النهضة القومية – الثقافية العربية

من معرفة المصادر

النهضة القومية – الثقافية العربية، ترجمة: د. بوغوص سراجيان، تأليف: د. يغيا نجاريان، دار النشر: دار نشر أكاديمية العلوم، دمشق، سوريا. سنة النشر: 2005


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المقدمة

الفصل الأول: التغيرات الاجتماعية والثقافية في مصر أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر

1- حول خصائص العملية التاريخية في سورية ومصر

من الحقائق المسلم بها في تاريخ الاستشراق السوفيتي أن حضارة الشعوب الشرقية ولاسيما العربية – الاسلامية كانت أعظم شأنا وأسمى مكانة مما كانت عليه الحضارة الغربية في القرون الوسطى. ومن أن الحضارة العربية كغيرها من الحضارات الشرقية كالصينية والايرانية والأرمنية، عاشت فترات ازدهار ورقي لم تر الحضارة الاوروبية نظيرا لها.

ولكن، ما ان هل عام 923 للهجرة حتى "اختفى العلم من صدور الناس" على حد قول المفكر المصري عبد الوهاب الشعراني الذي عاش في القرن السادس عشر للميلاد (116، 23). والعام 923 للهجرة يوافق 1517 للميلاد، أي العام الذي استولى فيه السلطان العثماني سليم الأول على البلاد العربية في الشرق الأوسط.

ومن البديهي أيضا أن "اختفاء العلم من الصدور" وشلل الحياة الفكرية – الثقافية العربية كانا نتيجة طبيعية للأوضاع المأساوية التي شملت المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فقد أشار الكاتب التركي كوج بك (القرن 17) الى ذلك بقوله : "ان الظلم الذي تعانيه الرعية البائسة لم نر له نظيرا في أي زمان ومكان، ولا في أي بلد من البلدن على وجه المعمورة". ثم أردف بقوله : "ان الأقاطر التي تشكل جزءا من دول الاسلام ليست سوى كيانات اسمية تافهة، مثلها مثل الجسد بلا روح" (116، 31). وقد اعتبر الشعراني من واجبه تأكيد "ان العثمانيين جلبوا أعظم الشرور، واستأصلوا الخير والسرور من الصدور" و"ان الانسان السعيد هو من لا يملك شروى نقير في ظل سيادة الحكام الأترالك الجشعين المستبدين " (116، 35).

ومع مطلع القرن التاسع عشر بزغ فجر النهضة في الأقاليم العربية الشرق- أوسطية، التي عاشت فترة احتضار ثقافي –سياسي استمر أكثر من ثلاثمائة عام من سيطرة السلاطين الأتراك الظالمين، أجل لقد أزفت الساعة.

ترى هل تواقتت هاتيك الساعة مع النهضة الاوروبية وازدهرت في النصف الثاني من القرن الخامس عشر تدريجيا في ايطاليا وفرنسا واسبانية وانكلترة وألمانية وغيرها) التي فرضت على رجالات النهضة العرب مهمة النظر اليها نظرة المثال الذي يحتذب بغض الطرف عن الحقيقة التاريخية القائلة بأسبقية الشعوب الشرقية في ميدان الحضارة التي عاشتها ابان القرون (8-12)؟

للاجابة عن هذا السؤال تجدر العودة الى أحد الموضوعات الواردة في مقدمة "البيان الشيوعي" الصادر بالألمانية سنة 1883، وهي باعتراف إنجلز من كلام كارل ماركس: "يشكل الانتاج الاقتصادي والبنى الاجتماعية الناجمة عن القاعدة الاساسية للتاريخ السياسي والثقافي عبر العصور "(1، 10). وقد صاغ إنجلز هذه الموضوعة في الطبقة الإنكليزية عام 1888 على الشكل الآتي: "في كل مرحلة من مراحل التاريخ يشكل أسلوب الانتاج وعملية التبادل السائدة التركيبة الاجتماعية الملائمة له بالضرورة، والتي تمثل القاعدة الأساسية لارساء أسس التاريخ السياسي والتطور الثقافي الذي يمكننا من تفسير مجرى احداث التاريخ" (1، 16). تقودنا هذه المقولة الموضوعية للاستخلاص أن المقدمات الاقتصادية الاجتماعية التي شكلت الحافز الأساسي لنشاط رواد النهضة، والضمانة الأساسية لنجاحهم، فقد سعى الرواد العرب الى احياء تراثهم الثقافي الشرق أوسطي من مواقع اهتماماتهم الذاتية وبدفع من الظروف الموضوعية السائدة في المجتمع. فركزا جل اهتمامهم في اتجاهين رئيسيين: الحركة النهضوية والحركة النويرية (تداخلا فيما بينهما تداخلا وثيقا وتمم أحدهما الآخر) الأوروبيتين اللتين ظهرتا في أزمنة مختلفة ونتيجة لتباين الهياكل الاجتماعية – الاقتصادية. ومن هذا المنطلق وجب على النهضويين العرب أن يأخذوا بالحسبان الظرف التالي: في بداية القرن التاسع عشر كانت القاعدة الاقتصادية – الاجتماعية (ظهور مقدمات أساسية لتطور العلاقات الرأسمالية في احشاء النظام الاقطاعي، وبروز برجوازية مدينية صغيرة في عدد قليل من المدن الكبيرة ) في بعض الاقطار العربية، ولاسيما مصر وسورية، أكثر تجانسا مع حركة النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، وأشد تشابها مع الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السائدة فيها. وعلى الضد من ذلك في مجال التنوير، وبكلام آخر: كان التنوير العربي أدنى مستوى بكثير مما كان عليه التنوير الأوروبي في نهاية القرن السابع عشر وذلك بفعل الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية والظروف الموضوعية المواتية (نضوج العلاقات الراسمالية وتصاعد دور البرجوازية). وهذا يعني أيضا أن رجالات النهضة العربية – بحكم خلفية تطور أفكارهم الاجتماعية والمجتمعية والثقافية – العقلانية – كانوا قادرين على التوفيق بين التراث العربي والنهضة الأوروبية ولاسيما ان هناك قواسم مشتركة بينهما.

وبهذا المعنى نجد أنفسنا في موقف المعارض من أولئك المستعمرين السوفيين الذين مزجوا مزجا ساذجا مبسطا بين مصطلحي "النهضة العربية" و"الرينسانس" أو "النهضة الاوروبية" و"عصر النهضة". ومن أولئك المستعمرين الأوائل الذين طابقوا بحدة بين مفهومي "النهضة" و"الرينسانس" دون ابداء أي ابداع في النظر العقلاني للمسألة موضع البحث. وأكثر من ذلك فهم أوصدوا كل الأبواب أمام أية محاولة هادفة للكشف عن نقاط الالتقاء والتقاطع. وتباين الخطوط والألوان المشتركة التي ربطت بين النهضتين العربية والأوروبية . ونحن اذ نرفض بقوة معالجة المسألة بهذه الحدة والتطرف، نبرر ذلك الرفض انطلاقا من الاعتبار التالي : ففي ظروف الجدل والنقاش حول مزايا الأدب القومي في العصر التنويري، انتقلت هذه الحمى الى صفوف المستشرقين السوفيين الذين عارضوا من حيث الجوهر المحاولات الرامية لاثبان ان الحركة التعليمية كانت الحد الأقصى في مجرىة عملية النضة العربية، فمالوا الى فكرة التماثل والتطابق بين "النهضة" و"التنوير" دون أن يتكروا أي مجال للمقارنة والمفاضلة بينهما . والنظر الى النهضة عامة ولاسيما في مرحلة تطورها الأولى ، كحركة تنويرية ينطوي على تطرف في الرأي ومبالغات لا نقبل بها أبدا.

ولكي نكون أكثر وضوحا نقول: ان سيرورة النهضة العربية باتجاه التنوير العربي حركة مستمرة استغرقت زهاء نصف قرن من الزمان، وارتقت في معارج النهضة الاوروبية.

من الأهمية بمكان أن نطالع سويا المواصفات التي اعطاها كلاسيكيو الماركسية لمضمون النهضة الاوروبية، ولنر مدى وأبعاد تشابهها أو تماثلها مع النهضة العربية. لقد أبدع انجلز في وصفه لمحتوى "عصر النهضة" في كتابه "ديالكتيك الطبيعة" فقال:

1- بادي بدء ينزع فجر "التاريخ الحديث.

2- "اعتمد الحكم الملكي على أهل المدن، فكبح جماح الطبقة الاقطاعية – الارستقراطية، وأقام حكما ملكية دستوريا ذا مضمون قومي. نشأت وتطورت فيه الأمم الأوروبية الحالية والمجتمع البرجوازي المعاضر".

3- "وبينما كان الصراع مستمرا بين البرجوازية المدينية والارستقراطية الريفية رسمت الحرب الفلاحية في ألمانيا معالم المعارك الطبقية المستقبلية، التي خاض غمارها مع الفلاحين المتمردين (وهذه ظاهرة عادية) أسلاف البروليتاريا الحالية رافعين الرايات الحمراء بأيديهم، ومنادين بأعلى صوتهم بتعميم الملكية".

4- "في المخطوطات التي حفظت من الضياع ابان سقوط الامبراطورية البيزنطية، وفي الآثار الحضارية التي كشفت عنها الحفريات تحت أنقاض رومة، انتصب عالم جديد أمام الغرب، عالم الحضارة اليونانية الرومانية الذي تضائل نوره وضياؤه بأشباح القرون الوسطى الدامسة الظلام".

5- "بدأ ازدهار الفن في ايطالية ازدهارا لا مثيل له شكل ظلا للحضارة اليونانية-الرومانية القديمة. وبات اللحاق به من رابع المستحيلات . وتكون الأدب القومي الحديث في ايطالية وفرنسة وألمانية، وبعد وقت قصير ولجت إنكلترة وإسبانية عصر الأدب الكلاسيكي".

6- "وخلافا لتنبؤات الحكماء القدماء في الطبيعيات والفلسفة، واختراعات العرب الهامة جدا والتي جاءت وليدة المصادفات فاختفى معظمها دون أن يترك أثارا تذكر، انبثق علم الطبيعة المعاصر".

7- "تلاشت تصوراتنا القديمة عن دوران الأرض والحقيقة التي لا مراء فيها ان اكتشاف الأرض قد حدث توا. وفي وقت متأخر وضعت أسس الانتقال الى التجارة العالمية. والتحول من الصناعات اليدوية الى المانوفاكتورة (الميكانيكة)، التي شكلت نقطة انطلاق الصناعات الكبيرة".

8- "تقوضت دكتاتورية الكنيسة الروحية فتخلصت من ريقتها معظم الشعوب الجرمانية عن طريق اعتناق المذهب البروتستانتي، وتأصل بين الشعوب الرومانية الفكر الحر الذي انتقل اليها بواسطة العرب الذين نهلوا من منابع الفلسفة اليونانية القديمة والذي مهد لظهور المادية في القرن الثامن عشر".

تلكم هي الخطوط العريضة التي وضعها انجلز "لأعظم الانقلابات التقدمية التي مرت بها الانسانية حتى ذلك التاريخ (ن، ج3 – 44-45، انظر ايضا: 2، ص 122-123).

ان البحث عن انعكاسات الخطوط المميزة للنهضة الاوروبية (الرينسانس) في قسمات النهضة العربية، وبمعزل عن درجة التقارب ، يبدو بالطبع سذاجة أقرب الى التجني على حقائق التاريخ ، ولا غرو في ذلك فالسمات المميزة للرينسانس تباينت واختلفت كثيرا حتى بين البلدان الأوروبية التي عايشت عصر النهضة. ومهما يكن من أمر، فان مفاضلة بين النهضتين العربية والأوروبية تتيح لنا الاطلاع على مدى درجة التشابه والتنافر والتماثل والتغاير بينهما، وتقييم الدور العظيم الذي اضطلع به الرواد النهضويون العرب، فضلا عن ابراز الطابع العلماني الذي تميزت به مرحلة التنوير. وسنحاول هنا اسقاط بعض المزايا والخصائص التي تفردت بها النهضة الأوروبية. والتي تذكرنا – كما افترض – الى حد قريب أو بعيد بالأوضاع السائدة في بلدان المشرق العربي ، وبأطر العمل النهضوي التنويري:

1- مثلت النهضة (في القرن التاسع عشر) بداية التاريخ الحديث بشكلة ومضمونه، اذ لم يتسع المحتوى التاريخي للقرنين 17 و18 بأية ظاهرة من الظواهر التي انفرد بها العصر الوسيط.

2- كانت النهضة مرهونة بعهد الأمير بشير الثاني في جبل لبنان والمناطق المتاخمة له، وبحكم محمد علي في مصر، اللذين تمكنا (بدعم من الفصائل الشعبية المتطوعة في الحالة الأولى، وتأييد الجماهير الشعبية في الحالة الثانية) من توجيه ضربة قاصمة لسيطرة الطبقة الاقطاعية – الارستقراطية التقليدية الممثلة بالأمراء المقاطعجيين وكبار المشايخ والبكوات والملتزمين. ضربة اسفرت عن قيام دولة الامارة المركزية في لبنان ونيابة ملكية مستقلة في مصر. تلكم هي الوقائع والأحداث التاريخية التي مهدت تدريجيا لتقويض التصور العربي القديم عن دوران الأرض، وظهور المقدمات الضرورية لنشوء العلاقات الرأسمالية وصيرورة المجتمع البرجوازي، الأمر الذي أفسح المجال لتكون الأمة اللبنانية (السورية) والأمة المصرية.

3- أدت النهضة الى احتدام التناقضات الاجتماعية (ولاسيما في لبنان) التي تتوجت بانتفاضة أهل المدن في مطلع القرن التاسع عشر، وبالصراع الذي اشتد أواره بين البرجوازية الناشئة والطبقة الاقطاعية – الارستقراطية، والنضالات التي قام بها سكان المدن والأرياف من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية والاجتماعية الاقتصادية. كما تميزت هذه المرحلة بتصاعد المزاج الثوري المعادي للاستبداد المتجسد في الحكم التركي المقيت، وللاستعمار عموما.

4، 5 – اكتشف رواد النهضة تراثهم بأشكاله ومضامينه، صور أمجاد الجاهلية التي كانت عونا لهم في "طرد أشباح القرون الوسطى الحالكة الى أبد الآبدين". واعادة أمجاد العرب التليدة في الميادين السياسية والاقتصادية والحضارية عن طريق نبذ الفرقة الدينية – المذهبية والانقسامات الاقليمية في سبيل الوصول الى التضامن القومي وتحديث التعليم وتجديد آداب اللغة العربية. وهكذا شكلت النضة بداية الأدب الغربي الحديث.

6- لم تقتصر الحركة النهضوية على الاستيعات للمعارف، والعلوم الأوروبية، بل تعداه الى الربط تدريجيا بين الفكر العربي والعلوم الطبيعية، والى تسرب الفكر العلمي الأوروبي الى المحيط العربي.

7 – ساهمت النضة اسهاما فعالا ومباشرا في عملية اكتشاف العرب للعالم غير الرأسمالي التجاري – الربوي، واضطرد نمو عناصر البرجوازية الوطنية والكومبرادورية. وتشكلت تدريجيا الأسواق المحلية – الوطنية التي انجرت أيضا الى الأسواق التجارية العالمية.

9- واذا لم ينجح النهضويون بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة – في زعزعة اركان الهيمنة الدينية الشاملة، فانهم ساهموا على أقل تقدير في تداعي هيبة المراكز الدينية صاحبة الحول والطول كالأزهر في مصر ودير قنوبين مقر البطريرك الماروني في جبل لبنان وسائر البطريركيات والابرشيات والأديرة المتباينة في مذاهبها معتقداتها في بيروت. واعدت النهضة تربة صالحة لظهور المذاهب الدينية الجديدة ( البروتستانتية مثلا) ، لا بل والمذاهب المادية بعيد وقت قصير، وفي الوسط الاسلامي انتقلت حركة الاصلاح الاسلامي التي جاءت ردة فعل للاتجاه العلماني في النهضة.

وقد رأينا أن محصلة العناصر المكونة للنهضة الاوروبية وحدت انعكاسات مشابهة لها في محصلة العناصر المكونة والاستنتاج المنطقي – كما فعل العديد من المستعربين – مرفوضة من أساسها. فالدراسة المعمقة المسترشدة بالنهج العلمي الماركسي، والمنطلقة من موقع توثيق المادة التارخيية المتوفرة من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية في مصر وسورية، ستقودنا الى استنباط المبادئ الاصيلة التي تساعدنا على صعيد نقض بعض المفاهيم التي تتعارض ومنهجية المادية العلمية. أمثال الأحكام الاطلاقية التالية: "ان ما يسمى اصطلاحا بالنهضة العربية غير متجانس اطلاقا مع تعبير النهضة الأوروبية" (103، 4) أو "لا وجود لأي أساس للمقارنة والمفاضلة بين النهضتين، (119، 30-31).

من الحقائق التي لا يرقى اليها الشك أنه اذا كانت هناك خطوط عامة وقواسم مشتركة بين عصري النهضة والتنوير في أوروبة، ولاسيما الترابط على الأراضي الاقتصادية الاجتماعية في المقام الأول، فإن التعامل الأخير يفرض بالضرورة وجود خطوط انفصال مميزة بين النهضويين والمنورين أنفسهم، ولا سيما التمايز في مواقفهم من قضايات الثورة المناهضة للاقطاعية، والحقوق المدنية والانتماء القومي وغيرها. وهذا التمايز قياسي بالنسبة لذلك التباين الذي يوجد بين العصرين، ويجمع بين الحافز الاجتماعي الاقتصادي المشترك بينهما، وبمعنى آخر ذلك التمايز الذي عاشته التشكيلة الرأسمالية ابان صيرورتها في ذينيك العصرين، وهذا أمر لا مناص منه، فمسيرة التطور التدريجي في عصر الرينسانس الى عصر التنوير لم تكن في خط صاعد دائما، بل سجلت فترة تقطع تدرجي استغرقت زهاء القرنين، في الوقت الذي حملت فيه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية (الرأسمالية) سائرة في طريق تطورها الطبيعي.

وعليه، فان مقارنة متأنية للسمات الخاصة التي أشار اليها انجلز في وصفه للرينسانس وبين الاسقاطات التي أنزلتها على النهضة العربية توصلنا طبعا الى تناقش ظاهري فحواه: التدني النسبي في درجة نضوج قسمات النهوض العربية، فالتخلف الظاهر في عصر النهضة الأوروبية بالقياس الى عصر التنوير على صعيد الظواهر الاجتماعية المجتعمية. وجدنا له تفسيرا في عملية التقطع التدريجي التي استغرقت قرنين من الزمان، بمعنى انه لم يكن في عملية قطعا مطلقا، بل تقطع استمراريا للتطور والتقدم الاقتصادي – الاجتماعي، ولكن، كيف نفسر تدني درجة مستوى الظواهر الأساسية في النهضة العربية بالقياس الى مثيلاتها في النهضة الأوروبية التي كانت النموذج الأرفع للكمال؟ ترى هل كانت الأقاليم العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر اشد تأخرا في مستوى تطورها الاقتصادي الاجتماعي من الذي كانت عليه اوروبة في عصر النهضة قبل أربعة قرون؟ هذا صحيح جزئيا بالطبع، ولكن تفسيرا كهذا يظل مبتسرا أو قاصرا، فالحقيقة التي لا شك فيها أن النهضويين العرب مهما بذلوا من جهود ذاتية جبارة في طرح أفكارهم ومشاريعهم الرامية الى بناء نهضة العرب، فظاهرة النهضة التي وجدت بفعل نشاطهم الحيوي والحماسي ما كان بالامكان موضوعيا ان تجئ نسخة طبق الأصل للرينسانس الأوربية. بل بقيت في حدود ظاهرة محلية عربية، تظل مهما تطورت وارتقت الى درجة الرينسانس موسومة بالميسم العربي النهضوي المميز والخاص. وأنه مهما امتلكت من أسباب التشابه أو التماثل المتباين في درجة عمقها وجوهر محتواها، تظل قياسا الى الرينساس الأوروبية ذات طابع خاص وسمات مميزة. ونعوت وصفات خاصة بها وحدها.

فالبيئة الجغرافية والمناخ، والعلاقات القبلية "العشائرية" وتراث الماضي، والنظم السياسية والبنى الاجتماعية، والهيكلية الدينية – الروحية وغيرها من العوامل الجدية والمؤثرات القوية التي تركت بصماتها على التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية المهيمنة ، ونعنى بها المجتمع الاقطاعي العربي بكل خصوصياته السلبية والايجابية، التي جعلته يختلف اختلافا جوهريا عن المجتمع الاقطاعي الاوروبي. ومن هذا المنظور فان الرينسانس رغم كونها "مثال الكمال" بالنسبة لرواد النهضة الأوائل بأغلبيتهم المسيحية، لم يكن بالمستطاع نسخها نسخا تاما، وتعميم نموذجها على المستوى العربي العام، بل وجب تجسيدها في بيئتها المسيحية الأولى بوصفها نهضة ذات صفات وخصائص محلية.

ويجب ألا يغرب عن بالنا ان اعلان النهضة بذلوا قصارى مساعيهم، وفي وقت قصير نسبيا لاجراء انقلاب فكري في الواقع العربي، معتمدين على منظمة من الأفكار الاجتماعية السياسية للنهضة الاوروبية من جهة، وعلى التراث الثقافي العربي من جهة ثانية. فاختاروا بوعي وأعادوا على نحو خلاق صياغة الأفكار والنظريات والمعايير التي كانت تلبي أكمل من غيرها متطلبات المجتمع العربي وتوافق حاله. وكان النشاط العلمي التنويري الذي بذله الرواد العرب الأوائل في ميدان التعليم والتدريس وتنوير الأذهان من الضوررات الملحة التي فرت نفسها في الحياة اليومية. ومما لا ريب فيه أن ميدان التعليم اتسم بطابعه العربي الخاص المميز أيضا. وذلك بتأثير من العوامل التي ذكرناها سابقا، والتي ارتبطت ارتباطا عضويا بنضالات الرواد الرامية الى عصرنة وعلمنة الفكر العربي وتطعيمه بعناصر تنويرية بداية، مما أدى في الفترة موضع البحث الى تحول الحركة النهضوية الى حركة تنويرية عربية.

ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي ظروف اضطراد نمو ونضوج العلاقات الرأسمالية الجنينية. عجزت حركة التنوير العربي – على الاقل حتى التسعينيات وعلى الرغم من المهام النهضوية العديدية التي طرحتها – عن الوقوف على أرضية ناضجة لجذورها الاجتماعية الخاصة، وتغذت بجذور الفكر الاجتماعي الغربي، محافظة بذلك على طابع النهضة الأوروبية المميز. ولهذا السبب بالذات، وانطلاقا من ديناميكية التطور، لا وبل الارتقاء التدريجية للنهضة، لا نرى من المناسب اطلاقا تقييم المحرلة الأولى من النهضة بوصفها مرحلة "عصر نهضة" أو "عصر تنوير" بل عصر اليقظة الثقافية القومية العربية.

وما دامت الحركة التنويرية مثلت دور الرافعة القوية بالنسبة لبعض الرواد الطليعيين في المرحلة الأولى التي سميناها "اليقظة الثقافية القومية" وذلك من خلال المهام المفروضة عليهم، وفي مقدمتها التغلب على افكار شريحة اجتماعية سياسية من شرائح المجتمع القائمة آنذاك، فاننا لا نتردد اطلاقا في تسمية هؤلاء الرواد بالمنورين العرب. وهي باعتقادنا التسمية الأفضل والأكمل اذا اخذنا في الحسبان الوسط الاجتماعي والوضع الاقتصادي السياسي السائدين في لبنان (والأرجح بيروت) مهد التنوير العربي، وبالتالي الهوية الاجتماعية لأوائل المنورين العرب، والمشاريع الثقافية المطروحة وأبعاد واتجاهات الأنشطة والممارسات العملية التي اضطلعوا بها في ميدان التنوير العربي.

نود التنبيه الى أننا سنعالج هذه القضية في الفصلين الثاني والثالث بمناسبة الحديث عن المؤسسات النهضوية الأولى في لبنان ولكننا في سياق الكلام عن الواقع المصري، نشدد على أن مصدر التضارب السائد بين العلماء حول أسبقية الحركة التنويرية في بلدي النهضة سورية ومصر أساسا، يجب البحث عنه في الحقيقة البسيطة التالية، وهي أن الرواد السوريين الأوائل كانوا أكثر استيعابا وتشربا لأفكار النهضة والتنوير الأوروبيين. وتحاشيا منا لأية مفاضلة نقول بأن الوصف الذي قدمه أنجلز للمنورين الغربيين ينطبق تماما على المنورين السوريين. كان العصر بأمس الحاجة الى الرجال الأفذاذ "فأوجد عمالقة في الفكر والعلم، والمجد والطموح، وقوة الارادة وسعة الأفق"، فهم الذي "وضعوا أسس سيادة البرجوازية" والذين "يتمنون كل شئ للانسان اللهم ضيق الأفق البرجوازي". "وهم على العكس يتحلون بروح الاقدام وحب المغامرة التي كانت ميزة ذلك العصر". "اذ لم تكن تجد عصرئذ رجلا عظيما واحدا لم يقم بأسفار بعيدة، ولم يتقن أربع أو خمس لغات، ولم يسطع نجمه في شتى ميادين الابداع" (5، ج3، كذلك 2، 123).

والحقيقة التي لا يرقى اليها شك أن عمالقة من هذا النوع (وان كان على المستوى المحلي) قد نزلوا الى ميدان الفكر في بيروت امثال الرواد والأعلام العظام، بطرس البستاني الموسوعي والمعجمي والكاتب الاجتماعي، وكورنيلوس فانديك الهولندي الأصل الطبيب والكيميائي والرياضي والفلكي والجغرافي واللغوي والكاتب والناقد، واسكندر أبكاريوس الأرمني الأصل الشاعر الكاتب الأديب المؤرخ والشخصية الاجتماعية البارزة، كانوا كلهم يتميزون عن رفاقهم في الفكر من حملة الأقلام الذين نزلوا في ميدان القاهرة في آن الأخيرين دون أي استثناء، كانوا ممن استفادوا من أعمال البر والاحسان التي قدمها محمد علي حاكم مصر ابان خطواته الاصلاحية ، ولذا كانوا محرومين من الاقدام على ابداء آرائهم المعارضة فلم يخرجوا عن أطر السياسة الرسمية التي ابتعها الحكم المصري.

أضف الى ذلك ان النهضويين والمنورين اللبنانيين لم يتمتعوا حقا بشهرة عالمية، كدافنشي وميكل أنجلو وديورير، ولكنهم لم يكونوا أقل شهرة منهم على الصعيد العربي، ومما لا ينكر في مطلق الأحوال أنهم كانوا كأقرانهم من رواد عصر النهضة قد وقفوا حياتهم على خدمة ومنفعة العصر، وساهموا اسهاما عظيما في شتى ساحات النضال الذي خاذوا غمار معاركه بالقلم أو السيف أو بالاثنين معا (5، ج3، 45-46، وايضا: 2، 124). ومصداق قولنا الرائد رزق الله حسون الشاعر والمترجم والكاتب الاجتماعي والسياسي العظيم، الحلبي المولد الأرمني الأصل، الذي ناضل ببسالة لا مثيل لها ضد الحكم التركي ، وشن حربا لا هوادة فيها ضد أفكار الجامعة الاسلامية والعصبية العثمانية، فاستحق غضب السلطان التركي الذي رماه في غياهب السجن بالاستانة دون أن تلين له قناة. والذي انقطع حبل حياته بعد أن دس العملاء الأتراك السم في طعامه بلندن، وعلى هذا المنوال سار واحد من أبرز أعلام النهضة العربية أديب اسحاق الأرمني الدمشق، الأديب اللامع والشاعر البليغ والمسرحي الرائد والمترجم البارع والمخرج والممثل والفنان والكاتب الاجتماعي والصحافي الاصيل، الذي ناضل ببراعة في ميادين الفكر وبسلاحه في ساحات الكفاح ضد الاستعمار الانكليزي في الديار المصرية. والذي عوقب بالطرد والنفي من أرض الكنانة، وظل هائما على وجهه في المهاجر والمحاجر حتى اشتد عليه داء الصدر في باريس فعاد الى الوطن بعد أن ضاقت به سعة العمر فوافته المنية في ريعان الصبا. وهكذا كان الأمر مع لويس صابونجي السرياني الاصل ، المؤرخ والمحامي والرسام والفيلسوف والمترجم، اللاهوتي الكاثوليكي الذي حارب طغيان الكنيسة المارونية الكاثوليكية فحكمت عليه بالموت. كان سياسيا برازا ومقداما على المغامرة ومخترعا ورحالة طاف حول العالم فاستغرقت رحلته سنين. ان أشباه هؤلاء الرجال والرواد العظام قلة قليلة في الواقع المصري لم يظهروا على الساحة حتى السبعينيات.

قلنا سابقا أنه لا يجوز النظر الى النهضة بوصفها عملية مستمرة متكاملة ومتزامنة بالنسبة لجميع البلاد العربية، لا بل وحتى في مركزيها الأساسيين: سورية ومصر، من حيث درجة التطور والنضوج. ويجب ألا يغرب عن بالنا الحقائق التاريخية التالية: في ظروف الدولة العثمانية، التي حافظت على تأخرها الرهيب طوال الأزمنة الحديثة من تاريخها وأوضاع التبعية شبه الاستعمارية ، تميزت عملية تشكل المجتمع الرأسمالي والمعايير الحقوقية والظواهر الثقافية المميزة له بالتباطؤ الشديد، فضلا عن التعايش والتناحر الطويلين القديم والجديد، ان على صعيد البناء التحتي أو البناء الفوقي (105، 3).

هذا الظاهرة الفريدة، رغم تباينها في الأشكال والألوان، تنسحب بالطبع على البلاد العربية التي شكلت يومئذ جزءا من الامبراطورية العثمانية، ولكن مصر ، وكذا سورية (على الأصح القطر اللبناني) شهدتا تحولات أكثر سرعة نسبيا، قامت على قاعدة الانفصال عن البنية التحتية العثمانية، وأدت بالتالي الى التسرب السريع للمعايير البرجوازية داخل الحياة الاجتماعية السياسية الثقافية، وهي لعمري ظاهرة لافتة للنظر بحد ذاتها تستحق تحليلا علميا تاريخا.

ولكن ثمة أمر خطير يشد انتباه المؤرخ اليه. حقا ان تطور الحياة الثقافية الروحية كان أسرع قليلا من التطور العثماني العام، لكنه عجز في حقيقة الأمر عن أن يتماشى حتى مع التغييرات الاجتماعية الاقتصادية المتواضعة التي حدثت في البلاد. وعلى النقيض من ذلك كان التقدم الفوقي قد بز التطور القائم في البناء التحتي على الأرض اللبنانية، ولاسيما في بيروت (أسرع من مصر) ، وعلى الأرجح سجل طفرة بالقياس الى ظروف التطور الطبيعي العام، لا بل وقفزة على صعيد بعض الأوساط (المسيحية) في المجتمع اللبناني المتعدد الطوائف. وهذا واحد من الأسباب الرئيسية الى حد ما في أن عملية برجزة المجتمع الأوروبي تمثلت في خطوتين نهضة، تنوير. بينما تجسدت في الشرق وبيروت خاصة بخطوة واحدة (نهضة –يقظة). وبمعنى آخر، فالنهضة بوصفها سيرورة يقظة قومية ثقافية ما كان بامكانها ان تجد مسقرا أفضل لها من مدينة بيروت، المدينة العربية التي تفردت عصرئذ بازدهار البرجوازية فيها.

ولا يغيب عن بالنا أن نشر المعارف والعلوم بين أبناء الشعب بما يمتاشى مع روح العصر ومتطلباته، ومهام طرح مشروع نهضوي يكفل التقدم الفكري الثقافي للجماعير، تطلب من المنورين العرب جهودا جبارة لاستيعاب التراث والقيم الحضارية العربية، فضلا عن تفهم عناصر الثقافة والحضارة الأوربيتين ومقوماتهما، وابداء الاهتمام الكامل بمنجزات الفكر العلمي التقني الأوروبي، ونقل المعايير والقيم البرجوازية في الحياة الاجتماعية السياسية الأوروبية وتكييف ذلك مع ظروف الواقع العربي.

وقد اختلفت الجهود المبذولة والدؤوبة في هذا المضمار بين بلد وآخر، لا بل وحتى داخل البلد أو المجتمع الواحد. وذلك بسبب التباين في مستويات التطور الاجتماعي والسياسي، والتفاوت الظاهر في درجة حدة محاولات التغلغل الاستعماري للدول الكبرى، أضف الى ذلك النفوذ الديني القوي والحاسم الذي كان يكرس الانشقاق والتفرقة بين أبناء الطوائف المختلفة ، لا بل أبناء الطائفة الواحدة، ولاسيما بين رجال الدين المسلمين المتعصبين الذين لم يكونوا يتصورون امكانية تطور الثقافة والحضارة العربيتين والنهضة القومية الثقافية بمعزل عن اليقنيات الاسلامية والمعتقدات الجامدة. فكانوا ينظرون الى مقومات الحضارة الأوروبية بأسلوب النظرات المسبقة، والنزعات السلفية المحدودة الأفق باعتبار المسيحية كفرا وجحودا لا غير. (104، 22)، وبالتالي فهي اما أن تكون مرفوضة جملة وتفصيلا، واما يجب اتخاذ جانب اليقظة والحذر منها. بينما كان الموقف مغايرا تماما لدى رواد النهضة المسيحية الذين نظروا الى الحضارة العربية نظرة مجردة بصرف النظر عن العقيدة الاسلامية ، وأثبوا بجدارة أن العرب المسيحيين ايضا يمكنهم القيام بمساهمة هامة في بناء صرح الثقافة العربية على اساس تراث مشترك. فعدوا الحضارة الأوروبية حضارة "مسيحية" ونظروا اليها بمنظار بعيد عن التعصب والتحيز، وعدوها عزيزة على قلوبهم كالحضارة العربية تماما، وهذا يعني أن الثقافة العربية المشرقية أي النهضة كانت في حركة تفاعل مع المدنية والحضارة الأوروبية، وانه ما كان بمقدورها بادئ ذي بدئ أن تنشأ وترتقي وتتطور الا في الوسط العربي المسيحية.

وهنا، لابد من طرح السؤال التالي: كيف نسمى ظاهرة المثاقفة هذه، وما هو مدى التأثير الذي تركته هذه الظاهرة على الثقافة العربية؟

لقد أطلق المستعربون السوفيين مصطلح "الأوربة" للاشارة الى ظاهرة انتعاش العلاقات البرجوازية الجنينية في الحياة الاجتماعية وظهور أسلوب الانتاج الرأسمالي واجراء الاصلاحات الاقتصادية الاجتماعية التي قام بها محمد عي (وإسماعيل باشا لاحقا) في مصر، مؤكدين الطابع الايجابي والمضمون التقدمي لهذه الظاهرة. (116، 118، و102، 41). وقد سار على هذا المنوال المستشرقون الأجانب، ويستعيضون في كثير من الأحيان عن كلمة الأوربة بكلمة التغريب (252، 116). وعن هذا الموضوع كتب ابراهيم أبو لغد يقول: "حقا ان مصطلح التغريب ليس دقيقا تماما، لكن لعله الأنسب من غيره لوصف عملية التحول الاجتماعي الاقتصادي والسياسي، في بلدان الشرق الأدنى. فهو لا يفترض بالضرورة مهمة التوفيق الكامل بين الثقافتين الغربية والعربية، بل يعني بكل بساطة أن بعض الحوافز التي أدت الى اجراء تغييرات معينة في الثقافة العربية ترجع بجذورها العميقة الى الغرب. كما لا يفرض علينا الاقرار بأفضلية أو تقدمية تلك التحولات، بل يعكس بنجاح كبير أو قليل طبيعة ماهية تلك التغيرات. وهو في آخر المطاف، أكثر شمولية من المفاهيم الضيقة الواسعة الانتشار ، مثلا التصنيع، الذي يشمل جانبا واحدة من الثقافة ويتغاضى عن الجوانب الأخرى (193/ 7-8).

وليفين هو الوحيد بين المستعربين السوفيين الذي تطرق بالتفصيل الى مسالة الأوربة. وهو رغم اتفاقه في الرأي مع أبي لغد يؤكد بحق على الآتي: "الأوربة مصطلح ليس دقيقا تماما، لكن لعله الأنسب من غيره للاشارة الى الاتجاه الذي اتخذته التحولات التي جرت في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلدان العربية. وان التحولات العضوية التي حددت مسار التطور التقدمي للعالم العربي، قد جرت في نفس الاتجاه الذي سار فيه تطور الأورة الاجتماعي الاقتصادي، وكانت مرتبطة بأوربة، وساعدت عملية تشكل العلاقات البرجوازية في البلدان العربية" (119، 30). ولكنه تغاضى عن الواقع التالي وهو أنه في حال تعميم مفهوم عملية الأوربة في الوعي الاجتماعي العربي، فان ذلك يوجب بالضرورة ليس فقط تسرب عملية تشكل العلاقات البرجوازية الجديدة من جراء قيام التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية (الأوروبية) الى البلدان العربية، بل عملية الانتقال المتزامن لتطوير عناصر الثقافة الروحية. التحول الى نوعية جديدة، الى مستوى جديد من الحضارة. ولكن النهضة لم تشكل عملية هادفة للوصول الى نوعية من ذلك الطراز والمستوى الرفيه، ولهذا السبب بالذات كان جديرا بليفين الاكتفاء بمصطلح النهضة الذي قبله الجميع باعترافه الشخصي.

تعد ظاهرة تأثر النهضة العربية بالحضارة الأوروبية من الظواهر الحتمية العديدة التي رافقت مسيرة اليقظة الثقافية القومية، ولكنها لم تشكل اطلاقا الاساس الذي قامت عليه النهضة، كما اكد ليفين بقوله: "كانت النهضة العربية تعني احياء الحياة الثقافية، بعد طول رقاد، على أساس الاقتباس الواسع للقيم الروحية لأوربة الرأسمالية (وان كان تحت تاثيرها)" (119، 31). وعملية الأوربة لم تكن في حقيقة الأمر سوى حركة ترمي الى اختصا ر والغاء اللاتوافق واللاانسجام القائمين بين عملية التجديد السريعة نسبيا في مجال التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية (الاساس) وبين عملية التجديد البيطئة نسبيا في مضمار مقومات الحياة الثقافية (البنية الفوقية) في البلدان العربية (ذات الطابع الاسلامي اساسا).

وبقدر ما كانت علاقات الانتاج الرأسمالي التي انتصرت في أوربة الغربية تؤثر موضوعيا وبقوة على عملية تحديث التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية في البلدان العربية (الأوربة)، بقدر ما كانت الحضارة البرجوازية الأوربية تؤثر موضوعيا، ولكن بقوة أقل نسبيا، على الحضارة العربية الاسلامية الاقطاعية. ومن نوافل القول ان بعض الرواد الأفذاذ ساهموا بكل حمية وحماسة في تنشيط وتسريع عملية المثاقفة العربية الأوربية انطلاقا من متطلبات التطور في عصرهم. ولكن يجب أن لا ننسى هؤلاء الأعلام – رغم عظمتهم وسمو أهدافهم وطيب نواياهم – كانوا يعدون على اصابع اليد الواحدة، بينما كان العدد الأكبر من رجالات النهضة في مرحلتها الأولى غير مهيئين لفهم المجمتع الأوروبي الغربي وقيمه الروحية فهما صحيحا، وكان معظمهم مقيدا بأغلال اليقينيات الدينية والفكر السلفي الرجعي. فان لهؤلاء امكانية الاضطلاع بدور انعاش أو احياء الحياة الثقافية العربية ناهيك بأوربتها.

ويجب ألا يغرب عن بالنا الحقيقة الهامة التالية وهي أن الثقافة بحد ذاتها تتمتع بوصفها شكلا من أشكال الوعي الاجتماعي، باستقلالية نسبية عن التحولات الجارية في أسسها المادية، فانه يمكن النظر الى الثقافة العربية الاسلامية بوصفها منظومة متماسكة من القيم الروحية الثابة التي قد تصل الى درجة نزعة المحافظة.

وهذه الحقيقة يسهل التأكد منها من خلال متابعتنا لسياق التحولات الاجتماعية والثقافية التي حدثت في مصر منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى أواسط التاسع عشر.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

2- الحملة الفرنسية على مصر ونتائجها

هزت الحملة العسكرية الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت عام 1798 روتين الحياة السائدة في الاقاليم العربية، التي عاشت فترة طويلة من الركود الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، اثر توطد اركان السيطرة العثمانية في مطلع القرن السادس عشر.

ينبغي التذكير في هذا السياق ان جيش نابليون لاقى مواجهة شديدة وعداء صارخا من الشعب المصري، وأن البعثة العلمية التي رافقت الجيش عجزت – رغم عظمة الدور الذي قامت به – عن آداء رسالة تنويرية في وادي النيل الغارق في ظلام القرون الوسطى. ومما لا شك فيه أن البحوث اللامعة التي قام بها العلماء الفرنسيون في شتى حقول المعرفة كانت تخدم في المقام الأول الأهداف الحربية السياسية التي خططت لها الدوائر الاستعمارية في باريس. وان نسينا فلن ننسى التذكير بأن نسغ الحياة الثقافية في مصر كاد يتوقف تماما بسبب الخراب الاقتصادي والتأخر الاجتماعي السياسي اللذين سادا في البلاد من جراء السيطرة التركية التي جثمت على صدر الشعب المصري أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان. فالقاهرة (أم الدنيا) التي أصبحت في القرن العاشر الميلادي المركز الحضاري الرئيسي في العالم العربي لم تتمكن في ظل الحكم التركي الجائر الا من الحافظ على الأزهر: مركز التعليم الاسلامي الذي توالت عليه أحوال شتى بين عسر ويسر.

لقد بدأ الفرنسيون بطبع المنشورات والأوامر بالعربية وهم على سفنهم في عرض البحر. ولما وطئت أقداهم أرض النيل أمر نابليون باصدار الجريدة الرسمية السياسية الناطقة بلسان الجيش الفرنسي بعنوان "بريد مصر" ("كوريه ديجبت") في 29 أب (أغسط) 1798، كانت تصدر كل خمسة أيام، وصدر منها 116 عددا، تبعتها جريدة "العشارى المصرية" (دكاد اجبسيان) ، وكانت تصدر كل عشرة أيام (كانت في الحقيقة فصلية لم يصدر منها سوى ثلاثة أعداد). وهي لسان حال البعثة العلمية المرافقة للجيش الفرنسي. كان قراء هاتين الجريدتين باللسان الفرنسي أساسا من الفرنسيين المرافقين للحملة العسكرية، فضلا عن الدوائر الحاكمة في باريس (169، ج1، 45).

وامتثالا لأوامر نابليون صدرت في القاهرة عدة صحف في لغة الناطقين بالضاد، وهي جريدة "الحوادث اليومية" التي اكتنفت الغموض ظروف نشأتها ولا يزال. فقد ذكر المؤرخ المصري الكبير عبد الرحمن الجبرتي (31 ، ج4، 238) خبرا مفاده ان قائد الجند الفرنساوية أنشا جريدتين باللسان العربي، كانت احداهما "الحوادث اليومية (169، ج1، 48) وقد أشار المؤرخ الجليل فيليب الطرزي انه لم يتحقق من اسم الجريدة، ورجح هذه التسمية استنادا الى رواية الجبرتي المنقولة عن اسماعيل بن سعد الخشاب، امام زمانه في العلوم الأدبية، وقد حاول مؤرخ الأدب العربي حنا الفاخوي اماطة اللثام هن هذا الابهام من خلال تعريبه لاسمي الجريدتين المذكورتين أعلاه "بريد مصر" و"العشارى المصرية" (136، ج2، 326).

ومن الجائز أن "التنبيهط كانت الصحيفة العربية الأولى التي نشرها الفرنسيون بتاريخ 6 كانون الاول (ديسمبر) 1800، فلم تعمر طويلا، كان الهدف الرئيسي لنشرها ايصال الأوامر والتعلميات العسكرية الصادرة عن القيادة الفرنسية الى المصريين . وقد اعتنى بنشرها الجنرال الفرنسي جاك منو الذي اعتنق الاسلام وتكنى بعبد الله. أما محررها اسماعيل بن سعد الخشاب فلم يستحق – وياللعجب- سوى اشارات عابرة في تاريخ الثقافة العربية. والمعروف عنه انه عكف على تعلم العربية بنفسه وتضلع فيها حتى أصبح كاتبا بليغا وشاعرا أديبا خلف لنا العديد من الآثار الأدبية، لعل أشهرا "ديوان الخشاب" الذي جمعه صديقه الشيخ حسن العطار (156، ج4، 210). ولكن كتاباته الأخرى لم تجد حتى اليوم ما تستحقه من البحث والتنقيب. وقد يزول عجبنا اذا عرفنا ان التاريخ العربي – كقاعدة – يتغاضى عن مسألة البحث في نشأة الصحيفة العربية البونابرتية ، او يسعى في أحسن الأحوال لاسدال ستار من التكتم حول هذه الدورية.

وبعد انشاء المطبعة الفرنسية مباشرة قام 146 من العلماء الفرنسيين بتاسيس مدرستين لتعليم أبنائهم المولودين في مصر على الطراز الاوروبي وانشؤوا مسرحا للتمثيل، ومجمعا علميا مصريا، ومركزا للطب والصيدلة ومستشفى من خمسمئة سرير وخدمة الكرنتينا (الحجر الصحي) ومخبرا كيميائيا ومرصدا فلكيا ومعرضا للرسم وحديقة للحيوانات ومتحفا للتاريخ الطبيعية وسلاح الهندسة وورشات لانتاج المواد الاستهلاكية والصناعات والمعامل والطواحين... وهلم جرا.

ورغم الأهداف العسكرية السياسية الكامنة وراء هذه التدابير الانشائية، فان الأهداف التنويرية لم تكن تجد سبليها الى الحياة المصرية لولا صدور أمر بونابرت بتاسيس المعهد المصري باقسامه الأربعة (الرياضيات – الطبيعيات – الاقتصادي السياسي – الأدب والفن) في 21 آب (أغسطس) 1798. كان هذا المعهد العلمي صورة مصغرة لمجامع العلوم الأوروبية، وقد تراس ادارته العالم الفرنسي مونج، واضع أسس الهندسة التصويرية ومؤسس معهد البوليتكنيك في باريس. وكان بونابرت نائبا للرئيس ، والرياضي الشهير لافوربيه أمينا للمعهد ( وهو الذي أطلع شاملبيون على الآثار الفرعونية، فكان الأخير أول من فك رموز الكتابة الهيروغليفية المصرية على حجر رشيد). وقد عمل في المعهد المذكور أكثر من 48 عالما طبقت شهرتهم الآفاق في أوروبة والعالم قاطبة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: برتلو عالم الكيمياء والطبيعيات، والأكاديمي فيفيان دينون مدير معهد الفنون بباريس والرسام الأديب، والفلكيان نوي وتوت، والطبيب ديجينت، والجراح أدرييه، والمهندس ليبر، والخبير العسكري أندريوز ، والرياضي لانفريه، وغيرهم (74/ ج1، كذلك 255، 65-66).

كان هدف نابليون من انشاء المعهد المصري يتركز من جانب في آداء رسالة تثقيقية حضارية تمثلت في نشر منجزات العلم والتقنية الأوروبيين بين أبناء الشعب المصري ، ومن جانب آخر، الاستفادة من التراث العربي الاسلامي القروسطي في مجال تطوير العلم الفرنسي. والجدير بالذكر أن جهود العلماء الفرنسيين قد تكللت بالنجاح الكامل، ولاسيما ما يخص الجانب الثاني، فهم لم يكتفوا بوضع جداول مقارنة بين المقاييس والأوزان الفرنسية والمصرية، وتاليف كتاب محادثة فرنسي عربي، وتقويم توافقي مصري قبطي أوروبي، بل جمعوا وحققوا المخطوطات العربية القديمة، ودرسوا دراسة دقيقة التاريخ المصري القديمة والحضارة الفرعوينة والاثنوغرافية والفولوكلور والجغرافية وعلم النبات والحيوان والمعادن وغيرها من حقول العلم والمعرفة. كما أنهم توصلوا الى فكرة مشروع شق قناة بين البحر الأبيض والمتوسط والبحر الأحمر، وخططوا الملاحة طوال العام في نهر النيل، وانشاء قنوات الري، وتأمين مياه الشرب، والقضاء على الأمراض والأوبئة المتفشية، وزراعة المحاصيل الزراعية الجديدة وغيرها من المشاريع التي وجدت طريقها الى التنفيذ في وقت قصير جدا، كما أعاروا انتباها خاصة لترميم الشوارع وانارتها في كل من القاهرة والإسكندرية، فضلا عن تحسين ظروف العمل والمعيشة فيهما (10، 4، و71، ج1، 213-223:225، و66و80-81).

وقد ظهرت نتائج دراستهم في 24 مجلدا ضخما من كتاب "وصف مصر" (أنظر:56).

غير أن رجال الدين والفكر في المجتمع المصري واجهوا الغزاة الفرنسيين بعداء صارخ ولم ينصاعوا للنداء النابليوني. ومما جاء في ذلك النداء قوله: "ايها المشايخ والقضاة، والأئمة والجريجية، وأعيان البلد، قولوا لأمتكم ان الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، واثبان ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دامئا يحض النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين". والنداء لا يخلو من خلفية اجتماعية تنبه اليها العلماء المسلمون ذوو الصلات الوثيقة مع أشراف المماليك، الذين دافعوا عن مصالحهم بكل تفان واخلاص وشكلوا الدعائم الاساسية التي اعتمد عليها بكوات المماليك، ولاسيما أولئك المشايخ الذين انحدروا من أسر عريقة ثرية. يقول النداء: "ان جميع الناس متساوون عند الله، وان الشئ الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط. وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب. فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا ان يمتلكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شئ أحسن فيها من الجواري الحسان، والخيل العتاق, والمساكن المفرحة؟ فان كانت الارض المصرية التزاما للماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم. ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم. ولكن بعونه تعالى، من الآن فصاعدا لا ييأس واحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية. فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيديرون الأمور، وبذلك يصلح حال الأمة كلها" (31 ج4، 4-5، وايضا 81،9).

ان الغالبية العظمى من رجالات الأزهر العقلاء والفضلاء والعلماء الذين وعدهم نابليون بتقلد المناصب السامية وادارة امور البلاد ، فضلا عن الاستمتاع بالخيرا، قد قاطعوا قيادة الحملة الفرنسية، لا بل وأثاروا حفيظة الأهالي ضد المتدخلين.

بيد أن نفرا من الأزهريين وجدوا حظوة لدى نابليون، اما بسبب الظروف القاهرة واما انطلاقا من مصالحهم الضيقة. كان على رأس هؤلاء الشيخ الفقيه العلامة عبد الله الشرقاوي (1737-1812( (192-223) الذي تولى مشيخة الأزهر، فانصب كل جهده على تخليص البلاد من نير الحكم التركي وتسلط المماليك. أقامه الفرنسيون رئيس الديوان لاجراء الأحكام، وانتفع في أيامهم. ومن أشهر مؤلفاته" تحفة الناظرين فيمن ولى مصر من الولاة والسلاطين"، اختتمه بوصف خروج الفرنسيين ودخول العثمانية. وكان بين هؤلاء المشايخ عبد الهادي بن محمد المهدي (أمين الديوان) ، وخليل البكري، ومصطفى الدمنهوري، واسماعيل الزرقاني، وغيرهم (21، ج3، 137). وكان من بينهم أيضا المؤرخ الشهير الجبرتي (1753-1825) الذي وضع كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" في اربعة أجزاء، ونسب اليه كتاب "مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس".

ومثال الجبرتي دليل كافي على الأثر الايجابي الذي تركته الحملة الفرنسية على الحياة الثقافية في مصر. فلما ملك الفرنسيون عين الجبرتي كاتبا في الديوان، فاختلط الشيخ بالعلماء الفرنسيين، وحدث نوع من الانقلاب الفكري في تصورات الشيخ عن مستويات العلوم والتقنية في أوربة. فبينما كان في الماضي هو وأبناء بلده مأخوذين بالنقالة التي استخدمها الفرنسيون بدلا من السلال لنقل التراب ومواد البناء الأخرى، أخذ الشيخ يزور غرفة المطالعة في المكتبة التي تستحق كل الاعجاب، فكان يطلع على الكتب النادرة ويحضر التجارب في المخابر العلمية التي كانت نتائجها كما قال: "عصية الفهم وعسيرة المنال لعقول مثل عقولنا". وترك القضاء الفرنسي المرتكز على مبادئ العقل انطباعا عظيما واخاذا في نفس الشيخ الذي اعتاد على القضاء الخاضع لأحكام الدين والشريعة، في الشرق (31، ج3، 33 – 23و166 – 117).

أما صديق الجبرتي الشيخ حسن بن محمد العطار (في حدود 1766- 34-1838) الذي أحذ عن كبار مشايخ الأزهر وفر من القاهرة الى الصعيد خشية من الفتن التي نجمت عن دخول الفرنسيين، فقد عاد ادراجه اليها واتصل بعلمائهم، فاستفاد منهم العلوم العصرية الشائعة في بلادهم، وعلمهم اللغة العربية، ثم عمل موظفا في دار النشر الفرنسية، وعل الرغم من أن الكاتب ج. أحمد قد أكد ندرة المعلومات عنه، لكنه جزم بأن العطار كان قد تاثر أكثر من جميع أقرانه بالتقدم الأوروبي الذي تجلى في أروع صوره من خلال أفكار وتأليف العلماء الفرنسيين في مصر، وأنه كان من أول من اقتنع بالتأخر الشرقي المهيمن في صفوف الأزهريين. وقد أفاد أ. مبارك أن العطار كان يطلع أصدقائه على المعارف الواسعة في بطون الكتب الفرنسي، وانه كان شغوفا جدا بترديد العبارة التالي: "يجب أن تتغير بلادنا، وعلينا اقتباس العلوم الأوروبية الجديدة علينا" (198/5). ينبغي التذكير هنا أن العطار رغم اتصاله الوثيق بالفرنسيين – لم يتخل في الواقع عن أحلامه بطرد المتدخلين الأجانب من البلاد.

ومن غير المستبعد اطلاقا أن بعض المصريين الذيين اتصلوا بالفرنسيين بأية وسيلة من الوسائل المتاحة، ومن بينهم بعض المشايخ الذين اشتغلوا مباشرة أو مستقبلا في الوظائف الأدارية (مثل الشيخ المهدي)، أو حتى بعض القراء الذين كانوا يطالعون الجريدة العربية الصادرة آنذاك، أن يكونوا قد اطلعوا على مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى (جمهورية – حرية – مساواة – عدالة)، وعلى الأفكار الجديدة، ولاسيما التشديد على فكرة "الأمة العصرية" التي ظهرت للمرة الأولى في الواقع المصري. لكن المعطيات التارخيية لا تفيدنا بأي خبر عن حدوث أي تحرك اجتماعي في الواقع الصمري ولو بالمعنى الضيق لهذا التعبير.

فقد كتب باتون بهذا الشان ما يلي: "العقبة الكاداء أمام نشر العلوم في مصر لا تكمن في عدم رغبة الفرنسيين في تعليم المصريين ، بل في الاحتقار الشديد الذي يكنه الأخيرون ازاء العلوم الأوروبية عموما" (71، ج1، 222). واذا كان مصدر الحقد كامنا بدائ ذي بدء في العداء السافر للمحتلين الفرنسيين وللمسيحية عامة دفاعا عن معتقداتهم الدينية ومبادئ حب الوطن، فانه تحول في القريب العاجل الى تحد ظاهر لاساليب العنف والقمع التي مارسها الاستعماريون، فضلا عن الاهانات التي كانوا يوجهونها الى تقاليد المصريين وعاداتهم وقيمهم الاخلاقية.

لقد أكد بعض الكتاب الفرنسيين في ثلاثينيات القرن التاسع عشر الحقيقة التالية: "ان البذور الأولى للحضارة الأوروبية قد تسربت بسرعة في الارض المصرية من شقوق صناديق الذخيرة التي نقلتها الحملة الفرنسية" (48، 445، راجع أيضا: 225، 65). وقد رأى كلوت بك في حينه أنه بات بالامكان تعداد الانعكاسات الطويلة الأمد التي تركتها الحملة العسكرية، وهي:

1- "لقد زعزع نابليون بيده القوية تلك الأركان التي اعتقد الشرق أنه يقف عليها بأقادم ثابته، كانت الحملة المصرية الشرارة التي ايقظت الشرق من رقاده الطويل. ان هيبة جيوشنا الجبارة وانتصاراتها أثارت انقلابا كبيرا في تفكير الشرقيين".

2- "قضت انتصارات الفرنسيين على الممالكي، فأظهرت للعرب حقيقة ضعف وخذلان حكامهم المستبدين، ومهدت السبيل لاحياء الأمة العربية وبعثها".

3- ان التسامح المرن الذي أبداه نابليون ازاء المعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية للشعب المحتل (للعرب) حفزه، ولو متأخرا، لاجراء اتصالات واسعة مع أوروبة، وللتوجه نحو الحضارة الغربية " (51، ج1، 54-55، ج2، 164-165).

واليوم نجد موقفا مماثلا من الحملة الفرنسية لدى العديد من الكتاب العرب المعاصرين، وكأنه أصبح من مسلمات التاريخ . ولعل م. صبري خير نموذج لهؤلاء المؤرخين، "لقد ارست الحملة الفرنسية بداية حركة حضارية في مصر، وتركت آثارا ايجابية على النهضة المصرية الحديثة" تجلت أساسا في الحقائق الآتية:

1- كانت منجزات العلم والتقنية والمشاريع والتدابير الثقافية الفرنسية بمثابة كشف عظيم دفع المصريين باتجاه التفكير الواعي الهادف.

2- أرست أسس الاتصالات الفرنسية المصرية.

3- مهدت الضربات القاصمة التي تلقاها المماليك تربة صالحة لاستلام الاصلاحي محمد علي زمام السلطة (257، 21).

أما الكاتب الأردني حازم نسبية فقد عد سنة 1798 بداية التاريخ العربي الحديث، وكرر حرفيا ما جاء على لسان الكاتب السوري خير الله خير الله في مطلع القرن العشرين (237، 26، 30)، مؤكدا ان الحملة البونابرتية "لم توقظ فقط مصر من سباتها الطويل، بل أيقظت الوعي القومي في البلاد العربية ووضع بداية حركة التغريب التي أفضت الى نشوء الطباعة الحديثة واحياء الثقافة العربية التقلديية وبعث الوعي القومي" (252، 35، 108) . ويتصف بعض الكتاب العرب برباطة الجاش وضبط النفس في تقييمهم للحملة. فهم يؤيدون بعض النتائج المشار اليها أعلاه ويرفضون بعضها الآخر. فألبير حوراني السوري الأصل، الإنكليزي الجنسية، يقبل بواقع التمهيد لظهور محمد علي بينما يكتفي المؤرخ اللبناني كمال الصليبي بالاشارة الى حافز المنجزات العلمية التقنية التي "أثارت اهتماما عظيما"، ولمح الكاتب عبد الجليل الى "الهزة الحقيقية" التي أصابت البلاد العربية "الغارقة فيما يشبه الغيبوبة". وثمت كتاب (أحمد السوداني مثلا) رغم محاولاتهم الارمية لنفي أية محصلة جدية للمغامرات المفاجئة التي بدأها نابليون وانتهت على لاشكل ذاته، فانهم اضطروا للاقرار بحقيقة التحول الذي حدث في وعي بعض المفكرين العرب الذين اتصلوا بالحملة الفرنسية. والاعتراف بالازدياد الملموس في محصلة النتائج الايجابية، ففي النضال ضد الغزاة الفرنسيين، نبتت بذور اليقظة السياسية والوعي القومي في مصر، وعلى الرغم من ان الاتصال بين أوربة والشرق لم ينقطع انقطاعا كاملا في أي وقت من الأوقات، فان الاحتلال الفرنسي لمصر وضع أساس علاقات جديدة بين القارتين، وشكل بداية عصر جديد بالنسبة لمصر.

ورغم التحفظ الظاهر في تقييم أثر الحملة الفرنسية لدى الأجيال المتعاقبة من المستعمرين السوفيي، فانهم قد قدروه تقديرا ايجابيا، على وجه الاجمال. فكريمسكي مثلا اتخذ جانب الحذر في تقييمه وأضار الى أن النهضة المصرية بدأت اثر الحملة البونابرتية (1798-1801) في ظل الحاكم – المصلح محمد علي (1805-1848) – بيد أن تنسيق الأفكار العلمية والآراء المتناثرة في تضاعيف كتابه يتيح لنا الاستنتاج بأن تطلع الشرق المتأخر لاستيعاب الفكر العلمي التقاني الاوربي كان من الحوافز الرئيسية للنهضة المصرية. وأدى بالتالي الى اجراء اصلاحات على الطراز الاوروبي. وان ذلك التطلع والطموح تولدا لدى الشعب المصري اثر احتكاكه بنابليون بونابرت. ويرى كراتشكوفسكي ان المؤثرات الخارجية تركت على العموم أثرا بالغا على وجه الأدب العربي في القرن التاسع عشر، ولذا عد توطد العلاقات مع أوربة بعيد الحملة الفرنسية واستلام محمد علي لمقاليد الحكم الباعث الرئيسي للنهضة المصرية.

تجدر الاشارة الى أن تقييمات الجيل الجديد من المستعمرين السوفيين لم تكن ذات مدلول واحد، فالمتسعرب عثمانوف يعتقد "أن التقليد المتبع، والأفكار المسبقة، يدفعان أحيانا لتفسير تلك التغييرات الاقتصادية الثقافية بأنها عاقبة للحملة الفرنسية على مصر". وكتب كوديلين أيضا يقول: "كانت للمواجهة مع الغرب (ولاسيما الحدث الهام المتمثل في حملة بونابرت على مصر (1798-1801) نتائج هامة جدا في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الشرق العربي، اذ أنها عجبت وتيرة التفاعلات التي لم تكد تكون ملموسة في أعماق المجتمع الاسلامي".

ومن المؤكد أن معظم المستعربين يميلون الى الراي القائل بتخصيص مكانة هامة للحملة العسكرية الفرنسية في مصاف المقدمات الاضافية. واعتبار التحولات الاقتصادية الاجتماعية الجارية في القاعدة من العوامل الحاسمة المقررة. فخالدوف يرى أن الصلات التجارية والثقافية في الغرب الراسمالي وجر العالم العربي نهائيات الى حلبة الصراع السياسي العالمي، والمتغيرات التي حدثت في الوعي الاجتماعي، والانطباع العظيم الذي تركته الحملة الفرنسية على العالم العربي والاسلامي، وادراك ضرورة استيعاب واقتباس منجزات العلم والتقنية الاوروبية، من الحوافز التي أدت الى التطور الاقتصادي الاجتماعي الذي حتم موضوعيا بداية العملية التاريخية الثقافية العظمى".

بداية هذه العملية على الأرض المصرية اقترنت ولاشك باسم حاكم مصر محمد علي.

3- عصر محمد علي

الى مصر قدم محمد علي (1769-1848) من ميناء كافالة (قولة) احدى مدن مقدونية، حيث كان يتعاطى تجارة التبغ. جاء في عداد كتيبة ألبانية قليلة العدد أرسلت ضد الفرنسيين سنة 1799. وبعد طرد القوات الفرنسية من أرض الكنانة نشأ صراع حاد من أجل استلام زمام الحكم في البلاد. فقد شكل المماليك القوة الرئيسية الضارية المتماسكة والمتطلعة الى استعادة مواقعها في الحكم. وكان الصراع على تسلم سدة الحكم (منصب شيخ البلد) حامي الوطيس بين الفريقين المملوكيين من أنصار محمد الألفي وعثمان البرديسي. بينما كان الأتراك بقيادة خورشيد باشا يبذلون قصارى جهدهم للاستفادة من التشاحن القائم بين المماليك. ولتحويل السلطة الاسمية للسلطان التركي الى سلطة فعلية. وكان سكان القاهرة يضمرون الحقد والكراهية، ويكنون العداء المبطن للأتراك والمماليك على حد سواء، فعقدوا العزم على ترشيح واحد من أبناء الشعب المصري، ولاسيما الشيخ عمر مكرم البطل الشعبي والزعيم الروحي (نقيب الأشراف) الذي يرجع نسبه الى الرسمل محمد، وكان الباشا التركي يحلم بالاستيلاء على السلطة وتحويل البلاد الى ملك خاص به، اعتمادا على المرتزقة الجنود الأتراك. بينما كان محمد علي كسياسي – حذق – يناور ببراعة منقطعة النظير بين الأطراف المتنازعة على الحكم، ويقنع الجميع بتأييد مشاريعه الطموحة التي أوصلته الى سدة الحكم في تموز (يوليو) 1805.

ان المصادر الأولية العربية عن تاريخ مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ومن مضنها فترة حكم محمد علين مفقودة تماما باستثناء التاريخ الوحيد الذي وضعه الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". ولاعطاء القارئ فكرة عن محتوى وجوهر هذا الكتاب نقول ان الكاتب نفسه ذهب ضحية الاوامر التي أصدرها محمد علي بخنقه عام 25/1826. أما المصادر الأوروبية البالغة زهاء العشرة فقد ألفها كتاب اتسموا بتاييدهم لنائب الملك محمد علي (ولاسيما الفرنسي كلوت بك)، أو بعدائهم الصارخ له (غالبيتهم من الكتاب الأنكلوساكسونيين أمثال بركويش، وبوكلير، وأوستن، موساكو وغيرهم).

ان حياة ونشاط محمد علي وعصره لم تكن موضع دراسة خاصة في الاستعراب السوفييتي. واذا امعنا النظر في مسألة المصادر الأولية لهذه الفترة تبين لنا ان ذلك لم يكن ترتيبا من القدر الأعمى من فعل المصادقة المحضة. فتربع أسرة محمد علي على عرش أكبر دولة عربية حتى سنة 1952 جعل التاريخ الرسمي في مصر رهن النظرات والمواقف المثالية والميتافيزقية التي تتفق جميعها على خط عام مشترك تحكمه رؤية أحادية الجانب للاصلاح الذي قام به محمد علي وقد انسحبت هذه المنهجية اللاتاريخية على تدوين التاريخ العربي العام. أضف الى ذلك أن التاريخ الفرنسي الذي اتخذ انطلاقا من مطامعه الاستعمارية – موقفا متحيز ومؤيدا جدا من حكم محمد علي (وجزئيا من عهد الخديوي إسماعيل) – روج أفكارا برجوازية مثالية ذاتية (م. صبري وأمثاله) قدمت صورة زاهية الالوان حول تاريخ مصر في الفترة المذكورة . الأمر الذي يستلزم جهودا حثيقة وكبيرة لاعطاء صورة حقيقية وموسوعية عن ذلك التاريخ وتبديد ما علق به من التزوير والتشويش. ويتطلب أيضا اتخاذ موقف حذر وانتقادي من خلال التعامل مع تلك الأدبيات. فضلا عن توسيع دائرة المصادر والوثائق والمستندات الموجودة في خبايا دور الكتب والارشيفات المصرية والتركية والأوروبية. ولأسباب مفهومة فان مبادرة كهذه عصية على المستعربين السوفيين، الذين يلاقون مصاعب جمة في هذا المضمار.

ولكن على الرغم من ندرة المصادر التاريخية الموثقة والالتباس القائم في الأدبيات عامة – يحق للمستعربين السوفيين الاعتزاز بأنهم لم يفقدوا جميعهم القدرة على التعامل مع المنهج المادي التاريخي الموضوعي من خلال تقييمهم لنشاط محمد علي. ولاسيما اصلاحاته، التي أصابوا في تقدير جوانبها الايجابية. التقديمة أو السلبية – الرجعية. وكما أن لكل قاعدة استثناء، فان بعض الكتاب السوفيين الذين لا يجمعهم جامع بتقاليد الاستعراب السوفيتي العلمية، مالوا الى اعتبار جميع اصلاحات محمد علي ذات طابع تقدمي – ايجابي (التاريخ الحديث ل’سية وأفريقية، تأليف نخبة من الأساتذة في المعاهدة العليا، وكتاب ملوبوزيان "تاريخ الجالية الأرمنية في مصر" وغيرهما). وفيما يخص المستعربين أنفسهم فارضية الخلاف قائمة على تغليب الجوانب الايجابية – المنيرة أم السلبية - الظلية في اصلاحات محمد علي في مصر. فقد عد لوتسكي وغولدوبين أعمال محمد علي واصلاحاته ذات طابع تقدمي غالبا. وسلبي رجعي في بعض القضايات الجوهرية وعلى الضد من ذلك قدر ايفانوف الذي عالج بدقة وتفصيل قضايا ذلك العصر تقديرا سلبيا فعالية محمد علي، ويضمنها اصلاحاته، ولم ير فيها سوى بعض الجوانب الايجابية .

النتائج التي توصلنا اليها من خلال هذا البحث تدفعنا لاتخاذ موقف وسط بين الآراء والتقييمات المشار اليها أعلاه. بمعنى أننا اذا لم نقتنع اقتناعات كاملا بأرجحية الجوانب الايجابية من حيث الكيفية والنوعية في قضية من القضايات اتخذنا موقف مؤيدا من الفئة الاولى من المستعربين. ولكننا في تقديرنا للجوانب السلبية أبدينا نوعا من التهادن النسبي أكثر مما فعل ايفانوف، وفي مطلق الأحوال. ترك الواقع التالي اثره البين على موقفنا. وهو أننا عالجنا عصر محمد علي وفعالياته ليس من منظور التاريخ العام لمصر، بل من زاوية اليقظة القومية - الثقافية العربية.

ولعل الوقت قد حان لالقاء نظرة عاجلة وفاحصة على فعالية محمد علي في مصر، البلد الذي دفع كارل ماركس الى وصفه بالقسم الوحيد الذي كان ذا قوة وحيوية آنذاك، في الامبراطورية العثمانية.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

اصلاحات محمد علي في مصر

هدفت الاصلاحات التي قام بها محمد علي في الميدان الزراعي (1808-1814) الفرع الأساسي في الاقتصاد المصري الى تطويرها تطويرا سريعا.

فقام باجراء مسح عام للأراضي المروية، وصادر أملاك البكوات المماليك، والغى نظام الالتزام، وأدخل احتكار الدولة على الأراضي الوقف. ونتيجة لتفكيك الأراضي المشاعية أوجد نظام الجفتلك الرسمي ووزع الأراضي على الفلاحين للانتفاع بها. أضف الى ذلك التدابير الأخرى في مجال توسيع نظام الري وتطبيق انجازات الهندسة الزراعية واستيراد الأدوات والمعدات الزراعية الضرورية من أوربة. وادخال أنواع جديدة من المحاصيل الزرعية وغيرها من الاجراءات التي فرضت موضوعيا مهمة تصفية المماليك سنة 1811، ومركزة جميع الأرضي في أيدي النظام الاقطاعي – الحكومي الاستبدادي والطبقة الحاكمة الجديدة. ورغم أن هذه الاجراءات ظلت قاصرة ومحدودة من الناحية الاجتماعية، اذ لم تتمكن من الغاء نظام القنانة، فانها اتسمت الى حد ما بصبغة تقدمية، ألغت الفوضى الاقطاعية وخلخلت القاعدة الاجتماعية التي كانت تقف عليها القوى الجرعية المتطرفة بقيادة بكوات المماليك،وعجلت وثائر التقدم الزراعي، وخصوصا التعديدة في انتاج المزروعات المعدة للتصدير، وقوننت الى حد ما اشكال استثمار الفلاحين.

وبداء من سنة 1816 اتخذت اجراءات اصلاحية واسعة في قطاعي التجارة والصناعة (اخضاع الصناعة والتجارة الخارجية والداخلية لصالح احتكار الدولة، وانشاء العديد من المصانع والمعامل اليدوية (المنيفاتورات الجديدة)، وتأسيس جيش نظامي قوي على الطراز الأوروبي الحديث، فضلا عن بناء أسطول وطني مصري.

كان تحديث الزراعة والصناعة والجيش الاساس المتين الذي اعتمد عليه محمد علي في تحقيق أحلامه بايجاد نظام بديل للدولة العثمانية المتآكلة، يكون مثالا نموذجيا للشرق الاسلامي، قادرا بطاقاته الاقتصادية وقدراته العسكرية على التصدي للغرب المسيحي المتجسد لدى نائب الملك ليس فقط في انكلترة وفرنسة، بل في روسية ايضا؟ أجل، كانت ترواد مخيلة محمد علي آمال من النوع الذي تنبأ به كارل ماركس بعبقريته العظيمة وخطه براعة: يجب وضع الباب العالي أمام الخيار التالي: اما القبول بالنموذج البديل الذي أوجده محمد علي في أراضي النيل وتعميمه على سائر أرجاء الامبراطورية العثمانية بتسليمه الصدارة العظمة، واما الرضوخ والاستسلام للأمر الواقع والقبول بفكرة تسنم الرئيس الحقيقي الألباني لعرض السلطان الخليفة، اي استبدال راس حقيقي بالعمامة المفتخرة الخالية من أي رأس تركي من آل عثمان.

أملت التحولات الاقتصادية العسكرية التي اجراها محمد على ضرورة اعادة تنظيم أجهزة الدولة. الأمر الذي كان قمينا بتقديم صورة عصرية لكيان الدولة الاسلامية الجديدة. فانشأ في ايلول (سبتمبر) 1829 جهازا مرزيا للدولة سماه "مجلس الشورى" الذي ورد ذكره باسماء متبانية في المصادر المختلفة. وكان مجلس الشورى هذا شبيها بالبرلمان الى حد ما. انعقد فيما بعد بصورة دورية سنوية تقريبا وادرجت على جدول أعماله القضايا الاقتصادية والسياسية والادارية. حقا ان مقر الاجتماع تبدل كثيرا في المستقبل، ولكن اعضاءه ظلوا كالسابق من كبار موظفي الدولة، وحكام لاولايات والعلماء والمشايخ البارزين. لكن المجلس – من حيث الجوهر – لم يكن سوى مظهر من مظاهر الأبهة والفخامة التي اعتز بها وتباهى نائب الملك. ورغم هذا كله مثلت دوراته واجتماعاته ومناقشاته حول القضايات المطروحة والقرارات والتوصيات الصادرة عنه، مثلت حدثا هاما في الشرق الاسلامي لم يسبق له مثيل. والأهم من كل هذا انه شكل ضمانة اضافية للاستقلالية الادارية الحكومية للنيابة الملكية في مصر المتمثلة في الهيئة الحكومية _مجلس المعاونين) تحت رئاسة كبير النظار (كبير المعاونين) أي رئيس الوزراء بالمعنى المعاصر، أما عدد أعضاء المجلس فكان مساويا لعدد الدواوين والنظارات.

محمد علي الأوربي المولد الشرقي قلبا وقالبا، والذي وصفه كاميرون "بقائد الباشبزق الأمي" اعتمد في تحقيق اصلاحاته الزراعية والتجارية والصناعية والعسكرية، فضلا عن الادارية الاجتماعية والثقافية التعليمية ، على الاختصاصيين الأجانب، ولاسيما الفرنسيين ، ولكن بذل الغالي والرخيص من أجل تغيير أسمائهم وألقابهم، لا بل وحتى معتقداتهم الدينية، كي يضفي عليهم صبغة محلية وطنية. ففي سنة 1819 أوكل مهام تحديث جيشة الى ضابطين من ضباط بونابرت، أوكتاف جويف دي سيف الذي لقب نفسه باسم سليمان باشا الفرنساوي، وروثمان الذي عرف باسم ابراهيم أغا. وأوصى سنة 1825 كلوت بك بتنظيم شؤون الطب والصحة، رغم أن الأرمني بوصاري كان طبيبه الخاص المقرب اليه على مدى ثلاثين عاما، والذي توفي عام 1833، فأمر محمد علي وزير الحربية لامصري محمود بك بتشكيل لجنة خاصة لاعداد مراسم الدفن اللائقة بمقام المرحوم. وكان بناء ترسانة الاسكندرية (1829) من نصيب المهندس الطولوني سويز بك ومساعده الحاج عمر الذي اشتهر بكفاءته وذكائه. ولكنه استبدل به الفرنسي مونجيل عام 1823، وأسس الايطالي مارينغو من جنوة والملقب علي افندي مصنع السلاح في هدي المرصود سنة 1831، وتسلم ادارة شؤون الملاحة الفرنسيون بيو بك، وهوسار، وليتلييه، وأوكلت شؤون الري والسودود والقناطر الى لينان دي بلفون بك، وتطوير وتحديث الزراعة الى جويل.. ,هكذا دواليك.

وقد أكد كلوت بك أن عدد الخبراء الأجانب ليس كبيرا جدا كما يشاع، لكنه أورد أرقاما عن أعدادهم ابان الثلاثينيات، وهي كالآتي: 200 طبيب وصيدلي، 20 خبيرا عسكريا، 20-25 مدرس لغة، 10 في الجهاز الاداري. والواقع أن عدد الخبراء الأجانب كان أكثر بكثير ، ولاسيما في المرحلة الأولى . غير أن تقليص العدد كانت نتيجة لرغبة محمد علي الذي – كما يقول كلوت بك – كان تواقا لاستخدام الملاك الوطني قدر المستطاع بهدف التخلص من الوصاية المفروضة على مصر التي كانت مضطرة لاستيراد كل ما يلزمها من أوربة. ومهما يكن من أمر، فهناك شهادات وثائقية تؤكد أن محمد علي كان حتى الثلاثينات ينظر بعين الرضا الى الخبراء الاجانبي، ويضمنهم العاملون في القنصليات الأوروبية، فكان يغدق عليهم الرواتب الخيالية والمنح والمكافات. أضف الى ذلك أنه غض الطرف عن نشاطهم المحموم في مجال سرقة وتهريب الآثار التاريخية التي لا تقدر بثمن، الأمر الذي دفع العالم الإنكليزي غليدون الصدار كراس في لندن (1842) بعنوان "نداء الى علماء الآثار الأوروبيين حول تخريب الآثار المصرية".

نذكر في هذا السياق ان الاصلاحات التي قام بها محمد علي تستقطب اهتمامنا في المجال الفكري – الثقافي.


الطباعة في مصر

في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1821، افتتح محمد علي لأول مرة في مصر دارا للطباعة بمساعدة الخبراء الأجانب، وعلى أساس آلات الطباعة التي خلفتها البعثة العلمية الفرنسية. وقد تسلم ادارة المطبعة نقولا مسابكي السوري الاصل، الذي ارسل خصيصا الى ايطاليا لدراسة فن الطباعة (1815-1820). صارت المطبعة تنشر الكتب المدرسي في شتى حقول العلم والمعرفة باللغة العربية والفارسية والتركية. بادئ ذي بدء كانت الترجمة تتم على أيدي شبان عديمي الخبرة في ميدان التجرمة ، ثم تسلم الى المحريين والمصحيين ممن امتازوا في علم اللسان وصناعة البيان، فيبذلون جهودا جبارة لاصدارها، وكان المحرر المسؤول في مقدمة هؤلاء الثقات.

جريدة الوقائع المصرية

وأصدرت هذه المطبعة الأهلية وتعرف بمطبعة بولاق أول جريدة عربية رسمية هي الوقائع المصرية والجدير بالذكر أن الغموض لا يزال يكتنف تاريخ هذه الجردية في الاستعراب السوفيتي ، وذلك بسبب فقدان مجموعاتها في الأرشيفات العربية، والمصرية خاصة، ولأن أعدادا قليلة وصلتنا من الأعداد التي صدرت خلال الإثني عشر عاما الأولى. ولتقديم صورة عن الفوضى القائمة في التأريخ لهذه الجريدة نقول ان ج. رينو، مدير الجمعية الآسيوية في باريس، أكد سنة 1831 أن الجريدة المذكور ظهرت في أول عهدها بالعربية فقط، ثم باللسان التركي لعدة أشهر، أكد فيليب الطرزي كبير ثقافة مؤرخي الصحافة العربية سنة 1910 "ان الجردية ظهرت في أول عهدها في اللسان التركي فقط، ثم برزت في اللغتين العربية والتركية، ثم عادت تركية محضة ثم عربية خالصة ولم تزل، وهي تصدر الآن ثلاث مرات في الأسبوع".

والرأي الأخير، رغم عدم صحته ، لا يزال يلاقي قبولا واسعا في أوساط المستعربين السوفييت والأجانب. ان المعلومات الواردة في كتاب جان دين "موجز المصادر التركية في القاهرة" ومؤلف خليل صابات "تاريخ الطباعة في الشرق العربي" والصور الشمسية الموجودة فيهما. فضلاا عن المكروفلم الذي استلمناه من الخارج لصور مايربو على العشرة من أعداد الجريدة الصادرة في العامين الأولين (1831-1833) لجريدة الوقائع المصرية أوصلتنا الى الاستنتاجات التالية:

أولا – كانت الجريدة منذ اليوم الأول نصف شهرية لا اسبوعية، فقد صدر العدد الأول في 25 جمادى الأولى 1244 هـ الموافق 3 كانون الأول (ديسمبر) 1828، أما الثاني فتاريخ 9 جمادي الآخرة أي 17 كانون الأول (ديسمبر) . أما الأعداد الصادرة سنة 1831 والتي رأيناها بأم العين منذ 9 شوال 1247 حتى 28 منه، اي ثمانية أعداد خلال عشرين يوما، وكذا صدرت أعداد سنة 1832 وفجأة تحول صدورها سنة 1833 الى مرتين في الأسبوع بدلا من ثلاث مرات.

ثانيا: الاعداد التي رأيناها والصادرة في الحولين الأولين وفي السنوات اللاحقة كانت باللغتين العربية والتركية، مع رجوح كفة المواد الصادرة بالتركية، وسيزول عجب القارئ الكريم ازاء حقيقة تغاضي الكتاب العرب عن هذه المسألة، اذا أخذنا بالحسبان الظروف السائدة بين الأوساط الحاكمة العليا فقد كان اللسان التركي مهيمنا تماما.

أضف الى ذلك ان الناشرين – لم يتعمدوا نشر معظم المواد بالتركية – بهدف الحط من قدر اللغة العربية لسبب بسيط جدا وهو أن المواد العربية احتلت مركز الصدارة في العدد الأول.

ولكن، ينبغي التذكير ان افتتاحية العدد البكر من الوقائع المصرية كانت باللسان التركي.

"تفضل عطوفة مولانا العادل (عساف – اسم كبير وزراء الملك سليمان الحكيم، وأطلق هذا اللعب على محمد علي تكريما لمقامه – المؤلف)، بانشاء ديوان الجرنال ، وبابداء رغبته السامية في جمع التقارير والمعلومات الواردة من عماله على المدن والأرياف ، ومن ثم مناقشتها ونشرها وايصالها الى من يهمه الأمر، كي يتمكن المسؤولون من تكوين فكرة عما يفيد الناس فيتبعوه، ويضر الناس فيتحاشوه.ورغم أن ديوان الجرنال يسعى لتحقيق هذه الأهداف النبيلة، فان مولان المعظم محمد علي باشا الكبير قد صرف همته الى توسيع نطاق المعارف بين السكان، فرأى ان الحاجة ماسة الى ايجاد جريدة تقوم بنشر أوامر الحكومة الخديوية واذاعة اعلاناتها واخبار جلسات الديوان الكبير وديوان الخديوي. فضلا عن التقراير الواردة من بلاد الحجاز والسودان، ورأى سماحته أن عملا كهذا سيكون عظيم الفائدة لأعيان البلد ووجهائها وأشرافها، اذ يجدون على صفحاتها المعلومات الضرورية عن الشؤون العامة، وبعون الله العلي القدير نسعى لنشر هذه الجريدة التي سميناها الوقائع المصرية".

تلى هذه الافتتاحية عنوان كبير "صناعة المحروسة" وهو عبارة عن الأخبار الواردة من شتى مؤسسات الدولة لم تظهر معنونة في العدد التالي الصادر في 9 جمادي الآخرة 1244 (17 كانون الأول (ديسمبر) 1828)، وان الوقائع اتخذت مظهرا يميزها كجريدة حقيقية. ولذا يجدر بنا التحدث عن الجرنالات التي شكلت الاساس الذي قامت عليه هذه الدورية.

لقد أمر محمد علي باشا بانشاء دفتر الحوادث اليومية لدى المعية السنية أو مجلس الشورى، وأوكل الاشراف عليه لكل من فخري أفندي وأمين أفندي. هذا الدفتر بالذات جعل من التقارير الكشوف ذات أهمية كبرى في حياة البلاد الادارية، واستبدلت بكلمة الدفتر "الجرنال" المأخوذة عن الايطالية (والأقل رجوحا عن الفرنسية) فهي اذن كلمة دخيلة على العربية والتركية معا. تجمع على شكل جرنالات أو جرانيل وسرعان ما أنشئ قلم الاقليم والجرنال لدى المعية السنية وتسلم ادارته دايت بك معاون الخديوي، وعلى اساسه قام ديوان الجرنال 1828 في القلعة مقر الخديوي، اقتصرت مهمته بداية على تنظيم ومراقبة اعمال الدواوين في القاهرة ومصر العليا ومصر السفلى وفقا للتقارير والكشوف المرسلة من المصالح الحكومية في العاصمة وبقية المدن والريف.

اضف الى ذلك ان محمد علي كان يمسك بزمام السلطة ويفرض على جميع الدواوين والمجالس التابعة لها ارسال التقارير بصورة منتظمة الى مجلس الشورى والتي كانت تجمع وتنسق تدريجيا فيما عرف بالجرنالات اليومية. فكانت المهام الرئيسية لديوان الجرنال تتركز في ترتيب وتصنيف التقارير والأخبار والمعلومات، ومن ثم نشرها واذاعة أوامر الحكومة واعلاناتها وسائر الحوادث اليومية.

اضافة الى مجلس الشورى كان هناك ما يسمى بديوان الخديوي أو الديوان الملكي المصري أو ديوان القلعة، نسبة الى مقره، بادئ ذي بدء لم يكن له أي فرع خاص، وكانت الجرنال تنظم وفقا للمعلومات الواردة من ديوان الدعوة (القضاء) . أما التقراير الواردة من رؤساء مخافر الشرطة الى المدير القائم بأعمال ناظر الديوان حول الشؤون الخارجة عن نطاق صلاحياتهم، كتنظيم العمليات المعادية للحكومة والجرائم الخطيرة وعمليات التشهير وغيرها، فقد مثلت الأساس الذي قامت عليه الجرنالات.

وبقدر ما كانت جرنالات ديوان الجرنال هامة فان جرنالات الديوان الخدمي أصبحت أعظم أهميةب النسبة للجريدة الرسمية، بمعنى أن الوقائع الصمرية أصبحت بمثابة جرنال جامع وشامل لكل الجرنالات الأخرى في البلاد المصرية، ومن الظاهر أن وفرة المعلومات الصادرة عن دوائر الشرطة بالقياس الى أخبار الديوان الخديوي، هي التي أثارت دهشة رينو واستغرابه عند رؤيته لجريدة الوقائع المصرية .

كان الكاتبان المعاصران دي غادلفين وبارو قد نشروا في باريس عام 1837 كتابتهما المعنون "تاريخ حرب محمد علي في سورية وآسية الصغرى ضد الباب العالي العثماني 1831-1833" ضمناه ملحقا بالوثائق الرسمية تحت اسم "نشرات الجيش السوري" . وقد أفاد الكاتبان ان هذه النشرات كانت تعد في القاهرة وتذاع في سورية، وأكدا أن النشرة ذات الرقم 10 لم تر النور قبل نشر كتابهما. وهكذا، فالنشرات قيد البحث تشير الى مصدر الأخبار القادمة من ساحات المعارك عن طريق نشرة المركز العسكري (كلمة نشرة بالفرنسية مكتوبة بحرف صغير) و"جرنال الجيش السوري (كلمة جرنال مكتوبة بحرف كبير).

من الواضح أن كلمة "نشرة" يجب اعتبارها مرادفا لكلمة جرنال (جرنال الجيش الموجود في سورية أو قيادته المركزية)، أو تلميحا الى الجرنالات – النشرات اليومية العسكرية التي لا تزال محفوظة في أرشيف الديوان الملكي. ولكن، كيف نفرق بين كلمتي "النشرة" و"الجرنال" المشار اليهما أعلاه، وكيف نتفهم مغزاهما؟ ترى هل هي اشارة الى جريدة منتظمة كانت تصدر في الأراضي السورية من القيادة العسكرية المصرية؟ اذا قدر لمثل الصحيفة الوجود فمن المفترض أن تنشر بلغتين كالجريدة التي أشار اليها المؤرخان دي غالدلفين وبارو "غزيت القاهرة العربية والتركية" لأن كبار الضباط وضباط الصف في الجيش المصري كانوا يجيدون التركية بينما غالبية الجنود ممن يتكلمون العربية ولا يجيدون القراءة. ويحتمل أيضا أن تكون الجريدة فرنسية اللغة لوجود عدد غير قليل من الضباط الفرنسيين ذوي الرتب العالية في سلك الضباط، فضلا عن توفر قاعدة الحرف اللاتيني في ارض الشام. الأمر الذي دفع محمد علي لاصدار جريدة تعرف الرأي العام الأوروبي على خططه المعادية للسلطان التركي، وكسب تأييده ومناصرته في الحرب الدائرة. ونذكر في هذا المقام أنه بعد احتلال مصر لسورية شن ألكسندر بلاك مدير تحرير لومنيتور أوتومان الموالي للأتراك والحاقد أشد الحقد على العرب – شن حملة اعلامية ضخمة على المصريين، فكان رد الفعل الفوري من قبل الخديوي محمد علي أنه أمر باشناء جريدة لومنيتور إيجبسن الفرنسية (1833-1834).

ومهما يكن من أمر، فان جريدة الوقائع المصرية ظهرت باللسانين العربي والتركي مع رجحان كفة الأخيرة، برعاية الدكتور كلوت بك الذي فوض ادارتها وتحريرها الى العالم رفاعة رافع الطهطاوي.كما كانت الجريدة تصدر ملحقا فرنسيا غير دوري بعنوان "انفورماسيون إجبسن" (أخبار مصر). وقد تولى تحرير القسم العربي بعد الطهطاوي كثير من أرباب الشهرة الواسعة في العلم في مقدمتهم حسن العطارن وفي القسم التركي سامي بك (سامي باشا لاحقا) . ومن الجدير بالذكر أن الصحفي الارمني أنطون ديوري من الأستانة لعب دور كبير في مناصرة الجريدة. وما ان تسلم حسن العطار مشيخة الأزهر سنة 1832 حتى ناب عنه في الجريدة تلميذاه شهاب الدين المكي (نحو 1796-1857) وعبد الرحمن السعودي. وقد أسهم شهاب الدين الملقب بشاعر القاهرة اسهاما كبيرا في تطوير الموسيقى والعلوم التطبيقية.

المدارس المصرية العلمانية

بالاضافة الى ذلك أنشأ محمد علي باشا المدارس العلمانية العامة لأول مرة في التاريخ المصري . فقد تأسست 66 مدرسة ابتدائية بلغ عدد تلامذتها أكثر من ستة ألاف، تراوحت أعمارهم ما بين 8 و12 سنة. وقد كانوا يدرسون العربية والحساب لمدة ثلاث سنين. وكان المتفوقون من خريجي هذه المدارس زهاء 2200 متخرج سنويا يلتحقون بالمدارس الثانوية (التجهيز) في ابي زعبل والقصر العيني والإسكندرية وغيرها. ويدرس في كل منها مئات التلاميذ (800 في مدرسة القصر العيني)، بالاضافة الى ما مر، اللغة التركية والتاريخ والجغرافية والرسم ، وبعد التخرج من التجهيز يرسل المتفوقون الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و19 سنة الى مدارس خاصة على الطراز الأوروبي مثل مدارس الطب والصيدلة والتوليد والزراعة والادارة المدنية والحسابات، والألسن والترجمة ، والصنائع والفنون، والموسيقا العسكرية، والكيمياء والتعدين والمشاة، والفرسان والمدفعية. وقد بلغ عدد التلاميذ في ثلاثة أنواع منها نحو 900 تلميذ يلبسون زيا موحدا ويعيشون في الاقسام الداخلية، حيث يطعمون مجانا ويتقاضون رواتب خاصة.

أولى هذه المدارس الكبرى هي مدرسة الهندسة التي أنشئت عام 1816 في القاهرة ونقلت الى بولاق عام 1934. كان ابراهيم الدسوقي (1811-1883) كبير المصحيين في المدرسة ، فبرز في ميدان تعريب المصطلحات العلمية الأوروبية وتصحيح الكتب العلمية المترجمة. وفي عام 1849 تولى ادارة مطبعة بولاق وتحرير الجريدة الرسمية "الوقائع المصرية".

تأسست مدرسة الطب عام 1827 والصيدلة عام 1829 في أبي زعبل، ونقلت المدرستان الى القصر العيني عام 1832 وحولتا الى معهد عالي للطب والصيدلة تعلم فيه زهاء 300 طالب، وأشرف على ادارته أساتذة وخبراء فرنسيون وايطاليون واسبان وألمان برئاسة الدكتور كلوت بك، بينما كان الشيخ الأزهري محمد بن عمر التونسي (1789-1857) صلة الوصل بين الأساتذة الأجانب والطلبة، ولاسيما في مجال تعريب المصطلحات الطبية، وكانت مدرسة طب الحيوان (البيطرة) الرابعة في الترتيب، اذ تأسست عام 1828 في دمياط ، ثم نقلت الى أبي زعبل ومنها الى شبرا. كان يدرس فيها 120 طالبا، وأساتذتها من الفرنسيين تحت اشراف هامون وبربيتو. وفي عام 1834 تأسست مدرسة التعدين، وفي 1836 مدرسة الزراعة.

وقد أشرف الخبراء العسكريون ولاسيما الضباط الفرنسيون الكلونيل سيف (سليمان باشا الفرنساوي) بداء من سنة 1819 والمشير بوابيه والعميد غودييه، بدءا من سنة 1824 على ادارة مركز التدريب الحربي في أسوان (لاحقا في خانقاه وبنا حليم)، كما ترأس ضباط المعهد البونابرتي وفي مقدمتهم بولونين مدرسة المشاة في دمياط، والضابط فارين مدرسة الفرسان في الجيزة، وتسلم البرتغالي انطونيو دي سيغارا (بمساعدة الضابطين البونابرتيين غوندار ديو فينيور ورييه) ادارة مدرسة المدفعية (البجية) في طره (قرب القاهرة) . كانت تدرس بالاضافة الى اللغتين التركية والعربية مواد كثيرة في الفن الحربي والرياضيات والهندسة والجبر والميكانيك والرسم. كل ذلك جعل مهمة نقل العلوم العسكرية الى اللغتين التركية والعربية من المهام العاجلة والملحة. كان المترجمون الوطنيون المسلمون منكبين أساسا على ترجمة كتب التاريخ أمثال مصطفى الشرابي وحسن السعودي وعبد الله حسين وحسين افندي. بينما انشغل المترجمون النصارى المصريون والسوريون بنقل العلوم الدخلية. وقد اشتهر منهم حنين عنحوري ويوسف فرعون ويعقوب الجبيلي واوغنسطين سكاكيني وجورجي فيدال. وسعيا من الحكومة لرفع مستوى الترجمة والتحرير في الدواوين أنشأت مدرسة الألسن والترجمة سنة 1835-1836. وكان يدرس فيها بالاضافة الى اللغات والآداب الشرقية والأوروبية العديد من المواد الأخرى غير الأدبية، التي ساهمت في توجيه مترجمي المستقبل والعاملين في مجال السلك الدبلوماسي والحقول الأخرى توجيها سليما، ولاسيما ما يخص اتقان المصطلحات العلمية الحديثة، وفي عام 1842 أنشئ "قلم الترجمة" التابع لمدرسة الألسن، الذي تولى رئاسته رفاعة الطهطاوي، فقام العاملون في هذا القلم بترجمة أكثر من مئتي كتاب الى اللغات العربية والتركية والفارسية.

وسعيا من أبو لغد لابراز أهمية التغييرات الفكرية والثقافية في عصر محمد علي، اظهر اصرارا شديدا حين ادعى ان جميع الكتب المترجمة المذكورة اعلاه كانت قد ترجمت الى اللغة العربية ، محاولا ايهام القارئ بأن النهضة الفكرية في مصر في القرن 19 لم يكن لها نظير أبدا. وعلى كل حال، أسدى "قلم الترجمة" خدمات جليلة في مضمار تطوير علم الطب العربي (وغيره من العلوم الدنيوية)، لأن المترجمين والمؤلفين من الأطباء والصيادلة في العصر الأول من النهضة أمثال ابراهيم النبراوي، وأحمد حسن الرشيدي وحمد علي باشا البقلي، ومحمد بك شافعي، ومحمد عبد الفتاح وغيرهم ممن تلقوا علومهم في أوروبة أو الوطن، خلفوا آثارا مترجمة أو مؤلفة في الطب وفروعه، والطب البيطري والهندسة والترابة.

من الطبيعي أن تاسيس مدرسة الألسن كان في باب المستحيل لو لم يقم محمد علي بارسال البعثات العلمية من نبهاء الطلاب سنة 1809 وفي 1826 للدراسة في جامعات فرنسة وانكلترة وايطالية. وقد اشارت المصادر التاريخية ومن بينها كتاب عمر طوسون، الى أن عدد الطلبة المصريين من عرب وأتراك وأقباط وأرمن وأحباس كان قد وصل الى 350 طالبا. أما أبو لغد فيشير الى الرقم 408 ابان فترة 1826-1863، من بينهم 3198 طالبا خلال سني 1826-1848. وفي مطلق الأحوال كان معظم هؤلاء الشبان ممن وقفوا حياتهم على الخدمة العسكرية التقنية، ولذلك وجب عليهم أن يستوعبوا المواد الاجبارية (الرياضيات والهندسة والجغرافية والتاريخ والرسم) ويتعمقوا في اختصاص من الاختصاصات التالية: الفن الحربي، الهندسة العسكرية، المدفعية، البحرية، الادارة المدنية والحسابات، والدبلومكاسية (وبضمنها القانون الدولي وجملة المصطلحات الدولية) وعلم الاقصتاد (التجارة والأعمال المصرفية) والزراعة (ومن ضمنها الآلات والمعدات الزراعية) والطبيعيات والبيطرة والطب والصيدلة والكيمياء (وبضمنها صناعة البارود والورق والسكر) والميكانيك والتعدين والمنشآت المائية (الجسور، والقنوات، القناطر، السدود، والنوافير) والبناء والفن المعماري والحفر والنقش وأخيرا الترجمة.

وتعجيلا لثمار سعيه في اعداد الجند المنظم عهد محمد علي الى المستشرق الفرنسي جومار باختيار ستين شابا من أمم مختلفة للدراسةف ي فرنسة وهي البعثة العلمية الأولى. وقد ذكر زيدان وطوسون بعضة وأربعين شابا، ورغم الأخطاء الواردة في جدول البعثة الأولى، فان المصدرين المذكورين يظلان أكثر من غيرهما، وحسب طوسون وزيدان فان ثلاثة من الموفدين كانوا من الرؤساء ذويي المناصب العليا وهم: عبدي أفندي المهردار في الادارة المدنية، ومصطفى أفندي مختار الدويدار في الادارة العسكرية، والحاج حسين الاسكندراني في البحرية (الأول والثاني تركيان والثالث عربي). وثلاثة من رجال الدين العرب وهم: الشيخ العلوي والشيخ محمد الرقيقة والشيخ رفاعة الطهطاوي. أما البقية فكان توزعهم القومي على الشكل التالي: 4 أرمن مسيحيون، و5 جركس، و2 كرجي (جيورجي) مسلم، واحد يوناني مسلم، واحد لاز، و27 تركيا.

ثمة اعتبار هام يثير انتباهنا أكثر من تحديد عدد الطلبة أو هويتهم القومية، فقد ذكر الشيخ رفاعة الطهطاوي، إمام البعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي الى فرنسة، أن مصريا (لا يذكر اسمه) كان يعيش في مرسيلية استقبل البعثة وقدم لأفرادها ما يلزمهم من عون ومساعدة، وقد عارض كريمسكي مقولة المستشرق براون الألماني: "ان الشخص المذكور لم يكن سوى الكونت رشيد الدحداح الماروني"، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك أن ذلك الشخص هو هوسيب هاكوب (يوسف آغوب) باشا (1795-1832) الأرمني المصري الذي عاش في مرسيلية وتفرنس الى حد بعيد، وكان أول من استقبل البعثة العلمية المصرية . ومما لا شك فيه أيضا أن هاكوب هذا هو سليل هاكوب الأرمني (يعقوب الأرمني) الذي كان حلقة الوصل في المفاوضات المصرية الروسية ابان ستينيات القرن الثامن عشر يوم رفع علي بك المملوكي والشيخ ضاهر العمر السوري راية التمرد على السلطان التركي، فكانا على قناعة تامة بأن السلاح الروسي هو الضمانة الوحيدة لتحقيق النصر. وكان رسولهما الأرمني يؤمن الاتصال الدائم مع الاميرال الروسي أرلوف الراسي بأسطوله في شرقي المتوسط. وقد عين في عام 1826 ، هوسيب هاكوب "المنحدر من أسرة أرمنية مستعربة" – على حد قول التقليد المتبع في الأدب الاستشراقي – أستاذا لتعليم اللغة الفرنسية للطلبة المصريين، أي انه كان الواسطة الأساسية في ايصال المعارف الأوروبية الى عقولهم وقلوبهم. وكان من المعجبين جدا باصلاحات محمد علي الثقافية لدرجة انه نظم فيه قصيدة مديح بالفرنسية عنوانها "القيثارة المهشمة" ، ترجمها الطهطاوي ونهشرها في باريس سنة 1827، بعنوان "نظم العقود في كسر العود". ومن الجدير بالذكر ان كراتشكوفسكي صنف آغوب باشا في طبقة الشعراء العرب الذين كتبوا بلغات أجنبية، معتبرا أشعاره هامة جدا من زاوية النظر الى الفكر العربي ككل.

ونؤكد بهذه المناسبة أن الأرمن هاروتين تشراكيان (آرتين أفندي) (1803-1859) وستبيان سيباستياتسي (آسطفان أفندي سباسطية)، وخسروا تشراكيان الأرمني (خسرو أفندي) كانوا في البعثة العلمية الأولى الى باريس حتى عام 1831، حيث ظلوا هناك فترة 1826-1831، ولحق بهم في فترة 1828-1835 كل من هوسيب هيكيكيان ونوبار نوباريان 1844-1849 ومن 1849-1856 هاروتيون ختشادوريان وغيرهم.

هذا ويرجع بالفضل في تجديد مدرسة الهندسة (المهندسخانة) لكل من جراكيان بك وهيكيكيان (1833). كما أوكل الى كل من هيكيكيان مهمة اعادة تنظيم مدرسة الصنائع وادخال قسم الفنون فيها. والى يعقوب أفندي ادارة مدرسة الزراعة المنهارة، والى يوسف كشفي الأرمني ادارة مدرسة التعدين، وبمبادرة من جراكيان بك وأسطفان الأرمني أنشئت في القلعة سنة 1834 مدرسة العاملين في دارة الاقطاعات ، أضف الى ذلك أن محمد علي أمبر بفتح مدرسة مصرية خاصة في باريس سنة 1836 يديرها اسطفان بك، ووكيل له أرمني اسمه خليل أفندي جراكيان. فأرسلت الحكومة نحو أربعين طالبا للتفقه في العلوم العالية وجلهم من أمراء العائلة الخديوية. عمرت هذه المدرسة حتى عام 1867. وكانت المدرسة الحربية بفرعيها العسكري (الهندسة) والإداري (كلية الحقوق) قد تحولت عام 1844 الى مدرسة أركان حرب، فأوكل منصب المدير المفوض الى أسطفان أفندي سباسطية، ونظارتها الى خليل جراكيان. وكان أبناء وأحفاد محمد علي باشا وفي جملتهم حليم وحسين (أبناء) وأحمد واسماعيل (أبناء ابراهيم) يتلقون تعليمهم فيها . واتفق ان ابراهيم باشا مر بتلك المدرسة أثناء سياحته في أوربة ومعه سكرتيره نوبار باشا الأرمني، فأعجب بنجاحها ومستوى العلم فيها.


تقييم اصلاحات محمد علي الثقافية

من الملاحظ أن المجتمع الاسلامي المصري (ليس فقط في اطار الإمبراطورية العثمانية، بل وفي ديار الإسلام قاطبة) نال بفضل اصلاحات محمد علي امكانية لا نظير لها للسير قدما في طريق التقدم الفكري – الثقافي ربما يتماشى وروح العصر الحديث. ويؤدي الى تبديد جهالة القرون الوسطى الحالكة. واذا كانت اصلاحات محمد علي لم تحظ – كما سنرى – بما تستحقه من تقدير فان بعض الذنب يقع على ضيق أفق محمد علي شخصيا، وعلى محدودية المشروعات الاسلامية التي طرحها. فان معظم الاثم كان من نصيب التخلف والقصور السائدين في المجتمع المصري.

قال كلوت بك في حينه: "محمد علي هو العثماني الوحيد الذي سعى لرفع مقام الجنس العربي"، مؤكدا في ذات الوقت ان اجل خدمة قدمها للنزعة العربية تمثلت في نشر نور المعرفة بين العرب. ويسود في التاريخ العربي والأوربي الغربي رأي مفاده ان اصلاحات محمد علي في الميدان الثقافي التعليمي كانت الامتيازات الوحيدة الخالصة التي وهبها حكمه الى البلاد المصرية، والتي تحولت في آخر المطاف الى حافز عظيم لتكوين الأمة المصرية. ومن أن محمد علي نجح في استيعاب الأفكار الحديثة وتمكن من اقلمتها مع الظروف المصرية الجديدة. وهو ما لم يقدر عليه أي من الحكام العثمانيين المعاصرين له. والأهم من كل ذلك نجاحه في تحقيق المشاريع التعليمية الكبرى.

يصعب علينا انكار مصداقية هذا الرأي، ولكن يجب ألا ننسى ان التحولات الفكرية الثقافية التي شهدتها مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي بدد نورها ظلمات الشرق ، لم تتحول للأسف الى حركة تنويرية بفعل قصور ومحدودية القاعدة التي قامت عليها التدابير الثقافية، ونتيجة للعفوية والسطحية اللتين رافقتا مسار التغيرات الاجتماعية والاقتصادية. هذا أمر لا يثير الدهشة والاستغراب، فمن مسلمات المادية التاريخية ان البناء التحتي يمثل مجموعة العلاقات الاقتصادية الاجتماعية الكامنة في أساس البناء الفوقي الذي يمثل مجمل العلاقات والآراء الأيديولوجية السياسية والقيم الروحية والعادات والأخلاق وماشابه ذلك ، وبشهادة بلان رئيس أركان حرب محمد علي "هزت الاصلاحات الجديدة أركان المعتقدات السلفية والقيم الأخلاقية السائدة، فجائت معارضة للعادات والتقاليد السائدة في البلد؟ ، لا بل وأكثر من ذلك "عم الاستنكار المبطن عقول الناس".. ولو كان بالامكان قراءة أفكارهم، لما عثرنا حتى على ثلاثة أشخاص ممن يؤيدون النظام الجديد بقوة وحماسة". وليس مصادفة أن محمد علي اعترف خلال حديثه مع باروينغ الاقتصادي الانكليزي سنة 1840 بما يلي: يجب ألا يكون حكمك علي بمستوى معارفك.. بل يجب ان تقارن بيني وبين الجهل المحيق بي.. ثمة قليل من الناس الذين يفهمونني وينفذون خططي ومشاريعي.. كدت أكون وحيدا طوال حياتي، فلم أجد شخصا يفهمني سوى بوغوص بك (بوسفيان)". وأكد كلوت بك أيضا "أن معارضة تدابير الباشا المارقة كانت قوية جدا داخل البلاط، لا بل وبين الفئات الدنيا من السكان، حيث كان الأبرياء يشوهون أبنائهم لانقاذهم من التعليم الالزامي في المدارس الحديثة". وذكر صبري ان القليليين جدا كانوا مفتوننين بالمدارس التي تقدم لهم التعليم والسكن والطعام والملبس مجانا، لا بل ورواتب خاصة. ومن الغريب العجيب أن بعض التلامذة كانوا يقتصدون في طعامهم وجعالتهم لتقديمه للأهل الجائعين. وكانت الأسر العريقة في الإسكندرية التي لم يكن بمقدورها رفض طلب نائب الملك بارسال أبنائهم للتعلم في أوربة تلجأ الى المراوغة والخداع فترسل أبناء الخدم باعتبارهم من الأقرباء. وكان محمد علي يقرأ باستغراب أمثال هذه التقارير ويردد قوله: "اذا كانت هذه المخلوقات البشرية لا تدرك مزايا التعليم والتجارة، فانهم كالحمير التي تحمل الأثقال على أصلائها".

كان هذا أملا لا محيد عنه في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، فكلوت بك المعاصر للأحداث والعارف بكوامن الأمور كان يقول: "ان جماهير الشعب المصري غارقة في بحر الظلمات، ولو ضربنا صفحا عن بعض التلامذة الذين يتلقون التعليم في المدارس العصرية، فاننا لا نجد في طول البلاد وعرضها سوى بعضة أناس يجيدون القراءة والكتابة، ومعارفهم لا تتعدى حدود الشعر والكتب الدينية".

ويعتقد المؤرخ م. صبري ان من سوء حظ محمد علي انه لم يحظ بتدعيم جماهير نشيطة، أو حتى بتأييد نخبة من رجال الفكر، ولكنا نظن أن تعاسة الخديوي لها وجوه أخرى.

أولاها أن محمد علي الأمي الذي كان يتكلم التركية في الماضي كاد يصبح شبه متعلم في آواخر حياته، حقا انه أقر هذا خلال حديثه مع الإنجليزي باروينغ فقال: "لم أتمتع بفضائل التعليم المبكر، بل تعلمت القراءة والكتابة وأنا في السابعة والأربعين من عمري" وهذا الاقرار نعثر على أمثاله في متون كتب التاريخ الأخرى، التي تجزم بأن الباشا الكبير تعلم أخيرا فك الحرف في الخامسة والأربعين، غير أن هذا لا يطابق الواقع البتة، فقد أفاد كلوت بك (وهو المصدر الأساسي لمثل هذا الجزم، وليس أبدا تقرير باروينغ صعب المنال للقليلين جدا) بأن الآخرين كانوا يقرؤون له الجرائد ويترجمون محتواها، ثم يستطرد قائلا: "انه كان يجيد العد رغم انه لم يتعلم مبادئ الحساب.. شرع يتعلم القراءة في الخامسة والأربعين لكنه لم يجد الوقت الكافي ولا العزم الجاد للوصول الى مبتغاه.. ناهيك بأنه لم يكن يجيد أية لغة أجنبية". وقد كرر أحد معاصري كلوت بك ذات الفكرة فقال: ان احدى إماء "الحريم" هي التي أطلعته على الحروف العثمانية، ومن ثم وظف احد المشايخ لتعليمه الكتابة". أما جراكيان أمين سر الخديوي وناظره للشئون الخارجية، والذي كان على اتصال دائم بمحمد علي، فقد قال: " وخلافا لما اشيع عنه في انه تعلم القراءة في السابعة والأربعين، فانه كان ذواقا للأدب أكثر من جميع الأتراك، وكان يحاول مطالعة الكتب عن نابليون أو يأمر بمطالعتها له. ناهيك بأنه أبدى اهتماما عظيما بكتاب "روح القوانين" لومنتسيكيو". وفي مكان آخر يحكي جراكيان فيقول: "لقد طالع الخديوي في غضون ثلاثة أيام نحو ثلاثين صفحة من كتاب "الأمير" لميكافلي الذي أمرني بترجمته له ثم قال لي معلقا: "لم أجد جديدا في الصفحات العشر الأولى، ولكنني لم أقنط وقرأت عشر صفحات أخرى، فلم تكن أجود من سابقتها، أما العشر الأخيرة فكانت تكرارا لما أسلفت، وأيقنت بأن لا جديد اتعلمه من ميكافلي، وفيما يخص الدهاء والحيلة فاني والله أعظم منه في هذا الباب، ولذلك أعفيك من مشقة الاستمرار في ترجمته لي".

تجدر الاشارة الى وجه آخر من وجوه سوء طالع محمد علي ، كانت اللغة العربية في عداد اللغات الأجنبية التي لم يتقن محمد علي أي منها، لأنه ظل يعاشر أبناء البلد ويحاكيهم بواسطة ترجمان حتى الرمق الأخير. "كان نموذجا للتركي في كل شاردة وواردة، ورغم معرفته القليلة باللغة العربية، كان يتحدث بها برطانة تركية – على حد تعبير كاميرون. وقد أعرب م. صبري عن أسفه قائلا: "كان نائب الملك تركيا بكل عواطفه وجوارحه" رغم أنه "تبنى المصالح المصرية فكانت عزيزة على قلبه لأنها متطابقة تماما مع منافعه وطموحاته الشخصية، ولكن لم يكن بمقدوره ابدا اظهار مشاعر مصرية خالصة". ومن جانب آخر، كان عثمانيا قحا "في حذره وتخوفه، اذ كان يخشى المصريين، ويفضل ان تكون حاشيته من الأتراك، الذين كان يغدق عليهم المناصب والوظائف الرفيعه المقام، وينفق عليهم بسخاء منقطع النظير من أمواله".

"الأتراك هم أسياد البلد" على حد قول أحد المعاصرين، وكتب أحد الدبلوماسيين الإنكليز الواسع الاطلاع يقول: "كانت السلطة في عهد محمد علي متركزة بأيدي الأقلية التي حكمت الأكثرية. انه حكم الأتراك الأجانب الغرباء على المصريين الوطنيين". وهذا ما أكده العالم – الدبلوماسي الروسي قسطنطين بازيلي بقوله حرفيا: "استبدل محمد علي بالحكم الاستبدادي لعشرة آلاف من المماليك حكما مماثلا لعشرة آلاف من الأتراك". وعن هذا الموضوع يقول باروينغ: "ان أقل الناس شأنا ممن يتحدثون التركية يعدون أعظم مقاما من الوطنيين المحليين؟ فالأولون ينتمون الى طبقة رفيعة جاها ومكانة" وبالفعل كان مديرو المديريات السبع من الأتراك طرأ حتى أواخر الثلاثينيات. وكان من المفروض على السياح الأجانب قبل مغادرتهم للعاصمة أن يجدوا مرافقا لهم يجيد اللغة التركية بقدر اجادته للعربية".

وفي الجيش الجديد الذي أسسه محمد علي ، كانت غالبية الضباط من الأـراك، وأسماء جميع الرتب بالتركية (ما عدا اثنتين)، فضلا عن أن التدريس في المدارس الحربية والأوامر العسكرية كانت باللغة التركية. وقد اشار جرجي زيدان إلى أن نحو 500 من طلبة المدرسة التجهيزية الحربية في قصر العيني من المماليك والأتراك والأكراد والألبانيين والأرمن واليونان وغيرهم ممن كانوا في خدمته. وليس فيهم وطني واحد. أي أن العرب لم يدخلوا حتى في اطار تعبير وغيرهم. ولذا كانت التركية لغة التعليم، اما اللغات الأجنبية المدرسة فيها فهي على الترتيب الآتي: تركي –فرنسي – عربي – ايطالي. وأكثر من ذلك، فاللغة العربية لم تدخل في اطار البرنامج الدراسي في مدرسة أركان حرب الضباط، في أبي زعبل، التي انشئت على أساس فرنسي ، وكان ضباط المستقبل يتخرجون فيها دون أن يعرفوا سوى اللغات الفرنسية والتركية والفارسية. ناهيك بأن محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا كانا يأمران باستعمال اللغة التركية فقط ابان اجتماعات ومناقشات ارباب السلطة والدوائر الحاكمة.

بينما جزم حنا الفاخري وغيره من الكتاب العرب وبعض المستعربين السوفيين ان حمد علي أعلن العربية لغة رسمية في مجال الشؤون الادارية القضاية، ومثل هذا التأكيد لا يمكن أن يكون أهلا للثقة. اذ ان العكس كان صحيحا، فاللغة العربية الفصحى ابان الحكم التركي في مصر ظلت محصورة في أوساط رجال الدين المسلمين، وأما العربية المستخدمة في الدواوين والمؤسسات الادارية فلم تكن سوى خليط من العربية والفارسية. وها هو ذا محمد علي يطرد اللغة العربية العصية على اداركه لغويا ونحويا ولفظا وتعبيرا من ديوانه الملكي والدواوين والمجالس الأخرى، ليعلن دون أي تردد ان اللغة التركية العزيزة عليه معزة النفس، يجب أن تكون اللغة الرسمية، وانا صح الرأي القائل بأن الاوامر الحكومية والاعلانات والتوصيات والقوانين وغيرها من الوثائق والمستندات كانت تذاع باللغتين التركية والعربية (رغم أن الأخيرة بقيت ظلا للأولى) ، فان الالتماسات والطلبات كانت تترجم الى التركية من قبل كتاب العدل والا اعتبرت لاغية.

وكتب العلامة الإنكليزي لين، وهو مق فيما ذهب اليه، لا يجوز لنا وضع محمد علي في عداد الحكام المستنيرين حقا، وفي هذا الموضوع جاهر كلوت بك بما يأتي وحبذا القول: : لا يجدر بنا النظر الى نائب الملك كرسول حضارةن بله ذلك الرجل الذي لم يتعلم من المجتمع الذي ولد فيها (العثماني) ولم ير تأييدا من الناس المحيطين به (المصرييين العرب) ، وعلى الرغم من كل ذلك فقد سعى بمهارة فائقة الى رفع مقامه أولا، والحفاظ على نفسه ثانيا". أما ف. دور المربي السويسري الكبير، الذي ساهم في تأسيس الجامعة المصرية والعلامة غير المنازع في حقل التربية والتعليم فقد قال: "لقد جعلوا من محمد علي رجلا انسيا. وهذا منافق للحقيقة تماما" – نطق بهذا الكلام معارضا أولئم الأوربيين الذين بالغوا الى حد الافراط في تقدير الاصلاحات الثقافية التي قام بها محمد علي . مؤكدا في ذات لاوقت ان الخديوي فتح المدارس ليس شغفا بتعليم الجماهير الشعبية وانطلاقا من اهداف انسية، بل وبكل بساطة حبا في مصالحه ومنافعه الشخصية، وتوطيدا لأركانه السياسية الاقتصادية في البلاد المصرية".

"ماذا فعل محمد علي لمصر؟" العنوان البليغ لمقال الشيخ محمد عبده امام الاصلاحيين العرب في الاسلام، والذي اتهم فيه نائب الملك بحبه للنزعة العسكرية الحربية، والذي جعل من الناس أدوات لحكمه وحول البلاد كلها الى ملك خاص به وبأسرته".

ويتفق معظم الكتاب العرب المعاصرين مع الآراء التي ذكرناها آنفا، فأنيس المقدسي يؤكد قائلا: "كانت النهضة في عصر محمد علي نوعا من الفعل الرسمي قامت به الدولة انطلاقا من موقعت مصلحتها الخاصة". أما المؤرخ ج. أحمد فقد خلص الى ما يلي: "كانت السياسة التعليمية التي انتهجها الخديوي تعبيرا عن أهدافه الرامية لخلق جيش نظامي وأسطول حربي على الطراز الحديث".

ثمة شبه اجماع لدى نخبة من المستعربين السوفييت، ولعل التقييم التالي الذي اعطاه ليفين يمثل نموذجا كاملا له: ".... ولم يكن هدف التحولات التي قام بها الباشا المصري يتمثل في التطوير التقدمي للعلاقات الاجتماعية بقدر ما كان يمتثل في توطيدها روح اقطاعية". وكانت ايفانوف في كتابه المكرس لتاريخ مصر الحديث: "ان الاصلاحات الاقتصادية والعسكرية والتقنية التي اجراها محمد علي في مصر تخضع كلها لهدف واحدة نابع من صميم سياسة النزعة الاسلامية، وليس هناك خطأ فادح من تلك المحاولات السابقة الرامية لتصوير محمد علي شخصيا مؤمنا بعملية الأوربة، فالمضمون الجوهري لاصلاحاته تمثل في نزوعه الى القضاء على التخلف العسكري – التقني السائد في البلاد الاسلامية، دون المساس بالبنى الاجتماعية والسياسية والاخلاقية. كان محمد علي تواقا لالحاق الهزيمة بأوربة بواسطة السلاح الأوربي". وما يستوقفنا حيال هذا الموضوع الحقائق الصارخة الآتية وهي أولا: ان 1956 طالبا من أصل 2761 العدد الاجمالي لشتى الدارسين في مصر خلال العام الدراسي 39/1940، أي نحو 70% كانوا يتقاطرون على المدارس الحربية. ثانيا: ان نظام التربية والتعليم كان بكامله خاضعا لوزارة الحربية حتى العام 1836، فأنشا محمد علي سنة 1837 ادارة خاصة سماها ديوان المدارس، وهي التي سمت بعد ذلك نظارة المعارف. واليك أعضاء ديوان المدارس عند أول تكونه: رفاعة الطهطاوي، كلوت بك، ارتين بك (والد يعقوب باشا آرتين)، جراكيان بك/هيكيكيان بك، دمرجيان بك، وعين مختار بك رئيسا لهذا الديوان فكان أول ناظر للمعارف في مصر. وبين أعضاء هذا الديوان جماعة من تلاميد البعوث الذين تخرجوا في باريس نضرب صفحا عن سرد أسمائهم.

وانصافا منا للحقيقة التاريخية نقول: ان التدابير الثقافية التي اتخذها محمد عي – رغم طابعها العسكري – معدت تربة صالحة لنشوء نهضة ثقافية قومية في مصر. وصفها العالم الفرنسي جومار بأنها "نهضة" بالمعنى الضيق اقتصرت على "ايقاظ العبقرية الراقدة على شاطئ النيل منذ عدة قرون". وفي أخر المطاف، ان الحركة التعليمية العسكرية الصبغة والطابع توافقت تماما مع تطلعات الطبقة الاقطاعية الاسلامية العربية الجديدة عامة، والمصرية العربية أم غير العربية خاصة، ما دام المثل الأعلى لهذه الطبقة كان متجسدا في فكرة احياء الدولة الاسلامية القوية من خلال الحفاظ على الاقتصاد الاقطاعي المنيعن والجيش النظام ذي القدرة القتالية العالية، والفكر الروحي الكفاحي والقيم الاخلاقية والحياتية التقليدية، وكان محمد علي الألباني الأصل، ولاسيما في طور انتصاراته على السلطان التركي، يجسد البديل الأنسب والأقوى للسلطان – الخليفة التركي الضعيف العزيل. لا بل وأكثر من ذلك، فالاقطاعيون العرب المسلمون كانوا يؤيدون فكرة التنازل عن بعض تطلعاتهم وطموحاتهم لصالح الاصلاحات التي تجعل من ذلك البديل حقيقة واقعة.

ومن البواعث التي ساعدت الى حد ما – على ظهور النتائج القومية لاصحلاات وتدابير محمد علي، هي أن أهدافها التنويرية كانت في الوقت ذاته – متوافقة مع تطلعات وأفكار العناصر البرجوازية المصرية الاسلامية الناشئة (ومن ضمنها البرجوازية المصرية المؤيدة لافضليات الخيار الألباني)، لأن ذلك كان يعني – في آخر المطاف – احياء دولة اسلامية قوية، مع فارق وهو ان الاقتصاد المتين، وتطوير الحياة الاقتصادية التجارية كانا مرهونين بالحفاظ على الرأسمالية الجديدة التي اخذت في التبرعم والاعتراف بحقها الكامل في الانتعاش والنمو المضطرد.


4 – الوعي الاجتماعي – السياسي في عصر محمد علي

كان كارتشكوفسكي قد أشار في حينه الى التقنية الجديدة في الأدب الناتجة عن التأثر بالأدب الأوروبي، والى الصراع بين الأفكار القديمة والجديدة. وبمعنى آخر ، تطرق الى ميدان الأدب البحث علاوة على الفكر الاجتماعي السياسي ، فسجل بحث ثلاثة اتجاهات أساسية في اطار الفكر العربي الحديث:

1- اتجاه المفكرين الرافضين لكل جديد باعتباره مخالفا للشرع الاسلامي فطالبوا باحياء الفكر السلفي. 2- اتجاه الرافضين للتراث العربي القديم جملة وتفصيلا، الذي فضل كل ما هو اوروبي واعطاه الأولوية. 3- اتجاها توفيقيا حاول الجمع بين كل ما هو ايجابي وتقدمي من عناصر التراث العربي وانجازات الحضارة الأوربية.

تشير المعطيات التي أوردها المستشرق الألماني كارل بروكلمان الى أن أرباب الفكر الذين نشطوا خلال نصف قرن من العهد الخديوي قد بلغ عددهم أكثر من أربعين عالما كان ما يربو على النصف من العلماء رجال دين. وينبغي التذكير أن زهاء النصف الآخر اشتغل في حقول الطب والبيطرة أساسا، وفي الهندسة والزراعة.

وفيما يخص مشاهير العلوم الانسانية من المصريين توصل المستشرق الانكليزي الشهير أدوارد لين الى الاستنتاج التالي: "يجب ألا نكون أسرى أوهام بأن ثمة اناسا في القاهرة قدرون على شرح الجوانب الغامضة من الشعر العربي التقليدي. ولكننا نجد في مصر الكثير من المشاهير في النحو والصرف، والبيان والبلاغة، والتأليف والانشاء – رغم أن معظمهم مهتم بالفقه والشرع الاسلامي. وثمة عدد قليل من العلماء الذين يجيدون تاريخ شعبهم، وأقل القليل ممن يعرفون تاريخ الشعوب الأخرى". ويعلق على مسألة الثقافة العامة فيقول: "المعارف الجغرافية شبه معدومة عند المصريين، وحتى بين المثقفين الى حد ما، فالاستثناء عن القاعدة نادر جدا.. ونحن قلما نجد انسانا مصريا متعلما يجرؤ على الاعلان صراحة عن كروية الأرض خوفا من تعرضه لضغط رجال الدين واضطهادهم".

مثلت جبهة علماء الفقه الاسلامي بقيادة شيخ الازهر ونقيب الأشراف المعارضة القوية التي أظهرها رجال الدين والطبقة الاقطاعية، الذين استنكروا تدابير محمد علي وفي مقدمتها الاجراءات الضريبية والزراعية والغاء نظام الالتزامات ومصادرة أملاك الوقوف لصالح الدولة. وعلى الضد من هذا أكد أ. باتون "أن الغالبية الساحقة من العلماء كانوا يضمرون العداء للتقاليد الفرنجية التي أدخلها الباشا، ولكنهم أبدوا مقاومة سلبية واهنة". وقد أسلفنا القول ان نحو عشرة من هؤلاء العلماء أمثال: حسن العطار، وشهاب الدين وأبو السعود والدسوقي وغيرهم، كانوا قد شاركوا بدرجات متفاوتة في التدابير الاصلاحية التي قام بها الباشا المصري.

من المغالطات التاريخية السائدة في الأدبيات الادعاء القائل بأن هؤلاء المفكرين الأوائل مثلوا اتجاهات تنيويرا في النهضة المصرية . وفي الحقيقة، كان معظمهم مناصري الاتباعية السلفية، فمثلا محمد بن عمر التونسي كبير الائمة في مدرسة الطب ظل حتى الرمق الأخير يخطب في المساجد أيام الجمعة، ويشرح الاحاديث النبوية الشريفة. وهو الذي كان مرجعا يعول عليه في تصحيح وتحرير الكتب الطبية المترجمة، لكنه كان من الوعاظ الذين اشتهروا بمعاداة علم الطب. وكان بعضهم الآخر ممن يتملق الحاكم محمد علي باشا فيطرون تدابيره الثقافية، اما لغاية في نفس يعقوب، واما انطلاقا من رغباتهم في رؤية مؤلفات الفيروز آبادي، وابن الأثير، وابن خلكان مطبوعة في مطبعة بولاق. وفي آخر المطاف اذا كانت مطامح الباشا المصري الرامية لتنشيظ الحياة الاجتماعة – الاقتصادية أم الفكرية الثقافية الراكدة غير عزيزة جدا على قلوب المحافظين فانها لم تكن في اي حال من الأحوال تحمل في طياتها اي خطر على مصالحهم الخاصة.

نستنتج من كل ذلك أن التيار الأول كان مهيمنا هيمنة كاملة ومطلقة في الميدان الفكري بمصر ابان النصف الأول من القرن التاسع عشر، أي في الفترة السابقة لشروع محمد علي في اصلاحاته، اذ لم تشكل بعد الشريحة المنظمة من المثقفين المصريين. وقد ظل هذا التيار مسيطرا بالضرورة في الظروف الجديدة. لا بل وحتى داخل شريحة الدارسين في أوربة. وهذا ما أشار اليه الكاتب باتون بقوله "من الملاحظ أن الطلبة المسلمين الذين تعلموا في أوربة وعادوا الى الوطن، يتمتعون بمزاج أكثر حدة ازاء المجتمع الأوربي، مما كانوا عليه قبل ذهابهم".

وقد وصف الكاتب عينه ممثلي التيار الثاني "بأنهم أناس أضاعوا سيمائهم القومي والديني" وأضاف يقول "فباريس لم تستأصل مكة من قلوبهم وحسب، بل وجعلتهم غير مبالين بعظمة العمارة الاسلامية في القاهرة". من الجلي أن تيارا كهذا لا يمكن ان تكتب له الحياة، فاتباعه قلة نادرة لم تجد أذانا مصغية في المجتمع، ولم تكن قادرة على فرض نفسها في المديان الأدبي.

واذن، فالتيار الثالث لافت للنظر أكثر من غيره لاسباب وجيهة. فأبناء الفلاحين الذين شملهم الباشا برعايته وحنانه وعطفه، فارسلهم الى أوربة للتعلم ورؤية الدنيا، ما كان بامكانهم ان يكونوا الا طوع بنان نائب الملك، وجدوا أنفسهم أمام مهمة شاقة وعسيرة، ونعني بها التوفيق بين التراث والمعاصرة، والتدليل على أن الفكر الأوروبي الحديث لا يتعارض والشريعة الإسلامية . ويجب ألا يغرب عن بالنا من جهة أخرى، أن معظم الشباب الذين سافروا للتعلم في أوربة كانوا قد تخرجوا في العلوم التقنية – التطبيقية، وبالتالي فهم غير مؤهلين للقيام بنشاط فكري- ثقافي أو فعاليات تثقيفية –تربية تجد قبولا واسعا بين الشرائح الاجتماعية المتباينة. وبهذا لاصدد كتب ادوارد لين قائلا: "لقد أخبرني بعض الشباب المصريين الذين تلقوا علومهم في أوربة أنهم فشلوا في تقديم صورة حقيقية عن الأفكار التي استوعبوها في أوربة لاقرب الناس اليهم".

وهذا أمر لا ثير استغرابنا اطلاقا، فالواقع الذي لا مراء فيه أن عدد الكتب المطبوعة في بولاق خلال سني 1822-1842 بلغ 243 كتابا، أكثر من نصفهم 125 صدر باللسان التركي قام بترجمته عن الفنرسية جراكيان أفندي ويوسف أفندي وغيرهم من الأرمن الذين درسوا في باريس. وأغلب الكتاب المنشورة باللغة العربية 112 كتابا في التشريع الاسلامي والمصادر العربية العائدة للقرون الوسطى. واذا كان المسوعات مقبولة الى حد ما في مضمار الفن العسكري، اذ صدر 39 من اصل 48 كتابا، وفي الرياضيات 10 من مجموعة 16 كتابا باللغة التركية، فان التبريرات نافلة تماما في الشعر، اذ نشر 22 من أصل 26، وفي التاريخ والطب والبيطرة والزراعة والهندسة 37 من أصل أربعين كتابا صدرت باللغة التركية أيضا- حسب احصاءات المستشرق النسوفيتي جلتياكوف.

