المغني - كتاب العارية
المغني موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي
(الجزء السابع عشر – كتاب العارية) • كتاب العارية o مسألة: العارية مضمونة وإن لم يتعد فيها المستعير o فصل: اشتراط نفي الضمان o فصل: ما ضمن جملته ضمنت أجزاؤه o فصل: ولد العارية لا يجب ضمانه o فصل: وجوب ضمان العين بمثلها o فصل: إن كانت العين باقية فعلى المستعير ردها إلى المعير o فصل: لا تصح العارية إلا من جائز التصرف o فصل: جواز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة o فصل: لا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر o فصل: تجوز الإعارة مطلقًا ومقيدًا o فصل: إن استعار شيئًا فله استيفاء منفعته بنفسه وبوكيله o فصل: إن أعاره شيئًا وأذن له في إجارته مدة معلومة o فصل: جواز استعارة العبد للرهن o فصل: جواز العارية مطلقة ومؤقتة o فصل: إطلاق المدة في العارية o فصل: إن أعاره شيئًا لينتفع به انتفاعا يلزم من الرجوع في العارية o فصل: استعارة دابة للركوب o فصل: من استعار شيئًا فانتفع به ثم ظهر مستحقًا فلمالكه أجر مثله o فصل: إذا حمل السيل بذر رجل من أرضه إلى أرض غيره o فصل: اختلاف رب الدابة وراكبها
كتاب العارية
مسألة:
قال: [والعارية مضمونة وإن لم يتعد فيها المستعير] العارية: إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال مشتقة من عار الشيء: إذا ذهب وجاء ومنه قيل للبطال: عيار لتردده في بطالته, والعرب تقول: أعاره وعاره مثل أطاعه وطاعه والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: {ويمنعون الماعون} [الماعون: 7]. روي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: العواري وفسرها ابن مسعود فقال: القدر والميزان والدلو وأما السنة, فما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال في خطبة عام حجة الوداع: (العارية مؤداة والدين مقضي والمنحة مردودة, والزعيم غارم) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب وروى صفوان بن أمية (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعار منه أدرعا يوم حنين فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة) رواه أبو داود وأجمع المسلمون على جواز العارية واستحبابها, ولأنه لما جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع ولذلك صحت الوصية بالأعيان والمنافع جميعا إذا ثبت هذا, فإن العارية مندوب إليها وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم, وقيل: هي واجبة للآية ولما روى أبو هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها الحديث قيل: يا رسول الله: وما حقها؟ قال: إعارة دلوها, وإطراق فحلها ومنحة لبنها يوم وردها) فذم الله تعالى مانع العارية وتوعده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما ذكر في خبره ولنا, قول النبي: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) رواه ابن المنذر وروي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (ليس في المال حق سوى الزكاة) وفي حديث الأعرابي (الذي سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ماذا فرض الله على من الصدقة؟ قال: الزكاة فقال: هل على غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع شيئا أو كما قال) والآية فسرها ابن عمر والحسن البصري بالزكاة, وكذلك زيد بن أسلم وقال عكرمة: إذا جمع ثلاثتها فله الويل إذا سها عن الصلاة وراءى, ومنع الماعون ويجب رد العارية إن كانت باقية بغير خلاف ويجب ضمانها إذا كانت تالفة تعدى فيها المستعير أو لم يتعد روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وإليه ذهب عطاء والشافعي وإسحاق وقال الحسن والنخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز والثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي وابن شبرمة: هي أمانة لا يجب ضمانها إلا بالتعدي لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ليس على المستعير غير المغل ضمان) ولأنه قبضها بإذن مالكها, فكانت أمانة كالوديعة قالوا: وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (العارية مؤداة) يدل على أنها أمانة لقول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58]. ولنا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث صفوان: (بل عارية مضمونة) وروى الحسن عن سمرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أبو داود, والترمذي وقال: حديث حسن غريب ولأنه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفردا بنفعه من غير استحقاق ولا إذن في الإتلاف, فكان مضمونا كالغصب والمأخوذ على وجه السوم وحديثهم يرويه عمر بن عبد الجبار عن عبيد بن حسان, عن عمرو بن شعيب وعمر وعبيد ضعيفان قاله الدارقطني ويحتمل أنه أراد ضمان المنافع والأجزاء وقياسهم منقوض بالمقبوض على وجه السوم.
