المقريزي في الوجدان المصري المعاصر
المقريزي في الوجدان المصري المعاصر
ناصر الرباط
استاذ الآغا خان لتاريخ العمارة الإسلامية
معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (M.I.T.)
تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي (٤٦٣١-٢٤٤١) واحد من أهم المؤرخين العرب القروسطيين على الإطلاق. فهو صاحب المؤلفات التاريخية العديدة التي طالت مختلف المواضيع من سير وتراجم وخطط ورسائل مقتضبة في مباحث شتى. وهو كذلك صوت متفرد ومتميز في تاريخ مصر وبلاد الشام، بل وفي التاريخ الإسلامي برمته، أثبت في كتاباته التاريخية أنه يمتلك حساً تاريخياً حقيقياً، مغايراً كل المغايرة للاجترار التدويني الذي طبع معظم انتاج معاصريه وسابقيه والكثير من تابعيه. يعود الفضل في ذلك بالدرجة الأولى للنفس النقدي المدقق الذي يظهر واضحاً في الكثير من مؤلفاته (وإن كان غائباً في بعضها الأكثر تقليدية)، حتى أنه يشكل العصب المنظم لأشهرها وأعظمها مثل تاريخه لمدينته القاهرة وبلده مصر "كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار،" (الخطط اختصاراً) و"السلوك لمعرفة دول الملوك" وهو تأريخه للدولة المملوكية حتى عصره، وكتيبي "إغاثة الأمة بكشف الغمة،" عن الضائقة الاقتصادية التي واجهت المجتمع المملوكي في بداية القرن الخامس عشر، و"شذور العقود بذكر النقود،" عن السياسة النقدية للدولة المملوكية .
يمكن اعتبار كتاب الخطط بحق كتاب مؤسس في التاريخ العمراني على مستوى العالم وواحد من أعمق الدراسات التاريخية العمرانية في التراث العربي المكتوب حتى اليوم وأكثرها موسوعية وموضوعية، وأنا الآن بصدد إنهاء كتاب عنه وعن أسبقيته في مجال التاريخ العمراني. فهذا الكتاب بدءاً يحوي بين دفتيه صورة معمارية وعمرانية وبشرية شبه كاملة لما كانت عليه مدينة القاهرة في بداية القرن الخامس عشر، وللأدوار التي لعبها الساسة والأعيان في الحياة المدنية والعمرانية والاقتصادية والسياسية والمراسيمية والاحتفالية في المدينة المملوكية. وهو كذلك يقدم لنا جرداً سردياً متكاملاً لتاريخ مصر قبل الإسلام كما تصوره المسلمون من خلال مصادرهم الدينية والشبه-تاريخية، وتأريخاً مدققاً لتطور الفسطاط وبعدها القاهرة منذ نشأتها عقب الفتح الإسلامي ومروراً بعظمتها الخلافية إبان العهد الفاطمي وتفوقها العسكري الجهادي في العهدين الأيوبي والمملوكي المبكر إلى ظهور بوادر الانحطاط والتدهور فيها مع تحول السلطة إلى العنصر الجركسي في العصر المملوكي مع نهاية القرن الرابع عشر وبداية الخامس عشر، أي عندما كان المقريزي يجمع مواد كتابه ويصنفها. ويضم الكتاب أيضاً مسحاً شبه شامل لكافة المباني العامة أو المهمة في القاهرة والفسطاط من قصور ودور وجواسق ومساجد وجوامع ووكالات وخانات وخانقاهات ومدارس وزوايا ودور حديث وبيمارستانات وأسوار وأبواب وخوخ، وحتى كنائس المسيحيين وكنس اليهود، بالإضافة لجرد الحارات والأزقة والأقنية والخلجان والبرك والطرق، وتبيان تطورها منذ الفتح الإسلامي وحتى نهاية القرن الرابع عشر. فالمتصفح لكتاب المواعظ والاعتبار سرعان مايلاحظ أن المقريزي في الحقيقة يقدم لنا صورة نصية أقرب ماتكون للخرائط المفصلة التي تستخدم اليوم في المسح والطوبوغرافيا، بالإضافة لمباحث متقدمة في التاريخ الطبيعي وعلم الآثار والتخطيط العمراني وتاريخ العمارة والتاريخ السياسي والثقافي لمصر كوحدة جغرافية وإدارية وكانتماء.
وقد استحوذ كتاب الخطط على اهتمام معاصري المقريزي وتابعيه بدليل العدد الكبير من مخطوطات كتبه المنتشرة في مكتبات العالم ( هناك مثلاً أكثر من أكثر من ٠٧١ مخطوطة منه وفقاً لأيمن فؤاد سيد)، وبدليل ترجمة العديد من نصوصه إلى لغات أوروپية شتى منذ نهاية القرن الثامن عشر، وبشكل خاص الفرنسية والألمانية، وبدليل العديد من الكتب اللاحقة التي اقتبست منه أو أكملته بل واعتمدت مخططه أو بنت على منواله حتى اليوم الحاضر على الرغم من تغير المقاييس وتطور النظريات واختلاف الأهواء والمشارب. ولهذه الشعبية واستمرار الأهمية أسباب عديدة تتجاوز سعة وتفصيلية مواد الكتاب لتشمل معالم أساسية في توجهه وهدفه ونبرته وشموليته الموضوعية والتحليلية وخلفية كاتبه الاجتماعية والشخصية والدينية التصوفية. فكتاب الخطط في الحقيقة يخرج من دائرة النقل والتدوين التي طبعت غالبية أدبيات الفترة بطابع الجمود والتكرار لكي يقرب قارءه أكثر من فكر وعاطفة وهموم كاتبه ويجعله يعايشها ويتعاطف معها، أو على أقل تقدير يتفاعل معها بطريقة أوبأخرى حسب ثقافته وخلفيته وزمانه ومحيطه.