وانصافا منا للحقيقة نقول ان جلتياكوف بالغ كثيرا في التقليل من عدد الكتب المنشورة باللغة العربية، ويرجع الفضل الى أبي لغد الذي أثبت لنا من خلال تنقيبه عن هذه الكتب في خبايا دور المحفوظات، ان عددها يربو على العشرة حتى سنة 1842، وليس كتابين – كما يذكر جلتياكوف.

ومع اقرارنا بان تلك الكتب المنشورة مثلت حدثا جديدا بالنسبة لذلك الزمان والمكان، وبداية تحرك في الحياة الفكرية – الثقافية، فانه ينبغي علينا التذكير بندرة الكتب العربية التي صدرت وأعطت شحنة فكرية – اجتماعية قوية الى حد ما. ولذلك طوقوا أطر انتشارها (ربما بتوجيه المركز الودعاوي الحربي الخاضع لأمرة محمد علي) . ولكن الأدبيات العربية التاريخية – الجغرافية المنقولة عن اللغات الأوروبية (تاريخ شارل الثاني عشر ملك السويد، وتاريخ بطرس الأكبر، ترجمة الطهطاوي وكتاب الأمير لميكافلي، وروح الشرائع لمونتيسكيو وغيرها) من قبل مسيحيين محليين بمساعدة قناصل أوربيين، بقيت مجهولة تماما لدى الجمهور العربي الذي لم يكن مهتما بهذا النوع من المصنفات، وكان انتقاء هذه الكتب انعكاا حيا لرغبات الباشا – المصلح اذ كانت تتضمن عبرا عن سير العظماء في التاريخ فضلا عن اهتمامات الطبقة العسكرية السياسية الجديدة من موقع الفوائد التي قد تجنيها من خلال استيعابها لهذا الفكر المتقدم.

ثمة اعتبار هام آخر، فالناس الذين نموا وتطورا فكريا خارج اطار التدابير الرسمية التي اتخذها نائب الملك، وكان بمقدورهم التفكير والعمل بصورة مستقلة، وكانوا ممن استوعبوا أو تأثروا برياح الحضارة الأوربية والذي يجب تصنيفهم في اطار التيار الثالث ، فانهم اتخذوا موقفا حذرا من ممارسة نشاط يثير الانتباه ويلفت الأنظار كما فعل حسن العطار، واما تعرضوا للضغوط فانتقلوا الى العمل في السر كعبد الهادي المهدي، وأما واجهوا الامتهان والنفي كعمر مكرم، واما لاقوا حتفهم خنقا كالجبرتي.

ان جميع الباحثين تقريبا في الأدب العربي الحديث، الذين ينطروا الى النهضة بمثابة نهوض ثقافي عام وشامل ظهر في بداية القرن التاسع عشر يضطرون بالطبع الى البحث عن تجليات النهضة الأدبية بوصفها واحدة من مكونات النهوض الثقافي في مصر أيام محمد علي. ولكن النتائج جاءت هزيلة الى حد الرثاء. وقد نجح هؤلاء الكتاب، ومنهم حنا الفاخوري ايضا في فرز أسماء معدودة ممن لمعوا في سماء الشعر كالخشاب (توفي عام 1814) والعطار (المتوفى 1834)، وعلي الدرويش المصي (توفي سنة 1853) ، ويغلب في شعراء العصر الأول المحافظة على الطريقة المدرسية القديمة وأساليبها نظما ونثرا، لأنهم لم يدركوا ما حديث من التغيير في الآداب بتاثير المدنية الحديثة، أما تاليفهم النثري ودواوينهم الشعرية فتتسم بميسم "عصر الانحطاط" ويجرع النقاد الأدباء أسباب هذه الظاهرة السلبية الى أن معظم هؤلاء الشعراء، ولاسيما الأول والثاني، كانا قد نشطا في العهد البونابرتي ولكنهما "لم يتمكنا من ناحية استعياب الأساليب الجديدة الأوربية، ومن ناحية أخرى كانت قدراتهم الابداعية قاصرة على نظم أشعار وطنية لامعة، تعول على الجهول دون الاعراض أو اللب دون القشرو بلغتهم العربية الأم".


رفاعة رافع الطهطاوي رائد النهضة المصرية (1801-1873)

بادئ ذي بدء نقول ان مصادر الدراسة الأدبية العربية أكدت علمه الزاخر ونشاطه الجم وانتاجه الواسع تاليفا وترجمة (أكثر من عشرين كتابا)، مما يدل دلالة قاطعة على ان اسمه اقترن بالنهضة التي ميزت الحركة العلمية – الأدبية التي انبثقت أيام محمد علي وخلفائه. ولكن الصحيح أيضا ان الكتب التي ترجمها الى العربية في الطب والهندسة والفنون العسكرية – رغم انها عصرذاك معيار للتقدم وعنوان للكمال العلمي، لم تترك أثارا تستلفت الأنظار. وهذا يرجع الى سبب بسيط جدا وهو أن معظم هاتيك الكتب لم تكن من تأليفه، بل ترجمات منقولة عن الفرنسية، لعل أشهرها "الجغرافيا العمومية" تاليف ملطبورن، وقد ترجم منها أربعة أجزاء، و"تعريب القانون المدني الفرنسي" جزآن.. ألخ.

وعلى كل حال، يرجع الفضل الأكبر للطهطاوي في تعريف المجمتع المصري على المنجزات العلمية التقنية والحضارة والمدنية الأوربية. فلم يبرء حقا أبا النهضة المصرية غير مدافع ولا منازع. كان الطهطاوي من تلامذة حسن العطار، وواحدا من مريديه "في السر" . وعين رئيسا (اماما) لبعثة الطلال المصريين الذي أرسلوا الى باريس بتزكية من أستاذه العطار، الذي قدم له ما يلزم من النصح والارشاد فيما يخص التأد بالعلوم الأوربية، وشق طريق المستقبل ولما عاد الى الديار المصرية حاملا الشهادات الناطقة بعلمه وفضله، ولاه محمد علي منصب رئيس الترجمة في مدرسة الطب، وشهد له بقصب السبق لا في حقل الترجمة وحسب، بل في مضمار كيل المديح لباريه الكبير عزيز مصر فكان يسبح بحمد الله صبحا وعشية لارساله "رجل البر والحسان" الذي هداه العلي القدير لمعرفة أسباب تقدم الغرب على الشرق في شتى ميادين العلوم ، فاختاره لتخليصنا من ظلام الجهل الذي نغرف فيه في جميع ميادين المعرفة". لذلك كله اضطر الطهطاوي عموما الى التقوقع في الاطار الذي رسمه ولي أمره، ولم يستطع خلال نيف وثلاثين عاما من الجهد المضني تخطي حدود التعليم الرسمي، وهو الذي كانت نفسه صابية، ولاشك ، للتحليق في أجواء التنوير الحقيقي الاصيل. ومن هذا المنطلق ظل الطهطاوي بشير التنوير المصري، ليس غير، فكان كالزهرة الفريدة التي عجزت – في ظروف غياب المقومات الموضوعية- حتى عن رؤية تباشير الربيع المشرق الوضاء. وبهذا المعنى يقول المؤرخ أحمد: "كان نموذجا ليس بمعنى عدم وجود الكثيرين من أمثاله، بل بكونه وحيدا". أجل ظل وحيدا. رغم مثابرته على التدريس طوال حياته، لدرجة أصبح فيها نادرة عصره، ومع كل هذا فاننا لا نميل الى المغالاة في تبجيل دوره، كما فعل كل من ليفين وأحمدوف "ومن ثمة ينبغي اعتبار الطهطاوي بحث رائد التنوير العربي عامة؟" بل نتفق في الراي مع جرجي زيدان الذي عده "واحدا من أكبر أركان النهضة الأخيرة بمصر". واذا قدر لنا في سياق الكلام عن الطهطاوي ترديد التأكيد الذي أورده المستشرق عثمانوف بأنه "كان واحدا من أبرز وأعظم منوري عصره" ، فانه ينبغي علينا التذكير بأنه ظل طواله حياته منضويا في اطر التنوير المصري (لمحمد علي). ولابد لنا من الاشارة الى أن الكثيرين من الكتاب العرب – المؤرخ المصري ج. أحمد مثلا –يبدون نوعا من ضبط النفس في تقييماتهم لدور الطهطاوي، اذ يبوئونه مقاما متواضعا نسبيا في ميدان أوربة الفكر الاجتماعي السياسي العربي". وبعد أن يؤكد المؤرخ أبو لغد أن الطهطاوي "كان روح العصر في حركة الترجمة ومن أبرز المفكرين في مجال تعريف العرب بأوربة القرن التاسع عشر، يستدرك على الفور قائلا: "ولعلنا بالغنا هنا في تقدير دور الطهطاوي؟".

قفل الطهطاوي عائدا الى مصر حاملات في جعبته ليس فقط ذكرياته عن باريس وترجمة كتب كاملة ونبذ قصيرة عن الفرنسية في العلوم والتقنية العصرية، بل ومعارف معمقة واسعة عن الفكر السياسي الاجتماعي والفلسفي المجتمعي في فرنسة. فاطلع بالاضافة الى الأدب الفرنسي الكلاسيكي العزيز على قلبه، على آراء وأفكار الفيلسوف كانديليك، والموسوعيين الفرنسيين راسن وروسو ومونتيسكيو (الذي عرب له كتاب رسائل فارسية ونسبها خطا لروسو). وعلى المذهب العقلاني –العلماني الفرنسي ، فكان في طليعة الرواد الذين حاولوا نشر أفكاره في الواقع العربي من خلال آثاره الأدبية ونشاطه الاجتماعي – التربوي الذي دام نيفا وأربعين عاما. ولئن جاءت النتائج – عكس ما كان يتمناه الطهطاوي – ضيئلة الشأن ، فالاثم الأكثر من نصيب العصر الذي عايشه والمجتمع المتخلف الذي عمل ونشط فيه دون أن يدخر وسعا وجهدا.

من أبرز تاليف الطهطاوي كتاب "تخليث الإبريز في تخليص باريز" أو "الديوان النفيس بايوان باريس" له عدة طبعات (الأولى سنة 1834 والثانية 1840) وهو رحلته الى فرنسة، ذكر فيه ما شاهده من العادات والأخلاق والأزياء وآثار التمدن الحديث وكل ما يتعلق بذلك. وهو بحق من بواكير أدب الرحلات في العصر الحديث. لقد اثارت حضارة الغرب ومدنيته، ولاسيما تطلع الانسان المثقف الدمث الأخلاق الى التقدم والرقي، دهشة الشيخ الطهطاوي واستغرابه، فيوغل في المقارنة بين الغرب المتقدم المتفوق وبين الشرق المتأخر القانع الخانع. فهو على سبيل المثال يتحدث عن الفن المسرحي في الغرب، لاعطاء الجمهور العربي صورة واضحة مفهومة عن رقي الانسان الغربي فيقول : (أعلم ايها القارئ أو الأوروبيين بعد انتهائهم من أشغالهم اليومية ينصرفون الى ملذات الحياة الدنيا للمارسة طقوس الصلاة والعبادة ، والمسرح عندهم من أعظم أماكن الراحة والمتعة. حيث يقوم الممثلون بآداء أدوار تجسد كل ما يمكن أن يحدث في الحياة الواقعة من خير وشر، وفرح وترح، أما المتفرجون فيتابعون الأدوار ليكون في ذلك عبرة لمن اعتبر، وسط أجواء من الهزل والجد أو الغبطة والكآبة. ويؤكد الفرنسيون أن المسرح يقوم بالأخلاق ويكثر من الفضائل والشمالئل، ولذلك تكتب على الستارة عبارة "المسرح مدرسة الفضائل".

لقد أصاب كريمسكي نصف الحقيقة حين أشار الى ان الطهطاوي، كان يخشى جبروت رجال الدين المغاليين في التعصب الذين قد يشددون عليه النكير، ولذا اعتصم بقرض قصيدة يقرظ فيها الأزهر الذي "ينير كل العالم بشمسه" وتزدهر في رحابه "جنائن المعرفة". وكان من الواجب على كريمسكي ألا يتوقف في منتصف الطريق، ولاسيما ان التقييم الذي أورده عنه يؤهله لاصابة الحقيقة نفسها: "كان ذا أفكار تقدمية بالقياس الى عصره، ولكنه كان – في مطلق الأحوال – متدينا جدا، أو بالأحرى، يجب الاقرار بان الشيخ الطهطاوي عانى من الانفصام في الشخصية في باريس، ولذا توجب عليه بالضرورة تخطي هذه المعاناة من خلال حديثه عن الأفكار والأشياء الجديدة في مذكراته. كل ما في الأمر ، أن الشاب الشيخ الذي كان ينظر الى الاسلام بعينين ملؤهما الافتخار والاعتزاز، لابد أن يظل احداهما مغشاة بضباب الفكر السلفي العقلاني، والمخرج الوحيد من هذا المأزق كامن في معالجة الحول الطارئ والعودة ببؤبؤ العين الى مركزه الأصلي، وبمعنى آخر ، التوفيق بين التقليد الاسلامي والحداثة الأوروبية.

بيد أن ظروف الزمان والمكان الموضوعية، وآراء وأفكار الطهطاوي الذاتية، لم تكن تسمح باجراء اية عملية اصطفائية فيها أدنى قدر من المساس بالعقيدة الاسلامية السائدة. وهذا يعني أن الطهطاوي الواقف أمام الحداثة الأوربية والذي لا ينوي اطلاقا اشاحة وجهه عنها، سيركز على جوانب أساسية منها تكون أبشه بمحك امام التراث الاسلامي – العربي، أي أنه سيحاول المزاوجة بينها وبين الأفكار المألوفة في حدود ما يسمح به التقليد الاسلامي والحداثة الأوربية.

بيد أن ظروف الزمان والمكان الموضوعية، وآراء وأفكار الطهطاوي الذاتية، لم تكن تسمح باجراء اية عملية اصطفائية فيها أدنى قدر من المساس بالعقيدة الاسلامية السائدة. وهذا يعني ان الطهطاوي الواقف أمام الحداثة الأوربية والذي لا ينوي اطلاقا اشاحة وجهه عنها، سيركز على جوانب اساسية منها تكون أشبه بمحك أمام التراث الإسلامي – العربي أي انه سيحاول المزاوجة بينها وبين الأفكار المألوفة في حدود ما يسمح به التقليد الاسلامي. ولهذا السبب بالذات بذل جهودا جبارة – من خلال دعوته مواطنيه لاستيعاب العلوم التطبيقي والتقنية الأوربية – للتدليل على أن الأفكار والمفاهيم الجدية لا تتعارض من حيث الجوهر مع الإسلام، على حد تعبير رئيف خوري. فاذا أراد مثلا المقارنة بين مفهومين متباينين كدوران الشمس حول الأرض في الاسلام، بينما يثبت علم الفلك الأوروبي عكس ذلك، نراه ينسب ذلك التنقاش الى الفهم الساذج لمضمون القرآن. وكان على الطهطاوي أن يعبر عن الأفكار الجديدة بصيغ قديمة، وان يظهر مرونة عظيمة للتدليل على حقيقة أن الفرنسي العادي التفكير لا يؤمن بأي شي مناقش لقانون الطبيعة. فيعلل مسألة الاعجاز النبوي ووجود الديانات السماوية بتطلع الانسان الى الخير والفضيلة وتكريهه بالشر والرذيلة. وهاهي ذي الحضارة البشرية تحقق تلك الأهداف السامية النبيلة، فيتراجع الدين عندهم الى المقام الثاني. والطهطاوي الى ذلك كله، يركز على "أن الفرنسيين أدركوا أن العدالة والانصاف وسائل تكفل تطور الدول ورفاهية الشعوب، فالعدالة أساس المدنية". ولم يتوان عن التاكيد ان الفرنسيين يضفون هالة مقدسة على الحرية وهي العدل في المفهوم الاسلامي، ما دام الحكم في ظل الحربية يعني تثبيت مبدأ مساواة الناس أمام القانون (فهم سواسية كأسنان المشط). وهذا يعني بكل بساطة توطيد أركان العدل، والأخذ بيد المظلوم على الظالم، وارضاء خاطر الفقير، الذي يمكنه ان يقول لنفسه انه هو أيضا عظيم امام القانون، ومن ثم يتوصل الكاتب الى استناج رئيسي مفاده ان مبدأ مساواة الناس أمام القانون يطابق تماما مبدأ مساواة الناس أمام الله في الشرع الاسلامي.

ومهما يكن من أمر، فان الصفوة المختارة من الاشراف والأعيان والوجهاء اطلعوا من خلال "تلخيص الإبريظ" على الفكر السياسي الاجتماعي الأوربي، وعلى طبيعة نظام الحكم والمؤسسات الدستورية القائمة في فرنسة، والتي تناقش من حيث الجوهر أسس وأركان الأنظمة القائمة في ديار الإسلام. كما اطلعوا على الأحداث العاصفة التي تمخضت عن الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، حقا ان الثورة التي طالبت بالجمهورية بديلا عن الملكية، لم تكن تعني بالنسبة له سوى فتنة أو عصيان، ومع ذلك عدها من الأحداث التي قضت على السلطة المطلقة للعاهل الحاكم في فرنسة، ثم يروي الشيخ تاريخ بروز سلطان السلاطين نابليون بونابرت في الميدان السياسي، وكيف ذهب ضحية لدسائس ومؤامرات ملوك أوربة، رغم التبجيل والتعظيم الذين يكنهما الشعب الفرنسي تجاهه، فتود سلالة البوربون الى الحكم وينزل الملك لويس الثامن عشر عند رغبة لاشعب فيعلن الميثاق (وهي كلمة مرادفة في تصور الطهطاوي لكلمة الشريعة في الاسلام، ولذا استخدمها بدلا من كلمة الدستور التي عنت آنئذ مجموعة القوانين وهي اليوم القانون الاساسي).ويخلفه شارل العاشر على عرش فنرسة وتنشب ثورة تموز (يوليو) 1830، التي شاهد الطهطاوي حوادثها بأم العين فعرف القارئ بأحداثها وفصل تاريخا مبديات تعاطفه معها.

"ينقسم الشعب الفرنسي الى حزبين أساسيين الملكيون والأحرار. فالملكيون أنصار العاهل الحاكم يؤكدون على السلطة المطلقة دون آية مشاركة من الشعب في ادارة الدولة، أما الأحرار فيؤكدون أن القانون فوق الجميع ويجب على الملك أن يكون منفذا للقانون.. ان معظم أنصر الملك من رجال الدين ومريديهم ، بينما الأخيرون يساندون الشعب الفرنسي ويطالبون بتسليمه زمام السلطة، لا بل لا يرون حاجة لوجود الملك اطلاقا. ومادام الشعب لا يمكنه ان يكون حاكما ومحكوما في آن واحد، ظهرت الحاجة لانتخاب نواب عن الشعب يحكمونه، وهذا هو الحكم الجمهوري. وندرك من كل هذا ان فئة من الشعب الفرنسي تؤيد الحكم الملكي المطلق، والفئة الاخرى تدعم الحكم الملكي الدستوري الذي بوجوبه يحكم العاهل بمقتضى القوانين، بينما تنادي الفئة الأخيرة بالحكم الجمهوري".

ويعلق الطهطاوي على السبب الرئيسي للثورة الفرنسية عام 1830 فيقول: "يمنح القانون الفرنسي المواطن حق الاعراب عن رأيه شفاها وتحريرا شرط الا يسئ لجوهر القانون". وها هو ذا الملك "يثدر عدة قوانين منع الشعب من مزاولة حقوقه، ولاسيما حق التعبير عن الرأي على صفحات الجرائد المسامة "غزيتا". لقد اصدر الملك تلك القوانين دون الأخذ بالحسبان راي الجمعية الوطنية (البرلمان) وهذا ما ينص عليه الدستور، ثم يعين اناسا من المعروفين بميولهم المعادية للحركة الليبرالية في المناصب العسكرية الرفيعة، غير أن الشعب صمم على مقاومة المحاولات الرامية لاعادة الحكم الملكي المطلق فقام بالثورة لاسترداد حقوقه السياسية".

وسعيا منه لتعريف القارئ العربي بالنظام السياسي الفرنسي، يخطو خطوة أخرى الى الأمام فيعرب الدستور الفرنسي (الشريعة)، ويعلق على مواده الأساسية، ومن الجلي أن الكاتب كيف المفاهيم الغربية الجديدة مع الأفكار المألوفة في المجتمع العربية – الاسلامي، فوجب على الطهطاوي مثلا أن يقوم بتحليل تفصيلي للحريات الأساسية التي يكفلها الدستور، فيقول : "كل الناس سواسية أمام القانون بغض النظر عن التباين الظاهر في الموقع الاجتماعي من حيث التعصب والجاه والثورة والشرف المتوارث، وما شابه ذلك. وهذه لعمري خصائص بالغة الأهمية والخطورة في العلاقات الاجتماعية والحياة اليومية، وهو أمر لا تعيره الشريعة اهتماما يذكر. ولذا يصبو كل انسان لتسنم منصب عسكري أو مدني.. فالشريعة تكفل الحرية الفردية لكل انسان وتحرم توقيفه أو اعتقاله الا في حدود القانون.. ,لعل أهم فضائل الحرية عند الفرنسيين التمتع الكامل بحرية المعتقدات، الذي تصونه الدوله. فالقانون يعاقب كل من تسول له نفسه الاعتداء على حرية العقيدة. ويحق للفرنسي أن يعبر عن أفكاره السياسية وآرائه ومعتقداته الدينية والزمنية، شرط عدم الاخلال بالنظام الفرنسي اطلاقا، ولا يسمح القانون بتجريد أي شخص من أملاكه الخاصة، باستثناء الحالات الخاصة التي تقتضيها المصالح العامة وتفرض التعويض عنها وفقا لقرار صادر عن المحكمة".


كما تركت أثرا بالغت في نفس الطهطاوي مبادئ العدل المقدسة الواردة في الميثاق الدستوري الفرنسي . وعن ذلك يقول الشيخ: "ورغم أنك لن تجد في كتاب الله (القرآن – المؤلف) ولا في الأحادث النبوية (السنة – المؤلف) أغلب ما يحتوي، فانك ستدرك، كما أدرك الفرنسيون بالعقل، ان العدالة والانصاف شرطان اساسيان لتطوير الدول ورفاهية الشعوب، وكيف أن الحاكمين والمحكومين يطبقون هذه المبادئ السامية التي تساهم في تحسين أوضاع معيشتهم وتطوير علومهم وتوسيع ممتلكاتهم وتأمين طمأنينتهم وهدوئهم، فلا تجد انسانا واحدا يشكون الضيم والظلم، لان العدالة أساس المدنية".

ولا بأس من التنبه ان الطهطاوي – في محاولته لازالة اسباب التضارب والتضاد في الأفكار الجديدة والقديمة – اضطر مرارا للتذكير بوجود الظواهر السلبية البالية في الواقع الاسلامي وبضرورة اجراء تغييرات أساسية فيه. ولكن يجب أن لا ننسى أبدا أن العالم الاسلامي ظل في نظر الكاتب الموطن الحقيقي للثقافة الروحية، فيما تحولت أوربة الى موطف للفكر العلمي من جراء استيلائها على الطرق البحرية واحتلالها العالم، ومن بينه العالم العربي، عن طريق الرحلات والمغامرات وعمليات القرصنة، الذي اخذت عنه العلم بشكل ملموس.

واذا اضفنا الى كل ذلك توسلات الكاتب الذي قال : "أتوسل الى العلي القدير ان يجد كتابي هذا قبولا .. وأن يعين الأمة الاسلامية على النهوض من رقاد الجهل" فلا يبقى لدينا أدنى شك بأن الطهطاوي كان أول من أعلن بين العرب بوجوب تكييف الشريعة الاسلامية وظروف الحياة المتطورة، ولذا استحق بجدارة صفة بشير حركة الاصلاح الاسلامي، التي انبثقت في وطنه مصر بعيد نصف قرن من الزمان.

بعد صدور كتابه الأول (ظل قمة ابداعه الأدبي) عاش الطهطاوي فيضا وأربعين عاما من الجهد المتواصل في خدمة الوطن. ولابد من أن يطرأ على فكره وتصوراته بعض التحول والتبدل. ونحن اذ نعرب عن أسفنا لغياب المصادر الأساسية وندرة المعلومات الموثقة في الأدبيات المتوفرة. نرى أنفسنا عاجزين عن تتبع تلك المتغيرات التي استجدت على فكر الطهطاوي. ورغم هذا، لا نرى باسا في التطرق الى كتابه "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب المصرية" الذي وضعه في أواسط القرن التاسع عشر، ولم يطبع حتى مطلع القرن العشرين، والكتاب اذ يكيل المديح والاطراء لاصلاحات محمد علين فانه من جهة بحث في آداب العصر وسياسته وصنائعه وفنونه وعلومه يستخلص فيه أن الاسلام يشكل القاعدة الاساسية التي ترسو عليها الفضائل والشمائل والأخلاق الكريمة، وبالتالي يجب تربية النشئ الجديد وفقا للمبادئ الروحية السامية التي تضمنتها الكتب السماوية، فانه من جهة صانية، يضع مفهوم خدمة الوطن (الوطن المصري طبعا) والعمل على اغناء ثروته وتوطيد منعته وعزته، في قمة القيم الأخلاقية والمناقب الانسانية. وما من شك في أن قصائده الوطنية تثير الاعجاب والتقدير العظيمين، ولاسيما انه في مقدمة وطنية مصرية، يوجه كلامه الى القارئ بقوله "يا أخي المصري" و"أياها الجندي المصري". وقد برز حبه الشديد لمصر والتغني بأمجادها بما قرضه من شعر يجيش بحب الوطن والدعوة اليه. وخاصة في قصيدتيه المعنونتين "قصيدة وطنية مصرية" كرس اخداهما لمناسبة تتويج سعيد باشا، والأخرى لإسماعيل باشا بمناسبة منحة لقب الخديوي. وهكذا، كان الشيخ رفاعة بك الطهطاوي رائدا للفكرة الوطنية والقومية في مصر ابان العصر الحديث، على حد تعبير المؤرخ أنور عبد الملك . أضف الى هذا ان الآراء الايجابية المتعاطفة مع الواقع الاجتماعي السياسي والعادات والتقاليد الفرنسية، كانت تتسرب الى البيئة الجديدة لتواكب المتغيرات خلال أكثر من ثلاثين سنة، ولذلك فرضت ضرورة تعريب "القانون المدني الفرنسي" المعروف بالكود الفرنسي، الذي اشترك فيه الطهطاوي مع نخبة من رفاقه وتلامذته من علماء القضاء والفقه والادارة.


الشيخ محمد الطنطاوي

كان الشيخ محمد الطنطاوي (1810-1861) الشخصية البارزة الثانية في عهد محمد علي باشا. انتظم سنة 1830 في سلك طلبة الأزهر أولا، ومن ثم في المدرسة الإنكليزية بالقاهرة، فكان له القدح المعلي في اللغة العربية والشعر الجاهلي. كان فضله عظيما على المستشرقين الأجانب ولاسيما ف. فرنيل في كتابه "رسائل حول تاريخ الجاهلية"، وعلى غ. فيل في كتابه حول "الأدب العربي الجاهلي"، وعلى أ. بيرون "المرأة العربية في العصر الجاهلي ومايليه" وعلى مؤلفات ادوارد لين وم. موخين وغيرهم. واستفاد الطنطاوي من معارف تلامذته الأجانب، فبرع في مجال المعارف الأجنبية وتشرب بالأفكار التنويرية. لكنه لم يتمكن من اسداء خدمات كبيرة للنهضة العربية، اذ سافر عام 1840 الى بطرسبورغ بصفة أستاذ للغة العربية في معهد العلوم الشرقية التابع لوزارة الخارجية الروسية، فبقى هناك حتى وفاته. خلف لنا اثرا واحدا "تحفة الأذكيا في أخبار بلاد روسيا"، ألف الكتاب امتثالا لأوامر محمد علي باشا الذي اوصاه باتقان اللغة الروسية ويجلب كل ما يعود بالخير والمنفعة على مصر من تلك البلاد النائية، يتالف الكتاب من مقدمة (انطباعات، وتأملات عن بطرسبورغ) وفصلين فيمين لخص المؤلف في الفصل الأول تاريخ التطور الثقافي في سان بطرسبورغ في عهد بطرس الأكبر الى القيصر نقولا الأول، ويعالج الفصل الثاني عادات الروس وتقاليدهم وأخلاقهم.


المثاقفة الغربية – العربية

وفي حديثه عن التاثير الأوربي على النهضة العربية يقول ليفين حرفيا: "وفي مصر قبل غيرها من مقاطعات الامبارطورية العثمانية العربية (وربما باستثناء لبنان)، نشأت بفضل الاصلاحات مقدمات للتآلف بين الثقافتين الغربية والشرقية". ومن الواضح أن ليفين قد بالغ في تقديره للتحولات الفكرية والثقافية التي جرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ان من ناحية الامتداد الجغرافين وان من حيث الوزن النوعي والكمي.

ما ينبغي تأكيده هو أن النزعة العسكرية المتأصلة في نفس محمد علي باشا، من موقع اختياره السياسي الاجتماعي أملت عليه بعض التدابير الفكرية الثقافية الضرورية التي ألجأته للطلب رسميا من ممثلي التيار الفكري الثالث القيام بعملية "تركيب مزجي" ولاسيما بين الفن الحربي الغربي والشرقي. وعهد الى ممثلي التيار الثاني باستيعاب الوسائل المادية التقنية واجراء بعض المحاكاة في مجال الظواهر الخارجية المميزة، لكن بحذر كبير.

وبناء على أوامر الباشا الاصلاحي تمت عملية التركيب المزجي في الزي العسكري، وبشهادة من كلوت بك فان محمد علي الذي كان يخشى إثارة العداء الديني القوي ضده، أظهر حنكة عظيمة حين أمر ليس بتقليد الزي العسكري الغربي تقليدا مطابقا، بل باختراع زي "يوالف بين اللباس الأوربي ولباس سكان البلقان المسلمين بخطوطه المميزة" والذي لا يشوه الزي الوطني، وربما ان نائب الملك وقائد جنده ابنه ابراهيم باشا وأفراد العائلة الخديوية، تربوا بهذا اللباس ووضعوا الطربوش، فان الأعيان والوجهاء المدنيين غير المبالين اطلاقا بتقاليع الأزياء الأوربية ، شرعوا في محاكاتهم وتقليدهم.

وانتقلت عدوى محاكاة الأوربيين في الشوارب واللحى، فالاحتفاظ بالشوارب الشرقية أخذ يتلاءم مع تربية اللحى على الطريقة الافرنجية، لا بل ان محمد علي أمر جنوده وضباطه (حتى رتبة الباشا – جنرال هذا الأيام) بحلق لحاهم التي كانت تترد حولها شتى المعتقدات الخرافية . ولكن الباشا لم يجرؤ على الغاء الشارب فالرجل الأمرد في الشرق يوصف بأوصاف ونعوت تحط من قدره ورجولته. كما تحدث كلوت بك بحماسة شديدة حول الغاء الخطوط التتي تميز تمييزا عميقا بين الأوربيين والشرقيين، فقال : "يخيل لي أن هذا أمر عظيم الشآن، فالغاء هذه الفوارق يمهد الطريق أمام التمازج والتآلف بين الأخلاق".

بيد أن التاثير الاوربي تسرب أولا الى فئة الضباط ومن ثم الفئات العليا من أرباب الحكم والأعيان والوجهاء الذين شرعوا في محاكاة الأوربيين حتى فميا يتعلق بالوجبات الغذائية، والجلوس الى المائدة، واستعمال الصحون والأكواب الأوربية، واستبدال آداب السلوك الأفرنجية بالشرقية ما شابه ذلكز ومن المفارقات التي اسدت عصرئذ انهم كانوا يرتشفون الحساء في صحون النقولا (الحلوى)، ويشربون النبيذ العادي بأقداح الشمبانيا، كما كانوا يلتقطون باصباعهم قطع اللحم من الصحن ثم يغرسون أسنان الشوكة فيها ليضعوها في أفواههم، وكانوا يتبعون الطريقة الفرنسية في توزيع الأكل في طبق كبير متنقل، لكن الضيوف كانوا يتناولونه ليضعوه أمامهم على الطريقة العربية حينما تكون الوجبة شهية على نفوسهم.

ولكن، حيث كانت هناك حاجة ماسة أو ضرورية لازمة للمثاقفة الاصيلة بين الحضارتين، اتبع مفوضو الخديوي طريقة التقليد والمحاكاة. فبعد انشاء الجيش النظامي الجديد علم محمد علي ان كل تشكيل في الجيش الأوربي له نشيد خاص به، على اثر ذلك دعيت فرقة موسيقية فرنسية الى مصر بقيادة الموسيقار الأسباني الشهير كاري بهدف تعليم العسكر العزف على الآلات الموسيقية وتلقينهم فن الغناء. وهكذا ، تاسست مدرسة الموسيقى العسكرية في خانقاه سنة 1824، فبلغ عدد تلامذتها مئتين. وكتب كلوت بك في هذا الموضوع، فقال: "ان المصريين الذين اشتهروا بولعهم الشديد بالموسيقا منذ اقدم الأزمنة لا يزالون يظهرون موهبة عظيمة، ولكنهم وهم الذين يسكرون نشوة وطربا لسماعهم الموال المصري، والأغاني الرتيبة ظلو لا مبالين تماما ازاء الأناشيد الأوربية الحماسية (ولا غرو في أن نشيد المارسيلييز وحده قد أعجبهم لاعتبارهم ايه انشودة بونابرت) ويعرب كلوت بك عن أسفه العميق لاقفال مدرسة الموسيقى التي لم تلق حفاوة تذكرن ثم خلص الى القول "كان من المنطقي تماما دعوة بعض الموسيقيين الموهوبيين الى مصر كي يستوعبوا ويتذوقوا فن الموسيقا العربية ومن ثم يؤلفون أناشيد وطنية مصرية تشق طريقها في الحياة".




5 – عناصر الوعي القومي في مصر

تبقى كلمة لابد منها عن عصر محمد علي، معالجة قضية تبرعم بذورة الوعي القومي لدى المصريين في الربع الثاني من القرن التاسع عشر.

واصل معاصرو الأحداث، ولاسيما بروكيش، وأوستن وزير مترنيخ، الحديث عن أفضال محمد علي "في بعث الروح القومية لدى المصريين العرب". وأكد كلوت بك أيضا ان تنظيم الجيش الجديد القوي، وخاصة إشراك أبناء البلد المصريين في صفوفه منذ أواخر العشرينيات، فضلا عن الانتصارات التي حققها على الجيوش العثمانية "قد رفعت من مكانة الشعب العربي، ومهدت السبيل أمام الروح القومية، التي أعادت اليه الثقة بالنفس وأحييت فيه مشاعر العزة والكرامة المقدسة لدى كل أمة من أمم الأرض".

هذه وغيرها من التوصيفات والتقديمات لا تجد تضخيما هائلا في أيامنا وحسب، بل يتعامل كل باحث وفقا لأهوائه وينظر اليها بمنظاره الذاتي ، ناهيك بأن ثمة رايا سائدا لدى بعض الدارسين الغربيين ومعظم الكتاب العرب الذين عالجوا قضية نشوء القومية العربية، مفاده أن بعث الروح القومية يرجع بتاريخه الى النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويرتبط ارتباطا مباشرا بشخص محمد علي وفعاليته. فما هو مصدر هذا الضلال، وما هي الحقيقة؟

كان محمد علي من أوائل الحكام المؤمنين حقا بحتمية انهيار الهياكل السياسية الاجتماعية في الدولة العثمانية، فضلا عن أنه كان في بؤرة الأحداث التي خلفت ازمة معنوية حادة داخل المجتمع الاسلامي تمثلت في النصر المؤزر الذي حققه نابليون في أعظم بلد من بلاد الامبراطورية العثمانية، ولكنه، كان مستاء جدا من حقيقة ان الجهاد الاسلامي الذي تكلل بالنصر على المستعمرين الفرنسيين لم يتحول الى ناقوس خطر في أذهان الناس يحذرهم من مغبة تكرار الحملات العسكرية الأوروبية في المستقبل وحسب، بل كان بمثابة مخدر لأذهان الرعية عن عظمة السلطان – الخليفة التركي ومكانته السياسية الدينية السامية.

كان محمد علي مسلما متلزما وعثمانيا متعصبا يعد نفسه جنديا وخليفة الرسول محمد، ولهذه الأسباب مجتمعة لم يتوان عن خنق الحركة الوهابية العربية. وحركة الوثنيين في السودان، وحركة التحرر اليونانية في بحر من الدماء الذكية. وكان على قناعة راسخة بأن الدول المسيحية شديدة الخطر لأطماعها التوسعية ازاء الدويلات والكيانات الإسلامية، التي تعاني الانحطاط وتقاوم سكرات الموت. ولذلك "وضع نصب عينيه مهمة انقاذها من الدمار والهلاك وبعث روح الحياة فيها واعادة مجد الاسلام الغابر"، كما يقول صبري.

أسلفنا القول ان محمد علي كان يحمل بتحويل الشرق الى قوة قادرة على مواجهة الغرب المسيحي الأمر الذي دفعه لتحويل بلاده الى القوة الضاربة الرئيسية في جبهة المعارضين والساخطين على الامبراطورية العثمانية المتآكلة. فما كان منه الا أن يرمي بثالثة الأثافي السلطان محمود الثاني "اللعين" متهما اياه بارتكاب أعظم الشرور والآثام وفي طليعتها "المروق من الدين الاسلامي" وعجزه الكامل عن الدفاع عن ديار الاسلام لكونها "كوكبا" في فلك أوربة المسيحية، ولاسيما بلاد روسية. وقد أكد المؤرخ أسد رستم بأن محمد علي اعتبر هاجسه الأساسي وواجبه المقدس "استعادة الأراضي العثمانية السليبة ولاسيما القرم والمناطق الشمالية من البحر الأسود من أيدي القيصر الروسي الكافر".

فقد أصاب المستشرق إيفانونف عين الحقيقة فقال: "ان الصراع من أجل تبوؤ المركز القيادي وسبل تطوير الامبراطورية كان الباعث السياسي الواقعي، الذي كمن في صلب المعارك الطاحنة بين القاهرة والباب العالي". وفي مطلق الأحوال، ظهر محمد علي بمظهر "المدافع المستميت عن الدين الحنيف، وانقاذ الدين الاسلامي من عادات الكفرة وأخلاقهم التي اتسم بها السلطان محمود الثاني".

ففي الحرب التركية المصرية الأولى (1832) أنزل المصريون في معركة قونية هزيمة نكراء بالأتراك. تبعها صلح كوتاهية (1833) الذي لم يرض أيا من الطرفين، كان هدنة مؤقتة بين السلطان المهزوم وحاكم مصر المنتصر. وبهذا اكتنف الغموض مستقبل المسألة الشرقية فظهرت علامة استفهام كبرى زادته معاهدة هنكار اسكلسي (8 تموز/يوليو 1832) غموضا على غموض.

في مثل هذه الظروف، وفي بقعة معينة موضوعيا، شرعت تحلق روح القومية العربية تعبيرا عن حلم الباشا في بعث أمجاد الخلافة العربية. ومما لا شك فيه وجود أرضية صالحة تماما لتعذية مثل هذا الحلم، فقد أصبح محمد علي السيد الذي لا ينازع في مصر والسوادان من القارة الأفريقية ، وفي البلاد العربية الآسيوية (ما عدا العراق ومنطقة الخليج وجنوبي الجزيرة العربية). أضف الى ذلك الاساس الديني الروحي الحافز على تحويل الامبراطورية الواهنة الى خلافة قوية، فمدن الاسلام المقدسة الثلاث، مكة والمدينة والقدس كانت خاضعة لمحمد علي، واصدار فتوى بهذا الأمر الجلل، لم يكن في ذهنه سوى اصلاح للخلل. وكان بمقدوره استخدام القاهرة ودمشق أكبر مركزين للفكر العربي الاسلامي عصرئذ في الدعوة التعبوية على المستويين العربي والاسلامي.

من هذه الأرضية التي بدت انها صالحة موضوعيا، أخذت تتغذى أيضا الأحلام الذاتية لكبار التجارة الوسطاء والمرابين المصريين ذوي الارتباط الوثيق بالدوائر الرأسمالية في باريس ولندن وفيينا الذين كانت تدغدغ مخيلتهم أحلام الاستقلال وانشاء امبراطورية. ليس هذا فقط، فهم لم ينظروا لهذه القضية من وجهة نظر محمد علي فقط، بل بمنظار طبقي يرمي لرؤية البلاد العربية الأخرى وقد وقعت فريسة في شباك الصفقات التجارية- الاقتصادية التي يحكيونها. وأكثر من ذلك لقد حاولوا المستحيل ، خلق تحالف فرنسي انكليزي في المنطقة، اقتصر في بادئ الأمر على مطالبة بالمرستون بدعم مشروع محمد علي الرامي الى توحيد الاقطار الناطقة بالضاد في مملكة عربية موحدة.

لم يكن التوجه نحو انكلترة محض مصادفة اطلاقا، فقد كتب القنصل البريطاني بيركر قبيل الحملة العسكرية على سورية "بأن الاخبار شاعت في مصر" حول نية اصدار شريف مكة لفتوى فحواها أن "من يملك الكعبة ويدافع عنها فهو الرأس الحقيقي في الدين الاسلامي". وان كان ذلك مجرد "حديث الناس في مصر" فان الأمر كان أكثر جدية وخطورة في ارض العراق البلد البائس المهجور يومذاك. فقد كتب الكولونيل تايلور ممثل شركة الهند الشرقية من بغداد بتاريخ 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1833 ما يلي: "تطلعت أنظار هذا الشعب البائس الى ابراهيم باشا". وفي اليوم التالي أشار الى ما قصده بكلمة الشعب فقال مفسرا: "ان تجار بغداد الرازحين تحت ظلم الأتراك، يأسفون جدا لمعارضة بالمرستون في الحاق العراق بما يسمى المملكة المصرية"، ما كانوا يسمونه دوما "بالخلافة المصرية".

ان طبقة تجار الكومبرادور والمرابين المصريين الذين لم يكونوا يخفون نواياهم في بسط هيمنتهم على بقية الأقطار العربية الخارجة عن نطاق حدود "خلافة محمد علي" (وليس هذه وحسب)، وكانوا ينظرون الى دعم انكلترة أو وحتى وقوفها على الحياد بمثابة ضرورة حيوية جدا، ولذا أدخلوا في هذا المخطط بوغوس بك يوسفيان (1768-1844) وزير الخارجية وشؤون التجارة والمالية، والسياسي المحنك الذي "استحق ثقة محمد علي وتقديره" أكثر من الجميع، والمشهور "بمعارفة الواسعة وخبرته العظيمة في شؤون المال والاقتصاد" وخير مساعد لمحمد علي في خططه الانشائية، ومناهجه الاصلاحية.

سلم بوغوص بك وزير الخارجية المصري في 3 أيلول (سصبتمبر) 1834 مذكرة الى كمبل القنصل البريطاني، يؤكد فيها أن الهدف الرئيسي لحمد علي هو اجتثاث جذور النفوذ الروسي من تركية وتشكيل قوة ضاربة تجبر القيصر في آن واحد على احترام الامبراطورية العثمانية والاعتراف باستقلال ايران. وقد جاء في المذكرة "ان الارادة السنية تنوي الوصول الى هذا الهدف عن طريق احتلال سورية". ويستطرد بوغوص بك قائلا: "بعد معركة قونية راودت الآمال سيدنا محمد علي باجراء تحويل جذري في سياسة الباب العلاي تؤدي بدعم من انكلترة وفرنسة – الى احباط "المطامع الروسية" ولاسيما ان الجيش التركي المؤلف من 150 الف مقاتل، كان قادرا على التعاون مع انكتلرة للدفاع عن تركية وايران ضد النوايا العدوانية السافرة التي أظهرها القيصر الروسي ، ولا يزال".

قد يثير هذا الكلام شكوكا لدى البعض بأن بوغوص باشا كان معاديا للروس ومواليا للانكليز، فضلا عن كونه المعبر عن مصالح طبقة التجار الوسطاء والمرابين. ان مجرد التفكير على هذه الشاكلة يدل بالطبع على جهل مطبق بتاريخ ذلك العصر وبحقيقة التوجه السياسي للرجال الذين نشطوا وعملوا في الحقل الدبلوماسي، فالانكليزي باتون مثلا، يضع بوغوص باشا في موقع مغاير لخلفه هوسيب هيكيكيان "المعادي للانكليز" يؤكد ان الأول بدأ نشاطه موظفا في القنصلية البريطانية بمدينة إزمير في تركية، ولذا كان (على أبعد تقدير) "يحافظ على آداب اللياقة" ازاء الدبلوماسيين الانكليز. ولعل خير رد على التشكيك الآخر بشأن تعبيره عن مصالح الكومبرادور، الوصف الذي قدمه باتون عينه: "توفى بوغوص بك في السادسة والسبعين في حالة يرثى لها من الفقر والعوز، وهذا باعتقادي برهان قاطع على وفائه واخلاصه وايمانه المطلق بمصالح الباشا".

ومع علمنا المسبق بأن سؤالنا في غير محله فاننا نصر على طرحه، هل انطلق بوغوص باشا في سعيه الحثيث لتوسيع حدود الدولة المصرية من اعتبارات التعبير عن مصلحة مجموعة معينة من الجمهور المصري العربي ام عن منفعة فئة محددة من رجال السياسة والدولة، أم من موقع حرصه على خدمة محمد علي باشا وعترته الخديوية؟

لا نرى داعيا للتدليل على فكرة أن القومية العربية أو القومية المصرية لم يكن لها وجود لدى الجماهير المسلمة المصرية، كان الجمهور المصري يعد نفسه من "أمة محمد " أي عنصر مصري (وبالأحرى "مصري قاهري" و"إسكندراني" والخ. نسبة الى مسقط الرأس، من العناصر التي تشكل الامة الاسلامية المؤمنة، وبالتالي فهو يحتقر ليس فقط المصري الوطني النصراني، الأقباط (الغرباء) والروم الأرثوذكس، بل و"السوريين الغرباء" مسلمين ونصارى على حد سواء. وحتى الفئة المثقفة المصرية لم ترتفع بفكرها الاجتماعي السياسي وتصوراتها الوطنية عن مستوى المؤسسات الادارية السياسية والعلاقات الاجتماعية الاقتصادية الناظمة لحياة البيئة التي نشؤوا وترعرعوا فيها. واذا قبلنا مجازا أن هناك أشخاصا بارزين أو مجموعة معينة من الأفارد الذين شغفوا بمثل هذا الروح القومية، فمن يا ترى بمقدوره تجسيدها في الواقع: الأب محمد علي باشا ، أم الابن ابراهيم باشا؟

هكذا أجاب بروكيش اوستن في تقريره المذكور سابقا عن هذا السؤال: "أنا لا أدين الرأي العام الذي يعتقد بأن قيام امبراطورية عربية بات قاب قوسين أو أدنى، ومهما بدا هذا الاعتقاد مبالغا فيه، فانه يفترض ولاشك وجود اسباب ودوافع تحض على جعل مثل هذا الاعتقاد محتملا، ولكني أميل لرؤية هذه الدوافع ليس في ذكاء الملك الفطري، بل وعلى الأرجح في الطموح المتزايد الذي يبديه ولي العهد ابراهيم باشا. فهو قد تربى تربية مصرية عصرية خالصة حررته تماما من أغلال التربية الدينية التقليدية، التي تفرض عليه الاذعان والخضوع للسلطان التركي".

لقد أصاب الدبلوماسي النسمسوي المجرب كبد الحقيقة.

حقا ان الروح القومية كانت معدومة تماما لدى محمد علي، فنائب الملك كان يبذل الغالي والرخيص في سبيل الحصول على استقلال سياسي في اطار الحدود المصرية السورية، رغم أن احلاما راودته بشأن توحيد جميع الأقطار الناطقة بالضاد في دولة واحدة خاضعة لسلطانه، لكنه كان يحاول تحقيق ذلك عن طريق الاحتفاظ – قدر الامكان – بالعلاقات الطيبة مع السلطان الخليفة التركي.

بينما كان نجله الأكبر ابراهيم باشا ينظر الى هذه المسألة بمنظار مغاير، وخير مصداق لقولنا التقرير الذي تركه لنا بوالكونت ممثل فرنسة في أركان حرب الباشا "لم يكن ابراهيم باشا يخفي نواياه في بعث الوعي القومي العربي، واحياء أمجاد الأمة العربية، وبث المشاعر الوطنية في نفوس العرب سعيا منه للتعاون معهم في حكم امبراطورية المستقبل العربية".

كما ينبغي التذكير بالشهادة التي استقاها المؤرخ أسد رستم من الارشيف الخديوي بمصر، وهي أن ابراهيم باشا طرح عام 1833 مشروعا كاملا يقضي بالتراجع عن أية فكرة تدعو الى الحكم المطلق للسلطان التركي، ويطالب بانشاء وطن حقيقي للعرب يضم جميع ممالك والده، ويفتح جميع الأبواب أمام العرب ان كان في الجيش، أو في المناصب الرفيعة للحكم وشؤون الادارة الداخلية".

ولعل السجلات البريدية بين الاب والابن الطريفة والحادة تلقي المزيد من الأضواء الكاشفة على وجهات نظريهما في هذا الموضوع الهام.

ردا على تهديدات الأتراك العدوانية كتب محمد علي رسالة الى ابنه ابراهيم باشا بتاريخ 24 آب (أغسطس) 1834، يعرب فيها عن نيته في "تحطيم أغلال الخدمة التي تضيق علينا الخناق". فارسل نجله في 3 أيلول (سبتمبر) جوابا اعتبر هذه الخطوة متأخرة وغير كافية من حيث الجوهر، مما أثار حفيظة ابيه عليه وارساله له جوابا تقريعيا. بيد أن ابراهيم، في رسالته الجوابية المؤرخة في 27 من الشهر ذاته، ارتاب فيها من تبصر وبصيرة ابيه، فقال: "تفضلتم حضرتكم بالكلام عن ضرورة كسر قيود التبعية، وعن أني طالبتكم في ردي لمقامكم العالي ألا نكتفي برمي الأغلال جانبا، بل وبلفها حول أعناق الأتراك أنفسهم، وعن أن هذا يرجع الى عدم تفهمي لأفكاركم، لكني والله استوعبت تماما ما تقصدتم اليه ، وبمقدوركم أن تعد عبارة "لف القيود حول أعناق الأتراك" اضافة رخيصة مني شخصيا. ولكن ليس دون سبب، واليكم تأويلي، فالامبراطورية العثمانية تطمع في أن تكون مركز الخلافة من خلال السيطرة على الحرمين الشريفين (مكة والمدينة)، ولكن، مادام الحجاز يخضع حاليا للحكم المصري، فان ادعاءات الباب العالي حول الخلافة تصبح هباء منثورا في واقع الأمر، اذ لم يعد بمقدور الأتراك – جريا على عادتهم – ذكر اسم السلطان بوصفه خادم الحرمين الشريفين، ما دام الحجاز وبضمنه الحرمين، خاضعا للادارة المصرية، وهكذا، يكبل الأتراك اعناقهم بالاصفاد والأغلال".

وهذا يعني أن حمد علي العثماني أكثر مما هو عربين يصدق فيه الوصف البديع الذي أعطاه اياه دودويل بقوله: "كان هدف الباشا الأساسي متأرجحا بين مشروع الدولة المستقلة وبين خطة اصلاح الامبراطورية العثمانية". بكلام آخر "كان محمد علي يعارض بناء استقلال مصر السياسي على أنقاض الامبراطورية العثمانية واسقاط حكم السلطان – الخليفة التركي. بينما كان نجله ابراهيم باشا عربيا أكثر مما هو عثماني، ولذا أمن بأن عملية الاستقلال السياسي يجب أن تتواكب مع عملية اعادة الخلافة الى العرب أصحابها الشرعيين تاريخيا وقانونيا (مع الابقاء وقتيا واسميا للسلطان التركي بلقب الخليفة). ولعل من المفيد تقديم أنموذج عن هذا التوجه من خلال ما ورد في تقرير القنصل الفرنسي ليسيبس في ايلول (سبتمبر) 1836، والنص حرفي: "وخلافا لابيه، فابراهيم باشا عربي أكثر منه تركي، ولذا نشهد نوعا من الاحترام المتبادل بينه وبين أهل سورية ومصر".

وأكد الأمير بوكلير، موساكو عام 1837 أن ابراهيم باشا صورة معكوسة عن أبيه، فقال بالحرف الواحد أيضا : "كان تصويره لحصار عكا بديعا ورائعا أثار في نفسي الذهول لما أبداه من ملاحظات دقيقة. وعلى النقيض من الباشاوات الأتراك الستة أو السبعة، شرع ابراهيم باشا يعدد مناقب الجندي العربي بقوله: "لن تجد في أي جيش من جيوش العالم أكثر من الجندي العربي اقداما وبأسا. بينما يقف الضابط التركي حتما وراء كل حدث يدل على الجبن والخوف. وهذا ما لم ار له نظيرا عند العرب". ثم يخلص الأمير الى استنتاج مفاده أن ابراهيم باشا "كان يعد نفسه عربيا". وقدم لنا بوالكونت شهادة حية عن ان ابراهيم باشا كان يشيد بقيم العرب وشمائلهم، معتبرا أياههم جهارا على النقيض من الأتراكن "الكسالى الفاسدين". وكان يستشيط غيظا وينقد غضبا عندما كانوا يعدونه تركيا. فيصرخ بأعلى صوته: "أنا لست تركيا، كنت طفلا صغيرا يوم وصلنا الى مصر، ومذاك لفحتني شمس البلاد المصرية وجعلت الدم الجاري في عروقي عربيا". وعن هذا الموضوع يقول بازيلي معاصر أحداث ذلك الزمان: "ان كلام محمد علي بالذات يدل دلالة قاطعة على موقفه من العرب، فعندما توسط لديه ابنه ابراهيم لترقية رتب بعض الضباط المنحدرين من اصل عربي (ابان الحملة المصرية على سورية) أجاب الباش العجوز قائلا: "تذكر جيدا يا بني انك لن تجد بين ملايين العرب عشرة آلاف من المخلصين لجامعتنا (الأتراك)".

من الجلي انه اذا كان العرب يهابون جبروت محمد علي الذي لقبه الفلاحون "ظلم الباشا"، فانهم على حد تعبير جومار – كانوا يهيمون بحب ابراهيم باشا ويعدونه "معبود الجيش المصري". وكانوا يكنونه "أبا خليل" تكريما لمن يسمى عند العوام العرب "أبا الضعفاء والمساكين". وبهذا المعنى يقول بوالكونت: "كان ابراهيم باشا يبشر بحماسة منقطعة النظير بافكار النهضة القومية (العربية) وكان في كل نداءاته يذكر بالتاريخ المجيد للعرب، فيثير الحمية والنخوة في نفوس عسكره، وقد التف حوله جماعة من الناس يؤمنون بأفكاره وآرائه ويناضلون في سبيل نشرها والدعوة لها". كان ابراهيم يتحدث جهارا عن مشروع توحيد جميع الشعوب الناطقة بالعربية في دولة واحدة موحدة، وعن فتح الأبواب الموصدة أمام العرب كي يتسلموا أرفع المناصب الادارية والحكومية والعسكرية ، فضلا عن استعداده الكامل لان يقاسمهم الحكم والسلطان والأموال العامة". وقد سرت عدوى هذه الدعوة الى التركي مختار بك، الذي أعلن على الملأ أنه وأمثاله كانوا أطفالا حين أحضروا الى مصر، ولذا لا يجمعهم أي جامعة بأتراك ذاك العهد. وأكثر من هذا ، فهو قد أكد عدم انتمائهم الى الجنس التركي "الذي ارتبط بأذهانهم ارتباطا وثيقا بالفساد والعنجهية والجبروت". بل الجنس العربي "الذي نشر العلوم والآثار الحضارية والاكتشافات العظيمة"، كما أنه غطى الأرض بدءا من ايران النائية حتى جبال الاندلس – بالمدن العامرة والآثار المعمارية الرائعة التي يعجز الانسان عن وصفها".

ومن المميز أخيرا ، أنه في الوقت الذي كان فيه محمد علي باشا يسابق الريح للوصول الى الأستانة عام 1846 لاستجداء السلطان – الخليفة "وتقبيل قدمي سيده" طالبا الصفح والغفران، كان ابراهيم باشا يجوب (هو ونوبار باشا) ايطالية وفرنسة وانكلترة طالبا للعلاج وتوقا للتعرف عن كثب على منجزات الحضارة الغربية في سبيل تحقيق المشاريع العديدة التي كانت تدور في مخيلته، وفي مقدمتها تعميق وترسيخ الاصلاحات الاحادية الجانب التي قام بها والده ، وللتدليل على الأفكار التي كانت تعتمل في رأسه نسوق اقتباسا من حديثا الى بيتزان مترجم السفارة البريطانية في الأسانة اذ قال:

"لقد أخطأ الباب العالي في فهمه واستيعابه للحضارة الأوربية، فالنهضة الحقيقية لا تبدأ اطلاقا من تقديم الرتب واغداق الأوسمة والنياشين والبناطيل الضيقة الى الأمة، كان خليقا به ألا يبدأ بالأزياء (فاللباس لا يقوم مشية الأعرج أبدا)، بل بالسعي لتنوير أذهان الناس وعقولهم".

كانت سهام ابراهيم موجهة الى الباب العالي بقدر ما كانت موجهة نحو أبيه . وقد أصاب جومار عين الحقيقة حين أكد قائلا: "كان ابراهيم يتطلع مبهورا الى أضواء المدنية الغربية المشرقة، ويوجه جل اهتمامه ورعايته لتطوير التعليم". كان من المتوقع أن يسارع لتحقيق مشاريعه الاصلاحية بمجرد اعتلائه عرش مصر بدلا من والده العجوز، ولكن يد المنون عاجلته قبل أبيه.

ومهما كان الأمر ، فان الحركة النهضوية الثقافية ذات الطابع العسكري المحدودة الأهداف والأبعاد، قد توقفت قبل أن تتوقف حياة ملهمها محمد علي باشا. فقد هزمت أنكلترة – بدعم دبلوماسي من النمسة وبروسية وروسية (وعسكري ايضا من النمسة) – نائب الملك محمد علي في تشرين الثاني (نوفمبر) 1849 واجبرته على توقيع صك الاستسلام، واضعة بذلك شاهدة قبر على الآمال والأوهام السياسية التي راودته ردحا طويلا من الزمان، واضطرته الى الاعتراف بوضعه الجديد ، أي بوصفه تابعا عاديا متواضعا خاضعا لارادة السلطان العثماني، وليس هذا وحسب، ففي الفاتح من حزيران (يونيو) 1841 صدر "خط شريط" أ يفرمان سلطاني يقضي بتخفيض عدد الجيش المصري، ويحرم الباشا من حق تعيين الجنرالات في جيشه ومن حق بناء السفن الحربية وامتلاك أسطول حربي خاص.. وهلمجرا. الأمر الذي أوقع ضربة قاضية بمشاريع الاستقلال المصري، وأفرغ الحركة النهضوية العسكرية النزعة من مضومنها. وبتعبير آخر: أجبر السلطان التركي باني مصر الحديثة محمد علي على التراجع عن أوهامه بشأن الرأس الحقيقي والاكتفاء كسيده بالعمامة المفتخرة.

ولكن الأوهام التي راودت الأب سرت عدواها الى نجله ابراهيم باشا (والى كثيرين غيره طبعا)، الذي كان يدير شؤون الحكم نيابة عن الباشا الكبير التي ذهبت طموحاته ادراج الريح، بمساعدة الاقطاعيين والأعيان وكبار الموظفين العرب (المنحدرين من أصل الباني وممن تمصروا تماما) سعيا منه لانعاش اصلاحات أبيه أو ما تبقى منها في أواسط الأربعينيات. وقد اعتمدت جهوده المبذولة على قاعدة اجتماعية اضافية تمثلت في طبقة التجار المهتمين الى أقصى حد في تطوير وتعميق العلاقات الراسمالية التي تبرعمت بفضل اصلاحات محمد علي وتدابيره، وفي طبقة الملاكين العقاريين الليبراليين الذين تطلعوا الى تخفيف حدة الاستثمار الاقطاعي القروسطي الى حد ما عن طريق ادارة الاقتصاد وفق أسلوب الانتاج الرأسمالي . ومن ناهل القول ان الفئة الجديدة من المثقفين المصريين الذين اهتموا بتقدم المجتمع المصري ورقيه، شكلت رغم ضعفها النسبي سندا للجهود التي بذلها ابراهيم باشا، واذن، ليس من فعل المصادفة المحضة ظهور "الجريدة التجارية الزراعية" التي أنشأها ابراهيم باشا قبليل وفاته بعشرة ايام في غرة تشرين الثاني (نوفمبر) 1848، ونجهل كم بقيت من الزمان بعد نشأتها.

هذه الصفوة الابراهيمية الوطنية ذات التوجه الفرنسي بحكم الأوضاع السائدة، هي التي وقفت عائقا بوجه اعادة مواقع السيادة السلطانية وبوجه جميع العراقيل التي كانت توضع امام تطوير البلاد. بيد أن هذه الصفوة تعرضت لردة فعل قوية من جانب طبقة الاقطاعيين والملاكيين العقارين وكبار الموظفين الجرعيين والمحافظين، التي كان أغلبها من الباشاوات والبكاوات الأتراك والألبان والأكراد والجركس. وقلة قليلة من العرب. هذه الطبقة حظيت بتاييد فئة جاهلة من علماء الدين العرب، الذين مارسوا نفوذا قوية على العامة من الشعب التي كانت أسيرة المعتقدات الدينية التي ترقى الى تجهيلية القرون الوسطى. هؤلاء النفر من العلماء الذين يعموا وجوههم شطر عاصمة السلطان – الخليفة، كانوا – بحكم الظروف السائدة – ميالين للتوجه الانكليزي لاعتقادهم بأن الفرنسيين كانوا وراء الاصلاحات التي قام بها محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا ولاسيما ان النفوذ البريطاني كان على أشده في البوسفور وفي وادي النيل.


فابراهيم باشا الذي كان جاهدا للحد من مواقع النفوذ الاداري، السياسي العثماني، والتملص من تحقيق بنود الاتفاق الانكلو –تركي لعام 1838، المتعلقة بمصر والتي فرضت على القاهرة سنة 1842، والوقوف بوجه الغاء نظام احتكار الدولة، وتوسيع مواقع التجار والصناعيين في السوق المصرية وانعاش عملية تغلغل الرأسمالية الأجنبي، فضلا عن معارضته للتدخل الدبلوماسي الأوربي، ولاسيما الأنكليزي ، في شؤون البلاد الداخلية، سعى قدر الامكان أيضا لارساء الاسس السليمة المنيعة للحياة الادارية والاقتصادية المالية، والحفاظ على مقومات تطوير الحياة الاجتماعية الثقافية في مصر. بيد ان ابراهيم باشا لم يجد متسعا من الوقت لتحويل برامجه الاصلاحية الفردية الطابع الى نهج ثابت في سياسة الدولة، فبعد ثلاثة شهور من تسلمه عرش البلاد المصرية وافته المنية في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1848. كما انشبت المنية أظافرها بتاريخ 2 آب (أغسطس* 1849 بمحمد علي الذي كان منذ أمد بعيد ينظر الى الحياة بعين بلورية هامدة.

استلم عباس حلمي باشا (1813-1854) مقاليد الحكم رسميا في 24 كانون الأول (ديسمبر) 1848، وجده لا يزال على قيد الحياة. كان متفانيا في الولاء للسلطان التركي وللانكليز. فضلا عن أنه كان على رأس القوى الرجعية والعناصر المحافظة، وبالتالي كان من ألد أعداء وصايا وتعاليم محمد علي وابراهيم باشا. وقد قرن كريمسكي اسمه بنعوت كثيرة أمثال "رجعي" و"عدو الاصلاح" و"مسلم جاهل". وعن هذا الموضوع يقول لوتسكي: "... وكرجعي قلبا وقالبا نتبين أنه وضع نصب عينيه مهمة القضاء على نتائج الاصلاحات قضاءا تاما". كان كريمسكي على حق تماما، فعباس لم يتوان قط عن ترديد العبارة التالية: "لم تعد مصر دولة تركية، بل دولة مسيحية". وهو لم يكتف بالقول بل قرنه بالفعل ففعل المستحيل من أجل اعادة النظم التركية التي أكل عليها الدهر وشرب.

لهذه الأسباب مجتمعة كان عباس علمي باشا عديم الرحمة تجاه أولئك الأشخاص الذين ساعدوا جده في صراعه العسكري الدبلوماسي الرامي الى تحقيق أكبر قدر من الاستقلال عن السلطنة العثمانية، وكل الذين عرقلوا مساعي التغلغل الاقتصادي السياسي البريطاني الى ارض النيل، ومن الجلي أن الشخصيات الأرمنية البارزة، والتي أسدت خدمات جليلة في شتى مجالات التطور الاداري والسياسي والاقتصادي والثقافي، كانت أول من تلقى الضربات القاضية التي كالها الخديوي الجديد.

كان محمد علي – بحكم طموحه الواسع للبقاء خارج نفوذ نظام الامتيازات ولتوجيه ضربة مضادة لاستفزازات الغرب الأوربي، ولاسيما الانكليزي – يدير ظهره للبنوك الأوربية متوجها للتجار والمسلفين الشرقيين الكبار في تركية والشرق عامة، ولاسيما الى رجال المال والأعمال الأرمن. نذكر منهم على سبيل المثال: بغيازار بدروسيان، وأمراء آل هامبرتسوم كريكوريان، والكسان ميساكيان، وأراكيل أبرويان. أضف الى ذلك بعض الأسر العربية وغير العربية العريقة بثرواتها مثل آل الصباغ، والخياط، وفتح الله، والهندي، وعيواط وغيرها. وكقاعدة عامة كان كبار الصيارفة ومديرو بنك الاصدار من الأرمن. فقد تعاقب على رئاسة ديوان الشؤون الأوربية والتجارة المصرية كل من الآتية أسماؤهم: بوغوص يوسفيان، وهاروتيون جراكيان، وآراكيل نوبار، ولذا كان الأوربيون يطلقون عليه بحق اسم "الديوان الأرمني". كما تسلم الأرمن ادارة فروعه الخارجية الهامة في مدن باريس وأمستردام وترييستا وأزمير وغيرها. وكانت ادارة الشؤون الخارجية في عهد محمد علي موكلة تباعا الى بوغوص بك، وأرتين جراكيان، وستيبان ديمرجيان، الذين ساهموا اسهاما فعالا في تحقيق التدابير الاصلاحية ليس في مجالات الاقتصاد الداخلي وحسب، بل وفي شتى المجالات التجارية – الاقتصادية الخارجية، فضلا عن التدابير الدبلوماسية، وكان أول عمل هام قاموا بتحقيقه هو نظام احتكار الدولة.

وما دام الاستقلال الذاتي الاداري – السياسي أو الاقتصادي المالي لمصر، كان يواجه ضربات موجعة لما يسمى بحقوق الحضرة السلطانية، ويوجه طعنة للمطامع التوسعية الانكليزية، فان رجال الدولة الأرمن كانوا في طليعة الذين كنوا عداء سافرا لتلك المطامع، وبالتالي كانوا في مقدمة من تعرضوا لضربات عباس حلمي باشا، واذن ليس مصادفة محضة اطلاقا، ان الساسة الأرمن وعلى راسهم جراكيان ودميرجيان، تعرضوا للاقالة وحتى للسجن والنفي من البلاد.

وقد صفي عباس حلمي المعامل اليدوية (المنانيفاكتورات)، وأوقف بناء القناطر الخيرية ، لا بل أنه امر بتهديم ما تم تشييده منها. وقلص عدد الجيش الى مستوى أكبر مما طالب به السلطان التركي . واذا كان الجيش في عهد محمد علي ، ولاسيما بجهود ومساعي ابراهيم باشا الجدية، قد اتسم بطابع وطني مصري وعربي، فقد تحول أيام عباس حلمي الى مجرد حرس شخصي له، تآلفت فصائله من مرتزقة أتراك والأقوام الأخرى.

وكان عباس حلمي مغاليا في تعصبه الديني "ونموذجا طبق الأصل من التركي في مدرسة الكتاب" – كما أشار الدبلوماسي الانكليزي كاميرو، وأكد باتون أنه كان "على جهل تام في مجال الأدب والعلم". ولذا احتقر علانية وجهارا الثقافة الغربية والتنوير عامة، معتبرا اياهما رموزا مسيحية، ومن هذه القناعة الخرافية انطلق عباس حلمي حين أغلق تقريبا جميع المدارس التي أنشأها محمد علي ، واضطهد بقوة جميع المثقفين الحقيقيين والمنورين الأصليين، وفي المقام الأول أولئك الذين شكك في ولائهم لفرنسا، أو حتى في توجههم نحو الثقافة الفرنسية التنويرية. وقد ساند في حقل التعليم "المناهج المدرسية التركية والتعصب الديني الأعمى" – حسب تعبير كاميرون. وينبغي التنبيه هنا الى أنه تذرع بحجة بقاء الطهطاوي بغير منصب بعد اقفال مدرسة الألسن، فأمر بارساله الى السودان لنظارة مدرسة الخرطوم فلم يبق له في منفاه سوى الانكفاء في غرقته الضيقة والعكوف على الترجمة. فترك لنا كتاب "مواقع الافلاك في أخبار تيلماك" وهو تعريب عن فنلون مع بعض التصرف.

من الواضح تماما أن الفئات العليا من أنصار التحولات، وكذلك الأوساط التجارية – الربوية التي اعانت الاختناقات الاقتصادية أيام عباس حلمين فضلا عن البرجوازية الفرنسية التي فقدت مصالحها السياسية والاقتصادية من جراء منافسة الانكليز لها في مشروع شق قناة السويس وغيرها من القوى الفاعلة على الساحة المصرية لم تعد تطيق صبرا على هذه الأوضاع المتأزمة وليس من باب المصادفة أن عباس حلمي قضى نحبه فجأة في ظروف غامضة بتاريخ 2 تموز (يوليو) 1854، ومن الأرجح ان اثنين من حرسه الخاص اغتالاه في قصر نبها. وفي 2 تموز (يوليو) 1854 تسلم عرش مصر محمد سعيد باشا (1854-1863) احد أولاد محمد علي الذي حصل تعليمه في باريس واشتهر بحبه الشديد للغرب وبتفكيره الحر.

الفصل الثاني: بوادر النهضة الثقافية على أرض لبنان

كانت بلاد الشام المعروفة تاريخيا وجغرافيا باسم سورية، مهدا لعشرات الطوائف المسيحية، وموطنا للديار المقدسة المتعددة، وفي طليعتها القدس الشريف. وكانت على اتصال دائم ومستمر مع الواقع الأوربي بدءا من الحملات الصليبية المتتالية وانتهاء بخلفائهم من ارساليات المبشرين الأوربيين في العصور اللاحقة.

وشاءت الاقدار ان كانت الطوائف اللبنانية ، ولاسيما الطائفة المارونية الكاثوليكية والطائفة الدرزية ، على اتصال أكبر بالواقع الأوربي من خلال الأمارة اللبنانية التي تشكلت في البيئة الدرزية واتحدت مع الطوائف النصرانية مكونة إمارة قوية شبه مستقلة.

منذ مطلع القرن 17 أرسى اللبنانيون الجبليون أسس علاقاتهم واتصالاتهم بأوربة الغربية. والفضل في هذا الانتعاش يرجع الى الميول التحررية المعادية للأتراك التي كانت تعتمل في صدر كبير الأمراء اللبنانيين الأمير فخر الدين المعني الثاني (حكم في سنوات 1590-1635). وهي التي أملت عليه بالضرورة حبه للعلم والتنوير والرقي والتقدم فقام برحلاته العديدة الى ايطالية موطن العلم والنور. لا جرم في أن السلطان التركي قد نجح مؤقتا في اخماد هذا البركان المشتغل في بحر من الدم الزكي، ولكن حمم بركان فخر الدين المعني وسمت بميسمها الاتجاه الأساسي لكل حركة سياسية – وطنية عربية معادية للأتراك عبر التاريخ. فضلا عن أنها أبرزت ضرورة التفاعل والتواصل بين كل حركة فكرية – ثقافية تقدمية وبين الواقع الأوربي الحضاري.

تجدر الاشارة الى أن العديد من الكتاب والمؤرخين المسيحيين ركزوا جل انتباههم على هذه الصلات الوثيقة بين أوربة والمشرق باعتبارها من المقدمات الأساسية لنشوء النهضة العربية الحديثة. فالأديب الكبير حنا الفاخوري يؤكد مثلا أن تلك الاتصالات "كانت كالشرارة التي اشعلت النار والنور في العالم العربي، فأيقظت حركة الأفكار والتأملات التي قادت الى التطور الفكري – الثقافي وازدهار الآداب عامة".

ومما لا شك فيه أن المستشرق السوفيتي عثمانوف لطف من واقع هذا التشديد على أهمية هاتيك الاتصالات ليؤكد بحق "أن الاتصالات مع البلدان الأوربية التي سارت في خط بياني متصاعد عبر القرون 16018 لعبت هي الأخرى دورا هاما في نهضة المشرق العربي".

مقدمة تمهيدية

حلب الشهباء قبس من نور في الديجور

بعد الأمير فخر الدين المعني تحول مركز الاشعاع من الارض اللبنانية مؤقتا الى مدينة حلب أكثر المدن السورية نورا حتى في أثناء تلك الظلمة. كانت حلب أكبر مدن الشمال السوري لا تزال تحافظ على أهميتها الادارية والاقتصادية والثقافية التي تمتعت بها في العصور الوسطى. فدخلت عتبة العصر الحديث بخطا أكثر حيوية ونشاطا من غيرها. فبالاضافة الى غالبية سكانها العرب المسلمين كان يعيش في حلب عدد لا يستهان به من أبناء الشعوب الشرقية الأخرى كالترك والفرس والأرمن واليهودن، علاوة على التجار ورجال الدين والدبلوماسيين الايطاليين والفرنسيين والاسبان وغيرهم من الأوربيين.

بيد أن حلب لم تشتهر فقط بكثافتها السكانية وأهميتها الاقتصادية، بل بكونها مركزا حضاريا للعلم والأدب. فالعائلات الحلبية التي تعاطت التجارة، والمسيحية بخاصة، اشتهرت برعايتها للعلوم والفنون. فنبغت بينها طبقة من رجال العلم والأدب المسيحيين في القرنين الأخيرين قبل هذه النهضة. وليس من قبيل المصادفة أن أرباب الفكر ورجال القلم الأوربيين اتخذوا حلب محطة أساسية لرحلاتهم وتنقلاتهم عبر الشرق. ولاغرو أن الشاعر الفرنسي لامارتين قد تأثر جدا في العقول الأولى من القرن التاسع عشر بمدينة حلب التي وصفها ب"أثينا آسية". ينبغي التذكير أيضا أن كبار المستشرقين الأوربيين في لندن وليدن وغيرها من المدن الأوربية، أمثال يعقوب غوليوس الهولندي (1596-1667)، رحلوا الى المشرق وأقاموا مدة في حلب بهدف تعميق معارفهم في آداب اللغة العربية، فوطدوا علاقات وثيقة مع رجال الفكر النصارى ومن بينهم الأرمن، وبالمناسبة صحب المستشرق غلويوس معه الى هولنده معاونه شاهين الجندي الحلبي الأرمني.

في مطلع القرن 18 شهدت الحركة الثقافية في حلب انتعاشا باديا في أوساط المثقفين من أبناء الطائفة الملكية (الروم الأرثوذكس) على يد الزعيم الروحي البطريرك أثناسيوس الدبس الراع الأنطاكي. وما يعد له فضلا جزيلا انه كان أول من أنشأ مطبعة عربية، اذ استجلب أدواتها من بلاد الفلاخ برعاية حاكم تلك البلاد برانكوفيتش. وهكذا، كان السوريون أسبق المشارقة الى الطبع بالحرف العربي، وأسبق مدن سورية الى هذا الفضل حلب. استمرت هذه المطبعة في العمل من سنة 1701 – 1704، وطبع فيها أول كتاب طقسي كنسي بالعربية واليونانية سنة 1702، ثم طبع الإنجيل فيها سنة 1706، وأكثر مطبوعاتها من كتب الدين.

وفي الربع الثاني من القرن ذاته ظهر حلقة أدبية – ثقافية بين أبناء الطائفة الكاثوليكية الاقل عددا، الأكثر ثراء، كان المبادر اليها أسقف أبرشية الطائفة المارونية بحلب جبرائيل بن فرحات مطر (1670-1732) الذي وسم أسقفا على حلب واشتهر فيما بعد بالمطران جرمانوس فرحات الماروني. ولد في حلب وتلقى العلم على أدباء عصره المسيحيين والمسلمين (تتلمذ على يد الشيخ سليمان المعروف بالنحوي الحلبي). فدرس العلوم الرائجة في عصره، كاللاهوت الأدبي والمنطق والفلسفة والتاريخ. واتقن اللغات العربية والسريانية واللاتينية والايطالية واليونانية والفرنسية. ومما لا شك فيه أن فرحات لم يكتف بداية بالعلوم الأولية التي تلقاها في مدرسة الطائفة التي أسسها المطران أسطفان الدويهي (1662-1668)، وبدروس الفلسفة واللاهوت التي استقاها من الخوري بطرس التولادي (1657-1745) الذي درس الفلسفة في ايطالية وان من أعظم الثقات في الفقة الاسلامي والعلوم الطبيعية، بل ازداد اختبارات ومعرفة من زيارته الى ايطالية واسبانية وصقلية وغيرها (1711-1712) ومن خلال نشاطه الزاخر لجمع مكتبة نفيسة قدمت خدمات جليلة للآداب العربية.

ومن الوجوه البارزة في الأوساط الأدبية بحلب نذكر اللاهوتي والأديب اللغوي الخوري نقولا الصائغ (1652-1756) والشاعر نعمة الله الحلبي والمتوفى سنة 1170، والشماس عبد الله زاخر الحلبي (1680-1748) والشاعر الياس فخر (بين 1697-1751). ولعل أشهرهم قاطبة مكرديج إلكسيج الأرمني الكاثوليكي ابن كيوريغ عبد الله بن هاشم مكرديج، من مواليد كلس. كان من العاملين في النهضة العربية مع نقولا الصائغ وجرمانوس فرحات. وقد أشاد الأخير بفضائله في قصيدته الشهيرة "التذكرة" واصفا اياه بالزميل والصديق. بينما وصفه نقولا الصائغ بقوله "انه تاج الأدباء وسراج الحكماء". وهذا الكلام ليس من قبيل العبث، فالأرمني مكرديج أخذ العلم عن فرحات وأستاذه التولادي. وخلف لنا تأليف قيمة في اللاهوت والفلسفة اشتهرت في حياته بطريق الاستنساخ. وقد خص عيسى اسكندر المعلوف في كتابه "حوض اللآلئ" حيزا مرموقا لمكرديج الكسيح، ذكر فيه عناوين تأليفه المخطوطة المحفوظة في مكتبات رومة ولندن وفيينا.

كانت الحركة الأدبية التي ترأسها جرمانوس فرحات قد طرحت برنامجا تعليميا تربويا محددا (انشاء المدارس العلمانية، تأسيس مطبعة، نشر الآداب والعلوم) دفع كراتشكوفسكي لوضعه في عداد "المقومات" التي مهدت لقيام النهضة الأدبية قبل مطلع القرن التاسع عشر، ولاسيما انها بقيت ظاهرة فريدة اهتمت على الأغلب بنشر كتب اللغة، أكثر من اهتمامها بانعاش الأدب الحقيقي. وبالفعل، لو ضربنا صفحا عن الاعتبار الهام التالي: وهو أن مدينة حلب كانت أشبه بجزيرة لنمو العلاقات الرأسمالية التجارية – الربوية في خضم بحر العلاقات الاقطاعية المنتشرة انتشارا عظيما في سورية الداخلية، بالاضافة الى الوسط الاجتماعي الاسلامي المغالي في التعصب الأعمى والمتمسك بتلابيب أفكار القرون الوسسيطة الظلامية، فان هذه الأجواء لابد أنها تركت بصماتها على نشاط حلقة فرحات وعلى الحياة الجديدة التي حاولت الطوائف المسيحية انعاشها وتطويرها. لا بل ان واقع التباين في الانتماء القومي والمذهبي للأشخاص الذين حلقوا حول هذه الحركة الأدبية، جعل منها قصبة في مهب الريح تنازعتها انواء الانعزالية الطائفية، والعقائد الجامدة، والخرافات والخزعبلات السائدة عصرئذ. جميع هذه الوثائق تشير الى الضرورة الملحة التي وقفت أمام تلك الحركة باتجاه تعميق وتجذير الأفكار والآراء كي تتماشى وروح العصر الجديد.

وأكثر من هذا، فنحن لا نتردد في الربط بين اسم فرحات وبين العديد من الأبحاث والمصنفات النفيسة في العلوم اللغوية، لا بل نقرن اسمه بأول تجربة مميزة في مجال تجديد اللغة والأدب العربي، كان فرحات رائدا في تصنيف الكتب المدرسية، اهتدى – ولا شك – بالتراث العربي التقليدي، ولكنه وضع اسسا جديدة مبتكرة في تعليم اللغة العربية لأبناء طائفته _وليس لهم فقط) مسترشدا في كل ذلك باصول القواعد والنحو التي سار عليها الأوربيون. كان فرحات أول من أنهى تأليف معجمه النفيس المسمى "باب الإعراب عن لغة الأعراب" (1718)، حذا فيه حذو الفيروز آبادي في "القاموس المحيط "، مضيفا اليه الكثير من المفردات والتعابير المنتشرة في الوسط المسيحي لا غيره، أخيرا، كان فرحات سباقا في استكمال التجربة التي أخفق في انجازها المدعو سليمان الغزي في القرن الرابع عشر، والرامية الى التوليف بين عروض الشعر العربي واوزانه المختلفة وبين مضامين الشعر النصراني الديني، فنظم قصائد راقية مكرسة لمريم العذراء، وقرض أشعارا من لون الخمريات مهداة الى سر المعمودية. ومن هذا المنطلق نردد بكل فخر كلمات الأديب عبد الجليل الذي قال فيه: "فرحات من أعظم مشاهير رواد النهضة".

غير أن عاصفة هوجاء هبت على مدينة حلب فاخمدت نار هذه الحركة الثقافية التي اختفت معالمها تدريجيا في العشرينيات من القرن السابع عشر. الأسباب عديدة بالطبع لعل أهمها ذلك الانقسام الذي شجر داخل الطائفة الملكية الأرثوذكسية بين علية الأكليروس ذات الاصل اليوناني وبين قطيع المؤمنين العرب، لاختلافهم هول المسائل القومية – الاجتماعية بعد وفاة بطريرك انطاكية الشهير مكاريوس الحلبي (1672)، ذلك الخلاف الذي أدى الى تعميق الهوة بين الفريقين المتنافسين والى اعتناق عدد ملموس من الملكيين للمذهب الكاثوليكي. وعلى اثر الاضطهاد الذي مورس بحق البعض وبتشجيع من السلطات التركية، حسب قاعدة فرق تسد ، أقدم البطريرك الماروني اسطفان الدويهي على تشجيع الهجرة الى جبل لبنان. ففي سنة 1693 هاجر قسم منهم بقيادة جرمانوس فرحات الى قضاء اهدن، ونزح القسم الآخر الى دير مار حنا في قرية الشوير فكان مقدمهم نقولا الصائغ الذي وسم راهبا لتوه. وهنا ، جدد فرحات نشاطه الأدبي فألف ما عرف ب"ديوان المطران فرحات" ضمنه خيرة قصائده ومراثيه ومزاميره، وواصل عمله في مديان الألسنيات، فأبدع في علم المباني والبيان والعروض والقوافي، ووضع تصانيف كثيرة في علم العربية، لعل أعظمها كتاب "بحث المطالب" في الصرف والنحو، طبع مرارا.

لم تكن دعوة البطريرك الدويهي لهجرة رجال العلم والفكر الحلبيين الى جبل لبنان منزهة عن الأغراض والمقاصد، فالطائفة الدرزية لعبت دورا قياديا على الصعيدين السياسي والاداري في امارة جبل لبنان ، وكانت أقل عددا من الطائفة المارونية في شتى أرجاء الجبل (ماعدا الشوف مهدها الاصلي). ان رعاية الأمراء الشهابيين للفلاحين والحرفيين النصارى انتهت الى انتشارهم انتشارا مكثفا في معظم أنحاء الجبل، والى تصاعد وزنهم النوعي في عملية تطوير البلاد اقتصاديا ، والى القيام بالدور الأساسي في انتاج وتصدير الحرير والقيام بدور الوساطة التجارية بين أوربة والمشرق. الأمر الذي أدى الى تحسين الأوضاع المادية للسكان في لبنان الشمالي والوسيط. وبالتالي الى زعزعة المواقع الاقتصادية – المالية للطائفة الدرزية. ومن الجانب الآخر، فالروابط المتباينة في شكله ومضمونها مع العاصم الأوربية. وفعاليات التبشير الديني التي اضطلع بها المرسلون الأجانب.وتعاظم الوزن النوعي من حيث الكم والكيف الى نبوغ طبقى من رجال العلم والأدب الذين تسلموا ادارة الأعمال الأميرية وتصريف شؤون الطبقة الاقطاعية – العقارية وغيرها من العوامل التي حسمت التغير في ميزان القوى لصالح الموارنة. ومن هنا تطلب الوصول الى هيمنة الطائفة المارونية على شتى مجالات الحياة وفرض سيطرتها الكاملة على مقدرات الامارة دون رجعة. تطلب بذل الجهود الفكرية والثقافية الأخيرة، الهادفة والمركزة، وصولا الى تحويل الامارة الدرزية عمليا الى امارة مارونية.

وفي الوقت ذاته، كانت العلاقات النقدية – السلعية التي تبرعمت في العقود السابقة وشهدت انتعاشا ملحوظا في مطلع القرن الثامن عشر لاقي تطوره السريع في المستقبل القريب، فاستوجب ضرورة ايجاد هيكلية فكرية مناسبة لوتائر التطور الجاري من حيث تجديد الأفكار والعقائد السائدة لدى الأكليروس الاقطاعي بمساعدة التنوير الارسالي – الرهباني.



الطباعة في لبنان

ليس مصادفة محضة أبدا ان نقولا الصائغ كان قد أعد الترتيبات اللازمة لسكب الحروف العربية سنة 32/1733 في دير مار حنا بمساعدة أخيه عبد الله زاخر (1680-1748)، ولتأسيس أول مطبعة كاثوليكية عربية أصدرت حتى سنة 1753 ما ينيف على العشرين كتابا في اللاهوت، وهي عبارة عن تراجم لمواعظ الآباء اليسوعيين في الزهد والتقشف، والتي لا تثير في نفس قارئها الشوق الى المعرفة والنور. بل توقظ فيه الميل الى "الانعزال والانفصام عن العالم الآثم والدنيا الفانية"، على حد تعبير الرحالة الفنرسية فولني.

ورغم التناقش الطائفي المذهبي فان الخلفية الفكرية كانت متطابقة الأهداف بين المطبعة الكاثوليكية المشار اليها أعلاه، وبين مطبعة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس التي تاسست في بيروت سنة 1751، وقد طبعت الكثير من كتب التاريخ والأدب، ويرجع الفضل في انشائها الى الشيخ نقولا يونس الجبيلي المعروف بأبي عسكر، وقد دمرت كلية سنة 1770 من جراء القصف المدفعي للاسطول الروسي ابان العمليات الحربية ضد الأتراك.

خلاصة القول: اتسمت الحياة الثقافية في جبل لبنان وبيروت, بطابع ديني ، فكان الأدب اللاهوتي – الروحاني اللون المهيمن الذي شدد الخناق على علم تدوين التاريخ.

وهذا أمر لا مناص منه في ظروف الهيمنة المطلقة التي فرضتها الكنيسة على الحياة الاجتماعية. اذا كانت الدوغماتية الدينية القاعدة الأساسية التي قامت عليها المؤسسات السياسية والقانونية والايديولوجية، وحيث كان التعليم الديني – الروحاني المصدر الأساسي للحياة الفكرية – الثقافية، وعن هذا الموضوع كتب أحد المعاصرين يقول: "الدين في جميع مظاهره يتمازج ويتشابك مع جميع تجليات الحياة الاجتماعية، لا بل يستقطب كل الطموحات والتطلعات القومية".

لقد ترك المذهب الكاثوليكي اثرا بالغا في الحياة الاجتماعية اللبنانية، فالطائفة المارونية التي شكلت واحدا من العناصر الأساسية في التركيب السكاني لجبل لبنان، وكانت على صلات وثيقة وتابعية برومة الكاثوليكية، استقطبت منذ أواسط القرن الخامس عشر أنظار البابا والمبشرين المرسلين الى المشرق، الذين استهدفوا بسط هيمنة كاملة هلى هذا الطائفة. وفي هذا السياق يجب النظر الى ارسال الشبان الموارنة للتعلم في رومة في أواخر القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، والى تاسيس الكلية الرهبانية المارونية في رومة التي دشنها البابا غريغوريوس الثالث عشر سنة 1584.

ومن نافل القول أن التدابير التي استهدفت التبشير الديني – المذهبي لم تترك أدنى حد من النتائج الايجابية على الحياة الفكرية والثقافية داخل الطائفة المارونية. حقا ان الشبان الأكثر موهبة وذكاء من الآخرين (أمثال: الهيكلاني والسمعاني والصهيوني وغيرهم) الذين اكتسبوا علماء واسعا ودراة وحكمة عميقة. قد تراجعوا عن فكرة العودة الى مسقط رأسهم، وعن مهمة القيام بدور الوعاظ العاديين، ولكن الصحيح أيضا ان بعض الذين عادوا ، مما يعدون على الأصابع، من بينهم اسطفان الدويهي (1629-1704) الذي تلسم منصب البطريرك الماروني عام 1670، بذلوا قصارى جهودهم لعدم التقوقع في مجال التبشير والخدمة الروحانية، بل تفانون في خدمة العمل التربوي التعليمي.

وبصرف النظر عن أن وضع النشاط التعليمي التربوي حتى مطلع القرن التاسع عشر لم يكن على النحو الذي تحسد عليه الطائفة المارونية وطائفة الروم الكاثوليك المتفرعة عنها، ولكنه كان أشد سوءا وتدبيرا في الأوساط الأرثوذكسية والدرزية والشيعية، اذ لم توجد مدرسة واحدة لتعليم مبادئ القراءة والكتابة. وهذا كان الحال أيضا داخل الطائفة السنية، اذ كانت الكتاتيب تعلم تلاوة القرآن وأصول الفقه "المراكز التنويرية التوحيدية".

ولكن وانصافا منا للحقيقة التاريخية، نسجل هنا الشاهدة التي وردت على لسان الدبلوماسي الروسي الشهير والعالم الفذ قسطنطين بازيلي، المطلع خير اطلاع على أحوال ذلك العصر والقائمة "بأن السوريين عامة، واللبنانيين خاصة كانوا، بفضل ذكائهم الفطري ومواهبهم العظيمة، أرقى مستوى وتقدما من الأتراك والرعايا المسلمين الخاضعين للحكم التركي من بقية المقاطعات العربية".


دخول لبنان عتبة العصر الحديث

لقد ولج لبنان عتبة العصر الحديث في عهد الأمير بشير الثاني الشهابي (1788-1840)، أي في الربع الثاني من القرن التاسع عشر ولدينا كل الأسس والدلائل التي تجيز لنا الربط بين هذا الأمير الكبير وبين التحولات الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية – المجتمعية والفكرية – الثقافية التي جرت في عهده. والحقيقة التي نود التركيز عليها هي أن بشير الثاني نجح فعلا في انجاز عملية توحيد جميع الأراضي اللبنانية واستكمال بناء دولة الامارة اللبنانية الموحدة في ظروف التجزئة الاقطاعية والفوضى السياسية السائدة في كل بلدان المشرق العرب. علاوة على ذلك، كان بشير أول أمير محلي في العالم العربي بذل جهودا جبارة لخلف دولة مركزية قوية ممهدا الظروف لعملية التطوير الاقتصادي المتعدد الجوانب. ناهيك بأن ظروف الأمن والطمأنينة التي كفلتها هاتيك الدولة العزيزة الجانب ضمنت بالطبع ليس فقط تطوير الزراعة، بل وتنمية الحرف والصناعات اليدوية والتجارة وغيرها من الأنشطة الاقتصادية التي مهدت السبيل امام استكمال عملية البرجزة في الجبل والمناطق المحاذية له.

وفي هذا السياق يحتل الواقع التالي أهمية متزايدة وهو أن دولة الامارة التي وطد أركانها الأمير بشير كانت أشبه بجزيرة فريدة متميزة في خضم الامبراطورية العثمانية، امتازت بسمات خاصة في تركيبها الاجتماعي- الاقتصادي الذي عجل وتيرة عملية التمايز الطبقي، وأدى فعليا الى بروز التناقضات الاجتماعية الحادة في طبيعتها، وبالفعل، فأن أول برجوازية عربية ظهرت في جبل لبنان وعلى الأراضي التابعة له تاريخيا (واداريا – سياسيا إلى حد ما) وبين فئات اجتماعية متباينة من السكان (لا جرم في أنها نشأت في أرضية طائفية – مذهبية متماثلة) وجدت حلفاء لها للصراع ضد الطبقة المسيطرة في الإمارة، أي ضد الطبقة الاقطاعية – الأرستقراطية، انطلاقا من دوافع اقتصادية وسياسية بغية الحصول على نصيبها في تصريف شؤون الحكم.

تجدر الاشارة الى أن العلاقات النقدية – السلعية بلغت مستوى من التطور لم تر كل أقاليم الامبراطورية العثمانية نظيرا له. فالنمو العظيم في المحاصيل الزراعية – الصناعية ، وتصدير خامات الحرير التي شكلت القطاع الأساسي في الانتاج الزراعي (90% من الحرير كانت ينتج في ضواحي بيروت)، فضلا عن المنتوجات الزراعية الأخرى، واستيراد القسم الأعظم من المواد التموينية الضرورية والآلات والمعدات اللازمة لتصنيع المواد الخام وغيرها من الحوافز التي ربطت الجمهور الاساسي من السكان ربطا مباشرا ومتواصلا بالسوق. في مثل هذه الظروف الموضوعية من تطور العلاقات النقدية – السلعية، وانتعاش الرأسمالية. ولعل النمو السريع لقريتي زحلة وبيت الدين وتحولهما الى مدينتين كبيرتين في دولة الامارة خير شاهد على ما نقول. فقد أشار القنصل الروسي سنة 1830 الى ذلك بقوله: "يسود الأمن المطلق في الجبال، فقد امتاز هذا العصر بصلاح الأحوال، وتطور الزراعة والصناعة، فاثر عمليات التضييق والابتزاز القسري التي نفذها الباشاوات الأتراك سابقا ... وهبت الحرية التجارية مدن الساحل حياة جديدة".

ان انتعاش الروابط التجارية والاقتصادية مع فرنسة التي حافظت على علاقاتها الودية مع محمد علي، وبالتالي مع مصر وسورية الداخلية ابان الحكم المصري للبنان، ترك بالطبع اثارا ايجابية على النمو التدريجي للسوق اللبنانية، التي شملت بالاضافة الى المحور الأساسي في الامارة زحلة – دير القمر – بيروت ، والمناطق المجاورة لها جغرافيا وبشريا، التي شهدت نهوضا ملموسا عقب التدابير التي اتخذها الأمير بشير، تلك السوق اللبنانية كانت بيروت قلبها النابض.

شهدت مدينة بيروت تطورا ملحوظا في نموها السكاني الذي تضاعف في عضون خمس سنوات فأصبح خمسة عشر ألفا سنة 1838، وثمانية عشر ألفا في منتصف الأربعينيات، وبصورة موازية للنمو البشري تبدل أيضا سيماؤها الاجتماعي والثقافي، فقبل استتباب الحكم المصري، لم تجد تقريبا في هذه المدينة، ان لم أقل في البلاد كلها، شخصا قادرا على قراءة أو كتابة اسمه" – هذا ما قاله بطرس البستاني عن ذكرياته قبل ثلاثين عاما عن بيروت. وفي ذكرياته عن العشرينيات كتب الخياط يقول: "كان التعليم من الأمور العسيرة والخطيرة مهما علت الهمة وسمت الرغبة في طلبه". وترك لنا بازيلي شهادة طريفة غريبة تقول: "اضطرت بريطانية لنقل مبنى قنصليتها نزولا عند مطالب السكان المسلمين، الذين أصروا على أن ظل شارة الصليب الموجود فوق العلم البريطاني ينعكس على المسجد القريب فتجفل منه الملائكة الدائرة حول قبة المسجد". مثلت عملية "التراكم الأولي لرأس المال"، خطوة حاسمة على طريق الانتقال من العلاقات الانتجاية الاقطاعية الى علاقات الانتاج الرأسمالي في الجبل والمناطق المجاورة له، ولاسيما بيروت. هذا الانتقال الذي أصبح حقيقة منظورة واقعية في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، غير أن "مقدمة تاريخ الرأسمال، لم تصبح تاريخا حقيقيا عصرئذ، وبمعنى آخر لأن المقدمات لم تتحول الى نمط انتاجية رأسمالية بالمعنى الكلاسيكي، ما دام الأخير لم يكن "تحولا عاديا ومتعاقبا في الشكل"، ولذا فهو يفرض بالضرورة "نزع ملكية المنتجين المباشرين" أي "انحلال الملكية الخاصة القائمة على العمل الخاص". والمغزى الأساسي لهذه الحقيقة لا يجب البحث عنه في خصوصيات نمط الانتاج الاقطاعي في المجتمع اللبناني وحسب، بل وفي واقع التناقضات التناحرية بين الفئات البرجوازية الحديثة المولد من جهة وبين الطبقة الاقطاعية – الأرستقراطية القديمة من جهة ثانية. تلك التناقضات التي صبت في مجرى الخلافات الطائفية – المذهبية، فكانت لها عواقب فاجعة ونتائج مأساوية.

كل ذلك يعطينا أساسا للجزم هنا وللتأكيد في سياق البحث أن الحركة النهضوية التي دخلت مرحلتها الجنينية أن في بيت الدين أو في بيروت خلال العشرينيات أو تلك التي اشتد عودها في بيروت في أواسط القر، يمكن تسميتها بالحركة التنويرية بصورة مشروطة ومجازية جدا، لأنها بحكم طبيعتها أقرب الى النهضة التي تتلاءم والقاعدة الاقتصادية – الاجتماعية. فالبرجوازية كطبقة مستقلة لم تكن قد رسخت أقدامها بعد في المجتمع اللبناني على نحو يسمح لها بخلق الأيدولوجية التي تناسبها، ونعني هنا الحركة التنويرية، الأيديولوجية التي يرتبط وجودها بتشكل نمط الانتاج الرأسمالي، وبالتالي الدخول في مرحلة متقدمة من النضوج الكامل والنهائي للصراع ضد النظام الاقطاعي، وهي لعمري مرحلة أرقى من المهام التي يفرضها طور النهضة.

على أنه من الأهمية بمكان البحث عن هذه الحقيقة في ارضية الواقع الذي عاش ونشط فيه الأمير بشير الثاني ، مما لا شك فيه أن قصر "بيت الدين" المقر الجديد للأمير بشير، مثل ذروة الاستقبالات الرسمية الفاخرة، ومجالس الأدباء والشعراء الفطاحل في أجواء البلاط الساحر، قد تحولت الى ظاهرة يومية عادية، ينبغي التنبيه هنا الى أن هذا القصر كان أشبه بالشهاب الذي سطع في السماء السورية الحالكة الظلام، والفضل الأكبر في ذلك لنقولا خوري الشاعر القوال الحر الضمير، وللشعار نقولا الترك "شاعر الأمير وأمير الشعراء"، هذه الحقائق التي لا يرقى اليها الشك أكدها المؤرخ كمال الصليبي، على نحو مغاير قليلا. فهو رغم تأكيده "أن الجهل والأمية يسودان لبنان في مطلع القرن الماضي، استدرك قوله "بان الحياة لم تكن جامدة من الناحية الثقافية" مشيرا بذلك الى اسم نقولا الترك لا غيره.


نقولا الترك

نقولا بن يوسف بن ناصيف الترك، ولد في دير القمر (1763-1828) من أسرة يونانية الاصل جاءت من اسطنبول فنالت بداية لقب "اسطنبولي" ومن ثم "ترك". وقد حذا كريمسكي حذو التقليد المتبع في المصادر اللبنانية والأدبيات الاستعرابية، فاعتبر والده من أصل ملكي، وبمعنى آخر سلسيل أسرة من الروم الأرثوذكس تعربت واعتنقت المذهب الكاثوليكي (ربما في أواخر القرن 18). لكن المؤرخ الأديب فيليب الطرزي العلامة في تاريخ الفكر والثقافة العربي، ولاسيما اللبناني، أكد أن أسرة الترك لم تكن ملكية، وانما من طائفة الأرمن الكاثوليك وأن واحد من أحفاد نقولا الترك المدعو بالأسقف اويديس تركيان استشهد في مذبحة مدينة مرعش التي نظمها الأتراك.

عمل الشاب نقولا الترك في خدمة الأمير بشير الكبير فكان شاعره ونديمه وكاتبه المقرب ومعلم أولاده في نهاية القرن الثامن عشر. ومن المحتمل أن يكون المطران هاكوب هولاسيان الارمني الكاثوليكي، أب الاستغفار في البلاط الأميري، قد لعب دورا بارزا في هذا الاختيار. وبعد حين من الزمن، وبتكليف من الأمير بشير الثاني، سافر نقولا الترك الى دمياط ليراقبط عن كثب تطورات الأحداث السياسية العسكرية الناجمة عن الحملة البونابرتية على مصر، وليرسل تقارير بشأنها الى سيده في لبنان، بقى الترك في مصر حتى سنة 1804 واضعا مصنفات تاريخية عيانية عدها جرجي زيدان من "أهم ما ألف في التاريخ عن تاريخ الاحتلال الفرنسي" مع ترجمة الى اللغة الفرنسية للمسيو غاردين دبلوماسي البعثة الفرنسية في القاهرة (جزء أول "مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس". تلك التقارير والشهادات العيانية التي أرسلها الترك عرفت في الأوساط الأدبية العربية باسم جامعة هو "تاريخ نابليون" طبع الجزء الاول الذي ينتهي بخروج الفرنسيين من مصر مع ترجمة فرنسية بعانية مترجمة وكاتب البلاد المستشرق ديغرانج الكبير الذي تعرف على نقولا الترك في دير القمر، تحت عنوان "تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية".

نشير في هذا السياق الى أن جرجي زيدان نسب الى نقولا الترك تاريخا آخر هو: "تاريخ أحمد باشا الجزار". ويظن الأب لويس شيخو أن لنقولا المذكور كتابين آخرين: أحدهما في حوادث حرب فرنسة والنمسة سنة 1815 ، طبع في باريس سنة 1807، والآخر "نزهة الزمان في حوادث لبنان" في تاريخ الأمراء الشهابيين، منه نسخة خطية في باريس، ويعتقد زيدان أن الكتاب الأخير هو القسم الثاني من "تاريخ حيدر الشهابي" المؤلف من ثلاث أقسام. وقد اشار فؤاد أفرام ابتساني الى أن الامير حيدر استفاد كثيرا من تاريخ الترك، ولعله اقتبس منه مقاطع كاملة في القسم الثاني سنة 1933 في بيروت واتلذي تطابقت صفحاته 213-340 تطابقا كاملا مع تاريخ الترك.

لم يكن نقولا الترك مؤرخا واقعيا وموضوعيا وحسب، بل كان من أتباع النهج الأوربي في كتابة التاريخ. مما لا شك فيه أن الكاتب الذي كان متخفيا في دمياط لم يكن بمستطاعه الاطلاع أو استيعاب أفكار الثورة الفرنسية. فضلا عن أسرارها السياسية ، ولذلك استقطب جل اهتمامه على الظواهر الخارجية للأحداث والوقائع التاريخية. لذلك العصر. ومن الدلالة بمكان أن الحركة التي استهدفت "سن قوانين جديدة (الدستور" و"ارساء أسس نظام جديد (عصري)" باسقاط الحكم الملكي المطلق الذي سبب الكثير من الأضرار للشعب، وتوطيد النظام الجمهوري (المشيخة). هذه الحركة الشعبية جعها المؤرخ في قطب المعارض الملك والأمراء والأعيان (الأرستقراطية). وفيما يخص موقف الكاتب العادي من مسألة العنف الثوري للحركة (وخاصة قطع رأس الملك الذي أبدى شجاعة وبسالة أمام المقصلة) وميولها المعادية للأكيلروس والكنيسة (وخاصة نهب وتنديس العتبات المقدسة). فما كان بالامكان أن يكون مغايرا لذلك. فالترك الذي حافظ على اعتقاده بالمذهب الكاثوليكي كان يوجه كتابته الى سيده الكاثوليكي الأمير المطلق الارادة.

علاوة على ذلك ان نقولا الترك شاعرا وأديبا نبغ في قصر الأمير بشير، وخلف لنا ديوانا مخطوطا. من المعروف أن هناك ست نسخ مخطوطة من ديوانه أقدمها مخطوط سنة 1858، الذي يضم الأبواب التالية: قصائد عامة، قصائد هزلية ساخرة، الأماديح المكرسة للأمير بشير وقصره، ومزامير النبي داود، واحدى عشرة مقامة، ومدائح الشيخ بشير جنبلاط، ويعد الديوان من أوثق المصادر في تلك الفترة من تاريخ لبنان. يصور الترك في أشعاره الحياة اليومية لسيده الأمير بشير، ويقدم لنا أدق التفاصيل عن صفاته الشخصية وحملات العسكرية ومعاركه وأخلاقه وسجاياه (عدله وشجاعته، بره واسحانه، أعماله الانشائية والعمرانية).

ومن البدائع الفريدة في الديوان الوصف الرائع لبلاط الأمير، المراسم والاحتفالات، الأفراح والمسرات، الأحزان والملمات، فضلا عن طبقات الناس (الأمراء والمشايخ، والحرس والشعراء والكتاب وأمناء السر ورجال الأعمال والبناؤون والعمال وغيرهم). كما لا يتواني الشاعر عن ذكر مجرى الحياة اليومية (الصيد ، الجريد، سجالات الشعر، لعب الورق...).وحتى الالتماسات التي كان يتقدم بها الشاعر الى سيده في الظروف العادية والطارئة (ومما يذكر هنا طلبه الحصول على دار جميلة من الحجر المصقول في الحي الأميري قرب حرش الشوح الخلاب الذي غرسه فخر الدين المعني لحماية الحدائق والمشاتل من هجوم رمال البحر). فضلا عن الحوادث والوقائع اليومية في لبنان (الزلازل، الطقس، القحط، الأوبئة وغيرها).

والأهم من كل ذلك طبعا أن نقولا الترك يعد أحد سابقي النهضة الفكرية الثقافية في العصر الحديث، ومن المهدرين لها. برز في تلك الحقبة الحافلة بمظاهر الاجتماع الفكري والأدبي في الشرق الأودنى. وهو من أوائل المجددين في الشعر العربي الحديث، اذ تخطى التقاليد الموروثة في التراث الشعري، وخالف السلف في الأساليب والصنعة ولغة الشعر ، فأقبل على الحياة اليومية يختار منها بسليقته اللفظ الجميل المرن الموحي فربط ربطا شديدا بين الشعر نفسه وبين الحياة. ولاسيما في مقاماته (وقد عز فؤاد أفرام البستاني ذلك الى أن لغة الشعر العربي ظلت عصية على سلسل الأسرة اليونانية). ولكن محاولة الترك هذه لم تؤد الى فصل لغة الشعر عن لغة الحياة، بل على العكس من ذلك ساهمت في نشر الشعر وذيوعه بين الناس، لأن استخدام الألفاظ لغة الحياة اليومية كان لها ايحاء معين أو جرس واضح في أذهان الناس وعقولهم. لقد أجاد الترك أيما اجادة في وصف الحياة البائسة والعمل الشاق الذي يقوم به الجبليون اللبنانيون، فيقدم تفسيرا لأمور الكون والمصير والمجتمع والانسان من خلال تجاربه وعواطفه. وقد شعر نقولا الترك في أنه صاحب رسالة في ارشاد الناس الى خيرهم وغرس روح التفاؤل في نفوسهم دون مبالاة بالتنميق والزخرفة والتزيين لأن الغاية أسمى من ذلك وأكبر، وكانت مقاماته (نشرها ابراهيم صادر ضمن كتاب "حكايا عن عالية") مختلفة في المضمون عن مقامات ناصيف اليازجي (الذي تردد أيضا على قصر الأمير بشير الثاني مادحا أياه في منظماته المعروفة باسم "المحبوكات الشهابية"). اذ تركت أثرا بالغا في الجيل الصاعد من الشعراء. داعية اياهم للاسهام في عملية تجديد الأدب العربي وترويحه بين أبناء الشعب.



2- حركة التبشير الأوربي

في سنة 1821 اشتعلت في اليونان الحرب التحريرية الوطنية ضد الحكم التركي الطاغي. فسارع عدد كبير من الأحرار المناضلين في أوربة والولايات المتحدة الأمريكية للالتحاق بصفوف جبهة التحرير لدعم الشعب اليوناني في كفاحة العادل البطولي.

في ذلك الزمن اقتفى أثر المتطوعين الأحرار عدد لا يحصى من المبشرين الانجيليين الأمريكان الذين حملوا معهم أموالا طائلة متوجهين ليس فقط الى المدن والجزر اليونانية، بل والى آسية الصغرى وساحل المشرق العربي. وقد تركزت مهماتهم الأساسية في الجمع بين التعاطف مع اليونان وبين نشر تعاليم المذهب الإنجيلي (البروتستانتي) بين طوائف الروم الأرثوذكس العربية والأرمنية وغيرهم من أبناء المنطقة العربية بهدف احتوائهم داخل الحظيرة البروتستانتية.

كان المبشرون اسحاق بيرد، ووليام غودل، ووليام طومسون الذي وصولا الى المشرق سنة 1824، قد وجدوا تكأة حيوية لنشاطهم في الخلاف الدوري الذي شجر بين الزعامة الروحية لبطريركية الأرمن في القدس من جهة، وبين ثلاثة من رجال الدين، الذين بزوا نظرائهم في معارفهم وخدمتهم، فاستنكسوا عن القيام بواجباتهم الدينية اعرابا عن استنكارهم لتعسفات الفئة العليا من الأكليروس.

كان في مقدمة هؤلاء الثلاثة الاسقف هاكوب لوستراتسي أو اكتشهرتسي (1781-1845) الذي كان يوقع الخطابات الأرمنية باسم هاكوب ابكاريان، والتحارير المكتوبة بالخط الأرمني – العثماني باسم أباكريوس، والذي اشتهر فيما بعد باسم يعقوب أغا أبكاريوس الأرمني أو ابن أبكار الأرمني . كان الثاني المطارن هاكوب بولوتسي (1793-1832) المعروف لاحقا باسم كريكوروارتابيد (المطران المترجم). أي أن الرتبة الدينية طغت على كنيته الأصلية. وكان الثالث الأسقف ديونيسيوس كربيديان كارتلتسي وهو الشمعور باسم ديونسيوس قرة بت.

ان مصادر التاريخ البروتستانتي تقيم اللقاء بين المبشرين الأمريكان ورجال الدين الأرمن بأنه "حدث عظيم الأهمية". لقد برر اللاهوتيون الأرمن اعتناقهم المذهب الإنجيلي بقولهم انهم لم يبغوا من ذلك المقايضة بين ايمانهم وجنسيتهم (ملتهم) بالبروتستانتية، بل "قايضنا بين الولاء للأتراك وبين التفاني في خدمة المسيحية.. ونحن لا نسعى الى الجاه والسلطان، لا بل لنؤكد هويتنا وقدرتنا على التعايش، والتفاعل مع الأمم الأخرى، لا بل والفوز بالشهرة الحسنة ولاسمعة الطيبة والوصول الى المقام السامي المشرف... وغايتنا من كل ذلك التحرر والانعتاق من سوط الاخوة المرائين الذين يدعون تمثيل الأمة".

تجدر الاشارة الى أن اللاهوتيين الأرمن المذكورين كان لهم القدح المعلى في العلوم اللاهوتية والوعظ والارشاد الديني، فضلا عن اتقانهم العديد من اللغات (اللغة الأرمنية القديمة والحديثة، والعربية والعثمانية) ولذلك استقطبوا ديونيسيوس وكيلا قنصليا لنابولي في صيدا، بينما تبوأ لوستراتسي منصب قنصل نابولي في صيدا ومن ثم في بيروت وقنصل انكلترة فيها أيضا. وفي تعليماتها المشددة باضطهاد وتشريد المبشرين الأجانب الإنجليين الذين التجؤوا فارين الى جزيرة مالطة، تخلى اللاهوتيين الأرمن عن مناصبهم والتحقوا برعاياهم الإنجليين سنة 1828، حيث صنفوا وطبعوا كتبا أرمنية بالحرف العربي العثماني.


وبعد العودة الى صيدا خلال سنتي 1829-1830 سعى المبشرون البروتستانت بمعونة مريديهم الأرمن لاخال قوافل جديدة من أبناء البلاد في مذهبهم، ولاسيما أنهم كانوا يخصصوا منحة شهرية قردها خمسة دولارات أو جنيه استرليني لكل من يعتنق المذهب الإنجيلي. من المعروف أن أوائل الجاحدين كانوا يتعرضون للاضطهاد والقتل من قبل خصومهم الدينيين – المذهبيين، فالتعصب للمذهب كان من الظواهر المألوفة السائدة في الشرق. وللتدليل على ما نقوله نكتفي بالاشارة الى المصير المأساوي الذي تعرض له أسعد الشدياق.

ولد أسعد الشدياق في قرية عشقوت، ثم انتقل هو وعائلته الى الحدث، كان شابا مزهوا بمارونيته وفخورا بتسمية عائلته الشدياق (الشديق جمع شدايقة عند النصارى : الشماس، أي أدنى من الكاهن بدرجة واحدة – المترجم)، ومن ذوي الثقافة العالية. كان مدرسا للغة العربية في مدرس عين ورقة التي تخرج فيها. انتحل أسعد المذهب الإنجيلي فاثار حفيظة أهله ونقمة رؤساته الدينيين الذين اعتقلوه وزجوا به في احدى زنزانات قبو دير قنوبين ، حيث اضطهدوه وعذبوه جريا على طرق محاكم التفتيش، فمات قهرا وألما. لم يكن بمقدور أي كان الحؤول دون هذه الفاجعة المؤلمة، لأن الفرامين السلطانية لم تكن تعترف بشرعية الارساليات الأجنبية، كما لم يكن بمقدور هؤلاء المبشرين الوصول الى اقبية الدير الماروني.وبعدما غير الاسقف هاكوب بولوتسي اسمه الى كريكور وارتابيد في عام 1834، تمكن بذكائه وفطنته من استصدار أمر يسمح باخلاء سبيل أسعد الشدياق. ولكن وا أسفاه، بعد فوات الأوان. ينبغي التنويه أيضا أن كريكور وارتابيد هو الذي دبر أمر فرار أخيه الأكبر الأكبر الشهير فارس الشدياق الى مصر.

بيد أن المرسلين الأمريكان لم يأبهوا لوسائل القدمع التي مارستها الكنيسة المارونية بحق مريديهم وأنصارهم، فاتخذوا من البيروت مقرا لهم، وحولوا احدى قاعات القنصلية الأمريكية الى كنيسة، وأنشؤوا مدرستين للبنين والبنات من أرقى المدارس في الشرق العربي من حيث مناهجها التعليمية – التروبية. ثم أوصوا على قاعدة للحروف العربية في لايبزيغ، ونقلوا مطبعتهم التي كانت تعمل منذ سنة 1822 في مالطة الى بيروت فعرفت باسم مطبعة المبعوثين الأمريكان. وفيها طبعة – فضلا عن التوراة وكتب الدين – الكتب العلمية والطبية والرياضية مما ألفه وترجمه أساتذة المدرسة المكلية لتعليم طلبتها، علاوة على بعض كتب الأدب والشعر والتاريخ.



المدارس السورية

توسعت شبكة مدارس المبشرين في أقل من عشرين سنة اتساعات ظاهرا فقد أنشئت مدرستان للذكور والاناث الدروز في الجبل. وفي بيروت تأسست مدرسة عليا لتحضير الأساتذة والمبشرين من أبناء البلد. وفي سنة 1846 افتتح الدكتور كورنيليوس فانديك المبشر الأمريكي الشهير مدرسة كلية في قريبة عبية. ومن الجدير بالذكر أن التدريس في هذه المدارس منذ نشأتها وحتى العام 1860 كان يتم باللغة العربية. والراغبون فقط من الطلبة كانوا يدرسون اللغة الإنكليزية. هذا الأسلوب المغاير لما كان يتبعه المبشرون الكاثوليك في نشاطهم التعليمي – التربوي شكل احدى الضمانات الرئيسية لنجاح أعمال المبعوثين الأمريكان. ولاسيما أن الأساتذة الأولين هم الذين اضطلعوا بمهمات نقل العلوم العقلية والنقلية الى اللغة العربية. ففي مدرسة بيروت العليا مثلا، كان المعلم بطرس البستاني (1819-1883) المولود في قرية الدببة من اقليم الخروب، يدرس اللغة العربية، وتلقى تعليمه في مدرسة عين ورقة، كبرى مدارس ذلك العهد. اتصل البستاني أولا بالانكليز ترجمانا وهم يتربصون الدوائر بابراهيم باشا والأمير بشير الثاني ، ثم اتصل بالمرسلين الأمريكيين فتوثقت علاقاته بهم وتبعهم في مذهبهم البروتستانتي، وأصبح ركنا من أركان النهضة العربية الحديثة، ورائد رجال الفكر الناطقين بالضاد في العصر الحديث.

ناهيك بأن النجاح السريع الذي حققه المبشرون الإنجيليون في ميدان التعليم والتنوير كان مقرونا بمعارفهم الموسوعية العظيمة. فكبيرهم الأمريكي القس وليم طومسون كان عالم بالآثار. ولكنه، على حد تعبير كريمسكي- كان "علامة فريدا، وكان مقدورا له أن يترك آثارا عظيمة الأهمية والفائدة لو أنه قام على خدمة العلوم الأوربية، بدلا من تفانيه في خدمة العلوم العربية". وعلى ايلي سميث واحدا من كبار المستشرقين الأمريكان ورئيسا للمدرسة الكلية الأمريكية في بيروت. وهكذا كان ادوارد روبنسون من ثقات المستشرقين المختصين في جغرافية الأماكن المقدسة التوراتية. فيما كان جورج بوسط (المتوفى سنة 1909) والدكتور فانديك (1818-1895) يعملان في حقل ترجمة معظم فروع العلوم الحديثة كالطب والطبيعيات والرياضيات والفلك وغيرها. وان نسينا فلن ننسى أبدا التذكير بأن هؤلاء العلماء الأجانب كانوا يتقنون اللغة العربية اتقانا يبز معرفة بعض أبناء الضاد أنفسهم ، وأنهم عاشروا أهل الشرق وصاروا من أبناء البلاد الحقيقيين الذين تفانوا في خدمتها واعلاء شأنها. أضف الى ذلك أنهم كانوا يعولون على ثقات اللغة العربية المعاصرين لهم (بطرس البستانين ناصيف اليازجي، وغيرهما) في تاليف وتعريب الكتب المدرسية العلمية والأدبية. فزهت اللغة العربية وازدهرت وعاشت عصرها الذهبي في النهضة العربية الحديثة.

وأخيرا ، فان احد "أسرار" نجاح وتفوق المبشرين الأمريكان يكمن في منهاجهم التعليمي – التربوي الرفيع المستوى. اذا كانوا يوجهون عناية فائقة لتربية النشء الجديد تربية روحية وبدنية راقية، ويقدمون عارف واسمة في شتى مناحي العلوم الاجتماعية والطبيعية والتطبيقية.

نشير في هذا السياق الى أن الأوساط الانغليكانية قدمت مساعدات جليلة الأهمية لنشاط المرسلين الأمريكان التعليمي – التربوي في خمسينيات القرن الماضي، وبالفعل، فان "جنتلمانا محترما يدعى جون لوتيان" كان قد وقف حياته على خدمة وازدهار القوى الروحية في البلاد (لبنان – المؤلف)، فسكن في قرية بعاورا التابعة لمواطنه الإنكليزي تشارلز تشرتشل، وتعرف مع المبشر سليمان وأخيه الياس صليبي على افتتاح عدة مدارس في عبية أولا بقسميها النهاري للصغار والليلي للكبار، ومن ثم في قرى عرمون ويتالون وبتاتر وعاليه وسوق الغرب. اثر المساعدات المادية التي قدمها له مشايخ آل عبد الملك وآل تلحوق الدرزية، الأمر الذي دفع كلا من القنصلين الإنكليزي والأمريكي الىتشكيل لجنة ساهم في أعمالها بطرس البستاني والأخوان سليمان والياس صليبي، واليهم يرجع الفضل في وضع قانون "المدرسة الداودية الدرزية" في عبية. وقد تأسست مدارس أخرى مماثلة في عدد من القرى، وما ان اشرف عام 1867 على الظهور حتى بلغ عددها 21 مدرسة وكلية عاملة في نحو عشرين قرية لبنانية. كان يدرس فياه 32 أستاذ ووكيلا، ويتعلم فيها أكثر من 800 تلميذ وتلميذة. هذه وغيرها من المدارس التي انشئت لاحقا في طرابلس وبرمانا وصيدا تلقى التعليم فياه أبناء الطوائف الدرزية والمارونية والسنية والشيعية والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، ولاسيما ان اللغة العربية كانت لغة التدريس الأساسية، وان الكتاب المقدس كان يتبوأ المكانة الأسمى بين الكتب المدرسية.

تجدر الاشارة أيضا الى أن المدارس الوطنية خلال العقول الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر لم تكن في وضع تحسد عليه، حقا ان الموارنة لهم فضل السبق في انشاء المدارس في لبنان من عهد بعيد، لكن المدارس التي تأسست برعاية البطركين المارونيين يوحنا الحولا ويوسف حبيش خلال سني 1812-1832 في قرى كفرحيا والرومي وهرهر وصربا ومارعبدا وريفون، كان أساتذتها بوجه الاجمال من الكهنة الا نادرا، وكذا الأمر في المدارس الدينية التابعة لأديرة بلمند الطائفة الأرثوذكسية، التي كانت دون المستوى فلم تكن معارف تلامذتها القلائل تتماشى مع متطلبات العصر.

بعد الغاء الرهبانية اليسوعية (1773-1814) أذن الفاتيكان سنة 1814 للآباء اليسوعيين بممارسة نشاطهم فاتخذوا من بيروت مقرا لهم ومارسوا نشاطا تربويا – تعليميا في العشرينيات برعاية القنصلية الفرنسية. وبعد أن أسسوا مدرسة بيروت (1839) وزحلة (1844) أعادوا فتح إكليركية غزير (1847) على قاعدة المدرسة الابتدائية العاملة في دير مارس إلياس منذ أواخر القرن الثامن عشر، وأنشؤوا سنة 1855 الكلية اليسوعية الداخلية. وفي سنة 47-1848 تأسست المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين وكانت تطبع على الحجر ثم صارت تطبع على الحروف سنة 53-1854. وفي وقت لاحق أسس اليسوعيين مدارس أخرى في بكفيا وتعانيل وجزين ودير القمر وصيدا.


أما الآباء اللعزاريون الذين حافظوا على حيادهم منذ سنة 1773 فقد باشروا نشاطهم بدعم مادي من الحكومة الفرنسية . ففي سنة 1834 حولوا الأمر الذي لم يسبق له نظير في تاريخ الأديرة اللبنانية. كما أنهم استقدموا راهبات من باريس وأنشؤوا "جمعية أخوات الرحة"، ثم أضافوا الأموال التي خصصها "صندوق الدعوة في ليون" الى المبالغ المتجمعة من التبرعات في بلدان أوربة الكاثوليكية ليؤسسوا مدرسة داخلية للراهبات اللعازاريات.

وعلى هذا المنوال سارت الكنيسة المارونية التي ضاعفت عدد مدارس الطائفة وفي سنة 1853 أنشئت بمبادرة من الجمعيات الرهبانية العديد من المدارس للاناث.

كانت المساعي التي بذلتها الطائفة الكاثوليكية المحلية لتأسيس المدارس العربية قد ساندت الى حد كبير مدارس المبشرين الأجانب. التي كانت تدرس باللغة الفرنسية تلامذتها من أبناء الطبقة الاقطاعية – الارستقراطية أو الطبقة التجارية الربوية المارونية والروم الكاثوليك، الذين كانوا ينهلون معارفهم من الفكر المدرس (السكولاستيكي) البابوي. وقد جاءت هذه المساعي الحثيثة ردة فعل للنجاحات السريعة التي حققها المبشرون البروتستانت في حقل التعليم والتنوير ، فاصبح التنافس بين الطرفين على أشده. بيد أن الجهود التعليمية والمشاريع الثقافية المطروحة لم تنل زخما قويا الا بعد أن فشل التبشير الديني المزعوم في تحقيق النتائج الموجودة، ولذا تحول التبشير التنويري الذي كان يمارس لأهداف تكتيكية بحتة، الى استراتيجية شبه وحيدة.

ومهما يكن من أمر، فان انتشار العمل التعليمي – التنويري في الاراضي اللبنانية، ولاسيما في مدينة بيروت، طرح تدريجيا مهام عاجلة باتجاه تعميق وتوسيع الحركة التعليمية التنويرية. هذه المهام العصبية والمعهدة وجدت حلولا سريعة نسبيا لدى المبشرين الأمريكان الذين كان لهم قصب السبق في هذا الميدان، ولاسيما ان الفعاليات الفكرية والثقافية التي اضطلعت بها في بيروت وهبتهم امكانات فريدة على صعيد استقطاب المثقفين الوطنيين أولا، ومعاونيهم من أبناء الأمم الأخرى، ثانيا.


ناصيف اليازجي

كان الشيخ ناصيف اليازجي (180-1871) بمثابة اكتشاف عظيم بالنسبة للمبشرين الأجانب . وهو سلسل عائلة كلدانية – ملكية المذهب هاجرت من حمص نحو سنة 1690 لحيف وقع عليها في تلك الديار، الى قرية كفر شيما اللبنانية. حيث كان مولده من أب اشتغل بالطب على مذهب ابن سينا، عمل ناصيف بداية كاتب بطريرك الروم الكاثوليك أغناطيوس في دير كوكبة (1816-1818)، ثم استدعاه الأمير بشير الثاني الكبير واسكتبته، فخدمه زهاء اثني عشر عاما (1828-184). ولما نفي الأمير سنة 1841، انتقل ناصيف اليازجي مع عائلته الى بيروت، تلقى أوليات العلوم على أبيه وأنهاها على راهب ماروني من بيت شباب يقال له القس متى، فكانت ثقافته الأولى لاهوتية، تم له خلالها قدر صالح من الصرف والنحو والبيان واللغة والشعر، فكان له القدح المعلى في اللغة العربية الفصحى. ويحكى أنه كان يحفظ القرآن آية ىية، ومثل ذل حفظه لشعر أبي الطيب المتنبي. وهو الى هذا كله زجال نظم الأزجال عفو الخاطر في صباه، فكانت أغانيه تتردد على كل سنان، وكثير من شعره جرى مجرى الأمثال. كان نابعة عصره، فهو العلامة اللغوي النحوي البديعي الصرفي والشاعر الذائع الصين. وقد نشره المبشرون كتابه "فصل الخطاب في لغة الأعراب" في مالطة سنة 1836.

كان اليازجي من أشد المحافظين على لهجة قومه وتقاليد أهلا بلده في الطعام واللباس والجلوس وسائر العادات كما كانوا في عصورهم القديمة. وكان من أشد المدافعين عن نقاوة اللغة العربية وعظمتها بين الألسن والأخرى. فابلغ في تقديرها لدرجة رفض فيها تعلم أية لغة أجنبية، أو التكلم والتلفظ بأي لسان أعجمي. لذا لم يكن ناصيف ذا فائدة تذكر بالنسبة للمرسلين الأجانب في مجال نشر دعواهم ومذاهبهم. والترويج لافكار الأوربية الحديثة والتقدمية. ومع ذلك كان ركنا من أركان النهضة الأدبية والعلمية الحديثة، احتضنها منذ نشأتها وأمدها بالخير من المصنفات المخطوطة الفريدة في اللغة والشعر والأدب والمنطق.ويقال انه لو جمع ما كتبه بخط يده لكان ذلك لا يقل عن حمل جملية. ورغم أن اعظم تاليفه المخطوطة (أمثال :"مجمع البحرين" وهو ستون مقامة عارض فيها مقامات الحريري، وثلاثة دوامين تعد من عيون الشعر "نفحة الريحان" و"ثالث القمرين) لم تر النور في حياته، فان شهرته طبقت الآفاق وأصبح نبراسا للعقول في فجر النهضة العربية. وهذا يعني أيضا أنه كان مرجعا وموئلا، لعمق معارفه في العلوم العربية. بالنسبة للمرسلين الأمريكان الذين نشروا كتبهم الدينية والتعليمية والنويرية بعد أن صحح ناصيف اليازجي لغتها وضبط عبارتها وأسلوبها ، فجاءت في غاية الاتقان شكلا وأسلوبا.

هذه الحقيقة أدركها كريمسكي تماما معبرا عنها بقول: "كل ما في الأمر ان الأساتذة الذين حاولوا أوربة تلامذتهم والأخيرين الذين يتأوربون، أدركوا حقيقة واحدة وهي: أن تطور البلاد على دروب الرقي والتقدم ممكن في حالة واحدة، عدم اقتصاره على العرب المسيحيين ، فالعرب المسلمون الذين يشكلون الغالبية العظمة من سكان سورية يجب أن ينخرطوا في مسار الحركة التقدمية التي نشأت في البلاد. وهذا ما فرضه الأمر الواقع. اذ سعى رواد الفكر النصارى لخلق أدب عربي جديد في شكله ومضمونه، وبلغة عربية فصحى تكون مقبولة لدى العرب المسلمين باعتباره اللغة الأمثل بلاغة وأكملها بيانا. والتي يعجز المسلم عن احتقارها بقوله اناه "محو النصارى". أو بمعى آخر ، اعتباره أشبه بلغو أو رطانة.

وهكذا كان ناصيف اليازجي بتاليفه التي جاوزت العشرين (في الصرف والنحو والشعر والمنطق وغيرها من الفنون) وبنشاطه في الحقل التربوي لدى المبشرين الأجانب أو في المدارس الوطنية "العالية" واسهامه الفعال المثابر في قراءة المطبوعات المعدة للنشر وتنقيحها وضبطها، ولاسيما الكتاب المقدس. كان حجة وامام العلوم العربية اضطر العالم الاسلامي ان يقر بأن النصارى العرب قادرون على الكتابة والتأليف والابداع بلغة الضاد، التي لم تعد حكرا على المسلمين من العرب. وبأن الأدب الجديد الذي أبدعوه ليس محط سخرية واستهزاء، بل فخر واعتزاز للأمة العربية ولغة لاضاد، وبأن الأدب النصراني والأفكار الجديدة التي انبثقت عنه استقطبت اهتمام العالم العربي قاطبة، هذه هي الخدمات الجليلة التي تفانى في سبيلها اليازجي، فكان في كل ما نظم وكتب في اللغة والادب زعيم المفكرين في عصره ونادرة زمانه باعترف الجميع دون استثناء، أما المرسلون الأمريكان فقد ايدوا له عظيم الاحترام والتبجيل، وأظهروا أسمى آيات الاعجاب بذلك الشيخ المحافظ الى أبعد حدود المبالغة.

