المغني - كتاب الطهارة 2
فصل:
ولا يجوز أن يبول في طريق الناس ولا مورد ماء ولا ظل ينتفع به الناس لما روى معاذ, قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اتقوا الملاعن الثلاثة - البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل) رواه أبو داود, وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اتقوا اللعانين قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم " أخرجه مسلم والمورد طريق ولا يبول تحت شجرة مثمرة في حال كون الثمرة عليها لئلا تسقط عليه الثمرة فتتنجس به فأما في غير حال الثمرة فلا بأس فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أحب ما استتر به إليه لحاجته هدف أو حائش نخل ولا يبول في الماء الدائم لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن البول في الماء الراكد) متفق عليه ولأن الماء إن كان قليلا تنجس به وإن كان كثيرا, فربما تغير بتكرار البول فيه فأما الجاري فلا يجوز التغوط فيه لأنه يؤذي من يمر به وإن بال فيه وهو كثير لا يؤثر فيه البول, فلا بأس لأن تخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- الراكد بالنهي عن البول فيه دليل على أن الجاري بخلافه ولا يبول على ما نهي عن الاستجمار به لأن هذا أبلغ من الاستجمار به فالنهي ثم تنبيه على تحريم البول عليه ويكره على أن يبول في شق أو ثقب لما روى عبد الله بن سرجس (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يبال في الجحر) رواه أبو داود لأن عبد الله بن المغفل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لا يبولن أحدكم في مستحمه) ولأنه لا يأمن أن يكون فيه حيوان يلسعه أو يكون مسكنا للجن فيتأذى بهم فقد حكي أن سعد بن عبادة بال في جحر بالشام ثم استلقى ميتا فسمعت الجن تقول: نحن قتلنا سيد الخزرج ** سعد بن عبادة ورميناه بسهميـن ** فلم نخطئ فــؤاده ولا يبول في مستحمه فإن عامة الوسواس منه رواه أبو داود, وابن ماجه وقال: سمعت علي بن محمد الطنافسي يقول: إنما هذا في الحفيرة فأما اليوم فمغتسلاتهم الجص والصاروج والقير فإذا بال وأرسل عليه الماء فلا بأس به وقد قيل: إن البصاق على البول يورث الوسواس وإن البول على النار يورث السقم وتوقي ذلك كله أولى ويكره أن يتوضأ على موضع بوله, أو يستنجي عليه لئلا يتنجس به.
فصل:
ويعتمد في حال جلوسه على رجله اليسرى لما روى سراقة بن مالك قال: (أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى) رواه الطبراني في المعجم ولأنه أسهل لخروج الخارج ولا يطيل المقام أكثر من قدر الحاجة لأن ذلك يضره, وقد قيل: إنه يورث الباسور وقيل: إنه يدمي الكبد وربما آذى من ينتظره ويستحب أن يغطي رأسه لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولأنه حال كشف العورة فيستحيي فيها ويلبس حذاءه لئلا تتنجس رجلاه ولا يذكر الله تعالى على حاجته إلا بقلبه وكره ذلك ابن عباس وعطاء وعكرمة, وقال ابن سيرين والنخعي لا بأس به لأن الله تعالى ذكره محمود على كل حال ولنا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرد السلام في هذه الحال فذكر الله أولى فإذا عطس حمد الله بقلبه ولم يتكلم وقال ابن عقيل: فيه رواية أخرى إنه يحمد الله بلسانه والأول أولى لما ذكرناه, فإنه إذا لم يرد السلام الواجب فما ليس بواجب أولى ولا يسلم ولا يرد على مسلم لما روى ابن عمر (أن رجلا مر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبول فسلم فلم يرد عليه السلام) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وعن جابر (أن رجلا مر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبول, فسلم عليه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك) رواه ابن ماجه ولا يتكلم لما روى أبو سعيد قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان, فإن الله يمقت على ذلك) رواه أبو داود.