ولعل أكثر مايقرب المقريزي إلى القارىء المعاصر هو أن كتابه يصب بنهاية الأمر في خانة الدراسات النقدية الإصلاحية ذات النفس الحي والمتألم التي قل ما نجد مثيلها في التراث القروسطي برمته. فالمقريزي كان بحق نسيج وحده. فهو وإن ابتدأ حياته المهنية على نفس المنحى المعتاد عند معظم العلماء القروسطيين من التتلمذ لكبار علماء عصره والاستفادة من اتصالات عائلته والسعي لنيل الحظوة عند الأمراء وأصحاب الشأن، و"قضى شطراً طويلاً من فتوته وهو يجالد في كواليسهم للوصول إلى منصب يرضاه،" نجده فجأة ومن دون سبب واضح يقرر الكف عن التزلم للأكابر وينعزل في بيته العائلي في حارة برجوان في قلب قاهرة المعز وهو في عز الشباب وفورة النشاط وينصرف للمطالعة والكتابة والعبادات التي قاربت التصوف. ولاندري سبباً مباشراً لهذا القرار وإن كان يبدو حصيلة سنين من المعاناة من الصراعات المذهبية (أي بين أتباع المذاهب السنية الأربعة) والسياسية والمنفعية والتكالب على المناصب والفساد والرشاوى التي عايشها المقريزي عن قرب من خلال اتصاله بالسلطان برقوق وابنه فرج وبكبار رجال دولتيهما ومن بعدهما بالسلطان المؤيد شيخ الذي أدناه في بداية حكمه ثم أبعده من غير ما سبب واضح، ومن خلال المناصب التي شغلها خلال تلك الفترة وعلى رأسها وظيفة حسبة القاهرة التي احتلها ثلاث مرات (آذار-آب ٩٩٣١؛ كانون الثاني- نيسان ٠٠٤١؛ نيسان-آيار ٥٠٤١) والتي أتاحت له الفرصة لكي يشاهد بعينيه السوس الذي كان ينخر في بنية السلطة المملوكية والفساد الذي استشرى في مختلف طبقات المجتمع من عامة وحكام. وقد شحذت تجربة الحسبة قريحة المقريزي وأمدته بالخبرة اللازمة والمعلومات الوفيرة التي استعملها في تأليف كتيبيه المهمين: الأول، إغاثة الأمة بكشف الغمة، عن الضائقة الاقتصادية التي واجهت المجتمع المملوكي في بداية القرن الخامس عشر، والثاني، شذور العقود بذكر النقود، عن السياسة النقدية للدولة المملوكية، ليأتي من بعدهما كتابه الفريد عن الخطط وافياً وشاملاً في معلوماته العمرانية والاقتصادية والتاريخية.
وقد ظهرت أول أعراض القرف على هذا العالم الشديد الإيمان ونقيه عندما كان بصحبة السلطان فرج بن برقوق وحاشيته في دمشق بين ٧٠٤١ و ٢١٤١. فقد عرض السلطان عليه قضاءها مراراً وهو يرفض ولو أنه باشر بعضاً من الوظائف الصغيرة من تدريس وإدارة وقف. وبعد مقتل فرج وانتقال السلطة إلى السلطان المؤيد شيخ عام ٢١٤١، عاد المقريزي إلى القاهرة من دمشق وأعرض عن الوظائف وانقطع في داره عاكفاً على الخلوة والعبادة والتأليف، وتوقف عن التردد لأحد إلا فيما ندر. ولم يغادر القاهرة إلا مرتين على الغالب في أواخر حياته للحج والمجاورة في مكة إتماماً لفروض دينه وانعكاساً لمتطلبات زهده المتنامي.
وقد قضى المقريزي النصف الثاني حياته (من ٢١٤١ إلى ٢٤٤١) في عزلة نسبية بعيداً عن مواقع السلطة ومسييريها من سلاطين وأمراء وكتاب ووزراء. وكتب وصنف مجموعة من كتب الأخبار عن السلالات التي حكمت مصر الإسلامية وعن أهم رجالاتها، مجموعها سبعة، ابتدأها بكتاب صغير عن دخول العرب إلى مصر وترتيب قبائلهم سماه البيان والإعراب عمن دخل مصر من الأعراب، أتبعه بكتاب عن عاصمة مصر الإسلامية الأولى تحت عنوان، عقد جواهر الأسفاط في تاريخ مدينة الفسطاط، وهو للأسف مفقود اليوم، ثم كتابه المهم عن الفاطميين، إتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، المتعاطف مع هذه السلالة الحاكمة التي أدانتها العقلية السنية السائدة والذي يفصح عنوانه ومضمونه عن ميول المقريزي للفاطميين الذين كان يعتقد أنه من سلالتهم، وفي النهاية كتابه الكبير والمهم السلوك لمعرفة دول الملوك، الذي يعرض فيه حوادث العهدين الأيوبي والمملوكي بما فيها مشاهداته الشخصية حتى قبيل وفاته. ويبدو أن المقريزي قد اتبع الترتيب الزمني في تأليف هذه الكتب مع أنه شغل نفسه خلال نفس الفترة بتجميع كتيبات صغيرة عن مواضيع مختلفة، أغلبها تاريخي أو ترجمي (مجموعها ٩١ كتيباً، منها ٢١ منشورة وفقاً لمعلوماتي). وخلال هذه الفترة الطويلة كلها كان المقريزي مشغولاً على الدوام بكتابه المركزي، "كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار،" الذي أخذ من جهده أكثر من أي من مؤلفاته الأخرى ومات دون أن يكمله كما أراد واشتهى. فهو على مايبدو من خلال التواريخ التي تظهر ضمن الكتاب مافتئ يزيد وينقح فيه منذ بداية تأليفه حوالي العام ٥١٤١ وحتى سنتين قبل وفاته (٠٤٤١)، بل حتى يظهر أنه عدل في مخططه الأساسي ومنهجه مع مرور الزمن وتراكم المواد الأولية لديه من جهة، وتغير رأيه بالنظام المملوكي القائم من جهة أخرى، كما يظهر ذلك واضحاً من مقارنة المسودة التي نشرها أيمن فؤاد سيد والتي تمت كتابتها بين ٥١٤١ و٠٢٤١ على رأي ناشرها، مع المبيضة المنشورة والتي تعود افتراضاً إلى آخر تنقيح وإضافة أجراهما المقريزي على الكتاب قبيل وفاته وإن كان مازال غير كامل وفقاً لما وعد المقريزي به نفسه في ديباجة الكتاب. ولايقتصر النقص على غياب جزء أو اثنين من المخطط الأصلي، خاصة القسم الأخير الذي كان يفترض أن يحلل أسباب الخراب في مصر، بل يتعداه ليشمل بقاء عدد كبير من الأقسام ناقصاً أو مخلوط العبارة، بل وأحياناً مشوشاً ببعض الأخطاء اللغوية. ومع ذلك فهذه المبيضة التي وصلتنا ونشرت في بولاق عام ٤٥٨١ أقرب مايكون إلى الاكتمال بحيث أننا إذا ماضربنا صفحاً عن الأخطاء غير المقصودة لأمكننا أن نعتمدها معياراً لفكر المقريزي النقدي وأسلوبه في قراءة التاريخ العمراني لمدينته وبلده.