ليس هذا وحسب، ففي دراسته عن الرواية التاريخية العربية، أكد كراتشكوفسكي "أن ميلاد الأدب العربي الحديث مرتبط باسمين جليلين هما ناصيف اليازجي وصديقه الصدوق العلامة بطرس البستاني" وقد خصمها بوصف "أركان النهضة الثقافية لاعربية" ثم استطرد بقوله :وانصافا منا للحقيقة نشير الى أنهما لم يؤثرا تاثيرا مباشرا، وربما لم يساهما اسهاما فعالا في نشأة الأدب العربي الحديث في القرن التاسع عشر، لأن نشاطهما كان يدور أساس في فلك مجاراة العرب الأقدمين أي في مدار الفكر المدرسي القروسطي. ومن هذا المنظور فان اليازجي كان له تأثير ضار أكثر من البستاني، على الأدب العربي الحديث، اذ كان اتباعيا في مؤلفاته وتصانيفه فلم يحد قيد أنملة عن الاساليب البلاغية السلفية – المدرسية، فأدخل الأدب الجديد في حلقة مفرغة انتهى عندها الأدب القديم. وهنا يسأل القارئ اللبيب عن الدوافع التي حدت بالمستشرق الشهير كراتشكوفسكي لاطلاق صفة "أركان الهضة العربية" على الثنائي اليازجي والبستاني، لا بل وتسمية الأول "بأبي النهضة الأدبية"؟ لقد أجاب كراتشكوفسكي عن أمثال هذه التساؤلات بقوله: "وعلى كل حال كان دور الرائدين عظيما جدا في الأدب الحديث". ثم يفصل كراتسكوفسكي في مسألة "تنصير اللغة العربية" التي اضطلع اليازجي بالدور الأساسي فيها. ثم يؤكد "لقد أشاع لغة الضاد بين أبناء بلده في جميع ما كتب وألف. وبذلك أوجد مخرجا أو شكلا ملائما لبعث الطاقة الثقافية الكامنة، والتي أثبت المستقبل أنها كانت متوفرة الى حد عظيم لدى السوريين الموهوبيين بالفطرة، الذين فازوا بأكاليل الغار في ميدان الحركة الأدبية".

ومهما يكن من أمر، فان الدكتور كورنيليوس فانديك، لعب دورا كبيرا ان لم يكن في مجال استكشاف اليازجي والبستاني، فعلى الأرجح على صعيد توظيف قدراتهما ومآثرهما الفكرية-الثقافية الفريدة والمميزة باتجاه اداء وخدمة الرسالة التي نذرا نفسيهما لها (بالطبع ليس من موقع الأهداف والاعتبارات التبشيرية البحتة).


الدكتور كورنيليوس فانديك

الدكتور كورنيليوس فانديك سليل أسرة الرسام الهولندي العالمي ، التي هاجرت الى أمريكا اثر الاضطهاد الذي عانته من قبل الرجعية الكاثوليكية بسبب انتمائها المذهبي وتفكيرها التقدمي ونشاطها السياسي – الاجتماعي. امتاز الشاب كورنيليوس بالذكاء وتوقد الفكر والاجتهاد فكان من أثقف الرجال في عصره. أتقن العديد من اللغات الأوربية وبرز في الطب والصيدلة والكيمياء والطبيعيات وغيرها من العلوم. وفي الحادية والعشرين من عمره فارق الوطن مبعوثا من قبل مجمع المرسلين الأمريكيين طبيبا لأسر المبشرين في الشرق. وجعل يدرس العربية على الشيخ ناصيف اليازجي، ثم على الشيخ يوسف الأسير، وغيرهما من أئمة اللغة، حتى صار من المعدودين في معرفتها، فلم يعد يمتاز عن أولادها في البيان والتأليف والنطق.

كان بلا ريب أول أفرنجي اطلع اطلاعا واسعا عل التراث العربي، وقام باطلاع المفكرين العرب الوطنيين، ولاسيما المعلم بطرس البستاني الذي كان يصغره بعام واحد وارتبط معه برباط الصداقة والمودة، على الفكر التنويري البرجوازي. وقد ألف مع رجال النهضة العربية جبهة عريضة متماسكة أثرت الى حد كبير في تخليص الحركة التبشيرية من النوازع الدينية الروحية المتطرفة باتجاه تطوير قابلية النشاط التبشيري للتفاعل والانفعال، والأخذ والعطاء، ومسايرة الزمن والعصر التنويري. وانطلاقا من هذه الخلفية يجب تقييم الدور التاريخي والخدمات الجليلة التي اسداها فانديك في ميدان النهضة الثقافية – القومية العربية، الأمر الذي غاب – براينا – عن ذهن المؤرخين والباحثين، دون أن ننسى بالطبع أن هذا الابن البار الهولندي الأصل الأمريكي المولد، الشرقي النشأة، قد اصبح حقا واحدا من كبار الأئمة ، الذين ساهموا في ارساء أسس النهضة العربية الحديثة، وفانديك الذي نذر نفسه لخدمة الحركة النهضوية – التنويرية – ألف وترجم باللسان العربي طوال خمسين عاما من عمره، فشملت تأليفه وتراجمه أهم العلوم القديمة والحديثة كالطب والطبيعيات والكيماء والجبر والرياضيات وتراجمه أهم العلوم الصرف والنحو والآداب ، وربت على عشرين كتابا أو نيف وخمسة آلاف صفحة مطبوعة.


رواد النهضة الأرمن =

كان لرجال الدين الأرمن الذين ارتدوا عن مذهبهم الكاثوليكي لتمردهم على طغيان الأكليروس الاقطاعي في القدس واستنبول، اليد الطولى في التخفيف من حدة غلواء التبشير المذهبي – الديني وفي توجيه أنظار المرسلين نحو التطلعات التي طرحها التطور الاجتماعي والفكري والثقافي لدى الشعوب المحلية، كما لهم نفوذ قوي في مجال فرض الاحترام ازاء اشباعهم من رجال كنيسة الروم الذين قاسوا الأمرين من تطلعات السلطات التركية ، واتخذوا موقفا معارضا للأكليروس الأرمني الذي تبنى موقفا متخاذلا في القضية. حقا ان الأسقف هاكوب كان الوحيد على قيد الحياة يوم باشر فانديك نشاطه الثقافي، لكنه كان متزوجا من حوا مسعدة، وهي سلسلة عائلة مشهورة في الأوساط العربية باسم يعقوب آغا ابن أبكار الأرمني، الذي كان – حسب تعبير المؤرخ المعاصر – "مرفوع المقام عند الولاة والحكام" في الديار الشامية لما حازه من "اللطف والاستحسان لدى ابراهيم باشا ابن محمد علي أيام فتحه البلاد الشامية". ومن الثابت تاريخيا انه بوصفه من المقربين الى ابراهيم باشا كان له تأثير كبير على الأخير في تحسين أحوال النصارى في لبنان. ومن الجلي أيضا أن المبشرين لم يكن بمقدورهم غض الطرف عن مكانة يعقوب آغار الأرمني، ولاسيما ان ابنه اسكندر آغار أبكاريوس ، وابنه الروحي حنا وارتابيد وغيرهم من الشباب الأرمن، كانوا قد تحلقوا، بعيد سنين قليلة، حول الدكتور فانديك.

وما دمنا سنتطرق خلال دراستنا في أكثر من موضوع الى رجالات النهضة ذوي الأصل الأرمني، الذين نذروا نفوسهم لخدمة الحركة النهضوية – التنويرية العربية، فاننا نسوق هنا بعض التأكيدات الضرورية.

ان جميع أعلام النهضة ذوي الأصصل الأرمني اتقنوا لغة الضاد الى حد الكمال، فاحتلوا مرتبة مشرفة ي عداد اللغويين الذين ساهموا في تطوير اللسان العربي كتابة وانشاء. وهم الذين تعمدوا بالماء المقدس للتراث والثقافة العربيين، دون أن ينسوا قط اصلهم الأرمني ، ولم يكونوا يجهلون لغتهم الأرمنية، فضلا عن أنهم كانوا على اطلاع واسع بتاريخ الشعب الأرمني العريق وتراثه الثقافي – الحضاري. وانهم حافظوا على روابطهم الوثيقة مع المراكز والعائلات الأرمنية في بيروت وجبل لبنان والشام والقدس وحلب واسطنبول. ونشير في هذا السياق الى أن جميع الباحثين والدارسين العرب في التاريخ والثقافة والفكر (ولاسيما كلاسيكيي أواخر القرن الماضي وأوائل القرن العشرين) أمثال جرجي زيدان، وفيليب دي طرزي ويوسف الياس سركيس ومارون عبود ولويس شيخو ويوسف ابراهيم يزبك وغيرهم، كانوا قد أشاروا باجلال ومهابة الى الأصل الأرمني لرجالات النهضة البارزين، أديب اسحاق، رزق الله حسون، وغيرهما، مؤكدين أهمية الاضطلاع بمهمة استقصاء الدوافع الموضوعية والحوافز الذاتية التي جعلتهم يتفانون في خدمة النهضة العربية. وباعتقادنا ، ان الأصل الارمني لهؤلاء الرواد، شكل حلقة هامة جدا في سلسلة الحوافز التي دفعتهم للقيام برسالتهم التعليمية – التنويرية ، وحثتهم على تحمل أعباء الحركة النهضوية الثقافية الفكرية.

كل ما في الأمر أن الرعيل الأول من النهضويين الأرمن كان قد نشأ وترعرع في معمعان التحولات الثقافية والروحية والنهوض القومي – التحرري الذي ظهرت بوادره في أرمينية الغربية ابان العقود الأولى من القرن التاسع عشر، أما الجيل الثاني فقد عاش في ظروف النضال الذي خاضه الشعب الارمني ضد العسف والقهر، والفوضى وعدم الاستقرار السائدة في ارض الأجاد والآباء. فقد اتخذت السلطات التركية الغاشمة عدة تدابير تهدف الى تحقيق سياسة التتريك في أرمينية الغربية المتمثلة في منبع التعليم باللغة الأرمنية في المدارس، والحد قدر الامكان من نشر الوعي الذاتي القومي بين الجماهير الأرمنية، فضلا عن الرفض القاطع لمحاولات اعلان الدتسور القومي الأرمني، والغاء استقلالية الطبقة الاقطاعية الاكليركية. تجدر الاشارة الى أن هذه التقالدي النضالية انتقلت أبا عن جد ، وان معظم رجالات الجيلين المذكورين شاركوا مشاركة مباشرة او غير مباشرة في مسرح تلك المعارك، متعرضين لشتى أنواع القهر والتعذيب، والقتل والدمار، بسبب أفكارهم التقدمية، ومواقفهم المبدئية الراسخة رسوخ الجبال في أرمينية.

يبنغي التذكير هنا بأشهر العائلات التي رجعت بتهمة التمر – على مألوف السياسية التركية – وطردت بالقوة والعنف من أرض الوطن أرمينية الغربية. ونكتفي في هذا المقام بالاشارة الى أسر الجيل المتأخر، أمثال: اسكندر أبكاريوس وحنا وارتابيد (اوهانيس ورطابيت)، والى جيل الشباب المقدام وفي طليعتهم رزق الله حسون الذي تمرد على الخط الرجعي، المحافظ والأفكار الطبيعية التقدمية "التنويرية" ولكن الأقدار العمياء شاءت أن يطرد هذا الجيل من أرض الوطن الحبيب وان يشرد في اربعة أنحاء المعمورة. واذن، كان لابد لهذا الجيل ان يبحث عن ميدان يمارس فيه نشاطه الفكري ويوظف قدراته الثقافية – التنويرية، فكان الميدان العربي البديل المكافئ والخيار الموفق عن الوطن القومي السليب، هذه الحقيقة الهامة أقرب الى حبل الوريد من واقع لا يقل عنها أهمية وخطورة. وهو أن رجالات النهضة الأرمن ذوي المستوى الرفيع جدا من الوعي القومي الذاتي، آمنوا ايمانا عميقا بأن النهضة الثقافية – القومية العربية تمثل بالنسبة لهم الخيار الآخر والوحيد للنهضة الأرمنية القومية، ولذا تطوعوا لخدمتها وتفانوا في سبيل اعلاء شأنها، وهم يرون في ذلك تجسيدا حيا لأفكار الحرية والمطامح الاستقلالية التي دغدغت أحلام الجماهير الشعبية في ارمينية الغربية، وانعكاسا حقيقيا للكفاح التحرري ضد سلطات الاستبداد التركي الذي حرم أبناء الأمة الأرمنية من وطنهم العزيز على قلوبهم، وشردهم في شتى أقطار الأرض. ولو كان الأمر مخالفا لما اكدناه، لكن من العسير جدا تفسير الاعتبار التالي، وهو أن رجال الفكر الأرمن كانوا أسبق من العرب في ميدان استيعاب اللغة والآداب التركية، وكانوا قادرين على تبوؤ مناصب عالية ووظائف من الدرجة الأولى في هياكل الدولة العثمانية، ولكنهم اختاروا البديل العربي وفضلوا في مطلع الأمر الانضمام الى صفوف المثقفين العاديين الناطقين والكاتبين بلغة الضاد. ناهيك بأن الكثير من أحداث التاريخ المثيرة والوقائع الفريدة المحيرة ستظل عصية عل الفهم والادراك اذا لم ننظر اليها بهذا المنظار، نشير الى واحدة منها على سبيل المثال، ترى لماذا نلمس حرارة اللهجة وقوة العاطفة والاعتداد بالجيش الروسي الذي احتل مدينة قارص فنظم في مدحه الشاعر رزق الله حسون قصيدة عصماء؟ وما هي الاسباب التي دفعت حسون لأن يكون أول مبشر بين المثقفين العرب يدعو للتوجه نحو روسية؟


الجمعيات العلمية الخطابية في سورية

الجمعيات العلمية الأدبية التي تشد من أزر العلم والأدب وتأخذ بناصر أهلها من ثمار التمدن الحديث، اقتبسها العرب من الافرنج في جملة أسباب هذه المدنية، أولى الجمعيات العلمية في سورية سميت "الجمعية السورية" تأسست في بيروت سنة 1847 بمساعي المبعوثين الأمريكيين وفي طليعتهم الدكتور فانديك، وتشجيع يعقوب آغا الأرمني، والاسهام المباشر لكل من بطرس البستاني وناصيف اليازجي. كان الغرض منها نشر العلوم وترقية الفنون بين الناطقين بالضاد. شكل نشاط هذه الجمعية قطبا هاما جدا في تعزيز جوانب النهضة العربية، والأهم من ذلك أنه مهد الطريق أمام الفكر التنويري العربي (وان كان بعد على المستوى النهضوي) وتسربه الى بقية الاقطار العربية.

كان الكتاب العرب، ولاسيما محمد الخالدي وعمر فروخ وغيرهما، يرددون مسلمة من المسلمات التاريخية بأن البعثات الأجنبية ارتبطت حتما بسياسية الدول الغربية الكبرى، التي تطلعت لغزو الشرق في الميادين الفكرية والاقتصادية متسترة بأسماء مستعارة جذابة والاستعراب السوفيتي يعد هذه الحقيقة من أولى البديهيات. ولكننا لا نتفق في الرأي الذي ذهب اليه الخالدي وفروخ القائل "ان الجانب الاجتماعي والثقافي من حياة العرب هو الذي أثار انتباه المبشرين بالقدر الذي كان يخدم مآرب اسيادهم السياسية الاستعمارية ومطامعهم الاقتصادية الاحتكارية".

وانصافا منا للحقيقة نقول ان عدد الدعاة والمبشرين الذين كانت تهمهم مصلحة المذهب البروتستانتي (وليس اطلاقا التغلغل السياسي والاقتصادي الأمريكي أو الانكليزي) التي لا تتناقض فقط ورسالتهم الانسانية الخيرية الرامية لانجاح الدعوة الدينية- الروحية كانت على قدر متكافئ مع تطلعاتهم لتحقيق الرسالة التثقيفية التنويرية لم يكن قليلا، بل لم يكن استثناء من القاعدة. وقد أشار المستشرق السوفيتي كونلوف الى هذا لاحقيقة فقال: يجب التركيز على الجوانب الايجابية لنشاط المؤسسات التبشيرية الأوربية، وفي المقام الأول على مدارس المبعوثين الأجانب، ثم يستطرد قائلا: ومهما كانت طبيعة المهام الرسمية التي أوكلتها الدوائر الحاكمة الأوربية، فان نشاط الارساليات الدينية في الأقطار العربية جاء مطابقا ولاشك لاحتياجات المجتمع الأوربي البرجوازي الرامية الى خلق ظروف مواتية لمصالحه ومنافعه المتعددة الجوانب. ولكن لابد من الاقرار بالحقيقة التالية، وهي أن عددا كبيرا من موظفي البعثات الدينية كان من رجال الفكر العلمانيين الذين عبروا عن متطلبات المجتمع الأوربي ومصالحه وعاداته.

ويجب أن نأخذ بالحسبان الاعتبار التالي وهو أن النشاط الفكري – الثقافي للنهضويين العرب كان يخدم موضوعيا عملية انجاح مهمة المبشرين الدينية – المذهبية . كانت النهضة عصرئذ في الوسط الشرقي الغربي أشد منفعة لمآرب المبشرين الالدينيين – الروحانيين التوسعية.

ومن هذا المنطلق كانت طبيعة التعاون المنسق بين النهضويين العرب النصارى وبين المبشرين الأجانب في أطر المراكز التعليمية التربوية أو على صعيد الجمعية العلمية السورية. هذا التعاون الذي استمر عقودا من الزمن أعطى قطوفه الدانية في الحياة الفكرية الثقافية في ربوع لبنان. ففي احدى خطبه، قال حنا ورتابيد، عضو الجمعية العلمية الأولى في سورية: "فلتتذكروا اجتماعاتنا في الماضي، عندما كنا نتجادل حول الجنة والنفس الأمارة بالسوء والغيب والرجال ذوي الذيول واكسير الحياة والحجر الذهبي والبشر أنصاف الكلاب، وباختصار حول كل ما من شأنه الانحطاط بالعقل الانساني". أجل ، تم الانتقال تدريجيا من العصر الوسيط الغارق في بحر التجهيلية والدوعماتية الدينية والتعصب الأعمى الى عصر جديد مشحون بالعلمانية ومفعهم بالمفاهيم الانسانية.

كان نجاح المرحلة الانتقالية مرهونا بالقسط الذي يؤديه كل من الطرفين في مجال التعاون البناء. فرواد النهضة العربية قاموا بواجبهم المتعلق بالتراث الشرقي والثقافة الغربية. فيما نبغ المبعوثون الأجانب، وفي طليعتهم فانديك، في مضمار منجزات الحضارة والثقافة والعلوم الأوربية. كان كل من الجانبين، يحكم ما يمليه عليه واجب تنفيذ المهام الموكلة اليه. يبذل اقصى الجهود لاستيعاب أكبر قدر ممكن مما يقدمه له شريكه وتحويل هذا النمو الكمي الى نوعية جديدة راقية المستوى.

عملية المثاقفة هذه أدت أيضا الى نتيجة منطقية تجلت في "التعريب" التدريجي للمبشرين الأوربين ورفاقهم وتلامذتهم من الأقوام الأخرى. فاذا كان ايلي سميث وفانديك وغيرهما من الأوربيين، وحنا وارتابيد الأرمني ورفاقه ممن لم يتعربوا كلية في مرحلة معينة من نشاطهم، فانهم انقطعوا الى حد ما عن كونهم أمريكيين أو هولنديين أو أرمن أو كيت وكيت، لا بل ان التبدل الذي طرأ على حياتهم اليومية وعاداتهم وتقاليدهم المعاشية أدى الى تغير في المظهر الخارجي للمثقف الأوربي الغربي، الذي اكتسب بالتدريج ملامح الانسان العربي – الشرقي وسماته.

ومن جانب آخر، كانت احدى النتائج الطبيعية لتلك العملية متمثلة في بداية تشكل الثقافة العربية النهضوية ذات النوعية الجديدة، بالقياس الى التراث السلفي. هذه الثقافةة النهضوية شكلة اللغة العربية والتراث العربي مضمومنها الأساسي والتقليد الشرقي المعروف شكلها الاساسي أما مادتها الغربية الأوربية فهي استعارة – اصطفائية، ولذلك كانت حتى في خطواتها اللبنانية الأولى ذات طابع عربي – قومي من حيث الجوهر. وبغض النظر عن التضارب في الآراء حول مسألة المقادير المسموح بها من التراكمات الاصطفائية على القاعدة العربية ، وحول اسلوب الاستيعاب والممارسة، ودرجة التأثير التي تركتها على الأساس العربي والنتائج المترتبة عن كل ذلك، فانه يجب اعتبارها رسالة تاريخية هامة قام بها المفكرون الذين انتظموا في سلك الجمعية السورية، وأسدوا خطمات جليلة الى النهضة العربية الثقافية القومية.

كان المبعوثون الأمريكان برئاسة فانديك قد أسسوا سنة 1842 لجنة تحضيرية اقتصرت مهمتها بادئ ذي بدء على اشراك الطلبة النابغين ذوي المعارف الواسعة في تأسيس جميعة لنشر وترويج منجزات العلوم والفنون العالمية، هدفها الأساسي انعاش الحياة الفكرية والثقافية في بيروت، ان مهمة عظيمة كهذه كانت شبه مستحيلة ولا شك في الأوقات العصيبة التي اعقبت الصدامات الطائفية سنة 1841 التي لم ير لبنان نظيرلها في تاريخه، فضلا عن الغاء الامارة الشهابية سنة 1842. بيد أن المساعي الحديثة التي بذلها المرسلون الأجانب ونخبة من الفضلاء والأدباء والوجهاء اللبانيين الذين كانوا يعقدون لقاءات دورية في دار نصايف اليازجي الذي كان له الفضل الأكبر في تاسيس الجمعية السورية ، يناقشون فيها القضايات العلمية الملحة، وفي مقدمتها مهمة تطوير اللغة والآداب العربية.

بعد انقضاء خمس سنوات من الاعداد والترتيب، واثر تصرم عام واحد على ترتيبات شكيب افندي التي خلقت ظروفا مواتية نسبيا، تم الاعلان في كانون الثاني (يناير) 1847 عن تأسيس الجمعية السورية لنشر العلوم والآداب والفنون. وقد حددت المادة الثانية من القانون الداخلي أهداف الجمعية على الشكل الآتي: "تعريف أعضاء الجمعية على العلوم والفنون بواسطة المحاضرات والخطب والمباحث والرسائل، وجمع التاليف والمصنفات العربية المخطوطة والمطبوعة والوثائق والمستندات، واستنهاض الهمم لاكتساب العلوم والمعارف المفيدة، مع الابتعاد عن المسائل الدينية والعادات والتقاليد والسياسة التي لا صلة للجمعية بها".

تولى رئاسة ادارتها الدكتور طومسون وغيره، وكان رئيسها في السنة الأخيرة ايلي سميث، وللرئيس ثلاثة نواب هم طومسون وفانديك وحنا وراتابيد، وكاتب الواقع بطرس البستاني، وأمين المكتبة أنطونيوس الأميوني، وآمين الصندوق ميخائيل شحادة.

حنا وارتابيد (اوهانيس) المعروف في الأواسط الأنكلو- أمريكية ب"جون وارتابيد" (1826-1908) هو ابن الاسقف السابق هاكوب بولوتسي الذي سبق الحديث عنه. ورغم أن كريمسكي عده طورا "أرمنيا مستعربا" وطورا "أرمنيا سوريا متأنكلزا" ، فانه – كما سنرى – لم يقطع صلاته الروحية مع الشعب الأرمني حتى الرمق الأخير من حياته. فبعد أن تلقى العلم في مدرسة عبية العالية، أرسل الشاب اوهانيس الى سكوتلندا، ومنها قفل عائدا الى حلب ونيويورك. حيث تخصص في التشريح والفيزيولوجيا، وعاد حاملات الشهادة بهذين الفنين، فصار من أستاذة الكلية الأمريكية في بيروت.

ذكر المؤرخون أن الجمعية السورية ضمت صفوة من الأدباء والعلماء والوجهاء والفضلء في ذلك العصر. زاد عدد أعضائها سنة 48/1949 على خمسين عضوا كلهم من النصارى، منهم نيف واربعون في بيروت، ونحو عشرة أعضاء مراسلين في دمشق وطرابلس وصيدا وصفد. ومن الطريف حقا أنه لم يكن في عضويتها سوى الشيخ يوسف الاسير الصيداوي خريج الأزهر، الثقة في العلوم العربةي والفقيه، ومن الرواد الأوائل في النهضة الأدبية الحديثة.

ان سعة الأفق الفكري والتبحر العظيم في العلوم النقلية والعقلية، والتطلع الى مستجدات ومستحدثات العصر، كل ذلك انعكس بوضوح ظاهر في المحاضرات والخطب التي ألقيت في الجمعية العلمية ونشرت في كتاب خاص سنة 1852 عنوانه "أعمال الجمعية السورية لاكتساب العلوم والفنون" . نذكر منها على سبيل المثال "مقدار زيادة العلم في سورية في هذا الجيل" و"الحركة الثقافية في سورية في الفترة الأخيرة" للدكتور حنا وراتابيد. و"تأملات في السعد والنحس" للدكتور ميخائيل مشاقة ، و"في اسس التجارة" للدكتور ميخائيل مدور ، و" نواميس الطبيعة" لسليم نوفل، و"الرابطة بين سورية وأوربة" و"حول تطور الشعر العربي" لناصيف ايازجي و" منفعة اعداد رجال الدولة" و"خطبة حول النباتات" لنوفل نوفل و"العلوم هند قدماء العرب" و"بداية العلوم الطبيعية" و"تربية الأطفال" لهنري دي فروست و" الأجرام السماوية وسيارات الشمس" و"مدينمة بيروت" و"مؤلفات الحريري" لبطرس البستاني. وقد لاقى خطاب البستاني حول "تعليم المرأة" صدى واسعا لأنه كان أول من طرق هذا الباب من خطباء الشرق عامة – كما قال جرجي نقولا باز صاحب مجلة "الحسناء" البيروتية.

كانت اللغة العربية للغة الرسمية في الجمعية السورية، اذ كانت المحاضرات والخطب والبحوث تلقى بلغة الضاد.



الهوية الاجتماعية لأعضاء الجمعية السورية

نرى من واجبنا الرد على تساؤل هام فرض نفسه في شتى الأدبيات ، وهو: كيف تحددت الهوية الاجتماعية لرجال الفكر الوطنيين الذين التفوا حول المبشرين والمبعوثين الأجانب ليمارسوا سويا نشاطا نهضويا بارزا؟


نقول بادئ ذي بدء بأننا لا نتفق مع الرأي الذي أبداه المستشرق السوفييت زلمان ليفين الذي اكد أن الفكر التنويري العبي، ولاسيما اللبناني، في مرحلة تطوله الأولى، كان قد تمركز في الأوساط الاقتطاعية، وبأن الأعضاء والأعضاء المراسلين للجمعية السورية "كانوا عبارة عن أشخاص ينتمون الى أوساط اقطاعية – ربوية وممثلين لعائلات ترتبط ارتباطا مباشرة أو غير مباشر بالتجارة ومثقفين محليين". كما أننا نعرض ما ذه باليه المستشرق عثمانوف الذي جزم بأن اعضاء الجمعية "من ممثلي العائلات المالكة الاقطاعية".

والحقيقة التي لا مراء فيها أن أعضاء الجمعية الثقافية الأولى في كل العالم العربي المتطلعة الى الفكر التنويري، كانوا ينتمون الى عائلات برجوازية تجارية ربوية، اذا كانوا على صغر أعمارهم – ينخرطون في معمعان النشاط التجاري الداخلي والخارجي، وكانوا في الوقت ذاته يوطدون علاقات وثيقة مع الممثليات الدبلوماسية التابعة للدول الرأسمالية الأوربية. أما الأعضاء الذين اقتصرت موارد رزقهم على العمل الذهني فكانوا ينتمون الى أصول اجتماعية متواضعة أو من عناصر برجوازية حديثة المولد، وقد أشار ليفين الى خمس عائلات تمثل المجموعات الاجتماعية الأساسية وهي:

1- الاخوة مدور الذين ينتمون الى عائلة من كبار تجار بيروت الذين كانت لهم مكاتب في مرسيلية وليون ولندن. وهذا عين الحق، فميخائيل مدور كان تاجرا كبيرا ذات صلات وثيقة مع الرأسمال الأوربي، ومترجم القنصلية الفرنسية في بيروت، أما المحامي نقولا مدور فكان عضو غرفة التجارة في بيروت. 2- أسرة كتفاجو من التجار. وهذا صحيح أيضا، ولاسيما أن هذه الأسرة تعد من أوائل مؤسسي النشاط المصرفي في المشرق العربي كله. 3- الاخوة طراد "المعروفون في بيروت بتجارتهم وثروتهم" وهذا راي لا غبار عليه ايضا. أما كمال الصليبي فقد وضع عائلة طراد في مصاف عائلات بسترس وتويني وسرسق، التي تعد من أساطين التجار الذين كدسوا ثروات هائلة". 4- وعد ليفين النوافلة من كبار نبلاء الموظفين في طرابس، وهو رأي سديد أيضا، ولاسيما أنه لم يطلق نعت "النبيل" بالمفهوم الارستقراطي. فوالد نعمة الله نوفر (1812-1887) عضو الجمعية كان موظفا مشهورا ابان الحكم المصري في لبنان ومن أبرز المفكرين. أما نعمة الله نوفل فكان اختصاصيات في الشؤون المالية اشتغل في البلدية. واخوه سليم نوفل (1828-1902) جمع بين المحاماة والتدريس والأعمال التجارية التي أملت عليه مهمة الانتقال والسكن نهائية في روسية. 5- ميخائيل مشاقة وأولاده "الذين ينحدرون من أسرة اقطاعية عريقة النسب وهم يمارسون الاعمال التجارية" وهذا نصف الحقيقة. لأن تأكيدات ليفين بشأن الاصل الاقطاعي العريق تنقسه بعض الحجة. فقد أكد يوسف الياس سركيس أن الجد الأكبر لميخائيل مشاقة عضو الجمعية العلمية، المدعو يوسف بتراكي لقب ب"مشاقة" لاحترافه "تجارة مشاقة الحرير".

وفيما يخص ميخائيل مشاقة والجمعية السورية فوالده جرجس مشاقة كان محاسبا عاديا لدى الأمير بشير الكبير، وقد تلقى ميخائيل مبادئ العلوم على بطرس عنحوري ودرس الطب في مصر، وكان يمارس التجارة ابان دراسته. كان ضليعا في علوم اللغة والفنون وكاتبا اجتماعيا من طراز فولتير الفرنسي، لم يتوان عن تحدي البطاركة اليوسعيين، فكانت بينهم سجالات تركت وقعا عظيما في ذلك الوقت. وكان قد تسلم نصب قنصل أمريكة في دمشق خلال الأربعينيات. كانت له تآليف عديدة في التاريخ والموسيقى.

وبناء عليه فان الهوية الاجتماعية البرجوازية للعائلات الخمس، التي كان أبناؤها من الأعضاء المؤسسين في الجمعية السورية ، لا تترك مجالا لأي شك. وهذا القول ينسحب تماما على الأعضاء الآخرين الذين تحدروا من عائلات تنتمي ولو بدرجة متفاوتة – الى ذات المجموعة الاجتماعية، فالأخوان مارون ونقولا نقاش انتقلا من صيدا الى بيروت في العشرينيات، وكانا من التجار المساهمين في شركة "قيقانو-نقاش"، بينما كان نقولا محاميا، تسلم أولا منصب مدير الجمارك في بيروت، ومن ثم مدير الريجي في دمشق، وكان عضوا في غرفة التجارة ومجلس الادارة في بيروت. أما آلا بسترس وآل شحادة (ولاسيما ميخائيل شحادة) فكانت لهم علاقات وطيدة مع القنصلية الروسية في بيروت (كان الكثيرون منهم موظفين فيها). وكانوا من البرجوازيين الذين ارتبطت مصالحهم بالسوق الروسية. أما أسر عائلات شبلي وربيز وقرزوزي من فئة "البرجوازية غير الثرية جدا"، وكذلك هي أسر دي فورست وقلهون وحويطان وغيرها. أضف الى ذلك أن العديد من رجال الفكر الصحافي ، خليل الخوري مثلا، "بدأ حياته موظفا في هذه أو تلك من الشركات التجارية". وليس من قبيل المصادفة أن كريمسكي الذي كان على معرفة وثيقة بهذه الأسر كلها، كتب يقول: "كان أغلب أعضاء الجمعية من أكابر البيروتيين الناصارى (وقلة منهم من طرابلس وصيدا ودمشق) وبمعنى آخر" من أرباب البيوت التجارية والمالية الكبيرة التي كانت معظمها مرتبطا تجاريا بأوربة وروسية. ومن الوجهاز الأفضل الذين تسلموا مراكز مشرفة في القنصليات الأوربية.

اذا كانت هذه هي الهوية الاجتماعية لمعظم الأعضاء المؤسسين والعاديين، فهل يجب علينا بها ترى البحث عن "الاقطاعيين – الربويين" أو "المرتطين بالتجارة ارتباطا غير مباشر" في صفوف الأعضاء القياديين؟

وفي هذا المجال ايضا يجب علينا غض الطرف عن المرسلين طبعا، أمثال سميث وطومسون وفانديك وحنا وارتابيد، لنؤكد بعدها أن ناصيف اليازجي كان ابنا لطبيب شعبي مثقف، أما بطرس البستاني فلم يكن سلسل أسرة اميرية أوشيخية أو ارستقراطية، بل "ابن عائلة متواضعة" و"ابن الشعب البار"، على حد تعبير بوجولا.

ان اسهابنا في تحديد الهوية الاجتماعية للأعضاء الطليعيين في الجمعية السورية لم يكن غاية بحد ذاتها، فبلورة الصورة الاجتماعية لهؤلاء الرواد الذين وقفوا حياتهم على اشاعة الفكر التنويري في سياق الحركة النهضوية العربية من خلال نشاط الجمعية السورية ، تساعدنا – ولاشك – على تحديد المحتوى الاجتماعي لحركة النهضة العربية الحديثة.


مفهوم النهضة

ثمة أمر هام آخر وهو: أن الجمعية السورية تخذت في كثير من الأحيان مرتقى للتدليل على الطابع الاقطاعي لحركة النهضة عامة. فها هو ذا ليفين ينحو هذا النحو بقوله: "ولما كانت كلمة النهضة" ترجمة عربية لمصطلح "الرينيسانس" كما يرد في عبارتي "النهضة الأوربية" و"عصر النهضة"، فاننا نرى من المناسب التنبيه الى ما يلي تفاديا للخلط، فعلى الرغم من أن النهضة الأوربية والنهضة العربية تندرجان على حد سواء في اطار أول مراحل تطور العلاقات الرأسمالية في أوربة الغربية وفي بعض البلدان العربية على التوالي، فليس هناك أساس للمقارنة بينهما، اذ انهما ظاهرتان مختلفتان من حيث الجوهر ومن حيث الشكل".

ترى ما هي الأدلة القاطعة التي اعتمدها ليفين لدحض اي اساس للمقارنة بين النهضتين الأوربية والعربية؟ الجواب لدى الكتاب كما يلي: "النهضة الأوربية الغربية تعكس في البداية تنبه وعي البرجوازية الوليدة بنفسها، وعملية شتكل الثقافة البرجوازية. فخلافا لذلك، فان الدافع الى النهضة العربية كان يكمن بادئ ذي بدء في تطلع الأوساط الاقطاعية – الارستقراطية الحاكمة الى صون مواقعها في صراعها مع أوربة . وسعيا منها للبرهنة على الرأي الذي يسوقه، يفيدنا ليفين بقوله: "تجدر الاشارة الى أنه حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين كان أكثر الأشخاص تميزا ببعد النظر وثقافة بين ممثلي النخبة الاقطاعية – الارستقراطية والأوساط الاقطاعية – الملاكية العقارية يؤلفون تقريبا نصف رجالات النهضة (ينطبق هذا التقدير على أولئك الذين يصادف القارئ أسماؤهم على صفحات هذا الكتاب).

ليس من العيس أبدا التكهن بأن ليفين الذي عد نفسه منتهيا من مهمة التدليل على الهوية الاجتماعية لرواد النهضة الممثلين في الجمعية السورية حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر بابراز "هوية النصف تقريبا "، سيخطو الخطوة التالية التي يستنتج فيها أن النهضة العربية كانت وليدة الوسط الاجتماعي والاقطاعي. وهذا برأينا جزئي ومخالف للواقع لا يمكن الموافقة عليه. وكل ما في الأمر – ولو استبقنا هنا سياق البحث الحالي لمناقشة تقييم ليفين – أن الاسماء التي أوردها ليفين لرواد النهضة في خمس من صفحات كتابه، تبرهن بما لا يرقى اليه الشك عدم وضوح الرؤية لدى الكاتب فيما يخص مسألة الانتماء الاجتماعي لتلك الشخصيات. حقا ان خمسة عشرة من بين أربعة وعشرين من رجالات لانهضة لا يوجد بينهم واحد من رجال الدين أو الاقطاعيين – الارستقراطيين او الاقطاعيين – الملاكيين العقاريين. فبكرس البستاني وفارس الشدياق وفرح أنطون وأمين الريحاني أبناء طبقة الفلاحين المتوسطين، أو بالأحرى أولاد أسر برجوازية مدينية، وشبلي الشميلي وفرنسيس مراش ونقولا حداد من أسر كانت تشتغل بالتجارة وأديب أسحق ابن موظف في الجمرك، وجرجي زيدان ابن حانوتي وصاحب مقهى, وهكذا دواليك. ونؤكد في الوقت ذات أن بقية رجالات النهضة السوريين، الذين قلما وردت أسماؤهم في كتاب ليفين – كانوا ينتمون الى ذات الوسط الاجتماعي الذي أشرنا اليه. ولكن، هناك شبه استثناء فيما يخص السوريين محمد رشيد، رضا وعبد الرحمن الكواكبي اللذين تحدرون من أسرة أرستقراطية اقطاعية، الأول حرر مجلة المنار لسان حال حركة الاصلاح الاسلامي ، والذي يبقى برأينا – خارج اطار المفكرين البارزين والطلعيين – جيل النهضة القومية الفكرية الحضارية في القرن التاسع عش. والأمر مختلف تماما بالنسبة لعبد الرحمن الكواكبي الذي يستحق هنا وقفة قصيرة.

الكواكبي سلسل واحدة من مئات عائلات الأشراف التي يرجع نسبها الى النبي محمد. فكانت أسرته ذات شهرة واسعة في حلب تبوأت مركزا مرموقا يعرف عادة باسم "نقيب الأشراف". هذه المكانة الرفيعة كفلت لها امتيازات اقتصادية واجتماعية معينة عبر القرون. فامتلكت عقارات واسعة مشروطة وغير مشروطة. بيد أن آل الكواكبي كانوا كغيرهم من الأسر الاقطاعية الشهيرة (عائلات العظم والبرازي والبارودي في سورية، والألوسي والرفاعي في العراق) ملاكين عقاريين غيابيا، وبتعبير آخر كانت العشرات والمئات من الأسر التي تحمل اسم الكواكبي مرتبطة بالاقطاع بمقدار ما كانت تتسلم من كبير العائلة مداخيل سنوية من محاصيل الأراضي، التي لم يروها قط بأم عيونهم، لأنها اسر مدينية تسكن حلب أو غيرها من المدن، حيث يتبوأ ممثلوها وظائف حكومية واجتماعية مختلفة، أو يمارسون مهنا حرة شتى. ومن الجلي في هذه الحالة أن عبد الرحمن الكواكبي الذي ولد وشب في أسرة رجل دين مسلم مشهود لها بالفضل والعلم، والذي قضى جل حياته في الوظائف الحكومية العديدة. وشغل مناصب رفيعة في الادارة المدنية، وكان مثال العامل الساعي وراء النهوض بالأمة واصلاحها وصلاحها، فكان بذلك من رواد النهضة الأدبية الاجتماعية والوطنية. ولكن حتى الكواكبي لا يمكننا اعتباره – ولو مجازا – اقطاعيا أرستقراطيا.

يبقى أمر يتوقفنا ، وهو الرأي السائد في الدراسات العثمانية لدى الباحثين الأجانب، مفاده أن الأزمة التي عانتها الامبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر كانت تجليا لانهيار الحياة السياسية الاجتماعية. وفي معارضته لهذا الرأي كان المستعرب البير حوراني أول من لفت الأنظار الى عامل اصلاح الامبراطورية اجتماعيا. الذي برز في مراكز الأقاليم اثر استلام الفئات السياسية الاجتماعية الجديدة لمقاليد السلطة. ويرى الحوراني أن العناصر الاجتماعية الجديدة التي استلمت زمام الحكم في بعض الأقطار العربية ولاسيما في سورية بدلا من الموظفين الأتراك الاقطاع- العسكر ومن يدور في فلكهم من الاقطاعيين والأعيان المحليين – تنتمي الى فئة أصحاب الأراضي الذين سكنوا في المدينة واشتهروا بنشاطهم الاقتصادي التجاري الفعال.

نخلص من كل ما ذكرناه الى أن محاولة المستشرق السوفيتي زلمان ليفين الرامية لنفي اي أساس للمقارنة بين النهضتين الأوربية والعربية، ولتقديم صورة مشوهة عن الهوية الاجتماعية للرعيل الأول والتالي من رجالات النهضة العربية باعتباره الغالبية العظمى منهم من الاقطاعيين – الأرستقراطيين أو الاقطاعيين – الملاكين العقاريين أو من رجالات الدين – ليست سوى محاولة لا اساس لها من الصحة. كما أن رأيه القائل "بأن الدافع الى النهضة العربية كان يكمن بادئ ذي بدء في تطلع الأوساط الاقطاعية الأرستقراطية الحاكمة الى صون مواقعها في صراعها مع أورةب" أشد وهنا ولا يصمد للنقد اطلاقا . ولب الأمر في أن مثل هذا التنبيه موجه الى "الفئة النخبوية" لحاكم مصر محمد علي والتدابير التي قام بها. وهاذ التقييم ينطبق تماما على عصر محمد علي وطبقة العسكر والباشاوات والبكوات الدائرين في فلكه، والذين كانوا – بحكم مصالحهم الشخصية الضيقة وانطلاقا من حرصهم على مكاسب الدولة العثمانية وأبناء عثمان الذين ادعوا الاسلام وهو منهم براء – يتطلعون فعلا "الى صون مواقعهم في صراعهم مع أوربة". تلك التدابير التي لم يكن يجمعها أي جامعة بالنهضة العربية التي – بحكم أنها حركة تتطلع الى النهضة الثقافية القومية – العربية التي – بحكم أنها حركة تتطلع الى النهضة الثقافية القومية العربية كانت ستتعرض لشتى الأخطار والنتائج الوخيمة العاقبة لو أنها تحولت الى حركة اسلامية – عثمانية سلفية دوغمائية. بكلمة واحدة، ان ما أسماه ليفين "بداية النهضة" لم يكن في الحقيقة سوى "ضد النهضة". وما دمنا قد تحدثنا مسبقا في الفصل الأول عن توصيف شخصية محمد علي بالذات وعن جوهر التدابير "التنويرية" ذات النزعة العسكرية الخالصة لاتي اتخذها، فاغننا نكتفي هنا بالتنبيه الى أن الاصلاحات التي قام بها محمد علي يجب أن نربطها بحركة النهضة مع تأكيد النتائج غير المباشرة، التي جاءت خارج نطاق تصورات نائب الملك وحساباته، لا بل كانت في معظم الأحيان خارجة عن ارادته ورغباته، ولا وعيه – ومع ذلك ساهمت تلك التحولات الفكرية – الثقافية موضوعيا في التمهيد لظاهرة النهضة التي انبثقت تحديدا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

تشير بهذه المناسبة الى أن ليفين الذي دحض وجود أية امكانية بين للمقارنة بين النهضتين الأوربية والعربية، يسوق لنا مجددا "حجة بليغة" أخرى بقوله: "وقد تحققت في عصر النهضة الأوربية الغربية تحولات عميقة في الحياة الروحية على أساس اللجوء الى الثقافتين الاغريقية والرومانية القديمتين. فتميز ذلك العصر بمحاربة المدرسية _السكولاستيك) واليقينية الدينية وبالانتشار الواسع لأفكار النزعة الانسانية. في حين أن النهضة العربية كانت تعني احياء الحياة الثقافية بعد طول رقاد، على أساس الاقتباس الواسع للقيم الروحية المناقضة لأوربة الراسمالية.

ولكن هناك اعتبارا أكثر أهمية، من المعروف أن المفكرين الذين اجتمعوا حول أول مؤسسة نهضوية في بيروت، الجمعية السورية، كانوا مؤلفين من فئتين أساسيتين، مثلثت الفئة الأولى الشباب المثقف المتعلم، والفئة الثانية الطلبة المتعطشين للمعرفة والعلم. وكانت الجمعية بالنسبة للفئة الاولة عبارة عن منتدى لتبادل الآراء والسجالات الفكرية (كان أحدهم يلقي محاضرة أو خطبة في موضوع ما، بينما يقدم الآخرون مداخلاتهم) بينما كان طلاب المعرفة يستمعون ويفكون ويستخلصون العبر والنتائج، فيشتد عودهم ويخطون خطواتهم الأولى في هذا الميدان. يبنغي التذكير أيضا بأن تلك الندوات كانت نقلات نوعية في مجال الوعي الاجتماعي صبت في مجرى ايجاد قاعدة شعبية – اجتماعية لنشاط الجمعية الثقافي – التنويري. ومن هذا المنطلق يصح القول انه لا يجب المبالغة في تقدير دور الجمعية. خصوصا اذا اخذنا بالحسبان المواضيع الواردة في مجموعة أعمال الجمعية العلمية" الوحيدة. وهذا لا يعني اطلاقا اننا نقلل من شأن الجمعية ونشاطها. كل ما في الأمر أن الأهداف المعلنة في قانون الجمعية كانت متواضعة تماما بالقياس الى التطلعات الحققية التي كان يصبو اليها أعضاء الجمعية، ومضمون المواضيع المنشورة في المجموعة الوحيدة أبعد ما تكون عن الحجم الحقيقي لاسيعاب المسائل التي شغلت بال الشريحة العليا من المثقفين ، فضلا عن أنه مرآة عاكسة لمستواهم الأدبي والعلمي الحقيقي.

وللتدليل على ما نرمي اليه نود التوقف عند نشاط أحد أعضاء الجمعية البارزين، الذي يشد انتباهنا ايضا من زاوية كونه أرمني الأصل، وهو إسكندر أبكاريوس (1826-1885) الشاعر والأديب والمؤرخ الشهير الذي لم تجد تأليفه طريقها الى المجموعة المذكورة، ولهذا غاب عن أنظار المستعربين السوفييت.


إسكندر أبكاريوس

باشر إسكندر أبكاريوس دراسة التاريخ والأدب العربي دراسة واسعة وعميقة قبل ظهور الجمعية السورية في بيروت. ثم سافر الى فرنسة وانكلترة لاتمام علومه فيهما. له مؤلفات تنبئ بحسن ذوقه وكثرة مطالعته، وقد باشر بنشرها سنة 1852 فكان كتابه "نهاية الأرب في أخبار العرب" باكورة تاليفه الأدبية (مرسيلية 1852) . وفيما بعد هذبه ببدائع الأشعار والوقائع والأخبار، فزادت صفحاته من 189 إلى 408، وأعاد نشره تحت عنوان "تزيين نهاية الأرب في أخبار العرب" (بيروت 1867) وفي سنة 1858 وضع بين يدي القارئ العربي كتاب "روضة الأدب في طبقات شعراء العرب" و"منية النفس في أشعار عنتر عبس".

ان ابداع وفعالية أبكاريوس في حقل الآداب خاصة ، وميدان الفكر عامة، لا ينحصر في حدود هذه التآليف، اذ انه خلف لنا آثارا كثيرة وقيمة نذكر منها مثلا : "نوادر الزمان في وقائع جبل لبنان" لا يزال مخطوطا محفوظا في المكتبة التيمورية، و"ريحانة الأفكار في أخبار الأسد الكرار" و"البكل القهار الملك شهريار" والذي يعد الروائع في أدب الأسطورة وأطول ملحمة في الأدب العربي، وكتابا تاريخيا – علميا مكرسا لابراهيم باشا ابن محمد علي عنوانه "المناقب الابراهيمية والمآثر الخديوية" (بمساعدة محمد مكاوي) و"نزهة النفوس وزينة الطروس" وهو ديوان شعر في المدائح والتهانوي والمراثي.

كان هدفنا من التركيز على المصنفات الثلاثة الأولى لأنها صدرت قبل تاسيس "الجمعية العلمية السورية" ، ابراز الحقيقة التالية: أن القضية المحورية التي شغلت فكر اسكندر أبكاريوس على مدى سنوات عديدة تمثلت في سعيه الدائب والمثابر لتعريف العرب بتاريخهم العريق وأمجادهم التليدة تعريفا علمية موضوعيا، ولاسيما بالحضارة التي سادت قبل الإسلام والمتمثلة قبل كل شئ في الشعر العربي الكلاسيكي السابق لعصر تدوين التاريخ. وتتضح الأهمية التاريخية والقومية لتلك التآليف حين نؤكد أن الكثيرين من العرب ألموا إلماما كبيرا بآثار إسكندر أبكاريوس بالذات ، لأن أدبيات الاستشراق الأوربي التي عالجت العصر الجاهلي لم تكن سهلة المنال. وقد أشار بطرس البستاني في دائرة معارفه الى هذه الحقيقة بقوله: "ان الكثيرين من المفكرين العرب رجعوا الى هاتيك المؤلفات التي لا تقدر بثمن".

أما المفكر الأرمني أوهانيس أغباشيان فلم ينصف أبكاريوس حين قال: "ان حرث أبكاريوس لم يكن عميقا في الأدب العربي" ،وكذا فعل كريمسكي، الذي لم يكن أبكاريوس عنده سوى "مطلع على آداب العرب في الجاهلية". نؤكد في هذا المقام انه بعد صدور الطبعة الثانية من "نهاية الأرب في أخبار العرب" بخمس سنين أقدم النهضويون المصريون برئاسة مصطفى عبد الرازق (1872) على نشر كتاب حمل تقريبا ذات العنوان "نهاية الأرب في تاريخ العرب" ، لم يكن في حقيقة الأمر سوى ترجمة لكتاب المستشرق سيديو الفرنسي "تاريخ العرب"الصادر في باريس سنة 1852.

هذه الحقيقة لها مغزى خاص ومميز لأن أبكاريوس وغيره من رجالات النهضة الأولى العظام كنوفل نوفل في كتابه "صناجة الطرب في تقدمات العرب" وغيرها من الأدبيات المكرسة لتاريخ العرب وآدابهم في العصر الجاهلي هم الذين بعثوا التراث القديم من زوايا النسيا، ولاسيما الشعر العربي الذي قدموه في حلة جديدة قشيبة كانت حافزا لرفع الوعي الذاتي القومي.

كان الهدف الأسمى لأبكاريوس ورفاقه وأنصاره كامنا في اجراء انعطاف في الحياة الروحية لأبناء وطنهم، معتمدين على المنجزات الحضارية العريقة في القدم، داعين اياهم لاجتراح المعجزات في مضمار بعث ماضيهم المجيد. ومن البين تماما انه اذا كانت الحضارة الهيلينية مصدروحي والهام لرجالات النهضة الأوربية، فان استغناء أرباب النهضة العربية عن قيم الحضارة الهيلينية وميلهم للاستفادة من حضارة قدماء العرب، لم يشكل احدى المزايا الخاصة التي طبعت نشاطهم وحسب، بل وشهادة قاطعة الدلالة على أصالتهم ونبوغهم في هذا الميدان.

الدكتور كريكور وارتابيد الأرمني

هناك رائد آخر يهمنا جدا وهو الأرمني كريكور وارتابيد، لأنه واحد من رعيل المفكرين المنورين للنهضة العربية الذين تحلقوا حول الجمعية السورية، والذين اتسموا بالنزعة الإنسانية "والتحرر الفكري الرحب كرواد النهضة الأوربيين"، خلافا لتأكيدات ليفين المعاكسة، غير أن ندرة المعلومات لا تسمح لنا – للأسف – برسم صورة واضحة الملامح عنه. وكل ما نعرفه عنه أنه ولد في صيدا سنة 1827، وهو الأخ الأصغر لحنا وارتابيد الشهيرن تلقى علومه في مدرسة المرسلين ببيروت، وكان عضوا في الجمعية السورية . تبحر في علومه بانكلترة وقفل راجعا الى المشرق سنة 1854. وقد أسلم خواطره عن سورية والسوريين ماضيا وحاضرا، وعبر عن آماله وتوقعاته لمستقبل هذا البلد في كتاب مؤلف من جزأين أسماه "سورية والسوريون". وقد أصاب سيساك وارجابيديان عين الحقيقة حين وصفه بأنه "أديب نابغة" وشاعر ألمعي، من أشد المدافعين عن العلم والتنور، وثائر قارع الظلم وحارب الظلام، دافع عن قضايا العرب مشيدا بقيمهم وفاضئلهم فكان نبيا في قومه".

وبالفعل فان كريكور وارتابيد دافع دفاعا حرا عن سورية والسوريين ازاء التعنت أو التكبر الذي يبديه الأوربيون، وكان يثير الحمية والحماسة في نفوس أبناء بلده السوريين، ولاسيما اللبنانيين، نحووطنهم الحبيب وحضارتهم ذات التاريخ العميق وأمجاد العرب التليدة، فضلا عن أنه كان يبق في وعيهم روح التفاؤل بالحاضر المعيش والايمان بالمستقبل الوضاء. واليكم بعض من كلامه المشيع بحب الوطن:

"كان تجار فينيقية يسمون بالتجار الأمراء، وكان يحاورها مشهورين بأغانيهم، كانت فينيقية في ذلك العصر كما هي عليه اليوم إنكلترة، كان هناك العديد من المدارس التي ساهمت في نشر الحضارة والنور على الدنيا. فيا أطياف الماضي الغابر استيقظي واعزفي القيثار كي ينهض أبناؤك من سباتهم العميق. وليبارك الله تلك الساعة التي يتكرر فيها الماضي العريق بالزمن الحاضر". ثم يتابع الكاتب حديثه بقلب يعصره الألم فيقول: "وأسفاه فمدن فينيقية العامرة أصبحت اليوم قاعا صفصفا، فلا بحر ولا من يبحرون، فالبحر الذي تسمى باسمهم لم يعد يتعرف عليهم ويصون عرضهم وشرفهم، فالسفن الأجنبية تشق مياهه وتمخر عبابه، وحتى بر الأمان لم يعد يقلهم ويستضيفهم. وابليتاه، إلام سيستمر هذا الحال ويدوم على هذا المنال؟ متى ستجري دماء الماضي العريق في عروق هذا الحاضر الغريق؟ ومتى سيهب أبناء فينيقية هبة رجل واحد آت لا محال. وستزول اللعنة عن هذه البلاد وتجود الحالة؟. وفي موضع آخر يرى الكاتب الصلة الوثيقة بين النهضة في سورية ولبنان وبين زوال "اللعنة " المتمثلة في الحكم التركي البغيض فيقول: "ورغم أن سورية اليوم محرورة ملعونة" فان تباشير المجد العريق ظاهرة للعيان. فياربي بارك برحمتك هذه الأرض الطيبة واجعل خرابها عمارة، وفقرها نعيما، وأطلالها ودوارسها مدنا عامة آهلة". وبعد أن يؤكد كريكور وارتابيد أن دوام حكم الأتراك "القوم الفاسدين" هو أساس التناحر بين الطوائف اللبنانية، ينبري للدعوة بحماسة نقطعة النظير الى التآلف والتآزر بين الطوائف الشقيقة وأبناء البلد والواحد سورية.

نؤكد في هذا السياق انه اذا كانت الطوائف اللبنانية الإسلامية –سنة وشيعة – تقف موقفا لامباليا ازاء النشاط التبشيري البروتستانتي، وتجاه الحركة البادية الانتعاش في أوساط الشبيبة المسيحية المتعددة المذاهب حتى منتصف القرن الماضي، فان الطوائف النصرانية لم تكن غير مبالية بحكم المخاوف المذهبية – الدينية التي كانت تراودها.

فالموارنة ومن معهم من الكاثوليك حاولوا بشتى الوسائل القسرية عرقلة ابناء طائفتهم من اعتناق المذهب البروتستانتي او التعامل مع المبشرين الأجانب خوفا من تسرب الفكر الانجليزي من بيروت باتجاه الساحل والجبل. ولذا كانوا يتخذون الاستعدادات الضرورية لخوض معركة حاسمة ضد منافسهم في الستينيات.

كما كان الزعماء الروحيون من الروم الارثوذكس يعانون الخوف والقلق لأسباب أشد هولا. فقد بادر عدد كبير من شبان الروم الأرثوذكس المتعطشين الى المعرفة والعلم لارساء أسس علاقات وطيدة مع المبشرين الأجانب في بيروت والمناطق المركزية والجنوبية من جبل لبنان . وفي مطلع الثلاثينيات شرعت طائفة الروم الأرثوذكس في اتخاذ تدابير رامية الى تخفيف حدة الجهل والأمية بين أبناء الطائفة. وذلك اثر الدعم المادي والمعنوي الذي قدمه قنصل روسية قسطنطين بازيلي والاسقف أوسبينسكي.

فقد أنشئت سنة 1832 العديد من المدارس في بيروت وطرابس ودمشق. وبوشر بدءا من سنة 1848 بارسال الطلبة النابغين لتلقي العلوم في روسية (نذكر منهم على سبيل المثال "سبيريدون عبود، فضل الله صروف، سليم نوفل، جرجس مرقص، غيراسيم بارودي). وفي عام 1852 تأسست في سوق الغرب مدرسة نقلت عام 1862 الى بيروت وصارت تعرف باسم "مدرسة الثثة أقمار" للروم الارثوذكس، كان لها شأن بين المدارس الوطنية. بيد أن جميع هذه التدابير – باعتراف مبعوث المجمع الكنائسي للروم الارثوذكس – كانت دون المستوى المطلوب. وقاصرة كلية عن الوقوف بوجه المد التبشيري الإنجليزي . وقد اشار الأرسمندريت الروسي اوسبينسكي الذي كان في سورية آنذاك الى هذه الحقيقة بمرارة بقوله: ان تجار بيروت من الروم الأرثوذكس اتخذوا قرار بقيادة كاهن شبه أمي بتأسيس جمعية خاصة بهم سنة 1851 على غرار الجمعية السورية للعلوم، فاصدروا نظاما داخلية للجمعية، وتبرع كل منهم بمبلغ خمسين روبلا، وتعهدوا بدفع خمسة وعشرين روبلا في العام التالي، ثم استقدموا بعض الكهنة المتعلمين لادارة شؤونها من دمشق والقدس. بيد أن الأخيرين تذرعوا بضيق الوقت وتخلوا عن واجباتهم الزمنية، الأمر الذي ادى الى اجهاض هذه الحركة، واستطرد أوسبينسكي كلامه بسخرية مبطنة فقال: "لقد راودت مخيلة تجار الطائفة فكرة تاسيس جمعية علمية في بيروت، لكن تجار الجملة والمفرق قرروا أني يقيسوا بالارشين أسرار الحياة والدين".



2- الجمعية العلمية السورية

ان ندرة المعطيات والمعلومات في مراجع التاريخ لم تؤهل المستشرقين حتى اليوم بتحديد تاريخ توقف الجمعية السورية لترقية العلوم والفنون عن نشاطها. هناك مؤرخون يشيرون الى العام 1852 (زيدان، أنطونيوس، ليفين) والى سنة 1857(جيرجاس). ويفيد البعض أن العام 1857 كانت اريخ توقف عابر لوجودها (أنطونيوس) الذي استمر –برأي البعض الآخر – عبر انشاء جمعية جديدة قلدتها في قانونها وشروطها وحتى اسمها. واستمرت عاملة الى سنة 1868 . اذ دخلت في طور جديد. واعترفت بها الدولة العثمانية رسميا في سنة 1868 باسم الجمعية العلمية السورية في بيروت (شيخو، كوتلوف، دولينينا، ليفين).

ونحن نؤيد الراي الذي اروده جيرجاس بأن الجمعية السورية الأولى توقفت عن العمل بعد وفاة رئيسها ايلي سميث مباشرة (1857) "نتيجة لسوء تفاهم وقع مع باشا بيروت". ورغم أن المؤرخين الآخرين لم يفيدونا بأية تفاصيل حول هذا الخبر، فاننا – اعتمادا على الدلائل والقرائن المتبانية – سنبرهن على مصداقية الخبر الذي أورده جيرجاس.

فيما يخص الفرضة الأولى عن مسؤولية السلطات التركية في ابطال نشاط الجمعية نقول ان خورشيد باشا الذي عين واليا على بيروت في عرة 1856 كان "شخصا قبيح الشهرة" – على حد تعبير لامنس العلامة الخبير في تاريخ سورية . كان خورشيد باشا هذا قد وضع نصب عينيه مهمة أساسية تتلخص في سعيه الدائب "لتفكيك أوصال لبنان" وتأليب الطوائف على بعضها البعض. واثارة البلبلة في الأفكار والخواطر، وابراز عجز اللبنانيين عن حكم البلاد بأنفسهم لتسوسيد سمعتهم أمام أوربة، واجبار الأخيرة على تقديم الالتماسات للباب العالي بالتدخل لتسوية هذا السبيل". لم يكن بمقدور الباشا الجديد المستعد خير استعداد لاثارة الاحقاد الطائفية الجديدة، النظر بعين الرضا الى وجود جمعية علمية كان هدفها الأساسي متمثلا في ازالة الفوارق والخلافات الطائفية – المذهبية. ونشر آجواء التضامن بين اللبنانيين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية. ومن غير المستبعد أبدا أن تكون الأوساط الرجعية من الروم الأرثوذكس والكاثوليك، قد اسدت خدمات غير جليلة باتجاه تحقيق طموحات الباشا التركي الرامية للقضاء على الجمعية السورية، وافتراضنا هذا لا يعتمد بالدرجة الأولى على المواقف العدائية التي أبداها كل من بازيلي واتوسبينسكي ازاء الجمعية المذكورة، بل وعلى الحقائق التي لا يرقى اليها شك وهي أن البطريركية المارونية، التي كانت عاجزة عن الاقتصاص من المبشرين البروتسانت الكافرين، جعلت من منشورات المرسلين وقودا للمحارق التي كانت تضرمها في المناسبات الدينية المهيبة.

أما الافتراض الثاني فنحن لا نتوانى عن الاقرار بأنه مرهون بالتحولات التي جرت في أوساط المفكرين النهضويين في بيروت، والناتجة دون أدنى شك، عن الأوساط الاجتماعية الجديدة والبيئة الفكرية التي أعقبت مرحلة التنظيمات.

وبهذه المناسبة نشير اولا الى أنه على الرغم من شبه الاجماع القائم على اعتبار سنة 1857تاريخا لتوقف الجمعية عن العمل، فان الفترة الثانية (1852-1857) التي أعقبت السنوات الخمس الأولى المفعمة بالنشاط الحيوي، والتضارب في الآراء والمعلومات الذي يصل احيانا الى حد التنقاض والتعارض. فاذا كان جرجي زيدان يعتقد أن هذه الجمعية ظلت عاملة الى سنة 1852، فان انطونيوس يجزم بأنها علقت نشاطها عام 1852 وعاودته بصورة غير رسمية سنة 1857 لتستمر عاملة حتى 1860 ، حين أصابها نوع من الشلل، فلم تقدر على مزاولة النشاط الى في عام 1868 ، عندما اعترفت الدولة العثمانية رسميا بها. بينما يفيدنا لويس شيخو بأن تلك الجمعية غر الرسمية كانت تصدر بدءا من سنة 1857 مجموعة أعمالها بين فينة وأخرى. ومن المثير والطريف أيضا أن المبشر الأمريكي جسيوب اشار في مذكراته الى اجتماع عقدته "الجمعية الخيرية البروتستانتية" برئاسة المعلم بطرس البستاني، وليس "الجمعية العلمية السورية" في مبنى المطبعة الأمريكية في شهر شباط (فبراير) 1856، بهدف "معالجة مشاكلهم المدينية، وليس مناقشة قضايا الأدب والعلوم". وعلى العكس من ذلك أكد المستعرب الروسي جيرجاس أن أمسيات أدبية عديدة كانت تعقد آنذاك عند بطرس البستاني وغيره من أعضاء الجمعية، حيث كانت تلقى للمحاضرات الأدبية والعلمية حتى تطوير الثقافة في سورية". وأخيرا، ذكر المستشرق الفرنسي بلاشير أنه فضلا عن المبشرين الأجانب، كان أعضاء اللجان المحلية يلقون خطبا ومحاضرات على نخبة من المثقفين السورييين".

نخلص من هذه المعلومات المتضاربة الى استنتاج أساسي مفاده، بعد التلاشي التدريجي لنشاط الجمعية السورية ، نشأت بداء من سنة 1852 ظروف جديدة مهدت لفعالية رجال النهضة في شباط (فبراير) 1856. ولعل الانعطاف الذي حدث في شباط (فبراير) من ذات العام باشهار الخط الهمايوني (أي المرحلة الثانية من الاصلاحات المعروفة بالتنظيمات العثمانية) يمثل – بالنسبة لنا – النبراس الذي ينير دربنا للاطلاع على تلك المستجدات والمتغيرات التي قد تثير اللبس والغموض السائدين حول عمل الجمعية المذكورة.


التنظيمات العثمانية

من المعروف تايخيا ان الاعلان عن التنظيمات في الدولة العثمانية تزامن مع فترة الحكم المصري لسورية. ففي الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) 1839، دعا السلطان الجديد عبد الحميد وجهاء القوم وارباب الحكم الى قصر الزهور (الكلخانة)، حيث قرئ البيان الذي عرف باسم "خط الكلخانة الشريف" ، الذي صاغه مصطفى رشيد باشا (ناظر الخارجية( بمساعدة المستشارين الفرنسيين، لم يحظ الخط الشريف بالاهتمام اللائق من قبل جمهور السوريين حتى بعد عودة الحكم التركي المباشر لسورية اثر رحيل قوات ابراهيم باشا سنة 1841. والسبب الرئيسي في ذلك يرجع الى أن السلطان التركي المصلح رغم أنه كان قد اضطر لاعلان الخط الشريف تحت ضغط ظروف الأزمة الحادة التي عانتها الامبراطورية العثمانية، فضلا عن المبادئ الأساسية التي تضمنتها الفرامين اللاحقة لتنفيذ الاصلاحات، والتي ظلت حرفا ميتا بفعل الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، تلك المبادئ التي يمكن تلخيصها على الشكل الآتي:

1- صيانة حياة الرعايا وشرفهم وممتلكاتهم بغض النظر عن معتقداتهم الدينية. 2- ضمان طريقة صحيحة لتوزيع الضرائب وجبايتها. 3- تنظيم أمور الجندية مع تحديد أمدها. 4- اجراء المحاكمات علنا ...ألخ.

ورغم ان هذه المبادئ ظلت حبرا على ورق، فان بعضها وجد طريقه الى سورية في وقت متأخرى، والكلام يدور هنا عن التقسيمات الدارية الجديدة التي ظالت سورية عام 1841، اذ دمجت باشويتا صيدا وطرابلس في ايالة واحدة نقل مركزها الى بيورت، واخضع سنجق القدس الخاص لها، الأمر الذي فسح المجال امام تصاعد النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي شهدت بيروت بوادره ابان الحكم المصري. ذلك التصاعد الذي امتاز للاسف بوتائر منخفضة قياسا الى فترات سابقة، وذلك نتيجة للتقلبات الخطيرة التي اعترضت البلاد اللبنانية، ولاسيما الغاء الامارة اللبنانية سنة 1842 والصدامات الدامية بين الطوئف عبر الاربعينيات.

وكما جاء الخط الشريف سنة 1839 عاقبة لظروف الحرب التركية المصرية ، صدر الخط الهمايوني قبيل عقد الصلح تحت ضغط الدول الاوربية في 19 شباط (فبراير) 1856، فكان بمثابة التزام دولي وفقا للمادة التاسعة من معاهدة صلح باريس المعقود في 30 آذار (مارس) 1856، لم يكن بمقدور السلطان التركي الغاءه ولا تغييره الا بموافقة الدول الكبرى. وبمعنى آخر: "ان كان البيان الأول قد حرم الدبلوماسية الأجنبية والروسية خاصة، من آية ذريعة للتدخل في شؤون الامبراطورية العثمانية، فان البيان الثاني كن قبل كل شئ وسيلة لمثل هذا التدخل". على حد تعبير المستشرق لوتسكي.

الامتياز الأخير عاد بالفوائد الجمة على فرنسة وانكلترة، اذ توطدت علاقات وثيقة بين الطوائف المسيحية السورية وعاصمتي الدولتين أو مع بعثتيهما الدبلوماسيتين في المشرق، كما أن الطوائف الكاثوليكية (المارونية وأمثالها) والبروتستانتية اتخذت موقف مؤيدا ومتعاطفا مع الخط الهمايوني، الذي ركز خلافا للخط الشريف الأول – على المساواة بين الأديان والمذاهب المختلفة، ووسع حقوق وامتيازات رعيا ووكلاء الدول الراسمالية الذين كانوا في غالبيتهم من التجار الكومبرادوريين المسيحيين.

ولذا، أثار خط همايون 1856 مخاوف فئة التجار المرابين من الطوائف النصرانية، ولاسيما داخل أوساط المثقفين الذين يعبرون عن أيديولوجية هذه الفئة الاجتماعية، ومن المعقول جدا أن الأوهام التي تولدت بعد الخط الهمايوني والتي ترددت من على منابر وندوات الجمعية بصفة أمان وآمال، بل وحتى على شكل مطالب وتوقعات، أثارت أيضا حفيظة الوالي التركي.

وللعلم نقول ان الخط الهمايوني أثار تبدلا ظاهرا في المناخ الفكري لدى رجالات النهضة باتجاه تحريك الأمرجة نحو التضامن مع الواقع العثماني وغيرها من الأمور التي سنفصلها خلال حديثنا عن الجامعة العثمانية. لذا نكتفي الآن بالتلميح الى أن ذلك التبدل الفكري كان سببا رئيسيا في اثارة النعرات والانقسامات، فضلا عن تقويض أركان الجمعية بأسرها. ومن المحتمل أن الانقسام لم يطل فقط أوساط المثقفين الوطنيين، بل انتقلت عدواه الى العلاقة القائمة بينهم وبين المرسلين الأجانب. وقد أكد كمال الصليبي المتضلع في المصادر والمراجع البروتستانتية، ولاسيما الانكليزية منها، أن البروتستنانتيين الوطنيين "تمردوا على المبعوثين المتكبرين والمتغطرسين" في أواخر الخمسينيات" ، وبأن "الخلاف ذر قرنه بين الطرفين فاتسمت علاقاتهم بالتوتر الشديد".

ويكن استقراء عدم التجانس في المواقف من سياق المعلومات التي وصلتنا من الجمعية العلمية الخطابية التي تأسست سنة 1859 بترخيص رسمي من الدولة.

المعلومة الأولى تخص رئاسة الجمعية، وهي تفيدنا أن القنصليين الأمريكي والبريطاني توليا الاشراف على ادارة الجمعية رسميا، بيد أن ذلك اتخذ طابعا تشريفيا وشكليا. وان الرؤساء الفعليين لهذه الجمعية هم ثلاثة من أعلام الفكر والثقافة في المجتمع البيروتي آنذاك، بطرس البستاني البروتستانتي، وميخائيل مدور الماروني الكاثوليكي، وخليل الخوري الأرثوذكسي، وهم من الناس المقربين تبعا الى القنصليات الأمريكية- الإنكليزية، والفرنسية والروسية.

المعلومة الثانية تطلعنا على أن الدكتور فانديك كان الوحيد بين نخبة المرسلين، الذي وطد علاقات وثيقة مع الأعضاء الوطنيين، أي انه كان انسانا علمانيا أكثر ميلا نحو التشرق في أوساط المبعوثين الأوربيين. وهم رغم اتصاله الدائم والمستمر بالوسط التبشيري، أصبح خلال عقد من السنين من أبرز المنورين اللبنانيين الاصليي،. وكمصدر لقولنا نذكر بأنه ألقى في أول اجتماع للجمعية الخطابية، محاضرة عنوانها "التوفيق بين العلم والدين" باللغة الانكليزية رغم تمكنه حينئذ من ناصية اللغة العربية، ومن هنا يصح الافتراض التالي، وهو أن فانديك لم يكن ينوي توجيه كلامه الى سامعيه من العرب الوطنيين الذين دأب المبشرون الأجانب على اقناعهم بضرورة استيعاب المعارف العلمية التي لا تشكل خطرا على معتقداتهم الدينية, متخذين من ذلك قناعا للتستر على مآربهم الخبيثة، بل توجه في الواقع الى أصدقائه من المبشرين الأنكليكانيين والى ملهميهم وأسيادهم الأجانب. كل ما في الأمر أن المرسلين الأجانب في مطلع الخمسينيات وضعوا نصب أعينهم مهمة الدعوة الحارة والصداقة للنشاط العلمي – الثقافي، ولكنهم تحولوا في أواخر الخمسينيات الى مواقع التبشير الديني والروحي البحت. الأمر الذي يقودنا الى الاستنتاج المنطقي التالي، ان المراوحة في اطر تكتيكهم السابق كان يعني الانفصام الى هذا الحد أو ذاك بين استراتيجية المبشرين من جهة، وبين استراتيجية المنورين العرب في بيروت المتطلعة الى التطور والتقدم.

نؤكد في هذا المقام أن المحاضرة التي ألقاها بطرس البستاني في 15 شباط (فبراير) 1859 بعنوان "خطاب في آداب العرب" تمثل النموذج الأمثل للنزعات الجديدة التقدمية السائدة في أوساط المفكرين النهضويين العب. ذلك الخطاب الذي نشرته البعثة الأمريكية في بيروت في كتيب خاص، أثار ضجة كبيرة ولاقى صدى واسعا بين الناس .

لقد تكلم البستاني بايجاز عن الحضارة العربية قبل الإسلام، وركز جل اهتمامه على الحضارة وتطور العلوم والمعارف في العصر العباسي مشيرا الى واقع تكون ثقافة عالمية المستوى. وابان حديثه عن اللغة العربية خلص الى فكرة مفادها أن الحركة الأدبية المعاصرة تفرض مهام عاجلة على صعيد اجراء تغيير ملموس في بنية اللغة العربية وجوهرها. ففي كلامه عن ثراء اللغة العربية بالمترادفات والمتجانسات قال البستاني: "ان اللغة التي تعبر عن مفهوم واحد بكلمات عديدة، ولا تملك القدرة على التعبير بكلمة واحدة ووحيدة عن مفاهيم عديدة، لا يجب من حيث الجوهر اعتبارها لغة غنية، بل فقيرة". وتطرق في خطبته الى قضايا لغوية هامة، وخطيرة، كتطوير علم الصرف والنحو، وتقريب اللهجة العامية من اللغة الفصحى، فقال: "اذا لم تقترب الفصحى من اللغة الدارجة، فان هذا سيؤدي الى نتائج لا تحمد عقباها، اذ تصبح هذه اللغة ميتة بالنسبة للانسان العربي المعاصر، كما حدث للغة اللاتينية عند الشعوب الرومانية، ولغة الغرابار (الأرمني القديم) عند الأرمن المعاصرين، أو لليونانية القديمة لدى أهل اليونان المعاصر". ثم يستطرد قوله: "وهذه لعمري خسارة فادحة لكل العرب. لقد ولت أمجاد العرب في العصور الوسطى يوم كانت حضارتهم أرقى بكثير من الأوربية، ولكن العرب متأخرون اليوم جدا في ميادين العلوم والآداب والتقنية، حقا ان المدارس التبشيرية تنشر العلم والنورن ولكن الجهل لا يزال مخيما في بلادنا". وهنا ارتأى المحاضر اثارة الحمية والحماسة في نفوس سامعيه من العرب فقال: "لا تيأس أيها الأخ العربي المعاصر ولا تضمر الحقد لمن ينطق بالحقيقة بل أود ايقاظك من سباتك العميق، واستنهاضك للاستفادة من العلوم المتطورة، لعلمي علم اليقين أنك أهل للقيام بهذه المهمة، وأعلم أن المستقبل المشرق الوضاء في انتظارك. فالمطابع والمدارس والمكتبات خير ضمانة لوصول أبناء الوطن الى بر الأمان. ليس بعيدا ذلك اليوم الذي تتحول فيه الأماكن المقدسة والأديرى الى مدارس، كيف لا والجميع يشعرون من يوم لآخر بالقوة العظيمة الكامنة في العلم، ويدركون حق الادراك ان المعرفة جوهر الحياة". وفي ختام كلمته أشاد البستاني بفضائل السلطان عبد المجيد وشمائله والذي أصدر "الخط الهمياوني" و"بأفكاره الانسانية التنويرية" و"بالحريات التي أغدقها على أهل الذمة غير المسلمين، فقال: "فنمو التجارة بين العرب واتساع علاقاتهم .. " بالشعوب المتمدنة وازدياد عدد المطابع والمدارس، والتنظيم الجيد للمصالح الحكومية، والتقدم بين الموظفين في مجال المعارف المختلفة، وظهور الحركة الأدبية الجديدة، والقاء المحاضرات والأبحاث حول المواضيع الأدبية والدينية والسياسية والاجتماعية، والاتجاه نحو تعليم المرأة.. كل هذا يقوي أملنا، في أنه في هذا البلد، حيث يضئ في منتصف القرن التاسع عشر هلال المعارف، سوف ينزغ البدر الكامل".

هذا التوجه العروبي الجديد تجسدت ردود فعله السريعة في ظهور الجمعيات والأندية الأدبية. ولعل أشهرها "العمدة الأدبية لاشهار الكتب العربية" أي لاحياء التراث العربي القديم، ضمت هذه الجمعية ذات الاهداف التنويرية 14 عضوا مؤسسا، أغلبهم من المثقفين النصارى وأقلية من العرب المسلمين. وهذه أسماء مشاهيرهم: ناصيف اليازجي، بطرس البستاني، إسكندر أبكاريوس، خليل الخوري، ميخائيل مدور، نقولا نقاش، حسين بيهم، ابراهيم الأحدب، وغيرهم. فالنشاط الذي ابتداه أباكريوس قبل عقد من السنين باتجاه بعث التراث العربي من رقاده الطويل افسح المجال واسعا أمام قيام هذه الجمعية واضطلاعها بفعاليات وأنشطة حثيثة لتعريف الأوساط العربية بالآثار الجليلة من تاريخ العرب وآدابهم في القرون الوسطى . وليست مصادفة محضة أن الجمعية سعت لنشر المؤلفات والتصانيف التي وضعت في الوسط السوري العربي. فديوان الشاعر أبي الطيب المتنبي الذي تغنى بأمجاد العرب وفضائلهم كان باكورة مطبوعات الجمعية، فقد ضبطه وعلق حواشيه وناظر طبعه المعلم بطرس البستاني.

مختصر القلو: تكونت أيديولوجية النهضة الثقافية العربية التي أخذت تتميز بووضح الرؤية، وتتسم بصبغة سياسية واضحة المعالم. هذا التوجه السياسي القومي يعبر عن جنينية الفكر القومي السوري، الذي كان قابلا للتعايش والترعرع في أوساط المنورين العرب – السوريين (نقصد اللبنانيين تحديدا) الموجودين في بيروت ، مركز العلم والنور.

لقد شغل بال المستعربين سؤال طرح نفسه باستمرار: ما هو سبب ظهور النهضة وحركة التنوير العربي وفكرة القومية العربية في وسط الرواد السوريين المسيحيين (أغلبية لبنانية) وليس في أوساط النهضة السوريين المسلمين أو في الأقطار العربية الشرق أوسطية الأخرى؟

ان محاولة البحث عن الاجابة في حدود سورية الطبيعية – التاريخية تفرض علينا التذكير بالوضع الاجتماعي – الاقتصادي والاداري – السياسي الذي امتاز به لبنان عصرئذ، فضلا عن الأحوال الثقافية الخاصة التي تمتع بها قياسا الى الأوضاع السورية ككل.


الأوضاع الثقافية في سورية

كانت دمشق المركز الرئيسي في بلاد الشام من جميع النواحي. بلغ عدد سكانها 120 ألف نسمة خلال الأربعينيات من القرن التاسع عشر. وكان مئة ألف من سكانها المسلمين يعيشون في تخلف اجتماعي ثقافي كامل، لا بل قل في ظلمات القرون الوسطى. ورغم ذلك كان للمدينة شهرتها الواسعة. كانت المقاهي "مراكز" الثقافة العامة الوحيدة لهؤلاء السكان الذين حاربوا قبل عقد من الزمن الاصلاحات المصرية. والغريب والعجيب أن مفكرا من طراز ميخائيل مشاقة كان يعرف المستشرقين الأوربيين على مسقط رأسه دمشق بقوله: "ان الكثير من الكتاتيب التابعة للمساجد توقفت عن العمل في منتصف القرن. وفي الستينيات كان أبناء الطبقة الأرستقراطية وكبار الموظفين المسلمين يتلقون مبادئ القراءة والكتابة في بيوتهم على أيدي بعض الفقهاء المشهورين، ثم يواصلون تعليمهم الابتدائي والثانوي في المدارس التبشيرية المسيحية الوطنية (اليسوعية غالبا)، أو يذهبون الى بيروت للدخول في مدارسها.

وكغيرها من المدن الاسلامية الزاهرة كان في مدشق طبقة من رجال الدين المعروفين عادة بالعلماء. وقد أكد المستشرق فون كرامر الذي عاش في دمشق آنذاك، أنه كان هناك الكثير من الفقهاء ورجال الرشع المشهورين، ولكنه رأى من واجبه التذكير بأن الشيخ محمد حمزة الحسيني (المتوفى سنة 1887) كان العالم الوحيد المتبحر في اللغة العربية والشعر.

هذا الشيخ الوقور الفاضل الذي درس سنوات طويلة التفسير والعلوم الشرعية لعلماء إسطنبول والأناضول، أنقذ حياة المئات من النصارى العرب والأرمن خلال المذابح المروعة التي وقعت في مدشق سنة 1860. كان من أعلام دمشق العظام ونسيجا وحيدا في عصره. وقد لخص القنصل الروسي بازيلي الأوضاع القائمة سنة 1847 بقوله: "كان العلماء يصرفون جل وقتهم في قراءة القرآن وتفسيره. ولم يكن التراث الأدبي متوفرا لأغلبية السكان الذين لم يكونوا يفقهون شيئا في أمور العلم والأدب". ومن المضحك المبكي أن حاكم الشام نجيب باشا التركي كان قد عين بعد سقوط الحكم المصري، وقاد الحمام أبا عودة التونسي كبير الأطباء في دمشق. فهل نستغرب في مثل هذه الظروف أن يهجر بعض الأدباء الأفاضل (أمثال سليمان الصولة الدمشق (1814-1899) ومحيي الدين اليافي الدمشقي (المتوفى سنة 1886) وطنهم ليمارسوا أعمالهم في بيروت أو القاهرة؟

لو صرفنا النظر عن الخبر الغامض بشأن وجود مطبعة في دمشق لصاحبها حنا الدوماني (1855-1856) واصدار كتاب المزامير فيها فان دمشق التي ظلت محرومة من المطابع حتى اطلالة الستينيات، شهدت انتعاشا نسبيا في المديان الفكري بفضل المدارس التي أشعات التعليم، وكان يأخذ بناصرها كل من الكنيسة الروسية والآباء اللعازاريين الفرنسيين. ومن المعروف أن ميخائيل مشاقة كان الطبيب الوحيد الشهير في الوسط الدمشقي المسيحي، وعضوا مراسلا في الجمعية العلمية لاسورية، ولكنه لم يكن يتقن آية لغة أجنبية. وأنه طالع في كتب الطب الصادرة عن مطبعة بولاق في القاهرة وأتقن هذه الصنعة بذكائه الفطري.

ناهيك بأن الأوضاع كانت أكثر سوءا في مدن حلب وحمص وطرابلس والمناطق الفلسطينية، حيث ساد الفكر التجهيلي القروسطي. فمدينة حمص مثلا لم يظهر فيها خلال عقود طويلة من السنين غير اسم واحد من الوسط الاسلامي، ونعني به الشيخ أمين خالد الجندي، الذي نظم القصائد المفيدة والقدود الفريدة والأغاني الموقعة على آلات الطرب، والذي يزج به في غياهب السجن سنة 1830 لهجائه أحد عمال السلطان في حمص، ثم حكم عليه بالاعدام بتهمة اشتراكه مع القوات المصرية في الحرب ضد الحكم التركي. والحقيقة أنه كان ينظم وينشد الأغاني التي سخرت سخرية لاذعة من الأتراك .

وكانت مدينة حلب بثلثي سكانها المسلمين تعيش في ظلام الجهل الدامس، وهي تتلمس معالم الطريق للخروج الى العصر الحديث. فالانتفاضة الشعبية ضد الأتراك التي اشتغل أوارها سنة 1850 تحولت بجهود الانكشاري عبد الله النابلسي الى مذبحة للنصارى. وامتزجت المطالب الاجتماعية الاقتصادية مع الاهداف السياسية المعادية للأتراك والداعية الى الاستقلال السوري، ولكن مجرى الأحداث اتخذ وجهة مغايرة تماما، وتحولت الحركة التقدمية التحررية الى حركة رجعية كان هاجسها الأساسي اسكات اجراس الكنائس، ومنع المسلمين من الخدمة في بيوت الكفار من النصارى، وغيرها من المآرب الدنيئة التي تصاغرت اليها النفوس. اضف الى كل ذلك أن النصارى في وضع يرثى له منذ أمد بعيد.



الفكر النهضوي في لبنان

الملاحظة الأخيرة التي أوردها معاصر الأحدث باتون تقودنال للتأكيد بأن الرقعة الجغرافية لاتي يقوم عليها لبنان المعاصر ، ولاسيما مدينة بيروت والوسط المسيحي بالذات كان المهد الِأساسي لحركة النهضة الفكرية الثقافية. ومن نافل القول ان المقدمات التي ذكرناها في سياق البحث، وفي طليعتها رجوح كفة الوزن النوعي والكمي للعنصر المسيحي في الأوساط التجارية – الربوية، فضلا عن روابط الاتصال المباشر بين الطوائف المسيحية اللبنانية والدول الأوربية عبر القرون. تلك المقدمات التي عدها المستعربون السوفيين من عوامل النهضة الحاسمة التي لم تفقد تاثيرها وقوتها، يجب اضافة عامل هام آخر اليها غاب عن أنظار الدارسين والباحثين ونقصد به نظام الملل العثماني، الذي نظم شؤون الطوائف الدينية غير الاسلامية في اطار توازن سياسي تمارس من خلاله الطائفة الدينية التي اعتبرت "ملة" حق مواطنية أفرادها في اطار الدولة، أي اعطائها نوعا من الحريات والاستقلالية، ولاسيما في الشؤون التعليمية والثقافية. ففي مدارس هذه الطوائف – وخلافا لما كان عليه الوضع في المدارس (الكتاتيب) الاسلامية – لم يكن لاموظفون العثمانيون يجدون أن يمنفذ لتغلغل تاثيرهم السياسي والثقافي واللغوي التركي، في حين كان الأوروبي يجد كل التسهيلات، والامتيازات وأكثر من ذلك.

ففي ظروف توسيع شبكة المدارس الحكومية عقب صدور التنظيمات ورجحان كفة اللغة العثمانية في حقل التعليم. وكردة فعل مباشرة لانتشار المدارس التبشيرية الانجيلية التي كانت كلها تدرس باللغة العربية، دأب المبشرون الكاثوليك الأجانب والطوائف الكاثوليكية المحلية، وفي مقدمتها الطائفة المارونية، على منافسة البروتستانت في مجال التدريس بالعربية، وأصبحت المدرسة المسيحية في بيروت وفي الجبل – مهما بدا ذلك غريبا – الملاذ الأساسي للحفاظ على اللغة العربية والمركز الرئيسي لتطورها والبلوغ بها الى مراقي الكمال.

وقضية الحفاظ على نقاوة اللغة وتطويرها فرض، ولا شك، حتمية السيرورة في اطار نشاط فكري –ثقافي معين. وعلى هذا الصعيد أدلى المبشرون البروتستانت بدلائهم فكانت لهم خدمات جليلة قد تبدو ليست بذات قيمة للوهلة الأولى. ما نعنيه هنا هو انعاش هذا النشاط الذي سرت عدواه الى الأوساط الكاثوليكية والأرثوذكسية التي ارست – مؤخرا – أسس علاقت وطيدة مع مراكز الاستشراق الفرنسي والايطالي والروسي. وبما ان الاستعراب والاستشراق الاوربيين كانا قد توصلا الى نجاحات عظيمة بالمقارنة مع العلوم الاسلامية التقليدية في ميدان التاريخ والآداب التي لم تتوصل الى نتائج ملموسة في بداية الأمر، ثم تغاضت في المستقبل عن الخوض في أغوار القضايا المحورية الهامة (أمثال: الدور البارز الذي لعبه النصارى في التاريخ والحضارة قبل الاسلام والشعر العربي الكلاسيكي في العصر الجاهلي . القسط العظيم الذي أداه النصارى في ميدان الانجازات العلمية والثقافية والسياسية في عصور الخلافة الأولى). ولذا تحول لبنان الى جسر يربط بين المشرق العربي والغرب الاوربي الحضاري عبرته قوافل وقوافل من الشباب المسيحي المتطلع الى العلم والمعرفة، والذي عاش في ظل أجواء الانقلاب الروحي الكامل، الانقلاب الفكري الذي اعطى بواكير قطوفه اليانعة من أبناء الرعيل الأول، أمثال الاعلام والرواد العظام ناصيف اليازجي والمعلم بطرس البستاني وساكندر أبكاريوس وغيرهم. وهذا الانقلاب في عالم الفكر أوجد المقدمات الأساسية لظهور نوع جديد من الوعي بأن اللغة العربية ليست لغة القرآن وحسب، وان التاريخ العربي ليس تاريخ الاسلام والخلافة وحسب، وأخيرا، ان الحضارة العربية العريقة ليست نتاج علماء الدين والفقه الاسلامي في بغداد ودمشق والقاهرة وحسب. أجل، وهذا الانقلاب في الآراء والأفكار ازاء الماضي، ولد رواية جديدة نحو الحاضر والمستقبل، وخلق ارادة التصميم على اداء الرسالة التاريخية التي أفرزتها متطلبات واحتياجات الحركة النهضوية التنويرية.

من الجلي ان رسالة اعلام النهضة في عمق مضمونها وقابلية اشكالها على الصيرورة والديمومة، كانت مرهونة بالافكار والاتجاهات السائدة في الوسط البرجوازي ومشروطة موضوعيا بالتطور الاقتصادي – الاجتماعي والسياسي.

ففي مجال التطور الاقتصادية الاجتماعي كانت سورية قد ولجت مرحلة "مقدمة تاريخ الرأسمال"، فقد خطا أعلام النهضة اللبنانيون، وهو في الأساس من أبناء وممثلي الطبقة البرجوازية التجارية – الربوية – خطواتهم الأولى في مرحلة التحول من علاقات الانتاج الاقطاعي الى علاقات الانتاج الرأسمالي، ولذا بذلوا قصارى جهودهم لخلق ظروف مؤاتية لترسيخ مواقع البرجوازية الضعيفة ان لم يكن باتجاه تبوؤ مراكز مهيمنة مسيطرة، فعلى الأقل اشراكها في عملية اقتسام تلك المواقع بصورة متكافئة.

ينبغي التذكير ان عوامل جديدة مثيرة للأمل في الوصول سريعا الى الأهداف المذكورة، كانت أعظم توافرا على الأرض اللبنانية وهي:

1- الضربات الموجعة التي كالها الأنمير بشير الثاني الكبير الى عظمة العائلات الاقطاعية – الارستقراطية، وخاصة الى النظام المقاطعجي التقليدي. وأعقبت هذه الضربات المهينة الموجهة من عل، تحركات فلاحية قاعدية في أواسط الأربعينيات، رغم أن مسارها تحول ليصب في مجرى الصدامات الطائفية الدامية، التي مهدت أيضا تربة صالحة لنمو الرأسمالية. ومن المثير حقا أن العناصر التجارية الربوية المتمثلة في سكان دير القمر المدينيين هي التي استلمت زمام المبادرة خلال احداث سنة 1845 وشكلت "جمعية التمرد الشعبي" التي أسماها المؤرخ المعاصر للأحداث تشرشل ب"المجلس البلدي".

2- صدور نظام شكيب أفندي، موفد الباب العالي الى بلاد الشام، في تشرين الأول (اكتوبر) 1845، الذي أفسح المجال واسعات أمام تطلعات واهداف الطبقة البورجوازية الولدية. هذا النظام الذي اعتبر الدستور المبكر في عموم تاريخ لبنان، لم يضع الحكومة الشاهانية أمام الأمر الواقع فقط، بل كان أول وثيقة رسمية اضطرت الباب العالي الى الاعتراف بالطابع الخاص والمميز لجبل لبنان ، ومثلت في الوقت ذاته خروج جبل لبنان بصورة فجائية من اطار نظام الادارة الاقطاعي – القروسطي، لأن الغاء أو حتى تقييد النظام المقاطعجي اداريا وقضائيا وماليا في وثيقة رسمية، أدى ايضا الى زعزعة أسس العلاقات الاقطاعية التي كانت سائدة على الأرض اللبنانية.

3- قبل صدور قانون الأراضي العثماني في 21 نيسان (أبريل) 1858ـ كانت الأرض بضاعة قابلة للبيع والشراء، وهذه حقيقة نابعة من الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية التي اتسم بها لبنان عصرئذ. فاعتنم البروجوازيون الجدد هذه الفرصة السانحة لشراء الأرضي ، أي تحويل أموالهم الى أملاك غير منقولة . وهذا يعني أيضا أن الطبقة الاقطاعية – الارستقراطية اخذت تفقد تدريجيا حقوق الملكية المشروطة. ومع كر الأعوام اضاعت مركزها بوصفها المالك الوحيد للأرض التي شكلت في الماضي المصدر الأساسي لثروتها وسيطرتها.

بيد أن رواد المعسكر البرجوازي الذين أوكل لهم التاريخ القيام بمهمة الهجوم على نمط الانتاج القديم، وجميع القوى الطليعية والتقدمية في المجتمع، كانوا عاجزين عن آداء هذه المهام التاريخية. السبب بسيط للغاية وهو أن جبل لبنان الذي خضع مجددا للحكم التركي المباشر سنة 1842 تعرض لمؤامرة دنيئة في مطلع 1843 حين قسم جبل لبنان الى قائمقاميتين: مارونية (نصرانية مستقبلا) ودرزية. ولم يكن هذا التقسيم يعني تعميق هوة الخلاف بين الطوائف اللبنانية وحسب، بل واعطاء الضوء الاخضر للدسائس والمكائد العثمانية والدبلوماسية الغربية. وقد عنى فيما يعنيه أن لبنان الذي انفتحت أمامه آفاق واسعة للانتقال الى مرحلة تطوير وتعميق العلاقات الرأسمالية، وتوفرت له ظروف مناسبة لتشكل السوق اللبنانية الموحدة وتسيع علاقاتها الاقتصادية – التجارية مع الأسواق الخارجية العربية والأوربية، واتخذ فيه الصراع ضد النمط الاقتصادي القديم بجميع مظاهره وتجلياته وجهة أكثر مرونة وأقل ضراوة، في ذلك الوقت بالذات كان لبنان بقسميه الهزيلين (واذا أخذنا بالحسبان الأوضاع السائدة في البقاع والساحل يكون لبنان في الواقع مؤلفا من أربعة أقسام) قد عاش فترة تراجع وتقهقر ليسقط في أتون الاستفزازات والمؤامرات الاقطاعية، فضلا عما تقدم، فان نظام القائمقاميتين قد أقر لأول مرة بصورة رسمية نظام الطائفية أو الصبغة الطائفية باعطاء كل طائفة في كل من مجلسي القامئقاميتين ممثلين عنها. وان نسينا فلن ننسى أبدا أن مدينتي دير القمر التي كانت سائرة في طريقها لتصبح عاصمة جبل لبنان اداريا وسياسيا، وام مدينة زحلة مركز وادي البقاع، كانتا قاب قوسين من عملية التبرجز الكاملة حين تحولتا سنة 1841 الى كومة من الرماد.

كانت الأوساط البيروتية الحالمة بتكويت لبنان الحيوي قد استقطبت تفكيرها حول التحولات الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية المجتمعية الجارية في جبل لبنان، ولاسيما ان بيروت تحولت لأول مرة في التاريخ الى مقر للمشير التركي حاكم الولاية الجديدة التي تشكلت بموجب الاصلاح الداري الذي أعقبت التنظيمات.

وهذا يعني أن بيروت، التي حرمت من شريكتيها دير القمر وزحلة على الصعيدية الاقتصادي والتجاري، أصبح قدرها ومصيرها خاضعين لنزوات الباشا التركي وعساكره. فعادت القهقري الى الحياة اليومية ذات الطابع العثماني، التي شكلت خطرا ملموسا على طبقة البرجوازية الوليدة التي باتت أيضا تخشى احتمال تصفية مواقعها في شتى مجالات الحياة وتعرضها لنوية خانقة قاتلة. وبمعنى آخر: طرأ هذا الامر الفاجع في خضم التطور الاقتصادي الملموس المتمثل في عملية التراكم الأولي للرأسمال اللبناني على يد عناصر برجوازية غالبيتها من التجار الوسطاء النصرانيين، الذين راودت مخيلتهم أحلام توطيد مواقعهم وتقوية نفوذهم على أرض لبنان أولا، وعلى بلاد الشام وكامل المشرق العربي ثانيا. فانقلبت أحلامهم الوردية كوابيس مريعة أودت بالاصلاحات الاقتصادية وآفاق التطور والتقدم الى طريق مسدود. وأكثر منذ ذلك فالبرجوازية اللبنانية في المقام الأول ومن ثم الدمشقية المسيحية، لا بل وحتى البرجوازية المسلمة التي انضمت اليها في أوقات متباينة، سمت – انطلاقا من مصالحها الخاصة – بصورة موازية لتوسيع صفقاتها التجارية – الصناعية وتسريع وتيرة عملية الانتاج الرأسمالي من جانب، والى وأد بقايا العلاقات الاقطاعية الاقتصادية – الاجتماعية وتصفية المؤسسات السياسية – المجتمعية، ولكنها وجدت نفسها فجأة على حافة القبر.

في تلك الظروف لم تكن مهمة الكفاح ضد بقايا العلاقات الاقطاعية الاجتماعية – الاقتصادية خارجة على جدول الأعمال. بل أنها تشابكت وامتزجت بالقضايا السياسية – الادارية الأكثر الحاحا وآنية.


الاتجاهات الأساسية للفكر السياسي العربي

ترى ما هي طبيعة الاتجاهات والمهمات السياسية المطروحة على الساحة العربية، واللبنانية خاصة؟ وما هو مدى ارتباطها واتساقها مع حركة النهضة؟

عالجنا في الفصل السابق باسهاب – الحركة التنويرية – العسكرية النزعة التي اضطلع بها محمد علي باشا في سياق التغييرات الاجتماعاية الثقافية في مصر. ونرغب هنا في التأكيد مجددا انه اذا كانت هذه الحركة التنويرية تتطابق مع الأهداف والتطلعات والمآرب للطبقة الاقطاعية والبرجوازية الاسلامية – العربية عامة، والسورية خاصة، فان الأمر مغاير تماما بالنسبة للطبقة الاقطاعية اللبنانية درزية أم مسيحية (الدينية والزمنية معا فيما يخص الأخيرة)، التي لم يكن بامكانها ان تضع لها هدفا نهائيا يتجسد في فكرة بعث أو احياء دولة اسلامية قوية بسبب من الانتماءات الدينية المذهبية والطائفية المتباينة، والميزات والسمات الخاصة التاريخية والسياسية والاقتصادية التي تمتع بها لبنان، فضلا عن الهزات المآساوية المتعاقبة التي عاشتها البلاد من نهاية القرن الثامن عشر ألى منتصف القرن التاسع عشر . أضف الى ذلك ان الطبقة البرجوازية البيروتية بطابعها المسيحي الغالب والمميز، كانت تستغل هذه الخصائص الفريدة الى أبعد الحدود، ولذا لم تكن مهتمة اطلاقا بالركض وراء كل دعوة أو مشروع يطرحه السلطان التركي أو نائب الملك محمد علي باتجاه انشاء دولة اسلامية مترامية الأطراف، وبالتالي السير وراء كل حركة تنويرية رامية لتحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي.

وفيما يخص الأفق السياسي والاداري، وبالتالي المهام الفكرية والتدابير الثقافية التي وضعها محمد علي نصب عينيه ابان الحكم المصري على سورية (لبنان) فان البرجوازية اللبنانية المسيحية (والبيروتية خاصة) اتخذت موقفا عدائيا منها. وانطلاقا من هذا الموقف اتخذ منظرو البرجوازية موقفا مشابها تماما ازاء مسألة تقييم اعادة الحكم التركي المباشر الى البلاد، وبالتالي نحو كل الفعاليات الفكرية، الثقافية التي صبت في قنوات تعزيز أركانه.

ومن نافل القول ان الدافع الاساسي لاتخاذ ذلك الموقف السلبي لم يكن نابعا فقط من طبيعة النظام الاقطاعي الفاسد والجائر الذي أصاب جميع العرب بدرجات متفاوتة، وليس من الاستبداد المذهبي اليومي الناجم عن ممارسة سياسة اللامساواة والتفرقة القومية، وهي لعمري ظاهرة مألوفة بكل سلبياتها وعيوبها التي عاناها المسيحيون السوريون قاطبة بغض النظر عن انتماءاتهم الفئوية – الطبقية في المجتمع. الحافز الرئيسي في اعتقادنا يرجع الى ارساء أسس النظام الطائفي أو الصيغة الطائفية في صلب البنية الاجتماعية الاقتصادية التي تزامنت مع اعادة الحكم التركي المقيت. هذه الصيغة الطائفية هي التي جلبت الكوارث للبنان عبر التاريخ مع استمرار النظام القديم الذي عفا عليه الزمان.


من الجلي أن تنظيم السكان في لبنان لا على أسس اقليمية أو لغوية أو غيرها، وانما على أساس ديني مذهبي بحت، أدى بالضرورة الى وضع الطائفة السنية في موقع الصدارة من ذلك الكيان. فهو مبدأ توارثه العثمانيون الأتراك مع لقب الخلافة من وحي الدين الاسلامي. حقا ان هذا المبدأ تعرض لبعض العديل تمثل في تسلم الأتراك السنة بدلا من العرب السنة المواقع القيادية العليا في الحياة الاجتماعية السياسية (اضافة الى السيطرة شبه الكاملة في ميدان علاقات الانتاج الاقطاعي)، هذا التحول الذي تأقلم عليه السكان المحليون تدريجيا.

ومع ترسخ حكم محمد علي وتجذره واصل المبدأ المشار اليه فعاليته في الحياة اليومية لسكان مصر، ولكنه فقد قوته القانونية في الحياة الادارية – السياسية والاجتماعية – الاقتصادية في القاهرة عينها، لدرجة أكد فيها الجبرتي أن صفوة نائب الملك مؤلفة أساسا من النصارى أعداء الدين، غالبيتهم من الأرمن والأقوام الأخرى.

لقد تعرض هذا المبدأ لامتحان أشد وطأة في سورية ابان الحكم المصري، اذ أصبح في خبر كان خلال وقت يسير. ومن الحوافز التي أدت الى تلاشي هذا المبدأ أن الغالبية العظمى من السكان في سورية كانوا من أهل السنة ، الذين عدوا محمد علي واحدا من المتمردين على ادارة السلطان – الخليفة، فشكلوا جبهة مقاومة للمصريين تزعمها الاقطاعيون الرجعيون المحافظون.

بينما انضمت الطوائف النصرانية بزعامة القوى البرجوازية الطليعية الى معسكر مؤيدي وأنصار اصلاحات محمد علي التي باشرها بأسرع ما يمكن. في مثل هذه الظروف بطل مفعول مبدأ فرز السكان في سورية على أساس ديني – مذهبي من قبل السلطة الحاكمة، فنظر اليهم على أنهم مجموعة من الرعايا المتساوي الحقوق، الأمر الذي لعب دورا كبيرا في تعزيز مواقع الأوساط البرجوازية المسيحية على الصعيد الاقتصادي – الاجتماعي، وأدى بالتالي الى انعاش دور النصارى في الحياة السياسية – الادارية لهذا الاقليم.

ولكن، ما ان عاد الحكم التركي المباشر على سورية حتى تحول المبدأ الطائفي القديم الى قانون مقدس، أثار قلق اللبنانين عامة، والبرجوازية البيروتية المسيحية خاصة، كل ما في الأمر أن الكفاح المشترك ضد الأتراك في العقد الأول من القرن التاسع عشر، والمساعي الحثيثة التي بذلها كبار الأعيان والاقطاعيون الوطنيون من النصارى والمسلمين في سبيل توقيف فيسفساء متناسقة من شتى الطوائف اللبنانية، كانت قد تكللت بالظفر، وفي الأربعينيات عقدت الأوساط البرجوازية الآمال العظام على ترسيخ التآلف وتعميق التضامن والارتقاء بهما الى مستوى أرقى وأكمل من الرؤية القومية – الوطنية. لكن المذابح الطائفية التي لم يشهد لبنان نظيرا لها من قبل وسميت الفيسفساء الجديد بميسمها الديني المذهبي التفاخري . ان الطائفية اللبنانية التي أذكى نيرانها كل من السلطات التركية والدبلوماسية الغربية والارستقراطية المحلية الدينية والدنيوية، نالت زهما قويا من جراء تطبيق المبدأ الطائفي الاسلامي التركي، الذي أصطنع حواجز بين الطوائف اللبنانية تهدد باستحالة القفز من فوقها، الأمر الذي لا يتلاءم بالطبع مع حسابات البرجوازية اللبنانية.

وليس هذا فقط، ان اعادة الاعتبار للمبدأ الديني – المذهبي الاسلامي – العثماني الى صلب الهيكلية الاجتماعية، قد أعاد النصارى الى موقعهم المهيمن الذي وضعوا فيه خلال القرون السالفة، أي أصبحوا على هامشية الحياة الاجتماعية والسياسية. ولكونه تجليا مألوفا من الاضطهاد القومي – الديني عبر آلاف السنين، فان النصارى في سورية عامة ويضمنهم ممثلو الاقطاع الديني والزمني، لم يظهروا قلقا كبيرا . بيد أن ذلك آثار حفيظة البرجوازية المسيحية التي كانت في طريق صيرورتها طبقة اجتماعية مستقلة، الطبقة التي كان قبولها بالأمر الواقع يعني الزج بها في عقر دارها على هامشية الحياة الاجتماعية وتحجيم دورها الفعال وتقزيم قدراتها وطاقاتها وعرقلتها عن الاضطلاع بواجبها التاريخي في الحياة الاجتماعية – الاقتصادية لشعبها، ويحد من تطلعاتها وطموحاتها في المجالين السياسي الدولتي.

وهنا بالذات يكمن الجواب عن التساؤل التالي الذي قد يبدو غريبا للوهلة الأولى: لماذا كانت البرجوازية المسيحية البيروتية والشامية (وكذلك الجبلية) في طليعة الفئات السكانية الأخرى النصرانية والاسلامية، التي تمسكت بأهداب النزعة العثمانية في وقت لم يتم بعد الاعلان رسميا عن ولادة هذا المذهب السياسي الرامي الى القيام بدور البلسم الشافي لانقاذ الامبراطورية العثمانية من الدمار المحتم، ولم تكن قد نالت بعد شكلا متكاملا حتى في البيئة التركية ذاته؟!. والأشد غرابة في هذا السؤال أن المفكرين البرجوازيين المسيحيين تعلقوا بالعثمانية تعلقا أشد وأعظم من رجال الاقطاع والموظفين الأتراك ذويي النزعة الاصلاحية ومن المفكرين العرب المسلمين الذين كانوا يقتاتون من مخلفات الزاد الفكري الروحي التركي الغث. علاوة على انهم اضطلعوا باعباء الدعوة الرامية لاقناع غير الأتراك والمسلمين عامة والرعايا من أهل الذمة بالتراجع عن المطالبة بحقوقهم القومية ، والعزوف عن التيارات الانفصالية الموالية لأوربة، فضلا عن اسهامهم الفعال في استكمال عناصر ومكونات الأيديولوجية الجديدة التي عرفت تاريخيا بأسماء مختلفة أهمها النزعة العثمانية ، العثمانلي، الوحدة العثمانية، الاتحاد العثماني.


النزعة العثمانية

والأمر الغريب يكمن في الحقيقة التالية: ان البرجوازية المسيحية التي اصطدمت بانسداد الآفاق أمامها ووقفت أمام خيار أن تكون أو لا تكون، خيل اليها أن العثمانية هي خشبة الخلاص الوحيدة. فالبرجوازيون المسيحيون الذين نثروا بذور الرأسمالية في سورية خلال أواسط القرن التاسع عشر، لم يجدوا خيارا آخر عن التمسك بمبدأ الوحدة السياسية – الادارية الذي يسمح بجميع الرعايا العثمانيين بصرف النظر عن انتمائهم القومي والديني . وبالتالي لجميع السوريين – نصارى ومسلمين – التمتع بالحقوق المتساوية مع الأتراك في الميادين الاقتصادية والاجتماعية. فضلا عن العيش في ظروف اتساق النمو والتطور. ان الناطقين بلسان البرجوازية السوية، ولاسيما الجناح البرجوازي البيروتي الذي يمثله رجال النهضة هم الذين أيدوا – لاسباب مفهومة في تلك الطروف – تلك الدعوة الى الحركة النهضوية والتنيورية لجميع رعايا السلطان دون أي تمييز أو تفرقة، أي الى ضرورة التبشير بالتقدم العثماني.

كانت النزعة العثمانية بالنسبة لفريق كبير من رواد النهضة أشبه ببارقة أمل للخروج من الطريق المسدود، وقناعة تتغذى من ذلك الأملز والنابعة أساسا من واقع عدم نضوج الوعي الطبقي (و"القومية" اذن). ومن الحقائق الدالة على عدم النضوج، الاقتناع الراسخ لدى غالبية هذا الفريق الواقع تحت تأثير أفكار العثمانية باعتبارها السلاح الماضي في مواجهة أطماع الدول الأوربية الاستعمارية المتصارعة بضراوة لاقتسام ممتلكات السلطان أو المتنافسة أشد التنافس على اكتساب المزيد والمزيد من الامتيازات. ومن المعروف أن العثمانية التي كانت العواصم الغربية تتمسك بأهدابها للوصول الى فراش الرجل المريض كانت تتبلور رويدا رويدا من مواقع التظاهر بالحفاظ على الأمر الواقع في السلطنة العثمنية. وقد ترك هذا أثرا كبيرا على البرجوازية المرتبطة بالرأسمالية الأوربية بالف خيط وخيط. ولاسيما على فئة تجار الكومبرادور المسيحية من العرب أو المشارقة الناطقين بالضاد أو المتعربين عامة، بخلاف الكومبرادور الاسلامي في لبنان والأقطار العربية الأخرى.

ومن هنا، نرى لزاما علينا معالجة مسألة تأثير الدول الأوربية على البرجوازية السورية ، وبالتالي على دعاة الفكر البرجوازي وموقف هؤلاء من الدول الاستعمارية، ما دام الكلام هنا يدور حول النزعة العثمانية التي تفرغ الفكر الوطني – القومي من محتواه التقدمي وهو ما يشكل العنصر الهام والأساسي في تكوين فكر رواد النهضة وأيديولوجيتهم.

ساد في الأدب الاستشراقي رأي يزعم أن البرجوازية العربية ودعاتها ومفكريها وقفوا منذ اليوم الأول أمام خيار وحيد لا بديل عنه وهو: أي الشرين اللذين يعرقلان تطور البلاد العربية أصغر : الحكم التركي أم التوسع الأوربي الاستعماري؟ وأيهما نختار ونتكيف معه؟. المستشرق كوتلوف مثلا يسوق المبررات الموضوعية والمسوغات الذاتية لتوجه رواد النهضة نحو الدول الأوربية في المرحلة الأولى. غير أنه بعد فترة من المخاض القاسي ، وقع اختيارهم في أواخر الستينيات على الأرجح على الجامعة العثمانية. حقا ان كوتلوف لم يحدد تاريخا معينا، لكنه خلال حديثه عن تأرجح رجالات النهضة أمثال ميخائيل مدور وفرنسيس مراش ولويس صابونجي وغيرهم بين منعطفات التوجه الأوربي والميل السياسي نحو فرنسة وأنكلترة وبين العودة الى حظيرة العثمانية، نراه دقيقا جدا في التأريخ لذلك.

وللعلم نقول ان التاريخ الذي اقترحه كوتلوف لرجحان كفة العثمانية لدى رواد النهضة، مرفوض من أساسه، اذ يجب الرجوع الى الوراء ما يزيد عن العقد من السنين كي يتحدد موقعها الصحيح كغطاء سياسي لبوادر الأيديولوجية النهضوية. فالتاريخ الذي قدمه كوتلوف (أواخر الستينيات أو مطلع السبعينيات) ليس في الحقيقة سوى فترة تمايز في مواقف جماعات أعلام النهضة من الجامعة العثمانية ، مهدت أرضية صالحة لنمو وتطور النهضة القومية – الثقافية والارتقاء بها الى طور حركة التنوير العربي.

والحقيقة اذن، انه لم تكن هناك قضية اختيار بالنسبة للبرجوازية السورية وفي المقام الأول للبرجوازية البيروتية وأيديولوجيا في تلك الحقبة السورية من تاريخ النهضة. فالخيار الوحيد كان متمثلا في أوربة، والاهتمام بمنجزات الفكر العلمي – التقني وبثقافة الغرب وحضارته . فأخذوا يدركون ان ارتباط مستقبلهم بأوربة على هذا النحو أو ذاك،، وذلك لأسباب عديدة . فصيرورة البرجوازية طبقة اجتماعية كان بفعل التأثير العظيم للرأسمالية الأوربية. ووجودها وديمومتها مشروطان بانعاش واستمرارية روابطها العنكبوتية مع السوق الأوربية. بينما كانت الامبراطورية العثمانية بالنسبة لها العدو الألد الذي يجسد نمط الانتاج الاقطاعي والنظام الاجتماعي – السياسي المختلف. واذن، كانت الغالبية العظمى المؤلفة من البرجوازية المسيحية تيمم وجهها شطر أوربة المسيحية، وليس نحو تركية التي تدعي الاسلام وهي منه براء. كان الوسط الاجتماعي متركزا أساسا في مدن الساحل، ولاسيما في مدينة بيروت التي كانت مقرا وممرا للتجار والمرابين من أجناس وأمم مختلفة، جعل منها مدينة شبه كوسموبولوتية، حيث كانت المعايير الأوربية مقياس الكمال في السلوك والعيش والعمل. في حين كان المعيار التركي مبتذلا حقيرا وعنوانا للتخلف والتأخر. وعلى الصعيد السياسي – الاجتماعي كان النموذج التركي يتجلى في عدم التأمين على الملكية الفردية وعرقلة وتيرة النشاط الاقتصادي، والقلق والخوف الدائمين على الحرية الشخصية ومصدر لهلاك ودمار الشعب بأكمله. في حين كانت الراية الأوربية التي ترفرف في سماء الشرق تمثل أقوى ضمانة ضد رموز الشر المشار اليها آنفا.

واذا استشهدنا ، في مثل هذه الظروف، بالملاحظة التي أبداها لينين في مقالة "حول دفاتر الامبريالية" والقائلة: وكأرمينية وكردستان، فان سورية والعراق والجزيرة العربية مستعمرات وبلدات تابعة لتركية، فاننا لا نوافق بعض المؤرخين رأيهم الذي يحاول البرهنة على أن البرجوازيين السوريين كانوا في أواسط القرن التاسع عشر ينطرون الى قضية بلادهم تحت الحكم الاقطاعي السلطاني – الاسلامي، أي بقائه مستعمرة تركية، من منطلق أن بعض الشر أهون من بعض، لاعتقادهم أن خضوعهم لسيطرة آية من الدول الأوربية المسيحية من أفدح الشرور وأخطرها. ولنسلم جدلا أنه لم يكن في مقدور أي انسان التكهن بعد بمستقبل النظام الاستعماري، ولذا فان صورة مشرقة كانت ترتسم في أذهان الناس عن نظام الحماية الأوربية. ولكن، الحقيقة التي لا مراء فيها أن النظام التركي الاستبدادي المطلق الذي كان الشعب يعيش تحت نيره كان أشبه بجحيم لا يطاق، واذن لم يكن هناك مبرر لموضوع الخيار بين أصغر وأعظم الشرور، بل كان يصح المثل السائر على السنة الناس "شر من الموت ما يتمنى معه الموت".

وبناء عليه، كان الشر واحدا بالنسبة لجميع البرجوازيين الشاميين، وفي مقدمتهم برجوازيو بيروت وهو: الحكم التركي الاقطاعي القروسطي الجائر، الذي كان زواله من أروع وأعظم الأحلام التي راودت مخيلة الناس آنذاك. ومصداق هذا القول الموقف المتعاطف الحار الذي وقفه السوريون النصارى من حركات تحرر الشعوب البلقانية المعادية للأتراك . وهو لعمري نابع من جوهر ذلك العصر.

أما الخيار الذي فرضه المستشرقون فرضا على البرجوازية السورية، والناجم حسبما يزعمون عن الخوف من خطر التوسع الاقتصادي والسياسي الاستعماري للدول الأوربية الذي سيؤدي بالضرورة الى استبعاد واسترقاق كل الأقطار العربية، فلم يكن له وجود حتى في اللاوعي عند الفئات الاجتماعية وحتى فترة ما بعد الستينيات في البلاد العربية. كما لم يكن خطر استعباد هذه البلدان يثير آية مخاوف في قلوب البرجوازيين السوريين (اللهم سوى وجود بعض ملامح التذمر والاستياء لدى الأوساط التجارية ازاء التغلغل الاقتصادي الأوربي). ان خطرا كهذا ما كان بالامكان ادراكه واستيعابه من قبل البرجوازية الموسومة بعدم نضوج الوعي الطبقي (والقومي)، بل من المحتمل اعتباره في الظروف الحياتية العادية، أشبه بحركة انقاذ. كما حدث بالنسبة للحملتين العسكريتين: الأنكلو – نمسوية سنة 1840، والفرنسية سنة 1860 على المشرق. كان الشر الوحيد في تصور البرجوازية السورية المسيحية متجسدا في النظام التركي الاستبدادي الذي لا يقهر أيضا رغم الصدوع التي تعرض لها مؤقتا، والذي يجب الوقوف منه موقفا مرنا متهادنا ليس فقط باعتباره أصغر الشرور. وللبحث في أعماقه عن أقل قدر من الشرور. خلاصة القول: يجب الوصول الى المساواة السياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية التي تتيحها النزعة العثمانية، وبهذا فقط يكون بعض الشر أهون من بعض.

ينبغي التذكير بأن نهضوية رجالات البرجوازية المسيحية الداعين عن قناعة وايمان الى النزعة العثمانية، بحكم قصور وعيهم الطبقي والقومي ، لعبوا لوقت قصير جدا دورا متواضعا في انعاش الحياة الفكرية والاجتماعية العربية. ولكنهم توقفوا في المستقبل عن آداء أية خدمات لمسيرة النهضة. لا بل أنهم شكلوا عقبة كأداء في تحول النهضة سريعا الى مرحلة أرقى وأكمل ونعني بها التنوير العربي. ونؤكد بهذه المناسبة أن هذا الفريق احتوى – بحكم الظروف الزمنية والمكانية – لفيفا من الرجالات المحسوبين على النهضة، الذين نذروا أنفسهم للعثمانية انطلاقا من دوافع انتهازية – نفعية، والذين كانوا مهتمين برفع قيمة أسهمهم في الوسط السوري، وفي أعين الحكام الأتراك المحليين أو لدى أرباب الحكم في عاصمة السلطنة.

الجناح الثاني من رواد النهضة كان أكثر وعيا نسبيا من الناحية الطبقية (وبالتالي القومية)، ولكنه ضم عددا أقل من المفكرين والمثقفين الذين أسدوا خدمات جليلة للنهضة ففرضوا وجودهم بشكل ملموس في السبعينيات فقط. من خلال النشاط الصحفي. اذ كانت النزعة العثمانية قد تحولت الى عقيدة شبه رسمية يطبل ويزمر لها كبار أرباب الحكم الأتراك. في حين استخدمها الرواد العرب مظلة واقية لتمويه أفكارهم وآرائهم الداعية الى النهضة الثقافية – القومية. فكانوا يداعبون طفلهم الرضيع: النهضة العربية في أرجوحة "التقدم العثماني". النهضة التي لم تعد ذات مضمون ثقافي – اجتماعي وحسب كما كانت قبل ربع قرن من الزمن، بل أصبحت ذات محتوى سياسي – اجتماعي.

في ظروف المهام الاجتماعية الاقتصادية والادارية السياسية التي عددناها كان من المنطقي جدا أن يكون رجالات النهضة الذين أخصلوا للعثمانية نتيجة قناعة ضمنية (الفريق الأول) أو أولئك الذين بشروا بها لاعتبارات تكتيكية (الفريق الثاني) لا من دعاء العروبية، بل من المبشرين الى أبعد تقدير بالوطنية السورية وبالتالي الوطنية اللبنانية. وعليه فان طروحهم الفكرية – الثقافية اتسمت بطابع محلي ضيق. غير أن رواد النهضة حملة الفكر التقدمي اللبناني – الضيق، كانوا يفضلون التركيز على الروح السورية ، لا بل وعلى الروح العروبية. كل ما في الأمر أن سورية الطبيعية التي كانت تضم أراضي سورية ولبنان وفلسطين المحتلة والضفة الغربية المحتلة، كان ينظر اليها – خلافا لواقع وجود الامبراطورية العثمانية – بوصفها اقليما جغرافيا موحدا في مقوماته الاقتصادية – البشرية. وجزءا لا يتجزأ من الشرق العربي. سورية تلك لم تكن بالنسبة للأتراك سوى "عربستان" ، وبالنسبة لعموم العرب "سورية". أما سورية المعاصرة فكانت تعرف ب"الشام" أو "بر الشام". والتوافق في اللفظ الأوربي بين سورية Syria وأشور Assyrie ولد انطباعات خادعا لدى البعض أن سورية شملت أيضا الأراضي الواقعة الى الجنوب والشرق (نجد والحجاز والعراق).

والأمر لا يقتصر على هذا فقط. فسكان سورية ومن بينهم اللبنانيون، ينظر اليهم كمجموعة بشرية واحدة ذات تاريخ ولغة وحضارة واحدة، واذن فهي جزء من الأمة العربية. بيد أن انتماء الطوائف السورية غير الاسلامية والطوائف اللبنانية النصرانية الى الجنس العربي اثار العديد من الشكوك الجدية في تلك الأوساط. فلو استثنينا بعض المتزمتين من الدروز والنصارى الذين لا يميلون كثيرا الى فكرة القرابة أو وحدة العقيدة مع أهل السنة من العرب، فننا نرغب في القاء نظرة سريعة على الطوائف المسيحية.


الطوائف المسيحية

الطائفة الكلدانية – الملكية التي انقسمت على نفسها قبل قرن ونيف لم يتخذ أبناؤها تسمية أرثوذكس عرب وكاثوليك عرب، بل أطلقوا على أنفسهم اسم الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك (نسبة الى رومة (بيزنطة) واليونان).

أما الموارنة فيعتقدون بروابط القربى مع السريان، وليس مع العرب. ناهيك بأن السريان واليعاقبة يعدون أنفسهم أسياد سورية الحقيقيين الذين طردهم الفاتحون العرب من وطنهم الأصلي. نود أن نسجل هنا أيضا أن العرب الذين يطلقون على أنفسهم تسميات ذاتية من أمثال "عرب" و"العرب" ، ونجدهم يقولون "العرب العرباء" والعاربة، والعربة والعربية للعرب الصرحاء الخلص" ، بينما "العرب المتعربة المستعربة" للدخلاء الذين ليسوا بخلص، وهي التسمية التي يطلقونها على فئات معينة في المجتمع، وفي المقام الأول على المسيحيين الذين تعربوا واستعربوا، أي صاروا دخلاء على العرب الخلص. ومن الأمثلة البالغة الدلالة على ما نقول شهادة ترجع الى مطلع القرن العشرين تقول: "يميل عرب الحجاز واليمن الى اعتبار السوريين ليسوا أبناء خلصا، بل أولاد دخلاء للنبي، وأنهم ليسوا أحسن كثيرا من الأتراك".

ان تأثير واقع انتماء سورية الى منطقة الشرق العربي، والسوريين الى الأمة العربية، أخذ في التلاشي تدريجيا لدى رواد النهضة بسبب الحقيقة الموضوعية الملموسة ونعني بها وجود الأمة العربية الموحدة. وهذا أمر لا مناص منه في ظروف التجزئة السياسية – الادارية للأقطار العربية. وضعف الروابط الاقتصادية بينها، وبالتالي غياب السوق العربية المشتركة.

في مثل هذه الظروف سيكون للبرجوازيين المسيحيين الذين لم يشتد عودهم بعد ولم ينهوا عملية استقطاب قواهم وقدراتهم، والذين وضعوا على هامش العروبة بسبب انتمائهم الديني – المذهبي الممهور بأختام الدواوين التركية الاسلامية – سيكون لهم دور عظيم في المجالين الاقتصادي والفكري على قسم معين من سورية، والأرجح على الأرض اللبنانية، وفي المقام الأول على بيروت والمدن الساحلية ، حيث شكل النصارى غالبية السكان. وكانوا على مستوى أرقى من التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري – الحضاري.

واذن، كانت العروبة حقيقة موضوعية تسير في خط معارض مع الوطنية السورية الموضوعية بقدر ما هي حقيقة ذاتية. ومهما حاولت الوطنية اللبنانية الاستقلال عن الوطنية السورية، فما كان بمقدور البرجوازيين اللبنانيين المسيحيين وأيديولوجيتهم التركيز على الروح اللبنانية، لأن ذلك كان ضربا من المحال في ذلك الزمان، ناهيك بأن تصفية الامارة اللبنانية شبه المستقلة والمعروفة رسميا بالامارة الدرزية ، زادت الطينة بلة، اذ لم يعد الاقليم اللبناني معترفا به على الصعيد السياسي – الاداري. وهذا ما جعل مجرد التفكير في أي نوع من استقلالية لبنان الرازح تحت نير الحكم التركي المباشر والمتماوج في خضم المحيط العربي – الاسلامي المتخلف – من رابع المستحيلات.

وبالفعل ان دعوة كهذه لم تكن تثير حقد أركان الحكم التركي باعتبارها مروقا يستحق اشد العقاب وحسب، بل وكانت تعد أشبه بفزاعة يهابها رجال النهضة من أهل السنة والشيعة في لبنان. واذ لم يكن هناك سوى مخرج واحد، الدعوة الى الوطنية اللبنانية من خلال صهرها بالدعاوة العربية – السورية، وفي حالات الضرورة بالنزعة القومية العربية، وانطلاقا من هذا المنظور تمحور التبشير بالنهضة الثقافية – القومية حول ايديولوجية النهضة – الرينسانس العربية.

في اطار هذه الخطوط يجب تحري الحقيقة حول ان المناضلين السريين المسيحيين الذين نشطوا في بيروت عام 1880 والذين كانوا في الواقع يتطلعون الى تحقيق استقلال جبل لبنان أو يصبون لرؤية لبنان بأكمله مستقلا، كانوا يفتتحون مناشيرهم السرية بنداء "يا أبناء سورية" وغالبا" يا أبناء الوطن"، أي برزت الدعوة الى الوطن السوري". وهي مناشير نددت بظلم الأتراك وطالبت باستعادة العرب الأقحاح للقب الخليفة الذي اغتصبه الأتراك. ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لتعرضت الحقائق النهضوية للربية والشكوك ولأصبحت مادة للمزايدات والمناقصات البعيدة تماما عن علم التاريخ الموضوعي ، كما حدث مع المؤرخ المصري عبد الليطف الطيباوي، الذي ادعى أن المناشير الأولى الداعية الى "تحويل السلطنة العثمانية الى استقلال عربي وتأسيس دولة عربية" لم تكن وليدة الأوساط النهضوية البيروتية، وزعم – خلافا للوثائق والمستندات التاريخية – أن هذه الدعوات ظهرت لأول مرة في "سورية وفي أوساط اسلامية".

الفصل الثالث: الصحافة العربية السياية وتصاعد الحركة النهضوية في بيروت

1- تأسيس الصحافة العربية السياسية والمدارس الوطنية العصرية

لو ضربنا صفحا عن الصحف الرسمية التي أصدرها نابليون ومحمد علي في مصر، وجريدة "المبشر" التي اصدرها الفرنسيون في الجزائر سنة 1847، أي الجرائد المعلوماتية الجافة الركيكة، فانه ينبغي القول ان نشوء الصحافة العربية الحديثة وتكوين الفكر الاجتماعي – السياسي الليبرالي، ارتبطا ارتباطا عضويا ومباشرا بنشاط أعلام النهضة العربية، وشكلا معلما مميزا على طريق تحول النهضة الحديثة الى درجة أرقى وأرفع ونعني بها مرحلة التنوير العربي.

ولنسارع الى تأكيد أن قصب السبق في وضع حجر الزاوية في بنيان الصحافة العربية الحرة، واضفاء الطابع التنويري على النهضة الثقافية – القومية، وظهور بوادر الوعي القومي العربي يرجع الى الرائد رزق الله حسون (1823-1880) الحلبي المولد ، الأرمني المحتد، الذي نعته المؤرخ العلامة فيليب الطرزي بقوله: "يمكننا أن نسميه بكل حق جد الصحافيين في اللسان العربي على الاطلاق". ووصفه كل من كراتشكوفسكي وجرجي زيدان بأنه "الرائد الذي لا ينازع في الصحافة العربية السياسية الحرة غير الرسمية".


الرائد المنور رزق الله حسون

رزق الله حسون سلسل أسرة أرمنية من بلاد أرمينية الشرقية عرفت باسم حسونيان (وزيادة الياء والألف والنوع من اصطلاحات النسبة في اللغة الأرمنية). وهي عائلة اشتهرت بالتجارة، جاء جدها الأعلى وسكن حلب، فبقى اسم أولاده أولا بني حسون، ثم عرفوا بأولاد حلب الأرمن. درس العلوم في دير بزمار التابع للرهبانية الأنطونية للأرمن الكاثوليك في كسروان، من أعمال جبل لبنان. فتلقى العلوم اللاهوتية والرياضية وأتقن اللغات الأرمنية والعربية والإنكليزية والفرنسية والتركية وألم بغيرها. وقف حياته على العمل السياسي والنشاط الاجتماعي، ولاسيما في أواسط الأربعينيات حين زار الأستانة واتصل بالحلقة الأدبية التي أنشأها الشاعر بطرس كرامة (شاعر الأمير بشير الشهابي الكبير ومديره "كاخيته"). وكان من أبرز وجوهها الحلبي فيليب حنا ، واللبناني حنا أبو صعب. وقد كان بينه وبين أدباء العصر ومشاهير رجاله في سورية ومصر والأستانة مراسلات ومساجلات.

وسرعان ما أصبح رزق الله حسون من أبرز الشخصيات في الحلقة الأدبية، من أعز المقربين للشاعر بطرس كرامة لعدة اعتبارات، من أهمها، ان الأخير كان مدينا بعرفان الجميل لحنا بك البحري الأرمني الكاثوليكي، الذي ربطته علاقة القرابة مع بني حسون. وكان كبير نظراء الشؤون المالية لمحمد علي في لبنان، تفوسط لبطرس كرامة لدى الأمير بشير الثاني فربه وجعله كاتبه لشؤون الخارجية لاجادته التركية، ثم أقامه مديره "كاخيته" أي نائبه. نافذ الكلمة في جميع أنحاء الامارة. ومختصر القول : ان النبوغ الشعري لرزق الله حسون، ومحاولة رد الجميل ولو متأخرا لآل البحري وأقربائهم آل حسون، لم يكن سببا كافيا لاحتضان الشيخ كرامة البالغ الخامسة والسبعين من عمره، للشاب رزق الله حسون في ربيعه الخامس والعشرين، ناهيك بأنه نظم فيه واحدة من أروع قصائد المديح بمناسبة زواجه من متيلدة بنت يوسف جلبي الحجار سنة 1848، أنشدها شخصيا في العرس ومنها قوله:

فلا زلتما طول الزمان بصحبة وعيش رغيد برده الأمن والرفد

زفاف سعيد والهناء مؤرخ مواف لرزث الله بالخير ماتلد


هناك بالطبع اعتبارات أهم وأخطر.