فصل:
إذا أراد دخول الخلاء ومعه شيء فيه ذكر الله تعالى استحب وضعه وقال أنس بن مالك: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) رواه ابن ماجه وأبو داود وقال: هذا حديث منكر وقيل: إنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يضعه لأن فيه " محمد رسول الله " ثلاثة أسطر فإن احتفظ بما معه مما فيه ذكر الله تعالى واحترز عليه من السقوط, أو أدار فص الخاتم إلى باطن كفه فلا بأس قال أحمد الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفه ويدخل الخلاء وقال عكرمة: اقلبه هكذا في باطن كفك فاقبض عليه وبه قال إسحاق ورخص فيه ابن المسيب والحسن وابن سيرين وقال أحمد في الرجل يدخل الخلاء ومعه الدراهم: أرجو أن لا يكون به بأس.
فصل:
ويقدم رجله اليسرى في الدخول, واليمنى في الخروج ويقول عند دخوله بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم قال أحمد يقول إذا دخل الخلاء: أعوذ بالله من الخبث والخبائث وما دخلت قط المتوضأ ولم أقلها إلا أصابني ما أكره, وعن أنس (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل الخلاء قال اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) متفق عليه وعن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله) وعن علي قال: قال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال (لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم) رواهما ابن ماجه قال أبو عبيد الخبث بسكون الباء الشر والخبائث الشياطين وقيل الخبث بضم الباء والخبائث: ذكران الشياطين وإناثهم فإذا خرج من الخلاء قال غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني وروى أنس (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا خرج من الخلاء قال غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) أخرجه ابن ماجه وقالت عائشة (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال غفرانك) قال الترمذي هذا حديث حسن.
فصل:
ولا بأس أن يبول في الإناء قالت أميمة بنت رقيقة: (كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- قدح من عيدان يبول فيه, ويضعه تحت السرير) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
باب ما ينقض الطهارة مسألة:
قال أبو القاسم: والذي ينقض الطهارة ما خرج من قبل أو دبر وجملة ذلك أن الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح فهذا ينقض الوضوء إجماعا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن خروج الغائط من الدبر وخروج البول من ذكر الرجل وقبل المرأة وخروج المذي, وخروج الريح من الدبر أحداث ينقض كل واحد منها الطهارة ويوجب الوضوء ودم الاستحاضة ينقض الطهارة في قول عامة أهل العلم إلا في قول ربيعة الضرب الثاني: نادر كالدم والدود والحصا والشعر فينقض الوضوء أيضا, وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وكان عطاء والحسن وأبو مجلز والحكم وحماد والأوزاعي وابن المبارك يرون الوضوء من الدود يخرج من الدبر ولم يوجب مالك الوضوء من هذا الضرب لأنه نادر, أشبه الخارج من غير السبيل ولنا أنه خارج من السبيل أشبه المذي ولأنه لا يخلو من بلة تتعلق به فينتقض الوضوء بها وقد (أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المستحاضة بالوضوء لكل صلاة ودمها نادر غير معتاد).
فصل:
وقد نقل صالح, عن أبيه " في المرأة يخرج من فرجها الريح: ما خرج من السبيلين ففيه الوضوء وقال القاضي: خروج الريح من الذكر وقبل المرأة ينقض الوضوء وقال ابن عقيل: يحتمل أن يكون الأشبه بمذهبنا في الريح يخرج من الذكر أن لا ينقض لأن المثانة ليس لها منفذ إلى الجوف ولا جعلها أصحابنا جوفا ولم يبطلوا الصوم بالحقنة فيه, ولا نعلم لهذا وجودا ولا نعلم وجوده في حق أحد وقد قيل: إنه يعلم وجوده بأن يحس الإنسان في ذكره دبيبا وهذا لا يصح فإن هذا لا يحصل به اليقين والطهارة لا تنتقض بالشك فإن قدر وجود ذلك يقينا نقض الطهارة لأنه خارج من أحد السبيلين فنقض قياسا على سائر الخوارج.