فهذا العالم والمؤرخ الملتزم والحساس كان، كما يخبرنا تلميذه المؤرخ ابن تغري بردي، "مبعوداً في الدولة، لايدنيه السلطان مع حسن محاضرته وحلو منادمته." وبما أن السلاطين بعد الظاهر برقوق الذي كان حاميه وسميره، خاصة فرج ابن برقوق في آخر عهده ولكن أيضاً المؤيد شيخ وبرسباي، "أبعدوه من غير إحسان" على حد رأي ابن تغري بردي أيضاً فقد أخذ هو في ضبط مساوئهم وانتقاد سياساتهم نقداً عنيفاً،" على أنه كان "ثقة في نفسه، ديناً، خيراً. وقد قيل لبعض الشعراء إلى متى تمدح وتهجو، فقال، مادام المحسن يحسن والمسيء يسيء." وهذا هو في الحقيقة لسان حال المقريزي الذي تمكن، بحكم إبعاده عن الدولة، من الجهر في كتاباته بما لم يقله غيره علانية حفاظاً على المنصب والصلة، ومن تتبع أخطاء ومثالب وفساد الحكام في زمانه. وحاول من ضمن معطيات علمه وعقيدته تحليل مظاهر الفساد وتبيان نتائجها في تدهور الإقتصاد المملوكي وزيف العملة وتفسخ المجتمع وفي الخراب الذي حاق بعمران مصر والقاهرة بشكل خاص. وهو قد اتخذ منهجاً جديداً للولوج إلى مبتغاه النقدي، أي المدخل العمراني، وتطرق إلى نقد الدولة والمجتمع والاقتصاد والسياسة والثقافة وبعض العادات والتقاليد من خلال تتبع آثارها العمرانية والمعمارية. أي أنه جعل العمارة بأوابدها ومبانيها العادية والعمران من أحكار وخطط وحارات وأسواق وطرق وترع وخلجان مؤشرات على صحة المجتمع والدولة ودلائل تاريخية يمكن للدارس الفطن أن يقرأ فيهما تاريخ مصر والقاهرة، وبالقياس غيرها من المدن. وهذا أيضاً سبق منهجي آخر في الثقافة العربية.
لايخفى على قارئ اليوم ملاحظة مدى وعمق تعلق المقريزي ببلده مصر ومدينته القاهرة، لامن خلال تخصيصه كتاب الخطط للبحث في تاريخها العمراني فحسب، وإنما أيضاً من خلال النبرة التي يعتمدها قي الكلام عن مصر أو عن القاهرة أو عن أماكن ذكرياته المفضلة في المدينة وخاصة حارته، حارة برجوان، خلال الكتاب كله. ويظهر حبه لمصر أوضح مايظهر في المقدمة التي تنفح بالمشاعر الجياشة تجاهها كونها "مسقط رأسه وملعب أترابه ومجمع ناسه ومغنى عشيرته وموطن خاصته وعامته وجؤجؤه الذي ربى جناحه في وكره." وهو بهذه المشاعر يظهر أكثر مايظهر وطنياً غيوراً قبل ظهور فكرة الوطنية نفسها وإن كان في سرده المسجع والسهل قد اختزل كل ما حاولت الوطنية الحديثة بعده بأربعة قرون إذكاءه في نفس المواطن من مفاهيم تهدف لتثبيت إنتمائه لبلده وقومه وتجذيره في تاريخهما ولغتهما وانتصاراتهما وكبواتهما.
وفي المقدمة أيضاً، يفصح المقريزي عن الهدف الأساسي الذي حداه إلى وضع هذا الكتاب الموسوعي: الخوف على ذكرى الخطط والمصانع والأوابد الهامة في مدينته من الزوال بسبب التدهور الحاصل في عمرانهما في الفترة العصيبة والقلقة التي عايشها المقريزي نفسه، والتي تعددت فيها أسباب الانحطاط والتدهور. فهناك الصراعات والفتن الداخلية في بداية العهد الجركسي من الدولة المملوكية التي شهدت انقلاباً في نظام الحكم قاده المغامر الأمير برقوق الذي قضى على السلالة القلاوونية التي حكمت أكثر من قرن (٠٨٢١-٢٨٣١) والذي احتاج وقتاً وجهداً وسياسةً لتثبيت حكمه والقبول به من مختلف قطاعات الجيش المملوكي. وهناك الآثار الرهيبة لطاعون "الموت الأسود" الخاطف والهائل الذي ضرب حوض البحر الأبيض المتوسط بين عامي ٨٤٣١-٩٤٣١ وحصد أكثر من ثلث مجموع السكان في تلك البلاد، وغّير معادلات النمو والاقتصاد فيها والذي لم تستطع الدولة المملوكية -على خلاف الدول الأوروبية التي أصيبت به أيضاً- النهوض من كبوتها بعده. وهناك الغزو التيمورلنكي العاصف والكاسح في بداية القرن الخامس عشر الذي دمر الإقتصاد السوري، رديف اقتصاد مصر، وقضى على طبقات الحرفيين المستقرة في المدن السورية، واستنزف موارد مصر في تهيئة ودعم الجيش المملوكي. وفوق ذلك كله، هناك السبب الأول والأساسي للتدهور _برأي المقريزي_ ألا وهو فساد المماليك نفسهم وابتعادهم عن الطريق الشرعي القويم وتكالبهم على جمع الثروات بكل الطرق بغض النظر عن الخراب الناتج عن أساليبهم الشرهة وقصيرة النظر في الإثراء على حساب دوام الاستقرار الزراعي والتجاري ورضا الرعية.