من المعروف أن محمد علي باشا خسر الحرب المصرية – التركية (1840-1841) بسبب التدخل العسكري الذي قامت به النمسة وإنكلترة. والدور المحدد الذي لعبته الانتفاضة الفلاحية في جبل لبنان. فدير بزمار للأرمن الكاثوليك، حيث أشرف رزق الله حسون على الانتهاء من دراسته – كان بشير الثاني الكبير خلال الحرب الدائرة ضد التحالف التركي – الأنكلو – نمسوي . وأكثر من ذلك فقد اغتنم الباب العالي ذريعة تعاون الأمير بشير مع المصريين ونفاه الى جزيرة مالطة أولا ثم الى الأستانة، وفي عام 1842 ألغى الإمارة اللبنانية وأعاد الحكم التركي المباشر على جبل لبنان. لم يكن مستبعدا في مثل هذه الظروف أن يعلق الشاعر بطرس كرامة آماله ويبني حساباته السياسية على أنطون حسونيان (1809-1884) بطريرك الأرمن الكاثوليك ، العم العزيز لرزق الله حسون، الذي كان من أفاضل رجال العلم والدين في الأستانة، والذي لم يتوان لحظة عن اسداء العون والمساعدة للأمير المنفي الشيخ بشير الثاني وبطانته. ومن بينهم الشاعر بطرس كرامة بالذات، لا بل ان احلاما وردية روادت مخيلة الأمير والشاعر باستعادة حقوق الامارة الشهابية عن طريق استصدار أمر سلطاني بمساعدة البطريرك الأرمني حسونيان، خصوصا أنه كان على علاقات وثيقة مع الباب العالي ومع الدول الأوربية الكبرى "حامية النصارى".

ان معالجتنا لموضوع العلاقة بين كرامة وحسون لم تكن من قبيل العبث، فالتأمل في جوهر هذه الرابطة يؤهلنا لاستيعاب وفهم ذلك الوسط الذي تعرب فيه تدريجيا ابن التاجر الأرمني الغني الحبي. فالشاب كان قد تربى في أجواء الدير المسيحي الداعية الى الزهد والتقشف، والاذعان لأولي الأمر. لكنه عاش فجأة انقلابا روحيا ونزعت نفسه الى طلب العلا وأحس بنبض الحياة الاجتماعية السياسية ، فجاشت نفسه بالحقد والكراهية العادلة والمحقة ازاء ظلامات الدولة العثمانية. الى أن أصبح سياسيا حرا ومناضلا عنيدا في سبيل الحرية. فكان من كبار أحرار العرب. الى ذلك كله، عايش حسون الوسط الذي انتهى اليه الأمير بشار الثاني الكبير، حيث كان الأخير منفي وأعوانه وبطانته الوفية له يبحثون في المنفى عن طرق ووسائل تمكنهم من قلب الأوضاع والعودة الى بلادهم. وحسون الذي قاسمهم السراء والضراء امتلأ فؤاده بمشاعر الحب والتقدير للشعب العربي، ولاسيما اللبناني. ومن الحقائق التاريخية الجديرة بالتسجيل ان طائفة الأرمن الكاثوليك في اسطنبول لم تتردد لحظة واحدة عن المشاركة في تشييع جنازة الأمير بشير الكبير حاكم لبنان الذي انتقال الى دار البقاء في 30 كانون الأول (ديسمبر) 1850، فوري الثرى تحت هيكل كنيسة المخلص بالأستانة. (وفي سنة 1947 نقلت الحكومة اللبنانية رفاته الى قصر بيت الدين الذي أمر ببنائه في أيام عزه – المترجم).

وهما يكن من أمر ، فهناك حدث خطير ترك أثرا عظيما وحاسما على الانقلاب النفسي لدى رزق الله حسون، ونعني به حرب القرم (1853-1856) التي يمكن اعتبارها بدءا من خريف سنة 1854 حربا بين الجبهتين الروسية والأنكلو –فرنسية، لعدم جدوى وفعالية الجبهة التركية في الحرب الدائرة أنذاك. الأمر الذي أدركه الكثيرون ومن بينهم الأوساط الحاكمة في الامبارطورية العثمانية، التي سعت لعقد صلح منفصل مع روسية.

في ذلك الوقت بالذات أنشأ رزق الله حسون جريدة "مرآة الأحوال" الأسبوعية في الأستانة عام 1855، وهي "أول جريدة عربية غير رسمية في العالم طله". قد يخيل للقارئ أن مهمة الناشر – المحرر – تقتصر على تعريف القراء بوقائع الحرب الضروس وأسرار الدبلوماسية الدولية، وان الجريدة ذات طابع اعلامي – اخباري جاف، وأنه لا داعي للبحث في طياتها، وهي التي عمرت نيفا وسنة فقط. عن المزايا والفضائل التي جعلت حسون الصحافي والمناظر والهجاء والنقاد، والسياسي الحر يحتل مركز الصدارة في تاريخ الصحافة العربية وميدان الفكر الاجتماعي – السياسي.

وقد سار كريمسكي على هذا المنوال حين أكد عن قناعة راسخة أن حسون كان يجل ويحترم روسية ضمنيا، ويتمنى من صميم فؤاده "النصر للروس"، ولكنه لم يكن في ظروف الحرب القاهرة قادرا على "اظهار محبته للروس" . ولذا كان يلجأ الى تصوير الوقائع تصويرا مبسطا يولد لدى القارئ انطباعا عميقا بأن تركية تبغي الخروج من الحرب لعقد اتفاق هدنة منفصل مع روسية . ومن نوافل القول أن رزق الله حسونكان مضطرا لأن يحسب الف حساب للأخطار المحيقة به، ولذا سعى على قدر الامكان لاظهار براعته الصحفية وجرأته الأدبية وحنكته السياسي في الطور الأول من نشاطه الصحفي الحرب في ظروف الكبت السائدة في اسطنبول. فهو لعمري يستحق كل الثناء والتقدير. ومصداق قولنا شهادة أدلى بها المؤرخ الجليل جرجي زيدان الذي أكد أن حسون فعل الكثير والكثير، وفي وصفه "لمرآة الأحوال" قال: "كانت خطتها ضد الأتراك ولهجتها في الطعن شديدة، فقررت الحكومة القبض على صاحبها ففر الى روسية"، وهناك أطلق لسانه بالانتقاد على الحكومة التركية، أما الأديب حنا الفاخوري فقال فيه: "كان حسون يصور تصويرا مفصلا وقائع حرب القرم، كما وصف أحوال سورية ولبنان" ثم خلص الى القول: "فكان (يقصد حسون – المؤلف) سببا في ازعاد الأتراط" وأوضح فيليب الطرظي بكل سطوع "أن حسون كان حر الأفكار طويل الباع في الانشاء، مر الهجو في الشعر، كالفرزدق". ولذا تضمنت "مرآة الأحوال" فصولا لا تخلو من تقبيح الأتراك والتنديد بالأعمال الحكومية. وعندما حكم عليه الأتراك حكما غيابيا بالاعدام، نظم بعض أبيات في الفخر خاطب بها دولة الأتراك نورد منها هذين البيتين:

أنا ابن حسون رزق الله أشهر من ..... نار على علم والكل بين علموا

كرا وبلغهم عني مغلغلة .... يا أمة ضحكت من جهلها الأمم


بيد أن مرآة الأحوال رغم كونها "أول جريدة عربية شعبية بكل ما في هذا الكلام من معان" لم يكن مقدرا لها بلوغ الأهداف العظيمة والغايات النبيلة التي راودت مخيلة صاحبها رزق الله حسون، ولاسباب جد وجيهة أهمها: قلة عدد النسخ المطبوعة، ومحدودية انتشارها ورواجها، فضلا عن نهايتها المبكرة، مختصر القول: كان من المستخيل على جريدة "مرآة الأحوال" أن تمارس في تلك الأيام والأحوال ومن قلب الامبراطورية العثمانية، تأثيرا ملموسا على النشء العربي الجديد المتطلع الى النور والضياء".

جريدة حديقة الأخبار

ظهرت ضرورة ملحة النشاء صحيفة دورية في بيروت مركز النهضة العربية ورابطة الوصل بين الواقعين السوري والمصري، وفي غرة كانون الثاني (يناير) 1858 برزت صحيفة أسبوعية سياسية علمية تجارية تاريخية، هي "حديقة الأخبار" على يد مؤسسها خليل الخوري اللبناني، وكان أكبر عضد في انشائها رجل الفضل والشهامة ميخائيل يوسف مدور من أعاظم نصراء الأدب في بيروت، وكلاهما من أعضاء الجمعية العلمية السورية.

وسيكون من السذاجة بمكان التوقع أن "حديقة الأخبار" ستكون لسان حال البرجوازية الوليدة، المعبر عن تطلعاتها الاقتصادية – الاجتماعية أو السياسية – الادارية المتجسدة لدى شتى ضروب المجموعات الاجتماعية المكونة للبرجوازية.

أجل ان مؤسسي "حديقة الأخبار" لم يضعوا نصب أعينهم الاضطلع بهذه المهام الشاقة والعسيرة ، فقد اقتصر دور الجريدة على أن تكون منبرا يساهم في انعاش الحياة الاقتصادية – التجارية، ويساعد على تحقيق الغايات الفكرية – الثقافية التي كانت تسعى اليها البرجوازية التجارية. ويعمل جاهدا للتأليف بين شتى الطوائف والتفاهم حول هذه الأكفار، وليس أكثر من ذلك.

وقد اتصفت حديقة الفكر باعتدال مشربها وتفانيها في خدمة الدولة العثمانية، والعدد الخامس من لجريدة مثال ساطع على ما نقوله، اذ أغدق ناصيف اليازجي مدائحه للسلطانين عبد المجيد وعبد العزيز ، وأطلق عليهما أوصافا ونعوتا مبالغا فيها الى أقصى درجات المبالغة مثل "رب العلم" "خليفة رسول اللع العظيم" ... ألخ، وهي أوصاف سوغها غرف ذلك الزمان، فكانت بمثابة جزية يؤديها رجل الفكر لسلطان العصر، فتكون له ضمانة لحياته الشخصية، وتخوله حق نشر بعض المواد المحظورة كليا أو جزئيا ذات الطابع التنويري الى هذا الحد أو ذاك، أو بعض الأخبار الخطيرة التي قد تهيج خواطر الناس، كما حدث أثناء نشر خبر محاولة الاغتيال التي قام بها الثائر الايطالي الحر أورسيني ضد نابليون الثالث العدو اللدود لحركة التحرر الايطالية . ينبغي التذكير هنا، أن الجريدة التي كان لها 400 مشترك دائم في الأستانة وجميع المدن العربية الكبرى (ما عدا بيروت طبعا) وعدد مماثل من القراء غير المشتركين اضافة الى عدد لا يستهان به من المراسلين المحليين، كانت تحذو حذو الصحف التركية النادرة والعربية السياسية الوافرة في استقاء مواد الأخبار الداخلية من جريدتي "تقويم الوقائع" التركية و"الوقائع المصرية" الرسميتين. أما زاوية الحوادث الخارجية "فقد اتصفت بالتحفظ وجفاف الأسلوب"، فيما كانت الجريدة تقدم مادة غنية متنوعة عن أخبار الثقافة والأدب والتمدن الأوربي، مذكرة قراءها بأن الشرق يجب أن يتعلم الكثير والكثير عن الغرب الحضاري، وأن مصلحة الشرق بالذات تعرفض عليه التوصل الى المستوى الأوربي.

ومن الدلائل البليغة على أن الجريدة كانت تعبر عن مصالح البرجوازية، الوفرة البارزة في المواد المكرسة لاستعراض الأنشطة التجارية والمشاريع الصناعية والزراعية والاقتصادية المختلفة، نذكر من بينها مثلا:

مناقشة مشروع قناة السويس ، وتقريظ مدور لمشروع بناء طريق بيروت – دمشق من قبل شركة فرنسية مساهمة 1863، والحياة التجارية – الاقتصادية في بيروت، وأوضاع السوق الداخلية والخارجية، وتقلبات الأسعار، وحركة السفن التجارية والأخبار الدائمة عن أعمال الشركات الوطنية والأجنبية.

وتعكس افتتاحية العدد الأول للجريدة المهمات التثقيفية – التنويرية التي اضطلعت بها. وقد لخص كريمسكي الذي اطلع شخصيا على مضامين افتتاحية الجريدة المكرسة للقضايات التعليمية والتنويرية والمشاريع الثقافية التي طرحتها الجريدة، على الشكل الآتي: "ان بلادنا متأخرة بالقياس الى أوربة، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، ولكنها خطت خطوة كبيرة على طريق التقدم بالنسبة لما توصل اليه الجيل السابق. وهذا أمر طبيعي ومنطقي جدا، لأن الكثير من شبابنا اتقن اللغات الأجنبية ، وهي من أنجع الوسائل للتعرف واستيعاب الأفكار والقيم والأخلاق والعادات والفضائل المنتشرة في البلاد المتمدنة المتنورة. وان عظمة السلطان ناصر العلم والأدب يساهم في نهضة هذه البلاد ورقيها. ولذا فرض علينا الاذعان لمشيئته وارادته السنية بمد يد العون والمساعدة لكل الشعوب الطامحة الى الرقي والتقدم. ان بلادنا من أعظم بلدان هذه الأرض. ولذا فهي تلاقي الاعجاب والتقدير لدى الأجانب. ونحن نحب بلادنا حبا لا حدود له، فكل شيء فيها عزيز على قلوبنا، حلو المذاق ولو كان مرا كالحنظل، ولا غرو في ذلك، فهي لنا بمنزلة الحبيب والقريب. وهذا لعمري جوهر الشعور الوطني الصادق، والتباين في معتقداتنا وأدياننا نحن العرب. لا ريب أن يدفعنا الى البغضاء والشحناء والتنافر والتنابذ. وهذا ما يحدث أحيانا للأسف – وهذا لعمري من مخلفات الماضي الكربة التي عفا عليها الزمان. ومن حسن حظنا أ، بيان السلطان السامي يساوي بين كل الأديان فيدعو الى التسامح الديني، وينبذ أحقاد التعصب الأعمى من أجل الوصول الى خير ومنفعة الدولة الوطنية التي تحتضن جميع رعاياها كما تحتضن الأم الرؤوم أطفالها. يجب علينا أن نكون أمة واحدة وأن نسير قدما بخطى ثابتة راسخة. ولن تقوم للتعصب الديني الأعمى قائمة بعد اليوم بفضل نشر العلم والتنوير فير بوع بلادنا ليس فقط من مناهل العلوم النقلية الفقهية، بل ومن ينابيع العلم والمعرفة التي توصلت اليها أوربة والشعوب الغربية المتمدنة.

ان مراجعة سريعة للأدبيات ذات الطابع الموسوعي، والاطلاع من خلالها على الأمثلة المنشورة من الجرائد القديمة، ومن بينها "حديقة الأخبار" تدفعنا للتأكيد أن كريمسكي صاغ مواد الجريدة بما يتماشى وروح عصره. حقا ان كلمة "بلادنا" التي أوردها كريمسكي قريبة جدا تعبير "هذه البلاد" الذي كانت تستخدمه حديقة الأخبار للتدليل على رياض الشام ولكنها كانت تدعو مواطنيها بتعبير "أبناء الوطن" كما ان اصطلاح الوطنية أو الوطنية الرسميى لدى كريمسكي جاء تحويرا لمصطلح الجريدة "العصبة الوطنية" الذي شكل مع مفهوم "العصبة الجنسية" رديفا مضادا للعصبة الدينية.

احتلت المهام الأساسية التي طرحتها حركة النهضة في مراحلها الأولى مكانة بارزة في صفحات "حديقة الأخبار" التي كانت تعالج باستمرار قضايا مركزية ومحورية هامة : الحاجة الماسة الى زيادة عدد المدارس ، نشر التعليم بين الاناث، وتطوير الطباعة، انعاش الحياة الثقافية بنشر المكتبات العامة التي أصبحت ملتقى طبقة من محبي المطالعة، الدعوة الى ترويج العلوم والفنون والقيم والمعايير الأوربية. كما كانت الجريدة تتبع أسلوبا تربويا – تهذيبيا بنشرها أخبار وتفاصيل الحوادث والوقائع المقتبسة من الحياة الأوربية مقارنة اياها بمجريات الأمور في الحياة الشرقية، كي تقدم للقارئ صورة ساطعة عن تخلف الشرق وتأخره.

كرست "حديقة الأخبار" واحدة من افتتاحياتها لمعالجة موضوع التعليم الحقيقي وابراز مزاياه التنويرية السامية، فأكد كاتب المقالة "انه لا يجوز الخلط بين الحضارة الأصيلة وبين تقليد الأوربيين في مظهرهم الخارجي. صحيح أن تقليد الأوربيين في ملبسهم أمر ضروري، ولكن الاكتفاء بذلك دلالة على رقي المستوى الفكري، ليس سوى من باب التجني على الحقيقة". واختتم الكاتب حديقه بالدعوة لاستيعاب المعارف الأوربية، والارتقاء بمشاعر الكرامة الانسانية، واتقان الوسائل والسبل الكافية بتحقيق الخيرات للأفراد والجماعات على حد سواء.


لعبت "حديقة الأفكار" دورا بارزا في مضمار تطوير اللغة العربية فرغم استفادة الجريدة من مولدات ومستحدثات الألفاظ العربية التي وجدت طريقها الى النور عبر منشورات مطبعة بولاق المصرية ومطبوعات الارساليات الأجنبية في بيورت، فان "حديقة الأخبار" ادلت بدلوها في هذا المضمار، فأثارات اعجاب المهتمين بنقاوة لغة الضاد. واستنكار "علماء الدين" الذين امتنعوا عن مطالعتها. وسعيا منها لتبرير ساحتها اضطرت ادارة الجريدة لنشر مقتطفات من الخطبة التي ألقاها العلامة بطرس البستاني قبل ما ينوف عن العام والتي جاء فيها بالحرف الواحد قوله: "رغم أ، العربية غنية بالمترادفات والمتجانسات للتعبير عن المفاهيم القديمة، فقي فقيرة في مجال تعريب الألفاظ المستحدثة. واذا لم نجد مخرجا في مجال الاشتقاق اللغوي فسيقع مالا يحمد عقباه رغم أنف السادة فقهاء اللغة، الذين يؤمنون ايمانا أعمى بأن الفيروز أبادي قد أقفل باب كنوز اللغة بتأليفه "القاموس المحيط"، وأنه أخذ المفتاح معه في القرن الخامس عشر. فلغتنا، كغيرها من اللغات الحية، لا يمكنها التعبير عن المعاني الحديثة التي تثري اللغة وتكسبها متانة وأصالة. وفي وقت لاحق ركز المحرر على قضية اللغة أيضا فقال: "ومن أهدافنا التنويرية الأصيلة السعي سعيا حثيثا لمنح لغتنا العربية السامية الحرية المطلقة للحركة في خضم الأفكار الجديدة، راجين لها الوقوف في صف واحد من اللغات الحية في شتى حقول المعرفة والعلم. وكل من يجيد لغة أجنبية واحدة يدرك حق الادراك ان لغتنا – رغم عظمة ثروتها في الألفاظ المترادفهة والأضداد – الآن فقيرة لدرجة لا تسمح لنا بالتعبير عن أبسط مصطلحات العلوم الحديثة التطبيقية والانسانية والعقلية".

والتطابق في الآراء حول أمور اللغة بين البستاني و"حديقة الأخبار" ليس مصادفة اطلاقا. فالبستاني كان مهتما بادارة دفة الشؤون اللغوية والادبية في الجريدة دون الاعلان صارحة عن ذلك، ولكنه جاهر بعد زمن قصير باهدافه الرامية لتطوير اللغة العربية في واحدة من وطنياته الاحدى عشرة. تلك الوطنيات التي بلورت فكر البستاني وأهدافه الاستراتيجية التي لخلصها بالذات سنة 1862 بقوله: "تمهيد الطريق لرقي شعبي وايقاظ مشاعر الحب نحو لغتنا السامية".


جريدة "نفير سورية"

من أشهر صحائف الفكر السياسي العربي الحر، وهي جريدة صغيرة ذات صحفتين اذا عها المعلم بطرس البستاني سنة 1860 بعد الحرب الأهلية في بر الشام ونعني بها "نفير سورية". أصدرها في بيروت وأوقف نشرها بعد استتباب الأمن في البلاد، وخلود الناس الى السكينة. وقد جاءت انعكاسا لتفاعل الأفكار والآراء داخل أوساط حركة النهضة اللبنانية.

لم تكن جريدة بكل معنى الكلمة، بل عبارة عن رسائل وطنية مكتوبة بلغة مفهومة وأسلوب واضح، موجهة الى المواطنين تتضمن نصائح مفيدة لشد عرى الألفة والمودة بين الناس. وحسب فيليب الطرزي فقد ظهر في هذه النشرة ثلاثة عشر عددا موسومة بالنفير الأول والنفير الثاني وحتى الأخير، بدلا من العدد الأول والثاني .. الخ. بنيما جزم بطرس أبو مانع بصدور احدى عشر نشرة من نفير سورية الممتدة بين أيلول (سبتمبر) 1860 ونيسان (أبريل) 1861.

وانطلاقا من الروح الاستنفارية لهذه الوطنيات، نفترض أن روح الاعتدال والمحافظة السائدة في "حديقة الأخبار"، وهي التي دفعت المعلم بطرس البستاني لتقديم لون جديد من الدعاوة التعبوية الى الرأس العام العربي. طبعا في حدود الامكانات المسموح بها ودون الخروج عن اطار أفكار النزعة العثمانية ، فالدعوة الجديدة الى "الوطنية السورية" أو "الأمة السورية" التي تجلت قبل كل شئ في تسمية النشرة "نفير سورية" أي صفارة الانذار الداعية لايقاظ سكان هذه البلاد من غفوتهم وترجيح العقل لتخطي الفتنة الطائفية الدامية التي هزت أركان الشرق، فكانت المحطة الطائفية الكبرى في تاريخ سورية الحديث. ففي مطلع وطنيته الرابعة المنشورة بتاريخ 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1860 عبر البستاني عن خلاصة عقيدته القومية بقوله: "فسورية المشهورة ببر الشام وعربستان هي وطننا .. وسكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم، هم أبناء وطننا".


وقد شدد رواد النهضة في بيروت على روح الوطنية السورية في "حديقة الأخبار" ثم واصولوا هذا المنهاج بعد احتجاب نفير سورية على صفحات مجلة "مجموعة العلوم" (صدرت في 15/1/1868 بعناية الجمعية العلمية السورية). وبكلام آخر، ان تعبير "بلادنا" أو "هذه البلاد" استخدم للدلالة على مفهوم سورية الوطن الأكثر جمالا والأوفر خصبا ليكون بديلا عن مفهوم الوطن العثماني والذي نتج عنه تعبير "شعبنا" أو الشعب السوري أو أبناء الوطن السوري. غير أن النفير بشرت بوطنية من نوعية جديدة تماما غنية المضمون، تمثلت في الدعوة الصريحة لحب الوطن، وفي الرسالة السامية التي ناشدت أبناء الوطن بالترفع عن قضايا الانتماء الديني المذهبي، واظهار التسامح والألفة والمحبة بعضهم ازاء بعض. وتوجعت نفير سورية في بكر نشراتها الى أبناء الطوائف الذين لوحوا بسيوفهم فعكروا صفاء الألفة واضاعوا حق الجوار، فقالب: "ألا تأكلون كلكم نفس الأكل؟ ألا تشربون كلكم نفس الماء؟ ألا تتنفسون كلكم نفس الهواء؟ ألا تتكلمون كلكم لغة واحدة؟ فأعلموا اذن أن الأرض التي تقلكم هي نفس الأرض، وأن مصالحكم ومنافعكم واحدة وعاداتكم وتقاليدكم واحدة أيضا".

وليس من قبيل المصادفة أن البستاني استشهد بحوادث بدت حيادية لا يجمعها أي رابط بالواقع السوري أو العثماني، كالنضال المسلح الذي خاض غماره البطل القومي الايطالي غاريبالدي ضد الفاتيكان من أجل توحيد بلاده ، فكان التضامن والتكافل للسير بخطى موحدة وثابتة نحو رقي البلاد وسعادة العباد. فقد كتب البستاني الوله بحب الوطن حرفيا: "وتخلف السوريين ناجم بالطبع عن غياب الألفة والمحبة وعن استسلامهم واذعانهم لجبروت التعصب الديني – المذهبي الأعمى". وبعد ان يكرر البستاني القول المنسوب الى الرسول العربي "حب الوطن من الايمان" يندد قائلا: "من يستبدل حب الوطن بحب الطائفة ليس سوريا وطنيا، بل هو عدو الوطن".

وينبغي التأكيد ايضا أن المعلم بطرس البستاني كان في خواطره حول اللغة العربية على صفحات "نفير سورية" أكثر تقدمية مما كان عليه في "حديقة الأخبار" ربما لأنه كان الربان الذي تسلم دفة القيادة هنا. فهو اذ يعارض ويساجل كل من يعتقد بقصور اللغة العربية عن التعبير عن مصطلحات المدنية الحديثة، يتهمه صراحة وعلنا بجهله لكنوز اللغة العربية، مؤكدا أن تمدين العرب بواسطة اللغة العربية أهون وأنفعك بكثير من استخدام اللغات الأجنبية وسيلة للتقدم والرقي. واختتم البستاني كلامه قائلا: "يجب ألا نجعل من سورية برج بابل يبلبل الألسنة كما هي برج الأديان والمذاهب".

ومن المزايا الهامة التي اخصت بها "نفير سورية" أنها لم تقتصر على الدعوة الى العدالة والمساواة، بل وطرحت بجرأة مسألة فصل الدين عن الدولة، ودعت الى ضرورة وضع حاجز بين السلطة الروحية والسلطة المدنية العلمانية.


الكونت رشيد الدحداح

وما لبثت شمس الصحافة العربية السياسية الحرة أن بزغت في فرنسة خلال خمسينيات القرن الماضي. أنشئت أول صحيفة سياسية عام 1858 في مرسيلية وهي تاسعة الصحف العربية والمعروفة باسم "عطارد"، من قبل المستعرب الشهير منصور كارلوتي، الذي درس العربية في بيروت وكان عضوا في الجمعية العلمية السورية. لم تعمر هذه الجريدة طويلا في فرنسة حتى ذاعت شهرة الكونت رشيد الدحداح (1813-1889). وقد أصاب كريمسكي عين الحقيقة حين جزم بأ، صحافة الجالية العربية في فرنسة نزلت الى الميدان "ثقلا موازنا" لجريدة "حديثة الأخبار" التي اتصفت بالاعتدال في السياسة ومهادنة الحكومة، والتي يخشى صاحبها نشر كل ما يعارض ارادة السلطات التركية.

يرتقي أصل الشيخ رشيد الدحداح الى أسرة بعيدة الشهرة في اقليم الفتوح النصراني السكاني. تلقى علومه في مردستي "عين ورقة" و"بزمار: للأرمن الكاثوليك. وفي سنة 1841 عينه الأمير بشير الثالث حاكم لبنان كاتبا لأسراره. غير أنه ذهب ضحية لدسائس العملاء فتخلى عن وظيفته بالحاح من السلطات التركية، وكافح ضد نوايا عمر باشا التركي الرامية لاستلام منصب حاكم لبنان. وبعد تقسيم جبل لبنان الى قائمقاميتين رحل مع عائلته الى باريس، حيث منحه البابا بيوس التاسع لقب كونت سنة 1867. وعلى الرغم من اشتغاله في التجارة أسس مطبعة عربية في مرسيلية سنة 1845 نشر فيها آثارا نفيسة من كنوز الأدب العربي اللاسيكي وعلوم اللغة العربية. نذكر من بينها معجما عربيا للمطران جرمانوس فرحات بعد أن هذبه ورتبه وأصلح ما فيه من أغلاط، وكتاب "نهاية الأدب في أخبار العرب" لاسكندر أبكاريوس. ومن الطريف هنا أن ابراهيم بك النجار (1822-1864) الطبيب العسكري الذي تخرج من مدرسة القصر العيني بالقاهرة، كان قد زار مطبعة الدحداح في مرسيلية للوقوف على طبع كتابه "هدية الأحباب وهداية الطلاب" (في علم المواليد الثلاثة: الحيوان والنبات والجماد). واستجلب معه الى بيروت أدوات مطبعية لينشئ فيها ثالث مطبعة. وبعد عين نقل الدحداح مطبعته الى باريس وواصل نشر الكتب النافعة، ومنها مؤلفه "قمطرة طوامير" وقد ضمنه مقالات لغوية وأبحاثا في الأدب والتاريخ والسياسة والجدل. وفي سنة 1858 أنشأ في اللغتين العربية والفرنسية جريدة "برجيس باريس وأنيس الجليس" وهي أدبية سياسية نصف شهرية عمرت نيفا وخمس سنين. حقا ان الجريدة كانت شديد الميل الى فرنسة فاستقطبت الطوائف المسيحية، وخاصة المارونية، حول نجاحات السياسة الفنرسية في الشرق العربي ، ولكنها لعبت دورا جديرا بالثناء ابان الحوادث الطوائفية المصيرية في حياة عرب المشرق، اذ كانت تعرف قراءها تعريفا موضوعيا بحقيقة وجوهر الأحداث الدامية التي وقعت في جبل لبنان ودمشق سنة 1860، وبالاتجاهات السائدة في أروقة العواصم الأوربية بشأن قضية استقلال الجبل، علاوة على طول باعها في ميدان فضح الدسائس والمؤامرات التي كان يحيكها الباب العالي والسلطات التركية المحلية باتجاه اثارة النعرات الطائفية وزرع بذور الشقاق والعداء والاقتتال الطائفي بين النصرانيين والمسلمين. ورغم أن "برجيس باريس" كانت تجد طريقها الى سورية بصعوبة بالغة، ولاسيما عقب صدور الأوامر السلطانية المشددة بمنعها من دخول سورية، فانها كانت تترك آثارا ايجابية في أوساط بعض المثقفين العرب.

لكن جحيم المذابح الطائفية في سورية الطبيعية ولد ظاهرة تركت نفوذا قويا في الأوساط السورية العربية باتجاه تصعيد التحرك النهضوي، ونعني بها: اعلان الاستقلال الذاتي لجبل لبنان.


النظام الأساسي في جبل لبنان

في التاسع من حزيران (يونيو) 1861 وقعت تركية والدول الأوربية (النمسة، فرنسة، بريطانية، بروسية، روسية) اتفاقية "النظام الجديد في جبل لبنان" والمعروف تاريخيا ب"النظام الأساسي". لقد ضمن النظام الأساسي لسكان لبنان العديد من الامتيازات شبه المستحيلة في ظروف الامبراطورية العثمانية عامة.

أولى تلك الامتيازات، أن حكام لبنان يجب أن يكونوا من المسيحيين غير الوطنيين ومن رعايا الدولة العثمانية. والأمر الذي يلفت الانتباه أن أربعة من أصل ثمانية من المتصرفين الذين حكموا جبل لبنان منذ 1861 حتى الغاء الحكم الذاتي سنة 1915، كانوا من أبناء طائفة الأرمن الكاثوليك . لم يكن هؤلاء الحكام صنائع الباب العالي – كما تم تصويرهم باجحاف في التاريخ – بل متصرفة عينهم السلطان بموافقة الدول الأوربية لآماد محددة،. وقد خول المتصرفون حق وقف أي تدخل عسكري للأتراك في شؤون البلاد الداخلية، اذ لم يكن لها أي حق في دخول منطقة الحكم الذاتي دون إذن مسبق من المتصرف، في الوقت الذي كان فيه حتى الأمراء الأقوياء يتعرضون في أية لحظة لهجوم جحافل القوات التركية، التي كانت تقوم بدور الجلاد في تقطيع رقاب الناس.

وقضى النظام الأساسي أن يعاون المتصرف في ادارة شؤون الحكم مجلس ادارة من 12 عضوا يمثلون الطوائف اللبنانية بنسب متفاوتة (4 موارنة، 3 دروز، 2 روم أرثوذكس، وواحد عن كل من الروم الكاثوليك، والسنة والشيعة). كما نص النظام على انشاء محاكم من ثلاث درجات (محاكم الصلح، ومحاكم البداية، ومجلس المحاكمة الكبير) لتولي شؤون القضاء. كما اقتضى النظام تأسيس نظام الضبطية أو الدرك وغيرها من المؤسسات والمصالح التي وجب أن تسهر على مساواة الناس أمام القانون. علاوة على ذلك، كانت الصلاحيات المالية معطاة للمجلس الاداري الكبير الذي يرأسه المتصرف، والذي يجب عليه أن يسعى لاحلال التوازن بين عائدات الجبل ونفقاته، بما يكفل الحفاظ على ادارة الحكم الذاتي في الجبل وتحقيق المشاريع لخير النفع العام. ومن الجدير بالذكر أن المادة السادسة من البروتوكول تنص على الآتي: "الجميع متساوون أمام القانون. وتلغى كل الامتيازات الاقطاعية، ولاسيما امتيازات المقاطعجية". وهكذا يكون بروتوكول الحكم الذاتي قد ألغى الملكية الاقطاعية غير المشروطة، بمعنى أن العلاقات الاقطاعية رغم عدم زوالها نهائيا، فان الغاء الحقوق والامتيازات الدارية والقضائية للمقاطعجية أدى بالضرورة الى تنظيم وتحسين أوضاع غالبية السكان ، ولاسيما الفلاحين، ومهد السبيل أمام انتعاش عناصر البرجوازية المرابية وسهلت أمور تحقيق أهدافهم الاجتماعية ومراميهم الاقتصادية.


ان واقع فشل العثمانيين (منذئذ وحتى بداية الحرب العالمية الأولى، لا بل وفي سنى سياسة الظلم التي مارسها السلطان الدامي عبد الحميد الثاني)في عرقلة الاتصالات بين الحكم الذاتي في جبل لبنان (الذي كانت للأتراك اليد الطولى في تقزيم حدوده الطبيعية) وبين المناطق التابعة له تاريخيا وجغرافيا، فضلا عن التغيرا الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية – الادارية التي شهدتها المتصرفية (التي كبحت جماح التحكم التركي الى حد ملموس) ولاقت صدى واسعا في شتى أرجاء الارض اللبنانية، وساهمت موضوعيا في تصاعد المد النهضوي في المستقبل. علاوة على ذلك، كان النظام الجديد بمثابة انتصار للطوائف المسيحية في بيروت والجبل اذ انه كرس قانونيا الحكم الذاتي المعترف بها دوليا بوصفه كيانا مستقلا اداريا وسياسي عن سورية. هذا الواقع دفع بالضوررة المثقفين المسحيين اللبنانيين الذين كانوا حتى الأمس القريب يعدون أنفسهم الى هذا الحد أو ذاك "سوريين عربا" للتفكير مليا في صيغة جديدة مستقلة ذات هوية "لبنانية – عربية"، والتوجه الى الروح اللبنانية من أرضية وطنية تبرز دورهم الخاص والفعال في اطار النهضة الفكرية الثقافية العربية.

وبهذا المعنى ساهمت بعض العوامل الموضوعية والظروف التاريخية الملموسة في عملية تجذير حركة النهضة في بيروت. نذكر منها: تضخم عدد السكان النصارى في بيروت نتيجة للمذابح الدموية ابان الفتنة الطائفية الكبرى سنة 1860 وازدياد عدد الأجانب وخاصة الفرنسيين، وانتعاش الحياة التجارية الاقتصادية، وزيادة الاهتمام ببيروت بوصفها معبرا استراتيجيا للتغلغل الاقتصادي والثقافي الأوربي الى الدولة العثمانية وفي المقام الأول الى بر الشام، وتعدد المبادرات الاجتماعية – الثقافية من جراء المنافسة الحادة بين مختلف الطوائف . بفضل هذه الحوافز نالت بيروت وفي أمد قصير – كما سنرى – امكانية السير في خط بياني تصاعدي للحياة الفكرية – الثقافية التى شهتدت فيما مضى فتورا ملحوظا. وقد أشار المستشرق الروسي جيرجاس الى هذه الحقيقة بقوله: "ان بيروت تسير الى الأمام بخطى حثيثة ثابتة".



داود باشا الأرمني أول حاكم في جبل لبنان

ان النمو الكمي والكيفي في ميدان التعليم والتربية بات من المظاهر الأكثر بروزا وسطوعا في جبل لبنان بفضل الدور الكبير الذي اضطلع به قره بت "هاريتون باشا داوديان" (1816-1873) المعروف في التاريخ باسم داود باشا، أول متصرف في البلاد خلال حكمه الذي استغرق سبعة أعوام (1861-1868). فكان أول حاكم قام بفصل التعليم رسميا عن الكنيسة والطائفية – المذهبية في جبل لبنان والمقاطعات التابعة له تاريخيا.

ولد داود باشا في اسطنبول ، كان اختصاصيا في القانون والحقوق، وله فيهما العديد من المؤلفات القيمة. وهو من أعظم الموظفين في الإمبراطورية العثمانية ذكاء وموهبة وعلما . انتخبته الأكاديمية العلمية في برلين عضوا فخريا، ومنحته جامعة فيينا لقب دكتور في الحقوق. التحق بالسلك الدبلوماسي وتدرج فيه فأصبح قائما بالأعمال في برلين، وقنصلا في فيينا، دعي فيما بعد الى الأستانة للعمل في نظارة الخارجية فعين ناظرا عاما للمطبوعات ثم ناظرا عاما للتغلغراف. وتبوأ العديد من المناصب الهامة التي آخرها متصرفا على لبنان وقد باشر داود باشا أعماله بكل اخلاص وتفان في المسؤولية.

لقد أجمع الباحثون في التاريخ اللبناني الحديث على المناقب الانسانية والخصال الحميدة التي امتاز بها داود باشا، كما ركزوا على الدور العظيم الذي قام به في تاريخ جبل لبنان. فها هوذا المؤرخ كمال الصليبي يؤكد قائلا: "من العسير جدا ايجاد بديل أفضل منه". وقد وصفه فيليب حتى بأنه "شخص ذو مواهب عظيمة". ورأى فيه هنري لامنس فضائل وشمائل "الحاكم المبرز العظيم". ثم أضاف شارحا ما يرمي اليه: "اذا كانت نهضة الجبل نتاجا طبيعيا للروح الابداعية وقوة العزيمة اللتين يتمتع بهما اللبنانيون فان المتصرفين أدوا قسطا كبيرا في هذا الميدان ولاسيما الحاكم الأول الأرمني المحتد داود باشا . وأشاد به كريمسكي فقال: "لقد أظهر مواهب عظيمة في ادارة جبل لبنان .. وأبدى أسمى آيات الرعاية والعناية بالبلاد التي أوكل اليه أمر حكمها". ولم يتوان نجيب الدحداح عن اعتبار نشاطه الكبير في طليعة الحوافز المادية والعوامل الموضوعية الذاتية التي أدت الى ارساء أسس الدولة اللبنانية الراهنة بحدودها الطبيعية ,الى جعل القومية اللبنانية حقيقة واقعة".

واخلاصا منا للتاريخ نقول: "ان الشعور بالحق والعدل" و"المواهب الفطرية" هي التي مكنت داود باشا من الوصول الى أعظم الانجازات في ميدان توطيد النظام والقانون، واستباب الأمن والاستقرار، واصلاح ذات البين بين الطوائف المتناحرة – وهذه الأمور العصيبة الحل كانت في الحقيقة من رابع المستحيلات في نظر أشد الناس تفاؤلا. ولعل تكريس الطائفة رسمية في الحياة الاجتماعية – السياسية عن طريق النظام الأساسي في جبل لبنان كان من أخطر العوامل الفاعلة على الساحة . اذ تحول الى المحرك الرئيسي في هيكلة ونشاط البنى الاجتماعية الادارية والقضائية والعسكرية في جبل لبنان المستقل. الأمر الذي يعني تفكيك أوصال وحدة اللبنانيين التي شيدوها بالعرق والدم عبر الأجيال، وذر قرن الاصطراعات الدينية – المذهبية بين مختلف الطوائف، وزرع الشكوك والمخاوف في جميع مناحي الحياة، لذلك كله كان مفتاح الحل والتسوية للخروج من هذا المأزق عن طريق التقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافين ولاسيما في ميدان التربية والتعليم والتنوير.

من المعروف أن المدارس البيروتية ذات الطابع الطائفي المذهبي المتصارعة فيما بينهما بتأثير الأوضاع المأساوية القائمة، تركت ذات الآثار السلبية على المدارس الموجودة في جبل لبنان. وهنا بالذات برزت العراقيل التي اعترضت طريق داود باشا ولاسيما المقاومة العنيفة التي أبداها الكاثوليك، والتي تغلب المتصرف عليها بشق الأنفس. وبعدئذ فقط تمكن الحاكم الجديد من تأسيس العديد من المدارس الابتدائية العلمانية، ومن أشهرها "المدرسة الداودية الدرزية" في عبية التي حملت اسمه. ومن اللافت للنظر أن هذه المدارس الوطنية الرسمية كانت الأولى من نوعها في المشرق العربي، اذ اتبعت المبدأ العلماني في التدريس فكان التلاميذ من الطوائف والملل والأجناس يجلسون معا على مقعد واحد، وأكثر من ذلك، فالمدرسة الداودية كانت مخصصة للتلاميذ من أبناء الطائفة الدرزية الذين بقوا دون تعليم، فكان لها الفضل الكبير في حقل تطوير العلم والثقافة بين الدروز في الجبل.



شبكة المدارس الوطنية

ان سياسة اعادة الوفاق بين الطوائف المسيحية المختلفة، والمشاريع التعليمية التثقيفية التي صبت في مجرى هاتيك السياسة التي مارسها داود باشا، لقيت استحسانا كبيرا لدى أوساط رواد النهضة البيروتية الذين لعبوا دورا هاما وايجابيا عبر المدارس الوطنية الحديثة المولد. ففي تلك الفترة، كان المعلم بطرس البستاني قد انتهى من وضع قانون "المدرسة الداودية الدرزية" وسلمه الى داود باشا ثم سار على منوار الأخير فأنشأ مدرسة علمانية عرفت باسم "المدرسة الوطنية"، التي رأى كراتشكوفسكي عن غير حق انها "مدرسة من نمط المدارس التبشيرية" ، وهي في حقيقة الأمر منهاضة تماما للتبشير الديني أو المذهبي. ومن أسطع الأمثلة على ما نقول المقال الذي دبجه سليم البستاني في مجلة "الجنان" حول خلاصة عقيدة بطرس البستاني في مجال التربية والتعليم. فبعد التأكيد أن معظم المدارس التبشيرية ذات رسالة دينية – مذهبية "أنشئت بهدف التأثير على أذهان الناس تأثيرا دينيا – روحيا" أو لنشر هذه وتلك من اللغات الأجنبية، يتابع خواطره قائلا: "فأولادنا يتلقون معلومات عن بلاد بعيدة عنا وغريبة علينا، بينما لا يعلمون أي شيء عن بلادنا .. انهم يعرفون كل شيء عن صروح باريس وأنصابها وأسواقها وشوارعها، وعن تاريخ الانكليز والألمان، ولكنهم يجهلون تماما تاريخ بلادهم ودولتهم وشعبهم". ويستطرد البستاني قوله بأ، تعليما كهذا يكرس الفرقة والتجزئة، والتمزق والتشرذم داخل صفوف الشعب، ويجتث من الجذور التراث الثقافي الخاص، بينما يتركز الهدف الرئيسي للمدرسة الوطنية في تدعيم أسس المحبة والوفاق، والتضامن والتآخي بين أبناء الشعب الواحد. وفي استئصال أسباب التعصب الديني والعقدانية والانقسام الطائفي. ثم يخلص البستاني الى ما يلي: "مادام معظم المدارس بيد الافرنج فان الطريق الى الاصلاح المنشود سيظل مسدودا". والاصلاح المنشود برأيه هو: ترسيخ أسس الوحدة الوطنية. ويختتم البستاني بتأكيده أن علوم التراث يجب أن تكون أس الأساس فيقول: "وحفاظا منا على الميزات الخصوصية لأبناء الأمة يجب علنيا السعي لخلق نظام تعليم موحد يزرع في عقول الناس مبدأ الوطنية".

مثلت "المدرسة الوطنية" البستانية ظاهرة هامة وبارزة في الحياة الاجتماعية – الثقافية ببيروت، لأنها – كما يدل اسمها – مدرسة امتازت بأداء رسالة وطنية سورية - عربية علمانية، بدلا من التبشير المذهبي. فقد شرعت أبوابها أمام أبناء جميع الطوائف، مما حفز تطور الحركة التنويرية القومية – العبية. وبعد تصرم عشر سنوات على انشائها أذاع المعلم بطرس البستاني في "الجنان"اعلانا جاء فيه: "قررنا يومها انشاء المدرسة الوطنية على أساس وطني، لا طائفي"، وأن "أبوابها كانت وستظل مفتوحة أمام تلامذة من جميع الطوائف والملل والأجانس من دون أن تتعرض لمذاهبهم الخصوصية أو تجبرهم باتباع غير مذهب والديهم، مع اعطاء الرخصة التامة لهم في اجراء فروض دياناتهم". غير أن هذا لا يعني أن المدرسة البستانية كانت تدعو الى قومية عثمانية ، بل قومية سورية – عروبية، لأن مؤسسها ركز دائما على الحقائق التالية: "ان المدرسة تهتم بتعزيز جانب اللغة الأم (يقصد العربية – المؤلف) اذ ان التعرف على الوطن الأم، واستيعاب العلوم التي طورها الأجانب بلغاتهم الأم أيضا وغيرها من أسباب رقي الانسان مرتبطة الى حد بعيد باتقان اللغة الأم كالرضاع من حليب الأم، لا بل وأكثر من هذا، "ستعنى المردسة بالحفاظ على مشاعر حب الوطن والتضحية في سبيله حتى لا يكون الطلاب غرباء في وطنهم".

وقد أشرف المعلم بطرس البستاني على ادارة المدرسة الوطنية، فتعاقد مع المعلمين الكبار نصارى ومسلمين عملا بمبدأ استخدام الأستاذة من مذاهب وأجناس مختلفة آخذا بالحسبان الكفاءة والاقتدار. فكان ناصيف اليازجي يدرس اللغة والآداب العربية والشيخ يوسف الأسير يدرس الفقه وعلوم الدين الإسلامي الأخرى، كما جمع حوله نخبة من أساتذة المبشرين البروتستانت الذين درسوا الرياضيات والطبيعيات واللغات الأجنبية (التركية والفرنسية والإنكليزية) والآداب الأجنبية. وقد نالت المدرسة شهرة عظيمة في عموم الشرق العربي فتوافد عليها أكثر من مئتي طالب من الأقاليم العربية التابعة للسلطنة العثمانية. ولم يقتصر الأمر على هذا وحسب. فقد توجه اليه أهل البصرة سنة 1876 بالتماس يرجون فيه انشاء مدرسة مماثلة في مدينتهم ، فارسل واحدا من اقربائه وهو سليمان البستاني لآداء هذه المهمة الجليلة.

في ذلك الوقت توسعت المدارس ومارست نشاطا تنويريا عظيما في بيروت، وخاصة المدارس اليسوعية الابتدائية. ومدرسة الرحمة للراهبات التي ضمت نحو 800 راهبة، وفي سنة 1865 تأسست المدرسة البطريكية للروم الكاثوليك برعاية البطرك جرجس عيسى، فظهر من تلامذتها جماعة من الأدباء، وكانت ممتازة بصبغتها الوطنية، وحرية الدين والتعليم شأنها في ذلك شأن المدرسة الوطنية البستانية، وكان التدريس جاريا باللغة العربية وقد تحلق حولها لفيف من كبار الأستاذة البارزين، أمثال :اليازجي، والشيخ ابراهيم الباقي، وسليم بك تقلا، والجراجيري بطرك المستقبل. كما تم افتتاح أو اعادة تنظيم العديد من المدارس الكلية التي أخذت تحذو حذو المدرسة الوطنية البستانية. وقد أنشأ المطران يوسف الدبس "مدرسة الحكمة" سنة 1865 وتوسعت سنة 1874، وهي للطائفة المارونية، كان التعليم فيها بالفرنسية. وكانت المدرسة الأرثوذكسية في بيروت قد أقفلت أبوابها، وتأسست سنة 1866 في سوق الغرب مدرسة الثلاثة أقمار ( وهم القديسون باسيليوس الكبير، غيرغوريوس النازيانزي ويوحنا فم الذهب)، فكان لها شأن عظيم بين المدارس الوطنية خلال عمرها الطويل.

غير أن وجود المدارس الوطنية في بيروت والجبل الرفيعة المستوى على غرار المدارس البستانية ، لم يحل دون تطوير المدرسة الكلية التي انشأها المبعوثون الأمريكيون سنة 1862، والتي تحولت عام 1866 الى ما عرف ب"الكلية الإنجيلية السورية"، وهي مؤسسة علمية جامعية. فقد اضيفت الى المدرسة الكلية القديمة كليتان للطب والعلوم التطبيقية (الرياضيات والفيزياء وغيرها). وقد سميت منذ اليوم الأول لتأسيسها ب"الجامعة الأمريكية في بيروت". أما الأموال اللازمة لتحويل المدرسة الكلية الى جامعة فقد جمعت عن طريق التبرعات في الولايات المتحدة بسعي من أول رئيس للجامعة دانيال بلس (1822-1916) ومساعديه الدكتورين فانديك ويوحنا ورتبات.

فتحت الجامعة أبوابها فبلغ عدد طلال كلية الطب 46، ثم وصل الى المئات خلال سنوات معدودة. كان الدكتور حنا ورتبات من أبرز الأساتذة في كلية الطب، وقد ترك لنا مؤلفات وتراجم عديدة في التشريح والفيزيولوجيا نذكر منها: "التوضيح في أصول التشريح"، و"أصول الفسيولجية" و"أعضاء جسم الإنسان ووظائفها" و"كفاية العوام في حفظ الصحة وتدبير الأسقام" و"قواعد حفظ الصحة" و"وصايا الشيوخ للشبان" وغيرها.

ونشر ورتبات بالانكليزية دراسات حول أديان سورية، ومعجم عربي إنكليزي له وللدكتور بورتر، وكتاب "حكمة العرب" فضلا عن الكثير من المقالات العلمية – الطبية التي كانت تساهم في تنوير أذهان الناشئة العربية. وحسبنا فيه شهادة عظيم عبقري وهو الدكتور فانديك الذي قيم تقييما موضوعيا نشاط هذا الرائد النهضوي الأرمني الأصل والنشأة: "لم يكن يضع تفرقة في الدين والجنس والعرق وما الى ذلك. كان على علاقات حميمة وطيبة مع الأرمن في بيروت وغيهرا. وكان عظيما في مؤاساته وعطفه على أبناء شعبه الأرمني الذي قاسى الأمرين من ظلم السلطان عبد الحميد الأحمر الدامي، فهو لم يخف يوما أصله الأرمني، بل كان يعتز بها. وفي الأعوام الأخيرة من حياته اعترت يقينياته بعض الشكوك، فكان يكرر دائما كلاما من هذا النوع: "يخيل لي أن اللع عكس ما يبشر به رجال الكهنوت. فلو كان عليما وبصيرا وعادلا رحيما لما سمح بأن يعذب الأرمن ويذبحوا على هذا الشكل المروع الفظيع".

وقد قدم المعاصرون شهادات وثائقية تفيد بأن يوحنا وارتبات كان طبيبا انسانيا يواسي الضعفاء ويعين الفقراء والمحتاجين ويساعد الكادحين بعقولهم وسواعدهم وينير عقول الشباب المتطلع الى مراقي العلم والمعرفة. فقد وصفه المبشر جوسب في مذكراته فقال: "كان انسانا نشيطا وحيويا جدا، عالي الثقافة وطبيبا قديرا ... كان رحوما وعطوفا على الفقراء من المرضى بوجه الخصوص"، وله وحده كل الفضل في انشاء مشفى "العصفورية" على مقربة من بيروت، الذي كان في واقع الأمر مركزا لأداء الخدمات الانسانية أكثر منه مشفى لمعالجة المصابين بالأمراض النفسية والعقلية. ومن روائع أعماله وتضحياته بالنفس في سبيل آداء واجباته الانسانية كطبيب وانسان، أنه كان يعرض حياته للخطر بالعمل ليلا ونهارا في الأحياء الشعبية ابان انتشار الأمراض السارية والأوبئة في بيروت.











2-تقييم نشاط الجمعية العلمية السورية والحركة المسرحية والتمثيل العربي

في ظروف اعادة الأمن الى ربوع لبنان والنجاح في تطبيق نظام الحكم الذاتي والانتعاش الملحوظ في مديان التعليم ، عاودت الجمعية نشاطها سنة 1867، فنالت اعترافا رسميا من السلطات العثمانية وأصبح اسمها "الجمعية العلمية السورية".

وبامكاننا تكوين فكرة كاملة عن أهداف الجمعية ونشاطها من خلال مواد "مجموعة العلوم في أعمال الجمعية العلمية السورية" التي صدرت دوريا من 15 كانون الثاني (يناير) 1868 إلى 25 آيار (مايو)، أي عشر مجموعات في السنة الأولى وسبع في الثانية. وتشير المواد الى أنه اذا كانت الجمعية الثانية مختلفة في التسمية بعض الشئ عن الأولى، فانها مطابقة لها في الأهداف تماما، رقي الوطن وازدهاره عن طريق نشر المعارف، تطوير فن التدريس والتعليم، ونشر الثقافة الأوربية عموما، واحياء اللغة والثقافة العربيتين. وبالفعل، نصت المادة الأولى من النظام الداخلي للجمعية أنها تسعى الى التثقفيف الشامل لأعضائها، وأنها تنوي "اتخاذ خطوات لأجل نشر المعارف والعلوم" للوصول عن طريق ذلك الى "رقي الوطن وازدهاره" ومن جانب آخر، أكدت كسابقتها أن المواد المنشورة في مجموعة أعمالها لن تمس القضايا السياسية ولا مسائل العقيدة.

يمكن أن يكون عضوا في الجمعية "كل شخص غيور على مصلحة الوطن ومنفعته". وقد بلغ أعضائها سنة 1868 نحو مئة وخمسين عضوا ، في العام التالي نحو 210 أعضاء. تدل هذه الأرقام دلالة واضحة على أن بيروت شهدت تقدما كبيرا في ميدان التعليم والتنوير خلال عقدين من الزمان. ومن البراهين القاطعة على ذلك أن المبعوثين الأجانب لم يعودوا يشكلون أغلبية عظمى في الهيئة التأسيسية والقيادية للجمعية، لا بل ان نخبة من المنورين الأوائل أمثال فانديك ويوحنا ورتبات وبطرس البستاني وخليل الخوري وغيرهم قد غابوا عن رئاسة الجمعية، رغم أن محاضراتهم وخطبهم كانت تثير مزيدا من الاهتمام، وتلاقي أصداء واسعة في الأوساط الاجتماعية، كما حدث مثلا للكراس المنشور تحت عنوان "خطاب في الهيئة الاجتماعية والمقابلة بين العوائد العربية والإفرنجية، للمعلم بطرس البستاني.

اذا كانت الجمعية العلمية السورية دليلا على ارتقاء المستوى الثقافي والفكري في بيروت. فانها في ذات الوقت عكست التغييرات الاجتماعية – الفكرية في أوساط المنورين اللبنانيين، الأمر الذي يقودنا للاعقتاد بأن التوءمة بين هذه الجمعية واسبقتها ليست سوى توؤمة مجازية، اذ أنها شكلت في الحقيقة نوعية جديدة في تاريخ التحرك النهضوي والتنوير العربي.

الجديد قبل كل شيء يتركز في الحقيقة التالية وهي: أن معظم الرواد الوطنيين الذين شكلوا الصفوة في الجمعية السابقة، تحولوا هنا الى أعضاء عاديين بحكم تعاقب الأجيال. فقد نبغت طائفة معاصرة من العلماء والأدباء والوجهاء في هذه الجمعية، نذكر أبرز رجالهم ومفكريهم: الشيخ ابراهيم اليازجي وحبيب اليازجي (أبناء الشيخ ناصيف اليازجي)، وسليم البستاني الأديب الصحافي اللامع (ابن المعلم بطرس البستاني)، وحنا أبكاريوس (الأخ الأصغر لإسكندر أبكاريوس)، وسليم شحادة المؤرخ والجغرافي الشاب الباركز، وحبيب بسترس مترجم تارخي هيرودوس، وغيرهم من الشباب أبناء البيوتات البرجوازية الكبيرة.

بيد أن تناوب الأجيال لم يقتصر على التغيير في الأشخاص والأعضاء العاملية في الجمعية وحسب، بل وأحدث انتعاشا ملحوظا في الفكر الاجتماعي وتحولا كبيرا في وعي الأفراد والجماعات ازاء التحولات والمتغيرات الجارية في المجتمع. ومن المستجدات البارزة في عملية الانقلاب الفكري أن الشيخ يوسف الأسير الذي كان طوال حياته على اتصال دائم بالوسط المسيحي والعضو المسلم الوحيد في الجمعية السابقة، فان المسلمين العرب شكلوا في الثاني وزنا كبيرا. والأمر الأكثر طرافة أن اللغوي والأديب محمد أمين ارسلان (1834-1868) المنتميى إلى عائلة أرسلان الاقطاعية – الأرستقراطية المشهورة في جبل لبنان، كان أول رئيس للجمعية العلمية السورية، فكان قصره في بيروت "كعبة الأدباء واللعماء وكان يعضد طلال العلم" . كما يقول جرجي زيدان. فاجأته المنية وهو في ريعان شبابه فخلفه نائبه الحاج حسن بيهم (1833-1881) في 20 كانون الثاني (يناير) 1869 وهو سلسل أسرة سنية عريقة في الحسب والنسب، كان قد تلقى علومه على الشيخ محمد الحوت والشيخ عبد الله خالد. وبعد أن زاول التجارة حينا يسيرا، نزع الى الشعر وبرع في فنون الإنشاء. تقلد وظائف شتى في خدمة الحكومة العثمانية والوطن. وبعد عودته الى بيروت اعتزل الوظائف الحكومية منقطعا الى الأدب والمطالعة وعمل الخير _رغم انتخابه سنة 1876 نائبا عن بيروت في مجلس النواب التركي). عمل مع أخويه محيي الدين ومحمود على خلق حركة أدبية – علمية داخل الطائفة السنية على غرار ما يقوم به المسيحيون من نشاط ثقافي تنويري. وكان نائبا الرئيس حبيب الخوري وسليم البستاني، وأمينا السر عبد الرحيم بدران وسليم شحادة، والمحرران، سليم رمضان وموسى فريج، ومدير الأشغال حبيب جلخ، وأمين الصندوق رزق الله خضرة، ومدير المكتبة يوسف الشفلون.

وبحكم الانتماء المذهبي المتباين توسعت الرقعة الجغرافية للأ‘ضاء المراسلين في الجمعية، اذ لم تقتصر على مدن دمشق وطرابلس وصيدا وصفد وحسب، بل شملت الأستانة والقاهرة والإسكنردية والقدس وحيفا ويافا وعكا وحماة وحمص واللاذقية وبعلبك وبيت الدين ودير القمر.

نشير بهذه المناسبة الى أن انتساب بعض الأعضاء ذوي الألقاب المتوارثة للأسر الاقطاعية الأرستقراطية (الأميران محمد ومصطفى أرسلان وأقرباؤهم الامير شهاب السعدي، والشيخ سعيد التلحوق، وغيرهما من الدروز، والشيخ خطار الدحداح من الموارنة، والشيخ علي بك حمادة من المتاولة) كان قد وشم الهوية الاجتماعية للجمعية بوشم اقطاعي (كانت الجمعية السابقة مؤلفة من أبناء وممثلي الطبقة الرجوازية)، ولكنه لم يغير قط من طابعها البرجوازي الميهمن، وكان ضروريا جدا – مهما بدا ذلك من المفارقات – من زاوية الترويج لأفكار الجمعية الاجتماعية والسياسية القومية التي تعكس من حيث الجوهر ميول البرجوازية.

هذه المفارقة لا تثير الدهشة لدى القارئ اللبيب المطلع والعارف لتاريخ لبنان، لأن مصدرها نابع – ولا شك – من خصوصيات ومميزات المجتمع اللبناني.

ناهيك بأن وجود هؤلاء الأعضاء سليلي الأسر الاقطاعية – النبيلة ذات الدور الهام في تاريخ لبنان – شكل مظلة واقية لتبديد شكوك السلطات التركية ازاء أي مظهر لنشاط السكان الاجتماعي، منعهم من التدخل في شؤون الجمعية. ومصداق قولنا انضمام كبار رجال السياسة والدولة الى صفوف الجمعية، منهم، فرنكو باشا متصرف لبنان، والأمير مصطفى فاضل شقيق الخديوي اسماعيل، والباشا سليمان أباظة، والباشا أحمد أباظة من مصر، والباشوات العثمانيون فؤاد باشا ناظر الخارجية الأسبق، وكمال باشا والي بيروت, ويوسف كمال رئيس المجلس الاداري الكبير، ومحمد رشيد وزير الحربية، علاوة على الكثيرين من الدبلوماسيين ميرزا حسين خان سفير إيران في إسطنبول، وقناصلة أمريكا في دمشق وصيدا وطرابلس، والقنصل الروسي في طرابلس وغيرهم.

ثمة اعتبار آخر هام جدا لا يحق لنا التغاضي عنه فيما يخص قضية وجود هؤلاء الوجهاء اللبنانيين في سلك الجمعية العلمية السورية، فنخبة الأدباء الدروز كانوا من العقال (رجال الدين البارزون) الذين يشكلون الغالبية المطلقة من الطبقة الاقطاعية الأرستقراطية، وهذا التأكيد ينسحب أيضا على الطائفة العلوية، التي ضمت عددا قليلا من الأدباء ورجال الدين أو بعض ممثلي الأسر الاقطاعية التي حافظت على بقائها بشق الأنفس بسبب ما كانت تعانيه من مظالم الحكم التركي أو من جور الطائفة السنية بالذات. واذان، كان من الواجب على القوى الطليعية في الجمعية أي ممثلي البرجوازية المسيحية، ان يتعاونوا مع المثقفين المسلمين من أبناء الطائفتين الأساسيتين الدرزية والعلوية، تمشيا مع سياسة التضامن والتكافل التي عمت أرجاء الجبل ولبنان إثر توطيد مواقع الحكم الذاتي. وضمن هذا السياق يجب لفت الأنظار الى الحقيقة الهامة التالية: ان رجال الفكر الذين شاركوا في نشاط الجمعية العلمية السورية من أبناء هاتين الطائفتين كانوا من الأسر الاقطاعية – النبيلة المعروفة بوطنيتها الصادقة أو بعدم مشاركتها في الصدامات الطائفية المروعة (أسرتا شهاب وتلحوق من الدروز وليستا أسرتي جنبلاط ونكد، وآل حمادة وليست عائلة حرفوش من العلويين)، بمعنى آخر، الأسر التي ظلت واقفة الى جانب المعسكر الشهابي طوال ربع قرن من تاريخ الغاء الامارة الشهابية، أي جبهة الانصار التي كانت تتطلع الى توحيد جميع الأراضي اللبنانية في دولة قوية وتحت قيادة مركزية موحدة، ومن اللافت للنظر أيضا أن أسرة الدحداح كانت الوحيدة بين الأسر الاقطاعية – الأرستقراطية المارونية الوحيدة (وليست أبدا أسر الخازن وكرم وغيرها) التي انضم ممثلوها الى الجمعية العلمية السورية.

سبق لنا استعراض الآراء السائدة في علم الاستعراب حول الجمعية السورية الأولى، ولاسيما رأي ليفين المتعلق بنسبة رواد النهضة الأوائل (واللاحقين أيضا) ألى أوساط "اقطاعية – ربوية" ومن أن "الدافع الى النهضة العربية كان يكمن بادئ ذي بدء في تطلع الأوساط الاقطاعية – الأرستقراطية الحاكمة الى صون مواقعها في صراعها مع أوربة". وبرهنا في موضعه أن "حركة التنوير" ذات النزعة العسكرية التي قام بها محمد علي عبرت عن استعدادات الأوساط الاقطاعية الأرستقراطية الحاكمة، وفي المقام الأول محمد علي وأسرته الخدييوة. للدفاع المستميت عن مصالحها الأنانياة ضد أي استفزاز قد يقع عليها من أوربة أو من قبل السلطان عى حد سواء. واذن، حتى لو سلما جدلا بأن أعضاء الجمعية من أبناء الأسر الاقطاعية – الأرستقراطية العالمين تحت سقف جمعية برجوازية نهضوية، لم يكونوا برجوازيين أو نهضويين بالمعنى الحرفي، فان ذلك يلزمنا للتطرق الى قضية هامة.

كان المشرق العربي جزءا من الشرق العثماني الذي يعير اهتماما عظيما الى الألقاب الفخرية الرنانة، ولذا كانت ألقاب الوجهاء والأعيان في الجمعية بمثابة مفاتيح سحرية لفتح جميع الأبواب الموصدة. هذه حقيقة لا يختلف فيها اثنان. ولكن يجب ألا ننسى أن هؤلاء الأشخاص لم يكونوا قد حرمون من امتيازاتهم الاقطاعية، الأرستقراطية (ولاسيما حق الملكية العقارية المشروطة) وسلطانهم السياسي وحسب، لا وأنهم أرغموا على التنازل عن حقهم في الملكية غير المشروطة لصالح العناصر البرجوازية والفئات التي تبرجزت في الريف. فأصبحوا في الظروف الجديدة الأكثر اعتدادلا في طبقتهم، واختلطوا مرغمين في بيروت مع الشباب البرجوازيين الذين جعلوا بقوة أموالهم من هاتيك الألقاب مادة للبيع والشراء: فآل مطران نالوا لقب "باشا" وعوائل بسترس وأبكاريوس وثابت وحبالين ومدور وتويني وبحري ورزق الله وتقلا حازت على لقبي "بك" و"أفندي" وأسرة دي فريج تلقبت ب"مركيز" ودي طرازي ب"كونت" . وهم بما تبقى لديهم من أموال انتقلوا لممارسة الأعمال التجارية – الربوية - الصناعية. أضف الى ذلك أنهم عانوا كثيرا في حياتهم الاجتماعية القائمة على المعايير البرجوازية وهم الذين تعودوا على مظاهر التقدير والتبجيل في الوسط الأرستقراطي ، وبالتالي كانت الجمعية العلمية السورية الوسط الوحيد الذي تنفسوا فيه الصعداء وساعدهم على البقاء والاستمرار والديمومة.

ومن المستجدات البارزة في نشاط الجمعية العلمية السورية التي حافظت ظاهريا على احترامها واجلالها تجاه الأعضاء ذوي الألقاب الفخري العثمانية. أن العناصر ذات النزعة الليبرالية الجذرية اتخذت من الجمعية منبرا لمحاربة العناصر الوطنية المحافظة المدافعة عن فكرة الاتحاد العثماني أو الوحدة العثمانية. فكان صوتها يزداد قوة مع كر الأيام ويلاقي صداه تجاوبا واسعا في أوساط الجماهير العربية. وكان المثقفون المسيحيون ولاسيما الروم الأرثوذكس، يشكلون أغلبية ضمن الفريقين المتنافسين، علاوة على أن بعض المسلمين العرب وقفوا الى جانب الفريق المتحرر. ومن المثير للانتباه ذلك التقارب بين محمد بيهم السني ويوسف سرسق الأرثوذكسي، أي بين قطبي الفئات التجارية الربوية من جهة، وبين البرجوازية الصناعية التي كانت تخطو خطاها الأولى في هذا الميدان، من جهة أخرى، هذه العناصر الطليعية في المجتمع انفصلت تدريجيا بحكم مصالحها الطبقية عن العناصر المحافظة الممثلة للأوساط الاقطاعية المسميتة في الدفاع عن الأنظمة العثمانية – الشاهانية المتحالفة مع البرجوازيين الذين ستروا عريهم بورقة تين "الوطنية". فرائدا الفكر الليبرالي مع أشياعهم وأنصارهم وتحت التأثير غير المباشر لأتباع "الفكر الثوري"، كانوا يميلون شيئا فشيئا نحو فكرة الوطنية السورية – العبية المستقلة. ونحو تحقيق الحد الأدنى من أهدافهم المتجسدة في نيل الاستقلال الاداري والثقافي والاقتصادي للسوريين العرب. وبالفعل، فبعد التعاون التضامني بين بيهم وسرسق تحت سقف الجمعية العلمية السورية، تناوب الاثنان على رئاسة اللجنة المشتركة من النصارى والمسلمين للدفاع عن حقوق العرب وكرامتهم ضد تطاولات الأتراك واستفزازاتهم. وضد سياسة الاضهاد القومي التي مارسها الأتراك الجدد بعد أو ضعت حرب البلقان أوزارها، والتي طرحت المسألة القومية العربية على بساط البحث في اجتماع السفراء بلندن.

وخلافا للعناصر المحافظة وممارساتها الاستسلامية في مجال تقييم الحياة الاجتماعية – السياسية ولاسيما مسألة الطابع القومي للنظام القائم، وعلى النقيض من السلوك النهادني والتخاذلي للعناصر الليبرالية، برزت في اطار الجمعية عناصر لم تكن حقا على صعيد الوعي القومي أرفع بكثير من مستوى الليبراليين الأحرار، ولكنها اتصفت بالاقدام والجرأة على صعيد الممارسة والتطبيق في نشاطها داخل الجمعية السورية، ولذا أسميناها مجازا ب"العناصر الراديكالية". ولكن ينبغي التنبيه فورا الى أن تلك العناصر تحررت سريعا من الأصفاد التي أعاقت حرية الحركة لديها لتصبح عناصر راديكالية ثورية أصلية. ومما لا شك فيه أن المؤرخ انطونيوس أخذ هذه الظاهرة بالحسبان حيث بالغ قبل الأوان في تقديره لدور الجمعية العلمية السورية الثانية فعدها "أول محاولة منظمة لبعث الحركة العربية القومية " و"مهد الحركة السياسية الجديدة".


ابراهيم اليازجي

وابراهيم اليازجي (1847-1906) يمثل برأينا النموذج البارز الذي جسد فكرة القومية العربية العمومية، وليست القومية السورية العربية المحلية النزعة. وهذا هو الفكر الذي طغى على نشاط الرعيل الثاني من أعلام النهضة الحديثة. فمهد العرب بالنسبة للأحرار والراديكاليين العرب لم يقتصر على جزيرة العرب فقط (الحجاز ونجد واليمن)، بل شمل سورية والعراق أيضا، ولذا فوحدة الوطن العربي يجب أن تضم كل هذه الأقطار معا، وأن يعترف له بالاستقلال الاثني والتاريخي والثقافي لوحدة العرب في اطار الدولة العثمانية وتحت ظل الهيمنة التركية. وهنا ينبغي لاتذكير بالقصيدة الوطنية التي ألقاها الشاعر ابارهيم اليازجي في 5 شباط (فبراير) 1868 في احدى جلسات الجمعية العلمية السورية ومطلعها:


تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقط طمى الخطب حتى غاصت الركب


يذكر فيها بأمجاد العرب التليدة، ويتنبأ لهم بمستقبل منير مشرق يتجلى في توحيد الأقطار العربية ونيل الاستقلال الذاتي القومي العربي، حيثن "يصير الهلال بدرا، ويصبح الليل نهارا".

كانت هذه القصيدة كالسنونو الذي يبيشر بمقدم الربيع، بشائر الوعي القومي لدى السوريين العرب، الذي استقطب أنظار الباحثين والدارسين واهتمامهم. والجدير بالذكر أن المضمون الذي رمز اليه اليازجي بالهلال والبدر ظل عصيا على أفهام معاصريه العرب. وقد أشرنا أن المعلم بطرس البستاني كان من أوائل من استخدم الكتابات الرمزية في خطبته الشهيرة حول الثقافة العربية. ولكنه كني عن الهلال "هلال المعارف" اشارة إلى "الأفكار الانسانية النيرة" للسلطان عبد المجيد، أي أنه دعا لاستبدال "هلال المعارف العثماني" "ببدر المعارف" من الطراز الأوربي المستنير. ولكن الرموز التي أشار اليها اليازجي تختلف في معناها ومضمونها اذ تخطت حدود مسائل المعرفة والتنوير البحتة. "فبدر الحرية سيبزغ بالضرورة بدلا من هلال السيطرة التركية" ، وسيتشرق شمس (حرية العرب النيرة) لتبدد ظلام الليل التركي الحالك السواد". ونشير بالمناسبة أن القنصل الروسي بازيلي كان قد أشار في واحدة من تقاريره اشارة واضحة المضمون السياسي – القومي الى الرموز التي عناها الشاعر العربي الوطني ابراهيم اليازجي: "اضافة الى اللقاءات الأدبية التي كانوا (يقصد أعضاء الجمعية) يتحدثون فيها عن أمجاد العرب، أخذوا يتكلمون عن الحكم التركي والنير العثماني. كان الرفاق يجتمعون ليلا ليقرؤوا القصائد الوطنية الحماسية وراء الأبواب الموصدة".

ولا ريب في أن ابراهيم اليازجي لم يبلور فقط أهداف عصره وتطلعاته وطموحاته، بل ولم يعارض التعصب الديني والانقسام الطائفي بدعوة العرب الى التآلف والتآزر والتضامن والوحدة فحسب، بل وكان ينظم الأشعار التي شرعت تتردد على كل شفة ولسان في ذلك الزمان، والتي تعطينا تصورا كاملا عن الأصولية والثورية اللتين تمتع بهما جيل الشباب العرب الأحرار، الذين شكلوا نيارات سياسيا قويا متكاملا.


"تنبهوا واستفيقوا أيها العرب"


الشطر الأول من مطلع قصيدة الشاعر اليازجي، يذكر فيها "بالنخوة والشمائل العربية، و"أماجد العرب العظيمة" ويدعو المواطنين العرب الى التعاون والوحدة من أجل اسقاط النير التركي المقيت:

لنطلبن بحد السيف مأربنا فلا يخيب لنا في جنبه أرب

ونتركن علوج الترك تندب ما قد قدمته أياديها وتنتحب


أشعار اليازجي تحولت الى شاعارت رفعتها الحركة السرية الثورية في بيروت عبر مناشيرها التي ندتت بظلم الأتراك ودعت الى استقلال العرب. فقد أطلق اليازجي نداء اليقظة العربية في قصيدته المعروفة بالبائية، فقال:

تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب

فيم التعلل بالآمال تخدعكم وأنتم بين راحات القنا سلب

لا دولة لكم يشتد أزركم بها ولا ناصر للخطب ينتدب

ومن يعش ير والأيام مقبلة يلوح للمرء في أحداثها عجب


كان اليازجي قد وقف مغزى حياته على قرض أشعار تدعو العرب للنضال ضد الأتراك، ويناشد مواطينه العرب الثورة بقوله:

فالترك قوم لا يفو ز لديهم الى المشاكس

أولستم العرب الكرا م ومن هم الشم المعاطس فاستوقدوا لقتالهم نارا تروع كل قابس


من الجلي أن الرعيل الأول من المفكرين المحافظين، وحتى الأحرار الذين التفوا حول الجمعية العلمية السورية في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، لم تتوفر لهم الظروف المناسبة أو القدرات الفكرية الوافية لطرح شعارات ثورية أكثر تقدمية. كما فعل الجيل اللاحق من رجال النهضة وأعلامها. وقد تلخصت طروحاتهم الأساسية على الشكل الآتي: العلم والمعرفة معا حجر الزاوية للتقدم والنهوض القومي – الثقافي ضمن الاطار العثماني والوفاء والاخلاص للوحدة العثمانية ، وعليه فجميع الأهداف والغايات يجب أن تصب في القنوات الموصلة الى تحقيق الهدف الرئيسي المتجسد في الاتحاد العثماني. ولكن، ظهرت في تلك المرحلة ايضا تباشير انقلاب في الفكر الثوري – الراديكالي الذي أخذ يفرض نفسه رويدا رويدا على الساحة.

أما الأوساط الفكرية التي مثلت مصالح البرجوازيين التجارية – الربوية في الأساس (وهي البرجوازية التي خدمت مشاريع استثمارات الرأسمال الأجنبي، وعملت بالتالي على توفير المواد الأولي الضرورية لأرباب الصناعة في أوربة، وسهلت عملية تصريف البضائع الأوربية المستوردة في الأسواق الداخلية)، وفي ظروف الضعف الكمي والنوعي للبرجوازية المهتمة بالصناعة الوطنية، فقد تجلت نزعتها التحررية في اتخاذ موقف الاستياء والتذمر من الأوضاع المزاحمة التجارية الاقتصادية الأوربية، الأمر الذي وجد انعاكسا له في نشاط الجمعية التي كانت تطرح معالجة القضايا الحيوية الملحة المتعلقة "بتقديم المعلومات العامة المفيدة عن شتى نواحي الحياة اليويمة وميادين الزراعة والصناعة والتجارة.

ولعل أهم المحاضرتين اللتين القاهما كل من سليم كساب "حول أوضاع الصناعة الوطنية"، والمركيز موسى دي فريج حول "الزراعة" تعبران أصدق تعبير عن الاتجاهات المعارضة لسياسة الدول الأوربية الاقتصادية في سورية، التي تحول دون القيام بمبادرات خاصة ترمي الى القضاء على التخلف الاقتصادي في البلاد. ولم يتوان الكاتبان عن التركيز على الأوضاع المآساوية السائدة في الزراعة والصناعة والتجارة. فقد أكد كساب أن سورية تسير بسرعة الى هاوية الخراب الاقتصادي والبؤس والفقر. ولم يتردد المحاضر عن تشخيص الداء وتبيان طبيعة الخلل، فلفت الأنظار الى أن تدهور الحرف الوطنية يشكل أحد الأسباب الرئيسية للانحطاط الاقتصادي ، مشيرا الى أن الكثير جدا من المنتجات الأجنبية المصدرة الى سورية تنتج في البلاد، ولكن بنوعية رديئة طبعا. وقال: "ان جزءا من المواد الأولية السورية الرخيصة يعود الينا في هيئة سلع تباع بأسعار عالية جدا".

ينبغي التذكير بأن التفاصيل معدومة تماما بشأن نشاط الجمعية العلمية السورية الثانية بداء من سنة 1869 الى أواخر 1873 سنة توقفها عن العمل. وكل ما هنالك عبارة عن اشارات عابرة في شتى المراجع الأخرى. والحقيقة التي لا مراء فيها أن الجمعية الثانية أولت انتباها أكثر من الأولى الى قضايا تطوير الأدب العربي الحديث، وهذا ناتج بالطبع عن ظهور صفوة ممتازة من الشعراء والأدباء وكتاب المسرح الذين برزوا في أعمالهم الابداعية ونتاجاتهم الخلاقة الأصيلة، فضلا عن أنشطتهم التي لم تعرف الكلل والملل.


الأدب المسرحي والتمثيل العربي

من الجدير بالذكر أن التأليف المسرحي احتل عصرئذ مكانة مرموقة في الأدب العربي الحديث. ومع أن مؤرخي الأدب العربي، ومن بينهم كريمسكي، عللوا هذه الظاهرة بأن ثلاثة من الأعضاء القياديين في الجمعية كانوا من كتبة المسرح ولكن هؤلاء المؤرخين لم يطرحوا على أنفسهم السؤال التالي: ما هو السبب الحقيقي لرواج الأدب المسرحي لدى هؤلاء الكتاب الشباب الذين كانوا من أوائل المنورين في النهضة الحديثة، ورغم أن هذا الفن الأدبي لم يكن له وجود حتى ذاك التاريخ، وان تطعيمه بالطابع الشرقي – العربي – التثقيفي تطلب جهودا جبارة؟!

السبب الحقيقي هو أن هؤلاء الرواد العظام أدركوا أن الخروج بالعمل التنويري من اطار المدرسة والصف، يتطلب في المقام الأول ايجاد مؤسسة خاصة مناسبة ومهيأة لتقديم الغذاء الروحي وجعله ضرورة اجتماعية ملحة للناس فيتهافتون عليها يوميا. فكان المسرح هو السباق الى ذلك والأداة الفعالة للتأثير على جماهير الشعب تأثيرا تنويريا من خلال الأدب المسرحي على صفحات الجرائد اليومية ، والتمثيل علىخشبة المسرح يوميا أيضا.


من المرجح أن فن التمثيل كان قد وجد طريقه في سورية عبر المدارس التبشيرية المسيحية، وحتى في الوسط الاسلامي عشية القرن التاسع عشر، وكان بالطبع ذا صبغة دينية – مذهبية. لكن المسرح كما هو عند الافرنج شكلا ومضمونا تأسس في بيروت بمبادرة من عضو الجمعية السورية الأولى، الصيداوي الأصل مارون النقاش.


مارون النقاش رائد المسرح العربي

النقاش هو "أبو المسرح العربي، والرائد الأول لفن التمثيل، من الوجوه البارزة التي شكلت خطا فاصلا بين رواد النهضة السوريين والمصريين . فالحقيقة التي لا هراء فيها أن الرواد المصريين كانوا مكبلين بأغلال الحياة الاقطاعية من حيث الشكل والمضمون، وبقيود "التنوير" ذي النزعة العسكرية التي اضطلع بمهامها محمد علي حاكم مصر. فلنعد بذاكرتنا الى التقييم الرائع الذي قدمه الطهطاوي عن المسرح الأوربي، فهو لعمري أول محاولة من نوعها في هذا المضمار. وها هو ذان النقاش مارون الذي كان يتقن اللغات الفرنسية والايطالية والتركية يعود من رحلته الى أوربة ليدون خواطره فيقول: "رأيت مسارح ترمي الى تهذيب النفس وصقل طابع الانسان". وكان يعرف حقا ان كتابات النقاش ظلت مخطوطة أكثر من عشرين عاما (نشرت مقدمة لمسرحياتها المطبوعة في كتاب "أرزة لبنان" مع مقدمة مسهبة لأخيه نقولا نقاش سنة 1896)، لكنه اتخذ من فن التمثيل سلاحا ماضيا لتنوير عقول الناس، وشرع في العمل وجمع نخبة من أصدقائه ومعارفه علمهم التمثيل، وعرب لهم مسرحية "البخيل" لموليير (1845) وأقتبس من حوادث ألف ليلة وليلة ليؤلف مسرحية "أبو الحسن المغفل وهارون الرشيد" (1850). وفي سنة 1851 أنشأ مسرحا بجانب منزله مثل فيه رواية "الحسود السليط" لموليير أيضا بعد أن عدل فيها ما يوافق طباع الشرقيين.

ورغم أن مسرح النقاش تحول بعد وفاته الى كنيسة (عملا بوصيته)، فان حب المسرح لم يختف من أوساط المجتمع البيروتي. فنقولا النقاش (1825-1894) الأخ الأصغر لمارون، الشاعر والكاتب المسرحي بادر الى تأليف جملة من الروايات التمثيلية العربية فجاءت باكورة أفكاره تشهد بطول باع مؤلفها: وهي كما يأتي: "الشيخ الجاهل" و"الموصي" و"ربيعة" . كانت العروض المسرحية تبدأ بمدائح السلطان عبد المجيد. وفي سنة 1863 مثلت رواية "تلماك" لفنلون، والتي نقلها الى العربية بتصرف العلامة اللبناني سليم بطرس البستاني، ومثلت على مسرح مدرسة البستاني الوطنية. وقد بادرت الجمعية العلمية السورية لعرض عدة مسرحيات سنة 1868، نذكر منها "قيس وليلى" من الشعر الروائي التمثيلي ، و"الاسكندر المقدومي" الرواية التاريخية لسليم البستاني.

وقد دخل المسرح البيئة الاسلامية في الستينيات، ففي عام 1876 نشر عبد الغني سليم رمضان مسرحية هزلية عنوانها "السروجي الخداع" على منوال مقامات الحريري. أما الشيخ ابراهيم الأحدب الطرابلسي (1826-1891) فقد ألف روايتين تاريخيتين "ذو القرنين" (هكذا يسمي العرب الإسكندر المقدوني – المؤلف) و"ابن زيدون في الأندلس".


2- نزعة الى الجامعة الإسلامية

كتب لينين في المسودة الأولية للموضوعات "حول المسألة القومية والكولونيالية" التي أعدها خلال أعمال التحضير للمؤتمر الثاني للأمعية الشيوعية. ونشرت في حزيران (يونيو) 1920 ما يلي: "وبشأن الأمم والبلدان الأكثر تأخرا، حيث تسود العلاقات الاقطاعية أو البطريركية – الفلاحية، يجب الأخذ بالحسبان أولا – ضرورة تأييد جميع الأحزاب الشيوعية لحركة التحرر البرجوازية، ثانيا – ضرورة الكفاح ضد العناصر الاقطاعية – الإكليركية وغيرها من القوى الرجعية ذات النزعة القروسطية، وذوي النفوذ والتأثير في البلدان التي تحاول توحيد الحركة التحررية المعادية للإمبريالية الأوربية والأمريكية بتعزيز مواقع الخانات والاقطاعيين والملالي ومن لف لفهم"؟

نشير بدائ ذي بدء الى أن نزعة الجامعة الإسلامية تكونت بوصفها مذهبا متكاملا منذ مطلع الستينات على يد أحمد فارس الشدياق الذي نسج خيوطها طوال خمسة أعوام من الجهد المتواصل، وطرح أفكارها على الساحة، فسارع الى تبنيها مباشرة المثقفون الأتراك وغير الأتراك المتفانون في خدمة السلطان في فترة الثمانينيات والتسعينيات يوم تسلم جمال الدين الأفغاني دفة القيادة في حركة الجامعة الإسلامية التي واصلت مسيرتها حتى صاغ لينين آراءه فيها كما ذكرنا عام 1920. مختصر القول: تعرضت نزعة الجامعة الإسلامية على الصعيدين النظري والتطبيقي خلال ستين عاما الى تحولات وتغيرات عديدة في أشكالها وطرائقها دون المساس بجوهرها الأساسي. والوصف العام الذي أطلقه لينين على جوهر الجامعة الإسلامية ينسحب على جميع الداعين والمبشرين بها، والمؤيدين والمناصرين لها، الأمر الذي تجلى بوضوح ما بعده وضوح في التوصيات الموجهة من لينين الى جميع الأحزاب الشيوعية حول ضرورة الكفاح ضد أتباع وأنصار الجامعة الإسلامية . ومن هذه التوصيات نستنتج بكل سهولة أن لينين عد نظرية الجامعة الإسلامية جزءا لا يتجزأ من الفكر الرجعي، وما كان بالامكان أن يحدث غير ذلك يوم استغلت الامبريالية الألمانية فكرة الجامعة الإسلامية بشكل ماهر منقطع النظير ابان الحرب العالمية الأولى (أي أنها أسدت خدمات لا تقدر بالنسبة للامبريالية الألمانية) فحولتها الى سلاح ماض في أيدي الأعداء الذين مارسوا نشاطا معاديا لدولة العمال والفلاحين الفتية.

هذه الجوانب الجوهرية في الجامعة الإسلامية تعرضت الى المداورة والمناورة الغريبتين في الأدبيات الاستشراقية السوفيتية. واليكم بعض الأمثلة عن هذا الف والدوران الناجمين عن التعامي عن المقولة اللينينة الواضحة وضوح الشمس في رائعة النهار. وهو ما دفع بعض مستشرقينا الى استنتاجات خاطئة ورؤية قصيرة النظر بشأن مسألة "الازدواجة" الموجودة في فعالية أتباع الجامعة الإسلامية، وبالتالي أـباع الطابع "الازدواجي" على أفكار الجامعة الإسلامية عامة. وسبب الالتباس – كما يزعمون – عائد الى تأكيد لينني جانبين أساسيين مرتبطين بأهداف الجامعة الإسلامية، الأول: الجانب التقدمي المتمثل في "الحركة التحررية المناهضة للإمبريالية الأوربية والأمريكية"، والثاني: الجانب الرجعي المتجسد في اتعزيز مواقع الخانات والاقطاعيين والملالي ومن لف لفهم.

بيد أن نظرة فاحصة ودقيقة تجعلنا نستوعب الاشكالية المفتعلة والكامنة قبل كل شيء في أن الموضوعة الثالثة منفصلة تماما عن الأولى والثانية. فضلا عن الاقبتاس المبتور بدءا من السطر الذي يشدد على ضرورة النضال ضد الجامعة الإسلامية . وفي الحقيقة: كان لينين قد أخذ بالحسبان الأوضاع السائدة في الشرق الإسلامي سنة 1920، ولم يؤكد الجانب الأول "التقدمي" من الجامعة الإسلامية، بل شدد على الجانب الثاني أي الهدف النهائي الرجعي. وفي تحديده لاستراتيجية نشاط الأحزاب الشيوعية وتكتيكهم في القسم المستعمر من العالم، ميز لينين أولا: بين العناصر البرجوازية - الديمقراطية المناضلة ضد سيطرة الامبريالية في المستعمرات، أو ضد محاولات فرض الاستعمار (وبالطبع ضد الأنظمة الوطنية الرجعية – القروسطية في البلدان التي لم تستعمر بعد) والتي يجب تقديم الدعم والتأييد لها (النقطة الأولى). وثانيا: بين العناصر الاقطاعية – الإكليركية الرجعية المحافظة بعد على قوتها ونفوذها والتي يجب الكفاح ضدها (النقطة الثانية) ، وأخيرا: الكفاح ضد العناصر المؤيدة للجامعة الإسلامية وغيرها من التيارات الجرعية التي تحاول توظيف نضال العناصر البرجوازية – الديمقراطية ضد الاستعمار في خدمة أهدافهم ومآربهم الرامية الى توطيد مواقع العناصر الاقطاعية الاكليركية المتزعزة (النقطة الثالثة).

مما لا شك فيه أن هذه الاشكالية أرضية صالحة تتغذى منها. فنزعة الجامعة الإسلامية التي ظهرت الى الوجود ابان المواجهة العنيفة بين الرأسمالية الأوربية التي ولجت المرحلة الامبريالية من جهة وبين الاقطاعية الشرقية ، ولاسيما الاقطاعية العثمانية التي كانت تعاني سكرات الموت وتجاهد مستميتة في سبيل الحفاظ على بقائها وديمومتها، من جهة أخرى. وهذا يعني عصر الاصطراع المتزايد بين أطماع التوسع الاستعماري وبين الفئات العليا من الاقطاعية – الكهنوتية الشرقية التي كادت تفقد سلطتها أو تعرض نفوذها لخطر الاندثار، في عصر الكافح المتنامي للشعوب المستعمرة أو شبه المستعمرة . ومن هنا ظهر مسيس الحاجة لاستثمار الجامعة الاسلامية كمذهب فكري سياسي دفاعا عن مصالح الفئات الاقطاعية الكهنوتية والاقطاعية الشرقية المستبدة. وتضليلا للجماهير الشعبية المتخلفة (ولاسيما في ظروف ضعف التيارات البرجوازية – الديمقراطية في الأوساط الإسلامية). ومهما يكن من أمر، فهل يمكن أن يكون هذا أساسا لازدواجية الرأي لدى المؤرخ المعاصر في تقييمه لجوهر نزعة الجامعة الإسلامية ؟ يجب ألا يغرب عن بالنا هنا الحقيقة الهامة التالية وهي: أن مذهب الجامعة الإسلامية – بصرف النظر عن أهدافه الأساسية ودوافعه الخفية الكامنة وراء دعوة العداء للاستعمار – يرى هدفه الاستراتيجي توحيد جميع الشعوب الإسلامية ، الأمر الذي يتناقض كلية مع أفكار النزعة القومية البرجوازية – التنويرية التي دعا اليها رواد النهضة العربية (بغالبيتهم المسيحية)، أي أيديولوجية الوحدة على أساس قومي لا ديني.

اذا كانت مثل هذه الادعاءات والأحكام حول طبيعة التناقض أو الازدواجية في أفكار الجامعة الإسلامية تجد لها المبررات في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وبعيد قيام ثورة أكتوبر، لأنها لم تكن بعد قد اقطلعت على الموضوعات اللينينية، فان اضفاء الطابع العلمي على أمثال هاتيك التقييمات عن الجامعة الإسلامية كأيديولوجية وحركة سياسية (خصوصا في طور نشوئها ونشاطها في البيئة العربية) هو تشويه فاضح لحقائق التاريخ. ويرجع ذلك لسبب بسيط جدا وهو أن الهدف الأساسي للجامعة الإسلامية – بدءا من ظهورها – يتركز في الحفاظ على النمط الاقطاعي البالي وفي استمرارية الحكم الاقطاعي الارستقراطي ضمن كيانات إسلامية تابعة للهيمنة العثمانية. وهذا لا يعني فقط الدعوة الى توطيد وديمومة "الوطن العثماني" المهتز الأركان والبنيان وحكم الخليفة – السلطان – وهو أمر مطابق كلية لأهداف النزعة العثمانية – بل وتوسيع حدوده الشمالية ليشمل الشعوب الإسلامية كافة (وهو الهدف الأسمى والنهائي للجامعة الإسلامية) وتوحيدها في إمبراطورية قوية واسعة الأرجاء. مختصر القول: اذا كانت نزعة الجامعة العثمانية تحمل طابعا "رسميا" ، فان نزعة الجامعة الاسلامية تتسم بطابع عدواني سافر مغال في التطرف والرجعية.


يبنغي التشديد خاصة على أن الجامعة الإسلامية كمذهب ديني فكري سياسي وكحركة ذات توجه معاد موضوعيا للبرجوازية والنزعة القومية . واذن لحركة النهضة العربية موضوع هذا البحث. وما يستوقفنا حيال هذا الموضوع الاعتراض الذي أبداه زين نور الدين ازاء أية محاولة رامية لاضفاء صبغة سياسية قومية على مفهوم اليقظة العربية، وذلك بحكم رؤيته للأوضاع السائدة في الفكر العثماني الذي يعده أدنى مستوى من نزعة الجامعة الإسلامية السائدة في أجواء الفكر العربي. فيقول: "هناك نقطة هامة جدا وهي أن القادة المسلمين آنذاك كانوا يرتؤون تحذير العرب من مغبة الغزو الأوربي والاستعداد للوقوف في وجهه، بدلا من تشجيعهم على اسقاط النظام التركي . فقد بقي الزعماء العرب وغالبية السكان في الشرق الأدنى على وفائهم واخلاصهم للسلطة العثمانية، ولم يفكروا أبدا بمسألة اضعاف الامبراطورية الإسلامية الوحيدة العزيزة الجانب". وبمعنى آخرن: ان مفهوم – اليقظة العربية – الذي اجتهدوا كثيرا لاشتقاقه، كان في البداية يعني "يقظة" ضد استثمار النظام التركي وفساده واستبداده، ويعني ثانيا: أماني وآمالا في اصلاحه وترشيده، أي القضاء على فساد الادارة واعطاء العرب حقوقا سلبها الأتراك، وتقديم المزيد من الحريات السياسية والمدنية. أما خيار الانفصال عن الدولة العثمانية أو تشكيل دولة عربية مستقلة ذات سيادة، فلم يكن يخطر ببال الغالبية العظمى من المسلمين، لا بصفة رغبة وأمنية، ولا بصفة ضرورة وامكانية".

اذا كانت أفكار الجامعة العثمانية تتعارض في مفاهيمها عن "الوطن" و"الأمة" مع أفكار النهضة العربية، فان نزعة الجامعة الإسلامية من ألد أعداء هذه النهضة. الأمر مختلف تماما بالنسبة لمفكري الجامعة الإسلامية ودعاتها بقيادة جمال الدين الأفغاني ، الذين - انطلاقا من موقع تعزيز مواقع الاسلام "كزا" ومن مصالح فئة معينة من الاقطاعية – الأرستقراطية الروحية والزمنية في اطار الأسرة الخديوية في مصر – بذلوا قصارى جهودهم لاحتواء الأمزجة المعادية للاقطاعية المتفسخة لدى جماهير الفلاحين المصريين، وتحجيم الانتفاضات الشعبية العفوية وتوجيهها ضد الأجانب "الكفار" معتمدين أساسا على الأفكار التجهيلية والتعصب الديني الأعمى. ومن هذه الزاوية ينظر الى دعوتهم بمنظار يزعم أنهم شاركوا مشاركة فعالة في تعبئة الجماهيرة الشعبية للكفاح صد الاستعمار، رغم أن التباين في الأهداف، والمواقف بينهم وبين الجهود والمساعي الشريفة التي بذلها المثقفون البرجوازيون – الديمقراطيون ، ولاسيما الرواد القادمون من سورية، والضباط الوطنيون وبعض الأفراد من رجال الدين، فالإسلاميون الجامعيون سعوا بصورة موازية لتوسيع القاعدة الاجتماعية المعادية للاستعمار – قاعدة التجهيل والتخلف القروسطي الطابع، وبالتالي عززوا لا اراديا نفوذ مواقع الأوساط الاجتماعية المناوئة لهم، ونعني بها قوى التدمير العربي الأصيل. والأمر مغاير ثانية في مسألة ربطهم السطحي والساذج بين نجاح الكفاح ضد الاستعمار وبين توطيد حكم السلطان – الخليفة مثلهم الأعلى. فنفخوا في نار الدعوة الدينية لاذكاء العداء ضد الاستعمار، وفي هذه الحالة أيضا أحيوا لا إراديا شعور الوعي الذاتي القومي لدى الجماهير الشعبية التي كانت بمثابة حفار القبور – لمثلهم الأعلى ولهم بالذات.


جمال الدين الأفغاني

الأدبيات الاستشراقية تربط غالبا صيرورة فكرة الجامعة الإسلامية وسيرورتها باسم جمال الدين الحسيني ابن السيد صفتر الأفغاني . فاذا صح هذا القول جزئيا – كما سنرى – فان التأكيد الحازم بأن الأفغاني كان في الوقت ذاته الرائد الأول لحركة الاصلاح الإسلامي – فان هذا الزعم عار عن الحقيقة تقريبا.

وخلافا للجهود المضنية التي بذلها الكثير من الكتاب المتحمسين والمدافعين عن الأفغاني، فان سيرة حياته تظل عرضة للتناقض والتضارب في الآراء. ولا يزال الغموض يكتنف شخصه ونشاطه في طور حياته المبكرة. ولعل الفترة الأخيرة من تاريخ حياته أغمض أطوارها على الاطلاق، كما غمضت بالتالي أسباب وفاته.

يؤكد براون وغيره من الكتاب أن الأفغاني فارسي الأصل وبالتالي فهو على مذهب الشيعة الأفغانية، ولكنه تظاهر اذن بأنه من أهل السنة كي يتحاشى ملاحقات الحكومة الشاهانية الشيعية. وسعيا منه لايجاد آذان مصغية صاغرة لدعوته في الأوساط الإسلامية السنة. وعلى كل حال يعد الأفغاني من مواليد أسعد أباد التابعة لخطة كنر من أعمال كابل عاصمة الأفغان، وزعم أن حبل نسبه يتصل بقبيلة قريش العربية وبالتالي بالرسول محمد، اذ أن نسبه يتصل بالسيد علي الترمذي المحدث الشهير، ويرتقى إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، الأمر الذي جعله يحتفظ بلقبي "الحسيني" و"السيد". ونشير في هذه المناسبة أن مثل هذا الانتساب لقي قبولا واسعا بين معظم الكتاب العرب.


تلقى الأفغاني علومه النقلية والعقلية في كابل على أشهر الأساتذة كما يليق من سليل بيت عريق. وهو لم يتقن الكثير من اللغات وحسب (تعلمها خلال أسفاره وتنقلاته الكثيرة وهي الأفغانية، الفارسية، العربية، التركية، الفرنسية، الإنكليزية، الروسية) بل تبحر في علوم الشريعة كالتفسير والحديث والفقه والكلام والتصوف، والفلسفة والمنطق والتاريخ، والرياضيات والعلوم السياسية والفلك والطب وغيرها. انتقل سنة 1856 الى الهند، حيث أتقن العلوم الرياضية على الطريقة الأوربية. وفي عام 1857 سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج .


أمضى العقود الثلاثة الأولى من حياته في أفغانستان. فانتظم في سلك خدمة الحكومة مدى احى عشرة سنة على عهد الأمير دوست محمد خان، تنقل خلالها في كثير من بلدان الشرق الأوسط لاداء مهمات متباينة.

في تلك الفترة بالذات أي في مطلع الستينيات (وليس كما يزعم بعض الكتاب في مطلع السبعينيات) طرح الأفغاني مشروع توحيد الشعوب الإسلامية سياسية واداريا في اتحاد يضم بلاد الأفغان وبلوجستان وكاشكار وباركاند وبخارى وقوقندا. ذلك المشروع الذي ارتبط تحقيقه بارادة ومشيئة السلطان التركي فضلا عن المساعدات المادية التي وجب أن يقدمها أغنياء المسلمين في الهند.

تجدر الاشارة الى أن مذهب الجامعة الاسلامية لم يكن قد اكتمل بعد في ذهن الأفغاني وفي ممارساته العملية على نحو يتلاءم ويخدم مآرب السلطان عبد الحميد ومصالحه هو وبطانته من الأمراء والوزراء ورجال الدولة، فالسيد الأفغاني أخذ بعد ستة شهور من وصوله على اسطنبول يتردد على "دار الفنون" حيث ارتجل في كانون الأول (ديسمبر) 1870 خطبة عنوانها "ارتقاء العلوم والصناعات" . ان بسط الشراع أمام رياح التنوير التي كانت تهب على العاصمة بهذا القدر أو ذاك، حتى ولو قام به شخص يتصل حبل نسبه بأسرة الرسول، قد يبدو نوعا من الغواية البريئة أو نزوة عابرة على أبعد تقدير. غير أن محاضرة السيد عدت أشبه بانحراف كامل عن الهالة القدسية المعقودة حول الفقه الاسلامي ، فهو مثلا يقدر عاليا دور العلماء ورسالتهم ، ويدمج النبوة في عداد الصناعات المعنوية، ويخلص الى القول ان وصايا الأنبياء تتعرض لتقلبات الزمان والمكان ، بينما الاكتشافات والاختراعات العلمية تحافظ على ديمومتها وخلودها. ومن ثم يعلن الأفغاني على رؤوس الأشهاد قائلا: "ونحن لا نحتاج الى الأنبياء في كل آن ومكان، بينما نحتاج الى العلماء في كل مكان وزمان، كي ينقذوا البشرية من ظلام الجهل ويسيروا بها الى مراقي التقدم والرقي والازدهار".

ان خطبة منه هذا النوع "تدعو الى الزندقة" وتنتفخ لها أوداج العلماء المتشديين، الذين شددوا النكير على الأفغاني على صفحات جريدة "الوقت" فاضطر السيد للتذرع بالذهاب الى مكة لآداء فريضة الحك فغادر العاصمة خوفا من انتقام "المدافعين عن الإسلام". وهنا يحق لنا الافتراض – وليس دون أساس – أن الأفغاني الذي اشتهر بحدة الذهن، وسرعة الملاحظة، وثبات الجأش، وتقلب المزاج كان قد أوغر صدر الحاسدين والمنافسين له، نذكر منهم حصرا أحمد فارس الشدياق، الذي لا نستبعد أن يكون قد وشى بالأفغاني الى من يهمه الأمر.


أحمد فارس الشدياق

سبق أن أشرنا الى الظروف القاسية التي عاناها الشدياق وأسرته من الاضطهاد الماروني ولجوئه الى وادي النيل، حيث استلم في أواخر عام 1820 تحرير القسم العربي من جريدة "الوقائع المصرية" بعد حسين العطار والسيد شهاب الدين المكي. وفي سنة 1824 دعاه المرسلون الأمريكان الى جزيرة مالطة حيث عهدوا إليه ادارة مطبعتهم وتصحيح مطبوعاتهم، وعرب حينئذ "ترجمة التوراة". ثم دعته جمعية ترجمة الكتاب المقدس التابعة لجامعة كمبرج حيث عمل أكثر من عشرة أعوام فترجم وأصدر "العهد الجديد" في لندن سنة 1851. وكان قد نشر في مالطة سنة 1839 قاموس المترادفات العربية تحت عنوان "اللفيف في كل معنى طريف" أتبعه بعشرات الكتب، نذكر منها على سبيل المثال: "سر الليال في القلب والإيدال" في جزأين، طبع أولهما في الأستانة سنة 1867، والثاني لا يزال مخطوطا تظهر فيه مقدرته اللغوةي، ضمنه معظم آرائه ونظرياته في اللغة. و"غنية الطالب ومنية الراغب" في الصرف والنحو وحروف المباني (الأستانة 1871) وهو الكتاب المدرسي الذي أجازته الحكومات التركية والخديوية في مصر للمدارس الرسمية. و"الجاسوس على القاموس" استطال فيه على الفيروزيأبادي بأربعة وعشرين نقدا (الأستانة 1887) ...ألخ.


غير أن انعطافا خطيرا طرأ على حياة الشدياق سنة 1846، كان أحمد باشا باي تونس في رحلة الى أوربة حيث امتدحه بقصيدة عصماءن فكلفه الباي بخدمة مملكته، وأرسل له سفينة مخصوصة لنقله الى بلاده. فلبى الدعوة وهناك حاز على منح مالية كبيرة فترك مذهب البروتستانت وتبع دين الاسلام وصار يعرف بالشيخ أحمد فارس الشدياق، وبعد ذلك قفل راجعا الى مالطة. ونشير في هذا المقام أن المادة الغنية المتوفرة في الأدبيات الاستشراقية حول أسباب اعتناق الشدياق للإسلام تجعلنا نخلص الى استدلال دوافعها وحوافزها، ولعل أهمها: مشاعر الغضب وأحاسيس ا لعقد التي تراكمت في نفسه من جراء موت أخيه أسعد الشدياق الذي قضى شهيد حرية المذهب والكبت الديني ثم المصير المآساوي الذي انتهى اليه والده ووفاته في دمشق مقهورا فقيرا. علاوة على الاضطهاد الديني الذي عاناه شخصيا على يد الموارنة والمسيحيين عامة. يجلا ألا يغرب عن بالنا ان الشدياق كان عصبي المزاج سريع الانفعال، كثير التقلب، رحب المال والجاه. وان نسينا فلن ننسى أبدا ميله الشديد لاستخدام الإسلام درعا يقيه من السدائس التي كانت تحاك ضده، فضلا عن اغتنامه كل فرصة سانحة للاستفادة لاحقا من جنسية قرينته الإنكليزية، وهكذا نرى أن ظروف العصر وصروف الدهر وشمت الشدياق بميسمها الذي دعا المؤرخ الأدبي العربي الكبير حنا الفاخوي لوصفه قائلا: "ولم يكن الشدياق متقلبا وحسب، بل عصبي المزاج ورجلا شريرا، اذ كان يطيب له أن يسخر ويتهكم بالناس أفرادا وجماعات، الأمر الذي تنفر منه الطباع وتمجه الأذواق".

في الخمسينيات كان الشدياق في باريس، حيث أصدر بالاشتراك مع المستشرق الفرنسي غوستاف دوجا كتاب "سند الراوي في الصرف الفرنساوي" (باريس 1854) للراغبين في دراسة الفرنسية بالجزائر ومصر وسورية. وفي العام التالي أصدر "الساق على الساق فيما هو الفارياق" وهو كتاب لم يكتب مثله شرقي، ترجم فيه لذاته ووصف فيه حياته وأسفاره، اذ يعد من أغنى الآثار الأدبية التي ظهرت خلال عصر النهضة على الاطلاق. فالكاتب هو بطل الرواية، وأهم ما فيه مفاضلته بين الحياة الأوربية والشرقية – العبية بروح انتقادية متحفظة. وقد ألف الشدياق سنة 1852 كتابا ضخما طبع في تونس سنة 1866 بعنوان "الواسطة في معرفة أحوال مالطة وكشف المخبأ عن فنون أوربة"، وهو يشتمل على انطباعاته عن تطور العلوم والفنون والتقنية في أوربة، وقد أصاب أبو لغد في تقييمه للكتاب بقوله: "انه يتصف على الأرجح بانطباعات جد ساذجة وتأملات وخواطر عابرة، أكثر من كونه كتابا لصياغة الأفكار ومبادئ معينة بهدف اشاعتها في البيئة العربية، كما فعل سابقا الطهطاوي ولاحقا فرنسيس مراش في كتابيهما".


كانت شهر الشدياق قد طبقت الآفاق يوم نشر في باريس (1852) قصيدة امتدح فيها السلطان عبد الحميد و"خوارقه" العسكرية ضد روسية، داعيا فيها الى الجهاد المقدس ضد "قيصر الكفار". واذن لم يكن مجيئة الى الأستانة سنة 1860 بدعوة خاصة من السلطان بمحض المصادفة. فقد أسس هناك جريدة "الجوائب" لبث فكر الإسلام والبرهنة على شرعية الخلافة في السلطان التركي. استمرت في الصدور زهاء ربع قرن من الزمان. وقد قيم المستشرق كوتلوف نشاط الشدياق في هذا الميدان فقال: "كان الشدياق من أبرز الشخصيات الاجتماعية في العالم الاسلامي، الذين وضعوا اساس الأفكار التي شكلت مجموعة الآراء والنظريات المكونة لنزعة الجامعة الإسلامية". ولم يكون كتولوف على خطأ لو أنه جزم بأن "الجوائب" كانت المدبر الأول للدفاع عن أفكار الجامعة الإسلامية وترويجها والدعاية لها ليس فقط في الأقطار العربية، بل وفي ديار الاسلام قاطبة.

كانت الجامعة الإسلامية "السنية" التي انبرى الشدياق للترويج لها كمذهب ديني – سياسي متكامل، يرتكز على دعامتين أساسيتين:

أولا – الاعتراف بالوحدة الروحية – الدينية لجميع المسلمين دون أي تمييز، والاقرار بأن الولاء للاسلام يجب أن يسمو على الولاء للجنس والقومية والوطنية والطبقة.

ثانيا – ان الوحدة الرومية – الدينية الإسلامية تحت راية الخليفة – السلطان الأعظم هي النموذج الأكمل والامثل للنظام السياسي الذي دونه كل الأنظمة السياسية الادارية المغايرة.

ليس عسيرا أبدا رؤية أنه بقدر ما كانت نزعة الجامعة الإسلامية سلفية – أصولية، كانت الدعامتان مترابطتين غير منفصلتين مثل توءمي سيام الملتصقين. فالسلطان العثماني كان يبايع بحكم القضاء والقدر خليفة على المسلمين منذ بداية القرن السادس عشر. وأفكار الأفغاني حول الجامعة الإٍلامية كانت في وضع جينين أواخر الخمسينيات وطوال السيتينات . وهو رغم مد يده للسلطان ومبايعته بالخلافة والملك واستحواذه على مباركته ورضاه، كان يوجه أنظاره الى النجوم الصاعدة في قبة السماء (ليتخذ منها مظلة واقية لأمنه وسلامته) أي الى الأميرين محمد دوست وشير علي، فكان يستغل طموحهم الى الحكم لتحقيق مآرب الاستعمار الإنكليزي بمساعدة الإسلام.

ومن هنا كان هدف الشدياق النهائي مغايرا تماما وأعظم شأوا. اذ تمحور حول تحويل الامبراطورية العثمانية الى دولة إسلامية قوية موحدة. فقد أفادنا الطرزي بأن السلطان عبد العزيز ساعد على توسيع نطاق جريدة "الجوائب" لبث فكر الخلافة النبوية بين المسلمين المستشرقين خارج الدولة العثمانية، فكان أحمد فارس الشدياق يقبض كل سنة خمسمئة ليرة عثمانية من السلطان المشار إليه لهذه الغاية، علما بأن هذا المبلغ كان يعادل اثني عشر ألف روبل ذهبي.

كان الشدياق بداية ينشر "الجوائب" مجانا في المطبعة السلطانية، وفي السنة العاشرة أنشأ بأموال السلطان مطبعة خاصة جهزها بكل أدوات فن الطباعة الحديثة حتى صارت تعد من أشهر المطابع في السلطنة العثمانية. في ذلك الوقت كان الشدياق محررا في "الجوائب" كبرى الصحف العربية آنذاك. ولم يكن يتخذ موقفا معاديا من المعارف والعلوم التقنية الأوربية ولا حتى من التنوير الأوربي. ولكنه، على الضد من هذا، كان يبشر بأفكار تدعو الى التقدم العربي والشرقي – الإسلامي بمعزل عن التأثير السياسي الأوربي ،والى أن الرعايا العثمانيين لا يجب أن يتمتعوا وحدهم بالرعاية الأبوية للسطلان، بل جميع المسلمين الذين يجب أن ينضووا تحت راية خليفة الإسلام المعظم.

وبعد اطلاع كريمسكي على محتويات جريدة "الجوائب" كتب ما يلي: "انها صحيفة ذات نزعة أوربية، ولكنها مكرسة كليا للإسلام والسلطان". أما كوتلوف فقد أكد محقا "أن نشاط الشدياق اتسم بطابع إسلامي بحت، وكانت للوحدة العثمانية لديه أفضلية وأولوية على الوحدة العربية" . وليفين الذي عد الشدياق "مؤسسا للأدب العربي الحديث" لم ير ضرورة للتطرق الى آرائه السياسية – الاجتماعية، لكنه أكد أن جريدته اصبحت حاملة لأفكار النزعة العثمانية ونزعة الجامعة الإسلامية، اذ كانت تعد صحيفة شبه رسمية للحكومة العثمانية.


ومع ذلك، ينبغي التذكير، بأن الشدياق كان سيدا لا ينازع في ميدان الفكر الاجتماعي – السياسي الغربي، ولاسيما ان جناح الفكر الليبرالي الوطني كان ضعيفا جدا في الوسط النهضوي حيث لم يكن الراديكاليون قد نزلوا بعد الى الميدان. فكان رزق الله حسون الرائد الوحيد الذي قارع فكر الجامعة الإسلامية للشدياق من لندن النائية عن الأوساط العربية الشرقية، ولذا كان قاصرا عن وقف مدى نفوذه المباشر أو حتى تحييده واحتوائه. ويجب ألا ننسى أن "الجوائب" وصاحبها الشدياق نالا شهرة واسعة لم ينلها سواهما منذ ظهور الصحافة العربية حتى ذاك العهد، فانتشرت انتشارا عظيما في الشرق والغرب. وكان للشدياق القدح المغلي بين أساطين الفكر الإسلامي وجهابذته عصرئذ، لا بل ان الدوائر الأوربية كانت تحسب ألف حساب لمواقف "الجوائب" وآرائها التي عدت شبه رسمية للباب العالي كما أسلفنا.

ومهما يكن من أمر ، فالشدياق لعب دورا كبيرا في تطوير الأدب السياسي الاجتماعي العربي الذي تجلى في "كنز الرغائب في منتخبات الجوائب" الذي جمعه ابنه سليم الشدياق في سبعة مجلدات شملت انفس ما نشرته هذه الجريدة من منشور ومنظوم في حقول الأدب والسياسة والعلم والاجتماع والتاريخ وحوادث الكون (الأستانة 1871-1881). كان الشدياق جبار الأدب العربي الحديث في نثره المبتكر، ولاسيما في كتابي "الفصول اللطيفة والمقالات الظريفة" و"المقامات الأدبية"، حيث يبرز وحيد عصره في كتابة المقامات . كان مارون عبود أحد أعظم نقاد العرب في كتابه "صقر لبنان" الذي يبحث في تاريخ النهضة الأدبية الحديثة، قد نعت الشدياق بصقر لبنان تشبها بصقر قريش الذي شيد للعرب دولة في الأندلس. والشدياق زعيم المجددين في العلون اللغوية وآداب العربية. كانت له سجلات ومنظارات عظيمة مع المعلم بطرس البستاني وناصيف اليازجي وابنه ابراهيم اليازجي وغيرهم من الرواد العظام الذين قدموا خدمات جليلة لآداب العرب. وقد خص كل من المؤرخ كمال الصليبي والأديب ميخائيل صوايا، الشدياق بمركز الريادة بوصفه ركنا من أركان النهضة الأدبية في العصر الحديث. أما جرجي زيدان فوصفه بأنه "من أركان النهضة العلمية الأخيرة" ثم استطرد قائلا: "كان متبحرا في علوم اللغة، وله قريحة شعرية، ولكنه امتاز بمعرفته الواسعة في مواد اللغة وسهولة أسلوبه في الانشاء". ويجب الاقرار أيضا بأن الشدياق له خدما جلى في ميدان أحياء التراث ونشر وتحقيق وضبط نيف وعشرين كتبا في أواسط الثمانينات وتقديمها للقارئ العربي . حقا ان اختياره لمناهل التراث لم يكن هادفا دائما، فالى جانب المصادر التي توقظ الشعور بالفخر ضد العرب، كان يكثر من نشر الكتب التي تهم قليلا من المختصين بعلوم اللغة وعلى كل حال، كان الشدياق صاحب الفضل في تعريف العرب بعيون الفكر العربي الأصيل.

وأكثر من ذلك، فالدشياق حمل في ثنايا فؤاده مشاعر الشوق والحنين الى مسقط رأسه في بلاد الأرز طوال عشرات السنين من التغرب القاسي، فاشتهر بأنه أول من عبر عن فكرة "الوطنية اللبنانية" في الأدب العربي الحديث. ولا ننكر أبدا أن الشدياق انبرى في الدفاع بحماسة منقطعة النظير عن اهمية العلوم والمعارف الأوربية. داعيا الى نشرها بحماسة منقطعة النظير عن الحياة الشرقية. كما انه لم يتقاعس يوما عن الهجوم على التجهيل الديني وانتقاد الحياة الاقطاعية الخانقة سواء في الأقطار العربية أم على مستوى الدولة العثمانية عامة. وكان مع المعلم بطرس البستاني من أوائل نصراء المرأة قبل أن يهب شرقي لنصرتها والدعوة لتحررها واحلالها المحل اللائق بها في الأسرة والمجتمع.

كل هذا حقيقة ناصعة البياض لا غبار عليها.

ولكن كما تؤكد الأدبيات الاستشراقية ، لم تكن أراؤه النهضوية – التنويرية نابعة من ايمانه بالمثل والقيم العليا وقناعاته الراسخة الثابتة بفضائلها، بل من مآربه الهادفة لمواكبة متطلبات العصر الحديث وطموحاته الهادفة لأن يكون رجل العصر الأول وزعيم المحددين الذي لا ينازع، ولهذا السبب لم تكن القيم النهضوية والمعايير التنويرية الشدياقية تتصف بالمبدئية والاستمرارية. بل بالتقلب والتلون مع تقلب الأحوال والمنوال. فشابتها عيوب وهفوات مناقضة تماما للمفاهيم النهضوية. وعن هذا الموضوع يقول كراتشكوفسكي: "مما لا شك فيه أن الشدياق شخصية جامعة وعقل موسوعي ليس على الصعيد العربي فقط، ولكنه لم يكن – على ما يظهر – يراعي حرمة المبادئ، بل استطاع بعبقريته الدفاع عن كل ما رآه ضروريا في اللحظة المعينة، أي كان عنده لكل حادث حديث". وكان في كل ما دافع عنه، ولاسيما في طور النهضة – يتعارض مع قدس أقداس المبادئ النهضوية – التنويرية الأصيلة، مما أبعده موضوعيا عن مسار الحركة النهضوية الحديثة. كان كل ذلك أمرا لا محيد عنه، فعرقلة الجهود الرامية للسير بالفكر العربي باتجاه العلمنة والتنوير، والدعوة الى الوحدة الاسلامية الشاملة، ومعارضة الحريات السياسية والمدنية من خلال الاطناب في فضائل وشمائل نظام السلطان التركي الاستبدادي ومواجهة منافسيه المناضلين من مواقع المبدئية والموضوعية بالتهكم والسخرية والامبدئية، لا بل وحتى بالوشاية الى عسس السلطان ومخبريه، وغيرها من الأعمال والأنشطة التي اضطلع بها أحمد فارس الشدياق ساهمت في تمييع حركة النهضة القومية – الثقافية العربية، وقادت بالتالي الى حرمانه من تبوؤ المكانة اللائقة به في النهضة العربية الحديثة.

فمن الحقائق المسلم بها أن الشدياق لم يكن يطيق صبرا بأي عالم أو رائد ينافسه على الشهرة في ذلك العهد. وقد وجد فيليب الطرزي من واجبه الاشارة الى هذه الحقيقة التي "تغض من مقام العالم وتحط من قدر الكاتب"، موجها النقد الى أسلوب الشدياق في الذم والشتم في مناظرته العلمية أو السياسية مع أكبر علماء ذلك العصر، ابتداء من رزق الله حسون وناصيف وابنه ابراهيم اليازجي وانتهاء برشيد الدحداح وبطرس البستاني وأديب اسحاق ولويس صابونجي وسواهم من أسطاين وجهابذة. وقد أصاب عبد الغني حسن عين الحقيقة حين شدد على أن معظم الذين انتقدهم الشدياق نقدا لاذعا من الرواد المسيحيين الذين عابوا عليه تعصبه الأعمى للاسلام .


العلاقة بين الشدياق ورزق الله حسون

تشير العلاقة بين رزقا الله حسون والشدياق الى اهتمام الباحثين في تاريخ النهضة العربية، لأنها تشكل جانبا بارزا من جوانب الفكر الاجتماعي – السياسي.

كان رزق الله حسون قد ترقى سنة 1861 الى رئيس نظارة جمارك الدخان، وفي العام التالي رافق الصدر الأعظم فؤاد باشا الى لندن بعد أن جاءها معتمدا عثمانيا في معرضها الدولي عام 1862. وبعد وقت قليل من عودته الى الأستانة اعتقل ورمي به في السجن. كانت التهمة التي وجهتها نظارة الضبطية الى حسون استيلاءه على أموال الجمارك ترمى الى تمويه الرأي العام واخفاء الدافع السياسي الكامن وراء تسوية الحساب وهو: "خطورة" الرائد حسون الأرمني المحتد من الناحيتين السياسية والاجتماعية. وتؤكد مراجع الاستشراق الفرضية القائلة بحصول الشرطة التركية على "بينة مباشرة" تمكنها من تصفية حسابها مع حسون وهي: كتاب وشاية موقع من قبل الشدياق شخصيا. واذن، فالدشياق الراغب في أن يكون الانسان الوحيد المتمتع برعاية ووصاية الدولة العثمانية والطامع في كرمها وسخائها – جعل مهمة تصفية الحساب مع منافسه المسيحي الأكبر في المديان الأدبي – السياسي – الصحافي رزق الله حسون هدفا رئيسا لحياته. وفوق ذلك بكثير: ليس سرا أن حسون المدافع عن اتجاه استقلال العرب عامة، والمسيحيين العرب خاصة، كان محروما من امكانية التصدي علنا للشدياق في الصحافة الصفراء الموالية للسلطان والمتعصبة للاسلام. كان مضطرا لان يكتب بخط يده مناشير تنتقد بسخرية لاذعة الشدياق ويوزعها على الأوساط العربية من الأستانة وغيرها. ومن المثير حقا الاشارة الى أن حسون كان وظل حتى الرمق الأخير من حياته يوجه للشدياق تهمة الخنوع والاذعان للسلطان التركي وخدمته خدمة ذليلة كانت تحط من قدر وكرامة العرب وأهدافهم القومية السامية، في حين اتهم الشدياق حسون بخيانة الدولة العثمانية والأتراك وخدمة الأجانب.

واغتنم الشدياق الفرصة السانحة لتوجيه ضربة قاضية الى حسون. كان الأديب الحلبي الأرمني قد نشر عام 1859 كراسا بعنوان "حسر اللثام عن الإسلام" وجه فيه نقدا مرا للرجعية الدينية المتزمتة، الأمر الذي يوجب على صاحبه الموت شنقا بموجب قوانين الدولة العثمانية. كان الكراس الغفل متداولا في السر بين أبناء الطوائف المسيحية ، فوقع سنة 1861 بيد الشدياق الذي سارع للوشاية برزق الله حسون الذي اعتقل على الفور.

ينبغي القول ان وشاية الشدياق كانت بمثابة دليل ملموس على خطورة حسون لدى السلطات التركية . ومن المعروف أيضا أن حسون كان يثير مخاوف أرباب السلطة بسبب اتصالاته الوثيقة مع دعاة اصلاح الدولة التركية – على حد قول كراتشكوفسكي. ويجب ألا يغرب عن البال أن الأصل الأرمني لحسون كان ذائعا مشهورا، وأنه لم يكن أنئذ يخفي قناعته ومبادئه التي عبر عنها في أكثر من مجال لم ينحصر بالحصافة، والتي تجلت أساسا في أن يقظة العرب الثقافية ونهوضهم في شتى الميادين الأخرى ممكن في حالة واحدة لا مناص عنها وهي: خروجهم من نظام الحكم التركي ، وبما أن فكرة الاستقلال الكامل لم تكن قد نضجت بعد في فكر حسون، لذا كان يوجه فطريا أنظار العرب نحو الدول الأوربية، فأوصى بتحويل سورية الطبيعية الى محمية تابعة لروسية في المقام الأول.

ومما يؤسف له أن مصادر التاريخ والأدبيات التاريخية التي أرخت لمسيرة وأعمال رزق الله حسون لاذت بالصمت المطبق ازاء مسألة خلاص المنور العربي الأرمني من براثن الأتراك ، وعن تفاصيل لجوئه الى روسية؟ ونحن أيضا محرومون من امكانية تحديد الطريق الذي سلكه حسون الى روسية غير أن واحدة من قصائده تخبرنا بأنه بعد وصوله الى مدينة باطومي على البحر الأسود لم يتحرك فورا تجاه الشمال، بل سافر الى تفليس عاصمة جورجية. ومن غير المعروف حتى اليوم ما اذا كان حسون قد زار وطن اجداده أرمنية أم لا، ولكن من المجلي أنه في طريقه الى عاصمة القياصرة بطرسبورغ، عرج على مدينة موسكو التي احتوت يومئذ جالية أرمنية كبيرة. وعن هذا الموضوع كتب الأديب كريمسكي ما يلي: "من الجائز أن يكون حسون قد زار الشارع الأرمني، والكنيسة الأرمنية، ومعهد اللعازاريين للغات الشرقية المعروف لدى كل الأرمن، حيث كان الأرمن من جميع أطراف المعمورة يتلقون فيه العلوم ، ومن بينهم شبان أرمن من مدينة حلب نالوا منحا دراسية فيه".


ليست هناك معلومات موثوقة تؤهلنا لتعريف القارئ بالنشاط الذي اضطلع به الكاتب المغترب في بطرسبورغ، ومن المعروف عنه أنه عمل في نسخ عدة مخطوطات من الأدب العربي القديمة المحفوظة في الدائرة الشرقية للمتحف الآسيوي. ولكن ثمة مسألة تدعو للتساءل: هل قصد حسون عاصمة القياصرة للعمل في نسخ المخطوطات؟ ففي المكتبة العامة تجد ورقة كبيرة مكتوبة بخط يده الجميل، وبأحرف متناهية في الدقة وهي عبارة عن نصوص من الأناجيل المقدسة، فهل يا ترى قطع حسون هذه المسافات الطويلة للوصول الى أبواب القيصر ألكسندر الثاني ولا هدف له سوى اثارة اعجاب الناس بخطه الجميل؟!

ولكي تأتي الاجابة عن هذه التساؤلات وأمثالها أكثر دقة، ترانا ميالين للأخذ بالملاحظات التي أبداها المستشرق الكبير كراتشكوفسكي في هذا الموضوع، وهي: أن قلة قليلة من المغتربين العرب كانوا يميلون للذهاب الى روسية، اما بهدف التجارة فيأتون أوديسة، واما بدافع ديني – مذهبي يتلخص في تلقي العلوم في المدارس الروسية الأرثوذكسية. وحسون لم يكن لا تاجرا، ولا مؤيدا للمذهب الروسي الأرثوذكسي، بل هو من الأرمن الكاثوليك، أما اللاجئون السياسيون من العرب فكانوا يتوجهون الى أوربة الغربية، ولاسيما الى فرنسة وانكلترة. وهكذا، ظهرت روسية على خريطة اللاجئين السياسيين العرب الفارني من الارهاب التركي بفضل الرحلة التي قام بها حسون اليها.

ونحن نعتقد ان كراتسكوفيكي أجهد نفسه كثيرا لتفهم "الدوافع التي حدت بحسون للتوجه صوب روسية" . فالدوافع عسيرة على الفهم، اذ من المحتمل جدا أن الدوائر الدبلوماسية المقربة من أسرة حسون هي التي رسمت خطة الفرار، ولاسيما أن بطريرك الأرمن الكاثوليك في الأستانة، أي عم رزق الله حسون ، كانت له ارتباطات واسعة بروسية وله الكثير من المعارف المخلصين في داخلها، وهناك سبب آخر لا يقل أهمية وهو أن حسون الذي كان يعرب في كل شاردة وواردة عن حبه وولائه لروسية، كان في مركز اهتمام الدوائر الحكومية الروسية، خصوصا أنهم كانوا يأخذون بالحسبان أصله الأرمني، وارمينية الشرقية كما نعلم تابعة لروسية القيصرية عصرئذ. ويجب علينا ألا ننسى اطلاقا أن حسون نفسه لم ينقطع عن الأرمن أبدا، وأنه اعتبر بلاد الأرمن موطن أجداده، وأنه بوصفه واحدا من أبناء الشعب الأرمني الذين اشتهروا بمعارفهم الموسوعية، كان يدرك حق الادراك الآثار الايجابية التي نجمت عن انضمام أرمينية الشرقية الى روسية، ولعل أهمها خلاص شطر من الشعب الأرمني من مظالم الأتراك ومذابحهم.

واذن، فالأرمني أسطفان تزادور حسونيان (يعني حرفيا: رزق الله حسونيان) الذي اشتهر بين العرب باسم رزق الله حسون، اختار التوجه صوب روسية بحثا عن حل للقدر التاريخي الذي عانا العرب، ونعني به مصير وقوعهم تحت السيطرة التركية، كان حسون على معرفة تامة بأن العمليات الحربية التي قام بها الأسطول الروسي على الشواطئ السورية قبل قرن من الزمان، قد مهدت لتحرير قسم من العرب من النير التركي البغيض – ولو لفترة قصيرة نسبيا – وأن يوسف الشهابي كبير الأمراء في جبل لبنان توجه يومئذ الى رجال الأرمن للتوسط لدى روسية بقبوله وشعبه تحت الحماية الروسية. ومن الطريف أن حسون دون ببراعة على هامش المخطوط المكرس للأناجيل الأربعة اسم القيصر "ألكسندر نقولايفيتش" وعلق في الحاشية باللغتين الروسية والعربية بهاذ الكلام: "رباه، امنح ألكسندر ملك هذا الزمان القوة والعنفوان كي يحقق ما قاله الإسكندر المقدوني لملك الفرنس داريوس في غابر العصر والأوان: "وكما لا تشع شمسان في قبة السماء، كذلك لا يملك في آسيا ملكان". ومن الجلي أن حسون كان يعراض بذلك كل الداعين لوضع آسية برمتها تحت أمرة السلطان التركي وفي مقدمة هؤلاء الشدياق الذي بشر بالوحدة الإسلامية ، بينما كان حسون يصبو لرؤية القارة الآسيوية بكاملها تحت سيطرة القيصر الروسي.

وسافر حسون من روسية الى فرنسة عام 1867، حيث كانت له لقاءات مع أوساط العثمانيين الجدد وغيرهم من المهاجرين والمغتربين الذين اختارو باريس مقرا لهم. ثم انتقل إلى إنكلترة واتخذ معظم سكناه فيها، ولاسيما قرية وندسورث. وقد شاعت أخبار في الأوساط العربية أنه جاء الى مسقط رأسه (حلب) متنكرا سنة 1873 فتفقد مكتباتها واستنسخ منها بعض الآثار النادرة.

لقد تفرغ حسون في إنكلترة لوضع كتبه وطبعها وللنشاط الأدبي والصحافي. كان في البداية يستنسخ بخطه الجميل الدوريات والمناشير ثم يطبعها على الحجر ويوزعها. وقد اخترع الحروف وحفرها بأنواع الخطوط المختلفة التي تفوق بها وجهز بها مطبعته المعروفة باسم "آل مسام".