فصل:
وإن شرط نفي الضمان, لم يسقط وبهذا قال الشافعي وقال أبو حفص العكبري: يسقط قال أبو الخطاب أومأ إليه أحمد وهو قول قتادة والعنبري لأنه لو أذن في إتلافها لم يجب ضمانها فكذلك إذا أسقط عنه ضمانها وقيل: بل مذهب قتادة والعنبري أنها لا تضمن إلا أن يشترط ضمانها فيجب لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصفوان: (بل عارية مضمونة) ولنا أن كل عقد اقتضى الضمان, لم يغيره الشرط كالمقبوض ببيع صحيح أو فاسد وما اقتضى الأمانة, فكذلك كالوديعة والشركة والمضاربة والذي كان من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إخبار بصفة العارية وحكمها وفارق ما إذا أذن في الإتلاف, فإن الإتلاف فعل يصح الإذن فيه ويسقط حكمه إذ لا ينعقد موجبا للضمان مع الإذن فيه, وإسقاط الضمان ها هنا نفي للحكم مع وجود سببه وليس ذلك للمالك ولا يملك الإذن فيه.
فصل:
وإذا انتفع بها, وردها على صفتها فلا شيء عليه لأن المنافع مأذون في إتلافها فلا يجب عوضها وإن تلف شيء من أجزائها التي لا تذهب بالاستعمال, فعليه ضمانها لأن ما ضمن جملته ضمنت أجزاؤه كالمغصوب وأما أجزاؤها التي تذهب بالاستعمال كحمل المنشفة والقطيفة, وخف الثوب يلبسه ففيه وجهان أحدهما يجب ضمانه لأنها أجزاء عين مضمونة, فكانت مضمونة كما لو كانت مغصوبة ولأنها أجزاء يجب ضمانها لو تلفت العين قبل استعمالها, فتضمن إذا تلفت وحدها كسائر الأجزاء والثاني لا يضمنها وهو قول الشافعي لأن الإذن في الاستعمال تضمنه, فلا يجب ضمانه كالمنافع وكما لو أذن في إتلافها صريحا وفارق ما إذا تلفت العين قبل استعمالها لأنه لا يمكن تمييزها من العين, ولأنه إنما أذن في إتلافها على وجه الانتفاع فإذا تلفت قبل ذلك فقد تلفت على غير الوجه الذي أذن فيه فضمنها, كما لو أجر العين المستعارة فإنه يضمن منافعها فإذا قلنا: لا يضمن الأجزاء فتلفت العين بعد ذهابها بالاستعمال فإنها تقوم حال التلف لأن الأجزاء التالفة تلفت غير مضمونة, لكونها مأذونا في إتلافها فلا يجوز تقويمها عليه وإن قلنا: يجب ضمان الأجزاء قومت العين قبل تلف أجزائها وإن تلفت العين قبل ذهاب أجزائها ضمنها كلها بأجزائها وكذلك لو تلفت الأجزاء باستعمال غير مأذون فيه مثل أن يعيره ثوبا ليلبسه, فحمل فيه ترابا فإنه يضمن نقصه ومنافعه لأنه تلف بتعديه وإن تلف بغير تعد منه ولا استعمال كتلفها لطول الزمان عليها ووقوع نار عليها, فينبغي أن يضمن ما تلف منها بالنار ونحوها لأنه تلف لم يتضمنه الاستعمال المأذون فيه فأشبه تلفها بفعل غير مأذون فيه وما تلف بمرور الزمان عليه يكون حكمه حكم ما تلف بالاستعمال لأنه تلف بالإمساك المأذون فيه, فأشبه تلفه بالفعل المأذون فيه.
فصل:
فأما ولد العارية فلا يجب ضمانه في أحد الوجهين لأنه لم يدخل في الإعارة, فلم يدخل في الضمان ولا فائدة للمستعير فيه فأشبه الوديعة, ويضمنه في الآخر لأنه ولد عين مضمونة فيضمن كولد المغصوبة والأول أصح فإن ولد المغصوبة لا يضمن إذا لم يكن مغصوبا وكذلك ولد العارية إذا لم يوجد مع أمه وإنما يضمن ولد المغصوبة إذا كان مغصوبا, فلا أثر لكونه ولدا لها.
فصل:
ويجب ضمان العين بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال فإن لم تكن مثلية ضمنها بقيمتها يوم تلفها, إلا على الوجه الذي يجب فيه ضمان الأجزاء التالفة بالانتفاع المأذون فيه فإنه يضمنها بقيمتها قبل تلف أجزائها إن كانت قيمتها حينئذ أكثر, وإن كانت أقل ضمنها بقيمتها يوم تلفها على الوجهين جميعا.