هذا الهاجس يجد طريقه للظهور في الكتاب أكثر من مرة. ويبدو لي أننا يمكننا اعتباره المفهوم الناظم للكتاب بحق. فهو الذي يدفع المقريزي في سباق محموم مع الزمن لأن يسجل بوله زائد كل تفصيلة عمرانية ومعمارية وتاريخية مهمة من وجهة نظره ومن ضمن مفاهيمه عن كل مبنى في القاهرة وبدرجة أقل في الفسطاط والمدن المصرية الأخرى خوف اندثارها وبالتالي نسيانها ونسيان العز والبحبوحة والاستقرار الذين أنتجوها بادئ ذي بدئ. ومن هنا تأتي جدة الكتاب وتباينه عن غيره من كتب الخطط التي عنيت بتسجيل الملامح العمرانية للقاهرة والفسطاط قبل وبعد المقريزي. فهذا القاهري المتفرد والحساس، غريب الأطوار والمسكون بهموم مدينته يكتب بعاطفة جياشة ومفعمة تنسل إلى كلماته وجمله وأفكاره فتضفي عليها بعداً أيدولوجياً وأنطولوجياً (كينونياً) واضحاً. فهو من خلال كتابه يتمسك بذكريات قاهرته التي ولت مع التدهور الحاصل في العهد الجركسي المبكر ويحاول إعادة سكبها وصفاً مفصلاً ومعبراً ومكتملاً لكل دقيقة من دقائق تاريخها. فهو بذلك يحاول أن يخلق في خططه "موئلاً للذاكرة" (lieu de mémoire) كما عرّفها المنظر الفرنسي پيير نورا (Pierre Nora) بعد أن فقدت المدينة --مدينة طفولته ومدينة الذكريات التي تشربها من أهله عن عظمتها أيام عنفوانها-- قدرتها على أن تكون "محيطاً للذاكرة" (milieu de mémoire) أي على أن تكون بما هي عليه الأرضية الواقعية التي تنداح عليها صورة المدينة كما يتمثلها أناسها ويعيشونها ويتذكرونها، والأهم من ذلك كله، يحبونها ويستمدون هويتهم وانتمائهم منها.
وهكذا نجد المقريزي يستعمل تيمة (theme) الخراب والخوف من النسيان والرغبة بحفظ ذكرى الماضي السعيد كلازمة ناظمة للعديد من فصول كتابه. فالأوقاف انتهكت من قبل الأمراء الشرهين ودمر دورها الاقتصادي والعمراني بفعل الاستيلاء والاستبدال والبيع التعسفي وهي كلها بدع أدخلها الجراكسة على حد زعم المقريزي. والكثير من خطط القاهرة الجديدة التي انتعشت في العهد المملوكي المبكر، وخاصة خلال فترة السلطان الناصر محمد بن قلاوون (حكم ثلاث فترات بين ٣٩٢١-١٤٣١)، اضمحلت وتراجعت. وبعضها، كالمقس ومنشأة المهراني والدكة والخندق والرصد وبلبيس تحول إلى خرابات. ومستوى المعيشة تدهور واتضعت أحوال الناس فتحول الأغنياء إلى لبس الجوخ بدل الحرير، وإلى إزالة التكفيت الفني الرائع من أوانيهم النحاسية لبيع الذهب والفضة صرفين فقراً وإملاقاً. وزالت الأعياد الزاهية وذهبت بهجتها، فالفوانيس في ليالي المواسم لم تعد تشعل كما في الماضي، والزوارق التي تحمل اللاهين لم تعد تصعد وتهبط في النيل وفي البرك، وأسواق الرفاه اختفت. والحكام ازدادت شراهتهم لوضع يدهم على كل مايطالونه من أموال الرعية حلالاً أو حراماً، والقضاة والأعيان صارت تعين بالرشوة. هذه الصور التي تبدو لنا اليوم مكررة بعض الشيء أعطت الكتاب إيقاعاً تشاؤمياً واضحاً بحيث لايمكن للقارئ إلا وأن يحس به ويتألم لألم المقريزي وهو يشاهد عياناً استشراء الخراب في مدينته. ولكن المقريزي لايكتفي بنقد السلطة من خلال التركيز على الخراب العمراني الحاصل بنتيجة فسادها وتجبرها وسوء إدارتها وابتعادها عن تعاليم الدين كما حددها حماته من العلماء والفقهاء، بل إنه يعمد للنقد نقداً صريحاً من خلال نماذج واضحة من بين السلاطين أو الأمراء الكبار الذين تسببوا بشكل مباشر في الخراب العمراني أو التدهور الاقتصادي أو في فساد الذمم وطغيان الأهواء. ثم يثبت خلاصة رأيه في تدهور السلطة المملوكية في فقرة هي من أدق التحليلات السياسية التاريخية التي أعرفها -- والتي يجدر بي أن أثبتها كاملة-- يستخدم فيها ببراعة فائقة نظرية معلمه ابن خلدون بعد أن كيّفها لتتلائم مع النظام المملوكي الخاص بعصبيته الاصطناعية وبطبقته الحاكمة المكونة من جيل واحد لا يمرر السلطة لأبنائه وإنما يستورد مجموعة جديدة من المماليك لتحفظ عصبيته وتحل محله على قمة هرم السلطة. فالنظام المملوكي الصارم والدقيق الذي وضع قواعده الآباء المؤسسون مثل الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون مكنهم من أن يصبحوا "سادة يدبرون الممالك وقادة يجاهدون في سبيل الله وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل ويردعون من جار أوتعدى، وكانت لهم الإدرارات الكثيرة" كما يرى المقريزي ماضي دولتهم الزاهي من موقعه. هذا النظام الذي سمح لهم بإقامة هرم سلطوي راسخ وعتيد اقتفى آثاره خلفاؤهم من بعدهم حتى عهد برقوق تضعضعت أسسه خلال حياة المقريزي الذي كان شاهد عيان لما يحلله. وهذا النظام الذي أفرز تراتبية محكمة لايمكن فيه للفرد المملوك من الصعود إلى رتبة الإمارة فيه إلا بعد مروره بمراحل تدريبية عسكرية ودينية وأدبية متعددة وصارمة بحيث تكون "أخلاقه قد تهذبت وكثرت آدابه وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتد ساعده في رماية النشاب وحسن لعبه بالرمح ومرن على ركوب الخيل ومنهم من يصير في رتبة عارف أو أديب شاعر أو حاسب ماهر" قد زال وولى على حد رأي المقريزي. ثم لما كانت أيام الظاهر برقوق "رخص للمماليك في سكنى القاهرة وفي التزوج فنزلوا من الطباق في القلعة ونكحوا نساء أهل المدينة وأخلدوا إلى البطالة ونسوا تلك العوائد ثم تلاشت الأحوال في أيام الناصر فرج بن برقوق... وبقي الجلب من المماليك إنما هم من الرجال الذين كانوا في بلادهم ما بين ملاح سفينة ووقاد في تنور ومحول ماء في غيط أشجار ونحو ذلك واستقر رأي الناصر [فرج بن برقوق] على أن تسليم المماليك للفقيه يتلفهم بل يتركون وشؤنهم فبدلت الأرض غير الأرض وصارت المماليك السلطانية من أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدراً وأشحهم نفساً وأجهلهم بأمر الدنيا وأكثرهم إعراضاً عن الدين مافيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فأرة وأفسد من ذئب...فلا جرم أن خربت أرض مصر والشام من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات بسوء إيالة الحكام وشدة عبث الولاة وسوء تصرف أولي الأمر ."