فصل:
وإن قطر في إحليله دهنا, ثم عاد فخرج نقض الوضوء لأنه خارج من السبيل ولا يخلو من بلة نجسة تصحبه فينتقض بها الوضوء كما لو خرجت منفردة ولو احتشى قطنا في ذكره ثم خرج وعليه بلل, نقض الوضوء لأنه لو خرج منفردا لنقض فكذلك إذا خرج مع غيره فإن خرج ناشفا ففيه وجهان أحدهما, ينقض لأنه خارج من السبيل فأشبه سائر الخوارج والثاني لا ينقض لأنه ليس بين المثانة والجوف منفذ فلا يكون خارجا من الجوف ولو احتقن في دبره, فرجعت أجزاء خرجت من الفرج نقضت الوضوء وهكذا لو وطئ امرأته دون الفرج فدب ماؤه فدخل الفرج, ثم خرج نقض الوضوء وعليهما الاستنجاء لأنه خارج من السبيل لا يخلو من بلة تصحبه من الفرج فإن لم يعلما خروج شيء منه احتمل وجهين: أحدهما, النقض فيهما لأن الغالب أنه لا ينفك عن الخروج فنقض كالنوم والثاني لا ينقض لأن الطهارة متيقنة فلا تزول عنها بالشك لكن إن كان المحتقن قد أدخل رأس الزراقة ثم أخرجه, نقض الوضوء وكذلك لو أدخل فيه ميلا أو غيره ثم أخرج نقض الوضوء لأنه خارج من السبيل, فنقض كسائر الخارج.
فصل:
قال أبو الحارث سألت أحمد عن رجل به علة ربما ظهرت مقعدته؟ قال: إن علم أنه يظهر معها ندى توضأ وإن لم يعلم فلا شيء عليه ويحتمل أن أحمد إنما أراد ندى ينفصل عنها لأنه خارج من الفرج متصل فنقض كالخارج على الحصى, فأما الرطوبة اللازمة لها فلا تنقض لأنها لا تنفك عن رطوبة فلو نقضت لنقض خروجها على كل حال ولأنه شيء لم ينفصل عنها فلم ينقض كسائر أجزائها, وقد قالوا فيمن أخرج لسانه وعليه بلل ثم أدخله وابتلع ذلك البلل: أنه لا يفطر لأنه لم يثبت له حكم الانفصال والله أعلم.
فصل:
قد ذكرنا أن المذي ينقض الوضوء وهو ما يخرج زلجا متسبسبا عند الشهوة, فيكون على رأس الذكر واختلفت الرواية في حكمه فروي أنه يوجب الوضوء وغسل الذكر والأنثيين لما روي (أن عليا رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله, فقال يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ) رواه أبو داود وفي لفظ: " يغسل ذكره ويتوضأ " متفق عليه وفي لفظ توضأ وانضح فرجك " والأمر يقتضي الوجوب ولأنه خارج بسبب الشهوة فأوجب غسلا زائدا على موجب البول كالمني, فعلى هذا يجزئه غسلة واحدة لأن المأمور به غسل مطلق فيوجب ما يقع عليه اسم الغسل وقد ثبت في قوله في اللفظ الآخر: " وانضح فرجك وسواء غسله قبل الوضوء أو بعده لأنه غسل غير مرتبط بالوضوء فلم يترتب عليه, كغسل النجاسة والرواية الثانية لا يجب أكثر من الاستنجاء والوضوء روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أكثر أهل العلم, وظاهر كلام الخرقي لما روى سهل بن حنيف قال (كنت ألقى من المذي شدة وعناء فكنت أكثر منه الاغتسال, فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنما يجزئك من ذلك الوضوء) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولأنه خارج لا يوجب الاغتسال فأشبه الودي, والأمر بالنضح وغسل الذكر والأنثيين محمول على الاستحباب لأنه يحتمله وقوله " إنما يجزئك من ذلك الوضوء " صريح في حصول الإجزاء بالوضوء فيجب تقديمه فأما الودي فهو ماء أبيض ثخين, يخرج بعد البول كدرا فليس فيه وفي بقية الخوارج إلا الوضوء روى الأثرم بإسناده عن ابن عباس, قال: المني والودي والمذي أما المني ففيه الغسل وأما المذي والودي ففيهما إسباغ الطهور.