فصل:
وإن كانت العين باقية, فعلى المستعير ردها إلى المعير أو وكيله في قبضها ويبرأ ذلك من ضمانها وإن ردها إلى المكان الذي أخذها منه أو إلى ملك صاحبها, لم يبرأ من ضمانها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يبرأ لأنها صارت كالمقبوضة فإن رد العواري في العادة يكون إلى أملاك أربابها فيكون مأذونا فيه من طريق العادة ولنا, أنه لم يردها إلى مالكها ولا نائبه فيها فلم يبرأ منها كما لو دفعها إلى أجنبي وما ذكره يبطل بالسارق إذا رد المسروق إلى الحرز, ولا تعرف العادة التي ذكرها وإن ردها إلى من جرت عادته بجريان ذلك على يديه كزوجته المتصرفة في ماله ورد الدابة إلى سائسها, فقياس المذهب أنه يبرأ قاله القاضي لأن أحمد قال في الوديعة: إذا سلمها المودع إلى امرأته لم يضمنها ولأنه مأذون في ذلك عرفا أشبه ما لو أذن فيه نطقا ومؤنة الرد على المستعير لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (العارية مؤداة) وقوله: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) وعليه ردها إلى الموضع الذي أخذها منه إلا أن يتفقا على ردها إلى غيره لأن ما وجب رده, لزم رده إلى موضعه كالمغصوب.
فصل:
ولا تصح العارية إلا من جائز التصرف لأنه تصرف في المال فأشبه التصرف بالبيع وتعقد بكل فعل أو لفظ يدل عليها, مثل قوله: أعرتك هذا أو يدفع إليه شيئا ويقول: أبحتك الانتفاع به أو خذ هذا فانتفع به أو يقول: أعرني هذا أو أعطنيه أركبه أو أحمل عليه ويسلمه إليه وأشباه هذا لأنه إباحة للتصرف فصح بالقول والفعل الدال عليه, كإباحة الطعام بقوله وتقديمه إلى الضيف.
فصل:
وتجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة مع بقائها على الدوام كالدور والعقار, والعبيد والجواري والدواب, والثياب والحلي للبس والفحل للضراب, والكلب للصيد وغير ذلك لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعار أدرعا وذكر إعارة دلوها وفحلها وذكر ابن مسعود عارية القدر والميزان, فيثبت الحكم في هذه الأشياء وما عداها مقيس عليها إذا كان في معناها ولأن ما جاز للمالك استيفاؤه من المنافع, ملك إباحته إذا لم يمنع منه مانع كالثياب ولأنها أعيان تجوز إجارتها فجازت إعارتها كالثياب ويجوز استعارة الدراهم والدنانير ليزن بها, فإن استعارها لينفقها فهذا قرض وهذا قول أصحاب الرأي وقيل: ليس هذا جائزا ولا تكون العارية في الدنانير, وليس له أن يشتري بها شيئا ولنا أن هذا معنى القرض فانعقد القرض به, كما لو صرح به. فصل: ولا تجوز إعارة العبد المسلم لكافر لأنه لا يجوز تمكينه من استخدامه فلم تجز إعارته لذلك ولا إعارة الصيد لمحرم لأنه لا يجوز له إمساكه, ولا إعارة المرأة الجميلة لرجل غير محرمها إن كان يخلو بها أو ينظر إليها لأنه لا يؤمن عليها وتجوز إعارتها لامرأة ولذي محرمها ولا تجوز إعارة العين لنفع محرم, كإعارة الدار لمن يشرب فيها الخمر أو يبيعه فيها أو يعصى الله تعالى فيها, ولا إعارة عبده للزمر أو ليسقيه الخمر أو يحملها له, أو يعصرها أو نحو ذلك ويكره أن يستعير والديه لخدمته لأنه يكره له استخدامهما فكره استعارتهما لذلك.
فصل:
وتجوز الإعارة مطلقا ومقيدا لأنها إباحة فجاز فيها ذلك, كإباحة الطعام ولأن الجهالة إنما تؤثر في العقود اللازمة فإذا أعاره شيئا مطلقا أبيح له الانتفاع به في كل ما هو مستعد له من الانتفاع فإذا أعاره أرضا مطلقا, فله أن يزرع فيها ويغرس ويبني, ويفعل فيها كل ما هي معدة له من الانتفاع لأن الإذن مطلق وإن أعاره للغراس أو للبناء فله أن يزرع فيها ما شاء لأن ضرره دون ضررهما فكأنه استوفى بعض ما أذن له فيه وإن استعارها للزرع, لم يغرس ولم يبن لأن ضررهما أكثر فلم يكن الإذن في القليل إذنا في الكثير وإن استعارها للغراس, أو للبناء ملك المأذون فيه منهما دون الآخر لأن ضررهما مختلف فإن ضرر الغراس في باطن الأرض لانتشار العروق فيها وضرر البناء في ظاهرها, فلم يكن الإذن في أحدهما إذنا في الآخر وإن استعارها لزرع الحنطة فله زرعها وزرع ما هو أقل ضررا منها كالشعير والباقلا والعدس, وله زرع ما ضرره كضرر الحنطة لأن الرضا بزراعة شيء رضي بضرره وما هو دونه وليس له زرع ما هو أكثر ضررا منه, كالذرة والدخن والقطن لأن ضرره أكثر وحكم إباحة الانتفاع في العارية كحكم الانتفاع في الإجارة فيما له أن يستوفيه وما يمنع منه وسنذكر في الإجارة تفصيل ذلك, ـ إن شاء الله تعالى ـ وإن أذن له في زرع مرة لم يكن له أن يزرع أكثر منها وإن أذن له في غرس شجرة فانقلعت لم يكن له غرس أخرى, وكذلك إن أذن له في وضع خشبة على حائط فانكسرت لم يملك وضع أخرى لأن الإذن إذا اختص بشيء لم يتجاوزه.