هذا هو بيت القصيد من نقد المقريزي اللاذع والمباشر: خروج السلطة المملوكية عن قواعد الحكم والعدل والشريعة أدى إلى خراب البلاد. ولاأظن أن أي وصف تقريري لسوء الحكم كان يمكنه أن يبلغ من التأثير مايبلغه وصف المقريزي للآثار العمرانية التي سببها هذا التدهور وهذا التخبط الإداري والسياسي. وعلى هذا الأساس تبرز للسطح الخاصية السياسية النقدية لكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. فالموعظة والعبرة هنا ليست تجريدية أخلاقية محضة، بل هي تقريرية وفاعلة: عمران الخطط لايتم إلا بصلاح السلطة. ولايجدر بنا أن ننتظر من المقريزي أن يذهب أبعد مما ذهب إليه، كأن يدعو لتغيير الحكام مثلاً. فلا تربيته ولاخلفيته الإسلامية ولامحيطه العلمي أو الفقهي تسمح بهذا النوع من التفكير والاستنتاج. ولكنه بنظرة المؤرخ المحلل والمنظر الثاقبة تمكن من استيعاب العلاقة بين ازدهار المدينة وعدالة السلطة، ووضع يده بجرأة يعز نظيرها حتى في يومنا هذا على الجرح الذي عاينه ينزف وحلل مسبباته وبيّن نتائجه. فالمقريزي بالحقيقة في كتابه هذا رائد معرفي سابق للعديد من الأنواع التاريخية الاجتماعية التحليلية التي ظهرت في أوروبا القرن التاسع عشر وأسست من خلالها علوم إجتماعية مهمة كالتاريخ الاقتصادي والتاريخ العمراني والسوسيولوجيا، والنوع الأكثر شمولية والذي كان يعرف بتاريخ الحضارات .(History of Civilization)
على ذلك فقد صار هذا الكتاب مرجعاً أساسياً لكل من كتب عن تاريخ مصر والقاهرة العمراني. فقد سار على منواله كل من تنطح للكتابة في هذا الموضوع في العصرين المملوكي والعثماني مثل السيوطي في كتابه "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة،" وأبي حامد القدسي في "الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة،" ولو أنهما وغيرهما لم يصلوا إلى مستوى المقريزي في استيعاب العلاقة بين العمران والمجتمع والسلطة السياسية. ولم يأت من يتحدى الموقع الريادي للمقريزي كمؤرخ القاهرة الأهم والأعمق حتى بداية القرن التاسع عشر عندما هبت رياح التغيير المعرفي على مصر على شكل نزول مجموعة من العلماء الفرنسيين مع حملة نابوليون بونابرت الاستعمارية (٨٩٧١-١٠٨١) وانكبابهم على دراسة كل مايمكن دراسته عن مصر، تاريخياً وجغرافياً وطبيعياً وانتربولوجياً وعمرانياً ومعمارياً، دراسة وافية ومفصلة ظهرت نتائجها على شكل المجموعة الموسوعية الهائلة الحجم "وصف مصر،" الذي ظهرت تباعاً في پاريس بين عامي ٣٠٨١ و٨٢٨١ على شكل تسع أجزاء من النصوص واثني عشر جزءاً من الأشكال من القطع الكبير شكلت فيما بينها قاعدة معرفية متكاملة لدراسة مصر حسب ماتوصلت إليه مناهج الابستمولوجيا الأوروبية في القرن التاسع عشر. وقد احتلت دراسة عمران وعمارة القاهرة مايقارب الجزء من النصوص وجزءاً من الأشكال من القسم المخصص لمصر الحديثة. وكان المقريزي، ولاغرابة، مصدراً أساسياً للعلماء الفرنسيين الذين اعتمدوا على ترجمات ناقصة لخططه في نصوصهم، ولكنهم، بطبيعة الحال، لم يشاركوه نقده للسلطة ولاألمه لتدهور القاهرة في عصره، وإن أدانت نصوصهم أيضاً سوء سلطة المماليك في العهد العثماني وحملتهم مسؤولية مباشرة عما آلت إليه أحوال مصر في القرن الثامن عشر. وقد اختلفت الأهداف طبعاً بين المقريزي والفرنسيين الذين كانوا يفتشون عن مبرر أخلاقي وعملي لاحتلالهم لمصر من خلال نظرتهم لأنفسهم كأصحاب مهمة حضارية هدفها انتشال مصر صاحبة الحضارة الفرعونية المتألقة من وهدة قروسطيتها المتطاولة وإدخالها العصر الحديث، طبعاً في ظل الحماية، أو الوصاية، الفرنسية.