وفي العام 1868 نشر مجلة عربية اسمها "رجون وغساق الى فارس الشدياق" نشر منها عددين في لندن: الأول في 4 آيار (مايو) 1868 في 14 صفحة صغيرة، والثاني في 5 آيار (مايو) وذلك ردا على أحمد فارس الشدياق اثر ما حدث بينهما من خصام شديد، فضلا عن أنها كانت تعبر تعبيرا صادقا عن الروح الوطنية السامية المتجسدة لدى الكثيرين من أدباء العصر الذين اضطروا للرحيل عن موطنهم، وتعكس مدى الاهتمام الذي كان يبديه حسون اذاء مصير أبناء العرب.

وفي سنة 1872 أصدر حسون جريدة سياسية أسبوعية مطبوعة عنوانها "آل سام" عمرت فترة قصيرة ايضا. كان قصده الأساسي يتركز في التقبيح بدولة الأتراك، اذ كان يقدح قدحا مريعا بالأتراك ودولتهم، فضلا عن تشويق الشرقيين الى محبة روسية التي كان يتمنى لها الاستيلاء على القسطنطينية.

وفي 19 تشرين الأول (أكتوبر) 1876 نشر جريدة أسبوعية سياسية أخلاقية سماها "مرآة الأحوال" فكانت أية في الظرف وبلاغة الانشاء وجودة الكتابة. وطبعت على الحجر بخط صاحبها رزق الله حسون. وكان هدفه من اصدار هذه الجريدة يتوقف على عدة أمور أهما: تحرير العرب من ريقة الحكم التركي، والدعوة الى يقظة العرب ونهضتهم القومية الحضارية والتجوه نحو روسية، وتوجيه النقد اللاذع للشدياق وغيره من رجالات النهضة. كان حسون يظهر قدراته الفائقة وابداعه العظيم كمناظر وهجاء ونقاد، فكان يندد بالآخرين المحسوبين على النهضة ويعارضهم بأفكاره الداعية الى تحرير العرب، كل العرب مسلمين ونصارى – من نير الحكم التركي، والى أن الدول الأوربية، وفي طليعتها روسية ستقهر الدولة العثمانية، وستمن بالتالي على العرب – حتى لو كانوا تحت حمايتها – بالحرية، وستمهد الطريق أمام نهضتهم الثقافية والقومية.

وكما جرت العادة في ذلك العهد، كان حسون في كل ما أصدره من جرائد ناشرا ومحررا ومضدا ومصححا وطابعا وموزعا. لكن كان لديه عدة مساعدين أيام نشره لجريدة "مرآة الأحوال" من مريديه ومواطينه، أمثال: جبرائيل الدلال وعبد الله مراش ولويس صابونجي وغيرهم. كانت الجريدة تصدر بأعداد كبيرة قياسا الى ذلك العصر (كان يباع منها في لندن وحدها 450 نسخة). حقا ان الناطقين بالضاد من العرب والأتراك الملمين بالعربية كانوا قلة في لندن، ولكن يبدو أن الجريدة كانت تتسرب الى المشرق العربي رغم مضايقات السلطات التركية.

كان الانتصار الذي حققه السلاح الروسي خلال الحرب الروسية – التركية (1877-1878) قد أنعش الآمال لدى حسون، الذي كان في ضائقة مالية أضطرته لتعطيل "مرآة الأحوال" ونشر مجلة عربية طبعت في لندن سنة 1879 كانت تصدر كل خمسة عشر يوما، عنوانا "حل المسألتين الشرقية والمصرية"، وهي أول مجلة عربية شعرية كانت تنشر قصائد تبحث في سياسة مصر خصوصا، والشرق الأدنى عموما بالاضافة الى المسألة الأرمنية. فاجتمع منها مجلد بقطع ربع في أكثر من ثلاثمائة صفحة، اتفق المؤرخون المهتمون بالصحافة العربية أنها كانت تحتوي على قصائد مشحونة بالهجو الفظيع في حق رجال الحكومة العثمانية ولاسيما مختار باشا الغازي الذي انهزم أمام الجيوش الروسية في قارص. وفي قصيده له يهجو الغازي – الفار مختار باشا مطلعها:

هل أتاكم بأن مختار غازي أصبح اليوم وهو مختار باشا

بات مثل البرغوث أو مقلة مف روكة قصعت بلحية باشا


ويقول بمناسبة النصر في قارص: "كم مرة حارب الروس الأتراك فهزموهم وسحقوهم، وهي هي ذي راية الروس ترفرف خفاقة فوق مدينة قارص. وأصبح الأتراك في خبر كان، هذه هي نهاية كل مستبد جائر، فهو دائما الى زوال، أما كان خيرا لهم لو أنهم عاملونا بالاحسان والعدل والانصاف؟

في سنة 1880 انقطع حبل حياة رزق الله حسون الكاتب الذائع الصيت والصحافي اللامع الذي طبقت شهرته الآفاق. وقد شاعت في الأوساط العربية رواية مفادها أن السلطان عبد الحميد – مدبر ألوف الاغتيالات – قد أمر بتسميم حسون، لأنه كان يوجه له ولرجال دولته نقدا مرا لاذعا أنزلهم دركات الجحيم، وذلك عبر صحافته وكتاباته التي لعبت دورا مهما في نهضة الآداب العربية وايقاظ الوعي القومي عند العرب. ورغم أن كراتشكوفسكي كتب مرة يقول: "على أن هذه الرواية لا أساس لها من الموثوقية"، لكنه استدرك فيما بعد ليشير في أكثر من مناسبة الى "أن حسون الذي حارب الحكومة التركية دون هوادة وافته المنية في لندن، ويبدو أن واحدا من عملاء السلطان التركي وجواسيسه قد دس له السم خفية". أما كريمسكي فكتب يقول: "ليست هناك أدلة ثابتة لهذه التهمة، ولكن عملا كهذا – والحق يقال – يتوافق تماما وجوهر سياسة السلطان عبد الحميد". وكانت جريدة "صوت الشعب" (الأرمنية الصادرة بتاريخ 27/10/1944 قد استشهدت بكلام المؤرخ اللبناني الشهير يوسف ابراهيم يزبك الذي "اتهم مدحت باشا بتسميم حسون" ، ولكنه قال أيضا أن المؤرخ عيسى المعلوف المقرب من رزق الله لم يدعم هذا الرأي).

من الصعب جدا رسم صورة كاملة عن أعمال رزق الله حسون ونشاطه، فبعض آثاره مطبوعة لم تصل الينا آية نسخة منها، وبعضها الآخر لا يزال مخطوطا محفوظا في المكتبات والأرشيفات والمتاحف. وسيزول عجب القارئ حين يعلم أن جواسيس السلطان وعملاءه كانوا يحصون أنفاس رزق الله في حياته ويراقبون كل تحركاته وأنشطته، وكانوا يسهرون بعد وفاته على منع ذكر اسمه في اي من الكتب التي أرخت للأدب العربي. وبالفعل لم يكن اسمه واردا اطلاقا قبل القضاء على حكم الأتراك، ولاتزال مقالاته المنشورة في حياته غير معروفة بالكامل ، فضلا عن أن مجموعات الجرائد والمجلات التي أصدرها غير موجودة، وأخيرا، فان الكثير من كتاباته المخطوطة لا تزال موزعة في حوزة أفراد كثيرين.

فكتاب "حسر اللثان" مثلا لم يصلنا وليست هناك معلومات موثوقة عنه. فقد درست آثار النسخ المخطوطة التي كانت بحوزة المسيحيين العرب في مطلع القرن الحالي. ويذكر كراتشكوفسكي أن السوري ميشال مرقص ، مدرس اللغة العربية في جامعة موسكو، كان قد أحضر معه نسخة الى روسية ورغب في ترجمة "حسر اللثان" الى الروسية ونشرها، ولكنه لم يوفق في تحقيق مشروعه. ومن الجائز أن تكون تلك النسخة قد انتقلت سنة 1852 الى السوري إلياس نوفل مدرس اللغة العربية والفقه الإسلامي في الدائرة العلمية التابعة لوزارة الخارجية الروسية، الذي استفاد من "حسر اللثام" كثيرا خلال تحضير كتاب بعنوان "محمد" الذي أصدره بالفرنسية سنة 1888 في بطرسبورغ، بيد أن السفارة التركية أمرت بجمع نسخ الكتاب واتلافها، فلم يبق منها سوى واحدة في المتحف الأسيوي، اختفت أيضا بعد عام 1894. ونشير في هذا السياق أن مؤرخا مجهولا كان قد نشر سنة 1895 كتابا سماه "حسر اللثان عن نكبات الشام" مؤلفا من 284 صفحة . ان تطابق عنوان الكتاب وموضوعه مع ما ألفه رزق الله حسون، ونعني تكريسه لتاريخ الحرب الأهلية المعروفة بحوادث سنة 1860، حين كان حسون أمين سر اللجنة المهتمة بالتحقيق في الحوادث – كل ذلك يدفعنا للاعتقاد بأن اخفاء اسم الكتاب والمطبعة التي نشرته لم يكن مصادفة محضة أبدا، ولاسيما انه من المعقول جدا أن يكون حسون مؤلف ذلك الكتاب، ولكن هل شكل "حسر اللثام عن نكبات الشام" يا ترى جزءا من هذا الكتاب؟ ومما يؤسف له حقا أن التفتيش في سائر المكتبات العربية لم يسفر عن نتائج ايجابية للحصول ولو على نسخة واحدة من الكتاب المذكور.

ولم تصلنا أيضا الرسالة التي كتبها بعنوان "قول من رزق الله حسون يبرئ نفسه من الغلول"، أي من التهمة الباطلة التي وجهت اليه بشأن استغلال مال الجمارك، اذ يوجه انتقادا فاضحا لموظفي الحكومة التركية. ولم تزل المكتبات خالية من بعض أعماله التي وصلتنا أسماؤها نقلا عن مصادر التاريخ ولم نرها نحو: "نشيد الأناشيد" و"مراثي أرمينية" وغيرها.

وأخيرا، كتاب "النفثات" الذي قدمه شخصيا في دمشق الى الأمير عبد القادر الجزائري، كان يحتوي على طرف كثيرة وابتكارات عديدة، نشير الى واحدة منها، فالصفحات الأخيرة من الكتاب (80-83) احتوت على قطعة عرض فيها بالشيخ أحمد فارس الشدياق مستخدما السورة 22 من القرآن ، التي رتب حسون أحرف آياتها السبع الأولى ترتيبا ألف منه جملة سخر وتهكم بها من الشدياق، فما كان من الأخير أيضا ألا أن تهكم من حسون حين قال عبارته الشهيرة: "كان حسون لصا وله سرقات، فأصبح صلا، وله النفثات". وقد أخطأ كراتشكوفسكي فقد فهمها بمعناها الحرفي "نفثت الحية السم"، والأولى بنا أن نفهمها بمعنى "انفجار وثوران" الذي يتناسب وطبع وأسلوب رزق الله حسون الثائر كالبركان المتفجر.


قد يدبو للنظرة الأولى ان كتاب "النفثات" الذي أصدره حسون في لندن قبل الشروع بنشر جرائده وضمنه صحفتين عرض فيهما بداعية الوحدة الاسلامية الشيخ أحمد فارس الشدياق، وقصائد مدح فيها البطل العربي عبد القادر الجزائري الذي قارع الاستعمار الفرنسي، علاوة على قصيدتين مكرستين لاعتلاء السلطان عبد العزيز العرش، والتماسين قدمهما للسلطان من غياهب السجن – قد يبدو ذلك بمثابة تراجع فكري أظهره حسون يومئذ بغية تمهيد طريق العودة إلى أسطنبول. ان ادراكه لعدم جدوى فعالياته ومردودين نشاطه السياسي – الاجتماعي بعيدا عن وطنه وشعبه، والشوق والحنين لأسرته التي تركها أسيرة في الأستانة ولاسيما الى قرينته وابنه الوحيد ألبير حسون، والآثار التي تركته في نفسه لقاءاته مع الرجال الأحرار العرب والأتراك دعاة الاصلاح في باريس وغيرها من الاعتبارات والعوامل التي قد تكون دفعته للتفكير بالعودة الى اسطنبول ولو مؤقتا. ولكن هذه الهواجش التي اعتملت في صدره أقل شأنا من الأهداف السياسية والاجتماعية التي وضعها نصب عينيه حين قام بتعريب قصص كريلوف عن الروسية. فوضعها على طريقة بيدبا الهندي في كليلة ودمنة، ولافونتين في خرافاته، ولقمان في حكاياته، وما شاكل. وهل كان حسون الا واحدا من كبار أحرار العرب حين نظم قصائد مكرسة لروسية، قارن فيها بين السلطان التركي الذي يستعبد الشعوب ويدمر المدن العامرة في الشرق، وبين بلاد القياصرة التي بلغت – كما يقول – حد الكمال، حيث يعيش الناس في أمان واطمئنان بعيدا عن الظلم والطغيان، فلا يعرفون شيئا عن فساد الحكم والأمراء الا من الحكايات؟

ويزداد حسون تألقا ولمعانا في كتاب "المشعرات" الذي صدر في سان باولو بعد وفاته (1901) والذي تضمن – وفقا لأخبار الصحافة العربية – أشعارا مختلفة وخمس مسرحيات ، الاشعار مكرسة أساسا لذكرى الأحداث الأليمة التي وقعت في بلاد الشام ولبنان سنة 1860 وهي دعوة صريحة للثورة على حكم الأرتاك، وقصائد تكفير واتهام للشدياق، وتجريم لليهود الذين ساهموا مع الأتراك في تدبير وتنظيم مذابح الشام، ومدائح للنصر المؤزر الذي احرزه السلاح الروسي على الأتراك في معركة قارص وغيرها.

الى هذا كله يجب التذكير بأن رزقا الله حسون كان قد ساعد كثيرا من المستشرقين في دراساتهم وأبحاثهم وفي اكتشاف وتحقيق ونشر عدة كتب من تاريخ الأدب العربي القديم (ديوان الأخطل وديوان ذي الرمة، ونقائص جرير والفرزدق وغيرها)، وقد أعد بنفسه للطبع ديوان حاتم الطائي ونشره في لندن سنة 1872.

ورزق الله حسون له مكانته البارزة والمميزة في تاريخ الفكر العربي السياسي – الاجتماعي. وقد أصاب كراتشكوفسكي الهدف حين عده "واحدا من أعظم رواد النهضة الأدبية القومية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر". وكصحافي حر طويل الباع كان له أثر جليل في صياغة الفكر السياسي العربي الليبرالي وترويجه واشاعته داخل حركة النهضة، رغم أن الصحافة في المشرق العربي كانت تنمو بوتائر سريعة من حيث الكم والكيف، ورغم أن التحولات الاجتماعية – السياسية والتغيرات الفكرية – الثقافية، وتفجر حركة التنوير العربي أصبحت في حكم الواقع الذي لا مرد له.



الفصل الرابع: تصاعد المد التنويري في بيروت وانبعاث الفكر القومي العربي

ا- الفكر الليبرالي التركي

ارتبط التاريخ العام للأقطار العربية ومسيرة النهضة الثقافية القومية العربية في مطلع السبعينيات ارتباطا عضويا بالأوضاح الداخلية والخارجية للدولة العثمانية، التي تجسدت في الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة والتي اصابت الامبراطورية التركية بالشلل الكامل.

ان جبهة الأغلبية المكونة من الاقطاعيين المحافظين ورجال الدين وكبار الموظفين الملتفين حول الباب العالي الذي مثل قلعة الرجعية والاستبداد والعدو اللدود لاي اصلاح أو تجديد، لم يكن بمستطاعه أن يستقطب آفاق الاصلاح في السلطنة العثمانية الا حول تحقيق السياسة التقليدية للاستغلال والاستثمار والضغوط والاضطهادات في أبشع صورها وتجلياتها.

في الربع الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت داخل جبهة الأغلبية جماعة من الناس القلقين على مصير الامبراطورية العثمانية ، الذين رأوا أن الاصلاحات – طبعا بتأثير من الدول "الصديقة" للباب العالي – ضرورة حيوية لانقاذ الامبراطورية من الضياع. غير أن جماعة المصلحين القليلة العدد وغير المتجانسة دب الانقسام فيما بينها ثم ازاد عمقا واتساعا بفعل الزمان وتقلب الأحوال وقد شكل الجناح المعتدل غالبية الداعين للاصلاح والتجديد. فمنذ أواخر الثلاثينيات وعلى أثر الأزمات المتعاقبة التي هزت الامبراطرية العثمانية رأى هذا الجناح المخرج الوحيد في تطبيق الاصلاحات، التي رسمتها البيانات الشاهانية الصادرة عامي 1839و1856. فلم يكن بمقدور الداعين الى تنفيذ التنظيمات أي الاصلاحات المنزلة من عل، القيام بأكثر من ذلك في ظروف المقاومة الضارية التي أبدتها الأغلبية الرجعية. وهذا لا يرجع فقط لسبب خشيتهم من فقدان نصيبهم في السلطة نهائيا، ولاسيما أنهم حرموا منها في فترات سابقة، بل وبحكم هويتهم الاجتماعية وانتمائهم الطبقي. حقا ان القسم الأعظم من هؤلاء الدعاة من نتاج الاقطاعية العثمانية، ولكنهم انطلاقا من مصالحهم في فرض الهيمنة التركية، يختلفون عن الأغلبية الرجعية في محاولاتهم الساعية لتطعيم النظام الاقطاعي القروسطي ببعض المعايير والقيم البرجوازية العصرية.

كان الجناح الأكثر ردايكالية نسبيا بين الاصلاحيين مؤلفا من تلك العناصر التي اعتبرت علاج "الرجل المريض" علاجا جذريا وتجميل قبائحه الى أقصى حد ممكن، من الضروريات الملحة الآنية التي لا تقبل أي تأخير أو تأجيل. كان مؤسسو وأعضاء التنظيمات "الليبرالية" العثمانية: "الاتحاد الوطني" (1865) و"العثمانيون الجدد" (1867) و"جمعية تركية الفتاة" من ممثلي الاقطاعية – الارستقراطية الليبرالية العثمانية (من الأتراك وغيرهم من الأقوام الأخرى ولاسيما العرب المسلمين) ومن أبناء الشريحة البرجوازية التجارية التركية (المحافظة حتما لأنها تركية).

فبعد اعتلاء السلطان عبد العزيز عرش السلطة عام 1861، انقلب على سياسة التنظيمات فاتبع منهجا مغرقا في الرجعية. اذ ذاك نشط الجناح الليبرالي داخل أوساط دعاة الاصلاح الأتراك، الذين حاولوا انقاذ الامبراطورية من الاندحار والسقوط، وبالتالي تدعيم سيطرة العنصر التركي وهيمنته. وقد قام المثقفون البارزون الذين تلقوا علومهم في المدارس العلمانية التركية أو في أوربة ولاسيما فرنسة، والذين التفوا حول مجلة "ترجمان أحوال" التركية أمثال: نامق كمال، عبد الحميد ضيا، علي السوافي، ابراهيم شناسي، أغياخ تشابان أوغلي، توفيق أبو ضيا، أحمد وفيق، مصطفى رفيق – قاموا باسداء خدمات كبيرة في مجال انعاش التيار الليبرالي الاصلاحي، وشكلوا النواة الأساسية لجمعية العثمانيين الجدد.

ان تحليل الفكر الاجتماعي – السياسي للعثمانيين الجدد لا يدخل في اطار دراستنا، خصوصا ان المستشرقين الأرمن وضعوا دراسات أكاديمية رفيعة المستوى في هذا المضمار. وما يستوقفنا هنا اعطاء صورة عن الأوضاح السياسية السائدة في الواقع العثماني، الذي تواقت مع فترة استباب الحكم التنويرية داخل التيار النهضوي في بيروت حين كان العثمانيون الجدد يسعون جاهدين لتحقيق المرحلة الثالثة والأخيرة من التنظيمات، ونعني بها ، تحويل النظام السلطاني الى ملكية دستورية واجراء ما يناسبه ويقتضيه من اصلاحات. ولكن – كما يقول نوفيتشف: "كانوا يناضلون ضد النظام الاستبدادي المطلق وهاجسهم الأساسي يمتحور حول الحؤول دون سقوط الامبراطورية العثمانية القائمة على تسلط العنصر التركي واستبداده للشعوب والأقوام الأخرى".

فمنذ أن عين السلطان عبد العزيز واحدا من أكبر غلاة الرجعية الباشا محمد نديم صدرا أعظم سنة 1871، وعلى الأرجح عندما وطد السلطان مواقع هذا الباشا اثر الأزمة الحكومية المزمنة سنة 1873، تمكن العثمانيون الجدد من كسب ثقة الجناح الليبرالي نسبيا داخل الطبقة الاقطاعية – الارستقراطية المتمثلة في الوجهاء والأعيان وكبار موظفي الدولة، فكان مدحت باشا زعيم الاصلاحيين الأتراك عظيما بالنسبة لهم.

نجح مدحت باشا في استقطاب جبهة عريضة مكونة من عناصر متباينة في أفكارها وميولها بدءا بالعناصر الرجعية المحافظة المستاءة من اخفاقات السياسة الخارجية، مرورا بالعناصر الاصلاحية – المعتدلة الناقمة على هيمنة انقاذ السلطنة العثمانية هذه الجبهة اللا متجانسة طبقيا واجتماعيا هي التي أطاحت بحكم السلطان عبد العزيز في 30 آثار (مايو) 1876، ويخلفه السلطان مراد الخامس في 31 آب (أغسطس) ، عندما ارتقى العرش السلطان عبد الحميد الثاني ، الذي انقض على الاصلاحات الدستورية، فاصطبغ النظام الاقطاعي الاستبدادي في عهده بطابع العنف الشديد والدموية.


قانون المطبوعات العثماني

في حمأة هذه الظروف العصيبة المريرة السائدة في أرجاء الامبراطورية وقفت حركة التنوير العربي الباحثة عن مكان لها تحت الشمس، أمام خيارات قاسية وصعوبات لا حد لها تجلت قبل كل شيء في الرقابة التركية المشددة، التي ازدادت حدة وقوة بين يوم وأخر.

كانت الفئات الحاكمة الاقطاعية – الدينية الظلامية لا تدخر وسعا باتجاه عرقلة الطباعة باعتبارها فعلا منكرا من "اختراع الكفار"، فارباب الحكم لم يكونوا يتخوفون من التقدم الثقافي لدى الشعوب الخاضعة للأتراك وحسب، بل وكانت فرائصهم ترتعد من واقع ايقاظ الوعي السياسي – الاجتماعي الذي اضطلعت به الصحافة الدورية. ولذا كله قاموا في الأربعينيات بتنفيذ اجراءات قمعية وفرضوا رقابة صارمة على المطبوعات.


ومن الدلائل التي تشير الاستغراب ان التدابير التي اتخذتها الحكومة العثمانية بحق المطابع الأجنبية – كما يزعمون – كانت موجهة بنصلها الحاد ضد المطابع الوطنية الموجودة على أرض لبنان. وقد شددت المذكرة الشاهانية الموجهة الى جميع المفوضات الدبلوماسية الأجنبية بتاريخ 18/7/1849 على ما يلي: "ان بعض رعايا الدول الصديقة الموجودين في أرجاء جبل لبنان ينشئون مطابع خاصة دون الحصول على اذن مسبق من السلطات المحلية، فيطبعون كتبا وجرائد باللغة المحلية ويقومون بترويجها للناس". وبعد أن يذكر الباب العالي أن عملا كهذا يتنافى ومصالح الدولة السنية، يوجب على اصحاب الشأن الحصول على ترخيص من الجهات المسؤولة، ويفرض عليهم تقديم مسودات المؤلفات المعدة للطبع سلفا.

وذا أخذنا في الحسبان أن الباب العالي اضطر في شهر تموز (يوليو) 1856 الى تكرار اوامره هذه ، فاننا نستنتج أن أوامر السلطان السابقة لم تجد طريقها الى التنفيذ في المشرق العربي.

كان قانون المطبوعات الصادر في 15 شباط (فبراير) 1857 قد فرض رقابة مشددة على المطابع في عمود البلاد. وأصبح الحصول على ترخيص من الوالي شرطا أساسيا لافتتاح مطبعة أو اصدار كتاب أو جريدة أو حتى منشور. وقد خولت الشرطة حق حجز أي كتاب "يضر بمصلحة الدولة والمجتمع". واقفال المطبعة وتحميل الخارجين على القانون المسؤولية الجنائية. كما فرض القانون على أصحاب المطابع ترتيب أوضاعها القانونية خلال مدة أقصاها ستة شهور. ولم يعطل القانون الصحف الدورية العاملة، لكنه فرض على الرعايا الأجانب استصدار رخصة من وزارة الخارجية العثمانية تخوله حق انشاء مطبعة ونشر كتاب أو جريدة شرط أن تنظر الرقابة مسبقا فيما يصدر من مطبوعات.

أما قانون المطبوعات الصادر في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1864 فقد نص على ضرورة استصدار ترخيص من حاكم الولاية ونظارة المعارف، يسمح بتأسيس جريدة. وقد وضع القانون الشروط التالية على صاحب الامتياز: أن يكون الناشر قد أكمل الثلاثين من عمره، ومن الرعايا العثمانيين ذوي الأملاك. حقا ان القانون الجديد لم ينص صراحة على الرقابة القانونية، لكنه أوجب على الناشر توقيع نسخة واحدة من جريدته وتقديمها مسبقا الى ديوان الوالي. وحدد القانون خمسة وعشرين نوعا من العقوبات لكل من تسول له نفسه نشر مواد تدعو الى "الاخلال بالأمن الداخلي" و"التعريض بالأديان والمعتقدات" و"فساد السلطان وعائلته وأقربائه وبطانته وحكومته وسلطاته المحلية". وقد بلغت العقوبة القصوى ثلاث سنوات من السجن أو ستا في حالة تكرر الجريمة.

وفي 16 آذار (مارس) 1867 أصدر الصدر الأعظم علي باشا أمرا يقضي بتطبيق قانون المطبوعات بكل حذافيره، ويعطي حكام الولايات حقوقا اضافية تخولهم تشديد اجراءات العقوبات وفقا لرغباتهم وأهوائهم. وقد أصاب جلتياكوف ، المختص في تاريخ الطباعة والصحافة في الامبراطورية العثمانية، كبد الحقيقة حين أكد أن الرقابة على اصحافة كانت تجري وفقا لقوانين الطوارئ اذ اصبحت الجرائد أسيرة ارادة الحكام، وافرغت من مضمونها التقدمي الأصيل.


الصحافة الرسمية

وبصورة موازية لتلك التدابير الادارية القاسية التي ترافقت مع حملة اعلامية واسعة تدعو للوحدة الاسلامية رفع رايتها أحمد فارس الشدياق ، ارتأى ارباب الحكم الأتراك اصدار جرائدة رسمية في مراكز الولايات بهدف التأثير مباشرة على الرأي العام في الاقطار العربية الشرق أوسطية.

جريدة "سورية"

كانت دمشق السباقة بين تلك المراكز، فقد بادر راشد باشا حاكم ولاية سورية الى اصدار صحيفة أسبوعية رسمية عنوان "سوريا" بتاريخ 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1865. ظهرت في أربع صفحات كبيرة نصفها تركي والنصف الآخر عربي، قام بتحريرها كل من محمد كرد علي وأديب نظمي. وقد اختصت الجريدة بنشر أوامر الحكومة ونظاماتها والحوادث الرسمية في الولاية مع اعلانات الدوائر الحكومية. والأمر الذي يلفت الأنظار أن المركز الرئيسي لسورية لم يكن قد عرف المطبعة حتى ذلك التاريخ، وأن أول من رتب أحوالها ونظم أمورها كان خليل الخوري اللبناني، الذي تخرج على يده بعض العمال الماهرين الذين نطموا شؤونها بعد تركه اياها.


جريدة "غدير الفرات"

بموجب قرار صادر عن الوزير والمؤرخ التركي الشهير جودت باشا والي حلب تأسست سنة 1867 صحيفة "غدير الفرات". وهي أسبوعية رسمية كانت تطبع بداية باللسانين العربي والتركي ثم أضيف اليهما في السنة الثانية قسم ثالث باللغة الأرمنية دام سنة ونصف السنة، وكانت تسمى "الفرات" . وأول من تولى كتابة قسمها العربي كان أحمد مصطفى زاده، خلفه السيد عبد الرحمن الكواكبي الشهير مدة خمس سنوات.


جريدة "لبنان"

وفي سنة 1867، أنشأ داود باشا حاكم جبل لبنان جريدة أسبوعية رسمية اسماها "لبنان" في أربع صفحات من القطع الكبير، وللعلم نقول ان هدف داود باشا من انشائها لم يكن فقط متجسدا في مهمة انقاذ لبنان الذي كان يعاني الأمرين من نتائج الحوادث الطائفية الدامية ابان الأربعينيات والستينيات لما سعى سعيا مشكورا لمد عروقه بالدم النابض بالحياة والحيوية. وقد أكد معظم الكتاب العرب والأجانب أن عملية الاحياء والانعاش أصبحت واقعا ملمومسا في المناطق التي حددها النظام الأساسي لجبل لنان حتى العام 1867. ولم يبق على الحاكم داود باشا سوى بعث الحياة في أوصال الكيان اللبناني. وقد لاحظ أحد منظري أيدييولوجية "الأمة المسيحية" بولص نجم أن أخطر مسألة واجهت بعث لبنان تركزت حينئذ وفي المستقبل "في اشكالية توسيع رقعة حدوده الجغرافية، لأن اللبنانيين كانوا يختنقون في بلدهم الصغير" . والحقيقة التي لا مراء فيها أن حكومة الباب العالي نجحت بمساعدة الدبلوماسية البريطانية في اقناع الدول الأوربية بالقبول بخريطة لبنان مشوهة ومشرذمة، رسمت رسما عشوائيا بحيث اقتطعت تقريبا نصف الأراضي اللبنانية الجغرافية – التاريخية والحقتها بالولايات السورية وهي: منطقة بعلبك، ووادي البقاع، وادي التيم ومرجعيون، وكل الساحل تقريبا مع مدنة الرئيسية بيروت وطرابلس وصيدا وصور (باستثناء مرفأ جونية الصغيرة). وكان داود باشا أعيد تعيينه متصرفا على لبنان سنة 1864 بفرمان من السلطان التركي وموافقة الدول الأجنبية، يرى أن مواقعه تعززت تماما بدرجة تمكنه من تحويل جبل لبنان والأراضي التابعة له تاريخيا الى دولة موحدة ذات استقلال ذاتي . وبناء عليه، كان داود باشا يطرح باستمرار وحزم أمام الباب العالي قضية توسيع حدود المتصرفية التي أوكل اليه أمر ادارتها.

وأقبل داود باشا عام 1867 على تحقيق مشاريعه الرامية الى بعث الحياة الاجتماعية – السياسية والفكرية – الثقافية، ولاسيما خطته في اصدار صحيفة رسمية تشد من أزره في تحقيق أفكاره ، وتسمية الجريدة "لبنان" تشير بحد ذاتها الى رؤية مستقبلية وتوجه سياسي جرئ، حتى لو كان من قبيل الرفض الهادف للتسمية الرسمية التجزيئية، وهي "جبل لبنان". مختصر القول : طرح الحاكم داود باشا مفهوما جديدا لا سابق له، أي لبنان التاريخي –الجغرافي والاداري – السياسي بمعناه الواسع، لبنان الرجاء والأمل والمستقبل.

وما من شك اطلاقا في أن الأسبوعية كانت أعجز من أن تعلن على الملأ ما تؤمن به ضمنيا أو اذاعة الهواجس والأفكار التي كانت تعتمل في صدر داود باشا، أو حتى بعض الكتابات والمراسلات الرسمية الموجهة الى عاصمة السلطنة. ولكن من المؤكد أن جريدة "لبنان" لم تكن كغيرها من الصحف الرسمية الصادرة في دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية – أداة للبتشير بالدعوة الرسمية الرامية الى تتريك الرعايا والمواطنين غير الأتراك.

بل كانت ذات توجه ثقافي واجتماعي محدد. بمعنى آخر: كانت تراعي القواعد العامة المفروضة قسرا على جميع الصحف الصادرة في بلد خاضع لسيادة السلطان التركي، ولكنها لم تتوان يوما عن التشديد على خصائص ومميزات لبنان، وفي طليعته الاستقلالية النسبية عما في الأقطار الأخرى التي أهلته الى حد ما لتثبيت أركان الحكم، وتعميق التآلف والتضامن بين الطوائف المتباينة، وهو ما توصل اليه داود باشا بشق الأنفس وبذل الغالي والرخيص. ومن الحقائق التاريخية الهامة ان داود باشا الذي كان ينفق من خزينة الدولة لتقديم المساعدات المالية الى جريدة "حديقة الأخبار" البيروتية في الفترة ما بين 1861-1867 لم يتوقف عن دعمها يوم شرع بتأسيس جريدة "لبنان" ، ولكنه أوعز الى محرري صحيفته أن ينشروا مواد شيقة لتستقطب حولها قراء "حديقة الأخبار" البيروتية لصاحبها خليل الخوري، ولتحويل "لبنان" ان لم يكن الى الدورية الوحيدة ، فعلى الأقل جعلها لسان حال البك. وقد عنى هذا من جانب آخر أن داود باشا كان يرغب في انتزاع الدور الطليعي المخصص لرواد النهضة في بيروت، والحد من التأثير الذي كانوا يتركونه على الحياة الاجتماعية والثقافية في جبل لبنان، فضلا عن اظهار العزم الراسخ على ترويج الأفكار الاستقلالية داخل بيروت نفسها بمساعدة جريدة لبنان عينها، وهناك حقيقة هامة وهي أن "لبنان" كان نصفها عربي العبارة ونصفها الآخر فرنسي، وليس تركيا على جري العادة في الصحف الرسمية المنتشرة في أصقاع الدولة العثمانية. خلاصة القول: كان داود باشا يسعى لتأكيد الواقع التالي، وهو أن السكان في لبنان كانوا دون سواهم على جهل مطبق باللسان التركي، فضلا عن التركيز على الفكرة أن محور الاستقطاب الفكري والثقافي في جريدته لم يكن عثمانيا متخلفا، بل أوربيا تقدميا. كان قد تولى ادارة تحريرها وكتابة قسمها العربي أولا صاحب السيف والقلم وسليل الأسرة المارونية العريقة التي تولت منطقة القويطع في شمال لبنان، حنا بك أبو صعب (1820-1897). وبعد أن انتقلت اسرته الى المتن تلقى أصول اللغة العربية والنظم على الشاعر المشهور نقولا الترك. تسلم مدة ستة أعوام نصب رئيس كتبة الأمير أمين بن بشير الذائع الصيت، فتعلم منه نظم الشعر. ثم سافر سنة 1840 مع الأمير المشار اليه أعلاه الى جزيرة مالطة وإسطنبول فقاسى معه الأمرين في المنفى وعاد الى وطنه سنة 1849، أي قبل وفاة الأمير التي حلت في 29 كانون الأول (ديسمبر) 1850). وقد عين حينئذ كاتبا لمصطفى باشا الشكدوري والي بيروت. وهو أول من نال لقب بك بين نصارى جبل لبنان وبلاد الشام قاطبة. وفي عام 1852سكن في بيت الدين وأنشأ هناك مطبعة خاصة هدف منها نشر الكتب الأدبية الزمنية طرا وترويجا بين الناس. وكان حنا أبو مصعب الذي شارك سابقا في المعارك ضد الأتراك خلال شهري آب وأيلول (أغسطس – سبتمبر) لعام 1840 من أجل وحدة الامارة اللبنانية واستقلالها، قد بادر الى اصطلح مطبعته فنظم أمورها ووضعها تحت تصرف داود باشا حاكم لبنان.

كان مساعد رئيس التحرير في جريدة لبنان الياس بن يوسف حبالين (1863-1889) من أسرة مارونية سكنت الزوق بجبل لبنان وعملت بصناعة الحبال. تخرج في مدرسة الآباء اللعازاريين في هينطورا فأحرز نصيبا وافرا من العلوم العقلية والنقلية، وأتقن آداب اللسانين العربي والفرنسي. اشتهر في الأوساط الثقافية بهدائه السافر للأـراك. وقد شارك في ادارة تحرير الجريدة كل من حبيب خالد الحلو والشيخ يوسف الأسير وفرنسيس دياب وغيرهم.


كانت شؤون الادارة والنشر موكلة الى يوسف فارس الشلفون (1839-1896) الذي كان جده يوسف الخوري الشلفون حاكم على ساحل لبنان. وبعد أن أتقن فن الطباعة لدى المرسلين الأمريكان وفي "المطبعة السورية" التي كانت تطبع "حديقة الأخبار" أنشأ عام 1861 في بيروت "المطبعة العمومية" التي أصدرت أكثر من ستين كتابا في شتى العلوم والآداب، اضافة الى مجلة "الشركة الشهرية". نؤكد في هذا المقام أنه، خلافا للمواقف العدائية التي اتخذتها الاقطعية – الأرستقراطية المارونية الدينية والزمنية تجاه المتصرف داود باشا ، سادت في أوساط المثقفين أمثال حنا أبو صعب وإلياس حبالين ويوسف الشلفون وغيرهم مواقف الاستيعاب والتفهم الكاملين ازاء التدابير الايجابية التي كان يقوم بها الحاكم الأرمني المحتد لعلمهم علم اليقين ان هاتيك المساعي كانت موجهة أساسا الى تحقيق الوحدة اللبنانية بين الطوائف وهي ضرورة حيوية لازبة للسير على طريق تقدم البلاد. فقد نظم حنا بك أبو صعب قصيدة في مدح داود باشا كمؤسس لجريدة "لبنان الرسمية" وبمناسبة تدشين مطبعة بيت الدين جاء في مطلعها:

في عصر داود مولانا المشير لقد جادت سواجعنا في كل تغريد

مولى له الراية البيضاء في ملأ غيث وغوث لظمآن ومنكود

وقال في آخرها:

كانت جوانبا بالحزن منبئة والآن تنبئ بسر كل تجهيد


بيد أن "عصر الوفاق" لم يدم طويلا، ففي عام 1868 استقال داود باشا من منصب متصرف لبنان، والمستشرقون السوفييت لم يتطرقوا الى أسباب استقالته ما عدا هولد بين ، الذي لمح الى الألم الذي حز في نفس المتصرف دواد باشا نتيجة "لانفجار الانتفاضة" التي قامت بها الجماهير الشعبية ضد "داود باشا" الذي كان في خدمة الأتراك "رافضة" تقديم الضرائب الى الحاكم الأجنبي ومطالبة "بتنصيب حاكم وطني". ثمة تفسيرا متباينة لدى الكتاب الأجانب حول مسألة استقالة داود باشا تتراوح بين اتهامه "بالتقصير في مقاومة المعارضة المارونية الصامتة" و"الصدام المسلح بينه وبين الزعماء الاقطاعيين في الجبل" وبين القاء المسؤولية على "التدخل التركي المباشر في الشؤون الداخلية للبلد و"القطيعة بينه وبين الدول الأجنبية، ولاسيما مع مندوبي الدولة الفرنسية". ولعل المؤرخ والكاتب الاجتماعي نجيب الدحداح المتحدر من أسرة مارونية مترفة كان أقربهم الى الحقيقة حين أفاد أن داود باشا استقال حين تعذر عليه توسيع حدود جبل لبنان المستقل. وقد أكد أحمد طربين أيضا – وهو من المؤرخين الذين يعتمدون على الوثائق والمستندات التاريخية – أن داود باشا تراجع عن منصب المتصرف بعد أن رفضت الحكومة التركية مطلبه بشأن توسيع أصقاع لبنان المستقل على حساب الأراضي التابع له تاريخيا. ومن الأهمية بمكان الشهادة الواردة في المصادر الأرمنية حول أن مشروع اقامة دولة لبنان لم يكن حيويا في نظر رجل الدولة الأرمني من موقع الحرص على المصير التاريخي للبنانيين عامة، والنصارى بوجه خاص وحسب، بل وكانت له دوافع وحوافز بعيدة الآفاق. وعن هذا الموضوع كتب سيساك وارجبيديان يقول: "من السمات المميزة لذلك المشروع الجهود المبذولة باتجاه تنظيم عمليات نقل الأرمن الى لبنان. فهو البلد الوحيد في الامبراطورية العثمانية الذي يشكل فيه النصارى غالبية السكان، وهو ما غري بداود باشا للتفكير جديا في مسألة تدبير هجرتهم الجماعية الى ربوع لبنان، وكان الكثير من العائلات الأرمنية قد استوطنت لبنان بتشجيع من الباشا نفسه". وعليه، فان مشروع الرامي لخلق "دولة مسيحية شبه مستقلة" تشمل ساحل المشرق العربي وتمتد من جنوب لبنان وربما من الساحل الفلسطيني الى سهول كيليكيا، وتحويلها الى ملجأ للأقليات المسيحية والقومية في الامبراطورية العثمانية – مشروع جدير بالاهتمام والدراسة المنهجية الموثقة بالمادة التاريخية النفيسة المحفوظة في شتى الارشيفات.

وللعلم نقول ان الاتفاق في الآراء والممارسات بين رجال النهضة المحافظين وبين السلطات المتصرفية وجد تجسيدا له في تعطيل جريدة "لبنان" على أيام حاكم الجبل الثاني فرنكو نصري باشا ذي الأصل الأرمني أيضا، والذي اتخذ من "حديقة الأخبار" جريدة رسمية سنة 1868. لكن "لبنان" عادت الى الظهور في غرة تشرين الأول (أكتوبر) 1891 بعناية المتصرف واصل باشا وصهره كوبليان أفندي في بعبدا، فكانت شبه رسمية اذ كان صاحب امتيازه ابراهيم بك الأسود أحد أعضاء المجلس الاداري لجبل لبنان.

نود التنبيه هنا الى ما ذكره الطرزي عن مسألة تطعيل جريدة "لبنان" بعد داود بااشا، بالميل الشديد الذي أبداه المتصرف الجديد فرنكو باشا نحو التجارة والاقتصاد. مثل هذا التأكيد لا يمكن أن يكون أهلا للثقة. ونميل نحن الى الافتراض أن المتصرف فرنكو باشا كان يقر بفكرة اعتبار بيروت مركزا فكريا وثقافيا لجبل لبنان، الأمر الذي يتوافق مع واقع تأثير النهضويين المحافظين على الحياة الاجتماعية والثقافية لرعاياه.

كان هذا أمر لا مناص من لسبب بسيط وهو أن مستوى تطور الحياة الاجتماعية – الاقتصادية والفعاليات الفكرية – الثقافية في اطار الجبل والمناطق الساحلية المحاذية له – خلافا للتحولات التي حدثت هناك – لم يكن يؤهله للتنافس والتحدي. فمن الجدير بالذكر أن "حديثة الأخبار" أجرت تنازلا هاما، والأحرى تراجعا كبيرا تمثل في تحولها للصدور باللسانين العربي والفرنسي بدءا من 12 آب (أغسطس) 1868 ولمدة خمسة عشر عاما. مما دفع مؤلفي "دائرة المعارف الإسلامية" الى اعتبار جريدة خليل الخوري من الصحف التي صدرت بلغتين. ومن نوافل القول انه اذا كانت ازدواجية اللسانين العربي والفرنسي في جريدة "لبنان" الرسمية ظاهرة ايجابية تستحق التقدير والتبجيل، فانها لم تكن كذلك بالنسبة "لحديقة الأخبار" التي ما كان بمقدورها الا أن توسع الهوة بين رجالات النهضة التقدميين والمحافظين ابان الخلافات الداخلية التي اشتغلت في بداية الستينيات.


التنافس بين المرسلين الأجانب ومفكري النهضة العرب

في الستينيات أخذت حدة التناقضات بالازدياد والتعمق من عام لآخر بين المهام التي كان يطرحها المبشرون الأجانب ومفكرو النهضة العرب، ولاسيما على صعيد الممارسة والتطبيق. فمن الدلائل البليغة على ظهور الاتجاهات الجديدة داخل تيار رواد النهضة العرب منذ أواسط الخمسينيات أن المعلم بطرس البستاني – كما يقول الطيباوي – "أبدى المزيد من الاستقلال الفكري" و"أخذ في الابتعاد تدريجيا عن المبشرين" ثم "قطع علاقاته المباشرة مع المرسلين بعد وفاة سميث (1857)" مع الحفاظ على "استمرارية الاتصالات الودية، ولكن غير الحميمة".

ان استبدال "أخبار عن انتشار الإنجيل" النشرة الشهرية الدينية المصورة التي أنشئت سنة 1863 برعاية الدكتور فانديك، بالمجلة المعروفة باسم "النشرة الشهرية" المصورة سنة 1865 (الدينية – اللاهوتية في الأساس والتي عالجت أيضا المباحث العلمية الأدبية) كان بمثابة رد فعل على الاتجاه الفكري الجديد في أواسط الرواد العرب، الذين أخذو يمارسون فعاليات نشيطة ساهمت اسهاما فعالا في عملية دفع سيرورة النهضة العربية الثقافية – القومية. وهذا يعني أن المبشرين البروتستانت الأجانب استفاقو من غفلتهم ولم يعودوا يكتفون بالتبشير الديني – المذهبي الصرف، بل حاولوا عن طريق نشر الأفكار التنويرية، الحفاظ على الأرض التي أخذت تمور تحت أقدامهم. وليس مصادفة اطلاقا ان ظهرت "جمعية شمس البر" في بيروت سنة 1869 فرعا لجمعية "اتحاد الشبان المسيحيين" في إنكلترة، وهي أدبية خطابية، وان اشترط فيها بعض الشروط الدينية. وقد انتظم في سلكها فريق كبير من أدباء بيروت وسورية، أكثرهم من خريجي الكلية الأمريكية وغيرها من مدارس المبشرين الأمريكان العالية. خلاصة القول: ان التعاون المشترك الذي استمر زهاء عشرين عاما انتهى الى الزوال وحل مكانه التنافس في الأفكار والميول والمشارب.

آل سركيس

لم يكن المبشرون الأجانب يخوضون غمار هذا التنافس بمعزل عن مريديهم من أبناء العرب. حقا ان المرسلين فقدوا الكثيرين من أعلام النهضة ولكنهم لم يكونوا معزولين تماما. فقد وقف الى جانبهم فريق كامل من الشباب المثقف برز منهم بوجه خاص من آل سركيس كل من شاهين وابراهيم وأمين وسليم وخليل. كان والدهم خطار بن سركيس من أكبر التجار في عبية، ومن نصراء الأدب والعلم. توفي سنة 1847 فنظم الشيخ ناصيف اليازجي بيتين يتضمنان تارخيا لينقش على قبره:

خطار سركيس في هذا الضريح ثوي لكن له في مقاصير العلا دار

يقول في طي تاريخ أعد له انا الى الجنة الفردوس خطار

وابراهيم سركيس (1834-1885) صاحب الكثير من الكتب التي تعبر عن مصالح وتطلعات البرجوازية التجارية، نذكر منها "الأجوبة الوافية في علم الجغرافية" وكان قد ألف مع أخيه شاهين كتاب "تحفة الأخوين الى طلبة اللغتين الإنكليزية والعربية". ثم وضع كتاب "الدر النظيم في التاريخ القديم" و"صوت النفير في أعمال اسكندر الكبير"، وغيرها من التآليف العلمية والحسابية والفلكية والخطب والمقالات التي لم تشهر بالطبع والدالة على طول باعه في المعارف. أما أخوه خليل سركيس (1842-1915) فقد أسدى خدمات جليلة بنشره وتأليفه كتبا علمية وأدبية وتاريخية ومدرسية، نذكر منها "تاريخ القدس الشريف" و"أستاذ الطباخين وتذكرة الخواتين". أما كبيرهم شاهين سركيس (1830-1870) فقد ساعد ابراهيم في كتاب "تحفة الأخوين" المشار اليه أعلاه، وتعاطى التجارة مع أخيه أمين (المتوفى سنة 1896). عينه المرسلون الأمريكان مديرا للمدرسة التي انشأها العلامة بطرس البستاني . وقد اشتغل ابراهيم وشاهين في تحرير "النشرة الشهرية" التي تسلم ادارتها اخوهما خليل سركيس، والتي تحولت مستقبلا الى "النشرة الأسبوعية" كانت غايتها بث تعاليم المذهب البروتستانتي مع اذاعة أخبار المبشرين وأعمالهم بين الناطقين بالضاد، علاوة على أداء رسالتها في ميدان الفكر والثقافة.

يوسف الشلفون

لم يقتصر التنافس داخل التيار النهضوي على رجال الفكر المحافظين، بل تعداه الى الرواد الطليعيين والتقدميين بقيادة بطرس البستاني، وصفوة مختارة من الرواد الشباب الذين انفصلوا رويدا عن المحافظين وشكلوا جناحا "مقداما" كي لا نقول "ثوريا" من أعلام الهضة. والدليل على ذلك يكمن في أن ظهور "النشرة الشهرية" بمبادرة من المرسلين الأمريكان وآل سركيس قد تزامن مع نشر مجلة أخرى رسمية لها وهي "الشركة الشهرية" . ومؤسس هذه المجلة لم يكن من الأعلام الذائعي الصيت ، بل من الأشخاص الذين ترعرعوا في أوساط المبشرين الأمريكان، والذي استدعاه داود باشا لترتيب مطبعة الحكومة في بيت الدين. ونعني به يوسف الشلفون. عمرت هذه المجلة ثمانية شهور فقط، اقتصر مؤسسها نشاطه على نشر نبذ من كتب العرب الأقدمين، أو قصص مترجمة عن كتبة الافرنج المدثين، ولاسيما قصة "مونت كريستو" لإسكندر دوماس من تعريب سليم صعب.


التطور النوعي للصحافة العربية الحرة

ان النمو المتزايد لأعداد الرواد العرب الذين انفصلوا في السبعينيات عن المرسلين الأجانب ان لم يكن على الصعيد التربوي – التعليمي، بل القومي – الثقافي من جانب، وتباعد نقاط التماس النهضويين التقدميين والمحافظين من جانب آخر، تواقتا مع بروز أعلام النهضة "الجسورين" داخل التيار التقدمي وظهور أكر من عشر صحف دورية. أضف الى ذلك التمايز الظاهر في الأفكار والمواقف الذي تجلى في أسطع صوره من خلال النتاج الفكري الأدبي والصحافي الواضح تماما أنه في ظروف انتعاش الدعوة لتمجيد السلطان والوحدة الإسلامية على صفحات جريدة "الجوائب"الشدياقية في إسطنبول، والتبشيربالمركزية التركية من خلال صحافة العثمانيين الجدد، أي الدعوات الايجابية والودية ازاء هذه الدعوات لدى مسلمي بيروت وسورية عامة، وعزوف المسؤولين في "حديقة الأخبار" ليس فقط عن توجيه ضربة معاكسة جهارا وعلانية، بل وحتى ابداء أدنى قدر من رد الفعل الضمني الجانبي وهو أمر له بعض مببراته ومسوغاته انطلاقا من طبيعة الجريدة – في مثل هذه الظروف تعمقت الهوة واتسعت بين رجالات النهضة المحافظين والتقدميين. ترى ألم يشكل تعمق هوة الانفصام في مطلع السبعينيات السبب الأساسي في ان الجمعية العلمية السورية أخذت تعاني سكرات الموت حتى عام 1873 0 على حد تعبير أحد مصادر ذلك العصر – كما سنرى لاحقا.

وهنا أيضا كما في حالات كثيرة، لم يتمكن كريمسكي من رؤية النمو الظاهر في مستوى الفكر العربي القومي، اذ يفسر واقع الزيادة الكمية للجرائد العربية على الشكل التالي: "لقد دفعت الرغبة العديد من الكتاب المرموقين لامتلاج صحيفة خاصة بهم شخصيا". ان اخضاع الظواهر الاجتماعية – السياسية الموضوعية لرغبات الأفراد الذاتية، يعني التغاضي عن التحولات الجارية في الحياة الروحية عبر عشرات من السنين، وهو ما لا يتواءم بالطبع مع المنهج النقدي الذي اتصف به الكاتب، ولاسيما مع المادة النفيسة التي جمعها بالكاتب بشق الأنفس.

وبالفعل، فان ظاهرة النمو الكمي والكيفي في الصحافة العربية، ولو كان على صعيد الأفراد – يدل دلالة قاطعة على التغيرات الملموسة في ميدان أمزجة الناس والوعي الاجتماعي – فضلا عن التحسن الظاهر في الاتجاه الوطني. فبعد احتجاب جريدة لبنان نزل يوسف الشلفون بيروت، حيث أصدر "الزهرة" وهي نشرة أسبوعية ذات ثماني صفحات صغيرة في غرة كانون الثاني (يناير) 1870، تضمنت فصولا تاريخية ونوادر أدبية وفوائد عامية وأخبار مستظرفة، بقلم منشئها وبعض حملة الأقلام السوريين. صدر آخر أعدادها في 24 كانون الأول (ديسمبر) للسنة المذكورة. وفي ذات اليوم أنشأ المعلم بطرس البستاني مجلة نصف شهرية سياسية علمية أدبية تاريخية أسمها "الجنان" فظهر منها 35 عددا كان آخرها في 27 آب (أغسطس) 1870. وكان "المهماز" عنوان نشرة دينية أدبية تاريخية روائية ذات ثماني صفحات ظهرت في 25 شباط (فبراير) 1870 مرتين في الشهر لمنشئها خليل عطية اللبناني. وفي الحادي عشر من آيار (مايو) أنشأ القس لويس صابونجي السرياني مجلة "النحلة" فكانت "شديدة اللهجة في الجدل" . ومن أشهر المجلات الداعية الى الاصلاح الحقيقي. كان العدد الأول مؤلفا من 16 صفحة، صدر الأمر بتعطيلها بعد صدور العدد الحادي والثلاثين منها لأن صاحبها، كما قال الطرزي "تجاهل الحدود تطرق الى مسائل سياسية ومناظرات دينية". كانت النحلة من أمهات المجلات العربية التي عالجت مواضيع العلم والصناعة والتارخي واللغة والحوادث الداخلية والخارجية والتجارة والفلسفة والأدب. وأخيرا أنشأ سليم بطرس البستاني صحيفة "الجنة"، وهي أسبوعية سياسية أدبية تجارية، وفي الشهر الثاني من ظهورها صارت تصدر مرتين في الأسبوع حتى أوقفها أخوه نجيب البستاني عام 1886.

نشير هنا الى أن يوسف الشلفون ولويس صابونجي أصدرا معا في 9 كانون الثاني (يناير) 1871 مجلة سياسية علمية تجارية نصف أسبوعية اسمياها "النجاح" في 16 صفحة. شارك في تحريرها شاعر الحرية ابراهيم اليازجي عضو الجمعية العلمية السورية الثانية، الذي نشر الأفكار الثورية المعادية للأتراك. هذه المشاركة الجماعية في اصدار المجلة دليل قاطع ينفي ما رمي اليه كريمسكي "بشأن الرغبات الشخصية الصرفة". وبغض لالنظر عن الدلالة الكبيرة والأهمية العظيمة لاشتراك الشاعر الكبير في التحرير، وعلى الرغم من الضائقة المالية والصعوبات الأخرى التي اعترضت سبيل المجلة، فانها لم تتوسل الرحمة وتستجدي العون من "أقوياء" ذلك الزمان، بل على العكس ، كانت توجه نقدا شديدا الى أرباب الحكم الذين اشغلوا فتيل الحرب الطائفية بين المسلمين والنصارى في حي المصيطية، فأصدر رائف أفندي متصرف بيروت أمره بتعطيل المجلة، متذرعا بدعوى أنها تصدر خلوا من رخصة رسمية. ومن اللالة بمكان أن اشتراك الناشرين الكبيرين في اصدار هذا المجلة يمثل شهادة ساطعة على الانقلاب السائد في الأفكار لدى بعض الشخصيات البارزة، وعلى الانسجام القائم في توجههم الاجتماعي – السياسي الذي دفع الأفراد الى التآزر والتآلف لاتخاذ مواقف موجدة ازاء القضايا الملحة الآتنية، وطرح شعارات اجتماعية أكثر طليعية وتقدما. ومن هنا كان التقاء الشلفون وصابونجي من الظواهر الطبيعية والمنطقية.



لويس صابونجي

لويس صابونجي القس يوحنا لويس بن يوسف صابونجي (1838-1909) عالم لبناني سرياني الملة، كاثوليكي العقيدة، كان من أبرز أعلام النهضة الأدبية والعلمية والصحفية. نهض بأسبابها وحمل رسالتها عاليا، مربيا وصحفيا، شاعرا وسياسيا، خطيبا وفنانا، رحالة جوابة ، مؤرخا وفيلسوفا ولاهوتيا. تلقى علومه في رومة، حيث نبغ في العلوم العقلية والنقلية على اخلافها، ونال رتبة دكتور في الفلسفة واللاهوت. كان رئيسا للطائفة السريانية في بيروت ابان الستينيات، استبحر في اللغات، جود منها السريانية والعربية والأرمنية، والتركية. وأتقن اللاتينية والايطالية والانكليزية والفرنسية. وقد ترك مؤلفات تجاوزت العشرات بجميع هذه اللغات (عدا الأرمنية). ومن المثير حقا أنه نقل من اللاتينية الى الايطالية ونشر اثنى عشر كتابا من أشعار فيرجيل الشاعر اللاتيني، وأنه حقق في "اصل العرق الأيرلندي" واضعا كتابه بالانكليزية ثم طبع في انكلترة، وأنه علم اللغة التركية إلى أرباب الحكومة الأتراك (من بينهم كامل باشا متصرف بيروت الذي أصبح فيما بعد صدرا أعظم). وضع لهم كتبا سياسية – ادارية وقانونية – تشريعية بلسانهم. ومعظم تأليفه بالعربية تتناول مواضيع الفلسفة والأخلاق وعلم الجمال والقانون والأديان والمذاهب. ولكن بوصفه واحدا من كبار رعاة العروبة، اهتم صابونجي بالأحداث المصيرية والوقائع الدائرة في حياة عرب المشرق، نشارا آراؤه في الاصلاح ومحاربة الاستبداد في الدولة العثمانية. وليس مصادفة أبدا أنه عالج في أبحاثه التاريخية قضايا آنية وخطيرة، مثل "تاريخ فتنة حلب" عام 1850" و"تاريخ فتنة لبنان وسورية سنة 1860" ولاحقا "تاريخ الثورة العرابية في الديار المصرية سنة 1882" وغيرها من الدراسات التاريخية غير المطبوعة.

وبصورة متوازنة لتسلمه مركز رئيس الطائفة السريانية أنشأ صابونجي في بيروت مدرسة عالية خاصة نهضت بأسباب التربية الحديثة، واسس مطبعة لنشر الكتب في اللغات العربية والسريانية والتركية. وأصدر صحيفتين أدبيتين علميتين سياسيتين هما: "النحلة" و"النجاح" لم تعمرا طويلا بسبب مضايقات السلطات التركية، وقد أظهر مقدرة بارعة في فن الصحافة، وبرز خطيبا وسياسيا لا يبارى في ميدان الدفاع عن رقي الأقطار العربية وتقدم الأمة العربية . وقد أشار المؤرخ البارز فيليب الطرزي الى أن الصحيفتين المذكورتين كانتا من أوائل الجرائد العربية التي عطلتها السلطات التركية بسبب "تجاوز الحدود"، والى أن القس لويس صابونجي لم يتوان عن توجيه النقد اللاذع لرجال النهضة المحافظين، لا بل وأنه ندد بالعلامة بطرس البستاني وخطأه في بعض المسائل العلمية لطول باعه في هذا المضمار. وقد تطرق الى مسائل دينية ومناظرات سياسية، فكان يشن حربا لا هوادة فيها ضد الرجعية الاقطاعية الاسلامية والمسيحية، وخاصة ضد الأرستقراطية المارونية الدينية والدنيوية "فثارت عليه سبب ذلك فتنة من الرعاع كاد يذهب فيها قتيلا". ، كانت سببا في ارتحاله من الشام وسفره إلى أوربة ومنها إلى أمريكة.


تعاون شلفون . صابونجي

كان يوسف الشلفون قد قطع روابطه مع عائلته المارونية التي حكمت ساحل لبنان على أيام الأمير بشير الثالث ومع العصبة المارونية ، فنزل بيروت بعد احتجاب "لبنان" فأنشأ فيها "المطبعة الكلية" التي نشر فيها كتبا دينية وفلسفية وجدلية وشعرية وتاريخية وعلمية وفنية وسواها. وقد خلف الشلفون بعض الآثار العلمية نذكر منها: "تسلية الخواطر في لطائف النوادر" و"أنيس الجليس" و"عقود الدرر في أخبار مشاهير الجيل التاسع عشر" (لم يخرج الى دائرة الوجود). ومن اللافت للنظر أن المطبعة المذكورة لم تكن بالنسبة للشلفون أداة لمضاعفة أرباحه، بل وسيلة ناجعة لتثقيف الناس وتنوير أذهانهم. وبوصفه واحدا من الشخصيات الناضجة فكريا في وسط رواد النهضة العظام، ومن المبشرين بالأفكار السياسية المناوئة للأتراك، والنزعة العثمانية، منذ عمله في جريدة "لبنان" كان الشلفون يعطي الأولوية لنشر الكتب والأدبيات التي تساهم اسهاما فعالا في ايقاظ الوعي الاجتماعي لدى المواطنين السوريين عامة، واللبنانيين خاصة.

ليس من العسير أبدا التدليل على أن التعاون بين صابونجي والشلفون لم يكن مجرد شركة عادية فجائية بين ناشرين، بل كان عبارة عن التحاد هادف ومبدئي بين علمين من أعلام النهضة ، جمعتهما أفكار اجتماعية وأهداف سياسية ومبادئ أخلاقية وقيم انسانية واحدة. هذا الاتحاد الذي التف حوله مستقبلا جيل كامل من شباب النهضة المثقف ذي النزعة التحررية الراديكالية الذي شكل مع الروافد الأخرى تيارا مستقلا ومميزا في اطار حركة النهضة. واذن، فليس من باب المصادفة، أن جريدة "النجاح" لسان حال الاتحاد الشلفوني – الصابونجي كانت تعد من أمهات الصحافة السياسية الحرة في المستقبل.


الصحافة البستانية

من الحقائق المسلم بها أن صحائف المعلم بطرس البستاني ("الجنان" نصف الشهرية، و"الجنة" نصف أسبوعية، و"الجنينة" لصاحبها سليم البستاني وهو أول صحفي عربي حاول أن يصدر جريدة سياسية تجارية ذات صفحتين بقطع متوسط كانت تظهر كل يومين ما عدا الآحاد) كان لها خطها الثابت ووجهها المميز في حركة النهضة العربية الحديثة. فهي مثلت اتجاه الوسط بالمقارنة مع جريدة خليل الخوري "حديقة الأخبار" المحافظة (أي الاتجاه اليميني اصطلاحا) ومع جريدة "النجاح" الشديدة اللهجة والمقدامة (أي الخط اليساري) فضلا عن أنها كانت بمثابة الجريدة المركزية التي أتصفت بالغيرة والصدق واعتدال المشرب، كانت في عهدها من أرقى الصحف العربية وأكثرهن نفعا وأعظمهم انتشارا، وهذا ليس من قبيل المصادفة اطلاقا، فالمعلم بطرس البستاني هو من أعظم أركان النهضة قاطبة، وكبير المهذبين والمثقفين من رجال الضاد في العصر الحديث، وأعظم من أدى خدمات جليلة لا تقدر بثمن في ميدان خلق المقدمات الاساسية للتنوير العربي، وعلى الأرجح كان أبا لحملة الفكر التنويري و"المتمردين" الذين حولوه الى حركة متنامية متصاعدة، فهو على حد قول المستشرق ليفين "أبو التنوير العربي" – ولكن مع بعض التحفظ الذي سنبين أسباباه في الصفحات القادمة.

حقا ان كل باحث معتم بالقوائم الببلوغرافية يقف مصعوقا أمام الأعمال الأدبية النفيسة، التي تعجز عنها الجماعات، فالبستاني كان أول من وضع معجما عربيا عصريا، وأول من باشر بوضع موسوعة عربية على السنن العلمية المتبعة في الغرب. ولعل أشهر مؤلفاته بعد دائرة المعارفة هو قاموس "محيط المحيط" في جزأيه. يمتاز بترتيبه ترتيبا معجميا مراعيا الحرف الأول من الثلاثي المجرد، وبجمعه لمصطلحات العلوم والفنون (ومختصره المعروف باسم "قطر المحيط" في مجلدين)، وكتابان في الصرف والنحو، وكتابان في علم الحساب (أعيد طبع كتابه "كشف الحجاب في علم الحساب" تسع مرات)، اضافة الى العديد من الترجمات من مناهل الأدب العالمي (قصة روبنسون كروزو أو التحفة البستانية من الأسفار الكروزية، فضلا عن ترجمة التوراة والعديد من الكتب الدينية التبشيرية)، وثلاث محاضرات خطابية صدرت في كتاب خاص أشرنا الى محتواه في سياق الكتاب، وسيرة حياة أسعد الشدياق الذي استشهد اثر اعتنقاه المذهب الإنجليزي – كما فصلنا سابقا. وربماك انت "دائرة المعارف" أشهر ما ألفه البستاني. وكان قد أصدر في حياته ستة مجلدات، وتابع أبناؤه اصدار الباقي منها الى الحادي عشر بمساعدة ابن عمهم سليمان البستاني. والبستاني أخيرا أول من اشتغل بالصحافة السياسية والثقافية، بانشاء أربع صحف شهيرة راقية المستوى، يغني ذكرها عن وصفها.

هذا قول حق لا شك فيه، وقد لاحظ الطرزي أن البستاني "كان من أعظم اركان النهضة العلمية" ، و"المعلم البستاني " بكل ما في هذه الكلمة من معنى ومغزى كان معلم جيل كامل من أعلام النهضة ليس فقط في المدارس التبشيرية، بل وخصوصا في "المدرسة الوطنية" البستانية و"الجمعيات العلمية والأدبية والخطابية، فضلا عن تبوئه موقع الريادة في مدرسة الصحافة الحرة الأدب الاجتماعي الوطني الحقيقي والأصيل. وبعد أن يركز المستشرق كراتشكوفسكي على دور ناصيف اليازجي (الذي أعده مع البستاني ركني النهضة الأدبية) في نشر اللغة العربية الفصحى وتفجير الطاقات الثورية الكامنة في صدور الشباب السوري المثقف يستطرد قائلا: "وما قصر فيه اليازجي أكمله صديقه الأصغر بطرس البستاني بصحائفه ونشاطه الاجتماعي الذي لم يعرف الكلل والملل، وبانشاء أول موسوعة عربية موضوعية وفقا للمنهاج العلمي، وبخلق وسط ملائم لنمو وترعرع جيل كامل من الأدباء الشباب، الأمر الذي ساهم في خلق الأدب العربي الحديث وتطويره، وبالترويج لهذا الأدب الرفيع في أوساط القراء العرب". وقد أكد المستشرق الإنكليزي الشهير جب أيضا أن لفيفا من الأدباء الذين تحلقوا حول الشيخ ناصيف اليازجي ، فصبغوا الأدب العربي بطابع سوري خاص ومميز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر". ومن الصحيح أيضا أنهم "اقتفوا أثر اليازجي في احياء المعارف القديمة عند العرب" ولكنهم حاولوا في الوقت ذاته اقتباس واستيعاب "المعايير والمثل الأوربية" في الأدب والفنون المختلفة، وقد اصبح بطرس البستاني زعيم هذه المدرسة ورائدا في شتى مجالات العمل الأدبي الابداعي، بما تركه من الآثار الخالدة.


الصحافة البستانية والصحافة الرجعية

كانت صحافة البستاني مرآة عاكسة للأوضاع الجديدة القائمة في الحياة الاجتماعية – السياسية والفكرةي – الثقافية، وتجليا بارزا للظواهر الجديدة الداعية ولو باعتدال الى الاصلاح والتقدم، والجاهدة لتقديم صورة صادقة عن حياة الشعوب الراقية المتمدنة. كان لتلك الصحافة تأثير عظيم على الرأي العام السوري واللبناني خاصة، وفي تهميش الأثر الرجعي الذي كانت تتركه عليه صحف التيار المحافظ "اليميني". وأخيرا كانت أشبه بمظلة واقية له من هجوم التيارات الرجعية المتخلفة المغالية. ومن الصحف التي مثلت التيار الرجعي الأول بالاضافة ألى "حديقة الأخبار" نشير الى "كوكب الصبح المنير" ، وهي نشرة شهرية دينية مصورة ذات أربع صفحات، صدرت في بيروت في غرة كانون الثاني (يناير) 1871، قام بادارتها ابراهيم سركيس، و"النشرة الأسبوعية" وهي دينية أسبوعية مصورة ذات ثماني صفحات، وكلتاهما من اصدار المرسلين الأمريكان، ومثلت التيار الرجعي الثاني وساندته مجلة "أعمال شركة مار منصور دي بول" ظهرت في غرة حزيران (يونيو) 1867، ومجلة "المجمع الفاتيكاني" وجريدة "البشير" وهي كاثوليكية دينية اخبارية أسبوعية أنشأها اليسوعيون على أنقاض "المجمع الفاتيكاني" في 3 أيلول (سبتمبر) 1870، وغيرها من الدوريات الطائفية المضمون المغرقة في الفكر التجهيلية القروسطي الصبغة، التي كانت تتستر بستار التبشير الديني فتتخذ منه مرتقى لتعميم الفكر الظلامي الرجعي.

كان الهاجس الأساسي للصحافة البستانية متجسدا في الوقوع سدا منيعا بوجه الفكر الضار والفاسد الذي تنشره جريدة الشدياق في الأستانة. والحؤول دون انتشاره في أوساط سكان البلاد السورية. ولنذكر في هذا السياق ان الشدياق الذي "تخلص" من رزق الله حسون، منافسه الأكبر في الميدان الصحافي، لم يكن يعير انتباها يذكر للجرائد الرسمية الصادرة في مراكز البلاد العربية، فكان يتسلح ازاء جريدة الخوري "الهشة" شبه الرسمية "الموالية جدا للأتراك" – على حد تعبير كريمسكي. ولكنه كان يرى في شخص البستاني العلامة الأديب خطرا مباشرا على مكانته الأدبية وشهرته اللغوية. وكان يعد صحافته خصما عنيدا ومنافسا قويا لجريدته في العالم العربي قاطبة. وحاجزا منيعا يوجهه يحول دون وصوله الى تبوؤ مركز القائد والمشرع في الحياة السياسية – الاجتماعية، ويعرقل مساعيه المحمومة في بث الدعوة الى الوحدة الاسلامية – العثمانية. هذه أسباب موضوعية وذاتية في آن واحد.

فالحقيقة التي لا مراء فيها أن الصحافة البستانية ، وان لم يكن بمقدورها شن حملة اعلامية سافرة ضد آراء وأفكار الشدياق الاجتماعية – السياسية – فانها كانت قادرة على توجيه ضربات محكمة وموجعة لادعاءاته بشأن ريادته في علوم آداب اللغة العربية، فعندما شدد الشدياق مزاعمه هذه من خلال الافتتاحيات والقصائد التي كان ينظمها ابان الحرب بين فرنسة وبروسية، فضلا عن اسراعه في اصدار "غنية الطالب ومنية الراغب" (في الصرف والنحو وحروف المعاني)، بهدف ايجاد نقل مواز إسلامي لتصانيف ناصيف اليازجي "المسيحية" في الصرف والنحو وما شابه من العلوم، وتكريسا لهذه الحملة الاعلامية المناصرة للشدياق، سارعت نظارتا المعارف في مصر والدولة العثمانية لاجازته كتابا مدرسيا في جميع مدارس الدولة قاطبة. وقد أثار كتابه هذا ضجة علمية، فنشبت بين أدباء العصر اذ ذاك ، معركة لغوية جدلية اشترك فيها الشيخان يوسف الاسير وابراهيم الأحدب، يردان السهام المسددة اليه من المعلم بطرس البستاني وابراهيم اليازجي يهاجمانه ويجرحانه.

وللعم نقول ان ابراهيم اليازجي كان حارسا أمينا على لغة العرب، فخاض ضد الشدياق معركة قلمية لغوية حامية الوطيس دفاعات عن أبيه ناصيف اليازجي الذي يفوقه علما وتدقيقا بأسرار لغة لاضاد . وقد كتب ابراهيم – بتشجيع من البستاني طبعا – مقالة انتقادية في "الجنان" ضد الشدياق وجه فيها نقدا قاتلا مبتدئا بكتابة "سر الليال في القلب والإبدال" الصادر سنة 1867 وصولا الى "غنية الطالب ومنية الراغب". ولم ينس أن يعرج الى الأغلاط اللغوية والنحوية التي وجدت طريقها عبر بعض الكتابات الأدبية التي جسدت أفكار الشدياق السياسية والاجتماعية. ولم يجد الشدياق "الهائج المائج" – حسب شهادات المعاصرين – مخرجا من الأزمة سوى أنه اعتكف على وضع كتاب مؤلف من مئة وعشرين صفحة من القطع الكبير أسماه "سلوان الشجي في الرد على ابراهيم اليازجي" طبعه في الأستانة سنة 1872، منسوبا الى الصحافي المصري القبطي ميخائيل افندي عبد السيد المصري. رغم أن هوية الكاتب الحقيقي لم تكن سرا على أي من المعاصرين. وذلك لاسباب عدة أهمها: أن ميخائيل القبطي هذا كان معروفا في القاهرة كأستاذ للغة الإنكليزية فلم يكن قط أديبا أو لغوية (ألف كتابين في الحساب والجبر، "روضة الكتاب في علم الحساب" و"الرياض الزهرية في الأعمال الجبرية")، وان "سلوان الشجي" صدر عن مطبعة "الجوائب" الشدياقية في الأستانة، وثمة حقيقة لا يرقى اليها الشك وهي الأسلوب الشدياقي المميز القائم على الطعن والذم والأدب واللغة، دون أن يسهو عن التجريح المر بشخص ونتاج العلامة بطرس البستاني ، والشيخ "الصبي" ابراهيم اليازجي الذي رد عليه ردا طويلا بليغا.

كان التيار البستاني الاكثر عددا والأعظم عدة في اطار حركة النهضة العربية في بيروت. فقد التف حول القطب الأكبر العلامة بطرس البستاني نجله سليم البستاني، فكان ساعده الأيمن، ونسبيه سليم البستاني. وكذلك الشيخ يوسف الأسير والأدباء الشباب الذين مثلوا التيار البرجوازي الصاعد. أمثال: فضل الله كرزوز، وعبد الله شبلي، وخليل ربيز، والكتاب البارزون: شاهين سركيس، وابراهيم بيهوت وخليل سركيس ورشيد الدحداح وشاكر شقير وغيرهم من نوابغ حملة الأقلام من ممثلي العائلات التجارية – الربوية. كما تحلق حول البستاني فريق كامل من الأدباء الشباب في الجمعية العلمية السورية الثانية وأعضاء "جمعية زهرة الآداب". ومن الجلي أن اعظم هؤلاء الأدباء كانوا من ابناء الرعيل الثاين، نخص منهم بالذكر: ابراهيم وخليل اليازجي، سليم وسليمان البستاني، نعمان الخوري (قنصل فرنسة في بيروت)، سليم نقاش وحسن بيهم وميشال تويني وغيرهم. كما ظهرت أسماء لامعة من أسر جديدة لم تكن معروفة في الماضي الغريب، أمثال: أديب اسحاق، ويعقوب صروف، وفارس نمر، وفرنسيس وعبد الله مراش (من حلب) ، وجورج بني بابا طوبول (طرابلس) وروفائيل خوري مدير بنك الإسكندرية وغيرهم ممن نشرب صفحا عن سرد أسمائهم لكثرتهم.

ان معظم الأدباء والكتاب من أبناء الجيل الجديد كان قد نال المعمودية الأدبية – الثقافية والسياسية – الاجتماعية في مغطس الصحافة البستانية. ونشأ وترعرع في الوسط البستاني، ولذا كانوا ينتسبون جميعا الى "الحلقة الأدبية البستاني"، ولكنهم في الحقيقة كانوا يشعرون ببعض الضيق والحرج من المقالات الافتتاحية التي يدبجها سليم البستاني في صحافة ابيه "المعلم"، لأنها لم تكن تبدي جرأة وطنية كافية. لا بل وانهم مستائين أيضا من "المعلم" بالذات لأنه كان يمجد أفكار النزعة العثمانية لدرجة كان يصل فيها الى الانسجام الكامل مع السلطان عبد الحميد!.

وانصافا منا للحقيقة التاريخية في محاولتنا الهادفة لتقييم الفكر الاجتماعي – السياسي لدى مفكري الجيل الجديد والمثل والقيم العليا التي ناضل مستميتا في سبيل تحقيقها، نرى لزاما علينا ان نصارح وألا نصانع، وأن نقول الأشياء كما هي. واذن، لابد لنا من القاء نظرة عاجلة على الخطوط العامة للفكر البستاني الذي أثار حفيظة المفكرين والرواد الأكثر راديكالية وتحررا في "جمعية زهرة الآداب" ودفعهم بقيادة أديب اسحاق للابتعاد تدريجيا عن البستانية.

2 – محاولة في تقييم "الفكر البستاني"

كان ليون زولونديك قد قدم في حينه تحليلا هاما للمواد المنشورة عبر عقد ونصف العقد من السنين في "الجنان" وأجرى تقييما شاملا للفكر السياسي – الاجتماعي لسليم البستاني نجل المعلم بطرس البستاني وساعده الأيمن في العمل الأدبي والصحافي. وقد اضطر المستشرق السوفيتي زلمان ليفين في ظروف استحالة العثور على مجموعات الجنان للاعتماد على المعطيات الواردة في هذا الكتاب عن النجل الأكبر لأبي التنوير العربي بطرس البستاني. ونحن أيضا نجوم بمصداقية الطريقة المعتمدة اضطرارا، ولاسيما أن الباحث بطرس أبو مانع توصل الى استنتاج مماثل من خلال تحليله لفكر الأب بطرس البستاني ، مفاده أن سليم البستاني كان يوقع المقالات الافتتاحية في مجلة الجنان، والتي كانت في حقيقة الأمر تمثل أفكهر أبيه وآراءه. وهناك حقيقة أخرى لا اعتراض عليها، تشكلت نواتها من خلال تأكيدات أبي مانع.

"فالجنان" و"الجنة" كلتاهما من "حديقة" الأسرة البستانية ومن الصعوبة بمكان، أو بالأحرى من المستحيل، تحديد البذور الفكرية – الثقافية التي نثرها الأب أو الابن أو أي من أفراد العائلة البستانية، خصوصا أن معظم المواد المنشورة كانت غفلة من التوقيع. ومن هنا فاننا لا نميل الى نسبة الصحافة البستانية الى الأب بطرس البستاني تحديدا، بل نعتقد بحصة نسبتها الأسروية، وبالتالي الى نوع من التطابق والتماثل بين أفكار الاثننين تحت مفهوم واحد هو "الفكر البستاني".

بالاضافة الى هذه الملاحظات ثمة أسئلة تطرح نفسها على الباحث: ما هو جوهر الفكر البستاني؟ وما هي الارضية الاجتماعية التي ولدته؟ وأي من الفئات الاجتماعية استهدف؟

وما دنا محرومين أيضا من امكانية الاطلاع على مجاميع "الجنان" – لامتلاكنا أعدادا قليلة منها – فاننا سنعتنمد في اجابتنا عن السؤال الأول على الشهادة اليمة التي قدمها معاصر الأحداث المستشرق فون كرامر حول مجلة "الجنان البريئة" التي كانت تحتل مكانها اللائق الى جانب الكتاب المقدس في بيوت النصارى الذين شكلوا ثلثي السكان في بيروت، والذين "كونوا طبقة الاثرياء والموسرين" في البلد "لاشتغالهم بالتجارة اساسا وغيرها من المهن الحرة". ويجب ألا يغرب عن بالنا أن اللورد كرومر "كان معجبا جدا بحياة النصارى السوريين البسيطة التي تسود فيها العلاقات البطريركية الحقيقة". ولذلك انسحب تقديره واعجابه هذا على تقييمه لمجلة "الجنان" فضلا عن تقديره العظيم لمدينة بيروت التي "خلت من البروليتارية الخطرة التي تثير الاشمئزاز في النفس،والمعشعشة في المدن الأوربية الكبرى". ومن هنا ندرك جميعا النموذج السياسي – الاجتماعي الذي خلقه العالم الألماني والمتمثل في التوفيق بين الاقطاعية والرأسمالية. فعبر عن عظيم فرحه للعثور على هذا النموذج الأمثل في الحياة السورية، ولاسيما في الأوساط المسيحية اللبنانية، ولذلك أعلن على رؤوس الأشهاد "أن الجنان تجسيد حي لما كان يحلم به وينشده".

مما لا شك فيه أن النموذج البورجوازي هو مثال الكمال عند فون كرامر، لكن "مستوى نمو البورجوازية" الذي أشار اليه ماركس وإنجلس في "البيان الشيوعي" حيث لم يوطد الرأسماليون سيطرتهم بعد، وبالتالي يبقون عاجزين عن "تحطيم العلاقات الاقطاعية – البطريركية النموذجية، ويظلون على أحسن تقدير يمثلون الطبقة الثالثة في الملكية الدستورية" التي لم تولد بعد البروليتارية التي توجه ضدهم السلاح الذي صنعوه بأنفسهم. وهنا نستبق السرد السياقي لنقول أن سليم البستاني الذي اختتم أعماله الأدبية برواية "سامية" اعتبر الاشتراكية ايديولوجية الطبقة البروليتارية من النظريات الأوربية الغربية والدخيلة على الشرق، ولذا اختار شخصية سلبية (العامل الاشتراكي) الذي نظم "عصابة من الاشتراكيين" لقتل غريمه العائم بحب سامية بطل الرواية.


كانت الجنان طبعا أرقى مستوى من "حديقة الأخبار" في معالجتها للقضايا الطبقية الاجتماعية ومسألة الوعي القومي الذاتي، وبالتالي في ميدان الدعوة للروح الوطنية السامية. غير أن مستوى طرح قضية النزعة العثمانية على صفحات "نفير سورية" قبل عشر سنوات، كان أرفع بكثير، فكيف نفسر هذا التناقض الذي يبدو تناقضا ظاهريا ليس غير؟

لو ضربنا صفحا عن مسألة أن الحديث يدور هنا حول واحد من المشاريع الثقافية – القومية التي اضطلع بها ركن من أعظم أركان النهضة، فان أبسط تفسير لهذا السؤال يكمن في أن البستاني صحافيا كان يصبو لكبس قصب السياق في الميدان الصحفي بهدف التعتيم على منافسه خليل الخوري في "حديقة الأخبار" وغيرها من الجرائد الرسمية وغير الرسمية النافخة في بوق السلطان التركي. غير أن تفسير هذه المفارقة بدافع ظاهرة "الضعف الانساني" المألوفة في الوسط البرجوازي ليس الأنسب برأينا، ولذا يجب علينا الغوص في أعماق الأسباب الاجتماعية لهذه المسألة.

ان البحث والتدقيق في مواد "نفير سورية" قدما الأساس الكافي لأبي مانع، الذي خلص الى استنتاج مفاده أن بطرس البستاني كان خلال عامي 1860 و1861 يعارض الوحدة الطائفية بالوحدة الوطنية، ولكنه كان يتخذ من الوحدة العثمانية مظلة تقيه سوء العواقب. لا بل وأكثر من هذا، فقد أشار أبو مانع الى أن البستاني رأى أن "الحكم العثماني – بعد فتنة 1860 والتدخل العسكري الفرنسي – ضمانة لحماية النصارى السوريين، من عدوانية المسلمين والدروز" من جانب، و"للدفاع عن سورية والسوريين عامة ضد التدخل والسيطرة الأجنبيين" من جانب آخر.

ومن خلال اعتمادنا على تأكيدات أبي مانع، نستخلص أن عثمانية "النفير" كانت تعبيرا عن قناعة صاداقة لدى جناج الأغلبية (ضمانة ضد ..) وتاكتيكا لدى جناح الأقلية (تحسبا لسوء العواقب..) من مفكري النهضة ورجالاتها. ان توحيد الموقف الازدواجي ازاء النزعة العثمانية نلمسه بكل وضوح عبر تزعم فؤاد باشا للجنة المراقبة عام 60/1861 ، والتدابير التأديبية المشددة بحق السفاحيين الأتراك والمحليين على حد سواء، واعتراض بعض العواصم الأوربية على التدخل الفرنسي (ولاسيما لندن العزيزة جدا على قلوب البساتنة) وغيرها من الاعتبارات ، التي اضطرت "حديقة الأخبار" الى تحديد موقفها ومواقعها الى هذا الحد أو ذاك.

هذه الاعتبارات لم تكن موجودة عام 1870 أيام صدور مجلة "الجنان" ، ولكن ثمة اعتبارا آخر لم يقف حائلا – للأسف - دون الوصول بالنزعة العثمانية الى نوعية جديدة من القناعة الراسخة على صفحات "الجنان" الأمر الذي عرقل – على أقل تقدير – عملية تطوير النزعة العربية لاتي تبرعمت لدى "المعلم" في مطلع السبعينيات. نقول مؤكدين أن السبب الرئيسي في هذا الانقطاع الفكري لدى البستاني تجسد في ارساء أسس العلاقات الطيبة بين بطرس البستاني والموظفين الأتراك الكبار، ولاسيما مع محمد رشدي باشا والى بيرت، وهو ما وجد تعبيره وانعكاساته في مواد صحافة ذاك العهد. وأكثر من هذا، فقد تحولت العلاقة في المستقبل الى صداقة حميمة وحارة، تستحق وقفة خاصة.

نؤكد بادئ ذي بدء أن العلاقات المتبادلة بين البستاني والحكام الأتراك يكتنفها الابهام والغموض. ولكن من اليقينيات المسلم بها أن البستاني عد الخط الهمايوني بيانا قانونيا مشروعا "أنهم بالحرية على النصارى"، وأنه أعرب مرارا عن عرفانه بالجميل وأقسم على الاخلاص والتفاني في خدمة السلطان عبد المجيد. وهذا لعمري من الأمور الطبيعية والمنطقية، لا بل والمسوغة في ظروف النهضة في بيروت خلال الخمسينيات. ومن المعروف أيضا أن بطرس البستاني صدر قاموسه "محيط المحيط" باهداء للسلطان عبد العزيز، الذي كافأه بجائزة مالية قدرها 250 ليرة مجيدية ومنحه الوسام المجيدي الثالث . وهذه ظواهر عادية مألوفة في حياة رجال الفكر في ذلك العصر، وهي لا تثير استغرابنا أبدا.

وفي استعراضه للعلاقة القائمة أنذاك بين البستاني والمرسلين الأجانب، حلل الطيباوي موقفه من الحكام الأتراك وأكد أن البستاني لم يترك سانحة الا استغلها في سبيل الاعراب صراحة وعلانية عن اخلاصه ووفائه للسلطان التركي وكبار موظفيه. وهذا الاجلال والاكبار ليسا من الأمور غير الطبيعية في أوساط الرعية من المثقفين العرب، ومن الجائز أن ينما عن ايمان وقناعة أم عن مناورة ومخادعة.

ولكن اللافت للنظر أن الحكام الأتراك كانوا يولون عناية خاصة بالمدرسة الوطنية البستانية، لدرجة أن الوالي حضر حفلة الافتتاح وأسدى المشورة الى مديرها ومؤسسها بطرس البستاني "بأن الوطنية الحقة تتجلى في وحدة المصالح بين الدولة والوطن". وهذا الكلام – النصيحة يولد لدينا قناعة مفادها أن الأتراك كانوا يدركون حقا ازدواجية القناعة – المناورة لدى البستانيين تجاه النزعة العثمانية ، ولذا حاولوا توجيه رائد النهضة وجهة الايمان المطلق بالنزعة العثمانية.

وهنا يصح افتراضنا عن التعاون الوثيق بين والي بيروت محمد رشدي باشا الشرواني والبستاني الذي خطا الخطوة الأولى على هذا الطريق سنة 1870 ودام حتى شهرأيلول (سبتمبر) 1871 يوم عزل الوالي المذكور.

كان هذا الباشا قد "مهد الطريق أمام الجنان" فكان "كالبستاني الذي زرع اشجار الجنة". بهذه الكلمات – الالغاز تكلم البستاني بعد عدة أعوام، ملمحا الى رعاية الباشا لصحيفتي "الجنان" و"الجنة".

ان واقع كون محمد نديم الصدر الأعظم الذي أقال الوالي رشدي باشا، من أشد غلاة الرجعيين، والذي استلم نظارة الخارجية بعد خم سنوات وشارك في الانقلاب على السلطان عبد العزيز ، قد يثير أوهاما عند القارئ بأن نصير البستاني الوالي رشدي باشا كان من رجال الاصلاح التقدميين، وبالتالي فان تأثيره على "المعلم" قد يترك نتائج ايجابية وعواقب حميدة. غير أن الواقع كان مغايرا تماما، فالوالي رشدي باشا كان في قرارة نفسه من الناس المجبرين على محاباة الاصلاحات، ومن أشد انصار اجراء فوقية سطحية تعزز مواقع السيطرة التركية – السلطانية ، ومن ألد أعداء التحولات الجذرية الحقيقية، وفي المقام الأول ضد الاصلاح الدستوري وهويته الحقيقية هذه هي التي دفعت جركس حسن، من أنصار مدحت باشا لاغتياله مع نفر من رجال الدولة المنهاضين للدستور أمثال حسين عوني وزير الحربية وغيرهم ممن لاقوا حتفهم في قصر مدحت باشا اثر محاكمات حادة بين أعضاء الحكومة بعد أسبوعين من تسلم السلطان مراد الخامس عرش الدولة العثمانية.


من هذه الزاوية يجب النظر الى طبيعة الفكر السياسي والاجتماعي لمجلة "الجنان" حتى تاريح رحيل رشدي باشا عن بيروت في أيلول (سبتمبر) 1871 ومن حسن حظنا أن بحوزتنا مواد تتعلق بهذه المسألة. فالبستاني اذ يجد أن ترشيد الدولة العثمانية ممكن بوساطة تطبيق مجموعة التنظيمات، هذا ما لاحظه أبو مانع من المادة المتوفرة ليستطرد قائلا: "لعله واحد من القلائل جدا بين النصارى السوريين الذين عبروا عن اعتقادهم بعقم أي شكل من أشكال السيطرة الأوربية على مستقبل سورية". وبمعنى آخر كان البستاني في بداية السبعينيات يرى في النزعة العثمانية النموذج الأكمل – على حد قول بطرس أبي مانع – وانه انطلاق من ايمانه العميق بذلك وقف نفسه على خدمة هذا المذهب السياسي فأصبح بالتالي من ألد أعداء فكرة الخيار البديل اي استبدال الحكم الأوربي المسيحي بالسلطاني الإسلامي.

ترى هل كان هذا حقيقة واقعة؟ وان كان الأمر كذلك، فهل يتزعزع الموقع الريادي للبستاني في التنوير العربي، اذ يعده معظم علماء آداب العربية أعظم ركن في النهضة الحديثة؟

من المفهوم أن النموذج الفكري – الثقافي الأكمل لدى البستاني كان ممثلا في النهضة – الرنيسانس العربية، النهضة الثقافية ضمن الاطار السوري وعلى المستوى البشري لسكان سورية. واذن، وجب على "الجنان" طرح مهام تنويرية معينة، خدمة قضية نشر المعارف والرقي العام في سورية، ومن ثم في الأقطار العربية الأخرى والوقوف موقفا مبدئيا وراسخا الى جانب "الحقيقة ومنفعة البلاد" الذي يخدم أبدا "الوطن" و"الشعب" وليس "فئات طائفية – مذهبية معينة".

ومن نافل القول أن النهضة الثقافية لم تكن أبدا هدفا نهائيا بالنسبة للبستاني، فتطور ورقي الوطن السوري مشروط بالنهضة الثقافية التي تتمثل في ايقاظ الوعي الجماعي لدى الجماهير السورية – حسب رأي البستاني. وايقاظ هذا الوعي ضرورة ملحة تؤدي ايضا الى استقلال العرب، الذي يتجسد قبل كل شئ في الانتماء الى الأمة السورية.

غير أن الوصول الى استقلالية العرب عبر الانتماء الى الأمة العربية خط حلزوني يشوبه الكثير من الغموض والابهام لدى البستاني، ومع ذلك يمكن بلورة تصوراته وأفكاره. فهو يقول مثلا: "في البدء كان الكثيرون منا (يقصد السوريين ) ينتمون الى الجنس العربي (الأمة العربية) بينما كان الآخرون "من أجناس مغايرة حقا"، ولكن يجب عليهم اليوم تناسي جنسياتهم السابقة وتبني جنسية واحدة موحدة"، وهي الجنسية "السائدة في ربوع بلادنا التي تبنينا نحن لغتها وعاداتها وتقاليدها". ومن ثم يعبر عن قناعة تامة فيقول: "تلكم هي الجنسية العربية".

وفي موضع آخر يقول البستاني: "الأمة شعب موحد في جنسية واحدة يعيش في وطن واحد ويتكلم لغة واحدة" وبرأيه فان الأمتين الفرنسية والألمانية نشأتها على هذا الأساس. وقد اتخذ البستاني من هذا الأساس منطلقا للتعريف بالأمة السورية المكونة من السوريين الذين يعيشون في بلد واخد ويتكلمون لغة واحدة. وفيما يخص الأمة العربية فالبستاني لم يشكك اطلاقا في انتماء السوريين العربي، وبتعبير آخر : تشكل الأمة السورية جزءا لا يتجزأ من الأمة العربية الموحدة التي تعيش ضمن حدود أكبر (وطن أكبر) وتتكلم لغة العرب، وأكد بحزم وقناعة أن الأمة العربية لم ولن تتعرض للضياع والتلاشي وأنها ستستعيد ما فقدته بالأمس عن طريق انجاز الوحدة بقوة الولاء للأمة (العصبية الجنسية) والوحدة الوطنية (العصبية الوطنية).

وانطلاقا من فكرة النجاز الوحدة القومية العربية والوصول الى الوحدة الوطنية واستعادة الأمة العربية لمكانتها، عارض البستاني العصبة الطائفية السورية أو الاستقلالية الدينة - المذهبية الطوائفية. وكذلك الطائفية الاسلامية التي كانت تجد دعما قويا من قبل الأتراك أشياع المذهب السني.

ففي احدى افتتاحيات "الجنان" المعنوية: "روح العصر" يرى البستاني أن مبادئ المساواة والحرية والعدالة والتقدم (أي مبادئ الثورة الفرنسية الكبرى التي دشنت بداية عصر جديد في تاريخ البشرية جمعاء، توجب على العرب الاقتداء بهذه المبادئ السامية التي تمثل روح العصر، بينما يعد تدخل الدين في الحياة السياسية منافيا لروح هذا العصر" "ان الدين لا يحرم الاهتداء بروح العصر في القضايا الزمنية" أكد البستاني ذلك، لكنه أقر بأن الحياة الاجتماعية – السياسية تعتمد بحكم الظروف السائدة على العصبية الدينية – ولكن أزفت الساعة لاستبدال الوحدة الوطنية بالوحدة والعصبية الدينية، التي تتماشى وروح العصر.

ومهما كان الانتقاد الموجه للوحدة على أساس ديني – مذهبي متحفظا وحذرا، فهو لم يرق بأي شكل من الأشكال للأوساط الاسلامية المحافظة، ولاسيما للرجعية الداعية للوحدة الاسلامية. واذن، ليس من قبيل المصادفة أبدا، أن آراء البستاني تعرضت للنقد الجارح على صفحات "الجوائب" الشدياقية من قبل رجال الدين الملتزمين وأخصهم الشيخ طاهر الجزائري في دمشق، الذين جسدوا عصرئذ قلعة الرجعية الدينية المحافظة في سورية. ومن اللافت للنظر أن بطرس البستاني كان يقيم مناظهريه الظلامين بأنهم "طواغيت القمع والاستبداد" ويؤكد في ذات الوقت قائلا: "ولكني لا أخشى تهمهم أبدا".


لقد عالج البستاني المسألة الطائفية مرارا كثيرة وشدد على أن الوحدة الدينية تؤدي حتما الى تخلف السوريين المنقسمين الى طوائف مذهبية لا تعد ولا تحصى. تمسك كل واحدة منها بخناق الأخرى منذ نيف وعشر سنين، وهذا ما يقودهم جميعا الى الفاجعة والهلاج فالدمار. ثم يصر البستاني أن كل هذا ناجم عن سياسة الحكام السابقين ، وتركة كريهة من تركات الماضي الشنيع، وداء يجب معالجته بالوحدة الوطنية دون سواها. فاذا كان السوريون يصبون الى التقدم والرقي "فما من سبيل للنجاح والفلاح سوى العربية".

ان التماثل، لا بل التطابق بين مفهومي "الوحدة الوطنية" و"الوحدة العربية" أو "وحدة العرب" غدا مذهبا سياسية متكاملا لا سابقة له في تاريخ الفكر العربي الحديث، اذ جسد فكرة "العروبة" في طورها الجنيني، وهو ما كان غريبا على معظم رواد الهضة (والبستاني بالذات) الذين روجوا لفكرة العثمانية، التي تطابقت عندهم مع مفهومي "الوحدة الوطنية" و"اتحاد العثمانيين" أو "الاتحاد العثماني". وهذا يعني أن "عثمانية" البستاني في أوائل السبعينيات لم تكن بالطبع من النوع الذي يمكن أن يخضع لتأثير الحكام والموظفين الأتراك (ومن بينهم ظهير المجلة بالذات رشدي باشا) ، الذين لم يكن نفوذهم الفكري يمثل تلك القوى والفعالية اللتين يفترضهما أبو مانع.

ومهما يكن من أمر، فالبستاني الرائد النهضوي الباحث عن النموذج الثقافي الأسمى والأكمل، لم يكن بمقدوره الا أن يتخذ من النزعة العثمانية مثلا سياسية أعلى، ولاسيما بحكم الانسجام القائم بينه وبين الارستقراطية العثمانية الحاكمة. ولكن، كان لابد من تقاطع النموذجين العربي – الثقافي والعثماني – السياسي ما دام المثل الأعلى الثقافي لدى المنور العربي سيتحول بالضرورة الى ثقافي – قومي. فالنهضة التي تحولت الى حركة تنويرية رافضة للوحدة الدينية – المذهبية، وبدأت السير على طريق الوحدة الوطنية ستصل حتما الى درجة من الادراك والوعي الذاتي لتبني مفاهيم قوموية مثل "الأمة السورية – الأمة العربية – الوحدة العربية". هذه المفاهيم المناقضة بالضرورة لمفاهيم الوحدة العثمانية التي كانت – بحكم الظروف المعاشية والاجتماعية – السياسية ذات الطابع القروسطي السائدة في السلطنة العثمانية، تتطلع الى الوحدة الدينية الاسلامية، ونؤكد في هذا الصدد أن العثمانية التركية في أرقى أشكالها من التطور: العثمانية الجديدة، كانت تعارض الحركات التحررية الرامية لنيل الاستقلال متسترة بقناع "الوحدة الوطنية" الزائف والمرفق بحد السيف وتقطيع الرقاب. وهذا أمر مفهوم تماما، فاذا كان زعيم الأحرار الأتراك نامق كمانل يبرر نظريا ومبدئيا حق الأتراك في تسلم الموقع الريادي والقيادي في اطار "الأمة العثمانية" ومن ثم توحيد كل الشعوب الإسلامية الخاضعة للدولة العثمانية في اطار "الوحدة الاسلامية".

وسنحاول هنا، رغم صعوبة المهمة – تحليل ظاهرة الانفصام المأساوي الذي تعرض له البستاني جراء قناعاته بالنزعة العثمانية في أواخر الخمسينيات والستينيات، والتي أخذت تتناقض تدريجيا مع مثله الثقافية – القومية في مطلع السبعينيات. وفي مطلق الأحوال حافظ البستاني على أهليته للقب المعلم والعلامة لأن العثمانية لم تتحول لديه الى تاكتيك (كما سيحدث مع تلامذة الأمس أعضاء جمعية زهرة الآداب) في أوائل السبعينيات، وانما اصطبغت مؤقتا بصبغة بستاني وجدت حلال للاشكالية القائمة عبر عملية تماثل بين الدولة العثمانية وبين نمطية الولايات المتحدة الأمريكية. فشدد على الفكرة القائلة بأن الناس الذين يمثلون مختلف القومية الأوربية في اطار الدولة الأمريكية المتحدة "أقروا بارادتهم الحرة بهوية موحدة واحدة هي الجنسية الأمركية، وكونوا أمة أمريكية واحدة ووطن واحدة مؤلف من الولايات الأمريكية المتحدة، التي تتمتع كل واحدة منها بنوع من الاستقلالية الذاتية ولها قوانيها الخاصة، ومصالحها الخاصة التي قد لا تتماثل مع الولاية الأخرى".

وهكذا، توقفت الصحافة البستانية عن معالجة الأخبار السياسية الاجتماعية بدءا من أيلول (سبتمبر ) 1871 حتى تموز (يوليو) 1872 أي طوال عهد الصدر الأعظم محمد نديم باشا. وقد علل البستاني أسباب لوذهم بالصمت باشتداد المراقبة على الجرائد السورية. وبدءا من سنة 1872 وفي غضون السنوات اللاحقة 1874-1876 أخذت بعض الخواطر والتأملات حول أوضاع السلطنة تظهر على صفحات "الجنان"، وهي مادة غنية تساعدنا على استقراء آراء البستاني السياسية والاجتماعية.

ولنبادر بالقول مباشرة ان الفترة موضع البحث شهدت انتعاشا غير مألوف في حاضرة السلطان. فقد اختمرت الأفكار وحدثت وقائع خطيرة فقدت معها عثمانية البستاني دورها "الريادي" للأسف وتحولت الى نسخة طبق الأصل عن عثمانية الدولة الرسمية. وأصبح البستاني من أشد المنافحين والمدافعين عن وحدة الامبراطورية وتطورها وتقدمها عبر هذا السبيل. فكان يرى في بقاء الشعوب الخاضعة للنير العثماني تحت سيطرة السلطان التركي "شرطا أساسيا لتبوئها المركز اللائق بها في المجتمع الإنساني" فيقول: "واذا اتفق ان انفصل الأرمن واليونان والسوريون وغيرهم عن السلطنة العثمانية، فان بلادهم ستتحول الى ولايات لا مركزية عاجزة عن تحقيق أية أهداف سياسية، ولن تكون قادرة على احتواء المخاطر المحدقة بها" ومن هذا المنطلق يعتقد البستاني أن تلك الشعوب يجب أن تقدر تقديرا عاليا الحكم السياسي الشاهاني فيقول: "من الواجب علينا ألا نعير انتباهنا الى الفوارق القومية خلال الحديث عن القضايا السياسية، ان حالتنا ممتازة، لأن عندنا إسطنبول". ومما يزيد هذه الدعوة غرابة قوله: "ان الضمانات الثابتة والمركز الخاص في الظروف الراهنة أجدى نفعا وأعظم مكسبا للشعوب الشرقية". ثم يستطرد في النصح والارشاد قائلا: "أود الحفاظ على الوضع القائم والوقوف بوجه أية محاولة انفصالية، فعلينا البقاء جزءا لا يتجزأ من الأمة العثمانية السامية المؤلفة من عدة أجناس وأقوام ولكنها ذات أهداف مشتركة ومنافع موحدة". ولم يتوان البستاني عن الدعوة الى الصبر والجلد – كما صبر أيوب – على تحمل النير التركي، فيقول: "ولم تسمع قط، أن الحكماء والعقلاء العارفين ببواطن الأمور، رغم ما قاسوه من مظالم حاكم أو من اجحاف مجلس أو محكمة – ففضلوا دولة أخرى على الدولة العثمانية ". وفي ذات المقال تابع البستاني تنظيراته الذاتية فقال: "الوحدة قوة وعزة، والانفصال ضعف يؤدي الى تمريغ حقوق الشعوب بالأوحال من قبل الحكام المستبدين الجشعين، والى استعبادها واسترقاقها من قبل الأجانب الغرباء". وبعد عام واحد كرر الفكرة ذاتها مؤكدا حيوية الوحدة العثمانية وفعاليتها، ومحذرا من أن الدول الأجنبية "المتعطشة للثروات ولامولعة بالنهب" لن توفر واحدا من البلدان المنفصلة، اذ ستفرض عليها سيطرتها السياسية وتستعبدها وتذلها اقتصاديا".

ومن الطريف أن آراء البستاني الاجتماعية في بداية السبعينيات كانت أكثر تقدمية مما أصبحت عليه في أواسطها، فانظر اليه سنة 1871 وهو ينزل باللائمة على الحكومة الاستبدادية التي "لا تراعي مصالح الأمة وترمي بالشعب في أحضان الخنوع والمذلة". ويرى من واجبه تذكير الحكام بضرورة "احترام الأفراد والأمة جمعاء". خصوصا أن روح الثورة الفرنسية الكبرى "دشنت عصر حقوق الانسان" العصر الذي "وجد طريقه الى الشرق وهو ما نشعر به بكل قلوبنا وجوارحنا". وفي سنة 1873 ازداد البستاني جرأة واقداما فأعلن على رؤوس الأشهاد "أن الشعب لم يعد يخشى أرباب الحكم والسلطان، وعلى العكس فهو يتحداهم ويقول لهم: ارفعوا عنا اضطهادكم وجبروتكم".

وبناء عليه، فالتراجع الحقيقي على أرضية الفكر السياسي الاجتماعي البستاني يجب أن نحدده زمنيا في أواسط السبعينيات، أي عندما وصلت الأزمة الاقتصادية - الاجتماعية الى أوجها في الامبراطورية العثمانية ، واشتدت الأزمات المالية التي استدعت تدخل الدول الأوربية. وتصاعد المد الجماهيري الغاضب المستنكر، ونالت الحركة الدستورية زخما قويا . وعلى الصعيد الآخر، توحدت القوى الرجعية – المحافظة العثمانية وغير التركية، وشرعت في ترتيب الاستعدادات اللازمة للقيام بهجوم صاعق وسافر، وما يؤسف له حقا أن الوثائق التاريخية تدل دلالة قاطعة على أن البستاني في مطلع السبعينيات كان قد تأثر بأفكار الجبهة المعارضة لأنصار مدحت باشا داعية الإصلاح العثماني الأكبر، وأن مسيرة الفكر البستاني من مواقع النهضة الى التنوير لم تتوقف تماما بفعل تأثير محمد نديم وغيره من حملة الفكر الرجعي – وحسب، بل وارتدت الى مواقع أشد محافظة. ومن الجدير بالذكر أن البستاني شرع يبشر الناس بأن حكم السلطان الاستبدادي المطلق هو أكثر تجاوبا وانسجاما مع مصالح الشعوب في ظل الظروف السائدة عصرئذ. فكتب سنة 1875 يقول: "نحن نسعى للوصول الى مستوى يمكننا من تطبيق الأحكام الدستورية، بيد أن العثمانيين غير مستعدين للاضطلاع بهذه المهام بسبب تجزئتهم وقلة تنورهم".

"البستاني هو الانسان الأقوى نفوذا وتأثيرا في سورية المعاصرة" بهذا الكلام قيم المبشر الأمركي جيسوب بطرس البستاني، الذي عايش الواقع السوري طوال خمسين عاما. البستاني الذي انتظره جيل كامل من المنورين العرب الشباب كمنظر ورافع راية حركة التنوير العربي، تحول فجأة والى الأبد الى معلم اداري تجلت مثله السياسية والاجتماعية في الدعوة، الى ملكية مقيدة ينبغي ادخال النزعة الدستورية فيها على نحو تدريجي، لأن شكل الحكم الجمهوري مستحيل في البلدان التي يسيطر عليها الجهل". وبكلام آخر: انبرى البستاني ، ومعه فريق كامل من كبار العلماء والوجهاء للدفاع عن الجهاد الذي أشهره السلطان عبد الحميد، ولايجاد المسوغات والمبررات التي دفعته لمحاربة الدستور والبرلمان.

وما يستوقفنا حيال هذا الموضوع شهادة مفادها أن مدحت باشا والي سورية (1879-1880) كان يزور غالبا ادارة مجلة "الجنان" فيمدها بالمال ويحاول بث أفكاره الاصلاحية بين أبناء الشعب السوري بوساطتها, ولاسيما أفكاره الرامية الى تطوير وترشيد الاقتصاد في الأقطار العربية. هذه الصحافة وغيرها دفعت الكاتب العربي شمس الدين الرفاعي في كتابه "تاريخ الصحافة السورية" للجزم بأن مدحت باشا ساهم بنفسه في تحضير ونشر أكثر من عدد من مجلة "الجنان" صاغ خلالها أفكاره حول الدولة والمجتمع. وهذا أمر غير مستبعد طبعا. ولكنه لا يعني اطلاقا أن البستاني أصبح – دون أي تحفظ – من المناصرين للدستور والبرلمان . ورغم أن البستاني كان يحاول دائما دعم آرائه بأدلة ذات صبغة تنويرية، فقد ظل حتى النهاية يعتقد بعدم جدوى الحكم الدستوري في الدولة العثمانية عموما. وفي الأقطار العربية خصوصا. باعتبار أن ضرره أكبر من نفعه. فعندما طالب الوطنيون المصريون بتوطيد حكم دستوري في البلاد سنة 1881، انبرى البستاني لتقديم النصيحة والمشورة فقال: "ان نشر التعليم واصدار قوانين لتحسين أحوال القضاء أفضل بما لا يقاس من ايجاد مجلس نيابي لتمثيل الشعب" ثم يجزم البستاني قائلا: "فاذا لم يصل الشعب الى درجة معينة من المستوى التعليمي تمكنه من حل المعضلات التي تعترض سبيله بوساطة البرلمان المنتخب فضرره أكثر من نفعه".

من المؤكد أن التأليف الأدبية التي خلفها لنا سليم البستاني تعد خير وسيلة للتعرف على الفكر البستاني . تشكل الخواطر الأدبية والمقالات العلمية والأشعار والترجمات التاريخية والأدبية (ومن بينها تاريخ نابليون بونابرت في مصر وسورية) وخمس قصص (رمية من غير رام 1870، وغزير وليلى، نجيب ولطيفة، عرس فريد 1871، غانم وسامية 1872) وست روايات اجتماعية (الهيام في جنان الشام 1870، أسماء 1873، بنت العصر 1875، فاتنى 1877، سلمى 78-1879، سامية 82-1884) وثلاث روايات تاريخية طويلة هي: (زنوببيا ملكة تدمر 1871، بدور 1872، الهيام في فتوح الشام 1874) تتشكل جميعها جزءا من الارث النفيس الذي خلفه لنا سليم البستاني.

سليم البستاني المشهور "بدماثة الأخرق" – كما يقول المستشرق كراتشكوفسكي، هو رائد القصة الاجتماعية والتاريخية والأقصوصة في النهضة الأدبية الحديثة. وقد كتبت الأديبة الباحثة السوفيتية دولينيا المتعمقة في دراسة الآثار والأعمال الادبية الرائعة التي تركها لنا سليم البستاني ما يلي: "لم يختر سليم البستاني أبطاله من الحياة الواقعية ، بل كان يختار مواضيع رواياته وقصصه من منطلقات أخلاقية نظرية، ولذا اصطبغت كلها بالطابع الارشادي التربوي". وأكد محمد يوسف نجم أيضا أن روايات البستاني عبارة عن "محاضرات في آداب السلوك صيغت بالأسلوب الروائي". وبمعنى آخر لقد مهد الأسلوب الابداعي لسليم البستاني طريقا سهلا أمام مهمة اختيار النموذج البشري المثال. وما أسماه محمد يوسف نجم "آداب السلوك" ليست في واقع الأمر سوى المعايير الاخلاقية والمثل العلاي التي يصبو اليها البستاني، ويعمل جاهدا لتجسيدها في المجتمع. فالمثل الأعلى للكمال تجلى عند العرب في الحياة الاجتماعية القائمة على الحرية والعدل والمساواة، والتي يمكن الوصوال عليها بوسيلة اساسية وحيدة ممثلة في التربية والتعليم والتنوير. أما المضمون الأساسي للمعاصرة فقد تجسد – برأي الكاتب – باستبدال قيم ومعايير تتماشى مع حضارة العصر المتمدن بالعادات والتقاليد البالية التي عفا عليها الزمان. وهذا التحول يفرض بالضرورة استعارة الشرق للعلوم والتقنية والثقافة ولباب الحياة الأوربية الأكثر تطورا ورقيا.

وفي موقفه من قضية التمثل بالثقافة الأوربية، انتقد البستاني السلفيين المتعصبين تعصبا أعمى وكذلك بعض المجددين الذين روجوا للعادات والمعايير الأوربية غير الموائمة للشرق. فضلا عن أولئك الناس الذين كانوا يهتمون بالقشور دون اللبنان، فكان من خيرة الرواد الداعين لاستيعاب المنجزات الحضارية الأوربية والمثل الإنسانية السامية والأفكار التنويرية التقدمية. ومن المميز أنه اذا كانت "حديقة الأخبار" منذ تأسيسها قد خصصت زامية لترجمة الأدب الفرنسي التجاري الرخيص، فان الأب بطرس البستاني اضطلع بترجمة روائع الأدب الفرنسي (قصة روبنسون كروزو) مضمنا اياها ملاحظات انتقادية بحق (البابوية والكاثوليكية) ، بينما مال نجله البكر سليم الى ترجمة "هاملت" لشكسبير.

تنبغي الاشارة هنا الى أن سليم البستاني تعمد اطلاقا التغاضي عن الواقع الاجتماعي – الطبقي السائد في سورية، مركزا جل اهتمامه على تصوير البروجوازي الأوربي المثال، وكأنه يدعو أبناء وطنه الى خلق ظروف اجتماعية مشابهة للأوربية، ولاسيما الى تمثل المعايير والمقاييس البرجوزاية الأخلاقية الرفيعة. متخذا من الوسط المسيحي السوري مسرحا للأحداث الدائرة في رواياته. وقد امن البستاني بأن كل شئ في حياة المجتمع يجد مكانه اللائق والمناسب حين يكون التعليم موجها الى الأسرة، ولاسيما الناشئة من الشباب. ويستقطب الذكور خاصة على حب العمل واتقان الصنعة للعيش قدر امكاناتهم بما تجنيه أيديهم عملا بالقول الشعبي "على قد لحافك مد رجليك" كما دعا الى الاهتمام بتشكيل الأسرة القائمة على الحب الصادق والوفاء والاخلاص والنظر الى تحرير المرأة كشرط من الشروط الأساسية لتقدم ورقي الأمة والمجتمع. ينبغي التذكير أيضا أن البستاني اختار مواضيع رواياته من الوسط المسيحي عامة، ومن بيئة التجار والموظفين والمستخدمين خاصة، كي يعبر – ولو صامتا 0 عن أمانيه في انتصار مثله العليا البرجوازية داخل ذلك الوسط تحديدا.

هذه باختصار الخطوط العامة للفكر البستاني حول تطور المجتمع ورقيه كما رأيناها من خلال التأليف الأدبية التي تركها لنا سليم البستاني ومن هنا نخلص الى أن المسائل الاجتماعية استقطبت اهتمام الابن أكثر من أبيه، وان سليم كحامل للأفكار البرجوازية – التنويرية، كان أكثر عطاء، وبالتالي أكثر استقلالية في هذا الميدان.

ومن الواضح أن سليم البستاني، استفاد من أفكار أبيه فيما يخص مسألة ترشيد واصلاح المجتمع سياسيا، ولكنه ، بوصفه من أبناء الرعيل الثاني، فأنه ركز بشكل أكبر نسبيا على مسألة التطور السياسي في المجتمع العربي بالذات. والمثير للاهتمام هنا أن روايته الاجتماعية "سلمى" استوحى حوادثها وشخصياتها من الريف اللبناني. وصور فيها لأول وآخر مرة، الصراع الاجتماعي – الطبقي المبطن واشكالية تمازجه وتداخله بالصراع العربي – التركي العام. وهنا نفتح هلالين على حقيقة الصراع الطبقي – الاجتماعي. فاذا كان هذا الصراع متجليا داخل طبقة التجار والمستخدمين في رواياته الأخرى ، وبكلام آخر: اذا كانت أطراف النزاع – بكل سلبيانتها وايجابياتها – منتمية الى البيئة العربية الصرفة، فان القواسم المشتركة بين تلك السلبيات والايجابيات النابعة من الظروف المعاشية – الاجتماعية، تكون عاقبة لسوء التربية أو جودتها. أما في رواية "سلمى" فالبطل والبطلة شخصيتان ايجابيتان من أبناء الريف العربين بينما تعكس الشخصيات السلبية في موظف تركي شرير تدور في فلكه جماعة من أشرار الموسرين والأثرياء العرب. وهذا يعني أيضا أن غياب الاشكالية الاجتماعية – الطبقية في المدينة السورية لا ينقصه سوى تعميم القيم البرجوازية للوصول الى درجة الكمال. بينما تشكل استفزازات الموظفين والحكام الأتراك الأرضية التي تقوم عليها كل الشرور والمآثم في الريف السوري حيث تتفاقم الأوضاع الاجتماعية الفاسدة ويشتغل أوار الصراع الطبقي – الاجتماعي الذي يشارك فيه الأغنياء العرب رغما عن ارادتهم.

من الطبيعي جدا أن تجد قضية التطور السياسي في المجتمع العربي انعكاسا لها في روايات سليم البستاني التاريخية. رغم أنها ارتبطت أكثر فأكثر بالتطور الاجتماعي ما دام الكاتب رأى أن مهمته الأساسية متركزة في "صياغة الحوادث التاريخية والقرار المبادئ الأخلاقية" . وفي موضع آخر صاغ سليم البستاني مبادئه في الأدب صياغة أكثر دقة ووضوحا بقوله: "تهدف المدونات التاريخية الى سرد حوادث الماضي وكشف أسبابها ونتائجها، كي يقارن الناس بينها وبين الأحداث المعاصرة. فيأخذون بعبرها ودروسها، وينيرون عقولهم وآذهانهم بمعارفها وخبراتها. وليس مصادفة أن احداث التاريخ السياسي القديم هي التي استقطبت اهتمام الكتاب حولها منذ فترة ما قبل الإسلام (العصر الجاهلي) حتى العصر العباسي، أي العصور التي خلت من الانقسامات واشتهرت بالازدهار الاقتصادي والحضاري والانتصارات والانجازات الكبيرة. فالمقارنة بين ذاك العصر الذهبي والأوضاع القائمة آنذاك، ستعيد الى ذاكرة الناس أمجاد ماضيهم العريق، فتدعوهم الى رص الصفوف والتآلف والتضامن والوحدة الرامية الى استعادة كرامة العرب وعزتهم، وتوقظ فيهم الروح الوطنية والحمية العربية، وتهيب بهم الى ضرورة محاكاة ماضيهم التليد.

ويميل البستاني الى الاعتقاد بأن المزايا الخاصة بعصر البطولة تتجلى في حب الحرية ورابطة الأبوة ومبادئ العدالة والمساواة والتسامح (وخاصة الديني – المذهبي) والتعاون المشترك واغاثة الملهوف وغيرها من القيم والفضائل التي يجب أن تسود في المجتمع العربي كي يقوى على الوصول الى نهضة قومية اصيلة، "لو سار العرب ومن بعدهم العثمانيون على هدي الخلفاء الراشدين (الخلفاء الأربعة الأوائل) لكانت أوضاعهم أحسن بكثير مما هي عليه في الوقات الحاضر". هذا ما ورد على لسان البستاني في واحدة من رواياته التاريخية . ثم استطرد كلامه مستشهدا بقول أبي بكر الصديق "كن أسوة بالجميع". معتبرا اياه واحدا من مبادئ العدل الانساني الذي "يجب أن يكتب بحروف من ذهب ليكون هيدا للحكام والسلاطين". وكما يعتقد البستاني بأ، كل قيمة من قيم الحضارة الأوربية قد لا تتواءم مع الواقع العربي فانه يؤمن أيضا بأن معايير التراث العربي القديم لا يجب أن تتكرر تكرارا أعمى في الحياة العصرية. ومن هذا المنظور تتمتع قضية الوحدة بين العرب بأهمية خاصة في مجمل أفكار الكاتب. ففي احدى الافتتاحيات البليغة الدلالة المعنونة "نهضة العرب" والمنشورة في في "الجنان" يقول سيم البستاني: "ستستعيد الأمة العربية غدا ما فقدته بالأمس عن طريق انجاز الوحدة وبدافع الولاء للأمة، وهو ما يتواءم مع التكافل الوطني، لا الديني". وهذا يعني أن الروائي كان يرفض الوحدة القائمة على أرضية الدين كما كانت عليه في فجر الاسلام ، فلا يرضاها أساسا للتطور والرقي في أيامه. فقد كتب البستاني يقول: " العصبة الدينية ستجلب بعض النجاح وكثيرا من الضرر لأولئك الذين اتخذوا من الدين وسيلة لانشاء دول في المشرق بهدف اضعاف من هم ليسوا على دينهم من القادة والزعماء تخوفا من تعاظم نفوذهم ونزوعهم للسيطرة عليهم".

وحول هذا الموضوع كتبت المستشرقة دولينينا ما يلي: "حقا ان البستاني لمح الى الحملات الصليبية، ولكن اشارته تنسحب أيضا بصورة غيرة مباشرة على أوربي القرن التاسع عشر الذين اذكو باستمارار نار العداوة الدينية – الطائفية بين سكان سورية". وباعتقادنا أن دولينينا خلطت هنا بين الواقع والمرتجى، ناسبة الى البستاني موقفا انتقاديا مبطنا ازاء المستمعرين الأوربيين. ان قراءة متأنية فيما بين السطور تقودنا الى استقراء النقد السافر تقريبا الموجه الى فكرة الجامعة الاسلامية التي نشأت على يد الشدياق في البيئة العربية، والتي اشتد عودها وتحولت الى مذهب فكري ديني – سياسي على يد السلطان التركي والدائرين في فلكه.

ان ميل دولينينا لاضفاء صبغة انتقادية على كلام البستاني ازاء الدبلوماسية الأوربية بدلا من الجامعة الإسلامية يبدو أشد غرابة من خلال تفسيرها لموعظة البستاني القائلة: "يجب على العربي أن يناصر العرب وليس من كانوا على دينه" (واقبتاسها لم يكن دقيقا تماما، اذ تركت كلمة "العربي" خارج الهلالين مستبدلة عبارة "العربي المسيحي" بها)، ثم أضافت تقول: "خصوصا أن البستاني أكد أكثر من مرة أن الوحدة القائمة على أساس الدين لم تنجح سوى في القرون الوسطى. يقول البستاني: يجب أن تقوم الوحدة في الوقت الحاضر على أساس قومي كما هو الحال في الدول الأوربية".

ان التأكيد الذي أوردته دولينيا لا يترك ذرة من الشك في أن انتقاد البستاني لم يكن معنويا أبدا للأوربيين، ولاسيما أنه يشير اليهم ويستشهد بهم في معارضته للأخرين. ورغم أن البستاني لم يذكر الآخرين تصريحا، ولكن أصابع الاتهام كانت موجهة تلميحا الى الداعمين لسيادة الحكم التركي تحت راية الاسلام كالدشياق ومن كان على شاكلته.

ينبغي التذكير أيضا أن دولينينا ليست الوحيدة بين المستشرقين السوفيين الذين يتناسون أولا أسبقية الشدياق على الأفغاني في مضمار الترويج لأفكار الجامعة الإسلامية في الأوساط العربية. ويتجاهلون ثانيا أن ذلك المذهب كان له منذ نشوئه هدفان أساسيان موجهان ضد العرب.

أولهما: تقوية مواقع السلطان التركي من خلال التهويل بالمعركة الدائرة بين الاستعمار الأوربي والحكم التركي من أجل السيطرة على البلاد العربية الداخلة في اطار الامبراطورية العثمانية، وذلك من خلال التهديد بتحويل المعركة الدفاعية لتلك الأقطار الى معركة هجومية يشارك فيها العالم الاسلامي قاطبة. الواقع الذي تنبه اليه رزق الله حسون في أواسط الستينيات، معتبرا الحماية الأوربية أصغر الشرور. وفي هذا السياق كان مدحت باشا قد حذر المفوض الروسي أبان المحنة القاسية سنة 1876 بـأن الحرب المتوقعة بين تركية وروسية لن تكون سهلة بالنسبة للروس "اذ لن يقف الرعايا المسلمون في روسية موقف المتفرج في حال شن الحرب على خليفة المسلمين".

وثانيهما: اجهاض حركة النهضة القومية الثقافية العربية في طورها الجنيني، بالوعد بتحقيق أماني المتعصبين والظلامين من العرب المسلمين باعادة أمجاد الخلافة الاسلامية. الأمر الذي استوعبه جيدا البساتنة في أواخر الستينيات. وفوق ذلك بكثير، فدولينينا لم يمر بخاطرها أن رواية سليم البستاني "الهيام في جنان الشام" انتهى من كتابتها سنة 1870، أي عندما كان الأفغاني متجولا بين أوساط "ثمرات الفنون" ولم يكن عذار خده قد بقل بعد، ويوم كان البستانة رواد النهضة العربية يشنون معركة لا هوادة فيها ضد الشدياق العربي كبير دعاة نزعة الجامعة الإسلامية (وايضا ضد نامق كمال وجمعية الاتحاد والترقي) ولذا قيمت البستاني الابن على هذا النحو: "وهكذا صاغ البستاني مبدأ الوحدة القومية العربية، الذي تزامن تقريبا مع ظهور فكرة الأفغاني حول الوحدة الاسلامية الشاملة. ومن المعروف أن الأفغاني اشتهر بالتسامح الديني وكان يعتقد جازما بأن نصارى الشرق سيؤديون الوحدة الاسلامية الجامعة. ومن هنا فان الاتجاهين المذكورين لم يتسما بالتناقض التناحري".

اذا ضربنا صفحا عن الحلم القديم الذي راوغ مخيلة البرجوازية بأغلبيتها المسيحية في بيروت بشأن مد سيطرتها الاقتصادية - التجارية على مجمل السكان في سورية، وبضمنها البرجوازية الاسلامية، الحلم الذي كان واحدا من مصادر الوحي والالهام بالنسبة لرواد النهضة اللبنانيين فيما مضى، فان البساتنة في السبعينيات، أي في ظروف النمو المتزايد للعلاقات الرأسمالية، انفتحوا أكثر فأكثر على السوريين من أتباع الأديان الأخرى لاحتوائهم داخل دائرة نفوذ حركتهم الرامية الى اعادة البناء الثقافي – المجتمعي.

ولعل خير مصداق لما نقول أن مجلة "الجنان" اتخذت من الحديث المأثور "حب الوطن من الايمان" شعارا لها. فأصبحت لسان حال الدعوة الى وحدة جميع السوريين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية. وقد كتب سليم البستاني في مقالة "الغد" يقول: "لقد بدأنا حديثنا بالدعوة الى نبذ الفرقة الدينية ونختتمه بها: فلن نبلغ الهدف المنشود (الرقي) دون ذلك".

وبالمناسبة، بقدر ما كان عداء البستاني للحكم الدستوري متوائما مع السياسة الرسمية الحميدية، بقدر ما كان آل الخوري يعدون التعرض للمصالح الحكومية من الأ/ور المحرمة التي لا يجوز المساس بها اطلاقا، وبقدر ما كان الرواد المحافظون المدافعون عن شعار الجامعة الاسلامية يبحثون عن منبر للرد على البستانة وللترويج لدعوتهم الموالية للدستور.


جريدة لسان الحال لخليل سركيس

تجدر الاشارة هنا الى ظهور جريدة "لسان الحال" لصاحب امتيازها خليل سركيس الذي ابتدأ عمله المطبعي سنة 1860 لدى المرسلين الأمريكان، ومن ثم شارك عام 1868 سليم البستاني في تأسيس مطبعة "المعارف" وأنشأ فيما بعد مطبعة خاصة أسماها "المطبعة الأدبية"، حيث كان ينشر بمعاونة نجيب بطرس البستاني جريدة "لسان الحال"، وهي جريدة سياسية اقتصادية علمية ظهرت في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1877 فكانت بداية نصف أسبوعية ثم صارت تصدر ثلاث وأربع مرات كل أسبوع حتى سنة 1895 عندما صدرت يومية الى نشوب الحرب العالمية الأولى.

كان خليل سركيس مشهورا في بيروت ليس فقط لأنه سلسل أسرة سركيس الذائعة الصيت بوصفه واحدا من كبار مثقفيها وأدبائها، لم يدخر وسعا في اعطاء الطباعة العربية حقها من النماء والرقي، بل وكاتبا بليغا نشر سنة 1873 رواية "سعيد وسعدي" لعشاق الرياضة في سن الصبا عام 1874، وكتاب "تاريخ القدس الشريف" لمحبي التاريخ، وهو من الوجوه ابارزة لأنه أيضا عقيل لويز البستاني احد كريمات المعلم بطرس البستاني. ولكن تخلي سركيس فجأة عن شركة سلفه سليم البستاني كناشر، وعن حمية بطريس البستاني كمحرر، ليؤسس جريدة سياسية اجتماعية خاصة به. ومهما أصر كريمسكي مستشهدا بأقوال هارتمان: "ان تأسيس الجريدة لم يعن اطلاقا القطيعة بين البستاني وصهره"، ومن أن سركيس كان يستفيد من سوق رواج الصحف وكثرة عدد القراء السوريين، فان صدور "لسان الحال" يستحق وقفة قصيرة.

كل ما في الأمر أن "لسان الحال" كانت وليدة الأوساط المحافظة، ولذا كانت ناطقة باسم بعض العناصر المسيحية السورية التي كانت تدعو الى رقي العرب عن طريق اجراء عمية تجميل للامبراطورية العثمانية تتلخص في تعميم الاصلاحات والدعوات الزائفة حول الدستور. وكانت "حديقة الأخبار" جريدة شبه رسمية ، ولذا كانت بعيدة كل البعد عن المزايدات الدستورية، أما جريدة "التقدم" لصاحبها أديب اسحاق فكانت معطلة. بينما كان حموه 1877 المعلم بطرس البستاني واقفا بجزم وعزم لا يلين في جبهة المناوئين للحركة الدستورية، وهذا يعني منطقيا أن فراغا ما قد حدث في الحياة السياسية والاجتماعية في بيروت في مجال الدعوة للدستور والاصلاح العثمانيين، ولذا سارع خليل سركيس لملء هذا الفراغ مع صديقه نوفل نوفل الطرابلسي، الذي ترجم "دستور الدولة العثمانية" و"قوانين المجلس البلدية" وغيرها من الكتب الأخرى الى اللغة العربية.

كان خليل سركيس قد اتخذ من الحكمة القائلة: "لا اطلب اثرا بعد عين"، (يضرب لمن ترك شيئا يراه ثم تبع أثره بعد فوته) شعارا له في الحياة. وهل يا ترى هذا الشعار ما هو الا اشارة الى أن ابستاني تراجع عن رسالته في طلب حتى الممكن؟!

أما الذين تولوا تحرير "لسان الحال" فهم حسب تواريخهم، جرجس زوين، الشيخ يوسف الأسير، أمين افرام البستاني، يوسف قيقانو، سليم سركيس، نجيب المشعلاني، الدكتور رزق الحداد، المعلم رشيد عطية، سليم عباس الشلفون، المعلم عبد الله البستاني، سعيد فاضل عقل، وغيرهم من رجالات النهضة البرجوازيين الذين تمسكوا بمذهب الجامعة الاسلامية. ومن الشهادات الواقعية الموثقة أن "لسان الحال" كانت في سنة 1878 غارقة – بكل ما في هذه الكلمة من معنى – بالمقالات التي أطلقت للقلم عنان الحرية، وجاهرت بالدعوة الى تعميم الاصلاحات في سورية عامة ولبنان خاصة، تحت ظل الراية العثمانية. تلك المواد التي كانت سببا في تعطيل الحكومة لها ابتداء من غرة نيسان (أبريل) 1878 . وفي فترة تعطيل "لسان الحال" أصدر خليل سركيس "المشكاة" وهي مجلة شهرية سياسية علمية صناعية تجارية فكاهية، احتجبت على أثر صدور العدد الرابع منها، عندما أعيد نشر "لسان الحالة" التي بالغة في محاسبة الحكومة واشتهرت باعتدال المشرب مراعاة لأحوال المراقبة السلطانية، فلم يعد سركيس يسعى الى الممكن في حيز الامكان.