فصل:
وإن استعار شيئا, فله استيفاء منفعته بنفسه وبوكيله لأن وكيله نائب عنه ويده كيده وليس له أن يؤجره لأنه لم يملك المنافع فلا يصح أن يملكها ولا نعلم في هذا خلافا ولا خلاف بينهم أن المستعير لا يملك العين وأجمعوا على أن للمستعير استعمال المعار فيما أذن له فيه, وليس له أن يعيره غيره وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقالوا في الآخر: له ذلك وهو قول أبي حنيفة لأنه يملكه على حسب ما ملكه فجاز كما للمستأجر أن يؤجر قال أصحاب الرأي: إذا استعار ثوبا ليلبسه هو فأعطاه غيره, فلبسه فهو ضامن وإن لم يسم من يلبسه فلا ضمان عليه وقال مالك: إذا لم يعمل بها إلا الذي كان يعمل بها الذي أعيرها, فلا ضمان عليه ولنا أن العارية إباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها غيره كإباحة الطعام وفارق الإجارة لأنه ملك الانتفاع على كل وجه, فملك أن يملكها وفي العارية لم يملكها إنما ملك استيفاءها على وجه ما أذن له, فأشبه من أبيح له أكل الطعام فعلى هذا إن أعار فللمالك الرجوع بأجر المثل وله أن يطالب من شاء منهما لأن الأول سلط غيره على أخذ مال غيره بغير إذنه, والثاني استوفاه بغير إذنه فإن ضمن الأول رجع على الثاني لأن الاستيفاء حصل منه فاستقر الضمان عليه, وإن ضمن الثاني لم يرجع على الأول إلا أن يكون الثاني لم يعلم بحقيقة الحال فيحتمل أن يستقر الضمان على الأول لأنه غر الثاني, ودفع إليه العين على أنه يستوفي منافعها بغير عوض وإن تلفت العين في يد الثاني استقر الضمان عليه بكل حال لأنه قبضها على أن تكون مضمونة عليه فإن رجع على الأول, رجع الأول على الثاني وإن رجع على الثاني لم يرجع على أحد.
فصل:
وإن أعاره شيئا, وأذن له في إجارته مدة معلومة أو في إعارته مطلقا أو مدة, جاز لأن الحق لمالكه فجاز ما أذن فيه وليس له الرجوع بعد عقد الإجارة حتى ينقضي لأن عقد الإجارة لازم وتكون العين مضمونة على المستعير, غير مضمونة على المستأجر لأن عقد الإجارة لا يوجب ضمانا وإن أجره بغير إذن لم تصح الإجارة ويكون على المستأجر الضمان, وللمالك تضمين من شاء منهما على ما ذكرناه في العارية .
فصل:
ويجوز أن يستعير عبدا ليرهنه قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الرجل إذا استعار من الرجل شيئا يرهنه عند رجل على شيء معلوم, إلى وقت معلوم فرهن ذلك على ما أذن له فيه أن ذلك جائز وذلك لأنه استعاره ليقضي به حاجته, فصح كسائر العواري ولا يعتبر العلم بقدر الدين وجنسه لأن العارية لا يعتبر فيها العلم وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي: يعتبر ذلك لأن الضرر يختلف بذلك ولنا, أنها عارية لجنس من النفع فلم تعتبر معرفة قدره كعارية الأرض للزرع ولا يصير المعير ضامنا للدين وقال الشافعي في أحد قوليه: يصير ضامنا له في رقبة عبده لأن العارية ما يستحق به منفعة العين, والمنفعة ها هنا للمالك فدل على أنه ضمان ولنا أنه أعاره ليقضي منه حاجته, فلم يكن ضامنا كسائر العواري وإنما يستحق بالعارية النفع المأذون فيه, وما عداه من النفع فهو لمالك العين وإن عين المعير قدر الدين الذي يرهنه به وجنسه أو محلا تعين لأن العارية تتعين بالتعيين, فإن خالفه في الجنس لم يصح لأنه عقد لم يأذن له فيه أشبه ما لو لم يأذن في رهنه وكذلك إذا أذن له في محل, فخالفه فيه لأنه إذا أذن له في رهنه بدين مؤجل فرهنه بحال فقد لا يجد ما يفكه به في الحال, وإن أذن في رهنه بحال فرهنه بمؤجل فلم يرض أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل, لم يصح وإن رهنه بأكثر مما قدره له لم يصح لأن من رضي بقدر من الدين لم يلزم أن يرضى بأكثر منه وإن رهنه بأنقص منه جاز لأن من رضي بعشرة, رضي بما دونها عرفا فأشبه من أمر بشراء شيء بثمن فاشتراه بدونه وللمعير مطالبة الراهن بفكاك الرهن في الحال, سواء كان بدين حال أو مؤجل لأن للمعير الرجوع في العارية متى شاء وإن حل الدين فلم يفكه الراهن جاز بيعه في الدين لأن ذلك مقتضى الرهن, فإذا بيع في الدين أو تلف رجع السيد على الراهن بقيمته لأن العارية تضمن بقيمتها وإن تلف بغير تفريط, فلا شيء على المرتهن لأن الرهن لا يضمن من غير تعد وإن استعار عبدا من رجلين فرهنه بمائة ثم قضى خمسين, على أن تخرج حصة أحدهما لم تخرج لأنه رهنه بجميع الدين في صفقة فلا ينفك بعضه بقضاء بعض الدين, كما لو كان العبد لواحد.