مسألة:
قال وخروج البول والغائط من غير مخرجهما لا تختلف الرواية أن الغائط والبول ينتقض الوضوء بخروجهما من السبيلين ومن غيرهما ويستوي قليلهما وكثيرهما, سواء كان السبيلان منسدين أو مفتوحين من فوق المعدة أو من تحتها وقال أصحاب الشافعي: إن انسد المخرج وانفتح آخر دون المعدة لزم الوضوء بالخارج منه قولا واحدا وإن انفتح فوق المعدة, ففيه قولان: أحدهما ينقض الوضوء والثاني لا ينقضه وإن كان المعتاد باقيا, فالمشهور أنه لا ينتقض الوضوء بالخارج من غيره وبناه على أصله في أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض ولنا عموم قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) وقول صفوان بن عسال (أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كنا مسافرين أو سفرا, أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وحقيقة الغائط: المكان المطمئن سمي الخارج به لمجاورته إياه فإن المتبرز يتحراه لحاجته, كما سمي عذرة وهي في الحقيقة فناء الدار لأنه كان يطرح بالأفنية فسمي بها للمجاورة وهذا من الأسماء العرفية التي صار المجاز فيها أشهر من الحقيقة, وعند الإطلاق يفهم منه المجاز ويحمل عليه الكلام لشهرته ولأن الخارج غائط وبول فنقض كما لو خرج من السبيل.
مسألة:
[ قال: وزوال العقل إلا أن يكون بنوم يسير جالسا أو قائما] زوال العقل على ضربين: نوم, وغيره فأما غير النوم وهو الجنون والإغماء والسكر وما أشبهه من الأدوية المزيلة للعقل فينقض الوضوء يسيره وكثيره إجماعا, قال ابن المنذر: أجمع العلماء على وجوب الوضوء على المغمى عليه ولأن هؤلاء حسهم أبعد من حس النائم بدليل أنهم لا ينتبهون بالانتباه ففي إيجاب الوضوء على النائم تنبيه على وجوبه بما هو آكد منه الضرب الثاني: النوم, وهو ناقض للوضوء في الجملة في قول عامة أهل العلم إلا ما حكي عن أبي موسى الأشعري وأبي مجلز وحميد الأعرج, أنه لا ينقض وعن سعيد بن المسيب أنه كان ينام مرارا مضطجعا ينتظر الصلاة ثم يصلي ولا يعيد الوضوء ولعلهم ذهبوا إلى أن النوم ليس بحدث في نفسه, والحدث مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك ولنا: قول صفوان بن عسال: " لكن من غائط وبول ونوم " وقد ذكرنا أنه صحيح وروى علي رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ) رواه أبو داود, وابن ماجه ولأن النوم مظنة الحدث فأقم مقامه كالتقاء الختانين في وجوب الغسل أقيم مقام الإنزال.