ولكن البساتنة، ومن كان ضمن اطار تأثيرهم من المؤيدين للاصلاحات، كانوا حقا أكثر تقدمية من أتباع الخوارنة الملتفين حول "حديقة الأخبار"، ولكنهم – رغم هذا – لم يذهبوا أبعد من الدعوة المعتدلة جدا فيما يخص الاصلاح الاجتماعي – السياسية. فلم يكونوا يتقبلون بأي شكل من الأشكال المفاهيم السياسية الراديكالية، مثل "الثورة" أو حتى "الانقلاب" و"التحول".. الخ. فهم لم يقروا لا بضرورة الاصلاحات الاجتماعية – السياسية التدريجية ولا بالراديكالية الثورة. صفوة القول: ان أفكارهم التنويرية لم تتسم قط بالراديكالية، الأمر الذي لم يكن يلاقي استحسانا لدى بعض المنورين الشباب الذين تحلقوا حول البستانيين في أواسط السبعينيات. ولاسيما أن المعلم الرائد – كما رأينا – انسجم تدريجيا مع السلطان الأ؛مر عبد الحميد على أرضية العداء للدستور والحكم الدستوري.

ان التذمر من التبشير البستاني الداعي الى بقاء الأوضاع السائدة والأنظمة الرجعية القائمة دون احداث أي تحول جذري، تحول بالضرورة الى أرضية صالحة ساهمت في رجحان كفة الجناح الراديكالي في الحركة النهضوية القومية الثقافية. هذا النجاح الذي لم يجحد المآثر الأدبية والعلمية والاجتماعية العظيمة للعلامة بطرس البستاني ، ساد داخله نوع من الاتفاق الصامت على ان الشيخ الذي بلغ الستين من عمره فم يعد قادرا – بحكم أفكاره المحافظة وأكاديميته البحتة على تبوؤ مركز الريادة في النهضة الأدبية العلمية والسياسية – القومية التي طرحتها متطلبات الواقع السوري على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي فرضت مهام قومية رفيعة المستوى على رجالات النهضة والتنوير العربي الحقيقي.

كان ظهور جريدة "التقدم" معلما بارزا في ميدان تصاعد الفكر العربي القومي، وايذانا بحل المهام القومية المطروح عصرئذ، ولاسيما بعد أ، تحولت فعليا الى لسان حال "جمعية زهرة الآداب" ، فأصبحت منبرا لأحرار العرب حين تسلم ادارتها الرائد الكبير أديب اسحق.


3 – تصعد الفكر التنويري العربي الرائد أديب اسحق

أديب اسحاق (1856-1885) أديب لبناني، دمشقي المولد، أرمني الأصل بيروتي النشأة ، أحد الشخصيات البارزة في حركة النهضة القومية – الثقافية والتنوير العربي، وأول مناد حقيقي بالنزعة القومية العربية. وقد وصفه الكاتب العربي ناجي علوش الذي جمع آثاره السياسية والاجتماعية بقوله: "أديب اسحق هو أحد الرواد الطلائع في النهضة الأدبية السياسية في القرن التاسع عشر، وهو من أبرز هؤلاء الرواد" . ونعته المستشرق السوفييتي كوتلوف قائلا: "أديب اسحاق رائد الفكر القومي العربي".

نذر نفسه في سن مبكرة للاشتغال بفن الكتابة. كان في ربيعه الثامن عشر يوم تسلم قيادة أول جمعية عربية أدبية اجتماعية سياسية: "جمعية زهرة الآداب"، ونشر أول كتاب من نفثات قلمه، وحرر في جريدة "التقدم" الذائعة الشهرة ، وهز بيده مهد أول جريدة عربية معادية للأتراك. وفي التاسعة عشرة شارك في وضع أول موسوعة عربية، وعرف العرب على المسرح الأوربي الكلاسيكي ، فكان مؤسس ومدير أول مسرح عربي محترف. وفي الحادية والعشرين احتل مكانة بارزة بين المناضلين في سبيل التقدم الحضاري والسياسي للشعوب العربية، وبين رجالات الحركة الوطنية المصرية، وفي الثالثة والشعرين نجرع مرارة النفي السياسي بشجاعة منقطعة النظير، فزادته الخطوب قوة واندفاعا في كفاحه العنيد العتيد. وفي السادسة والعشرين حمل القلم والسيف مقارعا الاستعمار الدخيل، فاعتقل الى حين، ثم عذب وشرد ونفي مرارا، فتعرضت صحته للمؤثرات واشتد عليه الداء، وضاقت عليه سعة العمر فوافته المنية بتاريخ 12 حزيران (يونيو) 1885 في قرية الحدث بلبنان، وله من العمر عمر القمر ، فما اكتمل حتى امحق.

وعن هذا الموضوع كتب ليفين يقول: "وكانت حياة أديب اسحاق قصيرة ولكنها حياة مناضل من أجل الحرية، وحياة مدافع عن الدستور والحقوق الشعبية. واذن، ليس مصادفة أن الرجعية الاقطاعية والاكليروس أعلنا ضده حربا سافرة في حياته وبعد مماته. اذ حالا لعدة أيام دون مواراة جثمانه الطاهر الثرى، ونظما هجوما بربريا على بيت والده، وهذا لعمري انتهاك فاضح لأبسط حقوق الانسان ولابسط قواعد الحكمة الالهية الخالدة. كيف لا وقد ارتكبت هذه الجريمة النكراء بحق انسان عبقري من عباقرة ذلك الزمان. فاسحق الى ذلك كله، كان شاعرا فياض القريحة، في شتى مظاهره، وداعية من الدعاة الى الاخاء والحرية والى التحرر من العبودية، وتحرير العقول من كل سلطة مستبدة دينية أم زمنية. علاوة على ذلك كان مع سليم نقاش واضح الحجر الاساسي للمسرح العربي الحديث ومؤلفا ومخرجا وممثلا. كان لأسلوبه البياني أثر بين في تطوير بنى وآداب اللغة العربية، وله عبارة موسيقية متماسكة متراكضة، يمده خيال رائع وتعبير بارع، فأعاد الى النثر رواءه وفخامته، والى ذلك كله، كان أديب اسحاق شخصية اجتماعية سياسية بارزة، اشتهر بنشاطه الذي لم يعرف الكلل والملل، فكان في بؤرة اهم وأخطر أحداث عصره الهائج المائج.

كان أديب اسحاق أعظم نجم لمع في قبة السماء العربية خلال سني 1874-1884. وقد شع نوره على جيل كامل من المثقفين الشباب والوطنيين العرب الأحرار، وكان "طراز العرب وزهرة الأدب" – كما قال جمال الدين الأفغاني في رثاته لفقيد العصر. ورغم أن الكثيرين من المفكرين والكتاب لا يجدون في ذواتهم القدرة الكافية على مجابهة السلطات الكهنوتية، فان اسحاق انبرى لمقاومتها وفضح عيوبها التي تسترت الكنيسة عليها خوفا من ضياع هيبتها وفقدان سطوتها في عيون الناس. وهذا من الامور الطبيعية لدى أديب اسحاق "الثوري المزاج والأسلوب" – كما يقول كراتشكوفسكي واستطرد كلامه "كان خطيبا مصقعا على المنابر، ومؤسسا للأسلوب الصحافي الجديد، الذي يذكرنا بالخطاب الحماسي، المندفع، الثائر الحيوي". ذلك الأسلوب الذي لاقى استحسانا عظيما ورواجا عظيما بفض النشاط الهادف اليويم، الكتابي والشفاهي، الذي اضطلع به أديب اسحاق وتحول الى سلاح ماض لنزعة القومية العربية الناشئة والمناهضة للسياسات الاستعمارية العثمانية والأوربية على حد سواء.

شهدت دمشق حقبة من التخلف الشديد قياسا الى بيوت والقاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت المدينة غارقة في ظلام القرون الوسطى، تعيش كغيرها من المدن الشرقية – الاسلامية حياة يسودها الجهل والخمول والانحطاط. ومما لا شك فيه أن الحكام والموظفين الأتراك اضطلعوا بالدور الأسوأ في دفع غالبية السكان المسلمين نحو هاوية التعصب الديني والتجهيلية والظلامية. وكان الحكام الأتراك الأنضاوليو الأصل قد أشعلوا نار المذبحة المروعة في دمشق سنة 1860، التي ذهب ضحيتها نيف وستة آلاف مسيحي، وكان وقودها دعوة الجهاد الزائف ضد "الامتيازات" الممنوحة "للنصارى الكفرة".

في هذه المدينة ولد أديب اسحق في 21 كانون الثاني (يناير) من عام 1856. كان جده اسحاق طلماتيان قد هاجر من أرمينية الشرقية الى إسطنبول ومنها إلى أرضروم. أرسل في مأمورية إلى دمشق حيث تسلم رئاسة الجمرك مدة طويلة. نشير بالمناسبة أن التوظيف في الجمرك كاد يكون حكرا على الموظفين والمستخدمين الأتراك عصرئذ. كان زملاءه الأرمن يدعونه "ايسهاك" والعرب "اسحاق" . أما والد أديب فكان معروفا بعبد الله ابن اسحاق ثم تحول مع الأيام الى عبد الله اسحاق، أي أصبح اسم والده كنية له. لكن والد أديب لم يكن قد استعرب في اختيار اسمه وحسب، بل انه – رغم حفاظه على ما تبقى في ذاكرته من نثار اللغة الأرمنية – انسجم انسجاما كاملا مع البيئة العربية وأطلق على ولديه اسمين من الأسماء العربية الشائعة الاستعمال وهما: ديب (ذئب)، ونمر، اللذان تحولا في المدرسة الى أديب (مهذب، مثقف ثقافة عالية) وعوني (الكثير المعونة للناس).

أولى الذكريات المروعة التي وشمت مخيلة الأخويت كانت مذبحة 1860 التي نجوا مع الأهل منها باللجوء أولا الى الدير الأرمني بدمشق والذي ذهب طعما للنيران، ومن ثم الى معسكر البطل العربي عبد القادر الجازئري الذي أبلى بلاء حسنا في انقاذ النصارى.

تلقى الاخوان مبادئ العلوم في مدرس اللعازاريين الفرنسية، حيث أظهر أديب تقدما ظاهرا على أقرانه. ولما بلغ أديب العاشرة أخذ ينظم الشعر كلفا به، وهو اذ ذلك لا يعرف شيئا من قواعد اللغة والعروض، وما أتم الثانية عشرة حتى كانت له عدة قصائد وموشحات مرهفة الاحساس أوحت الى أساذته بأنه سيكون شاعرا. وكانت بعض قصائده قد نشرت يومئذ في الصحف فنال عليها الفتى مكافأة مالية صغيرة زادته حماسة واندفاعا. وقد أدلى أخوه عوني اسحاق بشهادة مفادها أن أديبا كان قد نظم يومئذ زهاء ألف بيت من الشعر الغنائي.

بيد أن والده لم يكن موفقا في حياته وعمله بقد رما كان عليه جده، فهو لم يقدر على اعالة أسرته، ولذا ترك نجله البكر أديب المدرسة ليدخل في خدمة الجمرك ولما يبلغ الحادية عشرة بعد. فأدى أعمالا شاقة لا تتناسب وعوده الطري، وكل ديدنه تخفيف الوطأة عن أبيه.

وانتقلت أسرة أسحاق الى بيروت سنة 1871، فكانت هذه المدينة مرتعا لاحلامه بكل ما في هذا الكلام من مغزى ومعنى. تعلم أديب فترة في مدرسة اليسوعيين ومن ثم ساعد أباه في مصلحة البريد، وغاص أديب في الأجواء الأدبية البيروتية، فتعرف الى عدد من الأدباء والشعراء الشباب. ولاسيما أعضاء الجمعية العلمية السورية المنحلة الذين أحبوه وأحبهم. وقد ساعده هؤلاء في تحصيل وظيفة محترمة ذات مردود مقبول سنة 1873، ولاسيما أنه كان يجيد العربية والتركية والفرنسية، ويلم بالأرمنية، وقد باشر يتعلم الانكليزية.

لم يكن أديب في ربيع السابع عشر طامعا في مال أو يسر حال ، بل نازعا وتواقا للاشتغال بالأدب والثقافة. فبعد مدة وجيزة ترك وظيفته في ادارة الجمارك وانضم الى فريق من الشباب المثقف المتلف حول الصحافة اللبنانية، ثم دخل في "جمعية زهرة الآداب" التي أنشئت عام 1873 برخصة من الحكومة العثمانية، وكانت يومئذ برئاسة سليمان البستاني (1856-1925) وفي ربيع عغام 1874 تولى أديب رئاسة الجمعية فكان يلقي فيها الخطب الرنانة والمحاضرات المفيدة والأشعار الحماسية، داعيا الى الاخاء والتحرر والحرية والاستقلال، ومعارضا أجل التعصب الديني المقيت، ومبشرا بالتسامح الديني وتحيد السوريين قاطبة من أجل تقدم بلادهم الشامية ورقيها. وكان يحبر المقالات فبرز كاتبا ألمعيا من كبار كتاب المقالة على صفحات "الجنان" و"التقدم" فانتشرت شهرته الأدبية كانتشار النار في الهشيم. وعن هذا الموضوع يقول ليفين: "وهنا تجلت مواهبه الفائقة كأديب اجتماعي وخطيب، وكذلك تجلت شجاعته الفكرية".

ومما يؤسف له حقا غياب المعلومات الموثوقة عن الأجواء السياسية والاجتماعية أو الفكرية – الثقافية السائدة داخل "جمعية زهرة الآداب". غير أن الأدبيات المكرسة لتاريخ النهضة العربية الحديثة تحتوي بعض المعلومات العامة والوثائق المتعرفة، فضلا عن بعض المواد التي اكتشفت في السنوات الأخيرة وكلها عمادنا ودليلنا لاعطاء صورة واضحة الملامح عن هاتيك الأجواء.

نقول بادئ ذي بدء أن نوعا من الغموض يسود في علمي الاستشراق الأوربي والسوفيتي حول مسألة منهجة الفكر العربي الوطني – القومي، وتوضيع التيار القومي العربي توضيعا دقيقا في اطار الجمعيات السياسية. فضلا عن تقييم الأخير تقييما سليما دقيقا يمكنا من احلالها المحل اللائق بها في مسار الفكر السياسي – الاجتماعي العربي. والسبب الرئيسي لهذا الالتباس ناجم عن ندرة المستندات الوثائقية والمادة الصحافية المتناثرة هنا وهناك علاوة على المواقف الذاتية المتحيزة التي اتصف بها أدب المذكرات لأولئك الكتاب والادباء العرب المعصارين للأحداث ممن شاركوا شخصيا في تلك الأحداث أو كانوا على مقربة منها واطلاع عليها.

وأديب اسحاق واحد من الرواد الطلائع في الفكر السياسي – الاجتماعي ومن أعظم أركان التنوير العربي، كان ولا يزال مغموط الحق في تاريخ النهضة العربية الحديثة. ومن العوامل التي لعبت دورا سلبيا في عملية تقييم الكتابات السياسية والاجتماعية لأديب اسحق تقييما موضوعيا الحوادث المفتعلة التي قام بها ضباط الشرطة المصرية وبعض المسلمين المتعصبين الموتورين الذين أحرقوا البيت الذي كان يسكنه اسحاق في الإسكندرية في تمز (يوليو) 1882 ، علاوة على الأحداث المشابهة التي وقعت بعد عامين، فبعد عدة أيام من وفاته انسل بعض المغرضين المدفوعين من قبل السلطات الكهنونية السيويعة الى بيت أبيه، فسرقوا ما وجدوا من آثاره، والتي ينوي اعادة النظر فيها وطبعها، ومن ثم عاثوا فيه فسادا وأعملوا فيه تخريبا. وهكذا، وبسبب من هذه الأعمال البربرية، ذهب ارشيف اسحاق وقودا للنار مرتين، كتبه ومقالاته ومسوداته المخطوطة وصحفه المنشورة. فرغم الجهود الحثيثة التي بذلها الكاتب ناجي علوش بحثا عن آثاره المطبوعة والمخطوطة في أرشيفات ومكتبات بيروت والقاهرة ودمشق وغيرها من العواصم العربية. أعرب عن أسفة العميق لعدم اهتدائه الى ضالته المنشودة، وأكد أن ما وصل الينا من آثار ليس الا نثارا من انتاجه الوفير الذي عبثت به يد الشر والغدر.

وقد تضرر اسحاق تضررا غير قليل بسبب الاعتبار التالي وهو أن أدب المذكرات كان تقريبا المصدر الوحيد عن ذلك الزمان، ومن أن معظم كتاب هذا اللون الادبي كانوا اما من الكاثوليك الموارنة واما من المسلمين المتزمتين المتعصبين الذين لم يوفوه حقه من الموضوعية والعدل والانصاف. ومهما بدا ما نقوله من المفارقات العجيبة فان الكتاب المسلمين المستنيرين من المعاصرين واللاحقين قدروه تقدريا عظيما يليق بمكانته وعظمته رغم كونه نصرانيا أو حتى أرميني الأصل. ولم يؤخذ عليهم انهم حاولوا التعميم بعض الشئ على شخصيته أو تهميش دوره الكبير ومقامه الرفيع قياسا إلى الأفغاني، ويما يخص التقييمات السلبية التي روج لها كل من عرابي باشا ومحمد عبده.

وفيما يتعلق بالكتاب الموارنة – باستثناء قلة ممن عرفوا المفيد عن كثب فناصروه وساندوه – فانهم لم يتوانوا عن تدنيس ذكرى الفكر الحر الذي انطفأ سراج حياته وهو في عمر القمر. وخاصة أن الكنيسة الكاثوليكية المتمثلة في المقام الأول بالرهبانية اليسوعية، ظلت تعده حتى بعد انتقاله الى العالم الآخروي – من ألد أعدائها، فشنت عليه حملة عشوائية تذكرنا بمحاكم التفتيش الأوربية، فأتت على كل ما تركه من تأليف وتصانيف أدبية واجتماعية وسياسية، وهاجمت أصدقاءه وأشياعه ونصراءه، وكانت تقضي على كل ما يقع عليه بصرها من كتابات تخلد ذكراه وتعين على ترويج أفكاره الحرة.

ولم تنج من هجمات الكنيسة الكراريس الثلاثة التي كتبت في تلك الأيام بمناسبة الاشكالات التي حدثت في المقبرة بين العناصر الرجعية الاقطاعية – الكهنوتية من جهة، وبين أصدقاء وأنصار أديب اسحاق من ممثلي الطبقة البرجوازية المستنيرين من جهة أخرى. تلك الكراريس المطبوعة تعد اليوم وثائق نفيسة جدا. كل ما في الأمر أن هذه الكراسات المنشورا سرا والموجهة أولا ضد الكنيسة الكاثوليكية وقوتها الضاربة الرهبانية اليسوعية، وثانيا ضد السلطات التركية بصورة غير مباشرة لم يصلنا منها سوى نسخة واحدة أو نسختين على أبعد تقدير، لأن السلطات التركية والأكليروس الكاثوليكي أصدرا أوامر مشددة باتلافها انى وجدت.

الكراسة الأولى مطبوعة بالفرنسية غفلة التوقيع، نجد لها بعض الاشارات في المراجع العربية، ولكنها تعد من الوثائق المفقودة عامة، ولذا ظلت بعيدة عن دائرة البحث العلمي المنهجي، يرجع الفضل في اكتشافها الى المستشرق ايلي خدوري البارز في علم الاستشراق الانكليزي، الذي نشر التقرير الاصلي للقنصل الفرنسي في بيروت باتريمونيو المؤرخ في 6/9/1884 والمحفوظ في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية (لا جرم في أنه نشره دون عنوان وعلى شكل ملحق).

الكراسة الثانية غفلة أيضا مطبوعة على الجلاتين بعنوان "بشر البشير وجمعية التبشير" . أما الكراسة الثالثة فعنوانها "تباشير الفجر ومسبة البشير" غفلة التوقيع ومطبوعة. وللعلم نقول أن هذه الكراسات الثلاثة المنسوبة الى أصدقاء اسحاق (يرد ذكرها في المراجع العربية هامشيا وبغير عنوان عامة) توجه نقدا مرا ولاذعا الى الكنيسة الكاثوليكية. ولذا بقيت رهينة المحابس، ومحظور ذكرها حظرا شديدا . منع حتى يوسف إلياس سركيس زميل اسحاق في المدرسة من الاشارة اليها تصريحا أو تلميحا في قاموسه الموسوعي "معجم المطبوعات العربية والمعربة الشامل لأسماء الكتب المطبوعة في الأقطار الشرقية والعربية". والكراسات موضوع البحث هي الدليل القاطع والبرهان الساطع لاعادة النظر في تقييم "جمعية زهرة الآداب" لا بوصفها جمعية أدبية خطابية صرفة، بل باعتبارها باكورة الجمعيات السياسية – الاجتماعية العربية.


جمعية زهرة الآداب

"زهرة الآداب" واحدة من الجمعيات الأدبية التي ظهرت في الربع الآخير من القرن التاسع شعر، والتي لم تغب عن نظر أدب الاستعراب. ولكن – كقاعدة – لم يقترن ذكرها بالتفاصيل الدقيقة عن نشاطها، وبالتالي لم تحظ بالتقييم الموضوعي. ومن هنا ظلت الجمعية في جوهر الأمر لغزا من الألغاز وسرا مكنونا على أفهام المستعربين والدارسين. وبالفعل، فان أدبيات علم الاستعراب السوفيتي والأوربي والدراسات والأبحاث العربية التي لا تعد ولا تحصى تقدم لنا صورة مبتورة عن هذه الجمعية تتلخص في صفحتين لا أكثر: "زهرة الآداب" جمعية أدبية خالصة، وكانت وريثة "للجمعية العلمية السورية" في بيروت (1868-1873) واصلت نشاطها وأكسبته نوعية جديدة رفيعة المستوى. حصلت على رخصة من "الارادة السنية" للسلطات العثمانية ونشطت برعاية أسعد باشا متصرف بيروت في ذلك العهد. من المرجح أن سليم البستاني استلم رئاستها في تخوم سنتي 1872-1873. انتظم في سلكها أديب اسحاق سنة 1873 وأصبح رئيسها الفعلي، انخرط في عضويتها فريق من الأدباء ذوي الميول التحررية الراديكالية كانوا أعضاء سابقين في الجمعية العلمية السورية الملغاة. وفيما يتعلق بالأعضاء المراسلين وأعضاء الشرف فلم تصلنا لوائح بأسمائهم ولكن يمكن التنبؤ بذلك من خلال مراجعة قوائم الجمعية السورية. ومن الثابت أن جريدة "التقدم" التي استلم تحريرها أديب اسحاق اصبحت لسان حال الجمعية في نهاية عام 1874. وليست هناك أية معلومات دقيقة عن توقف أعمال الجمعية.

من اليسير جدا الاستنتاج أن الصورة المرسومة لجمعية "زهرة الآداب" لا تعدو كونها رسما بيانيا يليق بدائرة معارفة موجزة. وعلى كل حال، فالمعلومات المشار اليها كانت ولا تزال تتنتقل من كتاب لأخر رغم أنها لا تسمن ولا تغني من جوع – كما يقال. وأكثر من ذلك، فأمثال هذه المعطيات تثير المزيد من الالتباس والغموض في ظروف الارادة السنة التركية، التي تشكك في طبيعة ومهام كل من الجمعيات القائمة أنذاك. وقد وقع الكثيرون من الدارسين أسرى هذه المعطيات المتضاربة، فاضطروا الى تحاشي ذكرها. فها هو ذا مثلا المستشرق كوتلوف يتوانى عن ذكر "زهرة الآداب" في عداد الجمعيات التنويرية التي أثرت "تأثيرا محسوسا على تطور الفكر السياسي – الاجتماعي العربي. ان في سورية أو في العالم العربي كله". وليس هذا وحسب، فهو لم يشر ايضا الى جريدة "التقدم" في سياق حديثه عن الصحف "الداعية الى الفكر الجديد الأكثر تقدمية". وأكثر من كل ذلك، فهو رغم تكراره للتقييم الرفيع والمحق الذي أورده ليفين عن أديب اسحاق بوصفه "الرائد الداعي الحقيقي الى نزعة القومية العربية" ، واتفاقه في الراي مع الكتاب العرب الذين أكدوا ان اسحاق كان أول رائد دعا "لاقامة دولة عربية" نقول رغم كل هذا وقع كوتلوف في تناقض حاد مع نفسه. فبعد تأكيده أن "اسحاق نفسه" .. اتخذ موقف المدافع عن النزعة العثمانية و"الوحدة الاسلامية"، أصر جازما على أن أديب اسحاق كغيره من الرواد العرب "ظل يدور في اطار العثمانية" وعلى أن مواقف الرواد العرب المؤيدة للاتحاد العثماني "لم تكن اضطرارية قسرية أبدا، ولا من قبل مراعاة أحوال الرقابة المشددة".

تبقى كلمة لابد منها، فكوتلوف ليس المستعرب الأول أو الوحيد بين الباحثين السوفييت الذين أهملوا كلية "جمعية زهرة الآداب" خلال حديثهم عن سلسلة الجمعيات والتنظيمات التنويرية التي تركت آثارا هامة في تاريخ الفكر السياسي – الاجتماعي العربي. فالأديبة دولينينا والمستشرق زلمان ليفين أشارا بوضوح الى حلقات هذه السلسلة: "الجمعية السورية لترويج العلوم والفنون" (1847) و"الجمعية العلمية السورية" (1857) و"المجتمع العلمي الشرقي" (1882). وفي حديثه عن أديب اسحاق يولد ليفين نوعا من الوهم وكأن اسحاق ألقى محاضرات في جمعية "زهرة الآداب المحية" (البيروتية – المؤلف) بمعنى أنه كان غريبا عن ذلك المناخ الثقافي فيقول: "وهنا تجلت مواهبة الفائقة كأديب اجتماعي وخطيب وكذلك تجلت شجاعته الفكرية".

وكريمسكي الذي أخذ بالحسبان تأكيدات جرجي زيدان بشأن القرابة والتماثل بين الجمعيتين السوريتين وهو ما لقى استحسانا وقبولا عند كراتشكوفسكي أيضا فطور وجهة النظر التالية من خلال ابحاثه الهادفة لحل الاشكال القائم في مسألة التأريخ لنشوء وتوقف الجمعيتين المذكورتين : كانت الحركة التنويرية في بيروت تصب في مجرى واحد، بمعنى أن جمعيتي 1847 و1868 وجمعية زهرة الآداب ليست سوى تسميات مختلفة لمسمى واحد، أو بالأخرى محطات متباينة لجمعية واحدة ، فكتب يقول: "أحدقت ظنون الأتراك بالجمعية السورية التي أعيد انشاؤها للمرة الثانية فتوقفت بعد عامين من النشاط المثمر"، ثم بعثت مجددا سنة 1873 كجمعية أدبية خالصة باسم "زهرة الآداب". وبتعبير آخر: استبدلت تسمية "الجمعية العلمية السورية" باسم "جمعية زهرة الآداب".

ولكن كاتب كراسة "بشر البشير وجمعية التبشير" المجهول يؤكد بكل وضوح أن جمعية زهرة الآداب لم تكن وريثة شرعية ومباشرة للجمعية العلمية السورية واستمرارا متواصلا لها، بل تولدت عن الانقسام الذي وقع داخلها، فجاءت جمعية جديدة في نوعيتها ذات أهداف تنويرية سامية وغايات اجتماعية بعيدة المدى، يقول الكتاب بالحرف الواحد:

"كانوا ينظرون الينا شزرا عندما كنا نجتمع في اطار الجمعية العلمية السورية ونتأمل في مسألة تثقيف وتنوير أنفسنا ورفع مستوى أبناء وطننا، ولم يكونوا يومئذ يسامحوننا، لأننا كنا نخفي استيائنا من الزاد الفكري المقدم لنا في المدارس التابعة للكنيسة (الكاثوليكية) وحسب، بل لأننا كنا – على حد مزاعمهم – نختلف الى أساتذة كفار – هراطقة (بروتستانت) ونغترب عن طائفتنا الكاثوليكية . بيد أن هاجسنا الأساسي تجلى في تطلعنا لاستيعاب العلوم والمعارف. وكانت السجلات الدينية والمذهبية خارجة عن دائرة اهتماماتنا، اذ كان في صفوفنا أناس من النصارى والمسلمين على اختلاف مللهم وأجناسهم من الموارنة والدروز والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والسريان والأرمن والبروتستانت. وحين توقفنا عن المشاركة في جلسات الجمعية العلمية السورية قررنا تأسيس جمعيتنا الجديدة (يقصد زهرة الآداب – المؤلف). لادراكنا حق الادارك أن معارفنا كانت كافية تماما لوقف حياتنا فداء لاستعادة كرامة وطننا سورية وعزته وبعث روح الحماسة الوطنية بين مواطنينا. وعندئذ لم يعودوا يعدوننا في عداء التائهين الساذجين، بل مارقين كفرة يستحقون الموت. وعدوا كل ارتباط بنا خطيئة منكرة لا تغتفر".

ويكشف كاتب الكراسة ا لنقاب عن الحقيقة القائلة بأن اعضاء جمعية زهرة الآداب ابتعدوا عن بطرس البستاني بسبب الخلافات المبدئية بين الطرفين، وليس من المستبعد أنهم تخلوا عن رئيسهم سليم البستاني للأسباب ذاتها.

يقول الكاتب: "لقد اتهمونا بالفريسييين لادعائهم بأننا القمنا الحجر معملنا (بطرسي البستاني – المؤلف). لقد أجللنا واحترمنا معلمنا ونحن نكبره. ونطلب له الرحمة فقيدا، ولكننا – كما كنا في حياته والآن بعد وفاته – نجل الحقيقة أكثر من الجميع، لأنها تنبع من مبادئنا، ونحن لم تخف عنه قط أن الحقيقة والمبادئ تدفعنا للسير في دروب مختلفة. واذا كان بوصفه علامة بارزا قد حرم من رؤية حبته سنبلة حبلى، وغرسته شجرة يانعة، فاللوم يقع عليه وحده لأن الزهو أشره، وكما يقول المثل :اذا زل العالم زل بزلته عالم".

منذ عام 1876 حتى خريم 1882 عاش أديب اسحاق وعمل في مصر وفرنسة، وعاد للسكن في بيروت سنة واحدة (80/1881)و ومدامت جل المراجع المعروفة لا تقدم أية معلومات موثقة عن نشاط جمعية زهرة الآداب بعد فترة 1873-1876، فان يصح الافتراح أن الجمعية توقفت عن العمل بعيد ذهاب رئيسها أديب اسحاق الى مصر سنة 1876. بيد أن الكراسة الفرنسية وكذلك "تباشير الفجر ومسبة البشير" أكدتا أن الجمعية واصلت نشاطها ابان غياب اسحاق وأنها استمرت في الوجود بعد وفاته. ومن اللافت للنظر أن الكراسة العربية ركزت في ذات الوقت على المكانة الخاصة التي كان يتمتع بها أديب اسحاق حتى في غيابه: "وأديب معنا في غيابه أيضا، فعندما كان بعيدا عنا في الديار المصرية يكون حاضرا معنا عبر رسالته ومقالاته وبكل ما يذكرنا بما قال وفعل يوم كان بين ظهرانينا. واليوم بعد افتراقه عنا الى الأبد، يظل كالسابق حضورا كاملا بالنسبة لجمعيتنا. فعندما نبدأ بأي عمل نتساءل: ماذا كان يقول ويفعل أديب لو كان بيننا الآن؟ فهو أنى توجه – حتى في عواصم الافرنج الباردة. كان يحرق روحه ليمنحنا الدفء والحرارة والنور، فكان على صغر سنة نبراسا ينيرسراطنا بحكمة الكبار، ذلك السراط المستقيم الذي يؤدي بنا حتما الى الهدف المنشود الذي يصبو اليه هذا البلد وهذا الشعب".

ان كلا من الكراستين العربية والفرنسية رأتا من واجبهما التشديد على الطابع الأدبي والثقافي لجمعية زهرة الآداب، وهاذ ما يتساوق أولا مع اسم الجمعية، ويخلق ثانيا مظلة واقية لدفع التهم التي كان يوجهها خصوم الجمعية وأعداؤها. والكراسة الفرنسية النازعة قدر الامكان الى الايجاز والبلاغ تقول عن الجمعية: "انها جمعية أدبية صريحة .. هدفها الأساسي يتلخص في أنها حلقة وصل بين الشباب الذين يرومون الكمال ويصبون الى الجمال .. السياسة والدين لا صلة لهما بالجمعية. ينتسب الأعضاء من جميع الطوائف الى الجمعية، بصرف النظر عن انتمائهم السياسي أو الديني. ومن المتوخي أن يكون الأعضاء على قدر كاف من الثقافة الأصيلة، وان يكونوا من الأتقاياء الصالحين والناس المتسامحين ومحبي الصداقة وذوي الأخلاق الحسنة. ولذا فان جميع الآراء والمعتقدات يتعايش بعضها مع بعض داخل جمعيتنا. وقد يحدث بينها تضارب وتنافر ولكن ذلك لا يؤدي أبدا الى القطيعة والخصام. فلا وجود بيننا لأية مجادلات دينية لاهوتية، فالايمان في صدورنا والأديان في قلبونها. وكل من يتخذ من الدين برقعا للتحكم وذريعة لفرض السيطرة، وكل من يرغب في أن تكون الكنيسة في كل زاوية من الزوايا، وأن يكون اللاهوت محورا للنقاش والجدل، فهؤلاء لا يدركون ويستوعبون أن بمقدور الانسان أن يدع جانبا يقينياته ومعتقداته في سلام وأمان. وهم عاجزون كل العجز عن فهم الرابطة الإنسانية والالتقاء على أرضية الحياد المتمثلة في الأدب والعلم والأخلاقية. أجل، فليعلم الحاقدون الحاسدون أن جمعيتنا تضم في صفوف الأحرار والأخيار، والمؤمنين الأبرار الذين يتعايشون في جو من الوئام والانسجام رغم تعدد الآراء والأفكار.

اذا كانت الكراسة الفرنسية الموجهة أساسا الى الأوروبيين، ولاسيما الى الدوائر الدبلوماسية في بيروت، واذا كانت الكراسة العربية "تباشير الفجر ومسبة البشير" بأسلوبها العربي البليغ وحجتها الدافعة موجهة الى علية القوم من أبناء العرب والحكام والموظفين الأتراك العارفين بلغة الضاد – اذا كانتا كلتاهما تؤكدان بكل جدية واصرار الهوية الأدبية المطلقة للجمعية وتركزان على عدم اهتمامها بالشؤون السياسية والدينية، فان كراسة "بشر البشير وجمعية التبشير" تتخذ وجهة مغايرة تماما. فالكاتب مجهول الهوية يبدي مزيدا من الجزم والعزم فينطق باسم "جمعية زهرة الآداب" ويتحدث باسهام ولغة شاعرية عن مذهب أدبي نقرأ ما بين سطوره مضمونا اجتماعيا وسياسيا: "أدبنا في باديتنا وخيمتنا، في نبعنا وتمرنا، في نوقنا ووطبنا، في خيولنا وسيوفنا التي ستعيد لنا عزة بلادنا وأمجادنا كما كانت عليه قبل المسيح وبعد هجرة النبي محمد، ستعيد لنا الخلافة وكل ما بقي في أيدي أولئك (يقصد الأتراك – المؤلف) الذين يذلون أبناء العرب، أولئك الذين أعماهم بريق الذهب فشرعوا في اجلال واكبار المبشرين (اليسوعيين). لن يفهمنا لا وجهاء الجمعية التبشيرية، ولا أسيادهم وزعماؤهم (يقصد الأوروبيين – المؤلف) الذين يطمعون في السيطرة علينا. ولن يفهمنا أيضا أولئك الأسياد (يقصد الأتراك) الذين يدعون أنهم اخوة لنا في الايمان مع أبناء العرب (المسلمين) لكنهم في الحقيقة يتحكمون برقابنا وأرواحنا. لن يفهمنا سوى أبناء العرب الأقحاح المنتشرون من هذا البحر الى ذك وذلك. ونحن نتذاكر الأدب لهم (العرب – المؤلف) كي نحدد موعد ومكان فورتنا لاستعادة أمجاد أجدادنا وآبائنا وانتصاراتهم الغابرة الظافرة".

ورغم أن الكراريس الثلاث لا تشير الى أديب اسحاق كرئيس للجمعية لكنها تصفه بالركن الأساسي للجمعية وأعظم وأجل واحد من أبناء سورية الأبرار، فكاتب الكراسة الفرنسية مثلا، نظم تقريظا مؤثرا ومرهفا لأديب جاء فيه: "انه الصديق الصدوق ذو القلب الدافئ والطلعة البهية، والروح الفياضة السخية". أما كاتب "بشير البشير .. " فكان أكثر بلاغة وأنصع بيانا في تأبينه لأديب، اذ قال: "الأرز ينوح في لبنان لأنه فقد أعظم أرزة فيه وهو أديب .. وعلى الرغم من كونه أرمني الأصل، فأنه بز أبناء هذه البلاد في صناعة البيان، ولا غرو من ذلك، فأبناء الملل والأقوام والأجناس المختلفة يبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل أمجاد سورية والعرب. ومن غير أديب يرفع عقيرته مناديا: أنا ابن هذه البلاد فجميع أبنائها أخوة لي، وقد بذلت الغالي والرخيص في سبيل عزتها وفخارها .. وأديب لا يزال بعد وفاته يخدم هذه البلاد، ويخدمنا نحن أبناء هذه البلاد لا يزال أستاذنا يلمنا: أبناء هذه البلاد تمزقهم الكنيسة شر ممزق على يد الكهنوت الأعمى المتعصب جهلا ونفاقا... يجب أن نتحد سويا لا على أرضية المنشأ والمذهب، وان نسير معا للوصول الى أهدافنا السامية، وأن نعمل كتفا لكتف حتى تستعد هذه البلاد عزتها وكرامتها". وفي موضع آخر من الكراسة يكيل الكاتب الصاع صاعين للكنيسة الكاثوليكية التي حاولت تسويد سمعة أديب اسحاق في أعين الجماهير الشعبية، فيقول: "كلا وألف كلا، فأديب لم يكن يوما جاحدا للدين والايمان، كما تحاول الكنيسة تصويره، فكل ما هو خير وقيم في الدين المسيحي يجري مجرى الدم في عروقه، كما يجري فيها كل ما هو ايجابي في الاسلام والاديان الأخرى، ومذاهب جميع الفلاسفة والحكماء الشرقيين والغربيين على حد سواء، حقا انه ليس عدوا للدين وتعاليمه السمحة، ولكنه ألد عدو للفئات العليا من رجال الدين الذين يستغلون الدين خدمة لمآربهم وأطماعهم، ويوظفونه أداة طيعة لتكريس فساد أخلاقهم ومعاملاتهم واللاإنسانية وجهلهم المطبق، أولئك الذين اتخذوا من الكهان العاديين البسطاء بيادق يحركونها أني ومتى شاؤوا". وفيما يخص مكانة أديب اسحاق في جمعية زهرة الآداب وفي أوساط المفكرين والمثقفين العرب، فان كاتب الأهجية يطعن مرة أخرى "وعاظ الحقد والكراهية" ثم يواصل كلامه قائلا: "لقد أدرك الوعاظ جيدا أنى يصوبون سهامهم: ألى أديب طبعا لأنه عقلنا ولساننا، قلبنا ويدنا، لا بل هو قبضتنا التي بها نضرب الضربة القاضية. إلى أديب الذي يسمو بعقله على حكمة الشيوخ ، معلم أبناء جيله وأقرانه وأترابه، وهو المثل الأعلى للكمال بالنسبة للجيل الناسئ من أبناء العرب الذين سيصبحون آلافا مؤلفة، فيما كان هو قبيل وفاته، الوحيد والفريد والاستثناء، اجل كان وحيد عصره ونسيج وحده".

وكاتب "تباشير الفجر ومسبة التبشير" قدر أديب اسحاق تقديرا عاليا بأسلوبه البلاغي الرفيع وبيانه الساحر البديع بقوله: "كانت السعادة والغبطة تملآن قلوب السامعين والعاشقين له، وكان الذعر والهلع يطوح بأفئدة الأشرار الحاقدين. لا أحد منا قرأ وطالع واستوعب مضامين الكتب كما فعل أديب. وما من كاتب في شتى أبواب العلوم والفنون الا طالعه وخبره وحفظه وعرفه معرفة دقيقة، كما كان عارفا لكل ما كتبه ببراعة، كانت حكمة الماضي تفيض منه فيضا الهاميا اشراقيا، فكان كالنبي يكشف ستر المحجوب، ويهتك أسرار السرائر. عندما كان يتكلم عن المستقبل كان كلامه يندفع اندفاع الماء من النبع، ثم يصير اعصارا هادرا يعصف بقلوب الجائرين المستبدين، ويتحول الى ضياء الفجر لينفير الأرواح العذبة اليائسة فيملؤها حياة وحيوية، لقد عرج الآن الى السماء وغاب وراء الأفق كي يبزغ كالشمس التي تهبنا النور والحرارة الى أن تأزف الساعة".

ولم يكن كاتب الكراسة الفرنسية أقل سخاء في اغداق الأوصاف الحميدة والشمائل الاصيلة على أديب أسحاق، ولكنه ينبري للدفاع عنه ضد اليسوعيين فيقول:

"ما هو الاتهام الذي توجهونه لأديبنا العزيز؟ لعل أول جرم قام به – في نظركم – أنه كان أعظم الأعضاء نشاطا وهمة، وحماسة واندفاعا داخل جمعية زهرة الآداب؟... كيف لا. وأنا الآن أذكر كيف كان خيطبنا المصقع يشدنا الى شفاهه بسحر بيانه وفصاحته لساعات طوال. كانت نبراته المتماسكة المدوية، وبلاغته الرائعة تدهشنا وتسحرنا. وعندما كان يتوجه بكلماته الأخيرة الساحرة كان تصفيق الرفاق ينصب بردا وسلاما على رؤوسنا ، فكيف تريدون منا ألا نعجب وندهش بهذا الانسان العظيم؟ " ثم يتابع كلامه معبرا عن كنونات فؤاده وعواطفه الجياشة فيقول مختتما حديثه "أديب مجد وفخار جمعيتنا".

لقد أظهرت الكراريس الثلاث حقيقة هامة جدا بالنسبة لعلم الاستعراب وهي: أن جمعية زهرة الآداب كانت تواجه اتهامات صريحة من قبل خصومها وأعدائها بشأن سريتها واتجاهها المعادي للأتراك.

والبراهين القاطعة على اتهامات الرجعية المتعلقة بسرية الجمعية تتجلى بوضوح في "تباشير الفجر ومسبة البشير" وفي الكراسة الفرنسية. وقد جاء في الكراسة الأولى ما يلي: "وهل بقي بلد واحد في أوروبة لم تحك فيه الجمعيات التبشيرية (اليسوعية – المؤلف) سلسلة من المؤامرات والدسائس. ولم ترم بخصومها من المناضلين البواسل في غياهب السجون وأقبية وزنزانات الأديرة أو لم توجه الاتهامات المزورة والشايات الكاذبة خدمة لمآرب أسيادها من حكام هذا البلد أو ذاك؟ وها هي ذي هذه الجمعيات تختار اليوم من الشرق ميدانا لدسائسها الخسيسة، وضد من؟ ضد جمعية زهرة الآداب التنويرية التي أخذت على عاتقها تنوير أذهان وعقول الناس ، وتزكية النفوس، وتصفية القلوب. انها جمعية مرخصة تعمل في وضح النهار، يحاول الدعاة والوشاة تصويرها بأنها جماعة من الناس يعملون في السر والخفاء وتحت جنح الليل والظلام في الأقبية والملاجئ السرية. اذ تعد العدة للاطاحة بالسلطات القائمة. وهم يدركون جيدا أن أرباب الحكم على بينة من حقيقة الأمر، ولكنهم يمنون أنفسهم بأن ترديد الأكاذيب مئات المرات لابد أن تجد آذانا مصغية ولو مرة واحدة. ولكنهم ينسون أو يتناسون المثل القائل: "الكذب داء والصدق شفاء"، وهل يا ترى كذبهم يليق باسم جمعية تحمل اسم يسوع عليه السلام؟ أن أنه صنيع شنيع لأتباع يهوذا الأشرار؟ وللقارئ أن يحكم بنفسه".

أما كاتب الكراسة الفرنسية فيعرض ملاحظات عامة عن الماسونية، ثم يوجه كلامه الى اليسوعيين قائلا: "لقد وجهتم الى الماسونية ذات التهم التي توجهونها اليوم الى جمعيتنا. فزعمتم أنها جمعية سرية وأنها بؤرة المروق والالحاد والثورة.. فنحن – لا قدر الله – لسنا جمعية سرية، ولكنا لا نرغب في حب الظهور داخل جمعية زهرة الآداب، ونحن والحق يقال نحب الحياة العائلية الشريفة، ونتحاشى استغلال خشبة المسرح والمدرج لأن اثارة الضجيج ليس في صلب أهدافنا، وكل ما نطلبه من جمعيتنا أن تسعى لاستبدال المتعة النفسية بمعاناتها الروحية، وأوقات الراحة الممتعة المفيدة بمتاعب العمل . ونحن لا نحب ذر الرماد في عيون الناس، ولا نركض وراء شعبية زائفة. ونحن البرجوازيين أناس أتقياء نرتئي العيش في أحضان الأسرة مرتاحين مطمئني البال، اذ لا قدرة لنا على التصرف بغير هذا. فنحن جماعة من الأصدقاء يعرفون بعضهم بعضا حق المعرفة. نجمع اشتراكا يسيرا من مواردنا كلا نكفل وجود جمعيتنا واستمراريتها. ويلمح الكاتب الى التهم الموجهة الى زهرة الآداب بشأن نشاطها السري.

والكراريس الثلاثة تتصرف بالنقد المتوقد والرسالة والجدية البالغتتين، مما يجعلها أكثر اثارة من وجهة نظر الرد على الاتهامات الموجهة الى أنصار وأتباع أديب اسحاق بشأن عدائهم للدولة العثمانية. خاصة أن التساؤلات المطروحة والأجوبة المطروقة فيها تتباين بين كاتب وآخر.

فكاتب الكراسة الفرنسية يواصل أسلوب الجدل المباشر مع اليسوعيين في شتى القضايا: "لقد اتهمتمونا والماسونيين معا بجريمة التآمر على حكومة بلادنا الشرعية، فهل فكرتم يا ترى في النتائج والعواقب التي قد تترتب على أمثال هذا الافتراء الدنئ الخسيس؟!". وحاول كاتب "تباشير الفجر..." ألا يغور في أعماق هذه التساؤلات السمجة وعدم التوسع في الرد عليها: "أولئك الناس يدعون أنهم مبشرو السيد المسيح ، فأطلقوا على جمعيتهم اسم يسوع الفادي الذي جاء من أجل خلاص البشر، فكيف نفسر اذا رغبتهم الجامحة في رؤية فريق كامل من الأعضاء المسيحيين في جمعية زهرة الآداب معلقين على أعواد المشانق، لا لسبب اللهم الا لأنهم – كما يزعمون – تآمروا على حياة رجال الدولة وضد استتباب الحكومة"؟ أما كاتب "بشر البشير" فهو كما عهدناه أكثر اقداما وجرأة في هذا الموضوع وغيره: "للدولة قوانين وبامكانها أن تعاقب الرعايا المتمردين حقا بموجب هذه القوانين. ولكن لب المشكلة كامن في تحديد ماهية التمرد والمتمرد والثائر. وخدمة هذه البلاد واجب مقدس بالنسبة لجمعية زهرة الآداب، فاذا عددتم هذا تمردا فان الصعود الى المشنقة واجب علينا أيضا. ألم ياصل رائدنا أديب اسحاق خدماته الجليلة لهذا البلاد طوال حياته التي قدمها فداء لشعبه؟ ألم يكن يفضل المشنقة عما فعلوه بعد مماته؟... ولعل من سوء حظ المتمردين الذين صعدوا الى المشانق أنهم حرموا من امكانية مشاهدة دموع التماسيح التي يذرفها عليهم أولئك الوشاة الذين أسلموهم الى الجلاد، فذهبوا الى أوربة يتباكون على مصير أخيهم وكل الاخوة المسيحيين كما شاهدنا مرارا وتكرارا ابان حوداث اليونان وسورية المأسوية المفجعة".

لقد قدم لنا كاتب "بشير البشير" أكثر من برهان على ثوريته الأصيلة، ولاسيما على صعيد كشف نوايا ومأرب الدول الأوربية ازاء الامبراطورية العثمانية، والتي جاءت بمثابة حقائق جديدة ومثيرة للغاية: "ترى هل سيحاكمون أبناء هذه البلاد كمتمردين، لأنهم قاتلوا وسيقاتلون ضد أولئك الناس الذين تغلغلوا الى بلادنا كأصدقاء مميزين للحكومة العثمانية؟ ولكنهم يضمرون لنا الحقد والعداوة، ويسعون للقضاء علينا، أناس يظهرون بمظهر جمعية تبشيرية (يسوعية) يرعاها ممثلو الدول الكبرى. أجل، انهم يناضلون ضد كل من لا يحترم بلادنا ولا يجل شعبنا، ولا يقدر لغتنا وتاريخنا، ولا يعترف بعزتنا وكرامتنا. وهذا ينصرف مع بقية الشعوب الأخرى كاليونان والأرمن وهلمجرا. نحن لن ننسى أبدا ما علمنا اياه أديب العظيم: "هل بامكان انسان يذلك ويستعبد الشعوب الأخرى أن يفتخر بأنه ابن بار لشعبه" واذن، فالأفضل لنا أن نستيقظ من سباتنا ونحمل سيوفنا فنموت ثوارا على أن ننام والأغلال في أيدينا، ونعيش كالنعاج أذلاء خانعين".

وللعلم نقول: ان كاتب "بشير البشير وجمعية التبشير" قد جمع في السطور الأخيرة بين أبيات من الشعر لاديب اسحاق وابراهيم اليازجي، استقاها من قضائدهما المشبعة بروح التمرد والثورة، والتي جرت على ألسنة الناس مجرى الأمثال. وهنا نرى الزاما علينا التطرق الى مسألة العلاقة بين جمعية زهرة الآداب والجمعية السرية البيروتية المعادية للأتراك. وأكثر من ذلك فاننا نميل الى طرح فرضية الرابطة العضوية بين الجمعيتين.


جمعية بيروت السرية

عن أية جمعية سرية يدور الحديث؟

"سر مملكة" عنوان الكتاب الذي نشره في القاهرة سنة 1895 الكاتب سليم سركيس (المتوفى عام 1927) والذي يقدم لنا شهادة أشبه بالحكاية مفادها: "عندما كان سليم سركيس مقيما في دمشق سنة 1887 علم أنا شابا نصرانيا كان يوزع مناشير سرية، ترك لأمه قبل وفاته بعضا من الأوراق التي تحتفظ بها أمه في صندوق خاص. وعندما اطلع على هاتيك الأوراق تبين له أنها "وقائع جلسات الجمعية السرية التي أذاعت المناشير والاعلانات، فنصح أمه باتلافها، لأن اكتشاف هذه الأوراق "خطر على الأم وعلى كل من ذكرت أسماؤهم في الأوراق". ثم يقول سركيس: "وهكذا ، ذهبت تلك الوثائق الترايخية، ولم يبق منها الا القليل أدونه في هذا التاريخ". والتاريخ الذي حبره سركيس "أنقذ" من الضياع هذا الخبر: "ان مدحت باشا أراد اختبار استعداد السوريين للثورة توطئة لاستقلاله بشؤون سورية على نحو استقلال مصر. فاستخدم من خاصته أحمد مهدي الأيوبي وحسن فائز الجابي، لاجتذاب بعض الشبان الأذكياء وتأليف جمعية سورية لنشر اعلانات يختبر مدحت باشا بواسطتها ميول السوريين".

بعد رواية سركيس هذه، شاع في الأدبيات العربية رأي سقيم مفاده أن جمعية سورية نشطت في البلاد السورية في أواخر السبعينات اسمها "الجمعية السورية لنشر الاعلان" كان قد بادر الى انشاءها باشا عثماني، فلم تكن لها أية علاقة بالحركة القومية التحررية العربية.

وبعد أربعة عقود من السنين انقلبت الأمور رأسا على عقب يوم تحولت "الجمعية السورية لنشر الاعلان" الى ما عرف اصطلاحا في علم الاستعراب باسم "الجمعية السرية الثورية البيروتية". كان هذا التحول جذابا جدا لدرجة لم يجد أي من الباحثين من واجبه النظر في التساؤلات العديدة التي طرحت نفهسا موضوعيا، أو على الأقل لفت الانتباه الى واقع أشد غرابة ونقصد به ابراز هوية الأعضاء القياديين – المؤسسين أو العاديين، خاصة أن العمر امتد ببعضهم فنشطوا وعملوا حتى فترة ما بعد السقوط الحتمي لسياسة القمع والاستبداد التي مارسها السلطان عبد الحميد، وفي عهد العثمانيين الجدد، لا بل وحتى في الوقت الذي أصبح فيه العداء للأتراك من الشعارات الرائجة – ومع ذلك لاذ هؤلاء الأشخاص بالصمت المطبق يوم كانت بلادهم وشعبهم بأمس الحاجة الى صوتهم في أعظم حقبة من حقب التاريخ العربي.

ومهما يكن من أمر، فان جدار الصمت تحطم بعد مرور ستين عاما على تلك الوقائع التاريخية، وأربعين عاما على صدور كتاب سليم سركيس في أواسط 1930. فكان فارس نمر (1856-1851) أحد أبرز رجالات النهضة العربية، ناشر مجلة "المقتطف" في مصر، هذا الرجل الذي رفع عقيرته محطما جبروت الصمت. كان فارس نمر الذي عد نفسه واحدة من خمسة أعضاء بارزين قياديين في الجمعية السرية (وهم: يعقوب صروف 1852-1927، ابراهيم الحوراني 1844-1916، ايراهيم اليازجي 1847-1906، شاهين مكاريوس 1853-1910) قد قدم للمستشرق الانكليزي جورج أنطونيوس شهادات حية عن الجمعية ونشاطها وأعضائها ومناشيرها واعلاناتها ونداءاتها. وسرعان ما اكتشف أنطونيوس في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية وفي ملفات تقارير القنصليات العامة البريطانية، ثلاثة من تلك المناشير، كان اثنان منها قد أذيعا في 27 حزيران (يونيو) و3 تموز (يوليو) والثالث عشية 31 كانون الأول (ديسمبر) لسنة 1880.

بفضل ذلك تمكن جورج أنطونيوس في كتابه المعنوان "يقظة العرب" 1938 من الاعلان لأول مرة وبكل تجرد وموضوعية أن تلك الجمعية "كانت أول منظمة لبعث الحركة العربية القومية". وفي فترة متأخرة أدلى فارس نمر ببعض من ذكرياته الى زين نور الدين زين الذي نشر بعد وفاة نمر – كتابا بعنوان "العلاقات العربية التركية ونشوء القومية العربية" (1958)، ألقى فيه نظرة عابرة نسبيا على تاريخ الجمعية، متخذا موقفا سلبيا وداحضا للراي الذي أبداه أنطونيوس أعلاه باعتباره "مبالغة لا تستنتد الى البراهيم التاريخية".

وفي مطلق الأ؛وال أصبحت رواية سركيس ولاسيما الجانب المتعلق بمساعي مدحت باشا لاختبار مشاعر السوريين القومية – في خبر كان اذ لم يبق منها سوى الخبر عن وجود جمعية سورية معادية للأتراك في السبعينيات. يبقى أمريستوقف الانتباه، وهو تحويل تلك الواقعة التاريخية الى حقيقة كاملة – نهائية. وهذا يتطلب – ولا شك – معطيات ومستندات جديدة. ولاسيما أن ثمة أسئلة تطرح نفسها بالحاح منتظرة أجوبة قاطعة تتعلق بالاسم الأصلي ل"جمعية بيروت السريت (الثورية)". والاطار الزمني الذي نشطت فيه ، والهوية الاجتماعية لمن وردت أسماؤهم في عضوية الجمعية، والتوجه السياسي – التعبوي لتلك الجمعية والمطالب التي طرحتها وغير ذلك من الأسئلة؟

بعد التقييم المتحفظ، كلا لا نقول السلبي، الذي قدمه الزين "لجمعية بيروت السرية" شرع الكتاب العرب بالبحث عن الوثائق الجديدة التي شقت طريقها في بيداء الفكر السياسي – الاجتماعي والقومي لسكان سورية، اذ احتوت مفاهيم سياسية جديدة لا عهد للأفكار السائدة بها. فللمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث برزت الدعوة الى الثورة على الأتراك واستقلال "الوطن السوري". واذا استثنينا الجهد المشكور الذي قام به الباحث المصري عبد اللطيف الطيباوي بنشره النص العربي الأصلي للمناشير الثلاثة، فان الاسهام الوحيد الذي قام به الكتاب العرب الآخرون تجلى في التلميح بعدة سطور الى جمعية بيروت السرية خلال حديثهم عن مسيرة النهضة العربية الثقافية القومية، دون أن يقدموا أي جديد عما ذكرته مراجع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وعلى تأكيدات أنطونيوس والزين. ولاسبب على ما يظهر كامن في "عدم وجود أية معلومات في المصادر عن نشاط جمعية بيروت السرية ، التي أشبعها أنطونيوس درسا وتمحيصا.

في ظروف غياب المصادر والمراجع الكفيلة بتقديم أجوبة شافية عن التساؤلات التي طرحت نفسها في الواقع، اكتفى المستعربون السوفيين بتقييم الجمعية من منطلقات علمية بحتة عن طريق الاستدلال الآني واللمي أي الربط بين هاتيك الوثائق وبانوراما الحياة الفكرية لدى العرب في الأزمة الحديثة. فالمستشرقان ليفين وكوتلوف مثلا تتبعا عملية صيرورة وسيرورة الاتجاهات الأساسية في الفكر السياسي – الاجتماعي العربي وأيديولوجية حركة النضال القومي – التحرري، واكتفيا بتحليل الوثائق والمستندات الموجودة بحوزتهم، معتمدين – من حيث الجوهر – على منهج التركيب التاريخي التعليلي للظواهر والحوادث، واستخراج ما بينها من علاقات وأسباب ونتائج . ومهما يكن من أمر، فان الوزن النوعي والعددي للمشاكل العصية على الحل ترك أثره السلبي على التقييمات التي قدماها. فقد أصاب ليفين حين قال: "ويتميز برنامج الجمعية بأهمية خاصة، بوصفه أول برنامج قومي خالص من غير صبغة دينية"، ولكنه سارع للربط بين هذه الجمعية و"النزوع الى الاستقلال الذي كان محسوسا بشكل خاص لدى موارنة لبنان الذي تمتع منذ سنة 1860 بالاستقلال الذاتي". وهذا يدل على الالتباس الذي وقع فيه الكاتب. ومع اعتراف كوتلوف بأن الجمعية السرية في بيروت "كانت أول جمعية عربية سياسية طرحت قضية استقلال العرب القومي" وبأن "الوثائق التي نشرتها تعد تجسيدا حيا لفكرة القومية العربية"، ولكنه استطرد قائلا: "وهي عبارة عن تنظيم عديم الهيكلية والمبادئ التنظيمية ولا حتى تسمية محددة" ثم يضيف "وقد اكتنف الغموض أفكارها وشعاراتها وأهدافها السياسية حتى النهاية". وهذا لعمري راي جزئي ومخالف للواقع.

ومن وجهة نظرنا، فان معطيات المصادر والحقائق التاريخية الجديدة عن جمعية أديب اسحاق – رغم ندرتها – تسمح لنا اليوم بطرح فرضية حول الصلة أو بالأحرى التماثل التقريبي بين "جمعية زهرة الآداب" و"جمعية بيروت السرية". واثبات هذه الفرضية يقودنا موضوعيا الى حل اللغز القائم حول مسألة سرية الجمعية البيروتية، وبالتالي الى استنتاج منطقي وحيد بشأن عظمة تلك الجمعية وأهميتها.

بادئ ذي بدء نقول ان جميع الباحثين بلا استثناء اظهروا حتى اليوم لا مبالاة فظيعة فيما يخص مسألة تحديد تاريخ ميلاد الجمعية السرية، وتوقفها عن العمل، وهي – كما سنرى – قضية حيوية ذات أهمية مفتاحية ومحورية.

يرى المؤرخ جورج أنطونيوس وكل من اقتفى أثره العام 1875 تاريخا لنشوء الجمعية السورية. وفي الحقيقة أن التأريخ لظهور الجمعية لا تكتنفه أية صعوبات بالغة، اذ لم يكن بمقدور الجمعية ان تتأسس قبل بداية صيف عام 1874. كل ما في الأمر أن فارس نمر استعاد في ذكرياته ان إلياس حبالين أستاذ اللغة الفرنسية في الكلية السورية الانجيلية كان يغذي طلابه بالأفكار السياسية التحررية المعادية للأتراك: "فكان يمر مرور الكرام على درس اللغة الفرنسية، لينتقل فجأة الى السياسة فيتحدث عن مظالم ومفاسد الأتراك داعيا للتخلص من حكمهم العفن". فكان كل واحد منهم يحلم بالتشبه بأستاذه حبالين. لا بل وأعظم من حبالين، فصاروا يرجون أفكاره بين الناس". وقد أكد الزين، اعتمادا على شهادة نمر أو غيره من المصادر، أن حبالين درس في الكلية في غضون دراسته في الكلية سنة 1874 ، وعين معاونا للدكتور فانديك في المرصد الفلكي في بيروت. ومن هنا نستنج أن تأسيس الجمعية السورية حدث فعلا قبل انتهاء العام الدراس 73/1874، أي في أواسط عام 1874، وبمعنى آخر في ذات الوقت الذي انتخب فيه أديب اسحاق رئيسا "لجمعية زهرة الآداب" بدلا من سليمان البستاني، بعد أن كان "عضوا هاما في السابق، فاستحق اسحاق وأقرانه من النهضويين الأحرار مكانة مرموقة، فسعوا لتحويل جريدة "التقدم" لصاحبها يوسف الشلفون الصادرة في غرة كانون الثاني (فبراير) 1874، الى صحيفة ناطقة باسم الجمعية.

العلاقة بين إلياس حبالين وأديب إسحاق

تلوذ المصادر بالصمت فيما يخص العلاقة بين إلياس حبالين (الأب الروحي لجمعية بيروت السرية وفقا لشهادة فارس نمر) وأديب اسحاق . ومع ذلك، نجزم أن إلياس حبالين كان – ولا شك – عضوا في "جمعية زهرة الآداب". وقد أفاد المؤرخ فيليب الطرزي أن حبالين صار عضوا في "الجمعية العلمية السورية" الثاني التي قام فيها خطيبا مرات شتى وخدمها قولا وفعلا. ومن المعروف أن أعضاء زهرة الآداب كانوا من "الصفوة المفكرة" من أمثال إلياس حبالين وغيره من الأعضاء السابقين في "الجمعية العلمية السورية". وهناك شهادة مفادها أن يوسف الشلفون كان صلة الوصل بينهما فالأستاذ الشهير إلياس بك حبالين كان الى جانب يوسف الشلفون العزيز على قلبه منذ أيام جريدة "لبنان" وبعدها في "التقدم". حيث كان أديب اسحاق ساعيا لتولي ادارة تحريرها، وثمة قرائن جانبية تملي علينا الاقرار بوجود الأواصر الطيبة الحميمة بين حبالين واسحاق. أولى هذه القرائن ذات طابع "شخصي" فكلاهما كانا مغرمين الى حد الهيام بالفكر التقدمي الفرنسي، وقد شهد فارس نمر لحبالين بقوله "لقد طالع فولتير، وهو فيلسوف فرنسي تقدمي مهدت أفكاره للثورة الفرنسية". ثم واصل كلامه: "كان قد استوعب هو وبعض رفاقه الأفكار التقدمية الأولى ذات الاصل الفرنسي في الكلية السورية الإنجلية، حيث انتقلت الينا سرا عن طريق حبالين نفسه". وفيما يحص أديب اسحاق فقد أفاد خير الله خير الله أنه كان يتطلع لفتح آفاق جديدة في دنيا الفكر والسياسة أمام رجالات النهضة "ولذا استقطب الفكر الفرنسي التقدمي الثوري المعاصر له جل اهتمامه "فكان يطالع" غامبيتا وليبر ودي جيراردي وهوغو، فيستنير بأفكارهم ومذاهبهم فيستوعبها ويعيد صياغتها ببيانه الساحر ثم ينشر شعاعها على الشرق الحائر التائه". وهنالك أيضا دليل آخر على علاقة جبالين – إسحاق، فعندما تخلى حبالين عن التدريس في أواسط عام 1874 – وهو الذي كان في اللغة الفرنسية بنوع خاص كاتبا تحريريا وخطيبا مصقعا بعجب الفرنسيون بنصاحة لسانه وبلاغة برعه – جعلته الحكومة الفرنسية ترجمانا أول لقنصليتها في بيروت ريثما سافر الى وادي النيل". في هاتيك الأيام بالذات كان إسحاق قد عرب في بيروت عن راسين الشاعر الفرنسي المشهور روايطة أندروماك" وهو في التاسعة عشر من العمر اجابة لقنصل فرنسا، فمثلت على المسرح اسعافا للبنات اليتامى ثلاث مرات وجمعت خمسة وثلاثين ألف غرش". ومن القرائن ذات الدلالة البينة أن حبالين واسحاق أبعدا الى مصر في زمان واحد تقريبا من عام 1876، وأن طريقيهما تقاطعا مرارا وتكرارا، فتعاونا معا تعاونا عظيما ليس فقد على صعيد الأدب الاجتماعي السياسي والعمل الصحفي، بل ولأنهما كانا زميلين في العمل تقريبا. فإلياس حبالين تسلم رئاسة قلم الترجمة في مجلس النظار، بينما عين اسحاق ناظرا "لقلم الانشاء والترجمة" بديوان المعارف بمصر، ومن ثم كاتبا ثانيا لمجلس النواب.

ان تحديد تاريخ تأسيس "جمعية بيروت السرية" له أهمية خاصة بالنسبة لنا من وجهة النظر القائلة بأن إسحاق قدم الإسكندرية مع سليم النقاش وفرقة للتمثيل في نهاية سنة 1875 أو مطلع 1876 (أي العام المسرحي 75/76) وهذا يعني بالتأكيد أنه قبل مغادرته لبيروت كان على اتصال بالجمعية السرية لفترة زمنية معينة. فيما اذا أرحنا لتأسيس الجمعية في سنة 1874، وبمعنى آخر، في هذه الحالة فقط يمكن افتراض تواقع التزاوج – من حيث نقطة البداية – بين الجمعيتين الأدبية والسياية. هذا التزاوج – كما سنرى – جذاب جدا ليس فقط من زاوية اضفاء المزيد من البريق واللمعان على شخص أديب إسحاق الأرمني المحتد، بل ومن موقع حل اللغز القائم حول الجمعية السياسية ذاتها.

كان جورج أنطونيوس أول من تكلم عن الجمعية السياسية، مستشهدا بما تفوه به من كلام الشيخ فارس نمر، الذي "ظل محافظا على قواه العقلية والجسدية" رغم بلوغه الثمانين، فقال: "إن خمسة من المثقفين المسيحيين الذين درسوا في الكلية السورية، أنشؤوا جمعية سرية بلغ عدد أعضائها 22 خلال مدة قصيرة، ينتمون الى طوائف مختلفة ويمثلون النخبة الفكرية في البلاد". أما زين الدين زين فكان أول من ذكر أسماء ابراهيم الحوراني ويعقوب صروف وابراهيم اليازجي وشاهين مكاريوس، على أنهم من "الأعضاء البارزين في الجمعية". ثم شدد على أن الجمعية "كانت في البداية مؤلفة من 12 عضوا ، وقد وصل فيما بعد إلى سبعين عضوا". وركز الكاتب على غالبية الاثنى عشر عضوا كانوا من الشبان المسيحيين الذين تلقوا علومهم في الكلية السورية الإنجيلية في بيروت".

الشهادات التي أدلى بها الدكتور فارس نمر وأوردها كل من أنطونيوس والزين تتسم بتناقض ظاهر يستحق وقفة خاصة، الأمر الذي يهمنا في هذا السياق ان الأعضاء الخمسة "المؤسسين" لجمعية بيروت السرية (لدى أنطونيوس)، أو "الأعضاء البارزين من أصل اثنى عشر" (عند الزين) كانوا بالتأكيد أعضاء في "جمعية زهرة الآداب" التي رأسها أديب اسحاق يومذاك. وفي حديث جرجي زيدان (1861-1914)، الذي كان على علاقات حميمة مع الأعضاء الخمسة البارزين في الجمعية السرية – عن هذه الجمعية أشار الى أسماء اثنى عشر عضوا ممن عرفهم شخصيا، فذكر فقط أسماء ثلاثة ممن كانوا أيضا في الجمعية السرية وهم: ابراهيم اليازجي، وفارس النمر، ويعقوب صروف، مؤسسو مجلة "المقتطف". وهنا يتساوى عدد أعضاء الجمعيتين أي اثنا عشر عضوا لكل منهما، وهذا ما أكده الزين أيضا.

وفي الواقع فان الثنائي نمر الحصاباني وصروف الحدثي يتحول الى ثلاثي من مكاريوس المرجعيوني ، والى رباعي مع الحوراني الحمصي في معظم كتب تاريخ الفكر الثقافي العربي، والأمر ينحصر في أن الشبان الأربعة من طائفة الروم الأرثوذكس كانوا قد درسوا في وقت واحد في ذات الكلية، واعتنقوا سوية المذهب البروتستانتي، وانتسبوا الى المساونية، وساهموا في اصدار مؤلفات وتصانيف مشتركة، وكانوا جميعا على مقربة من مهد مجلة واحدة "المقتطف" ، وخاضوا معا من مواقع تقدمية معارك قلمية ضد الرجعية دفاعا عن نظرية دارويين في النشوء والارتقاء ابان وجودهم في بيروت، وشاركوا معا في بعض الصدامات، وأخيرا هاجروا معا الى مصر ملاذ العرب يومذاك، ليتابعوا تعاونهم المشترك في أرض الكنانة.

واذن، فجرجي زيدان المتحدر، كذلك الرباعي، من مذهب الروم الأرثوذكس البرتستانتي الانتماء، الماسوني المشرب، المتتلمذ على يد الرباعي المذكور والمشاكر معهم – باعترافه الشخصي – في نضالهم ابان الثمانينات لاذ بالصمت المطبق ازاء الجمعية السرية (في الوقت الذي لم يأل جهدا لجمع المادة اللازمة له لتصنيف "تاريخ آداب اللغة العربية" بأجزائه الأربعة. اذ خص الجمعيات العربية بفصل خاص). والأمر الذي يثير الدهشة والاستغراب تجاه هذا الكتاب الموسوعي، والذي لا نجد أي تبرير له، ترى هل صمت زيدان عن الجمعية السرية نتيجة لجهله بوقائع الأمور، وهو العارف بكل شاردة وواردة في تاريخ النهضة العربية؟ أم أنه يا ترى اشارة ضمنية الى أنهما جمعية واحدة؟ أو بالأحرى: إن "جمعية بيروت السرية الثورية" المعروفة ايجازا بالجمعية السرية لم تكن في واقع الأمر سوى جناح سياسي سري "لجمعية زهرة الآداب" الأدبية الثقافية المرخصة.

والماسونية من الاثباتات غير المباشرة على صحة افتراضنا ، واليكم لماذا؟

الماسونية

كان الدكتور فارس النمر قد أخبر أنطونيوس "بأن واحدا منهم نجح في استقطاب اهتمام المحفل الماسوني المنشأ على الطراز الأوربي، الأمر الذي أدى الى نمو عدد الأعضاء في الجمعية"، بينما أخبر نمر ذاته الزين "بأن الأعضاء الطليعيين في الجمعية السرية اتصلوا بالمحفل الماسوني في بيروت، آملين عن طريق ذلك اجتذاب المسلمين الى جمعيتهم (دون تسمية أحد منهم)، غير أن الأعضاء القلائل الذين انتسبوا الى المحفل لم يوافقوا على الأهداف الانفصالية للجمعية، وسرعان ما دب الخلاف بين النصارى والمسلمين فلم يستمر اللقاء بينهم طويلا".

والمشهور أن يعقوب صروف كان على درجة عالية في الماسونية، وأن فارس نمر ترأس العديد من المحافل الماسونية، وأن شاهين مكاريوس كان مؤرخ الفكر الماسوني ومنظره وله فيه كتب معروفة وهي: "فضائل الماسونية" و"الحقائق الأصلية في تاريخ الماسونية العملية" و"الأسرار الخفية في الجمعية الماسونية" و"الأداب الماسونية". غير أن اتصال صاحبي "المقتطف" بالماسونية يرجع الى النصف الثاني من السبعينيات أو مطلع الثمانينيات. وكان أديب اسحاق أول من انتسب الى الماسونية بين المنورين الراديكاليين العرب في النصف الأول من السبعينيات، واليكم ما قاله بهذا الصدد خير الله خير الله: "كان الشيخ اسكندر العازار من أوائل الذين انتسبوا الى الماسونية في سورية. فكان داعية المحافل الماسونية ورسولها.. تقدم اليه شاب بطلب الانتساب الى المحفل. وبعد مناقشة الأمر عارض الشيخ اسكندر ترشيح الطالب للعضوية بحجة أن الأخير يتعاطى الخمرة. وبعد وقت قصير اشتهر الشاب بكتاباته النارية. كان أديب إسحاق ذلك الشاب المرفوض بعينه. وفي احدى المرات دعا أديب الشيخ إسكندر الى بيته. ولما كان أديب يتعلم في الأماسي الانكليزية على يد أحد الأستاذة فقد تعودا على الشراب أكثر من اهتمامهما بالدرس. فأثارت الزيارة الأولى حفيظة الشيخ العازار، ولكنه اعتاد الأمر تدريجيا فأخذ يجامل الشابين في الشراب حتى أصبح مدمنا عليه. وذات يوم قص ضاحكا على صديقه أديب السبب الحقيقي لرفضه، ذلك الرفض الذي أعاد النظر فيه المحفل لاحقا".

يتضح من تاريخ الأدب العربي أن بداية "شهرة اسحاق الأدبية" ترجع الى ربيع – صيف 1874، حين ألف كتابا سماه "نزهة الأحداق في مصارح العشاق"، وهو أول ما ظهر بالطبع من نفثات قلمه. وهذا يعني أن اسحاق انتسب الى المحفل الماسوني في أواسط سنة 1874، أي عندما كان يخطو أولى خطواته في الجمعية السرية، ولاسيما أنه كان قد خلف لتوه سليمان البستاني في رئاسته "لجمعية زهرة الآداب". في مثل هذه الأحوال يطرح السؤال نفسه: هل كان أعضاء الجمعية السرية (ابراهيم اليازجي وصروف ونمر) زملاء وأصدقاء أديب إسحاق، الذي كان رئيسا "لجمعية زهرة الآداب" ومن أعز المقربين للشيخ إسكندر العازار رئيس المحفل الماسوني – هل كانوا جميعا بحاجة حقا لتحمل الصعاب والمشاق بهدف التسرب الى المحفل الماسوني؟ ترى هل هناك أحد غير اسحاق "من أعضاء جمعيتهم السرية" الذي تعرفوا بوساطته على مجاهل وخبايا المحفل الماسوني؟ حقا ان اسحاق هو الشخص الوحيد المؤهل للتسرب الى الأوساط الماسونية لاعتبارات معينة في مقدمتها تمهيد الطريق أمام صاحبي "المقتطف" لدخول عتبة المحفل الماسوني.

ولكن ثمة واقع طريف جدا ذو دلالة كبيرة، فكاتب مناشير الجمعية السرية كان واحدا من الصحفيين المبرزين وممن يتعاطى الخمرة ولا شك. فالمنشور الثاني الذي وصلنا يرد ردا عنيفا غاضبا على الاشعات المنتشرة في الأوساط الاجتماعية حول المنشور الأول، يقول كاتبه: "وأنتم تقولون (يقصد قراء المنشور الأول – المؤلف) ان صاحب ذلك الاعلان (بل قولوا أصحاب) هو سكرا، وان كلامه هذيان، فان كان سكرانكم يعتني بأموركم خيرا من صاحبكم الذي لا يهمه أمركم ولا حفظ ناموسكم، فيا ليتكم كنتم سكارى". وبعدها مباشرة يذكرهم بمسؤوليته في العمل اليومي الصحفي فيقول: "نحن الذين يحيون الليل باعمال دولاب الفكر ويقضون النهر باستكشاف الحوادث والأخبار.

نستدل من هذا الكلام ما يأتي: أن الرباعي المتجمعحول "المقتطف" والشاعر ابراهيم اليازجي كانوا جميعا مهتيم بأشغالهم الجادة في حقل التدريس والعلم والكتابة ولانشر، فمن غير المعقول أن يكتبوا شيئا من هذا القبيل عن أنفسهم، وبالتالي: فان أديب اسحاق كان الوحيد بين رواد النهضة في بيروت القادر على التفوه بكلام كهذا عن نفسه، وعلى الأرجح كان هناك أيضا رجل آخر اتصل بجمعية "زهرة الآداب" يمكن التحدث بهذه الصراحة والجسارة، انه الشيخ إسكندر العازار الذي أدمن على الخمرة بفضل أديب إسحاق بالذات. ذلك الشيخ الجليل الذي ظل من الأدباء الخاملين للأسف في عصره، ولا يرد اسمه الا في مواضع متفرقة من صفحات تاريخ الأدب العربي. فكريمسكي لم يخصه سوى بسطرين واصفا اياه بقوله: "كان اسكندر العازار واحدا من الصحفيين الراديكاليين الذين عملوا في عهد أديب اسحاق". وقد وصفه من الكتاب المعاصرين خير الله خير الله بأنه "من الخطباء البلغاء" مشيرا الى خطبته الشهيرة بعنوان "ما نراه ولا نراه" التي عالج فيها الحياة السياسية والاجتماعية في سورية – الوطن ضحية الاستبداد الحميدي. وبعد أن يذكر خير الله بأن الأديب إسكندر العازار كان من المدنين على شرب الخمر، علق بقوله: "لقد أساء الشيخ إسكندر العازار إلى نفسه كثيرا حين أدمن الخمر، لقد أدرك أديبنا أضرار ذلك وآسف له كثيرا، لكنه كان في أمس الحاجة اليها كي ينسى همومه التي سببها النظام الحميدي اللا أخلاقي الذي يدفه للشرب حتى الثمالة والزج بنفسه الى التهلكة. ونحمد الله أنه لم يصل إلى هذه الحالة".

ولكن ثمة مشكلة تطرح نفسها بالحاح، فالمنشور الأول الذي وصلنا عن الجمعية السرية (قد لا يكون الأول حقا في سلسلة مناشيرها) ينبغي تأريخه في 27 حزيران (يونيو)، أما الأخير ففي 30 كانون الأول (ديسمبر) لسنة 1880. من المعلوم أن أديب اسحاق كان ناشطا في أرض الكنانة ابان الفترة 1876-1879، وفي فرنسة أواخر السنة 1879، حيث أصدر جريدة "مصر القاهرة". وهنا يحق لنا أن نتساءل: متى عاد اسحاق اذا إلى بيروت؟ حقا ان مصادر ذلك العهد لم تذكر تاريخا محددا، ولكن يمكن تصديق شهادة خير الله بأن اسحاق بقي في باريس تسعة أشهر، أي حتى أواسط العام 1880 تقريبا. ويذكر التاريخ أن آخر ما كتبه إسحاق في الصحافة الفرنسية يرجع الى 18 حزيران (يونيو) من العام المذكور آنفا. ومع ذلك لا يجوز لنا نفي امكانية وجود إسحاق في بيروت إبان توزيع المنشورات في المدينة. إذ يمكن الافتراض أن عدد "مصر القاهرة" المؤرخ في 18 حزيران (يونيو) كان إسحاق قد أعده مسبقا لينشر بعد مغادرته باريس الى بيروت. في هذه الحالة، يكون الفاصل الزمني بين آخر عدد معروف حتى اليوم من "مصر القاهرة" وآخر منشور معلوم حتى الآن، أكثر من تسعة أيام. وعندئذ يصح من حيث الجوهر – الافتراض التالي وهو أن أديب اسحاق كان موجودا في بيروت خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر حزيران (يونيو) المذكور. وأنه شارك في اصدار المنشور الأول الذي وصلنا. وهذا لعمري ليس من الأمور الجوهرية جدا في إطار تحقيقاتنا الرامية لاثبات فرضية الارتباطية الوثيقة بين "زهرة الآداب" و"جمعية بيروت السرية"، إذ إن "زهرة الآداب" لم تتوقف عن نشاطها الحيوي أثناء غياب رئيسها أديب إسحاق وكذلك "الجمعية السرية" التي لم تتعرض للتصفية إبان سنى وجوده في مصر وفرنسة، لأنه كان على اتصال بهما يؤجج الشعور الوطني ويلهب المشاعر القومية ضد المحتلين الأتراك. نشير بهذه المناسبة أن المستشرق ل. روثمان، أحد ممثلي مدرسة الاستعراب الماركسي الألماني، قد أبدى عظيم أسفة على ضياع الوثائق النفيسة التي مر ذكرها في كتاب سليم سركيس، وطرح قضية علاقة الترابط بين "جمعية بيروت السرية" وأول "جمعية سياسية لتحرير مصر" التي أسسها أديب إسحاق عام 1879 وعرفت باسم "جمعية مصر الفتاة" السرية. ورغم ندرة المعلومات المتعلقة بتوقف "جمعية بيروت السرية" عن العمل، فإن المعطيات التي وصلتنا عن تعطيل "جمعية زهرة الآداب" تكاد تتطابق من حيث ارتباط الحدثين بالوقائع التي ترتبت عن وفاة أديب إسحاق ودفنه.

ورغم إصرار الزين على "استحالة تحديد تاريخ دقيق لتوقف نشاط الجمعية السرية وحرق محاضر جلساتها وتصفيتها تصفية تامة"، فإنه يفترض أيضا على الابهام المذكور بقوله: "وقد آل نشاط الجمعية، المحرومة من التأييد الشعبي، إلى الإنهيار وتفككت في سنة 1882 أو 1883" وعلى الضد من هذا، اخذ كوتلوف برأي أنطونيوس، الذي اعتقد أن نشاط الجمعية استمر بعد سنة 1880 ما يقارب ثلاثة أو أربعة أعوام"، أي الى فترة 83-1884 – حسب كوتلوف. ولو أن كوتلوف أصر بالتحديد على العام 1884 لما كان خاطئا، واليكم التعليل.

لقد أرخ جميع المستعربين السوفييت وفاة أديب إسحاق في العام 1885 آخذين بالحسبان الخطأ الشائع في معظم الكتب الموثوقة نحو: "تاريخ الصحافة العربية" للطرزي، و"تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان، و"معجم المطبوعات العربية والمعربية" ليوسف إلياس سركيس، وغيرها. والحقيقة التي لا يقرى إليها شك أن أديب إسحاق الأرمني المحتد كان قد انتقل الى الملأ الأعلى بتاريخ 12 حزيران (يونيو) 1884. هذا ما أكده أولا تقرير القنصل الفرنسي في بيروت باتريمونيو المؤرخ في 6/9/1884 والكراسة الفرنسية المرفقة به، وهي من اعداد رفاق أديب إسحاق. وهذا ما تبرهن عليه الكراسة العربية التي وضعها أصدقاء أديب وهاجموا فيها تعنت الكنيسة الكاثوليكية اليسوعية، والتي تحمل صفحة عنوانها تاريخ سنة 1884. كما نشر صديقه الحميم سليم النقاش في مجلة "المحروسة" خبر وفاته في العدد 1176 الصادر يوم 3 تموز (يوليو) 1884، الأمر الذي حدا بالكاتب ناجي علوش الذي جمع وحقق وقدم لكتابات أديب إسحاق السياسية والاجتماعية، الى كتابة تاريخ وفاته بالأحرف وليس بالأرقام دفعا لأي التباس "سنة ألف وثمانمائة وأربع وثمانين في الثاني عشر من حزيران".

كان أخوه عوني اسحاق قد نشر ما تبقى من كتابات أخيه أديب في كتاب "الدرر" (بيروت 1909)، وقد أشار عوني في مقدمته الى الأحداث الغريبة المشينة التي افتعلتها السلطات الكهنوتية ابان عملية دفن أديب وما بعدها فقال: "في يوم وفاة أديب وقع حادث يليق بالعصور الوسطى الحالكة". وكادت المشكلة تتحول الى فتنى، فالكاهن الذي استدعي للصلاة على نعش أديب والقيام بواجباته الدينية، رفض السير وراء التابوت، ورفض السماح بادخاله الى الكنيسة، متذرعا بحجة أن والدنا لم يسجل بخط يده ويوقع أن إبنه أديب عاش ومات كاثوليكيا، والسبب الداعي لذلط أن أديبا هاجم في حياته بعض الصحفيين الكاثوليك الذي امتلأت قلوبهم حقدا وكراهية ضده، فاستغل جهل الكاهن المذكور وأقنعوه بافتعال المشكلة المشار اليها للانتقام منه في مماته. فلم يظهروا أدنى قدر من الاجلال لجثمان الفقيد. ولا المؤاساة لأهله وأصدقائه فقد أعمى الحقد بصرهم وبصيرتهم، وكادت المشكلة تتحول الى فتنة بين أهل وأصدقائه من جانب، والكاهن وأنصاره الفريسين من الجانب الآخر. فاستغل بعض المغرضين الجلبة والضوضاء وانسلوا كاللصوص الى البيت، متذرعين بسعيهم لمنع تدهور الموقف الى سيئ فأسوأ. فسرقوا ما وجدوه من آثاره الأدبية: كتاباته، خطاباته، قصائده، ... الخ التي كان ينوي اعادة النظر فيها لطبعها ونشرها".

وقد أكد بعض المستعربين الذين رأوا فيما قاله عوني نوعا من المواربة والتمويه، والذي لم يقدم جديدا على صعيد الاجابة عن التساؤلات المطروحة بل على العكس زادها تعقيدا وغموضا بطرحه المزيد والمزيد من الأسئلة الجديدة العويصة التي شوهت الصورة الواقعية وزاداتها ضبابية وابهاما. ومن الغريب حقا أن عوني أخا اسحاق (الذي سيتحول في شيخوخته إلى عبد الله) كان أثناء تلك الأحداث شابا ناضجا ذا ماض معروف في الميدان الصحفي، ورغم ذلك جاءت السطور التي خطها بعد عقد من الزمن هزيلة متخاذلة يسودها طابع التحفظ والتهادن. لقد تحاشى عوني من تسمية الأشياء باسمها الحقيقي، بل وانه تخوف من وضع ولو بعض النقاط على بعض الحروف . تعليل هذا السسلوك نجده في عدم رغبته في اثارة حفيظة بعض الناس عليه، ولاسيما أنه يعرض بذلك شهرته ومكانته كمحام ذائع الصيت في الوسط الكاثوليكي. ومن الحقائق الثابتة قليلا أنه حقق الأهداف التي تطلع عليها ووضعها نصب عينيه. فهو قد ابتعد قليلا عن الوسط الكاثوليكي العربي لينتقل الى الوسط الكاثوليكي الأرمني، حيث اشتهر فيه بوصفه "أرمنيا وطنيا أسدى خدمات جليلة لطائفة الأرمن الكاثوليك"، وأنه بعد انتخابه عضوا في مجلس النواب عن الاأقلية الأرمنية في لبنان "خدم جدا قضايا الشعب الأرمني".


ومن دواعي السرور أن كاتب كراسة "تباشير الفجر ومسبة البشير" يقدم لنا مقترحا لحل اللغز القائم فيما بين سطور عوني اسحاق. فبعد أن يطلعنا على الاشكالات التي افتعلتها السلطات الكهنوتية في المقبرة ابان تشييع جثمان أديب الطاهر، مما أدى الى مشادات عنيفة كان خلالها رفاق وأصدقاء أديب، فضلا عن المثقفين من أبناء طبقة التجار والمهن الحرة المؤيدين أعظم تأييد لجريدة "التقدم" ورئيس تحريرها "يزمزمون كقفير نحل تعرض للهجوم". تابع قوله: "وخشية من العواقب الوخيمة التي قد تسفر عنها تلك الصدامات تدخلت سلطات المدينة (التركية – المؤلف) وبعض الوجهاء المسلمين لاصلاح ذات البين، لكن علية الأكليروس بقيت على اصرارها وتعنتها". وأكثر من ذلك فقد توجست السلطات خوفا من تحول موكب الجنازة الى تظاهرة معادية للكنيسة الكاثوليكية، والى غضبة عارمة لأصدقائه وأنصاره ومريديه، لذا مالت الى استخدام القوة والعنف، فروجت شائعات مفادها أن السلطات "تنوي اجراء تفتيش في بيت أديب بغرض التحقق من صدق أو زيف الشكوك القائمة حول المتوفى". وعندما أخرجوا نعش أديب من البيت واتجه موكب التشييع الى المقبرة، أحرق أصدقاء أديب الأوراق التي قد تثير المخاوف والشكوك لدى الجواسيس والعسس الموجودين في صحن الدار. وبعد قليل جاء آخرون لمؤاساة والده العجوز فأقنعوه بضرورة جمع ما تبقى من أوراق ومسودات ونقلها الى موضع أكثر أمانا. وعندما شك في أمرهم واستنكر فعلتهم الشنعاء، أصروا أنهم لم يأخذوا شيئا من كتاباته التي ربما ذهبت طعما لنيران الحريق، أما العارفون بحقيقة الأمور فانهم يخشون الادلاء بأية شهادة عن ذلك".

وقد أعرب كاتب الرسالة بكل وضوح عن مخاوفه من اتلاف أصدقاء أديب اسحاق لملف من أوراقه وبعض مخطوطاته البريئة من جهة، وعن سرقة بعض "الأصدقاء" الآخرين لبعض كتاباته "ربما لتسليمها الى الجهات المختصة) من جهة أخرى. وما يهمنا في هذا السياق طبعا الملف المحروق المشار اليه، الذي ربما تضمن وثائق وأوراق الجمعية السرية في بيروت.

ومهما يكن من أمر، فإن "جمعية زهرة الآداب" المرخصة رسميا ضمت في صفوفها عددا من الأعضاء الطليعيين الراديكاليين الذين قاموا بنشاط تحرري معاد للأتراك، وانضووا فيما عرف في علم الاستعراب ب"جمعية بيروت الثورية السرية"، التي كان أعضاؤها السريون يعقدون اجتماعات سرية - حسب شهادة فارس نمر – لمنقاشة السبل والوسائل الكفيلة بتحقيق أهدافها" و"لترويج أفكارهم السياسية بطرقهم الخاصة" فضلا عن "توزيع المناشير وتعليق الاعلانات في الأماكن العامة ليلا في مدن بيروت ودمشق وطرابلس وصيدا". وبما أن المناشير الثلاثة التي وصلتنا نشرت كاملة باللغة العربية دون سواها، وبما أن المقاطع والاقتباسات الجزئية الواردة في المراجع والأدبيات الاستشراقية السوفيتية والأوروبية ، كانت تستهدف ابراز التناقض الظاهر بين كتبه والمناشير، لذا نرى من واجبنا تقديم ترجمة كاملة ودقيقة للقارئ الأرمني.

المنشور الأول

(في رأسه صورة سيف مسلول مرسوم بحبر أحمر)

أبناء سورية:

1- أن إصلاح الترك محال، وإلا فما الذي يمنعهم أن يصطلحوا منذ عشرين سنة إلى الآن، وقد تعهدوا بشرفهم للرعية مرارا لا تحصى بالإصلاح، فماذا تؤملون منهم؟

2- إن الأتراك مع تأصلهم في الفساد وفرط جهلهم وتخنثهم، بقوا يحكمون بمليونين منهم 35 مليونا من عباد الله حتى أمس، ألا يوجد بين عقولنا وأبناء وطننا وذوي حميتنا أناس يقدرون أن يتولوا ويغاروا على شرفنا وانهاض وطننا ونحن مليونان فقط أبناء وطن واحد (سورية – المؤلف)؟ أعظم عقلكم .. (هذه النقط الثلاثة الموجودة بالأصل وكذلك البيضا قبل كلمة أعظم) تمنعكم من اجراء ذلك.

أما نحن فقد نذرنا أموالنا ونفوسنا فداء للوطن، فلم نعد لنا بل له، فوالله العظيم لنقلقن راحة الموت التي أنتم فيها (يقصد الأتراك – المؤلف) ولو شربنا كأس الحمام، ومن يعش ير.


المنشور الثاني

إعلان

بالسيف يضرب كل أمر ينزح فالطب به ان كنت ممن يفلح


يا أبناء سوريا قام موسى مصلحا، فقال المصريون به جنة. وقام سقراط مصلحا، فقتلته اليونان. وقام عيسى مصلحا، فقال اليهود به شيطان. وقام محمد مصلحا ، فقال عرب الجاهلية أنه مجنون. وأنتم تقولون ان صاحب ذاك الاعلان (بل قولوا أصحيح هو سكران، أن كلامه هذيان؟ فان كان سكرانكم يعتني بأموركم فهو خير من صاحبكم الذي لا يهمه أمركم ولا حفظ ناموسكم، ويا ليتكم كلكم سكارى. نحن الذين يحيون الليل باعمال دولاب الفكر ويقضون النهار باستكشاف الحوادث والأخبار، فلولا موتنا لما كنا للترك الذليل عبيدا، ولولا شقاقنا لم تكن عند الافرنج حجارة وحديدا (مصدر الطاقة – المؤلف). أين نخوتكم العربية؟ أين حميتكم السورية" عودوا يا قوم والعود أحمد، ولا تقنطوا من رحمة ربكم، فلن يخفي القمر، ومن يعش ير.

المنشور الثالث

الويل

يا أهل الوطن! قد علمتم بفجور الأتراك وظلمهم، وان فئة منهم تحكمت في رقابكم واستعبدتكم، وأ،هم قد داسوا شريعتكم، وامتهنوا حرمة كتبكم، حتى انهم سنوا تنظيمات تقضي بملاشاة لغتكم الشريفة (يقصد سياسة التتريك – المؤلف). وسدوا أبواب النجاح، واتخذوكم أرقاء كأن لا شي من شعائر الانسانية عندكم، وقديما كنتم أصحاب الحل والعقد، ومنكم ظهر أولو العلم والفضل، وبكم أهلت البلاد وامتدت الفتوح، وعلى قواعد لغتكم بنيت أصول الخلافة التي اختلسها منكم الترك. انظروا الى رجالكم كيف يقادون الى الحرب عند الشدة، وكيف يعرضون للقتل، وبأية معاملة يعاملون. وانظروا الى أوقافكم كيف وبأية طريقة تصرف (من قبل الأتراك – المؤلف).

أما الآن بعد الائتمار مع اخواننا في أنحاء البلاد فقد قر القرار وصدر الحكم بطلب ما يأتي قبل التقاضي الى حد السيف، فان حصلتم عليه التفتنا الى تدبير أمورنا والا فإننا:

سنطلبن بحد السيف مأربنا فلا يخيب لنا في جنبه أرب

ونتركن علوج الترك تندب ما قد قدمته أياديها وتنتحب أما الأمور التي صدر الحكم في مجلسنا بطلبها فهي:

أولا – استقلال نشترك به مع اخواننا اللبنانيين بحيث تضمنا المصالح الوطنية.

ثانيا – أن تكون اللغة العربية رسمية في البلاد، وأن يحق لأبنائنا الحرية التامة في نشر أفكارهم ومؤلفاتهم وجرنالاتهم بمقتضى واجبات الانسانية ومقتضيات التقدم والعمران.

ثالثا – أن تنحصر عساكرنا في خدمة الوطن وتتخلص من عبودية الرؤساء الأتراك.

وهنالك بعض تنقيحات وامتيازات أخرى لابد منها، يترك البحث فيها الى أوقاتها.

وينتهي هذا المنشور بايراد خمسة أبيات من القصيدة البائية للشاعر ابراهيم اليازجي ومطلعها: "تنبهوا واستفيقوا أيها العرب".

ثمت تضارب في الآراء لدى المستعربين عامة حول بعض المسائل المتعلقة بهذا المناشير الثلاثة، ولكنه ليس مبدئيا الى درجة كبيرة. فمثلا مسألة تتابع المناشير ، اذ اعتبر الطيباوي وكوتلوف، وهما على حق منشورا أولا، فيما عده أنطونيوس خطأ منشورا ثانية – وهناك سؤال ذو شقين يتعلق جانبه الأول بهوية الوسط الطائفي الذي انتشرت فيه المناشير، وطبيعة الاستقلال المنشور (وبالتالي الامتداد الجغرافي للوطن) من جانب آخر، وهو يستأهل وقفة.

فالطيباوي رأى من الحقائق الثابتة أن المناشير كلها "تعرب اعرابا واضحا عن ناحيتي الاستياء السوري: الدينية الخاصة بالمسلمين، والوطنية الخاصة بالسوريين من الحكم العثماني"، ولكنه أصر على أن كاتب المنشور الثالث على الأقل كان مسلما (ويفترض أنه من جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية)، واختتم مقالته بقوله: "ان المناشير التي دعت الى الاصلاح والاستقلال الذاتي السوري قد كتبها المسلمون وعاونهم فيها وفي طلب الاصلاح اخوانهم النصارى". وهذا بالطبع خطل في الرأي قد لا يبدو غريبا، اذا أعدنا الى الأذهان ان الطيباوي ليس الوحيد بين الكتاب العرب المسلمين الذين ظلوا – من حيث الجوهر – أوفياء للمنهج المدرسي الشرقي السابق للمرحلة البرجوازية من التطور.

ومن خلال معارضتنا لآراء الطيباوي نطرح بالحاح السؤال التالي: هل احتوت المناشير الموزعة جوانب متناسقة مع آفال الاستقلال الذاتي اللبناني بحدوده الجغرافية – التاريخية الذي دعا اليه في حينه داود باشا وأنصاره، والياس حبالين فيما بعد؟ ان الرد الايجابي عن هذا التساؤل يساعدنا ليس فقط على اضفاء صبغة ايجابية على شخص الحاكم الأرمني الأصل، الذي لقي يومئذ معارضة قوية من قبل الانفصاليين الموارنة، والذي لا يزال حتى اليوم يتعرض للانتقاد غير الموضوعي، بل وسيساعدنا أيضا على استيعاب البرنامج والمطالب السياسية – الوطنية التي طرحتها جمعية بيروت السرية. وفوق ذلك بكثير: فالرد بالايجاب يعيننا الى تبديد التصور الخاطئ عن أن "مجموعة الشبان المتمردين" في الجمعية لم تكن سوى "نخبة فكرية " لا ارضية لها في الواقع، وأنها نهضت ضمن فراغ سياسي – قومي، وأن المبادئ والمطالب التي جاءت في المناشير كانت عديمة الجذور ولا تدخل في اطار أية مجموعة اجتماعية محددة ذات أهداف معينة على الصعيدين النظري والتطبيقي.

حقا ان الأهداف والمطالب السياسية المعلنة في المناشير تتصف بالمحدودية، ولكن أنطونيوس الأشد اخلاصا للجمعية السرية رسم أطرها بكلام جامعة: "الدعوة الصريحة للاستقلال الذاتي السوري، أم حكم استقلالي ان أمكن". وقد أكد الكتاب العرب والسوفييت أن مطلب الاستقلال الذاتي السوري (أو للسوريين العرب) المعلن في المناشير لم يكن في حقيقة الأمر يتعدى مطلب الاستقلال الداخلي الاداري – السياسي. ولكن التمسك بالنص الحرفي للمناشير جعل المستعربين يتغاضون عن الروح الثورية النازعة الى التحرر والانعتاق من حكم الأتراك، والتي يمكن التدليل عليها ان كان من خلال النص الصريح على الاستقلال اللبناني الذي يتمتع به اخوتهم اللبنانيون، وان كان عن طريق الاستدلال الجانبي. وهكذا، لم يحاول المستعربون السوفيين استيعاب المناشير نصا وروحا أو شكلا ومضمونا وفقا للمنهج الديالكتيكي الذي يسيرون على هديه. ومن هنا نستخلص أن الحركيين لم يتطرفوا حقا في مطالبتهم بالاستقلال الذاتي ذي الامتداد الجغرافي الواقعي، فان جوهر الاستقلال الحقيقي الذي تطلعوا اليه ضمنيا يظل غامضا، كما أنه من الخطأ بمكان التمسك بالمعطيات الجانبية والتغاضي عن الشكل والأسلوب اللذين ظهرت فيهما المنشورات، الأمر الذي قد يؤدي الى التباس خطير، كالذي وقع فيه مثلا الزين عندما أكد – اعتمادا على شهادة فارس نمر كما يزعم – أنه "كان في لبنان جماعة صغيرة من الشبان تطالب قبل كل شيئ وفي الأساس بتحرير لبنان المسيحي (واذن جبل لبنان أساسا – المؤلف) من الحكم التركي".

وبناء عليه، عندما صاغ شبان الجمعية السرية مطلب الاستقلال بقولهم "استقلال نشترك فيه مع اخوتنا اللبنانيين" كانوا يقصدون "بالاخوة اللبنانيين" سكان جبل لبنان المتمتع بالاستقلال الذاتي، أما ضمير جمع المتكلم في كلمة "نتمتع" (نحن) فهي اشارة واضحة الى بقية سكان سورية ، وبكلام آخر، كانوا راغبين في تعميم النموذج اللبناني "الاستقلالي" على سورية كلها. ومن المعروف أن مساحة سورية الطبيعية تصل الى مئتي ألف كيلو متر مربع، وهي تمتد من جبال طوروس شمالا إلى العريش جنوبا، ومن البحر الأبيض المتوسط غربا الى ما بين النهرين شرقا.

من نافل القول ان فكرة الاستقلال السوري غريبة تماما على الأرستقراطية المارونية الدينية والزمنية، وعلى بعض الشخصيات من مثقفي البرجوازية الذين كانوا يخدمون مصالحها الطائفية. وهؤلاء معروفون بأنهم دعاة ومنظرو "القومية اللبنانية المسيحية". بعد تصفية الامارة اللبنانية المستقلة وفضل الفريق الشهابي لاعادتها في مطلع الاربعينيات، حاول عبثا الأكليروس الماروني – بالتحالف مع الأرستقراطية المارونية في الشمال المسيحي الوصول الى منصب حاكم لبنان، اذ نشأ "تحرك سياسي" ماروني بقيادة البطريرك عبر عن نفسه بصياغة ايديولوجية – قومية، مثلت بدعوتها الاقطاعية – الأكليركية وبصبغتها الضيقة "كاريكاتورا قوميا". كان زعماء ذلك التحرك يأملون من طرح شعار "النضال ضد الحكام الذين عينهم الأتراك" أولئك المتصرفون الذين "تسربوا الى بلادنا لاستعبادنا" في استنهاض القوى المارونية وكل النصارى في البلاد "كل الأمم المسيحية في لبنان"، حسب مقولاتهم. لبسط سيطرتهم على كامل متصرفية جبل لبنان أو الاكتفاء في حالة الفشل بالكيان الماروني المستقل.

ان العديد من الكتاب العرب المسيحيين (ومن بينهم فيليب حتي وكمال الصليبي) الذين بحثوا في تاريخ لبنان الحديث، حاولوا جاهدين البرهنة على وجود "الأمة المارونية" في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فاعتصموا بأسطورة نسجتها الكنيسة المارونية حول النزعة "القوموية" المارونية واستقطبتها حول شخص الزعيم الاقطاعي الماروني يوسف كرم المعروف بميوله وأفكاره المغرقة في الرجعية والتعصب الديني، ومحورتها في مشروع انعزالي انفصالي.

وبصرف النظر عن المآرب الشخصية الجشعة، وميله العظيم للمغامرة والتمرد والعصيان، كان يوسف كرم يعبر عن المصالح الطبقية للاقطاعية – الأرستقراطية الدينية والدنيوية، فجاء تحركه أشبه بشكل من أشكال المعارضة لمقاومة استتباب النظام الأساسي، الذي وجه ضربة قوية للعلاقات الاقطاعية، كان كرم الأداة الفعالة الرامية لفرض الهيمنة المارونية المطلقة على الطوائف اللبنانية الأخرى، والعدو اللدود لتحركات البرجوازية والكادحين المعادية للاقطاع في الأصقاع الشمالية من جبل لبنان، ولاسيما ازاء "الجمهورية" الفلاحية في كسروان. وأخيرا، ترأس يوسف كرم حركة العصيان المسلح ضد سياسة النظام الجديد (عهد داود باشا) الرامية الى توطيد الأمن والسلام في ربوع لبنان، والساعية الى وحدة أراضيه التاريخية وتطوره ورقيه.

في سبعينيات القرن التاسع عشر لم يكن بالامكان حتى الحديث عما عرف "بالأمة المارونية" لغياب المقدمات الاقتصادية والاجتماعية في جبل لبنان وداخل الطائفة المارونية تحديدا. وان ما نظر اليه "كأمة" و"قومية" مارونية لم يكن في حقيقة الأمر سوى دعوات محمومة لا أساس لها، روجت لها الأرستقراطية الزمنية والأكليروس الماروني اللذان امتلكا كل الأراضي تقريبا في شمال لبنان، والذي كان ديندنها الرئيسي الوقوف بوجه التغييرات الاجتماعية والاقتصادية الجارية عصرئذ في لبنان الأوسط والجنوبي. تلك التحولات التي لقيت تأييد الأوساط البرجوازية في بيروت ودعما . لقد خلقت تلك الدعوات المحمومة عواقب مأساوية على الدعوات ذات النزعة الوطنية اللبنانية، أو بالأحرى الوطنية السورية الأصيلة التي بدأت بالظهور في الأوساط النهضوية اللبنانية، ذلك التحرك الانفصالي الداعي الى هيمنة الموارنة على سائر الطوائف المسيحية الأخرى، والى عزل جبل لبنان عن المحيط العربي – تحول الى سلاح خطير بيد الأوساط الرجعية – المحافظة داخل الطوائف الإسلامية التي وقفت أيضا ضد أي تجمع أو تضامن قومي لبنانيا كان أم سوريا.

على خلفية الأيديولوجية البائسة اليائسة حول "الأمة المارونية" اتسمت الدعوة القومية التي جاءت في مناشير الجمعية السرية بالمزيد من البريق واللمعان، فالنزعة القومية التي بدأت بالتبلور داخل أوساط المفكرين العرب المنضمين والعاملين بنشاط داخل الجمعية السرية – بغض النظر عن المضمون القومي السوري أو اللبناني أو حتى العربي الذي تجلى في المناشير – كانت بعيدة في مطلق الأحوال عن الدوافع الدينية والحوافز المذهبية.

وحسب تأكيدات أنطونيوس والزين فان الحركيين في الجمعية السرية كانوا على اقتناع تام بأنهم لم يحققوا أهدافهم المنشودة الا بالتعاون مع العرب المسلمين، ولذا سعوا منذ اليوم الأول لتأسيس جمعيتهم – الى ضم وجهاء المسلمين الى صفوفهم، ولكنهم لم يتوصلوا الى نتائج ملموسة في هذا المجال، اذ التحق بها بعض المسلمين المدنيين فقط.

بعد فشل المحاولات المذكورة نرى الدكتور فارس نمر يتذكر قائلا: "لقد اقتنعوا بعدم امكانية الوصول الى اتفاق مشترك أو حتى تفاهم متبادل بين النصارى والمسلمين فيما يخص مسألة طرد الأتراك من لبنان، وعليه كان التعاون المشترك بين الطرفين ضربا من المحال". غير أن المنطق يملي علينا – ونحن نقرأ هذه الشهادة المسجلة على لسان فارس نمر – ألا نجزم بمصداقيتها، وأن نسجل هنا أيضا أن الواقع كان على الضد من ذلك، فبعد الفشل الذي نجم عن أحاديث الخلوات، تم التوصل الى استنتاج صائب مفاده أن مطلب "الاستقلال" يجب أن يطرح أولا على الصعيد اللبناني، بل على مستوى الوطن – السوري والتوجه الى العرب المسلمين من السوريين. واذان، ليس مصادفة أن توزيع المناشير في مطلع الثمانينيات، كان قد تزامن مع انتعاش الدعوة الى أفكار الجامعة الإسلامية الرامية الى تخدير أذهان الجماهير الإسلامية الرازخة تحت نير الاستبداد الحميدي، فكان امتدادها الجغرافي يشمل عدا بيروت كلا من مدن دمشق وطرابلس وصيدا ذات الأغلبية الإسلامية الملطقة.

لقد رأينا في حينه كيف أن علامة من طراز بطرس البستاني مال للدفاع عن فكرة النزعة العثمانية، وهذا ما دفعه الى ايجاد مسوغات تفيد بأن حكم (أفهم: نير) السلطان التركي مقبول، وحتى مفيد أيضا (كذا). ولم يتكف بذلك وحسب، بل انه دعا الى الصبر والتجلد على المظالم والتجاوزات. ومن هذا المنطلق نقول: ان أقل قدر من القناعة أو حتى المناورة بالايمان بالنزعة العثمانية (أو من منظور آخر أعظم قدرا على صعيد ترسيخ الأسس المادية للنزعة العثمانية) يجد انعكاسا له على صعيد الإيمان الساذج العفوي بالتنظيمات العثمانية. ولهذا تمثلت رسالة المناشير العظيمة في استئصال أي ايمان بالعثمانية والاصلاحات المزعومة (فما الذي يمنعهم أن يصطلحوا منذ عشرين سنة الى الآن، فماذا يؤملون منهم؟). وبكلام آخر: لقد رفض المناضلون السريون النزعة العثمانية جملة وتفصيلا ليرموا بها في مزبلة التاريخ. ومن هذه الزاوية بالذات لا نتفق مع كوتلوف في قوله بأن الوسط الذي ظهرت فيه المناشير "اتسم بميل خاص نحو الأورةب" ولكن "بعد فتور دعوة تمجيد قيم الغرب الأوربي ومثله، انفسح المجال واسعا أمام رسوخ أفكار النزعة العثمانية". وهنا يجب ألا يغرب عن بالنا ان النهضويين العرب (خلافا للأوساط المحافظة ذات النزعة القروسطية داخل الطوائف المسيحية، التي آمنت ايمانا أعمى بأوروبا فكرا ومعتقدا ومذهبا ومشربا) دون أي استثناء، حتى من كانوا ميالين الى الأخذ بالعثمانية عن قناعة، أمثال آل الخوري (الاتجاه اليميني ) والبساتنة (الاتجاه الوسط) أو عن تاكتيك كالنهضويين التقدميين الطليعيين (اتجاه اليسار) – كانوا كلهم من حملة الفكر التنويري العربي الأصيل، ومن أبرز الدعاة الى الأوربة، ولكن ليس أبدا الى الاستعمار الأوربي.

اذن، لم يكن الغرب الأوربي مثلا أعلى مطلقا بالنسبة لرواد النهضة العرب، بل كانت مثلهم العليا متجسدة في النظام الاجتماعي – السياسي الراشدي، في التقدم الاقتصادي الرفيع، في الحياة الفكرية – الثقافية الراقية في منجزات العلوم والتقنية والفنون وما شابه ذلك. ولم يكن الأمر كذلك فيما يتعلق بالأمور المغايرة لهذه المفاهيم الايجابية، كفساد الأخلاق وغيرها من الظواهر السلبية المتفشية في الغرب، ومن بينها الحروب الاستعمارية الدامية وسياسية العدوان، وحمى الاستعمار بشكليه الاحتلالي والاسيطاني وهكذا دواليك. ومما يلفت النظر حقا، أن الميل نحو المثل الأوربية الايجابية كان آخذا في التعمق داخل أوساط المنورين العرب، لا بل وحتى بين المحافظين والتقليديين والأصوليين من رجالات النهضة. وبصورة موازية لذلك، تصاعد الموقف الانتقادي ازاء الجوانب السلبية من الحضارة الأوربية والمجتمع الغربي. ومن هذا المنظور كان الرواد العرب في مسيرتهم على درب النهضة الثقافية القومية – الفكرية ميالين بالضرورة وموضوعيا للأخذ بالقيم الأوربية ومنجزات المدنية الغربية. ولذلك كان كل تحرك استعماري سياسي أم اقتصادي، يشير حفيظتهم ورد فعلهم السلبي، لأنه كان قبل كل شيء يمثل ذريعة تشده من أزر خصومهم السياسيين داخل الطوائف النصرانية (الأوساط المحافظة الدينية والدنيوية الموالية ولاء أعمى للغرب). وكان من جانب آخر يقوي من مواقع خصومهم في الأوساط الاسلامية. ليس فقط على مستوى تصعيد الكراهية ازاء النزعة الأوربية في الأوساط الاسلامية المحافظة دينية أم زمنية التي شددت من وحدتها وتلاحمها حول الجامعة الإسلامية، بل وانها كانت تساهدم في عملية استطراد التقارب بين الآخيرين والعناصر الإسلامية من أنصار التجديد ، معرقلة بذلك امكانية التقارب والتعامل والتعاون مع الرواد العرب المسيحيين.


4- تبلور الاتجاهات الأساسية في التنوير العربي

جريدة التقدم

جريدة التقدم عمومية صدرت في مطلع عام 1874 لصاحب امتيازاها يوسف الشلفون. فكانت أولا نصف أسبوعية في صفحتين متوسطتي الحجم. حقا ان مجموعة الفترة الأولى من التقدم (74-1787) تكاد تكون مفقودة تمام وأن الباحثين اعتمدوا أساسا على أعداد منفردة متناثرة، لكن المعلومات الجانبية والاشارات الواردة في تضاعف كتب المعاصرين لها، تسمح لنا اليوم بتقديم صورة جلية عن الجريدة، فقد أكد جرجي زيدان مثلا "أنها صدرت بعد تعطيل جريدة "النجاح" لمؤسسيها لويس صابونجي ويوسف الشلفون سببب من شدة لهجتها ضد الأتراك". ومن أن "التقدم" كانت خير خلف لأعظم تلف في مواقفها السلبية.

بيد أن "التقدم" انحط شأنها فعطلها صاحبها في السنة الرابعة، مما حذا بالقس لويس صابونجي الى نظم هذا البيت المشهور فيها:

ان التقدم دائما يتأخر ما زال للشلفون اسم يذكر.

ولكن صابونجي كان محقا تماما لو أنه أضاف بأن الجريدة ستسقط في الهاوية لو أنها ارتبطت بذكره. كل ما في الأمر أن تدهور التقدم لم يكن بسبب التراجع الذي أبداه الشلفون في مطلع 1874 على أرضية الراديكالية، بقدر ما كان ناجما عن اشتغاله بأمور الطباعة والنشر التي كانت تستنزف منه الوقت الضروري للقيام بمهم التحرير الجدية، فضلا عن الزامه بنهج الاعتدال وعدم المواجهة في علاقاته مع السلطات العثمانية . صفوة القول: كانت "التقدم" في مسيس الحاجة الى ملاح جديد يقود دفتها. فلويس صابونجي الذي نجا بأعجوبة من محاولة لاغتياله من قبل الرجعية فيما مضى. كان قد عاد لتوه الى بيروت من رحلة حول الكرة الأرضية استغرقت سنتين وسبعة أشهر – لم يكن المرشح المؤهل لادارة تحرير الجريدة، ولاسيما أنه قد اتختار حينئذ الكنيسة الكاثوليكية دريئة لهجماته وانتقاداته. أضف الى ذلك كله أن المدير الجديد يجب أن يتحى بصفات مميزة في الأسلوب والبلاغة، ووضوح الرؤية ونفاذ البصيرة، والاتزان والرجاحة، وعدم الخلط بين الإقدام والشجاعة وحب المغامرة والاقدام. وهكذا، اصبح أديب اسحاق ذلك الملاح البارع الذي قاد دفة "التقدم" بدءا من صيف عام 1874.

تسلم أديب إسحاق ادارة تحرير الجريدة يساعده في ذلك مباشرة يوسف الشلفون ولويس صابونجي ، وسليم نقاش والشيخ إسكندر العازار، ثم تعاقب على ادارتها كل من جرجس ميخائيل نحاس، ونجيب ابراهيم طراد، واسكندر بن جرجس طاسو. كان إسحاق يتخطى في انتقاداته الحدود القصوى المسموح بها في الواقع التركي المعاش، داعيا الى الاصلاح الجذري والتقدم الأصيل ، وعلى هذه الأرضية كان يوجه نقدا لاذعا للحافظين والمتخاذلين من الرعيل الأول، الذين اتصفوا بالتردد في المواقف ومناصرتهم لأنصاف الحلول. ويمكن اعتبار النضال الذي خاضته "التقدم" دون هوادة ذد الصحافة الصفراء، أشبه بشهادة واقعية حية عن الدور الكبير في ميدان الفكر السياسي – الاجتماعي التقدمي. وقد أشار المؤرخ الكبير فيليب الطرزي في موسوعته عن تاريخ الصحافة العربية الى هذا الواقع بقوله: ان "التقدم" في عهد أديب إسحاق خاضت غمار مناقشات طويلة مع جريدة "البشير" للآباء اليسوعيين لاختلافهما في المبادئ على قضية التعليم الإلزامي . كان المجال مبدئيا لدرجة لم تر صحائف ذلك الزمان نظيرا له، بحيث أن اليسوعيين لم يغفروا له ذلك حتى بعد مماته، وكان كريمسكي، الذي اعتمد على المصادر المتوفرة نسبيا في أواخر القرن الماضي، ميالا للاعقتاد بأن أديب إسحاق "كان يطلق العنوان لقلمه دون حذر.. كانت قوة انتقاده تزداد حدة ومرارة لأنه اتخذ أسلوبا جديدا في الانشاء لم يتوفر لغيره عصرئذ". وأكد المستشرق الألماني المراكسي أ. روثمان "أن اسحاق كان من قادة حركة النهضة العريبة" الذين دعوا الى "تحرير الأقطار العربية من سيطرة الأتراك والذي اضطر مرارا لمغادرة سورية بسبب الانتقاد اللاذع الذي كان يوجهه الى صفحات جرائده للحكم التركي".

لقد أبدى كريمسكي ملاحظة قيمة بشأن العلاقة بين أديب وجريدة "التقدم". ولكنه توصل – للأسف – الى استنتاج بعيد عن الحقيقة، قال: "كانت الجريدة بعيدة جدا عن اقبال الناس عليها بسبب أسلوبها الشديد اللهجة، علما أن الجميع كانوا يجلونها، ويضمنهم المسيحيون في بيروت. ولكنا لن نحيد عن جادة الصواب اذا قلنا أن "التقدم" بالذات هي التي مهدت الطريق لظهور جريدة إسلامية معارضة في بيروت. فالقسم الأعظم من السكان المسلمين في سورية يظهرون عداء سافرا حتى ازاء المبشرين الأكثر اعتدالا الداعين الى التقدم والرقي على النمط الأوربي. لقد تحمل العنصر الرجعي من مسلمي سورية بشق الأنفس الصحافة الوطنية المتركزة أساسا في يد النصارى العرب بداء من سنة 1858 تاريخ صدور "حديقة الأخبار" لصاحبها خليل الخوري، وطفح كيل الصبر فتوحدت العناصر الرجعية المحافظة لتصدر سنة 1875 جريدة خاصة بها، ترد الصاع صاعين – كما يقولون – لكل بدع المشركين الآتية من الغرب".


جريدة "ثمرات الفنون"

الجريدة المقصودة أعلاه هي "ثمرات الفنون"، كانت أسبوعية علمية، صدر العدد الأول منها في بيروت بتاريخ 20/4/1875، ولكن ظهور الصحيفة حدث في ظروف مغايرة تماما لما ذكره كريمسكي هي باكورة الجرائد الإسلامية في البلاد السورية. أنشأتها "جمعية الفنون"المؤلفة من بعض أدباء وأعيان الطائفة السنية، التي حاولت التشبه بالجمعية السورية الأولى التي كانت من المسيحيين طرا. رغم تأخر الفنون فكريا وثقافيا أكثر من ربع قرن من الزمان.

ان واقع كون "ثمرات الفنون" في بداية عهدها شركة مساهمة مؤلفة من اثني عشر سهما ، وقيمة كل سهم ألفان وخمسمئة غرش، يتطلع المساهمون فيها الى الربح والمنفعة الشخصية، وهذا يدل دلالة قاطعة على الطبيعة البرجوازية لأصحاب الأسهم. وبالتالي على التحالف القائمة بينهم وبين رجالات النهضة المحافظين ، ذلك التحالف الذي وجد انعكاسا له في العدد الأول من "ثمرات الفنون" لسان حال رجال الدين – المساهمين من الطائفة السنية العاملين تحت رئاسة الحاج سعد ابن السيد عبد الفتاح حمادة، والذي شارك في اعداده رهط من أدباء المسلمين فضلا عن بعض الأدباء المسيحيين ذوي الاتصال الوثيق بالشيخ يوسف الأسير، نذكر منهم اسحاق عوني واسكندر طراد وابراهيم الأحدب وغيرهم. وحبذا لو اقتصر الأمر على ذلك، فكريمسكي الذي اعتمد على شهادة أوردها سليم سركيس صديق أديب عن توليه لتحرير "ثمرات الفنون" علق على ذلك بقوله: "ان الركض وراء الشهرة الأدبية دفع إسحاق للعمل في تحرير "ثمرات الفنون"، ولكنه خفف من وقع هذا الانطباع في هامش الصفحة ذاتها بقوله: "لكن عمله في التحرير لم يستمر طويلا، اذ غادر الى بيروت عاجلا".

ومن الحقائق المسلم بها أن أديب إسحاق كان خلال حياته القصيرة جدا، زاهدا بالمال ومتاع الدنيا، ومن غير المعقول أبدا أن يقايض بين مبادئه وبين آية مكافأة مالية مهما عظمت ليشتغل في جريدة نزلت الى الميدان وكل ديدنها "توجيه الضربة القاسية الى مطالب وبدع المشركين". كان حريا بكريمسكي أن يتخذ عبرة من مشاركة إسحاق وغيره من الرواد المسيحيين في هذا الموضوع ذي الطابع التنويري في الأوساط الإسلامية، فيقدره تقديرا موضوعيا بعيدا عن التقييمات الذاتية. كما فعل. ومن الجدير بالذكر هنا تلك الشهادة القيمة التي أوردها فيليب الطرزي (ونقلها عنه يوسف سركيس في موسوعته)، والتي مفادها أن أديب إسحاق لم يكن صحفيا عاديا في "ثمرات الفنون" لسان حال الطائفة السنية، بل تسلم ادارة تحريرها في أول عهدها".

ان افتراضنا بشأن تشجيع الرواد المسيحيين، ولاسيما أديب إسحاق الهادف الى اصدار جريدة "ثمرات الفنون" ليس نابعا من فراغ، بل له جذوره في أرضية الواقع. فمصادر تاريخ الصحافة العربية تؤكد أن الأجواء التي سادت حول "جمعية الفنون" ولسان حالها "ثمرات الفنون" في أول عهدها كانت مغايرة تماما للمناخ السائد مستقبلا. فبعد الوفاة المبكرة للحاج سعد حمادة (1878) تسلم عبد القادر القباني كرسي الرئاسة الشاغر. وهو رجل لم يشتهر في حياته اللهم الا في مجال التعصب الديني وسوى أنه كان صاحب امتياز الجريد’. ولكن القباني كان يفاخر دائما بأن نسبه يتصل بالامام زين العابدين، وأن أصل عائلته من بلاد الحجاز، انتقلت الى العراق ثم جاء بعض أجداده الى سورية لمحاربة الغزاة الصليبيين، فسكنوا أولا في جبيل ثم تحولوا الى بيروت. ادخل القباني "جمعية الفنون" في خبر كان، واغتصب ادارة التحرير من الشيخ يوسف الاسير، وجعل قبلته خدمة أفكار "الجامعة الاسلامية" و"الأمة الاسلامية" و"الجامعة العثمانية"، فكانت جريدته تدعو لطاعة أمير المؤمنين والالتفاف حول عرش الخيفة التركي. وهذا يعني أن "ثمرات الفنون" قبل الفترة القبانية، خدمت فكرا مناوئا لأهداف "الجامعة الاسلامية" و"الجامعة العثمانية"، أي الفكر النهضوي السوري – القومي ولو كان في حدوده الدنيا المحافظة المعتدلة. وبناء على ذلك نستنتج أن تسلم اسحاق لادارة التحرير كان يعني خطوة أولى على طريق استقطاب الطوائف الاسلامية حول حركة النهضة الثقافية القومية.

ينبغي التذكير في هذا السياق أن جريدة "التقدم" امتازت على أيام أديب بالاستقلالية في الأمور المرهونة بالطبع بمدى استقلالية الأفكار الحرة التي نادى وعمل بهديها أديب اسحاق ورفاقه وأنصاره. وبالفعل، اذا كانت الجرائد النهضوية تتلقى دعما ماديا من الأوساط البرجوازية في بيروت (عضد آل المدور مثلا "حديقة الأخبار") والجهات الرسمية (كان الوالي والمتصرف يدعمان بأموالهما آل الخوري، بينما آزر الوالي وخديوي مصر البستانيين)، فان أديب اسحاق وأنصاره كانوا بعيدون كل البعد عن الاستجداء والاستعطاف لإدراكهم حق الادراك "أن الناس عبيد الاحسان" – كما يقول المثل، ولذلك كانوا من الفرسان الأحرار في مبادئهم السياسية وأفكارهم الاجتماعية.

ان تزايد رغبة الجمهور في التمثيل ببيروت وطموح رواد النهضة السوريين – وهم أسبق المشارقة الى اقتباس فن التمثيل – لاشاعة هذا الفن التنويري دفع نخبة من الأدباء النوابغ والممثلين الى تقديم عروض مسرحية ، وقلما استخدموا هذا الفن للارتزاق والكسب. ولكن عندما كانت تنزل بهم الضائقة المالية، كانوا يستخدمون بعضا لمال للحفاظ على جرائدهم. فكانوا يمولون عن هذا الطريق ليس فقط نشاط "جمعية زهرة الآداب" ولسان حالها جريدة "التقدم" ، بل ويدعمون مطبعة الشفلون التقدمية وأعمال النشر وانشاء المدارس وغيرها من المشاريع والتدابير الثقافية. وللعلم نقول أن معظم أعباء النشاط المسرحي تأليفا وترجمة وتمثيلا كانت تقع على عاتق أديب اسحاق وسليم نقاش، الذين تعاونا في اقتباس روايات ومسرحيات الأدب الفرنسي الكلاسيكي، ولاسيما مسرحيات كورنيل، وراسين ومواءمتها مع مقتضيات الزمان والمكان في الواقع العربي.

ان فقدان المعلومات عن الوثائق البرمجية والأهداف والمطالب التي توختها "جمعية زهرة الآداب" ، ولسيما غياب أعداد "التقدم" في طورها الأول ، يجعلنا مضطرين للجوء الى المعطيات الجانبية الثانوية.


فرنسيس مراش

من الدلائل البليغة الأهمية على عظمة الأجواء الفكرية – الثقافية والمناخ السياسي – الاجتماعي السائد حول "جمعية زهرة الآداب" و"جريدة التقدم" ان الرائد العظيم فرنسيس مراش (1834-1873) كان يساهم اسهاما فعالا في نشاطها دون أن يكون عضوا في الجمعية، رغم أنه على علاقات جد حميمة مع جميع الاعضاء الشباب، فكان يحتل بينهم مكانة مرموقة. وتحلى بشهرة عظيمة بوصفه أول ايديولوجي للتنوير العربي، نظر تنظيرا فلسفيا للفكر السياسي – الاجتماعي العربي. كانت الحكمة ضالته المنشودة في كل ما كتب وفكر به، ولعله أسبق كتاب العصر للمطالبة بانشاء مجتمع جديد يسوده الوئام والتآلف ويرفرف السلام في ربوعه. وقد وصفه جرجي زيدان بقوله: "في شعره نزوع الى روح العصر فهو من أقدم النازعين الى هذه الروح في النهضة العربية الحديثة. نبهه الى ذلك اختلاطه بالافرنج واطلاعه على آدابهم".

فرنسيس مراش سلسل بيت علم وفضل أخرج لدنيا الأدب علماء وأدباء وشعراء. ولد وترعرع في أحضان والدين كريمين فرضع لبان الأدب، وتغذى ثمار العلم. كان والده فتح الله تاجرا حلبيا كبيرا له ممثليات في العديد من المدن الأوربية، كان خورشيد بااشا قد أعدم سنة 1818 أخاه بطرس بن نصر الله مع عشرة من رفاقه بتهمة العصيان والثورة. كان فرنسيس الأخ الأكبر لعبد الله مراش الكاتب اللوذعي الذي كان نصير رزق الله حسون في نشاطه المعادي للأتراك بلندن. ولمريانا مراش احدى الشاعرات العربيات الشهيرات ومن بواكيرهن في النهضة الأدبية الحديثة. كان فرنسيس الذي زار فرنسة مع أبيه وهو غلام، ميالا الى العلوم الطبيعية والطب فتعلم بعضه في وطنه وحاول اتمام دراسته في باريس فلم يوفق لانحراف صحته. ورجع الى حلب مكفوف البصر وهو في ريعان شبابه.

اشتهر في أواسط الستينيات كواحد من أعلام الأدب في سورية، ولاسيما كشاعر حساس مجنح الخيال من الطراز الأول. فخلط الغزل بالحكمة والنصائح بالفلسفة، مما دفع المستشرق كراتشكوفسكي الى مقارنته بفيلسوف المعرة وشاعرها أبو العلاء. ومن آثاره الأدبية المطبوعة نثرا ونظما "الكنوز الغنية في الرموز الميمونية" (قصيدة رائعة على صورة رؤيا شعرية رمزية في نحو من خمسمئة بيت دعاها بهذا الاسم نسبة الى بطلها ميمون بن مفتقر – حلب 1870)، وديوان "مرآة الحسناء" (رتبه حسب القوفي ونشر بعد وفاته – بيروت 1872). كان مراش شاعرا صوفيا وحكيما مبرزا بآرائه وأفكاره الفلسفية، ولكنه اشتهر أيضا بتأليفه العلمية والطبيعية نذكر أهمها: "المرآة الصفية في المبادئ الطبيعية (حلب 1861)، و"در الصدف في غرائب الصدف" (بيروت 1872)، ولاسيما كتاب "شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة" (بيروت 1892).

تأثر فرنسيس مراش كثيرا بالحياة السياسية الاجتماعية الحالكة السواد في سورية الرازحة تحت نير الحكم العثماني الاستبدادي، وعاش مرارة اعتلال صحته وكفاف بصره. مما طبع أشعاره الغنائية وتأملاته الفكرية الاجتماعية بصبغة تشاؤمية، لم تقف حائلا دون ايمانه المطلق بانتصار العقل، والانتصار النهائي للعدل والحرية والمساواة لكل الناس، هذه الأفكار التنويرية الأصيلة تجلت في تأليفه الصادرة في النصف الثاني من الستينيات، ولاسيما في كتاب "غابة الحق" (بيروت 1866) وكذلك في "رحلة الى باريس" (بيروت 1867) الذي صور فيه التقدم الأوربي، ودعا الى تطوير الشرق تطويرا شاملا.

وأخيرا "مشهد الأحوال" (بيروت 1870) وهو كتاب في القضايا المعاصرة له ، سلك فيه مسلكا فلسفيا اجتماعيا، وجرى فيه مجرى المقامات، عالج فيه أحوال الكون من جماد ونبات وحيوان.