فصل:
وتجوز العارية مطلقة ومؤقتة لأنها إباحة فأشبهت إباحة الطعام وللمعير الرجوع في العارية أي وقت شاء سواء كانت مطلقة أو مؤقتة, ما لم يأذن في شغله بشيء يتضرر بالرجوع فيه وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك إن كانت مؤقتة فليس له الرجوع قبل الوقت, وإن لم تؤقت له مدة لزمه تركه مدة ينتفع بها في مثلها لأن المعير قد ملكه المنفعة في مدة وصارت العين في يده بعقد مباح, فلم يملك الرجوع فيها بغير اختيار المالك كالعبد الموصى بخدمته والمستأجر ولنا أن المنافع المستقبلة لم تحصل في يده, فلم يملكها بالإعارة كما لو لم تحصل العين في يده وأما العبد الموصى بخدمته, فللموصي الرجوع ولم يملك الورثة الرجوع لأن التبرع من غيرهم وأما المستأجر فإنه مملوك بعقد معاوضة, فيلزم بخلاف مسألتنا ويجوز للمستعير الرد متى شاء بغير خلاف نعلمه لأنه إباحة فكان لمن أبيح له تركه, كإباحة الطعام.
فصل:
وإذا أطلق المدة في العارية فله أن ينتفع بها ما لم يرجع وإن وقتها فله أن ينتفع ما لم يرجع, أو ينقضي الوقت لأنه استباح ذلك بالإذن ففيما عدا محل الإذن يبقى على أصل التحريم فإن كان المعار أرضا لم يكن له أن يغرس, ولا يبني ولا يزرع بعد الوقت أو الرجوع فإن فعل شيئا من ذلك, لزمه قلع غرسه وبنائه وحكمه حكم الغاصب في ذلك لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ليس لعرق ظالم حق) وعليه أجر ما استوفاه من نفع الأرض على وجه العدوان ويلزمه القلع, وتسوية الحفر ونقض الأرض وسائر أحكام الغصب لأنه عدوان.
فصل:
فإن أعاره شيئا لينتفع به انتفاعا يلزم من الرجوع في العارية في أثنائه ضرر بالمستعير, لم يجز له الرجوع لأن الرجوع يضر بالمستعير فلم يجز له الإضرار به مثل أن يعيره لوحا يرقع به سفينته, فرقعها به ولجج بها في البحر لم يجز الرجوع ما دامت في البحر, وله الرجوع قبل دخولها في البحر وبعد الخروج منه لعدم الضرر فيه وإن أعاره أرضا ليدفن فيها فله الرجوع ما لم يدفن فيها فإذا دفن لم يكن له الرجوع, ما لم يبل الميت وإن أعاره حائطا ليضع عليه أطراف خشبه جاز كما تجوز إعارة الأرض للبناء والغراس, وله الرجوع ما لم يضعه وبعد وضعه ما لم يبن عليه لأنه لا ضرر فيه فإن بنى عليه, لم يجز الرجوع لما في ذلك من هدم البناء وإن قال: أنا أدفع إليك أرش ما نقص بالقلع لم يلزم المستعير ذلك لأنه إذا قلعه انقلع ما في ملك المستعير منه ولا يجب على المستعير قلع شيء من ملكه بضمان القيمة وإن انهدم الحائط وزال الخشب عنه أو أزاله المستعير باختياره لم يملك إعادته, سواء بنى الحائط بآلته أو بغيرها لأن العارية لا تلزم وإنما امتنع الرجوع قبل انهدامه لما فيه من الضرر بالمستعير بإزالة المأذون في وضعه, وقد زال ذلك وكذلك إذا سقط الخشب والحائط بحاله وإن أعاره أرضا لزراعة شيء فله الرجوع ما لم يزرع فإذا زرع لم يملك الرجوع فيها إلى أن ينتهي الزرع فإن بذل له قيمة الزرع ليملكه, لم يكن له ذلك نص عليه أحمد لأن له وقتا ينتهي إليه فإن كان مما يحصد قصيلا فله الرجوع في وقت إمكان حصاده لعدم الضرر فيه وإن لم يكن كذلك, لم يكن له الرجوع حتى ينتهي وإن أذن له في البناء والغراس فيها فله الرجوع قبل قلعه فإذا غرس وبنى فللمالك الرجوع فيما بين الغراس والبناء ولأنه لم يتعلق به ملك المستعير, ولا ضرر عليه في الرجوع فيه فأشبه ما لو لم يبن في الأرض شيئا ولم يغرس فيها ثم إن اختار المستعير أخذ بنائه وغراسه, فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله ولا يلزمه تسوية الحفر