقليد الديني في الهند(44). لكن العرب لم يأخذوا ألوف السنوات لتطوير حضارة خاصة بهم في عزلة نسبية عن بقية العالم؛ والشروط التي مضوا في ظلها نحو العمل كانت تعني أن الحضارة الإسلامية أحرزت في مرحلة متقدمة من تاريخها الطويل تعريفاً ذاتياً شبه محدد، وسلبياً إلى درجة معتبرة. حتى ذلك الحد لم يكن لدى التاريخ الإسلامي غير شيء واحد يقوله، وقد قاله في وقت شبه مبكر من تاريخه. أكثر من ذلك فقد كانت رسالته بطريقة أو بأخرى رسالة منغصة للغاية. فالهاجريون أخطأوا في غزو العالم باسم القيم اليهودية. وبعدما غزوا العالم، لم يعد باستطاعتهم أن يأملوا بأن يُفْدَوا بطريقة اليهود، ولا أن يرفضوا على نحو صريح أن يُفْدَوا بطريقة المسيحيين. ولأنهم غزوا حضارة، فهم لم يستطيعوا تمثّلها بطريقة المسيحيين ولا عزل أنفسهم عنها بطريقة اليهود. لا فداؤهم ولا حضارتهم استطاعا أن يصلا يوماً إلى مرحلة الإثمار. مع ذلك فجاذبية الإسلام، قدرته على حمل القناعة في حيوات أنصاره الذين لا حصر لهم، تبدو حقيقية بقدر ما يمكن أن تبدو محيرة، وذلك وفق معايير المأخوذة بعين الاعتبار حتى الآن. يمكن بالطبع تفسير الجاذبية إلى حد ما. ففي الموضع الأول، إن مركز الجاذبية في تركيب غير مريح يستوجب الى حد كبير أن يفسّر بلغة إحدى القوى المفتاحية التي جاءت به إلى الوجود، أي قوة الغزو. في البداية المسألة واضحة، أما فيما بعد فإن كماً ضخماً مما يُعرف الآن بالعالم الإسلامي جُلب إلى الإسلام عبر الغزو أيضاً. لكن الأمر كان سيبدو ساذجاً لو حاولنا تفسير الجاذبية المتواصلة للإسلام كديانة عالمية فقط عبر الحقيقة القائلة، إنه ما أن انطلق، حتى كان من الصعب إيقافه. وفي الموضع الثاني،لا يهم تاريخياً أن الإسلام احتفظ بنوع من الفرار من انزعاجاته الخاصة. والخلاص الذي أجهض في الإسلام الأرثوذكسي ما يزال ممكناً متابعته في مهدية الشيعة والريف؛ والحضارة التي قمعها الإسلام الأرثوكسي ما يزال ممكناً تثقيفها في وسط الشيعة والصوفية الأكثر تسامحاً ثقافياً. وفي الوقت ذاته فإن الشخصية الدينية لشكل الحكم الإسلامي، الممثّلة على نحو سيء في الوقائع المبهرجة دون ذوق للحكومة الإسلامية، احتفظت بحيوية متواترة في المواجهة العنيفة للإسلام مع الفكر. لكننا نعيد من جديد، إن وجود طرق نجاة من قمعية التقليد الإسلامي لا تكفي لأن تعتبر سبباً لجاذبيته المتواصلة. لابد أن موضع هذه الجاذبية يكمن إلى حد ما في مساحة اجتنبت حتى الآن شؤون هذا الكتاب وشجونه: عالم البشر وسط عوائلهم. وهذا العالم بالطبع هو إحدى سمات الحياة البشرية والتي يجب على كل ديانة، باستثناء ديانة الإنكار الكلي للذات، أن تفهمها؛ والمسيحية واليهودية لا تشكلان استثنائين. مع ذلك فالمعنى الذي تستطيعان بثه في هذا المجال هو معنى نسبي إلى حد كبير عند الطرفين. ففي المسيحية، الحاضر الأسروي مفرغ من المعنى الديني عبر الأمل بالخلاص المستقبلي، وإنتشارية الإثم التي تعطي لذلك الخلاص صفته المتقلقلة القلقة تجعل كل الحياة الأسروية متفسخة على نحو جذري وحتمي. إن من مميزات المسيحية