كان رواد النهضة الشباب على قناعة راسخة بأن التعليم هو المحور الأساسي للرقي الاجتماعي ، ولذا حاولوا نشر المعارف والعلوم الطبيعية والتقنية في أوساطهم التي يسودها الجهل والتعصب والمعتقدات الخرافية والمفاهيم السلفية البائدة. فكانوا ينزعون في الواقع الى أبعد من ذلك بكثير: خلق ايديولوجية متماسكة الأهداف تناضل ضد النظام الجائر الاقطاعي المتخلف اجتماعيا وسياسية وثقافيا، الذي يقف وجهازه القمعي حائلا دون الوصول الى التقدم الاجتماعي واصلاح الأوضاع البائسة، فضلا عن ايجاد تحرك يهدف الى تحقيق القيم والمثل البرجوازية الطابع. وهذا يعني أنهم لم يكونوا - الى حد ما – على دراية بماهية السلاح الفكري – النظري لأيديولوجية التنوير الأوربي وحسب، بل وكان لزاما عليهم امتلاك ناصية ذلك السلاح الاقطع، أو بعبارة أخرى، يجب عليهم تحويل عوام الناس الأميين الى جمهور واع متعلم ومثقف، له وحده الحق الكامل في تقرير مصيره، جمهور يناضل في سبيل اسقاط الاستبداد السياسي والنظام الاقطاعي الزمني والديني ليفسح المجال أمام استتباب "سيادة مملكة العقل".

ولكن، اذا كان البستانيون قد نجحوا في تبوؤ الموقع القيادي داخل معركة النهضة العربية، ووصلوا في وقت قصير الى استيعاب مسألة ضرورة ترشيد الحياة السياسية والاجتماعية في النظام الاقطاعي – البيروقراطي ، فانهم ابتداء من صدور "الجنان" اتخذوا – ولم لا بدفع من منافعهم الشخصية – من الجامعة العثمانية مذهبا سياسيا يقتدون به في نشاطهم اللاحق. خلاصة القول: ان تدني مستوى النضوج السياسي لدى البساتنة لم يسمح ولن يسمح لهم في بداية السبعينيات، من طرح شعار القضاء على النظام المذكور بالانقلاب أو الثورة، اذا دعت الضرورة لذلك. وبعبارة أخرى، لم تكن النهضة العربية تمتلك بعد أيدلوجية بورجوازية تنويرية ذات مذهب سياسي – اجتماعي راديكالي، فقد ظلت اسيرة الفكر التنويري الأوربي، ولاسيما الفرنسي في مرحلتها المبكرة، وواصلت الدوران حي حلقة مفرغة من توجيه الانتقاد الى الواقع الاقطاعي المتخلف في البلاد العربية الخاضعة للدولة العثمانية، فكانت المهام الملحة المطروحة على الساحة تتلخص في مقولة نشر التعليم بين الناس بوصفه السبيل الوحيد لتقريب هذه الأقطار شيئا فشيئا من مستوى الواقع البرجوازي الأوربي.

فكان مراش أول منور عربي جعل من التنوير نظاما متكاملا وشاملا له مثله وقيمه العليا التي يصبو اليها، وهذه نقلة نوعية لا سابق لها في تاريخ النهضة الحديثة. ونخص بالذكر هنا مقولته بجواز الثورة (اذا اقتضت الضرورة) سبيلا لتحقيق الأهداف الجذرية لارامية لاصلاح وترشيد الحياة السياسية – الاجتماعية، وقد تجلى الفكر التنويري لفرنسيس مراش من خلال كتابه "غاية الحق" الذي يستحق وقفة قصيرة.

لب الموضوع في الكتاب البليغ الدلالة: أن "مملكة الحرية" تشهر الحرب ضد "مملكة العبودية" ، ينتصر الجيسش بقيادة الوزيد "حب السلام" المسلح "بالنور والمعرفة" ، ثم يمثل "ملك العبودية" أمام القضاء، ويرأس المحكمة "ملك الحرية" ، أما القاضي فهو "فيلسوف". وفي سياق نظر القضية يعرض الكاتب أفكاره الاجتماعية عن سبل اصلاح المجتمع.

حاول مراش تقديم تأويل فلسفي لمفهوم "الحرية" متأثرا بأفكار المنورين الفرنسيين (روسو أساسا) ، وانطلاقا من "قانون الضرورة" أحد القوانين الأساسية في الطبيعة. فالطبيعة تتطور وفقا لقوانينها الثابتة، ولهذا يبقى كل شئ حرا في حالته الطبيعية لأنه متماش مع هذه القوانين، وخاصة قانون الضرورة الذي يبرر وجود الأشياء والظواهر. وبتعبير آخر، لا يمكن نيل الحرية في المجتمع الانساني الا بعد تحطيم كل القيود التي لا يمليها قانون الضرورة. والتي تعرقل مسيرة التقدم. يقول مراش: "لقد توصلنا الى استنتاج مفاده أن الحرية المطلقة لا يمكن ادراكها، وأن كل شيء يوجد في حالة تبعية متبادلة، فيحد كل منهما حرية الآخر في ذات القوت. ولكن عندما لا يقدم مثل هذا التحديد أي نفع أو يعرقل توطيد واستمرارية نظام سليم، فانه يصبح من الواجب، بل والضروري إزالته". نستنتج من ذلك ان كل استبداد او استبعاد مناف لقوانين الطبيعة والعقل، وبالتالي يجب محاربتهما من أجل الوصول الى المجتمع الفاضل. والوصول الى المجتمع الفاضل يبرر طريق الثورة "فالعالم ملئ برائحة البارود المستخدم في سبيل الحرية". ولهذا السبب نرى مراش يحيي الحرب الأهلية في أمريكة الشماية.

ونظام الدولة المثلى في نظر مراش هو الملكية الدستورية المستنيرة التقدمية القائم على المحبة الشاملة. اذ يسود مبدأ مساواة الناس أمام القانون والاسترشاد بمبدأ "المنفعة العامة"، الذي يتجلى في قانون الضرورة الموجود في الطبيعة. ويعتقد مراش أن الأهم في سياسة الدولة يتجسد في "سريان القوانين بدرجة واحدة على جميع المواطنين دون أدنى تمييز بينهم . .. اذ ينبغي التعامل مع الجميع بشكل مكافئ كي لا ينتهك حرمة القانون. واذا كان الزعماء البارزون والناس الميسورون قوة موحدة، فالصغار والفقراء موجهون لهذه القوة، اذ لولا هذا الإنسان الصغير لعجز الكبير عن فعل أي شيء، ولولا كدح الفقراء لما تمتع الأغنياء بالخيرات، ولما صان أحد ثروتهم، ولما شيد أحد قصورهم العامرة .. وينادي مراش بتوفير الحقوق المتساوية لكل من يعمل ويكد، ويعارض بقوة أي تعسف أو اجحاف بحق الفلاح، ولعل فرنسيس مراش أول منور عربي طرح مسألة المساواة على صعيد يكاد يكون اجتماعيا، فها هو ذا يتساءل: "لماذا يتمتع الأغنياء وحدهم بحق التصويت في المجالس السياسية، بينما بقية الناس الذين يشكلون الجزء الأكبر من الشعب يحرمون من هذا الحق، علما بأن جبروت الدولة وقوة الملك ومحور السياسة كلها يتوقف عليهم بالتحديد".

يصور مراش النظام السياسي – الاجتماعي المثالي القائم على مبدأين رئيسين: أولا – المساواة بين جميع المواطنين الذين يجب عليهم الاسترشاد بمبدأ المنفعة العامة واعطائه الأفضلية عن كل شيء آخر. ثانيا – الوصول الى النفع العام يتلخص في نشر التعليم المدرسي وتطوير التجارة الحرة، وتقدم الصناعة وتحسين أحوال الكادحين وتأمين رفاهيتهم ، وتحسين الزراعة باتخاذ موقف عادل ازاء الفلاح الكادح وتقديم العون له، وأخيرا توفير أمن الفرد والممتلكات وصون عرض الإنسان.

تعد فرنسة مثال الهيكل الاجتماعي – السياسي لفرنسيس مراش . ففي كتابه "رحلة الى باريس" ، الذي يصور فيه انطباعاته التي خرج بها من زيارته لأوربا، ويعد فرنسة دولة مثالية قائمة على الأسس التالية: 1- سياسية رشيدة، 2 – تنوير العقول، 3- تهذيب العادات والأخلاق ، 4- توفير النظام الصحي، 5- المحبة وهي "لاهوت الهيكل الاجتماعي". وتتميز مذكرات مراش عن رحلته الى باريس بالتأملات الفلسفية الاجتماعية، فهو كاتب مبادئ وتفكير، وأغرم بالحرية فدعا اليها ورعاها بكل شوق، فكان بذلك من كبار كهنتها، ولا غرو بعد ذلك في أن يكون مراش على أشد الاعجاب بفرنسة وعاصمتها باريس ، كان مأخوذا برقي النظام التعليمي وتقدم العلوم وسيادة العقل والحكمة والحرية في جميع ميادين الحياة. كتب مراش يقول: "يالله كم تقر عين الانسان وتمتلئ لمعانا وبريقا عندما يترنو الى الامة الفرنسية. فتراها في كل جزئياتها كيانا واحدا لا يعتريه أي تصادم بين الأجزاء المكونة له. فلا تجزئة ولا تفقرة داخل الكيان الواحد الموحد كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضا. طوبى للعيون الرانية الى هذه الأمة الغارقة في بحر الأمان والسلام والوئام، فلا وجود لأي خطر خارجي ترهبه، ولا وجود لأي تآمر داخلي تخشاه، طوبى للعيون التي ترى الشعب الفرنسي ينعم بخيرات بلاده دون أي خوف من جاره الجشع أو المتعطش للدماء.... الشعب الذي يختال في دروب الحرية، وينام قرير العين دون أن يهاب سيف الجلادين سفاكي الدماء، أو خطر وقوع التمرد والعصيان، يعيش حرا في يقينياته الإلهية ومعتقداته الزمنية فلا يخشى التعرض لعقوبة القوانين الجائرة... لهذه الأسباب مجتمعة، نرى هذه البلاد وهي تستقطب أنظار الدنيا. فهي تقدس الممتلكات الشرعية، وتكفل الأمن الكامل، وتكرس الحرية المطلقة".

لقد اتخذ المنور العربي فرنسيس مراش من فرنسة منهلا لأفكاره المثالية، فحاز على قصب السباق بالنسبة للبستانيين ان على صعيد فكره المتناسق المتكامل. أم على صعيد الفكر التقدمي الطليعي، فأصبح نبراسا يهتدي بنوره مفكرو العرب في العصر الحديث، ولاسيما أعضاء "جمعية زهرة الآداب"، فمراش الذي عاد الى بيروت ابان نشوء الجمعية، كان جديرا بتبوؤ مركز القائد الرائد بفضل مؤلفاته الجليلة، ولأنه صاحب مدرسة ومذهب، فضلا عن أن عمره يؤهله ليكون شيخ الشباب، اذ ذاك. كان قد أكمل السابعة والثلاثين من عمره القصير، فيما لم يكن أديب اسحاق "العضو الأهم في الجميعة التي استلم رئاستها بعد عام واحد قد أكمل ربيعه السابع عشر". واذان، كم وكم ومن المعارف والخبرات وجب على أديب ورفاقه أن يتعلموها ويستوعبوها من فرنسيس مراش.

من الجلي أن أفكار مراش عن النظام السياسي ما كان بامكانها – رغم محتواها التقدمي الظاهر – أن تنسحب على النظام السياسية في الدولة العثمانية، أو تعالج قضية النظام السياسي القائم في سورية آنذاك. فاذا كان رواد النهضة الراديكاليون قادرين في ظروف الاستبداد الشاهاني على التعبير عن مشاريعهم وطروحهم الفكرية – الثقافية البحتة في اطار جمعية شرعية "كزهرة الآداب" أو على صفحات جريدة مرخصة "كالتقدم"، فان أفكارهم السياسية والاجتماعية الناضجة، وتطلعاتهم السياسية – القومية الطموحة وجدت متنفسا لها من خلال النشاط السري والاحاديث والاجتماعات التي كانت تدور في السر والخفاء، أو عبر القصائد الحماسية القومية التي كانت تتردد على ألسنة الناس، أو عن طريق توزيع المناشير والاعلانات والبيانات.

كان أديب اسحاق محور النشاط العلني في جمعية زهرة الآداب، ومحرك العمل السري الذي اضطلع به الرواد الراديكاليون التقدميون في غضون السنوات 1874-1876. وما يؤسف له حقا ان كتاب "الدرر" الذي صدر بعد وفاة أديب، وكذلك الكتاب الذي جمعه ونشره ناجي علوش – أديب اسحاق: الكتابات السياسية والاجتماعية" تضمنا أربع نبذ لأديب تتعلق بالفترة موضوع البحث، وهي لا تقدم جديدا في هذا المجال، ولذا فاننا سنعالج بالتفصيل نشاطه السياسي في الفصل القادم.


الموسوعات العربية

وانصافا منا للتاريخ، وليس أبدا من موقع الفخر والاعتزاز بالأصل الأرمني لأديب اسحاق نقول انه كان أول من فكر بانشاء أدب عربي ذي طابع موسوعي، وان لم يكن على نمط الموسوعات الأوربية، فكان حقا أول من سار على هذا الدرب الوعر يوم قام بترجمة كتب موسوعية عن الفرنسية نحم: "معجم المعاصرين" و" العادات والتقاليد" وأخرى في "الصحة".

فيما يخص مسألة الأسبقية في ميدان تأليف دائرة معارف عربية ، ننبه الى أن المؤرخ والجغرافي الشهير سليم شحادة (1848-1907) المتضلع في اللغات الفرنسية والانكليزية والروسية كان قد سبق المعلم بطرس البستاني الذي يعد "أبا الموسوعة العربية الحديثة" بسنتين، حين باشر في تأليف موسوعة "آثار الأدهار" في اطار "جمعية زهرة الآداب". وقد شاركه في اعدادها كل من أديب اسحاق وسليم جبرائيل الخوري (1834-1875) وهي موسوعة مفقودة لم يهتد ناجي علوش الى أي من أجزائها في جميع المكتبات العربية والعالمية. ولكن "معجم المطبوعات العربية والمعربة" لسركيس يؤكد ذلك بقوله: "كتاب أثار الأدهار أول معلمة (موسوعة) تاريخية وجغرافية في اللغة العربية" . وعن هذا الموضوع قال فيليب الطرزي مفصلا: "صدر الجزء الأول من كتاب آثار الأدهار سنة 1875 وهو أول معجم من نوعه في لسان العرب وسائر الألسنة الشرقية. وقد اقتدى به المعلم بطرس البستاني في كتابه "دائرة المعارف الشهيرة".

كان الهدف الاساسي من معجم "آثار الأدهار" المزج التركيبي بين مواد دوائر المعارف الأوربية والأخبار الواردة في بطون المصادر العربية لما تزل يومئذ مخطوطة في معظمها. ومن ثم اعداد موسوعة علمية عربية. طبع الجزء الأول من القسم التاريخي سنة 1874 في 387 صفحة. والجزء الأول من القسم الجغرافي سنة 1875 في 192 صفحة. وفي ترجمته لسليم شحاده رأى فيليب الطرزي من واجبه التنبيه الى "أن أديب اسحاق الكاتب الشهير ساعدهما في بعض أبوابه"ز وبعد أن هصرت المنية سليم الخوري، وغادر أديب اسحاق بيروت، بقى سليم شحادة مثابرا وحده على العمل، فنشر الأجزاء الخمسة من القسم التاريخي (الى كلمة "ابن القطار") حتى سنة 1877 (وصفحاتها بلغت 980 من القطع الكبير في عمودين وأجزاء من القسم الجغرافي إلى كلمة "بلج" بلغت صفحاته 788). ولما رأى أن بضاعة العلم كاسدة انقطع عنه "على حد تعبير سركيس". وبعد سنوات عدة فسر سليم شحادة في حديث له مع كريمسكي أسباب انقطاعه عن هذا الجهد العلمي العظيم بالمصاعب المالية التي اعترضته. وهذا تأويل غير مقنع البتة، ولاسيما أن شحادة تولى الترجمة ومنصب ادارة الأعمال زهاء عشرين عاما في القنصلية الروسية وكانت أوضاعه المالية حسنة. وأكثر من ذلك، فقد ذكر الطرزي أن السلطان عبد العزيز كافأهما على الجزء الأول من القسم الجغرافي بمئتين وخمسين ليرة عثمانية.

أضف الى ذلك أن أجزاء معجم "آثار الأدهار" كانت قد نزلت الميدان الأدبي عام 1876، حين باشر المعلم بطرس البستاني بمساعدة كريميه سليم ونجيب، وشاكر شقير (1850-1896) العمل في اعداد معجم موسوعي من طراز "لاروس" الفرنسية، وعرف ب"دائرة المعارف" التي لاقت قبولا عظيما لدى الناس، ولما توفي وأتم ابنه اسحاق المجلد السابع ووضع الثامن، وتفرغ نجيب بمساعدة أخوية أمين ونسيب وابن عمهم سليمان لاصدار المجلد التاسع. وشارك سليمان البستاني، العلامة اللبناني ورجل السياسي والعلم والأدب – في اعداد الجزأين العاشر والحادي عشر من دائرة المعارف البستاني، التي ظلت – وا آسفاه – غير مكتملة.

تجدر الاشارة هنا الى أن شاكر شقير المولود في الشويفات كان من نوابغ حملة القلم، الذي أحكم معرفة اللغتين الفرنسية واليونانية،درس في العديد من المدارس ومنها "المدرسة الوطنية" البستانية. استغل في تأليف "دائرة المعارف" عشر سنين متوالية، فكان الساعد الأيمن للمعلم بطرس البستاني، فأنشأ لها الفصول المفيدة ونشر على صفحاتها كثيرا من المواد التي كان يترجمها عن الموسوعات الأوربية، فضلا عن القيام بحرير وتهذيب عبارة جميع المواد الواردة اليه، لأنه كان حجة في معرفة لغة العرب وأحوالهم وتواريتخهم وعلومهم. كما كان من نوابغ شعراء عصره، ترك لنا ديوان "المحبوكات" أي من الشعر المحبوك الطرفين جريا على طريقة لاصفي الحلي في "أرتقياته" وسماها "الذهب الإبريز في مدح السلطان عبد العزيز". وترك تاليف كثيرة تشهد بطول باعه في المعارف وتفننه بالكتابة ، وألف وعرب روايات كثيرة، منها تمثيليها وقصيية تاريخية لا ينقص عددها عن الثلاثين .

ومهما يكن من أمر، فان دائرتي المعارف العربيتين، ولا نتمالك أنفسنا هنا عن ابداء الأسى لعدم انجاز هذين الأثرين العظيمين، بل قل الكنزين النفيسين- شهادة قاطعة ساطعة ليس فقط للتدليل على سعة الأفق المعرفي – العلمي والثقافة العالية التي تمتع بها رواد النهضة الحديثة. بل ولاثبات الحجة البالغة على نمو ونضوج الوعي القومي الذاتي لدى الرواد العرب النصارى. وللعلم نقول ان الموسوعتين كانتا من أعظم المشروعات الثقافية التي اضطلع بها رواد النهضة في بيروت، ولكنهما الأخيرتان فالعهد الحميدي على الأبواب.


مجلة المقتطف

لعل مجلة "المقتطف" من أبرز الظواهر الثقافية الأخيرة في بيروت، فقد أنشأها الدكتور يعقوب صروف مع رفيقه الدكتور فارس نمر في غرة حزيران (يونيو) 1876، وهما بعد في المدرسة الكلية. وهي مجلة شهرية علمية صناعية زراعية، كانت تشمل أولا على 24 صفحة حتى بلغ عدد صفحاتها 124 بحرف دقيق. فكانت "شيخ المجلات العربية" لأنها بلغت عمرا طويلا لم يبلغه سواها على الاطلاق. وقد أصاب الطرزي كبد الحقيقة حين قال: ان المقتطف هو العمل الاعظم والتأليف الأكبر الذي وقف له العمر كل من صروف ونمر".

ونحن نعارض رأي المستشرق السوفيتي كوتولوف الذي جزم بأن صروف ونمر "كانا من ذوي الأفكار والميول الأوربية" ، وأنهما كانا "ينتميان اجتماعيا الى طبقة الكومبرادور" قبل اصدار مجلة "المقتطف".

فقد ولد فارس نمر في حاصبيا في أسرة من الروم الأرثوذكس التي تمذهبت بالبروتستانتية. كان والده قد قتل ابان المذابع المروعة في لبنان والمعروفة اختصارا ب"سنة الستين" فحملته امه مع أخيه وأخته الى بيروت. وفي أواخر سنة 1863 ذهبت به والدته الى القدس، وأدخل هناك المدرسة الانكليزية حيث تعلم الانكليزية والألمانية ومبادئ التاريخ والأدب والحساب. ظهرت عليه علامات النجابة فأرسلوه الى مدرسة المرسلين الأمريكان في عبية وفياه تلقى علوم اللغة والأدب. ولما عاد الى بيروت دخل "المدرسة الكلية السورية" الإنجيلية واضطر الى العمل طلبا للرزق في مدرسة البنات الروسية العليا. وصرف ما توفر له من وقت العمل في "النشرة الأسبوعية" وفي عام 1874 نال البكالوريا وبقي معلما في المدرسة الكلية لعلمي الجبر والهندسة . ألف وترجم – برفقة الدكتور صروف غالبا – العديد من الكتب العلمية.

أما الدكتور يعقوب صروف فهو من مواليد الحدث، نال سنة 1870 شهادة بكالوريوس العلوم من "المدرسة الكلية السورية". عمل مدرسا في المدارس التبشيرية بصيدا وطرابلس وبعدها في الكلية السورية، حيث برز في الطب والكيمياء وغيرها من العلوم التي لم تكن تدرس قبلا.

والشاعر ابراهيم اليازجي أيضا من "الكومبرادور"، شكل هو وأخوه خليل اليازجي، النواة الصالحة التي قامت عليها مجلة "المقتطف". وقد صدق بهما قول جرجي زيدان "لقد وضع الأخوان العربية من الأم، وتنفساها من الأب نصايف اليازجي". وقف الأخوان حياتهما على خدمة اللغة العربية وسائر العلوم التقنية والعقلية ونهضتها الأدبية الثقافية الحديثة، فضلا عن نشاطهما السياسي الوطني البارز. كان الشاعر ابراهيم اليازجي العلامة المتبحر في اللغات الأجنبية والسامية وعلم المقارنة يوقع المقالات اللغوية البليغة. فكان موئل اللغة الحصين وامام الانشاء في عصره. شارك في ترجمة الأسفار المقدسة (عن اليسوعيين) وهي أصح سائر الترجمات العربية عبارة وأضبط تركيبا. كان موسوعيا في معارفه وعلومه وكان يلذه منها الفلك والفلسفة الطبيعية، صاحب العديد من المخترعات، نشر مؤلفات عدة في الكيمياء والطب والفلك وغيرها من العلوم. وانتخب عضوا في العديد من الجمعيات الفلكية الأوربية، ونال الكثير من الأوسمة والميداليات .

كان خليل اليازجي من أولئك المثقفين البارزين المختصين بالرياضيات والعلوم الطبيعية في الكلية السورية الإنجيلية، وقف نفسه على خدمة الأدب، ولكنه استغنى عن الشعر التقليدي وأكثر من نظم الروايات الشعرية والتواريخ، بيد أنه كان أحيانا يضحي بالحدث التاريخي في سبيل فكرة أساسية سامية كالتماثل والتكافؤ بين العرب مسلمين ونصارى، وابراز الخطوط العامة لتواعد الأخلاق عند العرب، بصرف النظر عن الفوارق الدينية والاختلافات المذهبية. ويميل جرجي زيدان الى الاعتقاد بأن رواية "المروءة والوفاء" للشيخ خليل اليازجي هي الرواية الشعرية الوحيدة في اللغة العربية، كان قد فرغ منها سنة 1876، ومثلت انشاء سنة 1878 في بيروت، وفي هذا الصدد يقول: "وتأليفها خطوة مهمة في التمثيل العربي لأنها على مثال ما يفعله كبار الكتاب في أوربا من تأليف الروايات الشعرية التمثيلية".

لاقت مجلة "المقتطف" ترحيبا كبيرا، ونالت شهرة طبقت الآفاق عصرئذ. وفضلا عن المقالات التي يكتبها صاحباها العلامتان، فان المجلة كانت مشحونة بفصول كثيرة لأفضال حملة الأقلام في الشرق من جهابذة اللغة والشعر والتاريخ والصحافة والأدباء والعلماء والأطباء والصيادلة. كما كانت المقتطف ميدانا تتبارى فيه أقلام الكتاب من كل البلدان العربية. فكانت حقا من أعظم وأهم المشاريع الثقافية في مضمار التنوير العربي وكانت مجلة من المستوى الراقي الرفيع لا يقل شأنا عن أفضل الدوريات الأوربية – على حد قول كريمسكي . ومن هنا ينبغي علينا تقدير الدور العظيم، الذي اضطلعت به المقتطف في مجال الترويج للنظريات والأفكار العلمية التقدمية، وفي طليعتها مذهب داروين في النشوء والارتقاء والبرهنة على أنه لا يتناقض مع الأديان والكتب المقدسة. وكانت تحارب الفكر الرجعي والرجعية التي حاولت عرقلة تطور وتقدم الفكر الاجتماعي من موقع الدفاع عن الفكر العلماني – التنويري. ونخص بالذكر المناظرات العلمية الشهيرة بينها وبين "البشير" البيروتية لسان حال اليسوعيين. ومع الأوساط المتحالفة مع نظام القهر التركي التي لم يعد بالامكان – في ظروف الاستبداد – دعوتها للبراز في الميدان السياسي – الاجتماعي.

وأخيرا وليس آخرا يجب تقييم "المقتطف" كمركز جذب واستقطاب للقوى النهضوية المبعثرة في الظروف الجديدة، نتج نتج عنه تحرك تنويري عظيم الشأن تجلى في انشاء المجمع العلمي الشرقي سنة 1882 للبحث في العلم والصناعة لما يعود بالخير على البلاد. وقد شارك في تأسيسه طائفة من علماء العلم وسدنته في ذلك العهد. وكان دور المقتطف في ذلك عظيما جدا لدرجة دفعت الظرزي الى الاعقتاد خطأ أن يعقوب صروف تولى رئاسة المجمع العلمي الشرقي. بينما تولاها في الواقع الدكتور فانديك الكبير، والدكتور يوحنا ورتبات. ولو أمعنا النظر في لائحة اعضاء المجمع تبين لنع بوضوح أنها تضم ممثلي التيارات النهضوية الثلاثة التي أطلقنا عليها اصطلاحا التيار التبشيري العلمي "اليميني" بقيادة الدكتور يوحنا ورتبات، والتيار الوسط (البساتنة بزعامة العلامة بطرس البستاني ونسيبه سليمان البستاني). والتيار الراديكالي – اليساري (أنصار أديب اسحاق وأتباع المقتطع). نخلص من ذلك الى استنتاج مفاده أن المناخ السياسي الذي ساد بعد توطد مواقع النظام الحميدي، وضع النهضة العربية أمام انعطاف مهم وخطير جدا، أدى الى صب المهام الفكرية – الثقافية والقومية – السياسي في قنوات خاصة.










5- الأوضاع السياسية والفكرية في الولايات العربية التابعة للامبراطورية العثمانية

انصافا منا للحقيقة التاريخية فيما يخص مسألة المد والجزر الذي طرأ على مسار تجذير حركة النهضة الحديثة وتعميق التنوير العربي في أوساط المفكرين والمثقفين في بيروت، نرى لزاما علينا القاء نظرة فاصحة على الواقع العثماني.

ففي ظروف احتدام الأزمة العامة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، ولاسيما الأوضاع الخطيرة في البلدان البلقانية، تم اعلان الدستور العثماني الذي تزامن مع افتتاح المؤتمر الدولي في الأستانة بتاريخ 23 كانون الأول (ديسمبر) 1876. ان هذا الدستور الذي أعده الصدر الأعظم مدحت باشا وأجرى عليه السلطان عبد الحميد بعض التعديلات، كان في حقيقة الأمر مناورة دبلوماسية. فمدحت باشا العدو اللدود لحركات تحرر الشعوب غير التركية المستعبدة المضطهدة، السياسي الموالي للانكليز الذي وصل سريعا الى منصب الصدارة العظمى نتيجة لدسائسه الماكرة ومظالمه الدامية كان يهدف من وراء ذلك لجم الحركات التحررية – الوطنية فضلا عن الوقوف بوجه تدخل الدول الكبرى في شؤون الامبراطورية العثمانية.

لقد اعترف الدستور بجميع الرعايا كمواطنين عثمانيين بغض النظر عن لغاتهم ودياناتهم، يتمتعون بحقوق وواجبات متساوية أمام القانون، ونص على ضمان حرمة الشخص والأموال المنقولة وغير المنقولة والسكن، وتنظيم الضرائب في حدود العدل والشرعية، واستقلالية المحاكم، وحرية الصحافة، والتعليم الابتدائي الإلزامي. وقرر اللغة التركية لغة الدولة الرسمية، والاسلام هو دين الدولة، وضمن لكل مواطن يتقن التركية تولي أي منصب حكومي. كما نص الدستور على تشكيل برلمان مؤلف من مجلس للشيوخ يعينه السلطان، ومجلس للنواب يتم انتخاب أعضائه. وأقر الدستور وحدة أراضي الدولة العثمانية، وأعلن أن سلطة الخليفة "السلطان" مطلقة عليا.

بيد أن هذا الدستور المعتدل جدا واللاديمقراطي في جوهره، لم يكن سوى محاولة يائسة لانقاذ الأوضاع العثمانية وظل حبرا على ورق. ففي 5 شباط (فبراير) 1877 وبأمر من السلطان غادر "أبو الدستور التركي" مدحت باشا، ثم اغتيل بأمر من السلطان أيضا في سنة 1883، وتم تشكيل مجلس المبعوثين الهزيل ليس من النواب المنتخبين، بل من حكام الولايات والباشاوات والأعيان والوجهاء الذين اعتادوا ترديد عبارة "عفوك أيها السلطان". وبعد ثلاثة أشهر من العمل الصوري (من 19/2 إلى 28/7 1877) حل السلطان عبد الحميد البرلمان، ولم يعمر البرلمان الثاني طويلا أيضا (من 13/12/1877 إلى 14/2/1878). وتجدر الاشارة إلى أن عرب سورية والموصل كان لهم وحدهم حق التمثيل في مجلس المبعوثين، اذ تم التغاضي كلية عن عرب جنوبي العراق والجزيرة العربية، وبعد تعطيل البرلمان الى أجب غير مسمى، تم اعتقال أو ابعاد كل مبعوث خولت له نفسه مثقال ذرة من النقد الى الحكومة الشاهانية. ومن الجي أن النواب الآتية أسماؤهم كانوا في طليعة المعارضين الذين تعرضوا للسجن والنفي: حسن بيهم ونقولا نقاش وخليل غان (عن بيروت)، ونافع الجباري (عن حلب)، ونوفل نوفل (عن طرابلس)، وغيرها من المبعوثين العرب. ومن سخريات القدر أن الدستور لم يلغ رسميا بعد تعطيل البرلمان، لا بل وان تعيين الشيوخ استمر لعدة سنوات أخر.

ومن نافل القول أن تبدد الأوهام بشأن الآمال المعلقة على ذلك الدستور المبتور، ترك آثارا سلبية على الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية لدى العرب، فكانت ردود الفعل الغاضبة أشد وقعا في نفوس الناس ازاء الرقابة الصارمة المفروضة على النشاط الصحفي.

فما ان تسلم السلطان عبد الحميد عرش السلطنة حتى أصدر أوامره الى الصدر الأعظم "بكبح جماح الصحافة". وهكذا، تعرضت الصحف السياسية سنة 1878 والجرائد والمجلات الأدبية العلمية سنة 1882 – الى رقابة مشددة. كما شكل ما عرف ب"لجنة الرقابة والتحقيق" التي ضمت جيشا لجبا من المراقبين والمحققين التي خضعت مستقبلا لكل من لجنتي "مراقبة الكتاب" و"هيئة تحقيق كتب الدين والشريعة" التابعتين لمراقبة السلطان المباشرة. وفي 24 آذار (مارس) 1888 صدر قانون المطبوعات الجديد (المعدل لاحقا في السنوات التالية: 1894-1899-1900)، الذي فرض رقابة فولاذية وعقوبات لا تحصى ولا تعد بحق المخالفين، كما أصدر أوامر مشددة بمنع اغلاق أبواب المطابع من الداخل وحرم اشناء مطابع في أبنية ذات أبواب ونوافذ في الجهة الخلفية.

وقد أعدت الجهات الرسمية قوائم بالكتب الممنوعة من النشر، ونظمت لوائح بالأسماء والكلمات المحظوة الاستعمال، ووزعتها في طول البلاد وعرضها. وكان "النظام الداخلي" غير الرسمي للمطابع، يفرض على جميع أصحاب ومحرري الجرائد والمجلات "اعطاء الأولوية الى الأخبار المختصة بالحضرة الشاهانية، والأعياد والمراسيم والاحتفالات، وأنباء الموسم الجيدة ونمو واضطراد الزراعة والتجارة والصناعة في شتى أرجاء الامبراطورية. ويحرم نشر مقالاات أدبية علمية طويلة النفس التي يجب أن تنحصر في عدد واحدا حتما، أي تحاشي عبارات "البقية في العدد القادم" أو "للمقالة بقية" وما شابه ذلك. ويحظر كذلك، استعمال "النقاط المتعددة" والفراغ الأبيض في سياق المقالة، لأن تنضيدا كهذا يثير الريبة والشكوك ويحرم القانون التعرض للقضايا الشخصية، "فاذا قيل لكم ان هذا أو ذاك الوالي مطعون بالرشوة أو النهب أو بغيرها من الأفعال الشنيعة، فقولوا لهم ان أمثال هذه الأقاويل لا يمكن التحقق من صحتها، ولذا لا يحق نشرها اطلاقا. ويمنع منعا باتا نشر أي التماس أو احتجاج موجه للحضرة السلطانية من قبل الأفراد أو ممثلي الطوائف الأخرى ضد أرباب السلطة المحلية. الى ذلك كله يمنع النظام الداخلي ذكر بعض الأسماء الجغرافية والتاريخية، والأخبار المتعلقة باغتياللات ملوك ورؤساء الدول الأجنبية، وأنباء الانتفاضات والتمردات الحادثة هناك، لأن شعبنا العثماني الآمن والمؤمن عليه لا يهمه الاطلاع عليها، ولاسيما ان ذلك يثير في بعض الخواطر الفاسدة الميل الى النقد والاعتراض".

والشهادة التي أدلى بها المفكر محمد كرد علي عن ذلك العصر تؤكد ما لا يرقى اليه الشك موثوقية أن ذلك "النظام الداخي" عثماني بحت في شكله ومضمونه: "وقد وجب على الناشر أن يكون حذرا فطنا أكثر من الجميع كي لا يغيب عن بصره أي شيء قد يمس من قريب أو بعيد الحضرة السلطانية وحاشيته والمقربين اليه، أو بادارته وسياسيته وعسكره، كي لا يرد ذكر اي كلام من نوع "حرية" "دستور" "تمثيل" "خلافة"... الخ، وكي يلا يفوته أي خبر عن اغتيال أي من الملوك على وجه الأرض. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام ان الصحفي البيروتي المحافظ جدا خليل البدوي، المحرر الأسبق في جريدتي "التبشير" و"الكنيسة الكاثوليكية" ومؤسس "الفوائد" (نشرة دينية علمية أخبارية ظهرت في 12/3/1889) تعرض لتوقيف نشرته في أوائل نيسان، لا لشيء سوى أنها قالت عن مدينة روما العظمى انها مقام "الخلافة البطرسية" بلاد من تعبير "الكرسي الرسولي". فاختلق الخصوم لهذه العبارة تأويلا سياسيا، وأوهموا السلطان عبد الحميد بأن الجريدة تروم نقل مركز الخلافة من اسطنبول الى روما، واضطر خليل البدوي للذهاب الى عاصمة السلطنة، حيث امضى سنتين ملازما عتبات كبار الموظفين الأتراك حتى أفهم أصحاب الشأن أن لقبه "البدوي" لا يدل اطلاقا على أنه من العرب الأقحاح الخلص الناقمين على الخلافة في آل عثمان. وعندئذ صدرت له الأوامر السلطانية بانشاء جريدة "الأحوال" بدلا من "الفوائد" الملغاة، وذلك في غرة تشرين الأول (اكتوبر) 1897.

في مثل هاتيك الظروف العصيبة كان مقدرا على حركة النهضة الثقافية – القومية في الأقطار العربية أن تشق طريقها الملئ بالأشواط. واذا اخذنا في الحسبان أن الصحافة السياسية الحرة كانت الأداة الفعالة والحيوية لتخليص تلك الحركة من التشيع الفئوي – النخبوي الضيق وجعلنا – قدر الامكان – حركة أكثر جماهيرية وشعبية شاملة لكل المجتمع، فإنا ندرك مدى صعوبة تخطي الحدود والقيود التي وضعها النظام الاستبدادي الحميدي أمام التحرك النهضوي التنويري الرايدكالي الحر. ولكن هناك اعتبارا أشد خطورة، فبقدر ما كان النظام الحميدي يرتكب أفظع الجرائم وأشنع المظالم في ممارساته الرامية لتحقيق سياسة الظلم الشهيرة، بقدر ما كانت نزعة الجامعة الإسلامية تزداد رسوخا كأيديولوجية رسمية سخرت في سبيلها امكانيات وقدرات الجهاز القمعي وشبكة التجسس والتحري والمباحث، وكل القوى الظلامية ذات النزعة القروسطية التجهيلية، ومن بينها أصحاب الطرائق والشعائر المحتالين الدجالين الذين لا يجمعهم أي جامعة بالتصوف الحق. والقوى الرجعية المغالية في التعصب الديني الأعمى الذي أذكى المشايخ نيرانه المحرقة في أوساط العامة والخاصة. جملة القول، كان على النشاط التنويري الذي سيضطلع به رواد النهضة بغالبيتهم المسيحية، أن يسير في دروب غير سالكة وفي ظروف عصيبة قاهرة.

ومن الواضع تمام أن يقظة الوعي الذاتي لدى العرب المسلمين كانت قد تضررت كثيرا من هذه الأوضاع، اذ تأخرت للغاية في النهوض من سبات القرون الوسطى. وليست مصادفة محضة أن مدحت باشا كان قد شدد في مذكراته على أن "الأوضاع المزرية في سورية ازدادت تفاقما وحدة بسبب عدم كفاءة الموظفين الأتراك في النظام الادارية – القضائي، ونتيجة الجهل المطبق السائد في أوساط السكان المسلمين". وقد لفت الباشا الأنظار الى أن الوضع التعليمي التربوي بين المسلمين يمثل صورة معكوسة لما هو عليه في الأوساط المسيحية ، وذلك بفضل المدارس الراقية التي أسسها المبشرون الأجانب.


الموقع من مدحت باشا

ثمة خطأ شائع في الادبيات الاستشراقية حول الدور الذي لعبه مدحت باشا خلال ولايته على سورية (من كانون الأول (ديسمبر) 1878 إلى آب (أغسطس) 1880) في مجال انعاش الحياة الاجتماعية - السياسية داخل الأوساط الاسلامية خاصة، وغير الاسلامية عامة، ولاسيما ما يخص مسألة نشر الروح الدستورية وتأصيل الحركة القومية الداعية سرا لاستقلال سورية. فخلافا للرأي الشائع في الأدبيات ان كتاب "سر مملكة" لسليم سركيس كان السبب الرئيسي لهذا الخطأ، كأن المؤلف نفسه في الواقع ضحية الشائعات والاتهامات التي روجتها حاشية السلطان لتصفية الحساب مع مدحت باشا. وقد أصاب أنطونيوس عين الحقيقة حين شكك في مصداقية الرواية الشائعة المتعلقة بدعم الباشا لأعضاء جمعية بيروت السرية بيد أن الكاتب العرب (أمثال: عبد اللطيف الطيباوي وأحمد أمين وغيرهم) بالغوا كثيرا في تقدير دور مدحت باشا في التحولات السياسية – الاجتماعية التي شهدتها سورية خلال النصف الثاني من السبعينيات، اذ عدوها نتيجة طبيعية للتدابير الاصلاحية التي اتخذها الباشا، ناهيم بأنهم رأوا في نشاطه السياسي توجها معاديا للعثمانية (كذا). وقد أدى الافراط ببعض المستشقرين السوفيين (يوسفوف مثلا) الى القول: "لقد شاع جو من الابداع الحر في ميدان الأدب على عهد مدحت باشا في سورية ولبنان، أعطى فرصة ذهبية لمعارضي النظام للاعراب عن آرائهم وأفكارهم".

وقد أكد كوتلوف – وهو على حق تماما – ان موقفا كهذا "يمثل تحديثا مفتعلا للوقائع التاريخية ولمواقف مدحت باشا نفسه "لأن نشاط الباشا كان موجها في الأساس" لتوطيد أركان الامبراطورية العثمانية، والحفاظ على سيطرة الأتراك وهينتهم على الشعوب غير التركية، ومن ضمنها العرب بالذات". أما الاختصاصي في التاريخ العثماني فادييف فقد قال: "كان الهدف الأساسي للاصلاحات التي أجراها مدحت باشا متركزا في انجاز السيطرة التركية على سورية. ان التدابير العمرانية، ومحاربة استغلال الموظفين الأتراك لمناصبهم، وترشيد النظام القضائي في الولاية وغيرها من الاجراءات التي قام بها الباشا التركي، لم تكن سوى عملية تجميل لترغيب الشعب السوري في الحكم التركي القبيح".

على الرغم من معارضته لمواقف بعض الكتاب العرب الذين زخرفوا وزينوا دور مدحت باشا، فان كوتلوف عينه بالغ في تقديره باعتباره "أبا الدستور التركي الذي خاض آخر معركة في سبيل أفكاره السياسية" على الأرض السورية، ولاسيما من منظور "تشجيعه للنشاط التنويري الذي قام به الرواد المسيحيون، أو بالأحرى بعث الميول الدستورية لدى المسلمين العرب". وأكثر من ذلك، فان كوتلوف حذا حذو عبد الرحمن الرافعي حين عد تأسيس جريدة "دمشق" غير الرسمية احدى مبادرات مدحت باشا.


جريدة دمشق

والحقيقة أن دمشق شهدت يومئذ ظاهرة فريدة في شهر آب (أغسطس) 1878 (أي قبل ولاية مدحت باشا) وهي تأسيس ثاني جريدة (كانت الأولى جريدة "سورية" الرسمية) في المدينة، ولكن هي أول جريدة خاصة باللغتين العربية والتركية. أنشأها أحمد عزت باشا وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وهو بكر أنجال محيي الدين هولو باشا، الذي أحرز رتبة "بيار بيك" لأنه استترك متخليا عن أصله العربي. وبعد أن قرأ مبادئ العلوم الفقهية على أشهر جهابذة ذلك العصر الشيخ عبد الحرمن الآسنوي والشيخ أحمد الشطي والشيخ أحمد عابدين، تعلم مبادئ اللغات التركية والفرنسية والإنكليزية في مدرسة اللعازاريين، ثم انتقال الى المدرسة البطريركية في بيروت، حيث أخذ العلوم العربية العالية على الشيخ ناصيف اليازجي. وما كاد أحمد عزت باشا يعود الى دمشق حتى عهدت اليه الحكومة سنة 1873 تحرير القسمين العربي والتركي في جريدة "سورية" الرسمية، فضلا عن توليه رئاسة قلم المخابرات العثمانية والعربية أيضا.

وقد أكد المؤرخ فيليب الطرزي بكل وضوح أن أحمد باشا كان لدى تأسيس جريدة "دمشق" رئيسا لقلم المخابرات الحميدي، وليس بعد تعطيل الجريدة. كما يجزم كوتلوف بذلك. ولسنا بحاجة الى خيال مجنح كي نستنتج من هذه الشهاجدة أن مبادرة انشاء جريدة دمشق لم يكن بهدف جعلها شراعات لاستقبال رياح الميول الدستورية، بل كان في الحقيقة مشروعات معدا سلفا ليكون طعما لاصطياد أنصار مدحت باشا ومريديه عربا وأتراكا ولاسيما أنه كان قد عاد توا من منفاه في أوربا، ولما يزل خاضعا لرقابة مشددة تحصى عليه حركاته وسكناته. ولعل خير مصداق لقولنا القاء نظرة سريعة على رسم أحمد عزت باشا العابد، حيث لا يجد الناظر الى سترته مكانا شاغرا لتثبيت زر فيها، اذ علقت عليها أوسمة الشرف والمداليات الرفيعة الذهبية والفضية، والأوسمة المرصعة بالأحجار الكريمة التي "خلا رسمه منها لوفرة عددها" – على حد تعبير الطرزي. وان نسينا فلن ننسى أبدا، أنه بعد انتهاء ولاية مدحت باشا مباشرة، ترك أحمد عزت باشا الجريدة المذكورة فورا. حاثا الخطى الى قصر يلدز في العاصمة اسطنبول، حيث تقلب في مأموريات السلطنة حتى انتدبه السلطان عبد الحميد الثاني فجعله كاتبا وقرينا له. فكان مشمولا بعناية السلطان الخاصة المميزة، فأحرز من الجاه وعلو المنزلة ما لح يحرزه أحد من أبناء العرب المسلمين. وأصبح العابد من كبار المسؤولين عن نشر وترويج أفكار الجامعة الإسلامية في دنيا العرب، والمسؤول الأول عن شبكة التجسس والمخابرات التركية. وهذا ما أكدته المصادر التركية التي أفادت أن السلطان أصدر أمرا خاصا "بتطويق مدحت باشا بالعيون منذ اليوم الأول لتسلمه ولاية سورية". وعن أحمد عزت باشا قال أنطونيوس حرفيا: "كان العابد من أولئك المغامرين الذين ارتقوا دروب السلطة ونالوا الحظوة لدى السلطان عبد الحميد الثاني بفضل دسائسهم ومكائدهم. لقد توصل الى أسمى المناصب، فكان محور سياسة السلطان العربية ومحركها". ومما لا شك فيه أن هذه الحقائق التاريخية هي التي دفعت المؤرخ الطرزي الكبير الى القول: "ولكن نترك للمستقبل الحكم له أو عليه".

لهذا كله لم تكن جريدة "دمئق" تقتصر كنظيرتها الرسمية "سورية" على نشر الأخبار الجافة، بل احتوت فصولا مغرية تشير الى مآثر العرب ومفاخرهم وأمجادهم، وعن الأوضاح المأساوية في الولايات العربية عصرئذ. كما أعيد ترتيب أمورها بعد عودة مدحت باشا بحيث تتناسب وأهداف المهام الموكلة اليها، فعهد مثلا الى أسعد أفندي – مرافق مدحت باشا في المنفى – بكتابة قسمها التركي لرسوخ قدمه في قواعد اللغة العثمانية، ولتبحره في ميدان السياسة الداخلية . وقد اشتهر أسعد أفندي بهجومه مع علي سعاوي على قصر "جراغان" في 20 آثار (مايو) 1878 لانقاذ السلطان مراد الخامس من السجن ومن المشاركين في المؤامرة الدموية. وللعلم نقول أن أسعد أفندي هذا بقى محررا في الجريدة حتى رحيل مدحت باشا ، ثم صار مديرا للريجي في دمشق، ونفي في آخر أيامه الى فزان بطرابلس الغرب، حيث مات في ظروف غامضة.

أما القسم العربي من جريدة "دمشق" فقد استلم تحريره النصراني سليم بك عنحوري الذي كان يومذاك محرر مقالات مركز الولاية. وهو صحافي عمل سابقا في مصر وكان من المدافعين الأشداء عن الخديوي اسماعيل. وبعد ارتقاء الخديوي توفيق العرش، احتل مكانه واحد من أنصار الأفغاني في ادارة تحرير جريدة "مرآة الأحوال". ومن الجلي أن المقالات المشبعة بروح الدستور، التي كان يحبرها كل من أسعد أفندي وسليم عنحوير، لم تكن تروق للرجعي أحمد عارف باك ابن الملا نور الله قاضي دمشق ، الذي انضم الى صاحب الامتياز والذي نقل تحريرها الى أديب نظمي ومصطفى واصف اللذين أنشأها زهاء سنتين. فصارت تصدر بلا انتظام حتى آخر عهدها سنة 1887. وفيما يخص سليم عنحوري المبعد عن ادارة تحرير "دمشق"، فقد اشترك مع أخيه حنا عنحوري في اصدار مجلة "مرآة الأخلاق" وهي نصف شهرية ظهرت في غرة كانون الثاني (يناير) 1866 على شكل كتاب مؤلف من 24 صفحة صغيرة، بدون امتياز من الحكومة. وبعد صدور العدد الأول حجزتها الحكومة بحجة أن سليم عنحوري تحدى القرآن، ورغم أن المحكمة برأت ساحته" فقد حالت شدة المراقبة على المطبوعات دون استئناف صدورها".

ومن ذلك التاريخ حتى انقلاب "العثمانيين الجدد" لم تشهد دمشق سوى ولادة جريدة واحدة "الشام" التي أنشأها مصطفى الواصفي في 22 تموز (يوليو) 1896، ومجلة واحدة "المقتبس" التي أسسها محمد كرد علي بتاريخ 25 شباط (فبراير) 1906, رغم أن عدد المطابع كان في ازدياد مستمر بعد السبعينيات. فقد نقل حنا حداد سنة 1874 من بيروت الى دمشق المطبعة الثالثة التي كان قد أسسها سنة 1864. وكانت "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية" المؤسسة عام 1878 قد أنشأة "المطبعة الخيرية" سنة 1880. وفي العام ذاته اقتدى بها حبيب الخالدي فأسس مطبعة "نهج الثواب". وقد أسس تباعا كل من خالد خطار الحسيني مطبعة "روضة دمشق" (1893)، ومحمد هاشم الكتبي "مطبعة العالمي" (1898).

علاوة على ذلك ، كانت تعمل في دمشق بالاضافة الى "جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية" ، جمعية "رابطة المحبة" (1874) فرعا لجمعية "شمس البر" البروتستانتية في بيروت، و"الجمعية التاريخية" (1875) أسسها علماء الدين المسلمون للبحث في علم التاريخ، "جمعية الفنون الطبية" (1887) الخاصة بالأبحاث الطبية.

ولاعطاء فكرة عامة عن الأوضاع السائدة في المدن السورية الأخرى نقول: ان مدينة حمص مثلا ، لم يكن فيها أية دورية من الدوريات، ولا أية جمعية خيرية إسلامية، بينما كان المسيحيون متقدمين بالقياس الى المسلمين، اذ كان الروم الأرثوذكس قد اسسوا سنة 1892 "جمعية دفن الموتى" و"جمعية المدارسة الأرثوذكسية".


حلب الشهباء والكواكبي

كانت مدينة حلب في وضع أحسن وذلك بفضل رائد النهضة العربية والاجتماعية والوطنية، والمناضل الصنديد ضد العهد الحمنيدي الاستبدادي، ومثال العالم العامل والساعي وراء النهوض بالأمة واصلاحها وصلاحها عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902) فآل الكواكبي أسرة حلبية مشهود لها بالفضل والعلم، ونبغ منهم جماعة كبيرة من علماء الشرع ورجال الادارة ومنهم عبد الرحمن. كان أبوه أحمد الكواكبي أحد مدرسي الجامع الأموي في دمشق. تلقى علومه الابتدائية في المدرسة الكواكبية احدى مآثر جدوده. أتقن العربية والتركية وبعض الفارسية. ووقف على العلوم الرياضية والطبيعية، وتبحر في تاريخ الأدب والثقافة والأدب التنويري. كان ميالا منذ حداثته الى العمل الثقافي والنشاط الاجتماعي. دخل في خدمة الحكومة باعتبار نفسه من مواليد 1849 (وهو في الأصل سنة 1854- ومن هنا الاختلاف في تحديد تاريخ ميلاده) فتقلب في عدة مناصب علمية وادارية وحقوقية، واشتغل في تحرير جريدة "الفرات" الرسمية. ولكنه عجز عن التعبير عن أفكاره الوطنية وآرائه الاصلاحية في الجريدة الرسمية، فتنازل عن العمل فيها ليؤسس جريدته "الشهبا".

صحيفة "الشهباء" (لقب مدينة حلب – المؤلف) ثاني جريدة في المدينة تأسست حسب الطرزي – في غرة آيار (مايو) 1877، ووفقا لمحمد دكروب سنة 1878. كان صاحب امتيازها هاشم العطار وطبعت في "المطبعة العزيزية. تواقت ظهورها مع الحرب الروسية التركية فكانت تنشر أخبارها مع سائر الحوادث الداخلية والخارجية بروح انتقادية، مما دعا كامل باشا والي حلب الى تعطيلها منذ العدد الثاني. وبعد وقت قصير عاودت الظهور، فاستلم ادارة تحريرها الكواكبي وميخائل انطون صقال (1824-1885) الشاعر والفيلسوف الذائع الصيت في الأوساط المسيحية الحلبية. ولكن المحررين الجديدين بدوأ اكثر جرأة وإقداما من هاشم العطار في عين الوالي "المفطوم على عداوة الحرية" – كما يقول الكواكبي – فعلقها مرتين، وأمر بحجز المطبعة في التعطيل الثالث، وتوقفت الجريدة عن الصدور نهائيا بعد العدد الخامس عشر. ومن المعروف أن الكواكبي اشتكاه الى المحكمة الابتدائية التي برأت ساحة الجريدة، لكن كمال باشا لم يصدق طبعا على حكم البراءة.

وفي 25 تموز (يوليو) 1879 أنشأ الكواكبي بدلا من الشهباء صحيفة أسبوعية أطلق عليها اسم "الاعتدال" فكانت اسمها على مسمى، وكان نصفها مطبوعا باللغة العربية والآخر بالتركية تعميما لفوائدها بين سكان حلب الذين يغلب فيهم العنصر التركي على سواه. ومما جاء في المقالة الافتتاحية ما يلي: "على أن الاعتدال هي الشهباء من كل حيثية" وقد أخذت على عاتقها "نشر حسنات الاجراءات واعلان سيئات المأمورين وعرض احتياجات البلاد الى أولي الأمر، وكل ما يقتضيه تهذيب الأخلاق وتوسيع دائرة المعارف من أبحاث علمية وسياسية وغيرها".

والقليل الذي نعرفه عن جريدة "الاعتدال" يكفي لاعطاء صورة واضحة المعالم عن العهد الحميدي الجائر والأجواء الخانقة السائدة يومذاك. فقد تعرضت الجريدة لملاحقات ومضايقات الحكومة الدائمة، فانطفأ سراج حياتها. لأن صاحبها المشهور بحرية الضمير وحب الوطن "كان ينبه الحكومة الى مواضع الخلل بكتاباته الشائقة وارشاداته الصائبة" كما قال الطرزي.

وبعد حرماته من جريدة "الاعتدال"، تولى الكواكبي – بوصفه نقيبا للأشراف - رئاسة المحكمة الشرعية، وأصبح عضوا في محكمة التجارة لولاية حلب، فرئيسا لغرفة التجارة، ومديرا للبنك الزراعي. غير أن حبه للاصلاح وحرية القول حال دون استمراره في المناصب الحكومية الرفيعة، فاستقال عنها عام 1868. وانكب عبد الرحمن الكواكبي لجمع المادة اللازمة لنشر كتاب يعري فيه مظالم السلطات التركية، ويدافع فيه عن المظلومين والمستضعفين ضد الموظفين والولاة الأتراك. وفي العام ذاته سجن الكواكبي بتهمة ملفقة حول الاشتراك في محاولة اغتيال كامل باشا الوالي العثماني.

وانطلقت حملة جماهيرية لاطلاق سراحه، فأفرج عنه بعد أيام. وعزلت السلطات التركية الوالي كامل باشا، واضطر الوالي الجديد الى تعيين الكواكبي رئيسا لبلدية حلب. وتابع الكواكبي نضاله دفاعا عن الضعفاء من العرب والأتراك معا حتى سماه الحلبيون "أبا الضعفاء" . وفي أواخر التسعينيات اصطدم الكواكبي مجددا بالوالي التركي عارف باشا الذي اشتهر باستبداده وحبه للرشوة، والذي وجه اليه تهمة رئاسة جمعية سرية معادية للدولة والإسلام، فضلا عن الاتصال بدولة أجنبية. وسجن الكواكبي من جديد، وحوكم وحكم عليه بالاعدام. بيد أن محكمة الاستئناف في بيروت لم تأبه لخطورة شهادات الزور المتقدمة بقدر ما راعت قضية الجماهير الشعبية في حلب. ولذلك أصدرت حكما ببراءته. ولكن جواسيس السلطان كانوا على معرفة بالعلاقة الوثيقة بين الكواكبي من جهة وبين أبناء الجالية الايطالية في حلب أعضاء جمعية "ايطالية الفتاة" تلك العلاقة التي جعلت بعض الكتاب العرب يجزمون بأن الرائد العربي البارز كان عضوا في أحد محافل الكربوناري.

وبعد أن تابعت السلطات التركية التضييق عليه ، هاجر الكواكبي سرا من بيروت الى مصر سنة 1899 (أو على أبعد تقدير 1900)، ثم خرج منها سائحا فطاف جزيرة العرب وتحول الى الهند والصومال والحبشة وغيرها. وبعد عودته الى مصر عام 1902، فاجأته المنية، بعد أن كان جواسيس السلطان عبد الحميد قد دسوا له السم في فنجان القهوة. كما تؤكد المراجع العربية.

ان فرضية اغتيال عبد الرحمن الكواكبي في الثامنة والأربعين من عمره لم تولد من فراغ، فهذا ما تؤكده الحقائق التاريخية عن الاغتيالات المماثلة التي وقعت ابان العهد الحميدي (مثال اغتيال رزق الله حسون وغيره). هناك اعتبار بالغ الدلالة وهو عدم وجود أية مخطوطات للكواكبي في غرفته، الأمر الذي يدلل ولا شك على زيارة أناس غرباء لكن عملاء السلطان وجواسيسه الذين سطوا على كتاباته ومخلفاته (وهذا ما حدث ايضا مع أديب اسحاق كما أسلفنا). ولعل شخص الكواكبي كمناضل حر قولا وعملا خير برهان على صحة هذا الافتراض، اذ كان قد ألف كتبا كثيرة لم ينشر منها في حياته سوى "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" و"أم القرى" وهما دعوة جريئة الى الحرية والاصلاح. ولكن لأنهما قد نشرا في مطلع القرن العشرين ولهما علاقة مباشرة بالنهضة العربية القومية السياسية، ارتأينا تحليل الفكر الكواكبي الى كتابنا القادم.

ولكن، تبقى كلمة لابد منها وهي ان مدينة حلب بعد جرمانوس فرحات تبوأت مركزا لائقا بوصفها مسقط راس عبد الرحمن الكواكبي أبرز رواد النهضة العربية المسلمين، والراية الاسلامية الأولى في حركة التنوير العربي، وبوصفها مسرحا لنشاطه فكان فيها قطبا عظيما من أقطاب الرأي ومن الأعلام البارزين في الشرقة عامة. بينما كانت حلب عينها غارقة في سبات من الجهل المطبق بعظمة الأعمال الجليلة التي قام بها ابنها البار وبالأفكار السامية التي أشاعها – كما يقول إيلي خدوري. وكمصداق لقولنا نشير الى أن حلب لم تشهد أي تحرك فكري – ثقافي يستحق الذكر – اللهم سوى "جمعية النشأة التهذيبية" التي تأسست سنة 1907، وظلت مستترة حتى اعلان الدستور وقيام انقلاب تركية الفتاة.


6- حالة الفكر الاجتماعي- السياسي بعد انقلاب تركية الفتاة

الفصل الخامس: تصاعد حركة النهضة الثقافية – القومية وبروز التيارات الوطنية في مصر

1- التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مصر ابان النصف الثاني من القرن التاسع عشر

التعليم في مصر

الجمعيات في مصر

الطباعة في مصر

2- الاستعباد المالي والاقتصادي في مصر

اتجاهات الرأي العام في مصر

التناقضات داخل "العثمانيين الجدد"

خير الدين التونسي

جبرائيل الدلال

الصحافة المصرية في السبعينيات

الرأي العام المصري في السبعينيات

3- الحركة الوطنية التحررية المصرية 1879-1881

تصاعد الاتجاهات المعارضة

تشكيل الحركة الوطنية المصرية

خلع الخديوي إسماعيل واقالة شريف باشا

محمود سامي البارودي

أحمد عرابي باشا

أحمد عرابي المصري الحسيني (1839-1911) الذي امتاز "بطول القامة" (180 سم) وتناسق الوجه، وغلاظة الشفاة وكثافة الحاجبين. مظهره الخارجي هذا – كما زعم المعاصرون كان السبب في ترقيته سريعا في عهد سعيد باشا (كذا). كان في العشرين من عمره يوم نال رتبة مقدم، في الجيش ولقب قائمقاما وأصبح ياورا للخديوي، لكنه كان في عد الرضا أيام اسماعيل باشا ولم يرق الى رتبة أعلى إلا بعد انصرام نيف وعشرة أعوام، فنال رتبة عقيد في الجيش ولقب "أميرالاي". وبالمناسبة ، اذا كانت تقييمات العديدين من الكتاب البورجوازيين نحو طموح عديم الكفاءة وصنيعة ثرثار وأمي، مرفوضة لدينا. فإننا نؤيد تأكيد المستشرق روتشين بأن عرابي رغم زيه العسكري المهيب ظل في الواقع فلاحا عاديا شبه أمي. ونردد مع ايفانوف بأنه "لم يتلق تعليما عسكريا خاصا ولم يتميز بأية حنكة في التدريب العسكري".

وقد قيم لوتسكي الضباط الذين خرجوا من أحضان الفلاحين ، ورفاق عرابي في السلاح بأنهم "من العناصر الديمقراطية الراديكالية". ووضعهم في موقع معارض من "الضباط الأشراف الباشوات"، فكان ديدنه الأساسي التذكير بالتيارات القائمة داخل الجيش، وطنية كانت أم اجتماعية، ولاسيما أنه سجل في مكان آخر من كتابه "كان ابنا لفلاح مصري من قرية هرية رزنة الواقعة في الوجه البحري"، لا بل وأنه أكد تأكيد شاهد العيان المعاصر أن الضباط المصريين لم يتقاضوا رواتبهم شهورا كاملة، و"أن عوائلهم عانت الجوع".

الجزم بالأصل الفلاحي للأميرالاي عرابي باشا لا يقتصر على لوتسكي وحده، وهو عار عن الحقيقة تماما. كان ابنا لواحدا من أغنياء الفلاحين الذي عين عمدة (شيخ البلد). وكان قد ورث عن أبيه في الشرقية ثمانية فدادين (زهاء 3.5 هكتارات) من الأرض. استفاد من تفاقهم أوضاع الفلاحين الفقراء الذين أصابهم الخراب فأوصل - ملكيته ابان خدمته العسكرية – إلى 750 فدانا أي ما يعادل 240 هكتارا. وأصبح من كبار الفلاحين العقاريين. ينبغي التذكير هنا أن من يملك خمسين فدانا وما فوق من الأرض في مصر يعد من طبقة الاقطاعيين الذين كانوا يشكلون نسبة 1.55% من سكان مصر ويمتلكون 43.8% من الأرضي المزروعة. وقد أصاب كيلبرغ الحقيقة في تحديده هوية عرابي باشا الطبقية- الاجتماعية: "كان من كبار الملاكين الذي استغل الفلاحين وحلم دوما بأن يصبح اقطاعيا كبيرا، وقد تحقق حلمه فعلا".

الضباط "الجائعون" من غير العرب الذين انضموا الى الجمعية السرية، كانوا أيضا "فلاحين" من نوع عرابي باشا. و"كانت أوضاعهم المادية تخولهم حق الانتساب الى الفئات الميسورة في المجتمع المصرية"، على حد تعبير المستشرقة تشيرنوفسكايا. وقد وصفهم المستشرق الروسي نيرسيسوف بأنهم "ارتبطوا اجتماعية بطبقة صغار الملاكين – الاقطاعيين في الريف". أما غولدوبين فقد كان على حق تماما حين قال: "لقد خرج هؤلاء الضباط من صفوف الملاكين العقاريين الجدد، ومن أحضان الفلاحين الأغنياء في الريف".

تجدر الاشارة هنا الى الحقيقة الهامة التالية: ان البورجوازية التي تشكلت في مطلع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، يمكن اعتبارها "مصرية" مجازا. ومن الحقائق المسلم بها أن الأجانب شكلوا القسم الأساسي من سكان المدن البورجوازيين، في حين كانت العناصر المختلطة بهم من المصريين العرب أو الأجانب المتمصرين (المسلمين) ممن يعدون على الأصابع. كان التجار الوسطاء من الأوروبيين القادمين من جنوب وشرق المتوسط. ولذلك نطلق مجازا تسمية البورجوازية الوسيطة المصرية على أولئك الناس الذين تحكموا في الصادرات والواردات والأعمال المصرفية والتشييد والبناء والتجارة الداخلية والصناعة المتدنية.

كان حملة العلاقات الرأسمالية من المصريين "شبه البورجوازيين" (تمازج أنماط الاستغلال الاقطاعي وشبه الاقطاعي مع نمط الانتاج الرأسمالي) من ممثلي الأسرة الخديوية، الذين شكلوا غالبية مطلقة بالنسبة لملاكي الأراضي الأجانب، وهم من كبار الاقطاعيين والملاكيين العقاريين الدخلاء ومن متوسطي الملاكين العرب. وقد وسع الأخيرون أملاكهم الخاصة على حساب أراضي أبناء بلدهم من الفلاحين الذين تعرضوا للخراب، أو عن طريق التدابير القسرية كالضرب والاهانة وغيرها من الوسائل التأديبية التي حاكوا فيها كبار الاقطاعيين المحليين. وكانوا يتتلمذون على أيدي الملاكين الاقطاعيين الأجانب في مجال الاستثمار الرأسمالي البشع. أجل، كانوا يستغلون كد وعرق الفلاحين الحقيقيين مع أولئك الضباط "الفلاحين" الذين أوكل اليهم أمر استثمار الفلاحين بوساطة شتى أنواع السخرة، والذين لم يجمعهم أي جامع بالوصف الذي أعطاه لوتسكي إياهم "عناصر ديمقراطية راديكالية وطنية". اللهم سوى الكفاح الذي سيخوضون غماره للحافظ على وجودهم وتعزيز مواقعهم من خلال الاصطراع مع الفريقين القويين: رجال الاقطاع والملاكين المحليين الذين "تبرجزا رغما عنهم" أولا، ومع كبار الاقطاعيين الأجانب الذين "تحولوا رغم أنفهم الى شبه اقطاعيين".

كان بمقدور الضباط "الفلاحين" الموصوفين "بالعنصار الديمقراطية الراديكالية" أن يوطدوا علاقاتهم "بالبورجوازيين المدنيين" داخل المدن الكبيرة، حيث كانت البورجوازية التجارية المصرية تعاني سكرات الموت منذ مطلع القرن في جو من أطماع الدول الاستعمارية الكبرى والتأثير القوي النفوذ للشركات الرأسمالية الاحتكارية. وبكلام إجمالي كانت تعيش ضمن ظروف خانقة ان كان على الصعيد الاقتصادي أم السياسي داخليا وخارجيا معا. هؤلاء التجار حكم عليهم موضوعيا بالفناء والاندثار من جراء الاسلوب المبتذل والمهتري الذي مارسوا فيه نشاطهم التجاري – المالي في ظل غياب حماية ورعاية الدولة. أضف الى ذلك أن تدهور الحرف أصبح ناجزا، لأن أصحاب المؤسسات المهنية اعتمدوا على مساندة الدوائر العسكرية مقابل دفع مبالغ طائلة لها بالطبع.

اذا كانت الأوضاع على هذه الحال عصرئذ، فانها ازدادت حدة وتفاقما في أواخر الربع الثاني من القرن التاسع عشر، حين أصبحت الفئات العليا من التجار وأرباب المهن الحرة التي أفرزتها طبقة العسكر خاضعة لا لإمرة "الباشاوات الجراكسة"، وانما أصبحت تحت رحمة فئة الضباط "الفلاحين" الذين تسللوا بوسائل مختلفة الى هاتيك المناصب القيادية، وبالتالية قامت بدور "جابي الضرائب" . ومن المضحك المبكي أن الضباط "الفلاحين" كانوا يتسترون بقناع الحفاظ على الرأسمال الوطني، وبتعبير آخر الدفاع عن الأغنياء "الوطنيين" ضد استفزازات وضغوط الرأسماليين الأجانب، متخذين من ذلك مظلة واقية لحماية التجار المصريين الذين كانوا يدوسون بأقدامهم أبسط المعايير البورجوزاية وينتهكون قدس أقداس قواعد العلاقات الرأسمالية.

كان الضباط "الفلاحين" يتطلعون الى الرتب العسكرية العالية (مقدم وما فوق) ليس من موقع الحافز المادي فقط، فاذا كان البنباشي ينال شهريا مرتبا قدره ثلاثة آلاف قرش، والمقدم (القائمقام) ثلاثة آلاف وستمائة قرش، فان راتب الأميرالاي (العقيد) يقفز فوق عشرة آلاف، وأمير اللواء الى خمسة عشرة ألف قرش. وفيما يخص الأميرالات (عرابي باشا مثلا) فان مرتبهم لا يتوقف عند زيادته بمقدار النصف (50%) فقط، بل ويتعداه الى نيل لقب الأميرالاي الذي يعني بحد ذاته نيل لقب الباشا السامي. وقد أكدت تشيرنوفسكايا قائلة: "كان معظمهم من الفلاحين الذين ينظرون الى الخدمة العسكرية بوصفها الوسيلة الوحيدة التي تمكنهم من الارتقاء الى درجة اجتماعية أعلى".

كان الضباط المصريون العرب يصبون ليس الى زيادة رواتبهم من 30-36 ألف حتى 100-150 ألف قرش وحسب، بل كانوا يتطلعون خصوصا الى الانتقال من رتبة البكوية الى الباشوية، ومن طبقة الاقطاعيين – الملاكين الى طبقة الأشراف. وبالتالي الحصول على الامتيازات الواسعة الممنوحة للباشاوات الجراكسة. فكانت الهوية "الفلاحية" التي أطلقها عليهم خصومهم ومنافسوهم، أو تبنوها بأنفسهم في سبيل الاستفادة من شعار "مصر للمصريين" الجذاب، خدمة لمآربهم المهنية الفئوية الضيقة في جوهرها ومحتواها، وفي سبيل كسب شعبية واسعة داخل الأوساط العسكرية. كيف لا ومعظم الجنود من أبناء الفلاحجين الذين كانوا يعبرون عن سخطهم وتذمرهم ليس من مواقع فئوية – مهنية فحسب، بل من مواقع اجتماعية – اقتصادية وقومية – وطنية واعية. ومن هذا الموقع بالذات اتسم شعار "مصر للمصريين" بطابع شعبي ديمقراطي استقطب آمال وتطلعات الغالبية الساحقة في الجيش الصمري. وبهذا الصدد كتب كولفين يقول: "يتألف الجيش أساسا من المصريين أبناء دافعي الضرائب التعساء، كان تعاطف الجيش بكل مستوياته مع أبناء الوطن حتما".

كلمات كولفين الأخيرة تدفعنا للتركيز على الاعتبار الهام التالي: كانت الخدمة الاجبارية في الجيش بمثابة حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على أبناء الفلاحين. فمن الحقائق الثابتة في مصادر التاريخ العربية والأجنبية (الجبرتي، الدبلوماسي الروسي قسطنطين بازيلي، الأكاديمي الفرنسي بوجولا، العالم الانكليزي لين وغيرهم) أن السوط كان يرمز الى سلك الضباط في مفهوم الجنود الفلاحين. ومن هنا يصبح جليا أن النفخ في صور الشعار الوطني وجعله أكثر شعبية ورواجا من الضرورات اللازمة بالنسبة لعرابي باشا وأنصاره في كفاحهم ضد الباشوات الجراكسة، باعتباره الدعامة الأساسية الاجتماعية تحلقيق النتائج المرجوة.

مهما يكن من الأمر، فقد اصطمدت تطلعات الضباط العرب الاجتماعية أم الاقتصادية بالمعارضة الشديدة من قبل "الباشاوات الجراكسة" ، فاتخذت طابع التمرد العكسرية داخل الثكنات. فانضمام الضباط الى معسكر "اللائحة الوطنية" وموالاتهم "للحزب الوطني المصري" في نيسان (ابريل) 1879 شكلا غطاءا قوميا لتطلعاتهم وطموحاتهم، فضلا عن نيلهم الدعم القوي من قبل رجال الاقطاع والأشراف الملتفين حول الخديوي إسماعيل، أي من "الجناح المدني للتنظيم الصاعد".

ومن اللافت للنظر أن تبني الضباط لشعار "مصر للمصريين" اتصف بتناقش ظاهري ملموس. "فالعداء للأتراك" (الكراهية ازاء العناصر الدخيلة الناطقة بالتركية من الأتراك العثمانيين الأصليين او الذين استتركوا من الجركس والأكراد والألبانيين وغيرهم) لدى هذه الفئة من الضباط، لم يقف حائلا دون انتعاش النزعة العثمانية في أوساطهم، إما عن قناعة وايمان، واما مواربة واحتيالا، ودون اخلاص – ولو ظاهريا – للسلطان الحليفة والتفاني في سبيل السلطنة العثمانية . أولئك الناس الذين لم يكونوا يعدون من الموالين للسلطان. فالأمر لا يتعلق فقط بالخضوع للسلطان – الخليفة من منطلق الايمان بالإسلام، ولا بحوية الدعم المتوقع من الأستانة باتجاه تقوية الميول المعارضة لتسلط الحكام الأتراك المحليين، وللحد من الهيمنة المتزايدة للأجانب الكفار. بل هنا اعتبار خطير وهام جدا يتربط مباشرة بمصالح فئوية – ضيقة ومنافع مهنية محددة. فالترقي من رتبة الضباط الذين هم دون الأشراف – البكوات الى رتبة الأميرالاي – الباشا لا يتم الا بموافق السلطان.

وهنا بالضبط يتجلى لنا الوجه الآخر والأكثر أهمية في التناقض الظاهري. فالشعار الذي رفعه الضباط الوطنيون "مصر للمصريين" كان موجها ضد احتكار الأتراك لرتبة الضباط الأشراف، كما كان نصله الحاد موجها بالضرورة ضد السلطنة، التي كانت تضفي هالة قدسية على ذلك الاحتكار. بيد أن توسيع مضامين الشعار من قبل العناصر الموالية للنزعة العثمانية والمتفانية في اخلاصها للسلطان ، كان يعني موضوعيا تأجيج المشاعر المعادية للنصارة والاستفزازات الاستمعارية الأجنبية التي غذت أيضا الميول الذاتية المعادية للأوربيين عامة، والتي وجدت تجلياتها في اطار الحزب الوطني. وهذا الأمر أدى بالضرورة الى تقليص وتحجيم طبيعة الشعار المعادي في الواقع للسلطان والسلطنة، والى تصاعد حمأة الدعوات المنادية بالتوجه صوب الباب العالي. هذا العامل الهام يجب أخذه بالحسبان في محاولتنا الرامية للبحث عن الدوافع التي حالت دون عرقلة انضمام الضباط ذوي الرتب الدنيا الى "الجناح العسكري" البارودي في الحزب الوطني المصري.

وفي آخر المطاف، كانت الجبهة "الوطنية" التي التأمت في ربيع عام 1879، موجهة أساسا ضد الاعتداءات من جانب انكلترة وفرنسة، وكان السلطان يتوقع منها كل الخير والمنفعة، أو بالأحرى كان السلطان يمتع ناظريه بمشاهدة الخلاف الذي ذر قرنه بين تابعه الخديوي المصري وأصدقائه الأوربيين، الأمر الذي قد يتيح له القيام بدور الوسيط بين الطرفين المتنازعين.

وعلى كل حال، كان خروج شعار "مصر للمصريين" عن نطاق ثكنات الضباط والجنود الذين كانوا مستعدين تماما للسير وراء زعمائهم وقادتهم. لم يكن يعني اطللاقا أنه أصبح شعارا مصريا شاملا. وبتعبير آخر، ما كان بامكان هذا الشعار أن يكتسب شعبية واسعة بالقدر الذي يخرجه من السر الى العلن لو لم يجد الغليان الشعبي انعكاسات له في أوساط اجتماعية قوية التأثير والفعالية.


علماء الدين

من بين هذه الأوساط الاجتماعية نشير أولا الى رجال الدين العلماء الذين كانوا خلال ستة عقود أو سبعة في موقع المعارضة (من الأسرة الحاكمة ودعامته الأساسية المتمثلة في العناصر الأجنبية الدخيلة التي كانوا واياها في سجال دائم)، فشكلوا في الواقع محور التذمر من الأوضاع القائمة.

كان العلماء بمثابة الصفوة الاجتماعية بالنسبة للمصريين من العرب المسلمين. وهم في الغالب فئة اجتماعية خاصة من الناس ذوي الأصل الشريف والعريق في الحسب والنسب. فقد أكد القنصل الروسي بازيلي ما يلي: "ان مصر التي تقطنهاغ أسر وقبائل تهتم بالزراعة، لا تملك طبقة من الأشراف المحليين سوى المشايخ في القاهرة، الذين توارثوا أبا عن جد علوم تفسير القرآن والشريعة الاسلامية". حقا ان جبهة العلماء تعرضت لبعض التبدل من جراء التقلبات السياسية – العسكرية والهزات الاجتماعية – الاقتصادية ، ولكنها ما زالت تشكل في الواقع فئة قوية النفوذ ، عظيمة التأثير توارثتها عبر القرون. وصحيح أيضا أن هؤلاء الأشراف من رجال الدين كانوا قد فقدوا رقابتهم على أراضي الوقف، وحرموا من الملكيات الاقطاعية عامة، ولكن قسما ملموسا منهم ظل في جوهر الأمر (أو أصبح بفضل شراء الأراضي الواسعة في العقود الأخيرة) من ملاكي الاقطاعات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة).

ومن المعروف أن التعويض عن فقدان الأراضي الموقوفة كان يتم على دفعات منتظمة من خزينة الدولة المصرية. ولكن، ينبغي التذكير أيضا بأن العلماء كانوا يملكون مصدرا ماديا آخر أعظم أهمية لكونه في الوقت عينه حافزا معنويا قويا يشد من أزرهم ويرفع من مكانتهم وشهرتهم في المجتمع، ونعني به احتكارهم للمعارف الدينية – الروحية وطقوس العبادة والصلاة والمحاكم الشرعية والقضاء وسائر حقول الثقافة العربية – الاسلامية التقليدية من غير استثناء.

كان هؤلاء العلماء حملة لواء طبقة الأشراف العرب مستائين جدا من الأوضاع الشاذة بنظرهم ليس فقط من ناحية حرمانهم من تبوؤ مراكز سياسية – ادارية تتناسب ومقامهم الديني – الورحاني، والمادي – الأدبي، بل ومن ناحية تعرضهم للذل والهوان في المجال الاجتماعي والمجتمعي. وعن هذا الموضوع قال باتون ما يلي: "كان العلماء يعدون أنفسهم أعظم مقاما من ميع الباشاوات الأتراك، ولكنهم كانوا في الواقع محرومين من السلطة السياسية ومن تسلم رواتب رسمية عالية، ولذا كان وضعهم الاجتماعي أدنى مقاما من الأتراك الذين كانوا يعاملونهم معاملة سيئة". كان مجلس العلماء المؤلف أساسا من شيخ الأزهر الشافعي ومشياخ المذاهب السنية الأخرى، ونقيب الأشراف وبعض المشايخ الأخرى – كان على حد قول المؤرخ ادوارد لين "يثير الخوف والهلع في قلوب الأتراك والمماليك فيحد من سلطانهم ونفوذهم، ولكنه كاد يفقد تأثيره اليوم على أرباب الحكم". وليس من الغريب اذا، أن تسير طبقة الأشراف العرب المعزولة عن الحكم وراء شعار "مصر للمصريين"، وكانت لأسباب جد مفهومة تخضعه هذا الشعار لمصالحها الفئوية الضيقة ومنافعها الطبقية الواسعة.

وقد تضاعف وزن طبقة العلماء الأشراف لأنهم يملكون – مثلهم في ذلك مثل الضباط الأشراف الاقطاعيين الذين هيمنوا على الجنود أبناء "الفلاحين" ايضا جيشا لجبا من "الفلاحين" الممثلين في نظار المساجد الذين خضع لهم عدد لا يحصى من الأئمة – الخطباء والأئمة – الرتباء، والمؤذنين والبوابين وغيرهم من سدنة الدين. وكان الآلاف من الشبان الذين جاروا في الأزهر وغيره من المدارس الدينية وكليات الآداب والحقوق، علاوة على الألاف من التلامذة الذين ترواحت أعمارهم بين العاشرة والعشرين والأساتذة المشايخ وغيرهم ممن شكلوا الأداة الفعالة ذات التأثير القوي على جماهير المؤمنين الغافلة في المدن والمراكز والريف عامة. وللعلم نقول أن عدد طلبة الأزهر وصل الى 8-9 آلاف في الفترة موضع البحث. يجب ألا يغرب عن بالنا أن سكان المدن، ولاسيما القاهرة، كان مؤلفا من الجماهير الغافلة المؤمنة، من أصحاب الحوانيت الصغيرة والمهنيين والحرفيين ومن العناصر افلاحية التي أصابها الدمار في الريف فهاجرت الى المدينة حيث شكلت فئات اجتماعية متباينة متسببة. ناهيك بمشايخ الطريقة الدرويشية في الأحمدية والرفاعية والبحيرية والقادرية والسعدية – الذين تمتعوا بنفوذ قوي وتأثير واسع فشكلوا القوة الضاربة الرئيسية، التي نالت "شعبية" واسعة من خلال اشهارها الجهاد المقدس منذ أيام نابليون بونابرت حتى ذلك العهد.

نشير في هذا السياق الى أن طرح شعار "مصر للمصريين" في اوساط رجال الدين العلماء، يفترض الى حد ما تبني مهمة العداء للنزعة العثمانية، التي اتسمت أيضا بالتناقش الظاهري المميز، كل ما في الأمر، أن القاضي الأكبر في مصر كان صاحب الأمر والنهي في "مصر القاهرة" وفي أوساط علية القوم في المجتمع المصري، فكان يمثل "السلطان عظيم السؤدد الذي كان يعينه ويحدد راتبه". وقد أفاد ادوارد لين الى أن القضاة الأتراك كانوا – كقاعدة – على المذهب الحنفي وقلمات وجدا واحدا منهم يجيد اللغة العربية، اذ لم يشعروا بالحاجة اليها". وكان القاضي الأكبر يعين نائبا عثمانيا حنفيا للبت في الأمور القضائية (والذي كان على المام بسيط باللهجة المصرية .. ويثق تماما بكبير المترجمين). كما وجب أن يكون القاضي من أبناء مصر الحنيفيين. أضف الى هذا كله أن القاضي الأكبر والمفتي كانا يعنينان جميع قضاة المحاكم الشرعية الذين كانوا يتصرفون وفق أهوائهم في قضايا الزواج والطلاق والوصية وغيرها من المسائل المدنية، فضلا عن جميع الموظفين والمستخدمين في المؤسسات الدينية – الخيرية والأوقاف والكنائس والشؤون المالية – الادارية التابعة لها. في مثل هذه الظروف- وخلافا للخضوع الذي يفرضه التعصب الديني ازاء السلطان الخليفة التركي – أدى شعار العداء للسلطان بشتى أشكاله ومضامينه من قبل رجال الدين وسائر الفئات الاجتماعية فضلا عن ممارساته اليومية – أدى الى بروز الخلاف والانقسام داخل المجتمع المصري.

صفوة القول: اذا كان مقدرا لشعار "مصر للمصريين" الذي طرحه بداية رواد النهضة البيروتيون الراديكاليون، أن ينال طابعا وطنيا سافرا وصريحا، وأن يوجه اطلاقا باتجاه معالجة وحل المهام الوطنية – المصرية الخالصة، فانه فرض بالضرورة قضية تعزيز الأسس والدعائم التي قام عليها . وهذا يعني في مفهوم ذلك العصر التفاف قوى الضباط الوطنيين ورجال الدين العلماء والموظفين من الرتبة الدنيا التقدميين نسبيا لأنهم تمكنوا من التغلب على مصالحهم المهنية الفئوية الضيقة واقتربوا الى حد ما من المواقع الوطنية. أولئك الذين انسجموا بقدر ما مع الملاكين الاقطاعيين ذوي الميول الليبرالية من حيث الجوهر، وتضامنوا مع العناصر البورجوازية الضعيفة نسبيا ومع الجماهير الواسعة من سكان المدن على شتى أجناسهم وأقوامهم، ومع الأنتجلنسيا العثمانية التقدمية على ضعف وزنها الكمي والكيفي – التفاف جميع هذه القوى حول الشعار المطروح. وكان من المفروض أن يسير وراء هذا الشعار كل من متوسطي وصغار التجار اليونانيين والايطاليين والمالطيين والأرمن واليهود والسوريين المسيحيين الذين تمصروا بحكم مصالحهم ومنافعهم، فضلا عن الموظفين الأقباط العالمين في الدوائر الحكومية والمالية وكنظار لدى الملاكين الاقطاعيين. وكذلك أبناء الأسر العربية العريقة من البورجوازيين والمثقفين – وبغض النظر عن المضامين التي عناها هذا الشعار بالنسبة لكل طرف من الأطراف المعنية. وفي الحالة المضادة تبقى الحركة الوطنية المصرية في اطار محدود ولا يتعدى التمرد العسكري داخل الثكنات أو التذمر الكبير لدى سكان المدن والريف أي لم يكن بامكان الحركة الارتقاء الى مستوى أعلى ذي طابع ثوري قومي.

كانت مجموعات اجتماعية غير متجانسة من المصريين – الوطنيين تتطلع لقيادة العمل الدعاوي – الفكري الذي يسمو بالحركة الى المستوى الذي أشرنا اليه آنفا. وقد أدى كل طرف من هذه الأطراف ، وفي أدوار زمنية متباينة، دورا ايجابيا صب في تدعيم ذلك الاتجاه الوطني.

أولى هاتيك المجموعات تمثلت في فريق من رجال الدين المسلمين الذي تحلقوا حول جمال الدين الأفغاني وتسلم قيادتهم الشيخ محمد عبده. وقد حافظ هذا الفريق جوهريا على التآلف والانسجام مع علية القوم المسلمين، من بينهم جماعة رياض باشا الرجعية الى مدة معينة، ثم مالت – لأسباب واضحة – للتضامن مع الجناح "الوطني" المؤلف من كبار الضباط والموظفين أصحاب الأملاك والعقارات الكبيرة، وليس اطلاقا مع العناصر الليبرالية المتطرفة. وقد تمتعت هذه الجماعة بنفوذ كبير على جماهير الفلاحين في الريف وعلى أتباع الطريقة الدرويشية وزعمائها، وعلى البورجوازيين المدنيين المسلمين.

وأخيرا، التيار المتشدد من المثقفين الذين تجمعوا حول عبد الله النديم الذي اشتهر بعدائه الشديد للأوروبيين والمسيحيين عامة، وكان له تأثير تحريضي على الشباب المسلم، ولاسيما على الطلبة والجنود والفلاحين الذين هاجروا الى المدن بسبب الخراب الذي أصابهم في الريف، وعلى أتباع الطرق الصوفية.

بيد أن شعبية شعار "مصر للمصريين" الذي تحول من السر الى العلن بفضل الطروح النظرية المختلفة والممارسات التطبيقية المتعددة من قبل التيارات الفكرية المصرية ما كان بامكانها أن تصبح عاملا حاسما ومقررا في الحياة السياسية – الاجتماعية والوطنية لو لم يشد الرواد السوريون، وبالأحرى البيروتيون بقيادة أديب اسحاق من أزر اخوتهم المثقفين الوطنيين المصريين.

هذه الشريحة من المثقفين السوريين لم تشكل – بحكم نضوج الوعي الطبقي وبالتالي القومي – العربي – تيارا منعزلا ذاتيا ينظر الى القضايا العربية بمنظار رؤية أجنبية غربية، بل كان رواده يساهمون اسهاما فعالا يتميز ويبرز نشاط كل التيارات الفكرية الأخرى، في مضمار تكوين الرأي العام في مصر. يوحد ويؤالف بين الأوساط الثقافية الوطنية والمهاجرة على اختلاف أديانها ومعتقداتها، ساعين من كل ذلك الى زرع روح التسامح والتآخي بين صفوف الوطنيين، ونزع الصبغات الدينية – المذهبية عن أماني وآمال الشعب المصري. لجعلها أكثر انسجاما وتألقا مع مضمون فكرهم القومي العربي الشامل. مختصر القول: كانوا يمهدون السبيل أمام تحقيق الآمال الوطنية والتطلعات القومية.

ومهما كانت هذه الأوساط الثقافية – الفكرية مستقلة من حيث الجوهر فانها شكلت حتى خريف 1879 حلقات سياسية – فكرية ذات عقيدة خاصة مميزة ونشاط عملي ذاتي، تكون منها عقد الحركة الوطنية المصرية، وبمعنى آخر طرحوا شعارات عامة مشتركة، ودعوا الى أهداف سياسية – فكرية عامة، وماروسا نشاطهم على أرضية واحدة.

4- جمال الدين الأفغاني

مما لا شك فيه أن جمال الدين الأفغاني أدى خدمة مميزة للنهضة الثقافية – القومية العربية. ولكن الخدمة التي أسداها ما كان بامكانها ان تكون موضوعيا من النوع الفريد الاستثنائي المقرر والحاسم في مسيرة النهضة – كما يحاول تصويره بعض الكتاب العرب المسلمين الذي أخذوا بالسيد جمال الدين الأفغاني فجعلوه أسطورة من الأساطير عبر نصف قرن من الزمان. وما نقوله حقيقة لا مراء فيها، ولذلك أرتأينا تقييم ظاهرة الأفغاني تقييما موضوعيا.

ترجمة الأفغاني في الفترة الممتدة من آذار (مارس) 1871 يوم جاء الى القاهرة وعينت له الحكومة المصرية بمساعي رياض باشا زعيم الرجعية المصرية، راتبا شهريا بلغ ألف قرش مصري – حتى شهر آب (أغسطس) 1879 يوم نفاه رياض باشا نفسه الى الهند بتهمة "التآمر – لخصها محمد المخزومي خادمه الأمين بأن سيده كان زاهدا في الدنيا، منعزلا في داره غالبا، حيث عقد حلقات التدريس، فكان بيته أشبه ب"مدرسة خاصة" يتردد عليها التلامذة، وأنه كان يتردد الى مقهى "الساداتية"، حيث كان يجتمع بمريديه، وكان يزور الأزهر في أيام الجمعة فقط لأنه لم يكن قادرا على الانسجام مع حلقات علماء الدين – رغم وجود حلقة من المريدين المخلصين له كان يلقي أمامهم، ولماما بين جمع غفير، خطبا رنانة تثير مخاوف رجال الدين، وكان يلقي موعظه الدينية من على منبر المسجد، وخطبه الدنيوية في الساحات وفي المناسبات في النصف الثاني من السبعينيات، والتي كان الشبان المريدون يكتبونها ويحررونها وينشرونوها في الجرائد.

هذه حقيقة لا نكران فيها طبعا. فقد تحول الأفغاني الى مركز استقطاب جذب اليه المريدين من الشبان الذين أصبحوا فيما بعد من أعظم أعلام الشرق، وجسدوا رموز الحركة الوطنية المصرية، وقواها الفاعلة الأكثر حيوية وعطاء.

ولكن ما هو سر هذه الجاذبية الكامنة في ذلك المغناطيس؟

حين نشر أديب اسحاق مقال الأفغاني بعنوان "النظام الاستبدادي" في العدد 33 من جريدة "مصر" (14/2/1879) قال عن الكاتب ما يلي: "انه أستاذنا الحكيم وسيد العارفين". وبعد عدة سنين استهل أديب اسحاق ترجمته عن الأفغاني بقوله: "هو الحكيم، الخطيب، البالغ الحجة البينة، المتوقد الذكاء الجريء الذي لا يعرف الخوف، النسيب السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني". ومن العجيب الغريب أن اديب اسحاق الذي يعد من الأعلام البارزين في النهضة العربية القومية والثقافية والتنوير العربي، كان قد أطنب في مدح الأفغاني الى هذه الدرجة من الاطناب. ترى هل كان هذا تقييما موضوعيا لمذهب الأفغاني الشامل – المتكامل، أم أنه نوع من المجاملة الشرقية التي تبلغ أسمى درجات المبالغة والمغالاة؟ لابد لنا في محاولتنا الاجابة عن هذا السؤال المحير، من التطرق الى الآثار التي تركها لنا الأفغاني ولاسيما أن حياة السيد قبل الدور المصري، تكاد تكون عقيمة تماما ، وأن الأفغاني تحول فوق أرض مصر من خطيب يجاهر بأفكاره الى كاتب دون بعض بنات أفكاره ، اذ كان يكره الكتابة ويتثاقل منها ومن خلال كل ذلك سنحاول كشف اللثام عن سر جاذبية الأفغاني.

نقول بادئ بدء ان المدونات المنسوبة الى براع الأفغاني قليلة جدا، تتألف من عدة كراريس وما يناهز العشرين رسالة ومقالة. وقد أكد كوتلوف محقا "أن أفكار وخواطر جمال الدين الأفغاني المدونة في بعض أعماله المطبوعة تثير العديد من التساؤلات والشكوك حول مؤلفها الحقيقي لدى الدارسين والباحثين الذين أرخوا له، وهي تآليف معروفة اليوم عن طريق كتابات تلامذته ومريديه وسامعيه، لا بل وخصومه".

وبالفعل، فان الأفكار والأقوال المنسوبة الى الأفغاني من حيث نوعيتها وكميتها ولاسيما الأحاديث التي دونها مريدوه وأتباعه، تجعل منه واحدا من أبرز أعلام الفكر والقول والعمل، وتضفي عليه مسحة أسطورية أشبه بالحكايات تجعلنا نشكك من موثوقيتها ومصداقيتها. وبالتالي لا يحق لنا الاعتماد عليها الا بصورة انتقادية – تحليلية. فكتاب "خاطرات جمال الدين الأفغاني الحسيني" الذي أعده محمد باشا المخزومي سنة 1897 ونشره سنة 1931، يعد "موسوعة" لفكر الأفغاني. ان النظرالى مذكرات الأفغني ذات الطابع التأملي الاستقرائي بوصفها خاطرات أفغانية موثوقة بعيدة كل البعد عن الحقيقة، اذ تعكس مواقف وتصورات الكاتب في الربع الثاني من القرن العشرين، التي لم تكن له أية صلة بفكر وتصورات الأفغاني . هذا معناه أن المخزومي وغيره من الكتاب العرب والمستشرقين الذين ساروا على هذا المنوال فتحدثوا عن الأفغاني في أواخر أيامه وليس في معمعان الأحداث والتطورات التي رافقت مسيرة النهضة العربية، يوم كان الأفغاني – حسب شهادة المخزومي – لا يستعيد ذكرياته فقط، بل كان يعيد النظر في بعض معتقداته وأفكاره بالعودة الى الوراء لاستقراء أحداث التاريخ من خلال تأملاته وخواطره. فهو مثلا لا يحكي ذكريات أحداث وادي النيل كما وقعت في الحقيقة وكما عاصرها وعايشها بنفسه، بل "يتأمل" المسألة المصرية، فيصف كيف وقعت مصر في مخالب الاستعمار الانكليزي، ويعدد أخطاء وهفوات الدولة العثمانية التي كان بالامكان تلافيها في حينه".

ونحن اذ نقر بأن الظروف لم تسمح لنا بالاطلاع على الجزء الأول من كتاب "الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني" (تحقيق محمد عمارة) (القاهرة 1968)، نؤكد في ذات الوقت واعتمادا على المصادر والمراجع الأخرى ان كتاب المخزومي كان في صلب الدراسة التحليلة الموسعة التي أعدها كل من محمد القاسمي ومحمد عمارة، مع ابراز حيز كبير للمقالات التي أعيد نشرها عن "جريدة" العروة الوثقى "العائدة لفترة متأخرة من حياة الأفغاني".

المؤلفات التي خلفها الأفغاني يمكن تقسيمها من حيث ترتيبها الزمني ومضامين أفكارها الى أربعة أقسام:

أولا: المحاضرات التي ألقاها في السبعينيات، أشهرها: "خطبة في الدرس والتدريس" و"فوائد التربية والتعليم" و"خطبة حول أسباب انحطاط الإسلام". الخطب المشار اليها ذات أهمية ومدلول خاص، ليس فقط لأنها شهادة حية حول فكر الأفغاني الذي زرعه بين مريديه في مصر (لأن معظم خطبه ألقاها خارج مصر، ولاسيما في الهند)، بل بوصفها محكا لتحديد مكانة الأفغاني في تاريخ النهضة والتنوير العربيين. فالبحث حتى عن عناصر من الفكر التنويري الأصيل المتكامل في آراء الأفغاني يعني فيما يعنيه الركض وراء الفكر التنويري الأصيل المتكامل في تلك المرحلة لا تتعدى كونها آراء أولية على طريق الاصلاح الرامية لتحديث الاسلام بما يتماشى ومتطلبات العصر.

فقد رأى الأفغاني – على سبيل المثال – أن الشرط الأساسي لاصلاح الاسلام نابع من التوفيق بين الدين والعلم. وهذا لعمري دليل قاطع على أن السيد الأفغاني اتخذ عبرة من الدرس الذي تلقاه في اسطنبول يوم ارتجل خطبته الشهيرة في الصنائع "الاسلام هو الأقرب الى العلم والمعرفة من جميع الأديان السماوية". قال هذا الكلام في خطبة ارتجلها في مدينة كلكتا بالهند حين تلقى دعوة خاصة لالقاء محاضرة بعنوان "الدرس والتدريس" في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1872.

ولكن، لادراكه ان الشرق المسلم عاجز عن مجابهة ضغوط أوربة المسيحية في الميادين الاقتصادية – السياسية والعسكرية والتقنية والثقافية (وهذا ما أدركه في حينه أيضا محمد علي من خلال اصلاحاته)، دعا الأفغاني لاستيعاب انجازات العلم من بابها الضيق، لا الواسع. فهو لم يكن يدعو الى نشدان العلم عامة، بل جاهر بدعوته لاستيعاب "العلوم التطبيقية والانتاجية". فالصنائع لا يمكن أن ترتقي دون الاعتماد على العلوم الطبيعية والكيمياء والميكانيك والهندسة والرياضيات والتجارة مرهونة بأحوال الصناعة والزراعة. مختصر القول "ان رقي المجتمع وثراءه مرهونان بالعلم".

وفي محاضرته حول "فوائد التربية والتعليم" يشرح الأفغاني أسباب الأوضاع المزرية في بلدان الشرق ويعللها بالتغاضي "عن دور العلماء المشكور والهام"، وينتقد محاولات تقسيم العلوم الى أوربية وإسلامية، وإلغاء مادة العلوم الطبيعية من مناهج التدريس ثم يواصل كلامه قائلا: "كل من يضع العراقيل امام بعض العلوم ويدعي أنه يبغي منفعة الدين وخيره، فهو أكبر عدو للدين".

وبما أننا لا نملك أية مادة موثقة عائدة لقلم الأفغاني حتى سنة 1877، فاننا نميل الى الاعتقاد بأن الأفغاني لم يكن حتى احتدام المسألة المصرية يهتم لا بالقضايا العربية عامة، ولا بالقضايا السيايسة الوطنية في مصر، التي كانت ملاذا له في أشد اوقاته محنة. وأن المجتمع العربي كان يعنيه من منظور أنه مجتمع إسلامي فقط، أو انه احتل حيزا من فكره من زاوية تطوير المجتمع الاسلامي وتثبيت أركانه بواسطة الاصلاح الاسلامي ليس غير، ويجب ألا يغرب عن بالنا – وهذا ما أكده المخزومي بكل وضوح – أن الأفغاني لم يكن مصريا في الصميم، بل كان بكل بساطة "يحب مصر دينيا – روحانيا، ما دام أن الأفغاني (باعتراف جميع الدارسين تقريبا للفكر الاجتماعي – السياسي العربي) كان يعد التضامن على أساس ديني – إسلامي هو الشكل الأرقى والأكثر فعالية من جميع الأشكال الأخرى، لا بل ورفض وحدة الناس على أساس قومي – عرقي، أليس هو القائل أليس للمسلمين من أمة حقيقية غير دينهم"، فيرفض حتى فكرة الولاء للأمة والقومية.

ثانيا – كتاباته المعروفة ب"الأماني"، أي التي كان يمليها على مريديه فيصيغونها مقالات نشرت تارة باسمه وتارة تحت اسم مستعار (مثل: مظهر بن وضاح)، على صفحاتة جريدة "مصر" لمنشئها أديب اسحاق في غضون سنى 1877-1879، وهي : "الحكومات الشرقية وأنواعها" و"روح البيان في الإنكليز والأفغان" و"النظام الاستبدادي" وغيرها. وقد تمحورت الفكرة الأساسية لتلك المقالات حول قضيتين أساسيتين اجتماعيتين رئيسيتين: يجب على جميع البلاد الإسلامية أن تتحرر من السيطرة الاستعمارية، وبالتالي فان جميع السكان المسلمين في هذه وغيرها من البلدان الواقعة تحت هذا الخطر يجب أن يتوحدوا تحت راية الاسلام، وبعد ذلك القضاء على الاستعمار، دعا الأفغاني الى الغاء سلطة الحكم المطلق واقامة ملكية دستورية:

ثالثا – تأليف ظهرت في الفترة 1880-1881، أي بعد المرحلة المصرية في حياة الأفغاني. وهي رغم وقوعها خارج الاطار الزمني لدراستنا، ترتبط ارتباطا مباشرا بما كتبه في المرحلة السابقة. لعل أهمها مقالان نشرا في حيدر أباد سنة 1880، وهما: "الحقيقة حول مذهب الدهريين" الذي أتبعه مباشرة بمقال "التفسير والمفسر" الموجهان ضد الآراء التقدمية التي دعا اليها المنور الهندي المسلم أحمد خان. والكراسة الثالثة والأخيرة للسيد في تلك المرحلة هي "مذهب الدهريين" ذات العنوان البليغ والموجه ضد الفكر الاجتماعي – السياسي والعلمي – الفلسفي التقدمي في ذلك العصر. كتب أصلا بالفارسية ("رد ناجورك") ونشر في حيدر أباد سنة 1881. ثم ترجم الى التركية ، وكان حتى مطلع القرن العشرين مخطوطا شائعا في شتى أرجاء الامبراطورية العثمانية. وقد ترجمه لاحقا الشيخ محمد عبده بمساعدة عارف أبي تراب خادم الأفغاني بعنوان "أبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم" .وقد شعات ترجمته بالفرنسية بين جمهور القراء الفرنسيين ابان الاحتلال النازي لباريس.

لقد أكدت المستشرقة مرغريت ستيبانيانتس الأرمنية المختصة بالإسلاميات أن أحمد خان كان من أوائل المفكرين الذين سعوا جديا للتوفيق بين الإسلام والمتطلبات الاجتماعية الملحة، التي فرضها تغلغل العلاقات الرأسمالية في الهند، فربط ربطا مباشرا بين "نهضة الشرق" و"التنوير الأوربي"، وبشر في المقام الأول باستيعاب الانجازات العلمية والثقافية. ومن خلال معارضته لبعض مقولات التقليد الاسلامي التي تحرم على المسلم المؤمن حق ابداء رأيه الشخصي، دعا أحمد خان في مذهبه العقلاني الى الايمان بقدرة العقل البشري المطلقة في معرفة أسرار الوجود.

كان الأفغاني من أوائل المفكرين المسلمين الذين انبرى لمعاداة أحمد خان فاتمه بمحاولة اثارة الشكوك حول الدين الاسلامي وتعاليمه، وهو لم يكتف بتوجيه النقد اللاذع لأحمد خان في كراسته الخاصة لأنه استوعب بروح غير انتقادية التعاريف التي حددها العلم الأوربي المعاصر للطبيعة والذات الالهية والدهرية (المادية) التي تقدس الطبيعة – بل وانه زاد من نيران تهجمه وتهكمنه في مقالته "التفسير والمفسر"، اذ اتهمه بمحاولة اقناع المؤمنين بالبحث "عن أسباب انحطاطهم في معتقداتهم" التي تناولها أحمد خان بالنقد، ولاسيما فيما يخص بعض اليقينيات كالقرآن والنبوة والاعجاز والجنة والنار والملائكة وغيرها من الظواهر الدينية.

كتب الأفغاني يقول: "السيد أحمد خان لا يسعى الى اصلاح الدين، بل الى القضاء عليه .. لقد توصلت الى استنتاج مفاده أن الكاتب وضع مؤلفه ليس بهدف تنوير أذهان المسلمين، وأن التفسير والمفسر كلهما خطر على الشعوب الاسلامية. ولعل الأشد خطورة تلك الأمراض التي تصيب المريض الذي ينازع سكرات الموت. فالكاتب لا يبقى حجرا على حجر من العقائد الدينية التقلدية، ويسدي خدمة لا تقدر بثمن للكفار، اذ حاول التأثير على المسلمين بأفكار دينية غريبة عليهم".

تعد كراسة "مذهب الدهريين" قمة أفكار الأفغاني في المرحلة الهندية من حياته (1879-1882). وقد وصفه كوتلوف بقوله: "لقد أدخل وضوحا كاملا حول فكر الأفغاني "الذي آمن ايمانا قاطعا" بالتناقض الروحي بين الاسلام والمسيحية، بين الشرق والغرب واستحالة التوفيق بينهما". والهدف الأساسي لهذا الكتاب لا يكمن فقط في محاولة نقض المذاهب الفكرية – الاجتماعية الأوربية المعاصرة له. وقد أدلى السيد بدلوه في هذا المجال، اذ يري مثلا: ان فولتير وروسو يتحملان كامل المسؤولية في تمزيق وحدة الشعب الفرنسي، وفي اسقاط الملك وتطبيقا الاجراءات الثورية وممارسة العنف ضد طبقة الاشراف والأمراء المحرومين من السلطة. واذا فالفكرة المحورية في الكراسة تتجسد في أن الاشتراكية (أية اشتراكية تناقش الاشتراكية الاسلامية في مبادئها وروحها) هي "الأشد قباحة" من بين جميع المذاهب الفكرية التي ظهرت على مسرح التاريخ، اذ تدعو "الى فساد المجتمع والفوضى والكفر". وهي "مجزرة مريعة بحق الناس الأبرياء، وتجسيد قبيح للخراب والدمار" ومن أن "الاشتراكيين هم ألد أعداء البشرية" ...الخ. ومن هذه المرتكزات الفكرية يسعى الأفغاني لاقناع المسلمين بأن الاسلام هو الدين الأكمل والأمثل، وبأن المسلمين هم خير أبناء البشر" وبالتالي فان العالم كله يرى خلاصه ونجاته في سيادة الاسلام والمسلمين.

رابعا – الكتابات العائدة للمرحلة الباريسية من حياة الأفغاني (1883-1886) التي ظهرت في مجلة "العروة الوثقى" ، أمثال: "الوحدة والسيادة" و"الوحدة الاسلامية" و"بين العرب والأتراك" و"الاشتراكية" وغيرها من المقالات التي تعبر عن نزعة الجامعة الاسلامية وتعكس نماذج متميزة من الفكر الرجعي (مطمعة ولاشك بأفكار العداء الاستعماري). والمجلة تهمنا جدا من موقع انها من أبرز الدوريات العربية التي بررت بحماسة منقطعة النظير السياسة الدموية التي مارسها السلطان الأحمر عبد الحميد الثاني، ودانت بحدة لا مثيل لها أيضا حركات التحرر الوطني العربي المعادية للدولة العثمانية، ومن بينها الحركة التحررية الأرمنية.

من الملاحظ أن كراريس الأفغاني ومقالاته التي صاغها بنفسه (وكذا الكتابات المنسوبة اليه) لا تتصل بنشاط الأفغاني في المرحلة المصرية – العربية لا بل وأكثر من ذلك، فهي رغم تزامنها مع فترة الكفاح المصري البطولي الذي خاضه الشعب المصري من أجل الاستقلال والحرية، تغاضت في معظم الأحيان عن قضايا ذلك النضال. ورغم أنها تعرضت الى الواقع العربي من خلال معالجتها لقضايا الاسلام وديار الاسلام، فانها لم تكن في مطلق الأحوال فاعلة ومؤثرة ولا يحق لها أن تتبوأ مركزا مشرفا في حركة النهضة القومية – الثقافية العربية. وهذا يعني أيضا أن مصدر الالهام والوحي الذي كن ينهل منه فكر السيد الأفغاني فيجعله مركز جذب واستقطاب في اطار الحركة الوطنية لاصمرية. ومن هذا المنطلق نرانا متفقين في الرأي مع المستشرق كوتلوف الذي أكد ضرورة النظر الى الأفغاني بمقاييس ومعايير مغايرة، والاقرار بكل بساطة بأن نشاط الأفغاني لعب دورا محسوسا في انعاش الحياة الاجتماعية في مصر وعن طريقها في البلدان العربية الآسيوية. وفي مجال تحرير الفكر الديني من قيود التقليد الأعمى الباعث على الجمود.

بيد أن الموافقة من حيث الجوهر على رأي كوتلوف، لا تعني أبدا تقديم اجابة عن السؤال الملح التالي: ما هو السر في أن الأفغاني اشتهر معلما لا ينازع لجيل كامل من الشبان التلامذة والمريدين، ومن أنه "كون رعيلا كاملا من أعلام السياسة والدولة، أمثال: الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول ومصطفى كامل، وعبد الله النديم، وأديب اسحاق، وعبد الرحمن الكواكبي". وكذلك رشيد رضا، وابراهيم المويلحي، ويعقوب صنوع ومحود سامي البارودي، وفرح أنطون، وقاسم أمين والله يعلم من أيضا؟

السؤال ليس من الوضوح بحيث يجعل التأويلات تتسم بطابع السذاجة، ولا سيما أنها قد تبدو في ظروف أخرى أشبه بأجوبة قاطعة لا يرقى اليها الشك. والمهم في هذا السياق برأينا أن الأفغاني لم يكن قط هرما لدرجة يكاد يكون فيها "عما" أو "خالا" لمعظم من أشير اليهم أعلاه، بل وانه كان بالنسبة لبعض كبار زعماء الماسونية، والذي لم يكن بمقدورهم مخاطبته الى بنعوت وألقاب نحو "سيدنا" و"معلمنا" و"أستاذنا". وكان أيضا بالنسبة للبعض الآخر سيدا كبيرا من الأشراف الذين يرجعون بنسبهم الى حفيد الرسول الامام حسين بن علي، والذي يفرض تكريمه حتما بلقب "السيد الحسيني الشريف".

كل ذلك حقيقة لا نكران فيها . فالأفغاني الذي جاب معظم دول العالم الاسلامي وتمتع بنفوذ واسع وتأثير عظيم في قصور الملوك والحكام ، واستوعب العلوم النقلية والعقلية في زمانه واتقن اتقانا كاملا العلوم الاسلامية، كان والى جانب ذلك كله "ذان نفوذ عجيب على سامعيه" و"مقداما حاثا على الاقدام". وكان كما يقول الطرزي "ثابت الجأس قد يساق الى القتل فيسير اليه سير الشجاع الى الظفر". اذا كان له الكامل في أن يكون من الوجوه المركزية البارزة، ولاسيما أن جميع الأطراف الت يكانت تسير وراء شعار "مصر للمصريين"، رغم تباين غاياتها وأهدافها، كانت في مسيس الحاجة الى رجل قوي يمثل مركز الاستقطاب لذلك الشعار، فعثرت على ضالتها المنشودة في شخص الأفغاني، ولاسيما أنه كان راغبا عن حطام الدنيا، زاهدا في النساء، قانتا قليل الطعام لا يتناوله الا مرة في النهار، ذكيا فطنا حاد الذهن سريع الملاحظة، لا يخلو من حدة المزاج.

وهنا بالذات نقف وجها لوجه أمام سرة جاذبية الأفغاني، أمام الحقيقة القائلة بأن الأفغاني – علاوة على الفضائل التي اتسم بها – كان له امتياز فريد واستثنائي وهو أنه من بلاد الأفغان، وقد اشتهر بأنه كان من أشد المناضلين في الكفاح الذي خغاضته بلاده ضد الاستعمار الانكليزي ومطامعه التوسعية السياسية والعسكرية في الشرق. فأصبح – في ظروف الاعتداء الانكليزي على مصر – صاحب مدرسة في النضال، وموسوعة حية، وخبيرا قديرا يكشف أسرار الغيب، ويتنبأ بقدر الشعب المصري ومصيره من خلال خبراته ومعارفه التي اكتسبها في أفغانستان والهند. ومن نافل القول أن التأكيد الذي أبداه الباحث اللبناني الماركسي محمد دكروب حول "أن الأفغاني جاء الى مصر حاملا في أعماقه كرها عنيفا للاستعمار عموما، وللاستعمار الانكليزي خصوصا" لا يمكن أن يكون أهلا للثقة. من المعقول طبعا أن يكون الأفغاني الذي عانى تآمر الأمير شير علي ضده، قد تبددت أوهامه بشأن الانكليز ازاء القضايا الأفغانية الداخلية خلال وجوده في منفاه بالهند. فالمستشرق راثمان يقول من غير الاستناد الى أي مصدر موثوق: "ان انتفاضة السباهيين في الهند سنة 1857 تركت أثرا عميقا في نفس الأفغاني". وليس من المستبعد أيضا أن تجارب السنين قد أدخلت تعديلات معينة على مواقف وعواطف الأفغاني. ولكن البداية في عداء الأفغاني للانكليز يجب البحث عنها في الأرض المصرية. حيث كانت مسألة "نكون أو لا نكون " في قمة المهام الملحة المتجسدة في استلام زمام قيادة الكفاح التحرري ضد الاستعمار الانكليزي. أما الأفغاني فكان قمة رائدة بين أوساط علماء الدين الباهتة والحياة الرتيبة. فذاع صيته بحسبه ونسبه وماضيه العظيم، وعقله ومعارفه الواسعة، وحيويته وبلاغته. وكانت طموحاته تتواءم وطلب العلا والسعي لتسلم دفة القيادة ولاسيما أنه لاحظ أن العلماء والمشياخ حولوا البقاء عليه ضمن دائرة نفوذهم بينما كانوا يمثلون في الظروف الجديدة حملة الفكر المناوئ والمعادي للانكليز. ولذا وجب عليه أن يوازن بين خطواته وخطوتهم فيكون واياهم على قدم وساق. ان كان ينبغي حقا توفيق خطواته مع خطواتهم في المسائل الأخرى، التي كانت تدور حول محور الاصلاح الاسلامي الذي فرض على السيد بالضرورة ان يقف موقف العداء من الانكليز، الذي كان بؤرة الأفكار والاتجاهات المناوئة للمسيحية داخل حركة "النهضة " الاسلامية – الروحانية. وأخيرا، كان هنك الرواد النهضويون مغايرين تماما للعلماء المشايخ ذوي الميول الاقطاعية وهم من أبناء البورجوازة الصاعدة المليئة حيوية ونشاطا، أمثال: صنوع واسحاق وغيرهما ممن كان الأفغاني راغبا في ابقائهم ضمن دائرة نفوذه، رغم ميولهم البارزة للأوربة، ولاسيما نحو أفكار الثورة الفرنسية، وشهرتهم بالداء للانكليز ونظرتهم الى بريطانية باعتبارها تجسيدا حيا للاستعمار عامة.

ومهما يكن من أمر،فان النشاط الرجعي – المحافظ المعادي لأوربة والمسيحية عامة الذي اضطلع بأعبائه الأفغاني والعلماء والمشايخ تحول بفعل عوامل متباينة مختلفة الى كفاح مناوئ للانكليز، كان نصله الحاد موجها الى السياسة الشرقية التي مارستها إنكلترة عامة، وفي مصر خاصة. وهكذا، اصطبغ ذلك النشاط المحمو بصبغة تقدمية معادية للاستعمار ، وتحول تدريجيا ، في ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية – الثقافية التي لم تنفض عنها غبار القرون الوسطى في مصر – الى معركة من معارك الجهاد. الذي فرض بالضرورة طرح القضية الاساسية التي ظلت مطروحة منذ أيام النبي محمد وهي: توطيد أركان الاسلام بوصفه لحمة لوحدة المسلمين وحياتهم الدينية – الوحية والادارية السياسية . ومن الواضح أن توطيد دعائم الدين الاسلامي كان قد فرض ، بحكم الظروف الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية العسكرية ، وبوصفه مجموعة نموذجية للعقائد الربانية – الروحانية ومصدرا كاملا للمعارف وأسس الحياة والتنظيم الاجتماعي، فرض ضرورة ايجاد نوع من المفاهيم الاسلامية القائمة مع متطلبات العصر، من جهة ثانية.

ومن المؤكد أ، عملية الاصلاح الاسلامي "ظهرت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر جنبا الى جنب مع حركة التنوير العربي، أي الاتجاه العلماني في النهضة العربية"، وان معظم الدارسين، أمثال: كوتلوف، كوتلين دولينينا وغيرهم، مالوا لاستخدام مصطلح "التجديد". بينما عد ليفين مصطلح "الاصلاح" أكثر تناسبا، لأن ممثي هذا التيار أنفسهم يسعون الى "اصلاح الاسلام". ويعتقد ليفين أن ضيق مصطلح "التجديد واضح، ومن الأنسب أن نستخدم الاصلاح بدلا منهم لسبيبين رئيسيين: أولا – كان بلوغ هذا الهدف (يقصد الاصلاح الاسلامي – المؤلف) يبدو ممكنا ليس عن طريق تكييف المفاهيم الاسلامية القائمة لمتطلبات العصر، وانما عن طريق التخلي عن كثير من المعايير والنواهي الهامة (مع الاحتفاظ بالولاء لليقينيات). وثانيا – بما أن هذا التيار الأيديولوجي يشكل من الناحية الموضوعية انعكاسا للعملية الاجتماعية الهامة الخاصة بتشكل البورجوزاية ولتطلع الطبقة المتجهة الى كسب السلطة الى تكييف الاسلام بما يتمشى مع احتياجاتها، فانه يعد أول ثورة روحية بورجوازية ذات تأثير هام على تشكل عقيدة الأنتلجنسيا الاسلامية".ولكنه عقب محقا بقوله: "لا ينبغي الموازاة بين حركة الاصلاح الاسلامي الدينية – الخلقية والحركة الاجتماعية – السياسية المعروفة التي شهدتها أوربة الغربية في القرن السادس عشر. ثم يذكرنا ليفين نفسه بأن مصطلح "الاصلاح السياسي" الشائع في الأدبيات الاستشراقية (رغم ترادف فعلي "ريفورمي" اللاتيني و"أصلح" العربي) ليس دقيقا تماما، ولكنه الأنسب.

ورغم التحفظ الحازم الذي أبداه ليفين ازاء اجراء "أية موازاة" بين الحركتين الاصلاحيتين المسيحية والاسلامية، فانه لا ينفي القواسم المشتركة والتشابه بنيهما. ونحن نعتقد أن كل محاولة من هذا القبيل مرفوضة من أساسها لسبب جد واضح وبسيط وهو أن الحركة الاصلاحية الدينية في أوربة الغربية كانت حركة واسعة مناوئة للاقطاعية والكاثوليحكية تجلت في ثورة بوروجوازية حقيقة وضعت بداية تشكل المذهب الثالث في المسيحية – البروتستانتية (بعد الأرثوذكسية والكاثوليكية) بمزاياها اليقينية وعقائدها وقوانينها العامة، التي جعلت الكنيسة أكثر ديمقراطية وبساطة ، واختارت حرية العبادة الشخصية وفضلتها على الطقوس الكنسية المقعدة، ووهبت العقل البورجوازي تفويضا الهيا. بينما لم يشكل "الاصلاح الاسلامي" ولاسيما في بدايته (على يد المصلحين العثمانيين محمد أمين علي باشا ومحمد فؤاد باشا في أواسط الخمسينيات، وفيما بعد على أيدي العثمانيين الجدد في السبعينيات) أو حتى في الأوساط المصرية في أواخر السبعينيات – لم يشكل "من الناحية الموضوعية انعكاسا للعملية الاجتماعية الخاصة بتكون البنية الفوقية الروحية – الفكرية (وشكل بالنسبة للباشاوات والسلاطين والعثمانيين الجدد حصنا منيعا لحماية الامبراطورية العثمانية والسلاطين ولتوطيد سيادة الأتراك وهيمنتهم) من الهزات العنيفة الناجمة عن التحولات الموضوعية الجارية في البنية التحتية.

ولم يكن "الاصلاح" في ذات الوقت "تطلعا للطبقة المتجهة الى كسب السلطة وتكييفا للاسلام بما يتمشى مع احتياجاتها"، بل محاولة متأخرة لتعزيز أركان البنية الفوية المكونة من فئة دينية وزمنية محددة تعرضت لخطر حرمانها من الحقوق الاقتصادية والسياسية والروحانية.واذا فهي ليست "أول ثورة روحية" بل محاولة أزموية يائسة لعرقلة امكان حدوث مثل هذه الثورة. وأخيرا، فالاصلاح لم يظهر الى جانب الاتجاه التنويري – العلماني في النهضة، بل جاء ردة فعل معاكس للتنوير العربي، وشكل الفكر النقيض لمنافسة الاتجاه العقلاني ومحاربته.

مختصر القول: كان الاصلاح الاسلامي قد استمد انساغه الأولى من مذهب الجامعة الاسلامية الذي يعبر عن أيديولوجيتها الفئوية أو الطبقية الضيقة الرجعية، ومده أيضا بأسباب الانتشار والنو، فكان تيارا فكريا معاديا للنهضة لسبب وحيد وهو أن ديندنه الأساسي مثل في أن يكون، وهكذا كان حقا، نهضة روحية – دينية: فالمهام التي طرحتها هذه "النهضة" على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والادارية كانت نابعة من مصادر محافظة منطلقات رجعية، وعليه جاءت الاتجاهات الروحية – الثقافية معارضة ومناقضة لطبيعة النهضة التنويرية العربية، وشكلت عقبة كأداء اعترضت تطورها الى مراقي الكمال، رغم أنها كانت تتظاهر بمجاراتها ومماشاتها الى هذا الحد أو ذاك.

وهذا ليس بالأمر الغريب اطلاقا. فمفهوم الشرق تطابق لدى اصلاحيي الاسلام العرب وغير العرب مع مصطلح "الاصلاح الاسلامي". ومن هذا المنطلق بالذات ، ظل المصلحون المسلمون بزعامة الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما – حتى في السبعينيات – أسرى أفكار الجامعة الاسلامية، وكانوا يرون أن الخطر الأساسي، أو بالأحرى الوحيد والفريد على وحدة المسلمين الروحية – الدينية أو السياسية – الادارية متجسدا في الغرب الأوربي عامة والمسيحي منه خاصة.

ونتيجة للنظرة التطابيقة التكاملية بين الغرب والمسيحية لدى الأفغاني وغيره من المصلحين الاسلاميين، تحولت مهمة مقاومة الخطر المسيحي الى واحدة من المهام الآنية والعاجلة في سبيل الوصول الى وحدة المسلمين قاطبة، فكانت فكرة الجهاد والتعصب للاسلام السلاح المجرب عبر القرون خير ضمانة لتحقيق المهام المطروحة.

ان انبعاث الاسلام وازدهاره المتماثل مع الشرق في تلك الظروف، ارتبط ولاشك بالعمل من أجل تطهير الدين من البدع والخرافات، والفساد والانحراف الذي طرأ عليه عبر العصور، ومحاولة الرجوع به الى البدايات الاصيلة، والى العهد الراشدي. هذا النشاط بالذات الذي ابتدأه جمال الدين الأفغاني خطيبا مسقعا، وارتقى الى نوعية جديدة بفضل الشيخ محمد عبده وأصدقائه الذين عرفوا بسعة الاطلاع في مجال العلوم الدينية، اصطبغ بصبغة "عريبة" بداء من أواخر الثمانينات ، والذي أوقع الأدب الاستشراقي في كفه ميزان الأفغاني لترجيح الأفغانية. دون القيام بأية محاولة للفصل أو العزل بين نزعة الجامعة الاسلامية والاصلاح الاسلامي وعلى الضد يجري اشهارهما معا في تيار واحد موحد يعرف ب"الأفغانية".

ويزاداد الأمر تعقيدا حين تضاف في الأدبيات الاستشراقية الى كفة "الأفغانية" مزايا وسمات خاصة بوصفها حركة سياسية – فكرية هاجسها الاساسي – كما يدعون – التصدي لمحاولات التوسع الأوربي الاستعمارين والنضال ضد النير الاستعماري. وأكثر من ذلك، فقد زعم ليفين مثلا "أن تعاليم الأفغاني نتجت عن مجمل الحركة القومية – التحررية لكل الشعوب الاسلامية على اختلاف الطبقات والفئات الاجتماعية التي شاركت فيها".

نعتقد جازمين أن أمثال هذه التقييمات نابعة من واقع عدم التمييز تمييزا دقيقا بين الجوهر الحقيقي للمفاهيم الاستراتيجية الدائمة للاصلاحيين ومذهبهم الفكري ومعتقداتهم، وبين الأهداف التكتيكية العابرة والمظهر الخارجي لنشاطهم. وهنا، نرانا ملزمين بتكرار ما قلناه سابقا: ان الجوهر الأساسي للاصلاح الأساسي والدافع الفكري – السياسي له كامنان في الهدف الرئسي المتمثل في مناصبة المسيحية والأوربة العداء، التي تزامنت بفعل المصادفة فقط مع تصاعد الاعتداءات الاستعمارية الانكليزية ودخول الاصلاحيين الاسلاميين حلبة النضال الوطني المصري تحت ستار العداء للاستعمار. وهذا التمويه الاعتباري والظرفي يمكن التدليل عليه من خلال الحقيقة التالية، وهي أن العداء للاستعار اتسم بطابع آني – وقتي امتد الى أبعد حد حتى سنة 1888 موعد عودة الشيخ محمد عبده، ثم تحول اعجابه الى أداة فعالة لعرقلة نضال الشعب المصري ضد الاحتلال الاستعماري الانكليزي بشتى السبل والوسائل.

تجدر الاشارة أيضا الى أن اشهار "الأفغانية" بمثابة سلاح فكري لمحاربة الاستعمار،واعتبار نشاطه حافزا لتطوير الحركات التحررية في الشرق، من المغالطات التاريخية . فالتدقيق في الوثائق المبعثرة وتقييمها تقييما موضوعيا يتيح لنا امكان التصدي للتقييمات الأحادية الجانب المبالغ فيها الى أقصى حدود المبالغة والرامية الى تصوير شخص الأفغاني مناضلا عنيدا ضد الاستعمار، وهو في الحقيقة انتهازي آمن بتقلب الأحوال والظروف. فكن يقارع الاستعمار أوانا، ويهادنه آونة أخرى. وفيما يخص مسألة مذهبة المتماسك والكامل النضوج والنابع من مناهل صافية لنضالات الشعوب الوطنية – التحررية، فهو نتاج عدم كشف القناع عن أفكار الأفغاني ومفاهيمه الطبقية – الاجتماعية، وتعرية مواقفه الفئوية الضيقة – المحافظة لا بل والعوامل الخفية الرجعية.

مما لا شك فيه أن صعوبة الكشف عن الحقائق التاريخية ناجمة عن اعتبارين حاسمين. أولهما: أن الباحثين تغاضوا حتى اليوم عن مسائل بالغة الأهمية مثل: نقطة البداية، ومن ثم مرتكزات عداء الأفغاني للانكليز. وهي من الأمور التي تصعب الاجابة عنها من خلال المصادر التاريخية الموجودة بحوزتنا. ولكن المهم في هذا السياق أنه تم التستر أيضا على نشاط الأفغاني في لندن وبطرسبورغ وطهران وإسطنبول، وعن أسرار اتصالاته بالسلاطين والملوك، التي بمقدور علماء الاستشراق الكشف عن خفايا وخبايا "الجانب الأوربي" منها على الأقل. وثانيهما: الظرف الذي يثير الحيرة والاستغراب، وهو أن الأفغاني دخل الحركة الوطنية المصرية وتراس مؤقتا الجناح الأيمن منها المتمثل في الاصلاحيين المسلمين، وكان قد وجه قرار اتهام شديد اللهجة ضد الاستعمار. الأمر الذي عبر ولاشك عن المزاج الوطني السائد لدى الجماهير الشعبية المسلمة، فضلا عن النداء الذي وجهه السيد للجماهير داعيا اياهما للاستيقاظ وخوض معمعان النضال، الأمر الذي ألهب الأمزجة الوطنية.

في مثل هذه الظروف ثمة أسئلة عديدة تطرح نفسها: "متى وجه الأفغاني قرار الاتهام؟ وما هي المدة الزمنية التي استغرقها؟ ما هي الفئات أو الطبقات الاجتماعية التي عبر عنها؟ وأخيرا، ما هي الحسابات والتوقعات التي رمى اليها من وراء كل ذلك؟" الاجابة عن هذه التساؤلات قد تتيح لنا – ولو بصورة جزئية – امكان الكشف عن الحقائق التاريخية.

كان المستشرق بوغوشيفيتش من أوائل الدارسين الذين قيموا دور الأفغاني تقييما مغايرا للمألوف الى حد ما. ففي المقال الذي نشره في سنة 1961 بعنوان "جمال الدين الأفغاني" كزعيم سياسي "يشير الى جوهر تعاليمه المعادية للاستعمار "وينسب "تناقض آرائه الى العصر الذي عاشه" ، ولكنه يدلي بتقييم مغال حين يصف الأفغاني بأنه "يعبر عن مصالج البورجوازية الوطنية المسلمة". ولنذكر في هذا الصدد أن الكاتب لو يراع الحقيقة التاريخية بشأن عدم وجود البورجوازية الوطنية المصرية على النحو الذي طرحه في الفترة موضوع البحث. وبعد خمسة عشر عاما اعتبرت المستشرقة ستيبانيانتس البورجوازية الآنفة الذكر (التي لا وجود لها في الواقع أيضا) ليس من نتاج بلد عربي محدد، بل نظرت اليها في اطار العالم الاسلامي قاطبة وضمن نطاق الشعوب المسلمة كافة. ثم أكدت قائلة: "كانت أفكار الأفغاني تعبر عن مصالح الشعوب بالقدر الذي كان يتحدث فيه لصالح تحريرها من ريقة الاستعمار الأجنبي. فالأفغاني كان مفكر البورجوازية المسلمة ومنظرها في آخر المطاف. والسبب غير ناجم فقط عن أنه حارب للقضاء على النير الاستعماري، وهذا ما يتفق تماما ومصالح البورجوازية الوطني. بل ولأن تأويله لتعاليم الدين الاسلامي ومواقفه من أسس التنظيم الاجتماعي، كان بورجوازيا من حيث الجوهر". وفي فترة متأخرة ، تحاشى المستشرق نيرسيسوف الدخول في التفاصيل وسارع لوصف الأفغاني بقوله: "كان من أوائل أيديولوجي البورجوازية الوطنية في بلدان الشرق". بينما امتنع ايفانوف عن التطرق الى الهوية الاجتماعية – الطبقية للسيد ، وبالغ في وصفه قائلا: "أنه أول ثوري مسلم وأعظم مصلح اسلامين وصديق كبير لروسية".