ذكره القاضي لأن المعير رضي بذلك حيث أعاره مع علمه بأن له قلع غرسه ويحتمل أن عليه تسوية الحفر لأن القلع باختياره فإنه لو امتنع منه لم يجبر عليه, فلزمه تسوية الأرض كما لو خرب أرضه التي لم يستعرها وإن أبى القلع فبذل له المعير ما ينقص بالقلع, أو قيمة غراسه وبنائه قائما ليأخذه المعير أجبر المستعير عليه لأنه رجوع في العارية من غير إضرار وإن قال المستعير: أنا أدفع قيمة الأرض لتصير لي لم يكن له لأن الغراس تابع, والأرض أصل ولذلك يتبعها الغراس والبناء في البيع ولا تتبعهما, وبهذا كله قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك يطالب المستعير بالقلع من غير ضمان إلا أن يكون أعاره مدة معلومة فرجع فيها قبل انقضائها لأن المعير لم يغره, فكان عليه القلع كما لو شرط عليه ولنا أنه بنى وغرس بإذن المعير, من غير شرط القلع فلم يلزمه القلع من غير ضمان كما لو طالبه قبل انقضاء الوقت وقولهم: لم يغره ممنوع فإن الغراس والبناء يراد للتبقية, وتقدير المدة ينصرف إلى ابتدائه كأنه قال له: لا تغرس بعد هذه المدة فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النقص وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجر, لم يقلع لأن الإعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان والإذن فيما يبقى على الدوام وتضر إزالته رضي بالإبقاء وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ليس لعرق ظالم حق) يدل بمفهومه على أن العرق الذي ليس بظالم له حق, فعند ذلك إن اتفقا على البيع بيعت الأرض بغراسها, ودفع إلى كل واحد منهما قدر حقه فيقال: كم قيمة الأرض غير مغروسة ولا مبنية؟ فإذا قيل عشرة قلنا: وكم تساوي مغروسة ومبنية؟ فإن قالوا: خمسة عشر قلنا: فللمعير ثلثا الثمن وللمستعير ثلثه وإن امتنعا من البيع, بقيا على حالهما وللمعير دخول أرضه كيف شاء والانتفاع بها بما لا يضر الغراس والبناء, ولا ينتفع بهما وليس لصاحب الغراس والبناء الدخول إلا لحاجة مثل السقي وإصلاح الثمرة لأن الإذن في الغراس إذن فيما يعود بصلاحه, وأخذ ثماره وسقيه وليس له دخولها للتفرج لأنه قد رجع في الإذن له ولكل واحد منهما بيع ما يختص به من الملك منفردا فيكون للمشتري مثل ما كان لبائعه وقال بعض أصحاب الشافعي: ليس للمستعير بيع الشجر لأن ملكه فيه غير مستقر, بدليل أن للمعير أخذه متى شاء بقيمته قلنا: عدم استقراره لا يمنع بيعه بدليل الشقص المشفوع والصداق قبل الدخول وفي جميع هذه المسائل متى كان المعير شرط على المستعير القلع عند رجوعه, ورد العارية غير مشغولة لزمه ذلك لأن المسلمين على شروطهم ولأن العارية مقيدة غير مطلقة, فلم تتناول ما عدا المقيد لأن المستعير دخل في العارية راضيا بالتزام الضرر الداخل عليه بالقلع وليس على صاحب الأرض ضمان نقصه ولا نعلم في هذا خلافا وأما تسوية الحفر الحاصلة بالقلع فإذا كانت مشروطة عليه لزمه لما ذكرنا, وإلا لم يلزم لأنه رضي بضرر القلع من الحفر ونحوه حيث اشترط القلع ولم يذكر أصحابنا على المستعير أجرا في شيء من هذه المسائل إلا فيما إذا استعار أرضا للزرع, فزرعها ثم رجع المعير فيها قبل كمال الزرع فإن عليه أجر مثله, من حين رجع المعير لأن الأصل جواز الرجوع وإنما منع من القلع لما فيه من الضرر ففي دفع الأجر جمع بين الحقين, فيخرج في سائر المسائل مثل هذا لوجود هذا المعنى فيه ويحتمل أن لا يجب الأجر في شيء من المواضع لأن حكم العارية باق فيه لكونها صارت لازمة للضرر اللاحق بفسخها, والإعارة تقتضى الانتفاع بغير عوض.