حافظ المقريزي على موقعه كمؤرخ القاهرة الرئيسي في الفترة اللاحقة لكتاب "وصف مصر،" بل واستمر باحتلال مركز الصدارة كمرجع أساسي بالنسبة للمؤرخين المصريين المحدثين الذين ابتدأوا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحت ضغط الحداثة الأوروبية المنشاً بالاهتمام بتاريخ مصر العمراني ثانية بعد ركود طويل. ولم يعامل هؤلاء المؤرخون المحدثون المقريزي على أنه مصدر معلوماتي فقط، بل اتخذه الكثير نبراساً فكرياً ومنهجياً، حتى أن البعض قلدوه في لغته كما هي حال علي باشا مبارك في كتابه "الخطط التوفيقية الجديدة" الذي أكمل فيه خطط المقريزي من حيث انتهت في القرن الخامس عشر، بل وبنى ماأضافه من معلومات واحصائيات على ديدن خطط المقريزي من دون إدخال أية أشكال توضيحية أو مخططات على النص الوصفي التفصيلي مع أنه كان قطعاً مطلعاً على الكتب العمرانية الأوروبية الحديثة، وعلى "وصف مصر" بالذات. ولكن خطط مبارك على عكس خطط المقريزي لاتحمل في طيات تحليلها العمراني هموماً اجتماعية ولاتنبئ عن نفس نقدي قوي، بل ولاحتى توحي بأن هناك علاقة مباشرة بين العمران والسياسة على الرغم من أنها كتبت على الأغلب بهدف حصر منجزات الخديوي اسماعيل، راعي مبارك الأصلي، وابنه توفيق الذي أخذ الكتاب اسمه. ومازال المقريزي حتى يومنا هذا يشغل موقعاً متميزاً بالنسبة لمؤرخي القاهرة من مصريين وغيرهم الذين يعولون عليه في بحثهم في تاريخ القاهرة العمراني وتاريخ مصر بل وحتى بعض النقاط المهمة في التاريخ الثقافي الإسلامي، ليس فقط في معلوماته بل أيضاً في منهجه واتجاهه. وهو بالإضافة لذلك يحتل موقعاً متميزاً في وجدان المؤرخين المصريين المعاصرين الذين يشعرون بتآخي عقلي وعاطفي معه من خلال وطنيته الواضحة في الخطط حتى أن بعضهم، كمحمد مصطفى زيادة وجمال الدين الشيال، نعته بالوطني الغيور بغض النظر عن أنه عاش ٠٠٤ سنة قبل ظهور فكرة الوطنية كما نعرفها.
ولم يبق التأثر بالمقريزي والإعجاب بخططه محصوراً بمجال الكتابة التاريخية بل تجاوزها في السنين الأخيرة ليلج المجال القصصي والروائي على يد روائيين كبار مثل جمال الغيطاني الذي تقمص دور المقريزي في مجموعته الصغيرة "خطط الغيطاني" (٠٨٩١) والتي يمكن رؤيتها كاستكمال معنوي لتأريخ عمران القاهرة الذي بدأه المقريزي في محاولة منه لحفظ ذكرى العصر الذهبي الذي ولى. ولكن خطط الغيطاني تؤرخ لقاهرة معاصرة بأسلوب فرداني، غير سردي أساساً، يتمحور حول علاقة الكاتب نفسه الحميمية والخاصة بالقاهرة الشعبية المعاصرة، وحول رؤيته السياسية النقدية لتغير ملامح المدينة وطبوغرافيتها بتغير رموز وأشكال السلطة فيها وتطور وسائل قمعها وسيطرتها على الرأي العام. وقد خطا الغيطاني خطوة جريئة جديدة في كتابه "سفر البنيان" (روايات الهلال، سبتمبر ٧٩٩١) حيث تماهى مع العمارة نفسها وأحياناً مع عناصرها المكونة، محولاً إياها إلى أدوات تعبيرية عن فلسفته الوجودية التي طورها بشكل حثيث من خلال تواصله مع الكتابات التصوفية الإشراقية القروسطية، وبخاصة فلسفة ابن عربي وأتباعه، وتجاربه في إعادة صياغتها روائياً وتعبيرياً. فهو هنا ، بعد تجارب متتابعة أودعها معظم كتبه التي نشرها في الثمانينات وبدايات التسعينات، يستلهم من العمارة الكثير ويحملها من المعاني مايتجاوز المباشر والصريح إلى "بث لرسائل خفية يصعب التصريح بمضامينها لصعوبة العوامل المدبرة للوقت" حسب تعبيره.
ولم يقتصر ظهور المقريزي في الأدب المصري الحديث على الرواية التاريخية أو شبه التاريخية أو السيرة الذاتية كما في أعمال الغيطاني، بل تعداها ليظهر في نوع أدبي قليل الانتشار في الأدب العربي مقارنة بطغيانه في آداب ثقافات أخرى: الخيال العلمي، وبالتحديد روايات السفر عبر الزمن. فالمقريزي نفسه يظهر كشخصية متميزة في واحدة من أكثر الروايات المصرية المعاصرة سخرية ونقداً، وبالنهاية تشاؤماً من الوضع الصعب الذي تمر به البلاد، "رحلات الطرشجي الحلوجي" (١٩٩١) لخيري شلبي. في هذه الرواية الخيالية يتنقل الراوي، ابن شلبي أو الكاتب نفسه، في الزمان القاهري الماضي من دون أن يكون له أدنى سيطرة على سفره عبر الزمن من أجل هدف مضحك: حضور احتفال أول يوم من رمضان الذي يقيمه الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بمناسبة انتهاء أعمال البناء في عاصمته الجديدة القاهرة. ولكن الهدف الأعمق من هذه الرحلات العشوائية على الأغلب هو تمكين الراوي/الكاتب من بناء شخصية مصرية متسامحة، مرحة، طيبة القلب وأزلية البعد، ربما كمحاولة من خيري شلبي لدفع الشعور الكئيب بالعجز عن فهم التطورات المعاصرة في مصر حيث يسود التعنت والتعصب والانغلاق والعودة إلى أصالة صناعية ومركبة من تأثيرات سلفية من داخل وخارج مصر.
ولا يتمكن الراوي ابن شلبي من الوصول إلى دعوته في القصور الفاطمية، وإنما نتابعه وهو يترامى من زمن قاهري لآخر قبل وبعد بناء القاهرة ومروراً بعهود الفاطميين والمماليك. وهو في تجواله عبر الزمن يمر بشخصيات فوق-زمنية مثله، كابن الحكم وابن تغري بردي وستانلي لين پول صاحب كتاب تاريخ القاهرة، ولكن أهمها تقي الدين المقريزي الذي يلعب في الرواية دوراً أساسياً كدليل ابن شلبي في كل مايتعلق بتاريخ القاهرة السياسي والمعماري. فهو شيخ جليل مهتم بمتابعة تاريخ القاهرة العمراني أينما حل ومهما حصل له. وهو يشرح لابن شلبي كلما التقاه عبر الزمن أهمية لحظة اللقاء وطوبوغرافية مكان اللقاء. وهو متواضع وتواق للعلم والمعرفة لايتردد في أن يعبر لابن شلبي عن امتنانه لكل معلومة إضافية يمكنه تسجيلها على الرغم من وعيه بأنه قد جمع كل مايمكن جمعه في زمنه. وعندما يشرح ابن شلبي للمقريزي ماحل بموقع خان الخليلي في زمانه هو أي في القرن العشرين، يتنهد المقريزي ويقول، "لم يبق إلا الاسم...آه يا مصر كم تحفظ ذاكرتك من أسماء."