يتضح لنا مما ذكرناه أن حسن النية إزاء الأفغاني قد وصل الى أقصى حدود المبالغة، فالسيد الذي كان يبحث عن المجد والشرف الرفيع، تآخى مع غلاة المفكرين الرجعيين الروس من عملاء القيصر الروسي وجواسيسه في أوراب. ورغم ذلك وضعوه في مصاف أنصار التوجه نحو روسية، في الوقت الذي كان ديدنه الأساسي متركزا في تعزيز الامبراطورية العثمانية لاجبار روسية على احترامنا. ويوم كان لا يفرق بين روسية وانكلترة وفرنسة وألمانية من منظور "محوها جميعا عن وجه البسيطة" من قبل السلطنة العثمانية في سبيل توطيد ديار الاسلام قاطبة. وقد أدى صفاء النية بالبعض الى ايجاد مسوغات بورجوازية لتهجمات السيد على الفكر الاشتراكي، ومثال المستشرق الألماني الماركسي غيرهارت هيوب خير دليل على ما نقوله. فهو اذ يبدي اسفه العميق بأن الأفغاني كان "ثائرا مؤمنا خاص غمار حرب سافرة ضد الاستعمار"، ولكنه وضع كتابا "هاجم فيه الدهريين من ديموقريط الى داروين " وآنزل النكير" بكل من فسر العالم تفسيرا مناقضا للمعرفة الغريزية التي في طباع الخليفة، وهي: "الاقرار بوجود الخالق". وأعرب هيوب عن أسفه المضاعف لأن الأفغاني لم يكتف بانزال النكير على الدهريين لأنهم "عرضوا للخطر مسألة القرار بوجود الخالق"، بل عدهم أشد خطرا وأعظم شرا "على سلامة المجتمع وسعادة البشر". من البديهي والمسلم به أن هيوب أكثر من قادر على شرح وتوضيح مضامين الفكر الديني – الفلسفي المحافظ القروسطي النزعة لدى الأفغاني. بماذا تعلل اذا امتناعه عن ذلك؟ لا بل وسعيه الدائب لتبرير الفكر السياسي الاجتماعي الرجعي للسيد الأفغاني؟ وقد أوكل هيوب لا اراديا هذه المهمة الى و. طيبي الذي قال: "لقد عبر الأفغاني عن مصالح البورجواوزية التجارية الصاعدة، ولذا سعى للدفاع عن نظام الملكية الفردية من المادية الأولى". ومن هذا لاكلام توصل هيوب الى نتيجة أساسية مفادها أن الأفغاني كان قد دعا في الحقيقة الى "الاشتراكية الاسلامية".

اذا كان المؤرخون المستشرقون قد توصلوا الى استنتاجات اعتباطية تقر وتعترف بأن مذهب الأفغاني كان "بورجوازيا" و"اشتراكيا اسلاميا"، فان الأدباء المستشرقين – الذين ترددوا سابقا في تقييم الهوية الاجتماعية لمذهب الأفغاني – سارعوا لتأكيد طبيعته المعادية للاقطاعية. فها هي ذي الأديبة المستشرقة دولينينا تقول مثلا: "لقد تحول الاسلام السني الى سند قوي للاقطاعية، وشكل عائقا جديا وحاسما بوجه كل تقدم مادي وروحي.. بيد أن السير الى الأمام بهدف القضاء على الأيديولوجية الاقطاعية تطلب تكييف مفاهيم الاسلام مع متطلبات العصر. وهكذا، انطلقت حركة الاصلاح الاسلامي التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالنضال السياسي (المعادي للاستعمار الأوربي)". ينبغي التذكير هنا بأن أمثال هذه التقييمات تركت طبعا أثرا سلبيا على جيل المؤرخين الماركسيين العرب الشباب، الذين شرعوا – في السنوات الأخيرة – يبالغون في تقدير دور الاصلاحيين المسلمين. فقد كتب الماركسي اللبناني محمد دكروب قائلا: "ان حركة الاصلاح الديني، التي برزت خصوصا في أعمال الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي تشكل جزءا أساسيا وطليعيا في حركة سياسية تحررية واسعة".

الأمر المثير للدهشة والاستغراب في أمثال هذه التقييمات أن الأفغاني ترك لنا أقل القليل المنسوب الى يراعه في تلك المرحلة التاريخية (نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينات)، والذي يتجلى بكل وضوع باعتباره مزيجا من أفكار الجامعة الاسلامية والاصلاحية، المعادية في طبيعتها للفكر التنويري، والذي عدا أكثر وضوحا وتجليا في أواسط الثمانينات من خلال تستره بورقة التين المتمثلة في العداء للاستعمار وبولائه شبه المطلق للنموذج الحميدي – السلطاني. نقول ان أمثال هذه التقييمات ظهرت على الساحة بعد صدور "موسوعة تاريخ الفلسفة" السوفييتة (واعجباه). فقد أكد العلماء الماركسيون أن الجامعة الاسلامية تمثل من حيث الجوهر مذهب الأفغاني ، وبالتالي "أيديولوجية طبقة الاقطاعيين والملاكين العقاريين، التي سعت (بمساعدة الاصلاح الاسلامي – نجارين) الى توطيد أركان الاسلام بوصفه دعامة النظام الاقطاعي".

ومن اللافت للنظر في هذا السياق الملاحظة التي أبداها المؤرخ المصري رفعت السعيد بشأن المرحلة المصرية من نشاط الأفغاني وهي: أن السيد كان ينفي امكان اضطلاع الجمهور الفلاحين بأي دور فعال على مسرح التاريخ، ولذا سعى دائبا عن طريق الجمعيات السرية الى اعداد صفوة من أبناء البورجوازية الصغيرة والمتوسطة". وفي اطار هذه "الصفوة" – التي كان يعدها الأفغاني لتسلم مقاليد السلطة السياسية في البلاد – كان السيد ينظر الى العلماء بوصفهم من "البورجوازية المتوسطة". ونؤكد هنا بالمناسبة، أن معظم كتاب العرب يستحق العتاب في العديد والعديد من المسائل – باستثناء العداء للأفغانية – ولكنهم لفتوا انتباهنا مشكورين أكثر من مرة الى ماهية الفكر الأفغاني من خلال تأكيداتهم وتقييماتهم التي قد تبدو عادية تماما. فالمؤرخ حسن صعب الممثل البارز في التاريخ البوجوازي اللبناني أعلن – على سبيل المثال: "أن برنامج الجامعة الاسلامية من وضع السلطان عبد الحميد الثاني وجمال الدين الأفغاني"، ثم تابع كلامه: "عبد الحميد الثاني هو الأب السياسي، بينما الأفغاني الاب الروحي لمذهب الجامعة الاسلامية. ان نظرة فاحصة وسريعة لأفكار الرجلين ونشاطهما تثبت زيف الزعم القائل بأن الجامعة الاسلامية وليدة رد فعل سياسي – ديني خالص للاسلام على محاولات التغلغل الاستعماري العربي".

لقد حاول المستعربون السوفيين توضيح الجوانب المعقدة التي غضمت عن حياة وشخص الأفغاني، لكنهم طلوا من حيث الجوهر يدورون في اطار التأكيد على الطابع "المتناقض" لآرائه وأفكاره. فتوصلوا الى استنتاجات يمكن تلخيصها في العبارات التالية: "الأفغاني شخصية معقدة شديدة التناقش"، اتسمت آراؤه الاجتماعية والسيايسة بطابع "تناقضي" لا بل "وتناقضي الى حد كبير جدا". ولعل ليفين قام بمحاولة أشد جسارة حين أكد أن جوهر آراء الأفغاني المعادية للامبريالية، وتوجهها الليبرالي – الاصلاحي من ناحية، ثم الدعوة الى "الأخوة الاسلامية الشاملة" التي تنفي الصراع الطبقي في نهاية المطاف، والصياغة غير الدقيقة أحيانا للأفكار المطروحة، والمظهر الديني لتعاليم الأفغاني من ناحية أخرى قد استغلها البورجوازية والاقطاعيون والأوساط الرجعية والتقدمية في البلدان الاسلامية من أجل تعزيز مواقعها". وليس من العسير أبدا الاستدلال مجددا أن هذا الاستناج الأساسي المطروح يعود بذاكرتنا القهقري الى النظرية الشهيرة والمرفوضة بشأن الطابع "الازدواجي" لنزعة الجامعة الاسلامية.

وسعيا منه لتحديد ماهية الفكر الأفغاني وجوهره وموقعه في مسار الحركة النهضوية الاسلامية الأدبية الغربية، خطا المستعرب الألماني الماركسي يورغان براندت خطوة متميزة أصيلة ومثيرة، اذ نظر الى الأفغاني ليس بمنظار الواقع المصري الذي سادته الفوضى ، بل من منظور الواقع السوري الأكثر استقرار ووضوحا بالقياس الى المصري، فتوصل الى استنتاجات هامة مفادها أن أيديولوجية "حركة التحرر الاسلامي السوري – اللبناني" كانت قد أفرزت ثلاثة تيارات رئيسية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

أولا – تيار الجامعة الاسلامية النابع من مذهب الأفغاني، كان ينوي ارساء أسس "التكافل السياسي والاقتصادي والثقافي" للعالم الاسلامي، والتصدي لسياسة الأطماع التوسعية للدول الأوربية في آسية الامامية. كانت "الأوساط الاقطاعية السنية العربية والباب العالي" في طليعة المبشرين الداعين لهذا التيار الفكري الرامي قبل كل شيء الى "الحفاظ على البنيوية الاجتماعية الاقطاعية، وبالتالي على الحكم التركي الأجني في البلاد العربية".

ثانيا – نزعة الجامعة العربية التي "لم تقف ضد السياسة الاستعمارية الأوربية وحسب، بل وقامت سياسة الظلم التي مارسها الحكم التركي الرجعي". ولكن أنصار هذا التيار لم يطرحوا بحزم شعار "القضاء على الامبراطورية العثمانية".

ثالثا – التيار التقدمي الذي مثل الاتجاه الديمقراطي الذي "حارب سياسة الاستعمار الأوربي والحكم التركي معا"، وطرح أفكارا جذرية تهدف وتطالب "باجراء تحولات جوهرية في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصايدة القائمة".

وسعيا منا لرسم صورة واضحة لشخصية الافغاني ومذهبه الفكري، نقدم للقارئ الأرمني ترجمة للبرنامج السياسي الوحيد المسهب، الذي خلفه الأفغاني بصورة كتاب موجه للسلطان الأحمر عبد الحميد الثاني:

"وأرى أن مسألة خروج الأفغان وأميرهم أمر يمكن الاستفادة منه، فالأفغان بسبب تمسكهم بالدين واذعانهم لعرش الخلافة، ليسوا سوى أداة بيد السياسي المحنك يديرها كيفما يشاء، ولوحة يرسمها بما أراد من الألوان. ان توجيه سياسة الأفغان باتجاه السياسة العثمانية بحيث يتم اخضاعها اخضاعا مطلقا ليس بالأمر العسير على السياسي المجرب، الذي ينقعهم بحججه الدامغة أن سؤدد الإسلام ومجده في تحالفهم مع عرش الخلافة فيما يخص قضايا الحرب والسلم والحياة".

"واذا نجحنا في ذلك، فلا شك في أن ايران تسرع لمقام السلطنة العظمى للاتحاد معها، اذ هي في أمس الحاجة لشد أزرها، ولصون كيانها من مطامبع الغرب الموجهة نحو عموم دول الشرق، الأمر الذي يرفع من مقامنا بين الدول الكبرى، ويمكننا من تبوؤ المركز الأول في الميدان السياسي، وعندها تحسب انكلترة وروسية لنا ألف حساب، فتحاولان التقرب الينا وتؤيدان خططنا وفي هذه الحالة نختار التحالف الذي نريد ونشاء دون أي استجداء".

"وهذه السياسة هي أفضل من التقرب الى ألمانية (كمفتاح للتحالف الثلاثي) لأنه من غير المستبعد أبدا ان تخوننا بتقديم الدعم للنمسة لاحتلال جزء من أراضينا، كتعويض لها عن الأراضي النمسوية التي تطمع ألمانية في الاستيلاء عليها. ويجب ألا يغرب من بالنا أن ألمانية ودول التحالف الكبرى تؤيد سياسة بريطاينة في مصر، وهذا يتناقض كليا مع وعودهم الودية المعسولة لتركية، ويستجيب تماما لسياسة انكلترة الرامية لعدم عرقلة نشاط ألمانية في أفريقية".

"ومن هنا نرى أن الدول الكبرى تراعي مصالحها، ولا تهتم بمصلحتنا أبدا، وان أقصى غاياتها تتمثل في محو كل اثر لدولتنا عن وجه البسيطة، ويجب الا نفرق هنا بين روسية وانكلترة وألمانية وفرنسة، ولاسيما عندما تلاحظ ضعفنا وقصورنا على التصدي لمكائدهم وأطماعهم. أما اذا توحدت الدول الاسلامية في الشرق ونهضت نهضة الرجل الواحد للتخلص من ريقة الاستعمار والمستعمرين، فسيرجع الشرق للشرقيين، الذين سيجدون أذانا مصغية لهم".

"ومتى انتظم الأفغان وايران في سلك هذا الاتحاد، فسيكون من اليسير علينا نشر سلطان الخلافة على الهند، حيث يهب المسلمون هناك لنصرتنا، وعندئذ نجبر انكلترة على الزحف أمامنا والجلاء عن مصر".

"وانضمام الأفغان لسياستنا ونصرتهم للخليفة الأعظم ليس من الأمور اليسيرة، فأميرهم لن يقدر على مقاومة مشيئة أهل البلاد الرغبين في الانضمام الى الاتحاد الاسلامي. بيد أن نجاح هذا المشروع مرهون بالسرية المطلقة ازاء الخطوات التي سنعتمدها، كي لا تتمكن الدول الكبرى من الاطلاع على هذا المشروع فتبادر الى اجهاضه قبل أن نضعه موضع التنفيذ".

"واني أكفل لتركية انجاز هذا العمل اذا تبنت فكري، وعملت بنصائحي وارشاداتي، وأكلت الي أمر القيام بهذه المهمة. واذا ابتسم لي الحظ وقدمت الى تركية، فاني سأعرض المزيد من الارشادات التي اتاحتها لي تجاربي الشخصية أكثر من أي انسان آخر. هذا ما آره مناسبا من الكلام حتى هذه اللحظة. وما اتبعت فيما عرضته على جلالتكم الا داعي النصح والاخلاص، والله المعين".

وبفضل هذه الرسالة – كما يقول جرجي زيدان "انتهى أخيرا (أي سنة 1892- المؤلف) الى الآستانة بجوار عبد الحميد الثاني فكان يجله ويهابه، وبقي هناك حتى مات سنة 1897". وهكذا وصل الافغاني العدو الألد للاستعمار الأوربي – المسيحي، الى ضالته المنشودة، انتهى الى خدمة الاستعمار التركي – الاسلامي بكل تفان واخلاص. فالأفغاني الذي صوره معظم المستعربين بأنه القائد الملهم في تطوير الصحافة والأدب الاجتماعي المصري والعربي، كان يسابق الريح للوصول الى احضان السلطان الدامي، يبايعه بالخلافة والملك. معربا عن ولائه لأمير المؤمنين السلطان عبد الحميد، الذي نشر صورته المؤرخ الكبير فيليب الطرزي في موسوعته الجليلة عن تاريخ الصحافة العربية، وكتب تحتها الكلمات التالية: "عبد الحميد الثاني سلطان العثمانيين وأكبر عدو للصحافة والصحفيين" ثم استشهد بقول الشاعر العربي فيه:

أعطيت ملكا فلم أحسن سياسيته وكل من لا يسوس الملك يخلعه

ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا شكر عليه فنعه الله ينزعه


نسخة هذه الرسالة – المذكرة حصل عليها في الآستانة الصحافي العربي سليم باشا حموي صاحب ومنشئ جريدة "الفلاح" التي أصدرها في القاهرة سنة 1885. وقد اشتهر، وهو النصراني، بالدفاع عن الديانة الاسلامية، والتزلف كثيرا الى السلطان عبد الحميد، وكان مغرقا في الرجعية لدرجة جعلة جريدة مثل "البشير" اليسوعية البيروتية ، تتهمه بالرجعية. كان سليم حموي هذا في ذات الوقت، من كبار الموظفين في المخابرات السرية المصرية، وكان بحكم وظيفته يفتش عن وثائق سرية لصالح سلطات الاستعمار الانكليزي. فارسل حموي ترجمة فرنسية عن مذكر الأفغاني الى أرثور هنري هاردينغ القنصل العام البريطاني في مصر، الذي أرسلها الى رئيسه روزبري وزير الخارجية البريطاني من رام الله بتاريخ 3 أيلول (سبتمبر) 1882. بصفحتها واحدة من الوثائق "السرية للغاية". وقد أكد الشيخ رشيد يومئذ مصادقية مثل هذه الوثيقة، وأعرب عن اعجابه بالحماسة والحمية اللتين أبداهما السيد الأفغاني وتفانيه في خدمة السلطان . فكان يوجه رسائل سرية موقعة من السلطان عبد الحميد الى سائر أصقاع ديار الاسلام. الى أن أقنع شيخ الاسلام أبو الهدى الصيادي السلطان بعدم جدوى هذه "الأوهام" التي تراود مخيلة الأفغاني – على حد تعبير رضا نفسه. وللعلم نقول أن الشيخ أبا الهدى الصيادي الرفاعي كان نقيب الأشراف في حلب، وسيد الطرق الصوفية في السلطنة العثمانية كافة. وامام الصلاة لدى السلطان عبد الحميد الثاني والذي – كما يقول كوتلوف – سحر السلطان بمعجزاته الكاذبة وأساليبه البارعة في الشعوذة والاحتيال". كان يتمتع بنفوذ عظيم في سياسة الدولة، فيعين القضاءة والوزاء، لا بل وحتى الصدر الأعظم ، ولذا لم يكن ينظر بعين الرضا الى وجود منافس قوي له في ردهات قصر يلدز.

وهما يكن من أمر، فالانصاف للحقيقة التاريخية – يدعونا لتبيان دور الأفغاني ومكانته من خلال علاقته باثنين من كبار رواد النهضة العربية الأصلية وهما: يعقوب صنوع وأديب اسحاق.


5- يعقوب صنوع

كان يعقوب صنوع (1839-1912) واخدا من أبرز أعلام النهضة الأدبية العربية الحديثة، ومن أعظم رواد الفكر التنويري في مصر، ومؤسس الأدب المسرحي العربي ومنشئ المسرح الوطني المحترف، وإمام الصحافة الفكاهية الهزلية في العالم العربي قاطبة.

كان والده رافائيل من اليهود الناطقين بالضاد، ومدير أعمال أحمد باشا كبير آل يكن الأسرة الاقطاعية الشهيرة، العائلة التركية – الجركسية الأصل التي تعربت وقتذاك كانت تجعمعها روابط القربى والمصاهرة مع الأسرة الشاهانية والعترة الخديوية، وكانت تسعى جاهدة لتسلم قيادة الاقطاع السياسي المقونن في عهد محمد علي حاكم مصر. وحينما شاهد الامير أحمد باشا يكن نباهة يعقوب واتقانه منذ نعومة أظافره تعاليم التوراة ودراسته الانجيل والقرآن وعقائد الأديان القائلة بوحدانية الخالق، وميله العظيم الى اللغات والآداب الأجنبية، أرسله على نفقته الى مدينة ليفورنو الايطالية حيثة تلقى العلوم العصرية مدة ثلاث سنين.

ومن ذاك العهد درس اللغات الأجنبية في مدرسة الطلائع وفي مدرسة الأنجال حيث كان يدرس أبناء الأمراء في مصر، علاوة على تدريسه اللغات لأغصان العائلة الخديوية وأبناء الأعيان والبورجوازيين. وبعد عام واحد من تقديم عرض "ريجوليتو" لمسرح الأوبر الايطالي بمناسبة احتفالات فتح قناة السويس، قام صنوع سنة 1870 بانشاء أول مسرح عربي في القاهرة بمساعدة الخديوي اسماعيل ، عرض فيه المسرحيات الهزلية والغرامية التي ألفها بنفسه أو نقلها الى العربية، فألف صاحب الترجمة نيفا وثلاثين رواية مسرحية كفلت له ليس فقط منح وهدايا الخديوي الموصوف بالكرم، بل منحه لقب "موليير مصر".

تجدر الاشارة الى أن تأليف صنوع لم تقتصر على المسرحيات الهزلية المدرسية، بل تعدتها الى روايات فكاهية من فصل واحد ، يطلق أبطالها باللهجة المصرية، فكان أول من استعمل القلم الدارج . فكان الرائد المسرحي يستخدم المسرح (رغم أنه كان مقصورا على الأسرة الخديوية وأبناء الأعيان وأرباب الحكم) لنشر أفكاره التنويرية، فلا يتوانى عن تأليف روايات ساخرة من القيم والأخلاق الاقطاعية يبدي فيها تهكمه وسخريته من أبناء الطبقة الاقطاعية – الأرستقراطية المشهورين بعدم الكفاءة والزهو والتباهي، وكان يوجه نقدا لاذعا للقيم الاخلاقية السائدة عصرئذ ، ولاسيما تعدد الزوجات والجهل والأمية والتخلف بين المصريين.

ولكن مهما بدا مسرح صنوع تقدميا من حيث الجوهر، فانه لم يكن قادرا على تلبية احتياجات المجتمع المصري، اذ أبقى أبوابه مشرعة أمام أبناء الطبقة الراقية أكثر من خمس سنين.

كانت فرقة التمثيل التي شكلها أديب اسحاق في اطاره "جمعية زهرة الآداب" بالاشتراك مع سليم نقاش في مسيس الحاجة الى الوسائل المادية للمارسة النشاط السياسي – الاجتماعي ، تدرك حق الادراك ماهية الواقع المصري واحتياجاته الثقافية، ولذا سافرت من بيروت الى الاسكندرية سنة 1876، وهنا اشترك الرائدان معا في تأليف وترجمة المسرحيات والأوبريتات وتمثيلها. ونذكر منها: "أندروماك" و"فيدر" و"شارلمان الكبير" و"كورازي" و"زنوبيا" (ملكة تدمير) و"البخيل" لموليير وغيرها.

كان النجاح حليف الفرقة في البداية، ويكفينا القول ان العروض الثلاثة الأولى لمسرحية "أندروماك" جمعت ألفي جنيه مصري، أرسل معظمها لمساعدة مدرسة البنات اليتامى في بيروت. ولكن اسحاق والنقاش انسحبا فجأة من الفقرة، فتابع يوسف الخياط قيادتها، ثم انتقل بها الى القاهرة سنة 1878 – كما يقول جرجي زيدان – حيث قامت برعاية الخديوي بتمثيل مسرحية "الظروم" في دار الأوبر، غير أن التمثيلية التي حملت على سياسة الظلم التي يتبعها السلطان التركي، أثارت حفيظة الخديوي إسماعيل وعدها أشبه بنقد للحياة والنظام الاجتماعي – السياسي في عهده وعهد جهده، ولذك حظر نشاط الفقرة وأبعد أعضاءها من البلاد.

تعد مسرحية "اظلوم" وهي كما لدى زيدان "المظلوم" – من تأليف النابغين سليم النقاش وأديب اسحاق، غير أن في وقت متأخر على نسخة من التمثيلية المذكورة فيما لم يدون عليها غير اسم سليم النقاش. ونحن نعتقد بأن كريمسكي غير محق فيما رمى إليه، ليس فقط انطلاقا من واقع التعاون المشترك بين نقاش – اسحاق الذي كان ظاهرة مألوفة وعادية، بل ولأن المؤرخ والأديب الكبير زيدان العالم بخفايا وخبايا الأمور بدأ ترجمته لسليم النقاش بقوله: "هو صديق أديب اسحاق ورفيقه" مشددا (مثله في ذلك مثل يوسف أسعد داغر وناجي علوش) "بأن اسحاق بدأ تأليف الروايات التمثيلية أو تعربيها مع صديقه سليم النقاش". ولم يكتف كريمسكي بهذا القدر من الاجحاف بحق اسحاق بل تجاوزه الى حد عد فيه روايطة "أندروماك" من تعريب اسحاق والنقاش معا في الوقت الذي كتب فيه خير الله ووافق على كلامه من القدماء جرجي زيدان ومن بيروت عن راسين الشاعر الفرنسي المشهور رواية "أندروماك" اجابة لطلب قنصل فرنسة، ولأهداف خيرية.. فترجمها ونظم أشعارها وعلم أدوارها في مدى ثلاثين يوما. وانتهى الحفل الخيري بجمع مبلغ خمسة وثلاثين ألف غرش أو نحو سبعة آلاف فرنك" . ونذكر أن مسرحية "أندروماك" نشرت في شتى مطبعات كتاب "الدرر" لأديب اسحاق (الطبعة الأولى سنة 1886).

هناك رأي شاءع مفاده أن أديب اسحاق وسليم النقاش بعد النجاح الأول، لم يلقيا اقبالا لدى الجمهور، فتخليا عن المسرح ليوسف الخياط سنة 1886، وهو زعم عار من الحقيقة لسبب بسيط وهو أن مسرحية "الظلوم" كانت خير شاهد علىت تواصل العلاقة والمودة ين أعضاء الجوقة التمثيلية، ومن المنطقي الافتراض بأن المسرح كان يضيق برواد عظام من أمثال اسحاق والنقاش، فانغمسا معا في خضم الحياة الاجتماعية – السياسية والأدبية – الثقافية التي كانت تمور بالنشاط والحيوية في مصر ليشكلا مع يعقوب صنوع والأفغاني وغيرهما من أرباب الفكر من خلال نشاطهما الصحافي والسياسي الأوسع.

وهنا نرى لزاما علينا دحض الرأئ الخاطئ الشائع في مؤلفات الكتاب العرب ولاسيما لدى المسلمين ، والزاعم بأن الأفغاني كان يومئذ امام حركة النهضة الثقافية القومية العربية، مؤكدين أن أديب اسحاق كان كغيره من المريدين الشباب من "تلامذة" السيد الأفغاني الذين "اشتد عودهم" على يده. وقد لاقى هذا الرأي الخاطل بعض الانعاس في صفحات الاستعراب السوفيتي أيضا. ولدى بعض الكتاب الأرمن في المهجر.

واذا سلمان بأن الشيخ محمد عبده لم يكن في الواقع من "تلامذة" الأفغاني بكل ما في هذه الكلمة من معنى، بل كان ممن لازموه وأحذوا عنه. وبالتالي صديقه – كما يقول جرجي زيدان، فان أديب اسحاق كان في ربيعه التاسع عشر، وكان حقا في سن التلمذة بالقياس الى الأفغاني البالغ الخامسة والثلاثين من عمره أي كان أديب أصغر من صنوع بسبعة عشر عاما ومن محمد عبده بسبع سنين. ولأنه من الأدباء المسيحيين المهاجرين الى مصر جعله ويعقوب صنوع اليهودي الاصل في المرتبة الثانية بالقياس الى علماء المسلمين وأدبائهم في القاهرة، أمثال الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما. بينما كان أديب اسحاق زعيم "جمعية زهرة الآداب" ومنشئ جدريدة "التقدم"، و"شابا استوعب الأدب الاجتماعي المتوقد" – على حد قول كراتشكوفسكي. وقد أكد وكوتلوف الآتي بحق: "اذا كان نجم الأفغاني يزداد تألقا ولمعانا في دنيا المثقفين المسلمين (المصريين والغرباء) الذين كانوا ينهلون من منابع الفكر الاصلاحي الاسلامي ، وذلك من خلال خطبه ومواعظه التي عالجت شتى القضايا السياسية والاجتماعية الملحة خلال عامي 1878-1879، فمن المرجح أن أديب اسحاق ويعقوب صنوع هما اللذان نالا شعبية كبيرة ابان سنتي 1876-1877 فسار من ورائهما الأفغاني ومحمد عبده والكثيرون".

كل ما في الأمر أن يعقوب صنوع لم يكن بمقدوره أن يقصر نشاطه على حقل التدريس والتأليف المسرحي والتمثيل، بل انخرط بحماسة منطقعة النظير في الميدان الاجتماعي – السياسي، وذلك أمر طبيعي ومنطقي. فهو قد اطلع خلال دراسته في ايطالية على تاريخ حركة التحرر القومية الايطالية التي امتدت منذ نهاية القرن الثامن عش حتى سنة 1870، فأخذت بمجامع فؤاده، وسحر بفكر الجناح اليساري – الديمقراطي من حركة النهضة الايطالية، فانبرى بعد عودته الى الوطن للدعوة الى أفكار جوزيبي مازيني (1805-1872) زعيم الحركة الجمهورية الديمقراطية ومفكرها ومنظرها، بعد أقلمتها مع الواقع المصري، ومن المحتمل أن صنوع كان قد وطد أواصر ودية مع الثوار الايطاليين الذين لجؤوا الى مصر بهذا التعاون الذي كان من الأمور الطبيعية في اطار جمعية "مصر الفتاة" الاسحاقية، ويرجع الفضل في ذلك الى اشتهاره بين أواسط الشباب الثوري بأنه كان من أشد الداعين الى وجوب العيش في ظل نظام بورجوازي – ديمقراطي بعيدا عن تسلط الأجانب واستفزازهم. وفي سنة 1872 أسس صنوع جمعيتين علميتين احداهما: "محفل التقدم" (وكلمة محفل تذكرنا على الأقل بالمحفل الماسوي) والأخرى: "جمعية محبي العلم". وفي سنة 1874 سافر الى أوربة حيث بقي مدة يدرس أحوالها السيايسة وأخلاق شعوبها. ثم قفل راجعا الى الوطن مشغوفا بتقدم الأوربيين، وملتهبا بنار الحمية "لبث روح الحضارة العصرية بين الشعب المصرية".

في تلك الفترة بالذات ربطت الأفغاني ومحمد عبده علاقات مودة وصداقة، فدرسا عليه شيئا من اللغة الفرنسية. ونحن اذ لا ندحض أفكار تأثر صنوع بآراء المصلحين الاسلاميين، فانا نجزم بامكان التأثير الفكري المتبادل بينهم، ونرفض رأي المستشرقة دولينينا القائل: "عندما انضم الأفغاني وعبده الى عداد تلامذته الذين يدرسهم الفرنسية، ملكت أفكار الأفغاني لبه فورا، وتحول من أستاذ الى تلميذ له". وقد كتب الطرزي بهذا الصدد ما يلي: "كان الأفغاني وعبده متحدين معه (يقصد صنوع – المؤلف) بعرى المحبة، وقد درسا عليه اللغة الفرنسية. واتفق ثلاثتهم على انشاء جريدة عربية هزلية لانتقاد اعمال الخديوي إسماعيل ثم قر رأيهم على أن يتولى ادارتها صاحب الترجمة ويحرر فيها العالمان المذكوران.

لقد أشارت دولنينا، بدون أساس الى أن "التلميذ" صنوع كان يتردد على محاضرات وخطب الأفغاني ، فكان يزداد حقدا وكراهية ازاء سياسة الخديوي إسماعي ليبتعد تدريجيا عن سيده فيلحق بمعكسر المعارضة. فاذا كان البحث عن مصدر الالهام الروحي ضرورة لازبة، فلماذا لا تشدد الأدبية على احتمال تأثير أديب اسحاق، ولاسيما أننا في هذه الحالة نجد أساسا، ربما كان غير ملموس، ولكن يمكن ادراكه بطريقة الحدس، فبعد وقت قصير من فورة الخديوي إسماعيل على مسرحية "الظلوم" وطرده لجوقة الممثلين، عطل الخديوي مسرح صنوع أيضا في أواخر سنة 1876 أو مطلع 1877 لعرضه تمثيلية "الوطن والحرية" التي ألفها صنوع واستهدف الطعن في أسرته الخديوية وحاشية القصر، اليس من الأرجح أن يسعى المسرحي اليهودي يعقوب صنوع المستنير اللاتصال بالمسرحي المسيحي المستنير أديب إسحاق الذي تجمعه به قواسم مشترك أكثر بكثير مما تجمعه بدعاة الاصلاح الاسلامين؟ ألم تكن مسرحية "الوطن والحرية" متطابقة في أفكارها ومضمونها مع مسرحية "الظلوم" أكثر من مطابقتها لافكار الأفغاني الرامية الى تحقيق الاتحاد الاسلامي؟.

ومن خلال حديثنا عن الثنائي إسحاق – صنوع الأكثر انسجاما وتألفا ضمن الثلاثي الأفغاني – صنوع – إسحاق، لابد من التركيز على العام 1877، عندما بدأ الرائدان نشاطهما في الميدان الصحفي في وقت متزامن، فناشر صنوع جريدة "أبو نضارة زقاء" واسحاق صحيفة "مص" ثم اتبعها بجريدة "التجارة" في العام التالي، وهذه الدوريات هي التي تجعلنا نجوم بأن الأفغانين ومعه محمد عبده، كانا على الأرجح ملازمين لاسحاق وصنوع، وليسا اطلاقا إمامين لهما – كما يزعمون.

نشير في هذا السياق الى أن دولنينا لم تتوان عن اعتبار الجرائد الثلاث المذكورة أعلاه، لا بل والصحف اللاحقة التي أنشأها كل من صنوع واسحاق بأنها كانت من نتاج الوسط الأفغاني". ونحن اذ نبدي بعض التريث ازاء محاولة ذكر اسم أديب اسحاق في المقام الأول في هذه الحالة – رغم أن الماضي الصحافي المجيد لاسحاق يعطينا الأساس الكامل لذلك، فان الشهادة التي قدمها الطرزي بشأن مشاركة أو مساندة الأفغاني، كافية تماما للتدليل بكل وضوع على أن الصحف المذكورة كانت وليدة وسط اجتماعي أعظم اتساعا وشمولا بالقياس لما كانت عليه أجواء الأفغاني ذاتها. ونرانا هنا في مسيس الحاجة الى المستشرق كريمسكي الخبير الأكبر في مصادر ومراجع ذلك الزمان. فبعد تأكيده أن صنوع زار أوربة ثانية عام 1874 وبعد عودته الى بلاده تنصل من ايمانه واخلاصه للخديوي اسماعيل ، يواصل كريمسكي كلامه فيقول: "خلال أحاديثه الودية مع الرائدين المستنيرين (يقصد الأفغاني وعبده – المؤلف) داخل حركة المعارضة المتمثلة بالتجديد الاسلامي ، كان يعقوب صنوع يبث فيهما أفكاره الهادفة الى ايقاظ الرأي العام المصري ضد سياسة الخديوي إسماعيل، وذلك عن طريق اصدار جريدة هزلية (بقوى موحدة من الثلاثة) ليس باللغة العربية الفصحى العصية على أفهام العوام، بل بالقلم العامي المصري.

وهكذا، أنشأ يعقوب صنوع جريدة هزلية أسبوعية عنوانها "أبو نضارة زرقاء" بتاريخ 21 آذار (مارس) 1877، كانت تنتقد بشدة تزايد النفوذ السياسي الاقتصادي للدول العربية الاستمعارية ، وكانت شديدة اللهجة ازاء السياسة الخارجية والمالية التي أتبعها الخديوي اسماعيل، الذي كان يسمى تندرا ب"شيخ الحارة". فكان يفتح الأبواب واسعة أمام التغلغل الأجنبي ، وكانت المقالات اللاذعة الساخرة، المكتوبة باللغة العامية المصرية ، سببا في اثارة حقد الخديوي عليه، ولما لم يكن "يجد وسيلة مناسبة للانتقام من صاحبها حتى القتل لو استطاع الى ذلك سبيلا، أصدر أوامره بابطال الجريدة بعد ظهور العدد الخامس عشر منها، وأوعوز الى قنصل ايطالية بأن يطرده من مصر لأنه كان محتميا بالدولة المذكورة". وننبه في هذا المقام إلى أن الأفغاني وعبده نجوا أيضا من غضب الخديوي اذ لم يكونا يوقعان مقالاتهما باسماء صريحة".

ولجأ يعقوب صنوع الى باريس حيث أصدر بتاريخ 7 آب (أغسطس) 1877 جريدة "رحلة أبي نضارة زرقاء" ، التي أعاد فيها الكرة على إسماعيل باشا منتقدا أعماله بجرأة عظيمة ظاهرها هزل وباطنها جد. صدر منها ثلاثون عددا، ثم أعاد الجريدة اسمها الأول الذي عرفت به في مصر وهو "أبو نضارة زرقاء" في 21 آذار (مارس) 1879. ومن الجدير بالذكر أن جريدة صنوع كانت مضطرة - بسبب مضايقات الأسرة الخديوية والدبلوماسية الانكليزية الى تغيير اسمها أكثر من عشر مرات الى أن عطلت نهائيا في 31 كانون الأول (ديسمبر) 1910، وفي سنة 1886 أنشأ جريدة "الثرثارة المصرية" أو "البافار إجبسيان" بثماني لغات شرقية وغربية ، ومن بينها مقالات مكتوبة بالأرمنية.

كان يعقوب صنوع مشهورا في دنيا العرب ولدى المؤرخين باسمه المستعار "أبي نضارة" أكثر من كنيته الحقيقية. فكان أبو نضارة لا يخشى من المناداة بأعلى صوته "مصر للمصريين". كان يطبع من جريدته في بعض الأوقات خمسة عشر ألف نسخة كانت تجد طريقها أبدا الى مصر، فيتلقاها أنصارها بما تستحقه من الاعتبار، ويتهافتون على طالعتها في بلاد الشرق الاسلامي، وقد لعبت دورا عظيما في اذكاء الوعي القومي والروح الوطنية بدى الجماهير المصرية الغارقة في مستنقع الأفكار الاجتماعية – السياسية ذات الطابع التجهيلي القروسطي. فكان أبو نضارة يطالب بالحرية التامة وسيادة وادي النيل واستقلاله، ويطعن بالاحتلال الانكليزي. وكان أبو نضارة على حق تماما حين أكد أن جريدته "فتحت عيون الناس على استبداد الحكام وظلمهم وأيقظت الفلاح من سباته العميق وجعلته يدرك عظمة قوته وطاقته، وحقوقه وواجباته؟.

ينبغي التشديد أيضا على أن يعقوب صنوع كان من أشد المدافعين عن فكرة توحيد جميع الشعوب الشرقية، ولاسيما الاسلامية ، بهدف التصدي لمطامع الدول الاستعمارية الأوربية، بيد أن دعوته كانت على النقيض تماما من دعوة الجامعة الاسلامية، ولم يجمعها أي جامع بها ولا بالنزعة العثمانية. اذ لم يكن يرى في الأخيرة اطلاقا الخيار البديل عن السيطرة الاستعمارية. وكان الشيخ أبو نضارة يعتقد أن لكل شعب من الشعوب الاسلامية، ولكل بلد من بلدان الشرق، ومن بينها الشعب العربي في مصر، الحق الكامل في الاستقلال الوطني والسيادة القومية والتطور الذاتي. ورغم كل ذلك، حاول بعض الملوك ممن كانت شهوة التسلط تستبد بهم ازاء البلدان المجاورة الضعيفة نسبيا، وعلى الاخص السلطان عبد الحميد الثاني وشاه العجم، استمالة الصحافي الكبير الحر وامام الصحافة الفكاهية المصورة. ففي سنة 1901 قام الخديوي عباس حلمي الثاني بزيارة الشيخ أبي نضارة في مدينة ديفون بفرنسا لاقتناعه بالرجوع الى وادي النيل ممتعا بالحرية التامة، لكن الشيخ الأبي رفض اجابة الطلب ما دام القطر المصري مقيدا بأغلال الاحتلال الانكليزي. كانت منزلة صنوع سامية في دينا الأدب والصحافة. وقد نال من رؤساء الحكومات الشرقية والغربية أوسمة الشرف الكثيرة ، ولولا تواضعه لأحرز أضعافها.

وبسبب غياب مجموعات الصحف التي اصدرها أبو نضارة، ولاسيما في الفترة المتقدمة، لا يزال الغموض يكتنف شخصيته في التاريخ الاستعرابي حتى الآن الراهن. ولكن القليل المتوفر عن حياته يؤهلنا لوضعه في مصاف الأعلام والرواد الأوائل العظام في النهضة الأدبية العربية الحديثة.

صحافة أديب اسحاق الحرة=

كان غياب أبي نضارة عن الحياة الاجتماعية في مصر خسارة فادحة بالنسبة للحركة الوطنية المصرية. ولكن الطبيعة لا تطيق الفراغ، وفيما كان الفكر في حالة سبات، أخذ أديب اسحاق على عاتقه مهمة سد الفراغ القائم. فأصدر في غرة تموز (يوليو) 1877 جريدة "مصر" التي كانت الوحيدة في ميدان الفكر الأدبي بالقاهرة. وفي 15 شباط (فبراير) 1878 رددت صداها في الاسكندرية جريدة "التجارة"، وهي يومية سيايسة اقتصادية تجارية لمنشئها أديب اسحاق أيضا.

يسود في أدبيات الاستشراق نوع من الالتباس بشأن الصحف التي أسسها الرائد أديب اسحاق، والتي كانت أشبه بأبواق حقيقية للحركة الوطنية المصرية. ولعل مصدر هذا الالتباس ناجم عن فقدان مجموعات هاتيك الصحف في أكبر وأغنى دور الكتب العربية والمكتبات العامة. وهو السبب الكامن في جوهر الغموض الذي اكتنف جريدة "مصر" التي كانت أطولها عمرا. وانتشرت في ذلك الوقت آراء مختلفة في أوقات متباينة، مفادها أن ناشرها لم يكن أديب اسحاق وانما سليم نقاش. وقد أدى هذا الالتباس الى خطأ آخر، وهو: اذا لم يكن أديب اسحاق القاطن والعامل في القاهرة أساسا، ناشرا لجريدة "مصر" المؤسسة في القاهرة، فانه ما كان بامكانه أن يكون منشئ ومحرر جريدة "التجارة" الصادرة في الاسكندرية، حيث كان يسكن ويعمل سليم النقاش.

هذه البلبلة في الأفكار يمكن تبديدها بكل سهولة اعتمادا على المؤرخ المعاصر جرجي زيدان الذي أزال الغموض القائم بقوله حرفيا: "اشترك النقاش مع أديب في تحرير الجرائد التي أنشأها بمصر والاسكندرية، ولاسيما العصر الجديد والمحروسة والتجارة". بينما استشهدا الطرزي بكلام عوني اسحاق الذي أكد قائلا: "ورغب أديب أثناء ذلك في انشاء جريدة عربية فدان له الوطر بذلك فأنشأها باسم "مصر" عام 1877، وليس في جيبه أكثر من عشرين فرنكا. ولما رأى من اقبال الناس عليها ما يشد الأزر، نقل ادارة الجريدة الى الاسكندرية بشاركه في ادارتها وتحريرها سليم النقاش". وفي موضع آخر من موسوعته رأى الطرزي من واجبه التأكيد ثانية "أن أديب أنشأ "مصر" في القاهرة يوم كان سليم نقاش في الاسكندرية، ثم رأى أديب أن مدينة الاسكندرية أقرب لاصطياد الأخبار، فنقل اليها ادارة الجريدة، بعدما اتفق مع سليم نقاش على اصدارها بالشركة بينهما".

ومن نافل القول ان الاضطراب السائد في الآراء الأكثر خطورة وزيفا هو اعتبار جريدة صنوع وصحف اسحاق "وليدة الوسط الأفغاني"، وان جريدتي إسحاق "مصر" و"التجارة" كانتا "تروجان أفكار الأفغاني". وأن الأولى خاصة "كانت تنشر مقالاته باستمرار".

والأسطر التالية التي أوردها محمد باشا المخزومي شكلت الأرضية التي ترعرت فيها أمثال هذه البلبلات، قال: "خرج جمال الدين من مجلس سمو الخديوي ومضى الى تنفيذ خطته في المحفل الماسوني، وأخذ يخطب خطبا تستفز الخامل وتوقظ الغافل وتصير الجبان شجاعا، والرعديد أسدا ضاريا، وأشار على تلامتذه ومريديه بنشر الفصول الناطقة بالحقوق المهضومة لأهل البلاد من المصريين. وكان في مقدمة من كتب الأدباء السوريون، وفي مقدمتهم المأسوف عليه أديب بك إسحاق؟ وعلى أثر ذلك بدأت الحركة الفكرية الوطنية في الظهور، وأخذت الحكومة تحتاط لتلك الحركة، وتجامل الوطنيين، وتتقرب من الشعب بالمواعيد الحسنة، وحسن النية، ومن إنالتهم مجلسا نيابيا، اذا هم حافظوا على السكينة ولم يفرطوا في المطالب الوطنية.

وقد أكل كل من ناجي علوش وسامي عزيز، مؤرخ الصحافة المصرية، أن الأفغاني "كان يشير الى المقربين منه باختيار الصحافة ميدانا لنشاطهم، ووقف حيواتهم على تحقيق هذا الهدف النبيل" المتمثل في مساعدته" على ترويج أفكاره المعادية للتخلف والاستبداد والجبروت والعدوان"، ومن أنه أسدى النصيحة عينها الى اديب اسحاق "لما توسمه فيه من أمارات الذكاء ومخايل النجابة"، وحصل له امتياز صحيفة "مصر". ولكن اذا توصل الكتاب العرب الى استنتاجات نظرية اعتمادا على الدلائل العملية، كما فعل ناجي علوش في تأكيده أن الأفغاني هو الذي "وضع خطتها ورسم خطها"، وهذا أمر مفهوم ومسوغ من موقع الولاء والاعجاب بالأفغاني، فأن الوضع مغاير تماما بالنسبة للمستعربين السوفييت، والذي جاء موقفهم هذا نتيجة طبيعية لتفاديهم الموقف الانتقادي الموضوعي في تعاملهم مع المصادر والمراجع التاريخية. ولنسلم جدلا بأن المخزومي أقر رغما عنه بأولوية وريادة أديب اسحاق في ميدان بعث الحركة الوطنية المصيرة، فما هي حقيقة "الخط الذي رسمه الأفغاني للصحف التي أنشأها أديب إسحاق – حسب التصور السائد في التاريخ العربي"؟. لقد أشار ناجي علوش الى أن جريدتي "مصر" و"التجارة" عبرتا عن خط الأفغاني ، فأيدتا الشورى ضد الاستبداد، ونقلتا أفكار الثورة الفرنسية، وهاجمتا السياسة البريطانية". لا نرى من واجبنا التوقف طويلا حول الحقائق المسلم بها في التاريخ العربي واللبناني والجازمة بأن أديب اسحاق كان منذ وجوده في بيروت بوصف رئيسا لجمعية "زهرة الآداب " ومديرا لتحرير جريدة "التقدم"، يدافع بثبات وحزم عن الشورى ومبادئ الثورة الفرنسية، وفيما يخص الهجوم على السياسة البريطانية، فإن أديب اسحاق الذي استوعب بحماسة منقطعة النظير تقاليد الصحافة الفرنسية الحرة، كما يقول كراتشكوفسكي، هو الذي أمسك، ولاشك، بيد السيد الذي كان يحبو على هذا الطريق.

ومن الحقائق التي لا يرقى اليها شك أن أديب اسحاق رسم في صحفه خطا فكريا وطنيا (كما يقول المخزومي) أي نهجا اجتماعية – سياسيا. وأن الأفغاني كان يواصلها "بشذرات من قلمه وخواطر من فكره". ولكن بعد أن انتقلت ادارة "مصر" الى الاسكندرية – كما تجزم مصادر الدراسة العربية، ونشير في هذا السياق أن المؤرخ الكبير فيليب الطرزي استقى معلوماته من سليم بك عنحوري، وهو واحد من نوابغ المفكرين السوريين في ذلك العصر، حول المساعدات المادية والأدبية التي كانت تتلقاها صحف أديب اسحاق، ومما ذكره أن جبرائيل مخلع وحنين بن نعمة الله خوري كان من كرام السوريين في الاسكندرية، وأفاضل علمائها يجودان بسخاء لمساعدة هذه الجريدة التي بلغت حد الشهرة والانتشار، بينما كان أنصار ومريدو الأفغاني المصريون، أمثال الشيخ محمد عبده وابراهيم اللقاني يخدمانه قلما وسعيا ما استطاعا الى ذلك سبيلا. ومما له بالغ الدلالة في هذا الموضوع اشارة ناجي علوش الى أن السيد نشر أولى مقالاته بعنوان "الحكومة الاستبدادية" في جريدة "مصر" العدد 23 بتاريخ 14/2/1879، فيما نشر محمد عبده مقالين في التربية والصناعة بتاريخ 5/6/1879. ويواصل علوش تعليقه على ذلك بقوله: "وكان أديب اسحاق يعززها ببلاغته وقدراته الكتابية وبثقافته ومعرفته وأمانيه السياسية".

ومن نافل القول إن الأفغاني رغم تأخره في المشاركة بقلمه في جريدة "مصر" فإنه كان من العاملين المهمين فيها، بصرف النظر عن أن اسمهامه لم يكن مستمرا أوذا وزن سياسي يذكر. وقد أشار خير الله الى هذا بقوله: "كان صدى صوت الخطيب المصقع السيد الافغاني يسمع بين فينة وأخرى فقط". فالأفغاني قلما نشر مقالاته باسمه الصريح، بل كان يوقعها باسم مستعار مثل مظهر بن وضاح، رغم أن المصادر التاريخية أكدت أنه كان معروفا لدى صفوة القراء. ومن الحقائق المسلم بها أن مقاليه الشهيرين "الحكومات الشرقية وأنواعها" و"روح البيان في الإنكليز والأفغان" جلبا شهرة عظيمة للجريدة في الأوساط الثقافية المصرية المسلمة، ولكنهما عادا عليه بالمجد والشهرة لدى أرباب السياسة الأوربية، حتى ان غلادستون، رئيس وزراء بريطانية، أثبت مقالا له يشهد فيه لجمال الدين الأفغاني بأنه من أئمة أعلام الشرق حالة كونه من ألد أعداء الإنكليز.

ومهما يكن من أمر، فان شهرة أديب احساق في ربيعه الثاني والعشرين، كانت قد طبعت الآفاق. فجريدة "مصر" التي اشتهرت بفضل مقالاته الضافية البليغة عن الوطن والحرية "بلغت وهي في سن الطفولة مقام الكهول، وصار لها من الراغبين في مدة أشهر ما لم يجتمع لغيرها في مدة أعوام" – كما يقول الطرزي.

ولكن ثمة أمر يستوفنا في هذا السياق وهو أن المستشرقة دولينينا التي شددت على واقع أن أديب اسحاق "ولد في أسرة موظف غير غني على مذهب الكاثوليك" لاذت بالصمت المطبق ازاء مسألة انتمائه القومي. هذا السهو الذي يبدو ظاهريا بريئا يثير الاستغراب من حيث الجوهر. وجل ما في الأمر أن دولينينا في كتابها الكرس لتاريخ "الأدب العربي الحديث في مصر وسورية" عرضت سيرة ونشاط ثمانية من الرواد في مضمار الأدب الاجتماعي والصحافة، أربعة منهم من أصل غير عربي، فذكرت أن يعقوب صنوع كان "إسرائيليا"، وولي الدين يكن "سلسل أسرة تركية"، و"قاسم أمين" حفيد أمير كردي. ولم تنطق ببنت شفة عن الرائد الرابع بوصفه سلسل عائلة أرمنية، رغم أن معظم الأدبيات تلوذ بالصمت – كقاعدة – عن الأصل القومي للرواد الثلاث المذكورين، وتلفت الانتباه الى الأصل الأرمني لأديب اسحاق فقد كتب يوسف أسعد داغر في كتابه النفيس "مصادر الدراسة الأدبية" ما يلي : "اسحاق أديب لبناني، دمشقي المولد، أرمني المذهب، بيروت النشأة". أما لويس شيخو فقد كان تشديده كالآتي: "وهو من الطائفة الأرمنية". ونذكر في هذا المقام أن دولينينا ليست الوحيدة بين المستعربين السوفيين الذين تغاضو عن ذكر الأصل الأرمني للعديدين من رواد النهضة العربية البارزين، وهذا والحق يقال، يضيف لونا جديدا فاقعا الى لوحة الأواصر الودية والصداقة الحميمة التي جمعت بين الأرمن والعرب عبر العصور، وبالتالي بين العرب والسوفييت. فأديب اسحاق بالنسبة للمستشرق زلمان ليفين "دمشقي المولد" ليس غير، ورزق الله حسون عنده "أديب عربي حلبي" لا غير. والمستشرق يوسوفوفو لم يشأ ذكر موطن حسون الأصلي في أرمينية الغربية، بل شدد بغير حق على أن "موطن أسلافه في روسيا" ، وسعيا منه لتحاشي ذكر اسم دير بزمار الأرمني في جبل لبنان، حيث تلقى الكاتب علومه، قال: "رزق الله حسون الحلبي المولد تلقى علومه في بيروت".

وفيما يخص مسألة التشويش بشأن ادوار نشر جريدة "مصر" وتسمياتها المختلفة، فمن حسن الحظ أنه يتسم بطابع أكثر موضوعية بسبب وجود مرتكزات وأدلة تزيل الالتباس القائم، فجريدة "مصر" نفسها هي المؤهلة أكثر من غيرها، في آخر المطاف – لتقديم الحجج الدامغة المتعلقة بالقضايات المبدئية التي تخص نشاط أول جمعية سياسية في ارض الكنانة، ونعني بها جمعية "مصر الفتاة".


جمعية مصر الفتاة

التسمية الثانية لجريدة "مصر" في المصادر والمراجع التاريخية هي "مصر الفتاة" والثالثة: "مصر القاهرة" ، علما بأن الأخير يتزامن مع فترة وجود أديب اسحاق في باريس، أي من 24 كانون الأول (ديسمبر) 1879 الى صيف أول خريف سنة 1880. وقد أفاد خير الله أن الجريدة صدرت في فترة من الزمن باسم "مصر" ثم ثارت تنشر بعنوان "مصر القاهرة". ومن المؤكد أيضا أن أديب اسحاق الذي عاد الى مصر بعد انقلاب الوزارة المصرية في أيلول (سبتمبر) 1881، أعاد نشر جريدة "مصر" حتى صيف عام 1882، أي عشية دخول القوات البريطانية القاهرة. وهنا يصح الافتراض التالي: أن الجريدة التي حملت اسم "مصر" تحولت بدءا من تموز (يوليو) 1887(ربما في المرحلة القاهرية الأولى) الى "مصر الفتاة" (أي منذ انتقال ادارتها الى الاسكندرية). واستمرت في الصدور بهذا الاسم حتى ابطالها بأمر من الحكومة المصرية في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1879. وما دامت هناك شهادات تثبت أن الخديوي اسماعيل أمر بتوقيف جريدة أديب اسحاق مؤقتا ابتداء من شباط (فبراير) 1879، فانه يحق لنا الافتراض أن جريدة "مصر" أعيد نشرها باسم جديد وهو "مصر الفتاة".

لقد شهد المعاصرون وفي مقدمتهم المخزومي وأديب اسحاق، أن الأفغاني انتظم في سلم الجمعية الماسونية بالاسكندرية وتبنى في المحفل الإسكتلندي التابع للمحفل السامي في أورينت سيتي بإنكلترة، وتقدم فيه حتى أصبح من الرؤساء. وكان يدافع فيه بحماسة عن أفكار الثورة الفرنسية، ولما فشل الأفغاني في "تسييس" المحفل المذكور، وعلم أنه لا يمكنه العمل مع أولئك الإخوان الذين ضاقوا بآرائه وأفكاره الانتقادية ذرعا، فأنشأ محفلا وطنيا تابع للشرق الفرنسي، وفي برهة وجيزة بلغ عدد أعضائه العاملين أكثر من ثلاثمائة من نخبة المفكرين، والناهضين من المصريين من مريدي جمال الدين من العلماء والوجهاء والضباط الذين طرحوا مطالبهم المهنية – الفئوية على جدول أعمال المحفل. ومن الطبيعي أن يكون أديب اسحاق الذي انتظم سنة 1873 في جمعية البنائين الأحرار في بيروت، وهو من المحافل التابعة أيضا للشرق الفرنسي السامي، على علاقات طيبة وودية مع الأفغاني في اطار المحفل الماسوني الوطني. ومن الأمور المثيرة للانتباه حقا الواقعة التي أوردها المستشرق ايفانوف، والتي مفادها أن أديب اسحاق وعبد الله النديم قاما في مطلع سنة 1879- خلافا للأفغاني الذي كان قانع بنشاطه في اطار المحفل الذي أسسه – بمحاولة جريئة لتأسيس جمعية أكثر ثورة وتحررا في الاسكندرية – عرفت باسم "جمعية مصر الفتاة" . كان معظم أعضاء الجمعية من العرب النصرانيين ومن أبناء الطائفة اليهودية المصرية ومن الايطالييين المتمصرين، وكلهم من المؤمنين والمدافعين عن أفكار جمعية "ايطالية التي أسسها مازيني". فكانوا يطالبون بالحريات المدنية والسيايسة وبالعدل والمساواة بين المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن انتماءاتهم الديني والقومية. وبتشكيل حكومة وطنية حقيقية تكون مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب انتخابا حرا.

هناك التباس آخر، يخص جمعية "مصر الفتاة" مرتبط باسم عبد الله النديم، الذي احتل مرتبة طبيعية في التحرك الوطني المصري الذي نزل إلى الساحة في أواسط السبعينيات، وكان على رأس قائمة رجال الفكر المصريين المسلمين.


عبد الله النديم

على الرغم من اتفانا مع الرأي القائل بأن الأفغاني ترك أثرا كبيرا على الفكر الاجتماعي – السياي لدى عبد الله النديم، فاننا نؤكد أيضا أن الفضل في عقلنة وعلمنة ذلك الفكر وتوظيفه في خدمة الحركة والوطنية والنهضة القومية والأدبية، يرجع في المقام الأول الى الصحافة الحرة التي أنشأه الرائد أديب اسحاق ابتداء من جريدة "مصر" و"التجارة" وانتهاء بجريدة "مصر الفتاة" التي فتحت صدرها أمام النديم، الذي كان يخطو أولى خطواته في مديان التنوير العربي. ومثل هاذ الدور العظيم اضطلعت به "جمعية مصر الفتاة" الاسحاقية التي أذكت الروح الوطنية لدى الجماهير المصرية، فكانت ملاذا للأحرار من العرب والأجانب. وكان عبد الله النديم قد انضم اليها منذ اليوم الأول لتأسيسها. وكان تأثره بها عظيما لدرجة دفعت المستشرق الالماني راثمان لاعتبار النديم خطأ أول محرر لجريدة "مصر الفتاة"، لا بل ان المستشرقة تشيرنوفسكايا زادت في الطنبور نغما حين عدت النديم "مؤسسا وناشرا ومحررا" للجريدة المذكورة.

أما ليفين فقد ذكر "أن جماعة "مصر الفتاة" السرية كانت تعارض ديكتاتورية الخديوي إسماعيل وتدعو الى الدستور والى صياغة مجمل الحياة في البلاد صياغة جديدة" ثم تابع كلامه مؤكدا: "إلا أن النشاط التآمري كان سيتعارض مع معتقدات النديم .. ولذا ترك الجماعة التي سرعان ما انهارت". أضف الى ذلك أن ليفن أكد واقعة انضمام النديم سنة 1879 الى مصر الفتاة وبقائه مؤقتا وقتا قصيرا فيها، ثم خلص الى القول: "وشارك مشاركة نشيطة جدا في انشاء أول جمعية تنويرية في مصر، وهي الجمعية الخديوية الإسلامية. في حين نسبت الأديبة المستشرقة دولينينا الى النديم شرف تأسيس "جمعية المقاصد الخيرية" التي جمعت حسبما تقول – "أنصار التنوير البارزين من رجال الفكر والشخصيات الاجتماعية المصرية".

من الملاحظ أن وقوف النديم بوجه "النشاط التآمري" – كما يزعم ليفين – والتوجه الى الشعب (كما لدى رفعت السعيد) كانا من الأسباب الرئيسية لانفصال النديم عن اسحاق وأنصاره، وهذا بنظرهما من الأمور الايجابية التي تستحق الثناء ،ناهيك بأن المفاضلة الضمنية بين "مصر الفتاة" و"المقاصد الخيرية" لم تكن اطلاقا لصالح الأولى. بيد أن ابتعاد النديم عن الاسحاقيين كان مغايرا في الحقيقة للأسباب الواردة أعلاه، الأمر الذي نوه عنه الكاتب المصري التقدمي أنور عبد الملك، باشارته الى أن انشقاقا وقع بين أعضاء جمعية مصر الفتاة سببه خلاف سياسي – ديني حاد. فالنديم والأتباع المسلمون القلائل في الجمعية كانوا يناصروا ويدعون إلى أفكار "العثمانيين الجدد"، ولذا انسحبوا من جمعية اسحاق السياسية ليؤسسوا في 18 نيسان (أبريل) جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية".

واذا عدنا بذاكرتنا الى الوراء نرى كيف أن أديب اسحاق الوطني المتوقد حماسة واندفاعا، وقد انسحب غاضبا من محفل الأفغاني الماسوني وكيف أن النديم عينه اقتفى أثره، وكيف التقى الاثنان مجددا في الجو الثوري – الوطني السائد في "جمعية مصر الفتاة" ، وكيف أن الأفغاني – بسبب تأييده للخديوي توفيق، احتقر "الجناحين المدني والعسكري من الحزب الوطني المصري المؤسس عام 1879، وامتنع في الواقع عن مناصرة "اللائحة الوطنية الأولى" وكيف أن النديم وقع مجددا في فخ الدعوة الى الاتحاد العثماني والخضوع والاذعان للسلطان – الخليفة التركي، ولذلك كله انقطع عن جمعية اسحاق الوطنية الحقة لينشئ المقاصد التي ما كان بامكانها اطلاقا أن تكون أول جمعية تنويرية مصرية، اذا كان الحديث يدور حقا عن التنوير الأصيل، وعلى كل حال، لم يكن انفصال النديم عن اسحاق انفصالا نهائيا، لسبب بسيط وهو ان كراسة "قانون الجمعية الخيرية الاسلامية" كانت قد نشرت في مطبعة أديب اسحاق بالاسكندرية سنة 1879.

وقبل أن نتابع سياق الأحداث، نقول ان من الدوافع الأساسية التي حدت بالنديم وصديقه الشيخ محمد عبده لممارسة النشاط الاجتماعي اتصالهما بالأفغاني ورواد النهضة السوريين. فضلا عن ردود الأفغاني السلبية التي تركها الواقع العثماني القائم في نفسيهما. وينبغي التذكير هنا أن عملية التماثل والمحاكاة التي كانت تجري في الحياة العربية الاسلامية والناجمة عن التحولات الفكرية الثقافية الهزيلة والمحدودة في المحيط العثماني لا يجب أن تثير دهشتنا واستغرابنا، بل يجب اعتبارها من الظواهر العادية المألوفة.


الشيخ محمد عبده

كان الشيخ محمد عبده متحدرا من أسرة فلاحية غنية. كان من ألمع تلامذة الأهزر، اذ نشر في سنة 1874 كتاب "المنشئات" الذي يبرهن فيه على وجود الله حقيقة مطلقة أزلية في هذا الكون. ولما جاء الأفغاني الى مصر سنة 1871 اتصل به محمد عبده ولازمه، فأصبح من أشهر مريديه وأخذ عليه الفلسفة والمنطق. فآثر الأستاذ في محمد عبده تأثيرا بعيدا وحوله الى داعية نشيط للاصلاح الاسلامي. ومن هذا الموقع نشر مسلسلا من المقالات الجريئة على صفحات الأهرام حول التفاعل بين الشرق والغرب. وقد حاول الشيخ محمد عبده في مقالاته المذكورة، التي وقع فيها تحت تأثير أفكار الأفغاني والرواد السوريين ابراز الدور العظيم الذي لعبته مصر القديمة في تاريخ الحضارة البشرية، فدعا أبناء وطنه الى استعادة أمجادهم التليدة. والوصول الى نهضة كهذه يتطلب برأيه الاعتماد على منجزات الحضارة الأوربية الحديثة، التي ارتكزت على أسس الحضارة الشرقية. ويعبر الكاتب عن أسفه العميق لأن حكام البلاد من أرباب السياسة والفكر يقوقعون في جراب القناعة الذاتية، ويهابون تطور الأدب والصحافة وتقدمهما، ويهؤزون بمنجزات العلوم والفلسفة، ولا يشعرون البتة أن مصر المتخلفة سائرة تدريجيا باتجاه السقوط تحت سيطرة الأجانب والغرباء.

وما ان انتهى الشيخ عبده من دراسته في الأزهر سنة 1877 حتى ارتبط عن طريق الأفغاني ارتباطا متينا بالجرائد التي أنشأها أديب اسحاق ، فنال نشاطه الاجتماعي – التنويري زخما قويا. وقد أكدت المستشرقة دولينيا أن تصوراته الدينية – الفلسفية وأفكاره عن التقدم الاجتماعي – السياسي تتلخص في فكرة تهيئة الشعب لحكم نفسه بنفسه عن طريق تنوير الأذهان. ثم أضافت تقول: "لقد شدد المصلح الاسلامي محمد عبده على أن الدين الاسلامي هو الدين الذي يتوجه الى العقل البشري. ولذا يجب على المؤمن أن يدرك أسس الايمان الحقيقي، والأهداف التي يرمي اليها الدين. فصلاة الانسان الجاهل لا تعادل شيئا – يقول عبده ذلك دعايا الى نشر المعارف الدينية بين الشعب (طبعا وفقا لروح التجديد الاسلامي) ثم يصل الى نتيجة مفادها أن أبناء المدارس خير من أبناء المساجد. وكان يرى أن أعظم رسالة يؤديها المؤمن الحقيقي تتمثل في هداية التائهين الى الصراط المستقيم، وفي أن يقوم أهل العلم بتعليم أهل الجهل . ويؤكد الشيخ محمد عبده أنه يجب أن يخدم وحدة الاسلام. ونشر أفكار الحكم الشرعي ، والقضاء على الخرافات والخزعبلات والمؤسسات الاجتماعية المتخلفة. وأن يوجه الناس وجهة الرقي والنهوض، وبكلام آخر هو الدرب الأساسي نحو التقدم والازدهار".

غير أن البحث عن الدروب المؤدية للاصلاح الديني والتنوير الاسلامي في مفاهيم الشيخ محمد عبده، لا يجب أن يدفعنا الى غض الطرف عن اشارة تلميذه رشيد رضا القائلة بأن شيخ المستقبل كان في بداية مجاورته في الأزهر يتعلم مبادئ اللغة التركية بمساعدة طلبة الرواق الإسطنبولي، وكان يطالع جرائد العثمانيين الجدد، أمثال: "المخبر" و"حريت" و"عبرت" وغيرها من الدوريات التي وجدت طريقها الى القاهرة. وانه كان يركز جل انتباهه على مقالات السوافي. والأفكار والمبادئ الدينية – اللاهوتية نحو "الله والشريعة" ، السلطان والوزراء هم تجسيد لارادة الخالق على الأرض، والعلماء هم حافظو الشريعة، والاسلام الراشدي، والادارة والشورى القائمة على تعاليم القرآن والسنة وهلمجرا.

وقد توصل المستشرق جولتياكوف من خلال دراسته للمواد المنشورة في جريدة "المخبر" لسنة 67/1868 الى الاستنتاج التالي: "يسترشد السوافي بالمبدأ القائل ان الاسلام في العهد الراشدي كان يتمتع بمزايا وأفضليات تجعله يتفوق على بقية الأديان عامة، والمسيحية خاصة". وأن "مبدأ الاجماع الذي يدعو الاسلام اليه يكفل قيام دولة أكثر عدلا، وأن المساواة بين علية القوم وتابعيهم نابعة من الشريعة الاسلامية". وأكثر من هذا : "فالاجماع نفسه يضمن الرقابة على الاقتصاد، وأن الاسلام باعتباره دينا حنيفا يوسع آفاق المعارف".

ومما لا شك فيه أن مقالات من هذا النوع للسوافي، فضلا عن دعوات نامق كمال إمام المصلحين الأتراك إلى "الوحدة الاسلامية" في جريدة "عبرت" إبان السبعينيات، والغيوم الدكناء المخيفة في سماء الامبراطورية العثمانية عصرئذ – كل ذلك ترك آثاره على ذهن الشاب محمد عبده، فجائت الحمية في نفسه والحماسة في فكره المتوقد. ومن الجلي أيضا أن خواطر الأفغاني وأفكاره كان لها كبير الأثر في توجيه عقليته وجهة الطموح والحرية. وفتح عينيه على ضعف المسلمين وأغلالهم، ومناهضة الغرب لهم، تلك الأفكار التي تحولت بعد عقد من السنين الى مذهب سياسي – ديني متماسك شامل، ونعني به مذهب الجامعة الاسلامية الذي ارتبط الى حد بعيد باسم السيد الأفغاني الحسيني.

ولابد أن تكون الحقيقة التالية قد تركت بنفس المقدار أثرا في نفس محمد عبده، الذي أدرك بفكره الثاقب أن نشاط رواد النهضة السوريين في مصر لم يكن موجها من حيث الأساس من أجل نهضة قطرية – محلية، بل ذات توجه عروبي شامل، بمعنى أنه كان يضفي على النهضة في مصر طابعا سوريا – مسيحيا خاصا ومميزا. هذا الطابع الثقافي – القومي في المقام الأول كان يركز على التوجه العلماني – العقلاني للنهضة. فيترك تأثيرا عظيما على الرأي العام المصري، الأمر الذي لابد من أن يثير حفيظة عالم ديني من وزن محمد عبده، فيدفعه مع أنصاره للدخول في معمعان الحركة الوطنية وأن يتبوأ مركزا قياديا بوصفه واحدا من أكبر الدعاة والإيديولوجيين، ليضفي على الحركة طابعا دينيا – روحانيا، أو بالأحرى إفساح المجال أمام نهضة اسلامية يشارك فيها بفعالية الرأي العام المستيقظ توا من كبوته، وتوجيه التغيرات الاجتماعية – السياسية المرتسمة في الأفق وجهة الاصلاح الاسلامي ، بغية تجديد الاسلام وتعزيز مواقعه في الحياة العامة.

ان انعكاس الواقع العثماني على ذهنية الشيخ محمد عبده نراه متجليا بوضوع أعظم لدى عبد الله النديم. فعند مطلع السبعينيات وفي ظروف انتعاش الدعوة لترويج ونشر أفكار الجامعة العثمانية من قبل "العثمانيين الجدد"، ولاسيما التركي نامق كمال، الذين أسسوا في إسطنبول منظمات تدعوه للوحدة الاسلامية، أمثال "الجمعية الجغرافية للبلدان الاسلامية"، و"الجمعية التنويرية الاسلامية"، وسرعان ما ظهرت جمعيات مشابهة لها في شتى مراكز الأقطار العربية نحو "جمعية المقاصد الخيرية" في الاسكندرية، أنشئت سنة 1878 بمباركة الأفغاني ومشاركة حسن الشعبي، وهي صورة طبق الأصل عن "جمعية التدريس الاسلامية" التي أنشئت في إسطنبول عام 1864 الي افتتحت أولى المدارس "العلمانية" الخاصة لأبناء الحرفيين وصغار التجار الأتراك. وفي سنة 1873 تأسست "دار الشفقة" لتعليم الأيتام . وكانت تنشر عدا الكتب المدرسية مجلة "مباحث علمية" وجريدة مدرسية بعنوان "الشانتة" (الحقيبة المدرسية). ونضيف في هذا المقام أن الجمعية تحولت بعد تسنم السلطان عبد الحميد العرش الى مركز دعوة رئيسي لأفكار الجامعة الاسلامية، فكان يوكد روابط وثيقة مع أوساط المثقفين المسلمين في المراكز العربية الكبرى بالشام وبغداد وبيروت والقاهرة وغيرها.


تمايز المواقف داخل الحركة الوطنية المصرية

وعلى الرغم من أن النديم وأنصاره كانوا يروجون من خلال "المقاصد والأفكار الداعية لنشر التعليم وتهذيب أخلاق الناس" كي تسمو العقول وتطهر النفوس من أدران الجهل والأمية. فإنهم لم يدخروا وسعا في التبشير بأفكار "التضامن الاسلامي". وفي المدرسة التي أنشئت تحت رعاية "المقاصد"، حيث تلقى الفقراء واليتامى تعليما "دنيويا" مجانا. كان النديم يدرس الأدب والخطابة، وينظم ندوات خطابية ويعرض تمثيليات متنوعة من تأليفه. ان نظرة سريعة الى عناوين مسرحياته "الوطن" و"العرب" وغيرها تدلل دلالة قاطعة على أن النديم بالاضافة الى تبشيره بالتضامن الاسلامي والاخاء المسلم، كان يتطلع الى غرس المشاعر الوطنية بين الجماهير الشعبية. وهو في "الوطن" كما في سائر مسرحياته يدين اللامبالاة السائدة لدى شتى الطبقات والفئات في المجتمع المصري من الموظفين والأرستقراطيين وكبار التجار والحرفيين والفلاحين نحو متطلبات واحتياجات "الوطن السيد".

كل ما ذكرناه لا يوصلنا اطلاقا الى الاستنتاج الذي خلص اليه بعض المستشرقين أمثال ليفين ودولينيا وستيبانيانتس. ومفاده أن الأفغاني الذي حول محفله الماسوني الوطني الى ما عرف ب"الحزب الوطني الحرب" عمل بصورة موازية على انشاء جمعية مصر الفتاة. فهذه التأكيدات غير مبررة تاريخيا، فعلى النقيض من ذلك يتجلى امامنا موقف أديب اسحاق الراديكالي الثوري. الذي استاء من مواقف الأفغاني المتذبذة فانفصل عن محفله الماسوني ليشكل جمعية أكثر ثورية، سارع عبد الله النديم للانتاء اليها مباشرة. ومن الأدلة القاطعة على صدق ما نقول العداء المبطن الذي نلمحه في كلام الشيخ محمد عبده عن جمعية "مصر الفتاة". اذ يقول: "لم يكن فيها مصري حقيقي، بل كان أكثر أعضائها من الشبان الإسرائيلين المنتمين الى الأجانب". وأديب اسحاق عينه لم ينكر وجود بعض الشبان اليهود حين وجه رسالة للأمير عبد القادر الجزائري الزعيم الوطني لكل العرب، داعيا اياه للانضمام للجمعية. ولا يخفى على القارئ اللبين أن الحديث يدور في الأساس حول العناصر اليهودية الملتفة حول الرائد الشهير يعقوب صنوع، الذين كان الفكر الوطني المصري عزيزا على قلوبهم جميعا، كما عزيزا على قلب الشيخ محمد عبده. والعداء ازاء هذه الجمعية يبرز بوضوح في رسالة موجهة من ابراهيم اللقاني، الداعية الأكبر للجامعة الاسلامية، الى السيد جمال الدين الحسين مؤرخة في 15 شباط (فبراير) 1883، فهو يستعيد ذكريات الماضي القريبة بالتركيز على أن أعضاء جمعية "مصر الفتاة" كانوا من الشبان المسيحين إطلاقا، الذين نجحوا لوقت ما "في خداع بعض المسلمين وضمهم الى جمعيتهم". هذه الرسالة بالذات المنشورة في كتاب "وثائق لم تنشر للسيد جمال الدين الأفغاني" تدحض دحضا مطلقا أي صلة مباشرة بين الأفغاني وجمعية "مصر الفتاة".

وأكثر من ذلك بكثير، فقد أكد المستشرق ايفانوف أن الأفغاني كان على اتصال بولي العهد توفيق باشا من خلال "جماعته" أو "محفله الماسوني" قبيل تقديم الخديوي اسماعيل استقالته "الأمر الذي أثار الغضب الشديد لدى الضباط الوطنيين والأعيان". وهناك فقرة في رسالة رياض باشا يشير فيها الى أن العساكر والأعيان الوطنين "يتهمون السيد بالاتصال مع العدميين (الفوضويين – المؤلف) والاشتراكيين. وأخيرا، من الأهمية بمكان أن ايفانوف بتشديده على "أن الأفغاني لم يتجاوز حدود الاعلان عن مناصرته للعساكر والوجهاء (ربما يدور الحديث هنا عن فترة التصديق على اللائحة الوطنية – المؤلف) يستشهد بتصريح الأفغاني الى مراسل جريدة "التايمز" اللندنية، والقائل : "يمكن احتمال شريف باشا، ولكن مؤقتا: ريثما تستجمع مصر الفتاة قواها". حقا ان كلمة Youth الإنكليزية أي الشباب مطبوعة بحرف صغير، ولكن نميل الى الاعتقاد بأن الأفغاني لم يقصد بها تعبير "شبان مصر" وانما "جمعية مصر الفتاة" بالذات. الأمر الذي يدفعنا للافتراض بأن الأفغاني كان قد اصطدم آنذاك ، وعلى الأرجح في أوائل نيسان (أبريل) 1879، بالموقف الحازم الذي أبداه الشبان بقيادة أديب اسحاق، والذي أدى الى انفصالهم عن المحفل الماسوني الوطني الذي الفه الأفغاني – كما ذكرنا.

ان التحديد الدقيق لتسمية "مصر الفتاة" فيما بين سني 1877-1879 هام جدا باعتقادنا ، وذلك انطلاقا من الاعتبار التالي، وهو أن تسمية كهذه في تلك الفترة الزمنية تعد شهادة قاطعة على وجود مذهب سياسي متكامل. وتزداد هذه التسمية الذاتية أهمية وعظمة حين نعود بذاكرتنا الى الوراء قليلا لنر كيف أن دعاة الدستور الأتراك كانوا يمجون ويرفضون أمثال هذه التسميات التي كانت تطلق على الأتراك المهاجرين الى أوربة نحو: "الأتراك الجدد" وعلى وطنهم المثالي. النموذج "تركية الفتاة" في الستينات والسبعينيات ، لا بل وحتى الانقلاب العثمانية سنة 1908. أجل، كانوا يرفضون لأن طروحهم كانت تدور في إطار النموذج المتمثل في الامبراطورية العثمانية. أي لم يكن يجمعهم أي جامعة بأفكار الثورة البورجوازية والفكر الليبرالي الحقيقي، وإنما يعبرون عن الجوهر العثماني – التركي البالي الذي أكل الدهر عليه وشرب. فالمؤرخ الكبير فيليب الطرزي يؤكد بما لا يرقى اليه الشك أن أديب اسحاق كان أول من أورد في جريدته المسماة "مصر" تعبير "مصر الفتاة" ثم درج في الاستعمال عند أرباب النهضة المصرية الوطنيين. وهذا لعمري نابع من فكر أديب اسحاق الوطني – الثوري التواق لرؤية مصر متجددة وشابة أبدا ومزدهرة في شتى الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وهو بالطبع فكر بورجوازي – وطني وقومي أصيل ذو جذور عميقة ضاربة في ارض الكنانة.

ومن الدلائل البليغة أن المؤرخ جرجي زيدان قد أشار خلال حديثه عن الجمعيات السياسية العاملة في أواخر عهد الخديوي إسماعيل الى جمعية "مصر الفتاة" المسماة "جمعية اتحاد مصر الفتاة" في المصادر الأخرى. وذكر أن لسان حالها هو جريدة "مصر الفتاة" لصاحبها أديب اسحاق. وهو اذ يذكر من أعضائها جمال الدين الأفغاني، وأديب اسحاق ، وسليم نقاش، وعبد الله النديم ونقولا توما (يسهود – وبالغرابة ! عن ذكر أبناء العائلات المسيحية الشهيرة كالسرسق ومعلا وزغيب وغيرها). يشيرالى أن الجريدة كانت تصدر بالعربية والفرنسية "ليوهموا الخديوي أنها لسان حال جمعية كبرى من الوطنيين والافرنج، تسعى في خلع اسماعيل وقتله". وقد أفاد الطرزي أيضا أن جريدة "مصر الفتاة" أسبوعية سياسية صدرت باللغتين العربية والفرنسية ناطقة باسم "جمعية مصر الفتاة"، وأنها كانت تصدر بعد اعتلاء توفيق الأول مسند الأريكة الخديوية تحت شعار "البحث عن حقوق كل انسان فاكر". وهذا يعني أن جمعية اسحاق على أبعد حد، وليس في بداية العام ، كما يرجح المستشرق ايفانوف اعتمادا على مرجع غير معروف. وواقع أن جمعية اسحاق ذات أهداف سياسية بحتة نستدل عليه من كراسة عنوانها "لائحة الاصلاح" مرفوعة الى جلالة الأمير توفيق الأول خديوي مصر خدمة من "جمعية اتحاد مصر الفتاة".

وليست الحقيقة التالية أقل أهمية من واقع التسمية الذاتية لجمعية مصر الفتاة، فاذا كانت جريدة "أبو نضارة زرقاء" ليعقوب صنوع في المنفى بباريس أول جريدة عربية صدرت صفحتها الأولى بشعار "مصر للمصريين" فإن جريدة اسحاق "مصر الفتاة" كانت أول جريدة عربية في الديار المصرية التي تطرح فقط مهام ايقاظ الشعب المصري وتوثيق عرى التضامن والوحدة بين أبنائه، ودفع ما ألم به من الخسائر المادية والأضرار المعنوية التي عاناها أنذاك. بل كانت تروم حفظ الحقوق الوطنية وكف يد الأجنبي عن استقلال الوطن، وتحقيق هدفهم الأسمى المتمثل في شعار "مصر للمصريين".ونشير في هذا الصدد أنه اذا كان الطرزي ميالا لاعتبار اسحاق واضع شعار "مصر للمصريين" فان خير الله نسب هذا الفضل الى صديق أديب اسحاق سليم النقاش "الذي كان له قصب الريادة في طرح هذا الشعار الذي لاقى نجاحا كبيرا في المستقبل. ولعل الأمر قد أشكل على خير الله. بمعنى أن النقاش كان قد أصدر كتابه النفيس "مصر للمصريين" في تسعة مجلدات في مطلع الثمانينات، بينما جزم المخزومي بأن الأفغاني كان أول من استخدم هذا التعبير ابان حديثه مع اللورد سالزبوري في لندن. وقد حذا حذوه أيضا الكاتب حسن صعب. أما المستعربون السوفييت فلم يدخروا وسعا لنفي منشئ الشعار في أوساط الرواد السوريين الراديكاليين المهاجرين الى مصر. ولاستقطابه في المحيط الأفغاني أو العرابي. وقد تمت وقعنة الشعار في الوسط الوطني المتمثل في التيار الذي تزعمه أحمد عرابي باشا (كما لدى لوتسكي)، وفي الوسط الأفغاني (كما لدى غولدوبين وستيبانيانتس) مما أفقد الشعار صفة التمثيل الفردي، بينما أشارت تشيرنوفسكايا الى "جماعة الضباط بقيادة عرابي باشا".

وسعيا منا لدحض الرأي الزاعم أن الأفغاني كان مؤسسا لجمعية "مصر الفتاة" يجب علنيا أن نأخذ بالحسبان الاعتبارين التاليين: أولا – من المحتمل جدا أن الكلام يدور عن المنظمة الثانية التي أنشأها الأفغاني على انقاض المحفل الماسوني والمعروفة في التاريخ باسم "الحزب الوطني الحر" أو في أحسن الأحوال التسمية الذاتية "الحزب الوطني" أليست صفحة "الحر" تفرض بالضرورة وجود حزب وطني سابق له في الصيرورة كيف لا، والمصادر التاريخية تشير الى "الحزب الوطني القديم" حتى أواخر سنة 1879. وهل ان مصداقية هذه الاقدمية سوى دليل على صفحة "الحر" التي أطلقها الأفغاني على حزبه؟. ثانيا – ان الباحث عبد العليم القباني وغيره من الكتاب العرب المعاصرين أفادوا أن أديب اسحاق ظل بعد تأسيس الافغاني "للحزب الوطني الحرب" (أو الجديد) من قادة الحزب الوطني القديم الذي "أوفد أديب اسحاق الى باريس ليقوم بالدعاية للحزب في العاصمة الفرنسية، وليهاجم رياض باشا من هناك". مجمل الكلام أن الحديث ، عن الأفغاني كمؤسس، وعن اسحاق كواحد من أعضاء القيادة، يدور في اطار حزبين وطنيين منفصل أحدهما عن الآخر من الناحية التنظيمية، على الأقل حتى خريف سنة 1879.

هذه الحقائق تقودنا الى استنتاج عادي جدا وهو: أن الأفغاني واسحاق اللذين فقط على رأي قطبين متفاوتين في الحركة "الوطنية" المصرية، لا يمكن أن يلتقيا أو يجتمعا معا في اطار جمعية "مصر الفتاة". وبتعبير آخر، ان الأفغاني – بخلاف الآراء السائدة في الاستعراب – ما كان بامكانه أن يكون مؤسسا للجمعية موضوع البحث، اذ أن جميع الرسائل العائدة لقلم اسحاق والتي يقوم فيها بدور القائد المعتمد عن الحزب الوطني – أثبت التاريخ موثوقيتها وصداقيتها. ومن جانب آخر: فمن غير الطبيعي ولا المنطقي أن يقوم رجل في الوقت عينه بتأسيس منظمتين (الحزب الوطني الحرب، وجمعية مصر الفتاة). ومن الجدير بالذكر أن هاتين الحقيقتين تقودانا الى الاستنتاج التالي: ان التيارات والاتجاهات الفكرية المتباينة (ومن بينها التيار الاسحاقي) التي اتخذت من شعار "مصر للمصريين" راية لها، من المحتمل أن تكون قد توحدت في فترة زمنية محددة في حزب "وطني" واحد لأسباب تنظيمية تاكتيكية. وليس من المستبعد أيضا أن الأفغاني كان قد اتصل بالحزب لوطني الاسحاقي أو القديم. ومن ثم انفصل عنه لؤسس "الحزب الوطني الحر" – كما انفصل سابقا عن المحفل الماسوني الاسكتلندي وشكل محفله الخاص. ولم العجب والافغاني كان مشهورا بأنه عصبي المزاج حاد الطبع، ميال الى المعارضة. وكما يقول مريده المخزومي : "كادت بسالته أن تخرجه عن الهيئة المتوسطة وتتجاوز به فضيلة الشجاعة الى نقيصة التهور".

ان معطيات المصادر والمراجع العربية لا تقدم لنا قرائم جدية تمكننا من التاريخ بدقة لتأسيس الجمعية. ومن المحتمل أن علم تاريخ الاستعراب كان قد استرشد بهذه الحقيقة. ولذلك لم يحاول الغوص في أعماق القضايا الغامضة في الحركة الوطنية المصرية، ولاسيما مسألة تحديد تاريخ التأسيس بدقة. بيد أن هذه القضية ذات جوهرية من ناحية ادخال نوع من النظام والقانون في الفوضى السائدة حول تحديد هوية الطبقات والفئات الاجتماعية والاتجاهات والتيارات الفكرية التي مثلتها القوى السائرة من وراء شعار "مصر للمصريين"، ومن ثم اظهار الملامح والخطوط المميزة لحركة النهضة الثقافية القومية. وأخيرا التعرف على الأفغاني واسحاق على نحو أساسي ومن منظور تقييمها موضوعيا.

ونحن نعقتد بأن الافراد والجماعات من شتى الفئات والطبقات الاجتماعية التي تبنت موقفا "وطنيا" توحدت تنظيميا لتشكيل الحزب الوطني الأم "في وقت ما" يمكن التأريخ له بدقة يشوبها بعض التحفظ، في أواخر آذار (مارس) أو في أوائل نيسان (أبريل) لعام 1879، أي في الفترة اللاحقة لاعلان "اللائحة الوطنية" التي قدمها مجلس الأعيان، وبيان الخديوي إسماعيل، واقالة الوزارة الأوربية، وتشكيل الوزارة الوطنية برئاسة شريف باشا، ومناقشة "القانون الأساسي" أي الدستور المصري الأول في مجلس الأعيان برئاسة محمد سلطان باشا، أي في ظروف تصاعد الاستياء الشعبي ضد التغلغل الأستعماري والاستعباد المالي للبلاد. يومذاك تحول الشعب المصري الى وحدة متراصة متماسكة ضمت جميع القوى الاجتماعية من موظفي الدولة الأرستقراطين والاقطاعيين الليبرالين والتجار، ورجال الدين والسياسة البارزين، والضباط الملاكين أو الكولاك، والبورجوازيين وكبار التجار، فضلا عن أتباعهم ودعاتهم من رجال الفكر والمثقفين، بدءا من رجال الدين المحافظين المعادين للأوربة، وانتهاء برواد الفكر المستنيرين أنصار الأوربة والتحديث. كان الحزب الوطني آنذاك بوثائقه البرمجية يجسد التيار الوطني الحقيقي، الذي وقف في مواجهته وعاداه الأجانب والمحليون من ممثلي الطبقة الاقطاعية – الأرستقراطية المحافظة وجميع القوى الرجعية من علية الموظفين والعسكر والتجار الوسطاء والصفوة الرجعية من الأقليات المسيحية وأنصارهم من المثقفين، وبالطبع لم تكن العناصر الرجعية المتبقية من طبقة العلماء تؤيد المعسكر الوطني، ورغم أنها لم تقف موقفا مؤيدا وسافرا من المعسكر المضاد ممكن كانوا يلهجون بزعامة كبار الشيوخ ذوي التأثير والنفوذ الواسعين، بالدعوة الى الولاء للسلطان – الخليفة التركي.

ونحن لم نبد تحفظنا اعتباطا ازاء مسألة التأريخ لفترة تحول الوحدة "الوطنية" الى حزب وطني متراص الصفوف، فالحزب الذي جمع بين "أنصار الوطن" قد تحول في أوائل نيسان (أبريل) 1879 الى الحزب الوطني بكل ما في هذه الكلمة من معنى، والذي يجب أن يفهم ايضا بوصفه "جمعا حقيقيا للوطنيين" أو "جبهة وطنية". فاذا كان "البرنامج" والبيان أشبه بوثائق برمجية تسمح لنا – في آخر المطاف – بالحديث عن كينونة الحزب، فان وجود الصياغات المحافظة (كي لا نقول الرجعية) من جهة، والموضوعات الحديثة التقديمة في الوثائق من جهة ثانية، تجعلنا نميل للاعتقاد بأن تلك الوثائق البرمجية ما كان بالامكان قبولها من قبل جميع الوطنيين. وبتعبير آخر ان رواد النهضة الراديكاليين الذين يمثلون اليسار مجازا، والعلماء المتشديين وأنصار السلطان الذين يمثلون اليمين – الرجعي، لا يمكنهم أن يجتمعوا ويتألفوا ويتضامنوا في اطار حزب واحد موحد. ولذا ظل تجمعهم متأطرا في ظل جبهة "وطنية" موحدة، رغم أن كلمة "حزب" أخذت تفرض نفسها في الواقع بمعنى "تجمع الأشياع والمريدين" على الأرجح. بيد أن "الحزب" لم يكن على الاطلاق والعموم منظمة موحدة تضم الأشياع، وبهذا المعنى نعود الى التحفظ أو الشرط الذي وضعناه أمامنا فيا يخص الوثيقة البرمجية الأولى للحزب الوطني المسماة ب" اللائحة الوطنية" المتناقضة شكلا ومضمونا، فضلا عن التمايز الطبقي الظاهر بين الأشخاص الموقعين عليها. وفي هذا السياق نؤكد أن الاستعراب السوفيتي عامة،والمستشرقة تشيرنوفسكايا خاصة، وصل الى حد المبالغة القصوى في تحديد الهوية الحقيقية للحزب المذكور باعتباره "أول حزب سياسي في تاريخ الحركة الوطنية التحررية المصرية"، وهذا ناجم ولا شك عن المقولة التي تزعم بأن ذلك "التنظيم" شبه السري" احتوى معظم العناصر البورجوازية الراديكالية والملاكين العقاريين ذوي الميول الليبرالية". وأخيرا، فان ما سمي مجازا بالحزب "الوطني" لم يكن بمقدوره في ربيع سنة 1879 إلا أن يكون علنيا، لأنه – كما أسلفنا – اتسم بطابع جبهة "وطنية" متحدة التفت حول الخديوي اسماعيل أكثر منه منظمة سياسية. جبهة كان من الممكن العثور في اطارها على بعض ممثلي الفئات المتوسطة والدنيا بوساطة تسليط الاضواء الكاشفة، وعلى بعض "العناصر البورجوازية الراديكالية" المحلية أو السورية المهاجرة، ممثلة ببعض الصحافيين والطلبة، ولاسيما أعضاء جمعية "مصر الفتاة" الذين شكلوا الجناح الأكثر ديمقراطية وليبرالية في الجبهة، رغم الحفاظ على استقلالية جمعيتهم ووجهها التقدمي البارز.

وفي مطلق الأحوال، كان كل انقسام داخل المعسكر الوطني قائم على أرضية سياسية واجتماعية غير جدية، يخدم في المقام الأول وموضوعيا المعسكر الرجعي. وبالتالي فان الأفغاني الذي ظل بعيدا آنذاك عن تأييد البيان الوطني – مهما بدا ذلك غربيا – أثار حفيظة الحزب الوطني بجناحيه العسكري والمدني، فاضطر هو وأنصاره المحسوبون على التيار الوطني للانفصال عن المعسكر الوطني الحقيقي وتأسيس حزب مستقل نعت نفسه زورا وبهتانا "بالحر". وعلى الرغم من غياب المعلومات الدقيقة في المصادر عن تاريخ تأسيس الحزب الأفغاني، فانه يمكن تحديده بالفترة التالية مباشرة لشهر حزيران (يونيو) 1879، أي يوم استبدال الخديوي توفيق بالخديوي إسماعيل، رغم أن شريف باشا استمر شكليا بمزاولة منصبه كرئيس وزراة.

لم يكن الخديوي إسماعيل إطلاقا حاملا لراية الجناح التقدمي في المعسكر الوطني، بل كان يجسد سياسة التراجع والتنازال ازاء الرجعية الداخلية . ولذا أصبح دريئة للانتقادات الشديدة التي وجهها ضده الرائدان التقدميات يعقوب صنوع وأديب اسحاق حتى تاريخ اعلان بيانه الشهير. وقد جاءت استقالة الخديوي إسماعيل لتدخل بعض الوضوح على قضية ابراز هوية هؤلاء الأشخاص الذين قدروا الأوضاع السياسية الداخلية القائمة حق قدرها، فكانوا أشبه بالراية التي ترفرف عاليا في سماء الأهداف القومية العامة.

لقد قيم الحزب الوطني أو بالأحرى العناصر المكونة للمعسكر الوطني سقوط الخديوي إسماعيل وارتقاء ابنه توفيق للاريكة الخديوي أشبه "بفاجعة وطنية". كانت الفاجعة بالنسبة للبعض متجسدة بإقالة الخديوي ذاته، وللبعض الآخر كانت ضربة موجعة لأركان استقلالية الخديوية المصرية. وانتهاكا فظا لعزتها وكرامتها من قبل السلطان التركي، وكانت بالنسبة للآخرين فاجعة ملمة متجسدة في شخص توفيق المقيت، وعلى الأرجح في ميله الكامل للانسجام والتعاطف مع عملاء الإنكليز الداخليين الذين مثلوا يؤرة العداء لمفاهيم الأوربة والنهضة والتنويرن فضلا عن كرههم الشديد وتعصبهم البغيض ضد كل ما هو مسيحي ونابع من المسيحية. بيد أن الطامة الكبرى بالنسبة للوطنيين الأكثر راديكالية وتقدمية تجسدت في الفشل الذريع الذي آلت اليه السياسة القومية – المصرية التي بادر اسماعيل في تطبيقها، وفي النجاح السريع الذي حققه حكم توفيق – رياض باشا في افساح المجال أمام التغلغل الاقتصادي – المالي والسياسي الاستعماري.

في مثل هذه الظروف المعقدة فوجئ الجاهلون بحقائق الأول من الموقف الذي اتخذه الأفغاني باعتباره عزل الخديوي إسماعيل من قبل السلطان التركي وتعيينه ابنه بدلا منه أشبه بانتصار عظيم يستحق كل التبجيل والترحيب. فسارع البعض لاعتباره أعظم رائد في الحركة الوطنية المصرية، ومنهم رجال الفكر المسلمين داخل التيار الليبرالي الذي رفع شعار "مصر للمصريين" ، في حين أن اسحاق وصنوع كانا أولى من أطلق هذا لاشعار ونشير بهذا الصدد الى أن رشيد رضا ذكر في حينه "أن الأفغاني كان على صلة بالخديوي توفيق الذي سانده وعاضده". وقد ذكر ناجي علوش – نقلا عن سليم نقاش – أن وفدا من المحفل الماسوني في مصر قد وفد على الخديوي توفيق مهنئا اياه بتسلم العرش، ومؤكدا "أن من هم الماسونية، مع تجردها من السياسة ، أن تعين على تقدم النجاح والتمدن بتعليم الناس حقوقهم وواجباتهم".

والأفغاني بموقفه هذا لم يكرس انفصاله عن رفاق سلاح الأمس من رواد النهضة أمثال صنوع واسحاق وحسب، بل انه ساهم اسهاما فعالا في اضعاف وتقريم دور المعكسر الوطني الذي كان يواجه صعوبات جمة في ميدان السياسة الداخلية. ونؤكد بهذه المناسبة أن موقف الأفغاني المؤيد للحكم بعد شهر حزيران (يونيو) شكل معلما بارزا على طريق توجهه نحو مذهب الجامعة الاسلامية. فبينما كان معظم الوطنيين حاقادا على الأمر الشاهاني، كان "الوطنيون" الأفغانيون يسوقون الحجج والأدلة على شرعية وعدالة الأمر الصادر عن الحضرة السلطانية. وكانوا يبذلون قصارى مساعيهم لايجاد آذان مصغية لمزاعم السيد الحسيني القائلة بأن آمال وأهداف الشعب المصري التي واجهت شتى العراقيل من جراء سياسة "التذبذب" التي اتبعها الخديوي اسماعيل ستجد طريقها الى التحقق عبر السياسة الحازمة التي سيظهرها الخديوي توفيق.

ومن غير العسير اطلاقا أن نلاحظ أن الأفغاني حاول تفسير موقفه الانشقاقي ليس من موقع التباين في الأهداف، بل التضارب في الوسائل والطرق الموصلة لتلك الأهداف والغايات، أي اعتبره تناقضا تاكتيكيا، لا استراتيجيا. ونحن لا يخامرنا أي شك في أن تأييد الأفغاني لسياسة توفيق – رياض المعادية للشعب المصري في جوهرها ، كان السبب الرئيسي في زعزعة مواقع الأفغاني وسقوطه نهايا داخل اطار الحركة الوطنية المصرية، وليس الخلاف التاكتيكي ، كما يزعم هو. وهذا ما دفعه وأنصاره الى عدم احراق كل الجسور والعودة تدريجيا لاتخاذ مواقع محددة في معسكر "أنصار الوطن" الذي كانت تحمل رايته بكل فخر واعتزاز صحافة أديب اسحاق. فما ان أطل آب حتى سارع الأفغاني للانضمام الى اسحاق وأنصاره، والى توجيه أصابع الاتهام لكل من الخديوي توفيق وحكومة رياض باشا اللذين داسا بأقدامهما المصالح الوطنية من خلال تعاونهما مع الأجانب، وطالب بتحديد سلطة الخديوي واقامة حكم دستوري في البلاد. قال جمال الدين الأفغاني" "ان الحكام الجهلة العتاة يلعبون بمقدرات الشعب كيفما يشاؤون، ثم يحتجون عليه بقولهم "مشيئة الملط قانون المملكة"، وهو قول يفرض على الأمة الوقوف تجاهه، وأن تقاومه بكل ما لديها من قوة، لأن الحق في هذا – أن ارادة الشعب الغير المكره، والغير المسلوب حريته – قولا وعملا، هي قانون ذلك العشب المتبع والقانون الذي يجب على كل حاكم أن يكون خادما له، أمينا على تنفيذه". وفي خطبة أخرى له قال: "لقد ولدتم في أحضان العبودية وها أنتم أولاء تعيشون تحت سيطرة الحكام المستبدين ، تحت نير الفاتحين والطواغيت عبر الأدهار والعصور، فالقوت الذي تحصلون عليه بعرق جبينكم يسرقونه منكم دون الأخذ برأيكم، فانفضوا عنكم الغبار والضعف واللامبالاة ، فاما أن تعيشوا أحرارا كيفية الشعوب، واما أن تموتوا شهداء".

ورغم اتفاق أديب اسحاق في الراي مع الأفغاني حول أن الخديوي توفيق "كان خادما مطيعا للمطامع الانكليزية"، فهو لم يكن يرى، بوصفه سياسيا بارزا ثاقب البصر والبصيرة – حل المسألة المصرية والأوضاع السياسية الداخلية المأزومة والحفاظ على السيادة الوطنية، ممكنا عن طريق دعوة الجماهير الشعبية الى الجهاد المقدس ضد الأجانب المعتدين – كما فعل الأفغاني في احدى خطبه بمسجد الحسن بالقاهرة – والتي كانت سببا في اثارة قلق قناصل الدول الكبرى ومريديهم من طبقة العلماء الذين شددوا النكير على الأفغاني، فأصدر الخديوي أمره باخراج السيد من مصر في 24 آب (أغسطس) 1879. وكان أديب اسحاق قد شدد في رسالته الى الأمير عبد القادر الجزائري على أن جمعية "مصر الفتاة" تسعى لتحقيق الاصلاحات بالطريق السلمي، فقال بالحرف الواحد: "فنهضنا نروم حفظ الباقيات الصالحات بوسائل السلم والسلم أسلم".

الفكر السياسي – الاجتماعي لأديب اسحاق

أكدنا أكثر من مرة أن أقل القليل قد وصلنا من آثار الكاتب والرائد أديب اسحاق ، الذي كتب في شتى فنون الأدب، وكان يراعه سيالا ثر العطاء. ونحن لم نعثر على صفحة واحدة غير منشورة من تراب اسحاق. فناجي علوش الذي غربل محفوظات ومكنونات دور الكتب في القاهرة وبيروت، أعرب عن شديد أسفه لعدم وجود أية مجموعة كاملة لأية من الجرائد العديدة التي أصدرها أديب اسحاق، تساعده في لم شتات مئات وآلاف الصفحات التي دبجها بقلمه الرشيق، كما أنه لم يقتف أي أثر لموسوعة "آثار الأدهار" التي كان بمقدورنا أن نتعرف من خلالها على المقالات العلمية التاريخية التي خطها أديب. ولم تصلنا أية نسخة من كتابه في الغزل المعنون "فكاهة العشاق ونزهة الأحداق"، ولا عن الكتابين الموسوعيين في العادات والأخلاق والصحة، اللذين طبعا دون ضكر اسمه، وقد تم اتلاف الكثير من كتاباته المنشورة والمخطوطة وغير المنشورة التي القها خطبا نارية ابان نشاطه في جمعية "زهرة الآداب" فضلا عن مسودة مصنفة بعنوان "تراجم أعيان مصر في هذا العصر"، والمسرحيات التي ألفها أو شارك في تاليفها وتعريبها، إلا قلة منها مثل "أندروماك" و"شارلمان الكبير" . وقد لعب الضياع بمسرحياته المعنونة "غرائب الاتفاق" التي مثلت سنة 1877 على مسرح الإسكندرية، علاوة عل مختارات من شعره الراقي الذي نشر نثار منه في بعض الأماكن والقصص والروايات وصفحات من الأدب الهزلي.

ولعل ترجمة أديب اسحاق لرواية "الكونتيسة الباريسية" من أتحف الروائع الأدبية، التي صدرت وفقا للبعض بعنوان "الباريسية الحسناء" سنة 1884 – وللبعض الآخر بعنوان "منتخبات" والتي أكسبت صاحب الترجمة والمقدمة أديب اسحاق مكانة مشرفة على صعيد استيعابه العميق والشامل لمهام الأدب العربي الحديث، كما قال كراتسكوفسكي.

وقد شاءت الأقدار السعيدة أن يقوم جرجس ميخائيل نحاس أحد المقربين جدا من أديب اسحاق بجمع منتخباته في كتاب سمه "الدر" ضمت دفتاه أكثر من ثلاثمائة صحفة، نشر في مطبعة "المحروسة" بالإسكندرية عام 1886، ثم أعيد نشره في أربعة أجزاء، الى أن قام أخوه عوني اسحاق باصدار طبعة منقحة ومزيدة في بيروت سنة 1909، اذ بلغت صفحاته الستمئة. وفيما عدا روايتي "أندروماك" "شارلمان الكبير" اللتين نشرتا في طبعة جرجس نحاس ونقلت حرفيا في طبعة عوني التي بلغت الضعف من حيث الحجم واتسمت بمضمون أشمل وأعم للادة الأدبية والفنية (قصائد، خطب أدبية، أقوال متفرقة، ..ألخ)، فضلا عن مقالات رنانة في الميدان الصحافي (ولاسيما في الدور الثاني من جريدة "التقدم" حين أصدرها أديب ب97 صفحة بدلا من اثنتين، وفي جريدة "مصر" بصفحاتها الثلاثين عوضا عن 17 صفحة، وجريدة "مصر الفتاة" بثماني عشرة صفحة بدلا من اثنتين أيضا.. الخ)، اضافة الى ذلك فان ناجي علوش في "أديب اسحاق" الكتابات السياسية والاجتماعية، لم يقدم قط اضافات جديدة ونفيسة بفضل الجرائد التي اكتشفها، بل وانه لأول مرة بوب المواد وفقا لمواضيعها وأبحاثها وتواريخها، وهذا لعمري من الأمور الهامة جدا من زاوية تتبع نمو وتطور الفكر السياسي – الاجتماعي لأديب اسحاق.

ان كتاب ومؤلفي الدراسات الأساسية في تاريخ الأدب العربي (زيدان سركيس، عبود، الفاخوري، داغر وغيرهم) قدروا تقديرا عاليا مكانة أديب اسحاق في دنيا الأدب والثقافة والنهضة الحديثة. كما أن الصحافة العربية كرست له عددا كبيرا من المقالات العلمية المسهبة ولاثرية، ولكن الحقيقة المرة أن أحدا من الدارسين لم ينير لاعداد دراسة خاصة يحلل فيها حياة الكاتب النهضوي الكبير ونشاطه السياسي والاجتماعي والأدبي والثقافي، بينما اكتفى الباحثون الغربيون، ربما بسبب من ندرة المادة المتوفرة لديهم – باشارات عابرة عنه. وفيما يخص المستشرقين السوفييت فبعد تصرم عدة عقود من لاسنين على الخطوط العامة التي رسمها كريمسكي عن أديب اسحاق، قام كل من ليفين ودولينينا بمحاولة شبه جادة لتقييم الفكر الأدبي – السياسي وتحليل أفكاره وآرائه تحليلا لا يخلو من بعض العمق والشمولية. وهذا يعني أن أديب اسحاق الشاعر والمسرحي والصحافي والناقد والأديب والمؤرخ والمترجم لا يزال ينتظر باحثا يقوم بدراسته دراسة موضوعية متكاملة وشاملة.

ان دراسة كهذه خارجة بالطبع عن اطار كتابنا الحالي، ولكن الواجب يملي علينا التركيز قدر الامكان على المكانة العظيمة التي تبوأها أديب اسحاق في مضمار الشعر وفي الميدان الصحافي من منظور موقعه في حركة النهضة الثقافية العربية القومية.

فأديب اسحاق شاعرا كان يرسل القريض عفو الخاطر، قاله في جميع أغراضه المعهودة، وغالبا ما كان يبتدئ مقالاته بأبيات من الشعر يرويها أو يقرضها. ولكنه لم يهمل الشعر الجديد الذي ولد مع أبناء جيله ونقصد به الشعر الثوري – الوطني، فأبدع فيه بروحه الثائرة وبلاغته الشعرية، فجاء شعره متميزا سواء في مجال الشعر العربي التقليدي أو الحديث . ويلاحظ كل متتبعه أو قارئ لمقالاته السياسية المشبعة بالروحة الوطنية المتوقدة، أن اسحاق كان في كل مرة يكشف فيها عن نهجه السياسي الاجتماعي وتصل فيها الخواطر الجياشة الى الذروة، يطلق العنان لمشاعره الثائرة فيزين مقالاته المنثورة بشعر يرويه أو ينظمه، مما يضفي على افتتاحياته قوة وتأثيرا في نفوس القارئين. واذا كان الأدب السياسي والاجتماعي لدى أديب اسحاق قد وصل الى خير من من يثل في المقالة في الأدب العربي الحديث، فالفضل يرجع الى قريحته الشاعرية الفياضة، التي شكلت امتدادا طبيعيا لنثره الرائع البليغ، فان شعره قد امتاز أيضا بنفحة عصرية ندية من خلال مقالاته الصحافية النارية وخواطره الفياضة والصادقة. والمميز في شعر أديب اسحاق ليس فقط في محاكاته الشعر العربي الكلاسيكي ابتداء من غزليات عمر بن أبي ربيعة وانتههاء بالشعر الفلسفي لابي العلاء المعري، بل وفي حداثته وممارساته لظروف المكان والزمان التي عايشها. فكان يدعو ال اليقظة والوثبة، الى الوعي الذاتي والنهوض وينادي بالكفاح والايمان بالنصر.

ان الغرض الأسمى في حياة أديب اسحاق "أول مناد حقيقي بالنزعة القومية العربية" تجلى في رؤية العرب "شعبا عزيزا مكرما". وقد رافته هذه الآمال الوطنية طوال حياته التي لم تعرف الكلل والملل، بدءا من باكورة أفكاره التنويرية المعادية للأتراك وحكم الاستبداد والقهر، وصولا إلى خطبه الحماسية التي هاجم فيها الإنكليز والاستعمار عامة. ومعما بدا من المفارقات العجيبة فان اسحاق الذي كان يؤمن بأفكار الدعوة الغربية، وكان مؤهر أكثر من الجميع لتحمل أعباء هذه الدعوة، كان يدعو الى الوطن العثماني انطلاقا من اعتبارات تكتيكية – فانه أصبح في الفترة الأخيرة من حياته يدعو الى الوحدة العثمانية من طراز جديد، تنبت على أرضيته أفكار سياسية – اجتماعية حديثة تتمثل في أفكار الجامعة العربية، المعروفة الآن الراهن بالقومية العربية.

ان التحليل العلمي المنسق لأفكار أديب اسحاق حول العثمانية مشروع سابق لأوانه بسبب تعذر الوصول الى معظم انتاجه في الميدان الصحفي والأدب الاجتماعي – السياسي، وفي ظروف غاب التوثيق التاريخي للآثار التي وصلت الينا حتى الآن، ومهما يكن من الأمر، فان اخلاص أديب للدولة العثمانية التي كان يدعوها "دولتنا" بدا أكثر ووضحا في الفترة الأخيرة من حياته الصحافية والسياسية ، أي بعدما نفي من مصر وتسلم للمرة الثالثة ادارة جريدة "التقدم".

وقد استعرض الدكتور منير موسى في كتابه "الفكر العربي في العصر الحديث" آراء وأفكار أديب اسحاق السياسية والاجتماعية، مركزا ليس فقط على أن "أديب يعد الأمة العثمانية أمته، والوطن العثماني وطنه"، بل وأضاف بالحرف الواحد قوله: "ولم يعثر في "الدرر" له، ولو على كلمة واحدة عن الأمة العربية والوطن العربي والشعب العربي والدفاع عن العرب، بل هو متمسك بعثمانيته وشرقيته، وقد جاءه هذا الاتجاه عن أستاذه الأفغاني".

لاشك في أن الدكتور منير موسى تعامى قصدا – سامحه الله – عن رؤية التوجهات العربية الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، والتعابير والاشارت بشأن العرب والعروبة الواردة في "الدرر" نحو "العرب" و"الدم العربي" و"سليقة العرب" و"العرب الكرام" و"اللسان العربي" و"الأمة العربية" وفي حديثه عن الأمير عبد القادر الجزائري، يقول: "الهمام المقدام العربي" و"أحد حماة الأمة العربية" ...إلخ. واذا لم يغرب عن بالنا أن أمثال هذه التعابير الحديثة لا بل والغريبة عن الحياة الفكرية – السياسية العربية، تزامنت وتجاوزت ما طرحه الشاعر الوطني ابراهيم اليازجي من خلال قصائده التي كانت تقرأ خفية في الندوات، بينما كان أديب يساهم في الواقع بأول طرح سياسي واضح نسبيا حول الوحدة العربية والقومية العربية. بمعنى أنه بز جميع رجال عصره في هذا الميدان، لأنه كان يبشر بها من خلال صحافته في ظل أجواء سياسة الظلم التي كان يمارسها السلطان الأحمر عبد الحميد الثاني ، من هذا المنظور يتضح لنا كم كان أديب اسحاق، رائدا بلا منازع في ايقاظ الوعي الذاتي القومي لدى العرب.

وبهذا المعنى أصاب ليفين كبد الحقيقة حين قال: "لقد دعا أديب اسحاق الى الوحدة العربية الشاملة (الجامعة العربية) القادرة وحدها في رأيه، على أن تهيئ للعرب إمكانية استرداد حقوقهم الضائعة، ثم يتابع كلامه محقا: "وفي طرحه لفكرة الوحدة العربية – يتجاوز اسحاق أطر المحدودية الدينية، ويؤكد مبدأ الوحدة المدنية في حدود الوطن العربي".

وناجي علوش الذي لم يتسغرب توجه أديب الى النضال الديمقراطي من خلال وسيلتين، أولاهما: الصحافة، وثانيتهما: الأحزاب، لاعتباره اياه سليل مدرستين: الأولى الفكر الاصلاحي الإسلامي، وان كان أثر هذه المدرسة أقوى ثقافيا ولغويا منه سياسيا فيه (وهذا تحفظ هام جدا – المؤلف) والثانية: المدرسة البورجوازية الفرنسية".

والمهم في وجهة نظر علوش لا يتجسد برأينا في الهراء القائم حول الاثر اللغوي والثقافي الذي تركته مدرسة الاصلاح الإسلامي على فكر إسحاق السياسي الاجتماعي، بل التأكيد – الذي قد يبدو مفارقة لأول وهلة – ان اسحاق استوعب أفكار مفكري الثورة الفرنسية والقوانين الفرنسية، لا كما تمثلت في ثوراتها، ولذا كان يدعو ال الحياة الدستورية ، لا الى الثورة، ويطالب الحريات الديمقراطية ، بمعنى أنه استوعب وآمن بديمقراطيتها ، لا بثورتها.

ما ينبغي تأكيده في هذا السياق، هو هيام أديب اسحاق بالحرية والتحرر، فهو أدرك تمام الادراك الأفكار التي بشر بها منورو الثورة الفرنسية عن الحرية وبصفها حقا طبيعبيا ثابتا وضروريا من حقوق الانسان تمهد له طريق الرقي والكمال، وكان متوقدا حمية وحماسة بالفكر الليبرالي الفرنسي المعاصر له. وقد دفعت هذه الأفكار أديب اسحاق ليتخذ من مبدأ الحرية السياسية مثلا أعلى له. اذ أنها تمهد السبيل أمام الناس لأن يعيشوا في ظل الأخاء والمساواة والعدالة وتفسح المجال واسعا أمام تطور الانسان وريقه، والتي تسود في ظروف "الحفاظ على الحقوق في المجتمع" و"الدفاع عن حقوق الفرد فيه".

والتأكيد الثاني الذي نبغي التشديد عليه أيضا هو مذهب اسحاق في الثورة، ولاسيما ما يخص الثورات البورجوازية الأوربية التي خاض غمارها الثوار المناضلون ضد الطغيان والاستبداد من أجل الحرية الكاملة للانسان المستنير ومن أجل استقلال الشعوب المتمدنة".

والتأكيد الثالث والأخير مؤلف من شقين بالنسبة لنا، فالحرية لدى أديب غير مقيدة، ولكن لا يجمعها أي جامع بالفوضى. فالحرية عنده: "ثالوث موحد الذات، متلازم الصفات، يكون بمظهر الوجود فيقال له الحرية الطبيعية، وبمظهر الاجتماع فيعرف بالحرية المدنية، وبمظهر العلائق الجامعة فيعرف بالحرية السياسية". و"القانون الحق لا ينقص من الحرية ولا يزيل الاستقلال". ومن هنا فالثورة لديه هي الثورة البورجوازية الفرنسية الكبرى عينها، وهي ليست فقط الفعل المسلح والدامي، بل وبنفس المقدار نظام متكامل من الأفكار والآراء والقوانين والمبادئ الذي لا يجب تفهمه واستيعابه وحسب، بل وتطويره تطويرا ابداعيا خلاقا.

التأكيد الأخير في شقه الثاني محوري من حيث المضمون، وهو أن أنظار اسحاق كانت موجهة نحو الشرق عامة، والأقطار العربية، ولاسيما مصر ولنسارع الى القول: ان اسحاق الباحث أبدا عن "القانون الحق" لم يجد له سبيلا في أي بلد من بلدان العالم، فالحرية الحقيقية غير متكاملة في أي بلد على وجه التحديد، والوصول اليها من الأمور العصية جدا على أبناء ذلك البلد. وذلك بسبب سيادة التقاليد والعادات القديمة البالية التي تعرقل التقدم، وتعيق التطور ونمو التعليم والتنوير: "يجب على أبناء الشرق ان يستفيقوا من سبات الجهل وينبذوا عنهم التقاليد البالية التي تؤدي الى تفريق كلمتهم، ويغذو ألباب صغارهم بغذاء الحرية، ويرسموا على صدورهم، رسم الوطنية، والا ظلوا عبيدا لأعدائهم وبالتالي فمن الأفضل لهم أن يموتوا بدلا من الاستمرار في هذا الوضع.

وقد كتب أديب اسحاق معتمدا على نظرية الحق الطبيعي فقال: "ان العبودية بوصفها نتيجة للقهر من جانب المستبدين، في نهب وانتهاك لأقدس حقوق الحرية". وأكد اسحاق "أن الحرية غير ممكنة الا في وجود قوانين، يشترك في سنها الشعب اشتراكا ثابتا في شخص نوابه". ولم يكن أديب اسحاق يتصور الاصلاحات الديمقراطية والمؤسسات الادارية السياسية الديمقراطية بمعزل عن المشاركة الشعبية الفعال. وبعيدا عن تأييد الشعب ومساندته: "أن جميع أعضاء المجتمع في الدولة التي تكن الاحترام ازاء الحرية والقانون الحق متساوون أمام القانون أساسا ويتمتعون بحقوق وواجبات متساوية، وبحرية الاجتماع والتعبير والانتقال والخ". كما لاحظ ليفين ونسيبة وغيرهما بحق ان اسحاق لم ير نفعا في الحرية السياسية بالنسبة لبلد يسيطر فيه الجهل والعادات والأخلاق المنحطة. بل ان الحرية هناك من شأنها أن تؤدي الى عواقب وخيمة. فالقوي سيغتصب حق الضعيف، وستتحول الحرية في يد القوي الى أداة للاستبداد.

وقد ركز الكاتب اللبناني الشهيررئيف خوري على أن أديب اسحاق كان يرى أن ضمانة التنفيذ للقوانين غير ممكنة الا عندما تسري الحقوق والواجبات بدرجة متساورية على سائر أفراد المجتمع. ومع أن هذه الفكرة – يضيف خوري – لم تجد لديه صياغة دقيقة، فانها تتميز بأهمية خاصة لأن اسحاق نفسه نصير المنورين الفرنسيين غير المتحفظ، تطلع الى أبعد مما أنجزته الثورة الفرنسية. لا يكفي تقديم الحقوق وفرض الواجبات على الناس، بل لابد من وجود فرص التمتع بهذه الحقوق وأداء الواجبات.

والذي يثير انتباهنا في واقع الأول ليس درجة استيعاب اسحاق للفكر البورجوازي الفرنسي التنوري وتطوير موضعاته وطروحه، بل مدى ادراكه آنئذ، وانطلاقا من هذا طرحه للاصلاح الديمقراطي والتقدم عن طيق تعليم الشعب وتويره، وتطوير وعيه السياسي، وليس أبدا انتهاج طريق التحولات الثورية السابقة لعهدها.

نقول بادئ ذي بدء أن أديب اسحاق كان يشك في امكان نجاح الثورة في الأقطار العربية، ومن بينها مصر ايضا. فكن يعتقد بأنه يجب الاستفادة من تجارب "الثورات" في الماضي والاستنتاج أن الشرق غير مهيأ بعد للقيام بالثورة. وان قادة الحركات الثورية في الشرق هم من الناس الساعين الى الاثراء بدافع منافعهم الذاتية ومكاسبهم الطبقية – الفئوية الضيقة. بينما يظل الشعب المحور الرئيسي للثورة، أسير القيود والأغلال الجديدة والأشد قسوة ومرارة من سابقاتها، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. ومن هذا المنظور فإن أنور عبد الملك – رغم تأكيده لمقولة اسحاق بشأ، "عدم واقعية الشعوب الشرقية لأنها غير مهيأة للثورة" – نراه مصرا بغير حق على أن اسحاق لم يستوعب الثورة العرابية". أجل لم يكن بمقدور اسحاق "استيعاب" مفهوم آية ثورة من ثورات الشرق حيث كان الناس "لا يقاتلون عن أنفسهم ولا تحسبهم على بينة مما يقصدون. وانما يقتادهم الطامعون بسلاسل الوهم، فهم في الثورة دعاة زعيم وعصامة زعيم آخر".

ولنبادر الى التذكير والتشديد بأن اسحاق الذي يشكك بالثورة العرابية في مصر (وهو ليس الوحيد في هذا المضمار حتى ان مصطفى كامل ذاته لم يتورع عن أن يصف عرابيا نفسه بالخيانة. لم يكن اطلاقا خصما للثورة والأعمال الثورية في سبيل الوصول الى الحرية السياسية والاستقلال الذي رفع شعارها على رؤوس الأشهاد، وهو القائل:

ولا عز للوطن الا بالأمة ولا وجدا للأمة الا بالحرية.

وفي مقال "أوربة والشرق" التي نشرها في العدد الأول من "مصر القاهرة" في 24/12/1879 كتب أديب اسحاق يقول: "قضي على الشرق أن يكون هدفا لسهام المطامع والمطالب، تعبث به أيدي الأجانب من كل جانب فمنهم من يغير ليه بحجة الغيرة على الإنسانية، ومنهم من يتطرق اليه بدعوى اقامة المدنية، ولم نر منهم من صدق في دعواه، بل كلهم تابع في ذلك قصده وهواه". ومن الجلي أن انتقادات اسحاق كانت أشد وطأة على الاستعمار الانكليزي الذي جثم بكلكله على صدر الشعب المصري، فقال: "الإمبراطورية البريطانية استولت على الشعوب المستعبدة ولم تؤيد في جميع تلك البلاد غير الخشونة والاستبداد، استبقاء لأهلها على حال يسهل معها أخذ أوطانهم، واستخدام أبدانهم، بما فطرت عليه من الأثرة تحملها على كراهية الفضل ولا لبنيها، وبغض السعادة إلا لذويها، بل با تقرر في أذهان أهلها من أن الخارج عن جزائرها الثلاث، منحط عن درجة الإنسانية .. ودولة الإنكليز التي لا تبقى على حياة الخاضعين لها الا للانتفاع، فهي الجزار لا يطعم الضأن الا ليذبحه سمينا، ثم يجعل من جلده سوطا يسوق به الأنعام". وبعد أن يصور اسحاق أحوال شعوب الشرق المستعبدة أصدق تصوير يقول: "أفليس الموت خير من هذا الفوت؟ أيليق بذي الدم الشرقي أن يصير عل هذا المسف؟ أم يحسن بذي النفس الذكية أن يرضى بهذا الخسف؟ أم لا يعلم قومنا ما قاله المتنبي:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

بيد أن اسحاق الذي استقطب فكرة إراقة الدم في اطار الكفاح ضد نير المحتل الأجنبي، والذي كتب بعد اغراق الحركة الوطنية في بحر الدم يقول: "ان الذين يتحملون مسؤولية الانتفاضة هم أولئك الذين استثاروها بظلمهم وأجحافهم". أي أنه يذكرنا في الواقع بأن انتفاضة عرابي باشا التي مثلت الشطر الثاني من بيت المتنبي (حتى يراق على جوانبه الدم) لم تكن في الحقيقة ثورة بالمعنى الاصيل اطلاقا، بمعنى أنها لم تكن في سبيل الذود عن الشرف الرفيع من الأذى. وقد لاحظ رئيف خوري بدقة متناهية ان اسحاق كان يعقتد جديا بأن الثورة لا يمكنها أن تنجح الا عندما يحققها الشعب المدرك لمصالحه ومطامحه المدافع عن حقوقه. وكان يدرك جيدا أن الافراد – معما علت منزلتهم – والجيش معا غير قادرين على ازالة استعباد الشعب ماديا ومعنويا بشكل كامل، اذا ما ظل الشعب نفسه غير مدرك لوضعه وغاياته وأهدافه. ولذا كله تكون الثورة مشروعا تماما اذا كانت تعبيرا حقيقيا عن حاجات الشعب الباطنية، ولا انقلبت شرا مستطيرا".

وعلى هذا الاساس أكد اسحاق ضرورة محاربة الجهل وأفكار القرون الوسطى المظلمة السائدة في مصر. وتنوير الشعب وتطوير وعيه السياسي، واستثارة الثورة الروحية، وليس اطلاقا الدينية – الاصلاحية. وفي هذا الصدد كتب في مقال "الثورة": "فآليت ألا أمسك القلم عن تهيئة الخواطر لثورة الأنفس حتى أرى منبتي ما رأيت في غيره من محاسن آثارها، وألا أعدل عن مقاومة الظالمين حتى أرى قومي أمة تقول ما تعتقد، ويؤخذ بما تقول. وألا أبرح متوسلا نبهاء الشرق بحرمة المجد القديم، ووحدة الذل الجديد، أن يضرموا في القلوب نار الغيرة والحمية، حتى أرى الشرق وطنا عزيزا".

ليس من العسير بعد كل هذا تفهم التقييم الايجابي الذي قدمه جرجي زيدان لصحافة أديب إسحاق قبل زهاء قرن من الزمان بقوله: "كانت من أعظم أركان النهضة الانشائية في الجرائد". وهذا الوصف لا يزال قائما حتى الآن، فالدكتور عبد اللطيف حمزة يجزم قائلا: "كانت جرائده في الحقيقة من أقوى دعائم النهضتين القومية والأدبية" وقد طور أحد مؤرخي الصحافة المصرية هذا الرأي بقوله: "ان تلك الصحف كانت مثالا وقدوة للجرائد الحرة المستقلة الاصلية، التي خدمت طرائق الفكر السياسي القومي". وقد شدد المستشرق روثمان على أن مقالات أديب اسحاق "الشاعر السوري المشهور" و"رائد النهضة الأدبية والثقافية القومية العربية" و"الموجهة ضد الاحتلال الاستعماري والاستبداد الخديوي، والداعية الى قيام دولة عربية قومية مستقلة، تركت أثرا عظيما على مستقبل حركة التحرر الوطني العربي". كما قدر المستشرقون السوفييت بدءا من كراتسكوفسكي الى الآن، صحافة اسحاق تقديرا عاليا جدا، وعلى سبيل المثال لا الحصر وصف ايفانوف جريدتي "مصر" و"التجارة" بأنهما كانتا "من الجرائد الثورية المناهضة للاستعمار اللتين أنشأهما في مصر المهاجر السوري المناضل من أجل الحرية".

بيد أن صحافة أديب اسحاق التي كانت كالصور الذي ينفه في الدعوة الى الفكر النهضوي الثقافي القومي والتنوير العبي وكانت بمثابة الرائد غير المنازع في ميدان الصحافة، ولذلك لم يكن بامكانها التواصل والاستمرار في ظل الظروف العصيبة السائدة في مصر عصرئذ. فالأوضاع المعقدة الناجمة عن اعتداءات واستفزازات المستعمرين الإنكليز (والفرنسيين أيضا) كانت تتعرض لانتقادات شديدة اللهجة في كل عدد تقريبا من جرائد أديب. فكانت جريدتا "مصر" و"التجارة" تصبان جم غضبهما وهجومهما على الدول الأجنبية الأكثر تدخلا في البلاد الشرقية، وعلى الرقيبين الإنكليزي والفرنسي في مصر، وعلى الحكومة الخديوية، مما حدا بالحكومة الى توجيه انذار لهما. فما كان من جريدة "التجارة" إلا أن نشرت الانذار في العدد 123 بتاريخ 15/11/1879، ومفاده أن أديب اسحاق "يخرج عن النهج المعتدل المافق لقانون المطبوعات، ويطلب اليه "ملاحظة ظروف الزمان والمكان" و"عدم تخديش أذهان العامة" ، فعلق اسحاق في "التجارة" بسخرية مرة أخرى على الإنذار، قائلا: "اننا نعيش في عهد أمير طيب وزارة معروفة بحرية أعضائها الكرام"، ثم يتابع كلامه مؤكدا: "أ، المسلك الذي اختارته التجارة لادراك غايتها النبيلة، انما هو المدافعة عن الوطن وحكاية الأمور الواقعة، والقيام بأمر الحق والتشبث بأهداب الاعتدال، ولا ريب أن هذا المسلك يضمن لها رضا أولي الأمر وسائر ذوي الألباب، فضلا عن أن يوجب العقاب لها". وكان رد فعل حكومة رياض باشا سلبيا، اذ اصدرت قرارا في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) جاء فيه: "وحيث ما اعتادت نشره هاتان الجريدتان ضرره أكثر من نفعه اقتضى الحال صدور الحكم من ادارة المطبوعات بالغائهما مؤبدا".

لقد ذكر الكاتبان خير الله وسامي عزيز أن أديب اسحاق قد نفي الى مصر باعتباره "ثائرا"، فوصل الى باريس مارا ببيروت. ومن نافل القول ان عبد الله النديم كان قد زور الحقائق التاريخية حين زعم أن قرار حكومة رياض باشا كان له صلة "بدفاع صحيفتي التجارة ومصر عن شريف باشا"، وحين عد كل من يتعامل معه شريكا في الجريمة". وهذا لم يكن مفاجئا ، بسبب غياب الأفغاني – كما ينقل عن عبد الله النديم". وقد انبرت "التجارة" في أعدادها الصادرة بتاريخ 9، 27، 30 نيسان (إبريل) 1879 للدفاع عن نفسها من التهمة النكراء الموجهة لها، اذ عدت دفاعها عن شريف باشا انتصار للحق والعدل، "فشريف باشا كان مع الشورى آنذاك، وقد ايدته الصحافة من قبل عندما قدم لائحته الدستورية وأعرب عن استعداده لتقحيق المطالب الوطنية". ومن الطريف أن أديب اسحاق المنفي من مصر كان قد وكل محاميا أقام الدعوى على حكومة رياض باشا في شهر كانون الثاني (يناير) 1880. فأظهر المحامي المشهور "وريجوس" من معايب الادارة ومفاسد الوزارة ما تقشعر منه الأبدان حتى خيل للسامعين أنهم يرون الادارة متقمصة جسم انسان منخطف اللون بادي النحول على حد تعبير المؤرخ الطرزي.

كان غياب أديب اسحاق بعد صنوع والأفغاني أشبه بضربة قاصمة للحركة الوطنية المصرية عامة، للحزب الوطني الذي لم يكتمل بناؤه التنظيمي بعد، خاصة، بل يمكن القول ان علامة استفهام كبيرة وضعت أمام مستقبل الحركة الوطنية في منتصف الثاني من عام 1879 مع توطد مواقع الحكم الخديوي الاستبدادي، الذي مثل فعليا سلطة غلاة الرجعيين من الاقطاعيين الأرستقراطيين والأعيان وكبار التجار من الأجانب والمنحدرين من أصول غير مصرية. واضطر الوطنيون لخوض غمار معارك قاسية ضد الرجعية المحلية والمحتلين الأجانب الذين شددوا من هجومهم اثر غياب قادة الفكر العظام عن الميدان السياسي. هذه المرحلة من النضال الحامي الوطيسي لم تكن نتيجة الظروف الموضوعية التي فرضت عل القوى الوطنية مهمة التصدي لاستفزازات الخديوي واعتداؤات الدخلاء الأجانب، بل وناجمة عن الظروف الذاتية التي تجلت في النهوض الشعبي العارم والنقمة الجماهيرية الكبيرة التي عمت البلاد طولا وعرضا اثر نفي الزعماء الثلاثة صنوع – الأفغاني – اسحاق من الديار المصرية.

وقد ازدادت الأوضاع خطورة عندما تسلمت العناصر الاقطاعية والعساكر الرجعية دفة القيادة في الحركة الوطنية لامصرية، والتي أثارت الفوضى والبلبلة في البلاد بسبب ركضها اللاهث وراء مصالحها الطبقية ومكاسبها الفئوية الضيقة من جانب، والمواقف اللاطونية التي اتخذها الزعماء السياسيون الجدد الذين تسلموا قيادة النشاط السياسي بدلا من رجالات السياسة ذوي الميول الليبرالية النهضوية، من جانب آخر. هؤلاء الساسة الذين لم يدخروا وسعا في تحجيم وتقزيم الأهداف والمطامح التي نشدتها الحركة الوطنية المصرية، والتي تعرضت لأبشع الهجمات من قبل الصفوة الحاكمة الخديوية وأركان حرب السلطان التركي والاستعماريين الغربيين، من الجانب الآخر.