هي إقامتها لأعرافها الدينية على فرضية فساد الزواج. وضوح هذه النتائج في اليهودية أقل بكثير، ومع ذلك يمكن اكتشافها: فمن ناحية يأخذ المعنى الديني للحاضر الأسروي طابعاً نسبياً عبر الأمل بفداء قومي في المستقبل، ومن ناحية أخرى تتقوض أسسه عبر قساوة شرع لا يمكن تطبيقه على نحو كامل في الحياة العادية. وإذا كان القدر التقليدي المناسب للفتاة المسيحية هو الرهبنة النسائية، فإن القدر الحديث المناسب للفتاة اليهودي هو الجيش الإسرائيلي. وفي المسيحية واليهودية على حد سواء تبدو وسيلة النعمة غير أكيدة أو كثيرة المطالب للغاية، والأمل بالمجد حيوياً جداً، بحيث يبدو من غير الممكن بالنسبة لحياة أسروية أن تشكّل مجالاً مقدساً مطلقاً في هذا العالم. المسلمون بالمقابل لا يمتلكون الأمل اليهودي بفداء في هذا العالم ولا القلق المسيحي حول آمال الخلاص في العالم الآتي، ونير شرعهم هو نير يستطيع البشر، على مستوى العائلة، تحمّله فعلاً(45). لكن في حين يعيش اليهود حياة اللاجئين الذين لا كرامة لهم بانتظار إعادتهم إلى موطنهم الأصلي، وينشغل المسيحيون في تهافتهم غير اللائق بكرامتهم على الخلاص، يستطيع الإسلام على الأقل أن يتيح للمسلمين هدوءاً راضياً وكريماً وسط عوائلهم. لم يكن ابن حنبل ليتسلق شجرة نخيل خلف فتاة جميلة بطريقة الحاخام عقيبا؛ لكن كليهما لم يكن يحتاج ليتسلق عموداً بحثا عن الله بطريقة القديس سمعان العمودي. لقد كانت الذخيرة الشعورية الناتجة عن الثقافة الإسلامية ذخيرة غير رومانطيقية حتماً. لا يوجد في الإسلام موازيات للقوى الشعورية الكامنة والتي جعلت من الممكن أن يوجد في الماركسية علمنة ليهودية مسيانية وفي الفرويدية علمنة لبروتستانتية مسيحية؛ والوجه الآخر الوحيد لجاذبية المسلمين هو قهقهة نسائهم. لكن التعويض واقعي جداً، ولديه معنى لأجل الحيوات اليومية للناس العاديين. لقد انهارت المنظومة العامة للمجتمع الإسلامي منذ زمن طويل؛ لكن تولي الإماء لمسؤولية الحياة العائلية لم يكن بأي شكل بعيد الأثر كتولي المملوكين لمسؤولية الحياة العامة. وهكذا فالقداسة التي هربت من الحقل العام وجدت الأمان في ملجئها الخاص: المسجد الإسلامي يشير عبر الصحراء إلى مكة، لكن البيت الإسلامي يحتوي قبلته داخله. وقد تكون آخر بقية من الغزوات الإسلامية أن المسلمين يستطيعون أن يشعروا بالراحة في بيوتهم.


الفهرس

مدخل 9 القسم الأول: الإسلام من أين 13 1 - الهاجرية اليهودية 15 2 - الهاجرية دون يهودية 35 3 - النبي مثل موسى 49 4 - النسخ السامرية 59 5 - بابل 79 ملحق: القيني؛ السبب والعرف 91 القسم الثاني: الأنتيك ما مصيره؟ 97 6 - الحضارات الإمبريالية 99 7 - أقاليم الشرق الأدنى 109 القسم الثالث: الإصطدام 159 8 - الشروط المسبقة لتشكيل الحضارة الإسلامية 161 9 - قدر الأنتيك I - هوجرة الهلال الخصيب 175 10 - قدر الأنتيك II - المصادر الثقافية للهلال الخصيب 195 11 - قدر الأنتيك III - تصلب الحضارة الإسلامية 219 12 - قدر الهاجرية 265 13 - الإسلام الصدوقي 257 14 - قسوة التاريخ الإسلامي 273