هذه العبارة القصيرة تختصر مكانة المقريزي في الوعي المصري المعاصر كصاحب أوسع وأشمل وأعمق كتاب عن تاريخ مصر القروسطي. فهو الذي حفظ ذكرى العديد من الأمكنة التي اندثرت بحفظه لأسمائها، وهو أيضاً الذي حفظ وصف هذه الأمكنة والقصص التي نسجت حولها مما منحها بعداً تاريخياً بغض النظر عن اختفائها مما أبقاها حية في أفئدة المعاصرين. فالمقريزي إذن لعب ومازال يلعب دوراً مهماً في خطاب الهوية الوطنية المصرية، فهو الذي يقدم تاريخ المكان وتاريخ الناس، أي الأجداد، الذين عاشوا فيه، على الأقل حتى القرن الخامس عشر. أي أن كتاب المقريزي عن خطط مصر أصبح في عصرنا هذا المفعم بالوطنية المهيضة التي تفتش عن خلاصها موئل ومخزن التراث الوطني ببعديه القومي، كتاريخ سردي متكامل لصيرورة الناس الذين عاشوا في البلاد في الماضي، والمكاني، كتاريخ مادي متكامل لكل مابني وعمر واستصلح وأسس وأوقف ثم تهدم وزال واندثر، في الوقت الذي اختفى فيه ممثلي البعدين الأصليين، أي الناس والأبنية. هذان البعدان يشكلان فيما بينهما الدعامتين الأساسيتين لأي شعور بالتراث الوطني، ذلك المكون الأساسي للهوية الوطنية مع غيره من العناصر الأساسية كاللغة والأرض والمصير المشترك. وهما كذلك، بالكتابة عنهما كما فعل المقريزي بجرأة واقتدار وبعد نظر، يشكلان الطرفين الرئيسين في أي محاولة لإعادة استحضار هذا التراث الوطني إما لتأجيج الإحساس بالمواطنة والانتماء أو لأسباب أخرى مثل زيادة الوعي بأهمية التراث المبني أو دعم حملات ترميمه وحفظه وإعادة استخدامه استخداماً لائقاً.
وبالتالي فالمقريزي قد أصبح اليوم علامة وهادياً ورائداً في الشعور والمخيال المصري المعاصرين ليس فقط بفضل المعلومات التي حفظها في كتابه عن الخطط، بل بفضل تحليله التاريخي العميق ونفسه الوطني شديد الانتماء والعارم المبثوثين في تضاعيف الكتاب الذي أزعم أنه أسس لكتابة تاريخية منتمية وملتزمة في مصر. وقد لاحظ خيري شلبي نفسه هذا البعد وعبر عنه بصراحة في إهدائه لكتابه الشيق "بطن البقرة" إلى ابن عمه الشيخ علي محمد عكاشة إذ يقول عن ابن عمه هذا: "قلّبتُ في مكتبته وأنا طفل في سنوات الدراسة الأولى، فوقع في يدي المجلد الأول من خطط المقريزي، ففتنتُ به، كان بلا غلاف، وبلا عنوان، فأعطيته عنواناً من عندي استقيته من موضوعه: تاريخ البيوت والشوارع، وأظن أن تلقائية الشعور في ذلك العنوان لا تزال تحكم نظرتي لهذا العلم الفريد: علم الخطط، أي تاريخ المكان." ولا يكتفي شلبي بتلك الإحالة إلى خطط المقريزي بل إنه يستخدم في روايته التي ينعتها بأنها رواية جغراوية أو رواية جغرافية، أسلوباً سردياً يذكرنا بالمقريزي في بحثه المحموم عن كل نتفة معلومات عن المباني التي يوثقها وعن تاريخها وعن مآلها من أجل هدف أوسع من التحقيق والتوثيق: إبراز أهمية المكان وفعاليته في تأطير حياة البشر، ونقد الإهمال الذي تتعرض إليه المدن والمباني والتلميح إلى أسبابه ومسببيه، بل والتصريح أحياناً، مما يضفي على "الخطط" وعلى "بطن البقرة" معاً صفة النقد السياسي على الرغم من اختلاف المنحى والمنهج والزمن بين المقريزي وخيري شلبي.