فصل:
وإذا استعار دابة ليركبها جاز لأن إجارتها لذلك جائزة والإعارة أوسع, لجوازها فيما لا تجوز إجارته مثل إعارة الكلب للصيد فإن استعارها إلى موضع فجاوزه, فقد تعدى وعليه الأجرة للزيادة خاصة فإذا استعارها إلى طبرية فتجاوز إلى القدس, فعليه أجر ما بين طبرية والقدس خاصة وإن اختلفا فقال المالك: أعرتكها إلى طبرية وقال المستعير: أعرتنيها إلى القدس فالقول قول المالك وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك إن كان يشبه ما قال المستعير فالقول قوله, وعليه الضمان ولنا أن المالك مدعى عليه فكان القول قوله, لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لكن اليمين على المدعي عليه) . فصل: ومن استعار شيئا فانتفع به ثم ظهر مستحقا فلمالكه أجر مثله, يطالب به من شاء منهما فإن ضمن المستعير رجع على المعير بما غرم لأنه غره بذلك وغرمه, لأنه دخل على أن لا أجر عليه وإن رجع على المعير لم يرجع على أحد فإن الضمان استقر عليه قال أحمد في قصار دفع ثوبا إلى غير صاحبه, فلبسه فالضمان على القصار دون اللابس وإن تلف فالقيمة تستقر على المستعير لأنه دخل على العين مضمونة عليه فإن ضمن المعير رجع على المستعير, وإن ضمن المستعير لم يرجع على أحد لأن الضمان استقر عليه وإن نقصت العين بالاستعمال انبنى على ضمان النقص, فإن قلنا: هو على المستعير فحكمه حكم القيمة وإن قلنا: هو على المعير فهو كالأجر على ما بيناه.
فصل:
وإذا حمل السيل بذر رجل من أرضه إلى أرض غيره فنبت فيها لم يجبر على قلعه وقال أصحاب الشافعي, في أحد الوجهين: يجبر على ذلك إذا طالبه رب الأرض به لأن ملكه حصل في ملك غيره بغير إذنه فأشبه ما لو انتشرت أغصان شجرته في هواء ملك جاره ولنا, أن قلعه إتلاف للمال على مالكه ولم يوجد منه تفريط ولا يدوم ضرره, فلا يجبر على ذلك كما لو حصلت دابته في دار غيره على وجه لا يمكن خروجها إلا بقلع الباب أو قتلها فإننا لا نجبره على قتلها ويفارق أغصان الشجرة, فإنه يدوم ضرره ولا يعرف قدر ما يشغل من الهواء فيؤدي أجره إذا ثبت هذا فإنه يقر في الأرض إلى حين حصاده بأجر مثله وقال القاضي: ليس عليه أجر لأنه حصل في أرض غيره بغير تفريطه, فأشبه ما لو باتت دابته في أرض إنسان بغير تفريطه وهذا بعيد لأن إلزامه تبقية زرع ما أذن فيه في أرضه بغير أجر ولا انتفاع, إضرار به وشغل لملكه بغير اختياره من غير عوض, فلم يجز كما لو أراد إبقاء بهيمته في دار غيره عاما ويفارق مبيتها لأن ذلك لا يجبر المالك عليه ولا يمنع من إخراجها, فإذا تركها اختيارا منه كان راضيا به بخلاف مسألتنا ويكون الزرع لمالك البذر لأنه من عين ماله ويحتمل أن يكون حكم هذا الزرع حكم زرع الغاصب, على ما سنذكره لأنه حصل في أرضه بغير إذنه فأشبه ما لو زرعه مالكه والأول أولى لأن هذا بغير عدوان وقد أمكن جبر حق مالك الأرض, بدفع الأجر إليه وإن أحب مالكه قلعه فله ذلك وعليه تسوية الحفر, وما نقصت الأرض لأنه أدخل النقص على ملك غيره لاستصلاح ملكه فأشبه المستعير وأما إن كان السيل حمل نوى, فنبت شجرا في أرض غيره كالزيتون والنخيل ونحوه فهو لمالك النوى لأنه من نماء ملكه, فهو كالزرع ويجبر على قلعه ها هنا لأن ضرره يدوم فأجبر على إزالته, كأغصان الشجرة المنتشرة في هواء ملك غير مالكها وإن حمل السيل أرضا بشجرها فنبتت في أرض آخر كما كانت فهي لمالكها, يجبر على إزالتها كما ذكرنا وفي كل ذلك إذا ترك صاحب الأرض المنتقلة أو الشجر أو الزرع ذلك لصاحب الأرض التي انتقل إليها, لم يلزمه نقله ولا أجر ولا غير ذلك لأنه حصل بغير تفريطه ولا عدوانه وكانت الخيرة إلى صاحب الأرض المشغولة به, إن شاء أخذه لنفسه وإن شاء قلعه.