النقد السياسي إذن هو البعد الأعمق في خطط المقريزي الذي تنبه له الكثيرون من المبدعين المعاصرين الذين استخدموا خطط المقريزي لأهداف أوسع من دراسة تاريخ القاهرة أو مصر. فللانتماء والالتزام بعد جامع مهم تمثله المقريزي في خططه بطريقة واضحة وبتارة ودامغة لكل من ساهم في تدهور قاهرته وتعثر بنيانها. وقد التقط هؤلاء المبدعون الحساسون والملتزمون المعاصرون هذه الخصلة وبنوا عليها نقداً معاصراً لايقل في التزامه وانتمائه عن نقد المقريزي وإن كان يفوقه تحليلاً وعمقاً، وفي حالة الأدباء منهم، شاعرية. هناك العديد من الأمثلة التي يمكن أن تطرح هنا ولكن أروع وأعمق ماقرأت في الأدب العربي المعاصر الذي يستلهم المقريزي، وأكثره تشاؤماً ويأساً في الآن نفسه، هي قصيدة "تداعيات السكر والضياع" للشاعر المرحوم نجيب سرور الذي أسماها قصيدة انتحارية وكتبها في نهاية ٧٧٩١ قبل أقل من عام على وفاته المبكرة. ففيها يقول نجيب سرور:
ماذا سوف يقال أيقال بأنا قلنا بالرمز.. بالهمس... الهمز.. وبكل فنون القول الشفري.. قلنا مافي الخمر... لكن الناس.. كانوا عنا مشغولين .. بشؤون اللقمة.. وخصوصاً كيلو اللحمة.. لكن سوف يجيء المقريزي يقول: "قد ذكر الاستاذ ابراهيم بن وصيف شاه في كتاب أخبار مصر قبل الاسلام، وهو كتاب جليل الفائدة رفيع القدرة أن أول غلاء وقع بمصر كان في زمن الملك السابع عشر من ملوك مصر قبل الطوفان واسمه أفروس بن مناوش الذي كان طوفان نوح عليه السلام في زمنه، على قول ابن هرجيب بن شهلوف. إغاثة الأمة بكشف الغمة، أو تاريخ المجاعات في مصر يامقريزي.. يا من تأتي دوماً بعد الطوفان الطاعون هو الطاعون، يأتي دوماً في ذيل مجاعة، خطف ابنتك، وخطف بنات الناس.. ولكن سرور لايتوقف في استحضاره عند إخبارية المقريزي، أو مشاركته الغم بالبلاء الحاصل والذي أصاب المقريزي في أعز الناس لديه، بل يخاطبه كحليف في انتقاد الخطأ، وحليف في الأسلوب والمقاربة، حتى أن سرور الشاعر ينبذ الشعر ويعتمد النثر على طريقة المقريزي لأن النثر سلاح أقوى في النقد المباشر الذي يهدف إليه كلاهما. فها هو نجيب سرور يتابع: عهداً..عهداً يامقريزي.. ألا أترك هذا العالم.. دون فضيحة لاأسأل أحد عدلاً.. فالعدل العادل لايُستجدى، والقاضي فينا الكاهن، والكاهن فينا القاضي، كل خائن فليكتب غيري الشعر.. لكني أكتب خطط المقريزي.. أمشي بخريطته في بحر الظلمات، أبحث في وطني عن وطني لكن لاأفقد في الغوص.. في الضوضاء.. الصخب.. العنف.. طريقي فليكتب غيري الشعر.. لكني ماكنت لأكتب. سطراً أو شطراً واحد.. من أجل الشعر فحسب، هذا عصر النثر أنى أعرف من أين أتيت، ولماذا، ولمن جئت، وإلى أين أسير أعرف وطني لكني لاأجده أشرب.. أشرب ليل نهار، وأغوص.. أغوص إلى أعماقي، وهناك أراه في قلبي لؤلؤة قدسية.. لايمكن أن تتحطم، حتى لو سقط عليها جبل عملاق
وبعد مقطع شديد السوداوية من القصيدة يعود نجيب سرور لاستحضار المقريزي بصفته ضمير الأمة الذي لاحظ الفساد في عهده وانتقده بجرأة ووضوح، مما أتاح لتابعيه أن يستخدموا نصوصه كرمز للمنهج النقدي الملتزم. فهنا تواصل مابين ناقد قروسطي حساس ومفعم بالأسى لخراب البلاد بسبب عبث أولي الأمر والفساد وطغيان الجور والظلم وشاعر ناقد ماركسي ملتزم وضع يده على الجرح الذي تنزف منه مصر: اختلال الحس الوطني والحس الاجتماعي بسبب من طغيان السلطة وتكالب رأس المال والجهل وسيادة التقاليد البالية. ويصوغ نجيب سرور آرائه بطريقة لابد وأن ترضي المقريزي بالرغم أيضاً من تباين المنهج والأسلوب والنظرة والزمان:
ضاعت بنت المقريزي.. في الطاعون والطاعون يجيء دوماً في ذيل مجاعة، حين تصير اللحمة ترمومتر الأسعار.. حتى أسعار الكتاب.. القصاصين.. الشعراء.. الفنانين.. العلماء.. حين تصير اللحمة حلماً للفقراء، ويصير الفول فاكهة السادات الطبقات العليا- فاكهة أيضاً للعامة.. للطبقات الدنيا.. عندئذ يفترس الغضب القردة.. والفيران.. والذؤبان.. عندئذ يأتي الطوفان والسبب الأول يا مقريزي: "السبب الأول وهو أصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة. كالوزراء والقضاء ونيابة الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، بحيث لايمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل.. فتخطى لأجل ذلك كل كاهل ومفسد. وظالم وباغ إلى مالم يكن يؤمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله بأحد حواش السلطان ووعده بمال للسلطان على مايريده من الأعمال فلم يكن بأسرع من تقلده ذلك العمل وتسليمه إياه.."
ضاعت بنت المقريزي.. في الطاعون.. في طوفان المال.. ضاعت في أنياب رجال الأعمال ياقوت ماأنت ياقوت ولاذهب فكيف تعجز أقواماً مساكينا؟ كيف لايشرك المضيقين في النعمة قوم عليهمو النعماء؟ وقد يرزق المجدود أقوات أمة ويحرم قوتً واحد وهو أحوج؟
يبدو واضحاً هنا أن نجيب سرور بحساسيته النقدية المرهفة إلى حد الهوس وبالتزامه الأخلاقي العالي قد وجد في المقريزي، وبشكل خاص في مقريزي الخطط، صنو روحه ورفيق دربه وكفاحه وميزان حكمه ونقده. ولاأظن أن أحداً ممن كتب الأخبار أو الخطط قد بلغ هذه المرتبة التي بلغها المقريزي أساساً لا لكونه أكثر الإخباريين دقة أو سعة معرفة وشمول نظر فحسب (على الرغم من بعض الهنات التاريخية التي ركز عليها نقاده)، بل بسبب من استنباطه من تأريخ العمران ملاحظات عن الاقتصاد والاجتماع والسياسة، وطرحها لقرائه من منظور عالم مسلم ورع وملتزم، عالم يرى الضرر فلا يملك إلا أن يشير إليه ويبين علته ودواؤه الذي هو بطبيعة الحال فقهي وديني بسبب البيئة والزمان والخلفية العلمية. ومع ذلك فقد استطاع المقريزي أن يصوغ من انتمائه والتزامه ومعرفته وبحثه وألمه لما يراه في مدينته وبلده خطاباً نقدياً مازال يؤثر في الوجدان الحي للأمة المصرية ممثلاً ببعض ألمع كتابها ومفكريها وأكثرهم تفاعلاً مع مجريات الأمور في تاريخها المعاصر.