فصل:
وإذا اختلف رب الدابة وراكبها فقال الراكب: هي عارية وقال المالك: بل اكتريتها فإن كانت الدابة باقية لم تنقص, لم يخل من أن يكون الاختلاف عقيب العقد أو بعد مضى مدة لمثلها أجر فإن كان عقيب العقد, فالقول قول الراكب لأن الأصل عدم عقد الإجارة وبراءة ذمة الراكب منها فيحلف, ويرد الدابة إلى مالكها لأنها عارية وكذلك إن ادعى المالك أنها عارية وقال الراكب: بل اكتريتها فالقول قول المالك مع يمينه لما ذكرنا وإن كان الاختلاف بعد مضي مدة لمثلها أجر فادعى المالك الإجارة, فالقول قوله مع يمينه وحكى ذلك عن مالك وقال أصحاب الرأي: القول قول الراكب وهو منصوص الشافعي لأنهما اتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب وادعى المالك عوضا لها والأصل عدم وجوبه وبراءة ذمة الراكب منه, فكان القول قوله ولنا أنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك الراكب فكان القول قول المالك, كما لو اختلفا في عين فقال المالك: بعتكها وقال الآخر: وهبتنيها ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في الملك والعقد عليها, ولو اختلفا في الأعيان كان القول قول المالك كذا ها هنا وما ذكروه يبطل بهذه المسألة ولأنهما اتفقا على أن المنافع لا تنتقل إلى الراكب إلا بنقل المالك لها, فيكون القول قوله في كيفية الانتقال كالأعيان فيحلف المالك, ويستحق الأجر وفي قدره وجهان أحدهما: أجر المثل لأنهما لو اتفقا على وجوبه واختلفا في قدره وجب أجر المثل, فمع الاختلاف في أصله أولى والثاني: المسمى لأنه وجب بقول المالك ويمينه فوجب ما حلف عليه كالأصل وإن كان اختلافهما في أثناء المدة, فالقول قول الراكب فيما مضى منها والقول قول المستعير فيما بقي لأن ما بقي بمنزلة ما لو اختلفا عقيب العقد وإن ادعى المالك في هذه الصورة أنها عارية وادعى الراكب أنها بأجر فالراكب يدعي استحقاق المنافع, ويعترف بالأجر للمالك والمالك ينكر ذلك كله فالقول قوله مع يمينه, فيحلف ويأخذ بهيمته وإن اختلفا في ذلك بعد تلف البهيمة قبل مضى مدة لمثلها أجر فالقول قول المالك, سواء ادعى الإجارة أو الإعارة لأنه إن ادعى الإجارة فهو معترف للراكب ببراءة ذمته من ضمانها فيقبل إقراره على نفسه, وإن ادعى الإعارة فهو يدعي قيمتها فالقول قوله لأنهما اختلفا في صفة القبض, والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فإذا حلف المالك استحق القيمة, والقول في قدرها قول الراكب مع يمينه لأنه ينكر الزيادة المختلف فيها والأصل عدمها وإن اختلفا في ذلك بعد مضي مدة لمثلها أجر وتلف البهيمة, وكان الأجر بقدر قيمتها أو كان ما يدعيه المالك منهما أقل مما يعترف به الراكب فالقول قول المالك بغير يمين, سواء ادعى الإجارة أو الإعارة إذ لا فائدة في اليمين على شيء يعترف له به ويحتمل أن لا يأخذه إلا بيمين لأنه يدعي شيئا لا يصدق فيه ويعترف له الراكب بما لا يدعيه, فيحلف على ما يدعيه وإن كان ما يدعيه المالك أكثر مثل إن كانت قيمة البهيمة أكثر من أجرها فادعى المالك أنها عارية, لتجب له القيمة وأنكر استحقاق الأجرة وادعى الراكب أنها مكتراة, أو كان الكراء أكثر من قيمتها فادعى المالك أنه أجرها ليجب له الكراء وادعى الراكب أنها عارية, فالقول قول المالك في الصورتين لما قدمنا فإذا حلف استحق ما حلف عليه ومذهب الشافعي في هذا كله نحو ما ذكرنا.