فصل:
والنوم ينقسم ثلاثة أقسام نوم المضطجع, فينقض الوضوء يسيره وكثيره في قول كل من يقول بنقضه بالنوم الثاني نوم القاعد إن كان كثيرا نقض, رواية واحدة وإن كان يسيرا لم ينقض وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي وقال الشافعي: لا ينقض وإن كثر إذا كان القاعد متكئا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض, لما روى أنس قال: (كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينامون ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وفي لفظ قال: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رءوسهم, ثم يصلون ولا يتوضئون وهذا إشارة إلى جميعهم وبه يتخصص عموم الحديثين الأولين ولأنه متحفظ عن خروج الحدث فلم ينقض وضوءه كما لو كان نومه يسيرا ولنا: عموم الحديثين الأولين, وإنما خصصناهما في اليسير لحديث أنس وليس فيه بيان كثرة ولا قلة فإن النائم يخفق رأسه من يسير النوم فهو يقين في اليسير, فيعمل به وما زاد عليه فهو محتمل لا يترك له العموم المتيقن ولأن نقض الوضوء بالنوم يعلل بإفضائه إلى الحدث ومع الكثرة والغلبة يفضي إليه ولا يحس بخروجه منه بخلاف اليسير, ولا يصح قياس الكثير على اليسير لاختلافهما في الإفضاء إلى الحدث الثالث ما عدا هاتين الحالتين وهو نوم القائم والراكع والساجد فروي عن أحمد في جميع ذلك روايتان: إحداهما ينقض وهو قول الشافعي لأنه لم يرد في تخصيصه من عموم أحاديث النقض نص, ولا هو في معنى المنصوص لكون القاعد متحفظا لاعتماده بمحل الحدث إلى الأرض, والراكع والساجد ينفرج محل الحدث منهما والثانية لا ينقض إلا إذا كثر وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وإن كثر لما روى ابن عباس (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسجد وينام وينفخ ثم يقوم فيصلي فقلت له: صليت ولم تتوضأ وقد نمت, فقال: إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله) رواه أبو داود ولأنه حال من أحوال الصلاة فأشبهت حال الجلوس والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس لأنهما يشتبهان في الانخفاض واجتماع المخرج وربما كان القائم أبعد من الحدث لعدم التمكن من الاستثقال في النوم, فإنه لو استثقل لسقط والظاهر عنه في الساجد التسوية بينه وبين المضطجع لأنه ينفرج محل الحدث ويعتمد بأعضائه على الأرض ويتهيأ لخروج الخارج فأشبه المضطجع والحديث الذي ذكروه منكر قاله أبو داود وقال ابن المنذر: لا يثبت, وهو مرسل يرويه قتادة عن أبي العالية قال شعبة: لم يسمع منه إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها.
فصل:
واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي فعنه: لا ينقض يسيره قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: الوضوء من النوم؟ قال إذا طال قيل: فالمحتبي؟ قال: يتوضأ قيل: فالمتكئ؟ قال الاتكاء شديد والمتساند كأنه أشد يعني من الاحتباء ورأى منها كلها الوضوء إلا أن يغفو يعني قليلا وعنه: ينقض يعني بكل حال لأنه معتمد على شيء, فهو كالمضطجع والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير لأن دليل انتفاء النقض في القاعد لا تفريق فيه فيسوى بين أحواله.
فصل:
واختلف أصحابنا في تحديد الكثير من النوم الذي ينقض الوضوء فقال القاضي: ليس للقليل حد يرجع إليه وهو على ما جرت به العادة وقيل: حد الكثير ما يتغير به النائم عن هيئته, مثل أن يسقط على الأرض ومنها أن يرى حلما والصحيح: أنه لا حد له لأن التحديد إنما يعلم بتوقيف ولا توقيف في هذا, فمتى وجدنا ما يدل على الكثرة مثل سقوط المتمكن وغيره انتقض وضوءه وإن شك في كثرته لم ينتقض وضوءه لأن الطهارة متيقنة, فلا تزول بالشك.
فصل:
ومن لم يغلب على عقله فلا وضوء عليه لأن النوم الغلبة على العقل قال بعض أهل اللغة في قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} السنة: ابتداء النعاس في الرأس فإذا وصل إلى القلب صار نوما قال الشاعر: وسنان أقصده النعاس فرنقت ** في عينه سنة وليس بنائم ولأن الناقض زوال العقل, ومتى كان العقل ثابتا وحسه غير زائل مثل من يسمع ما يقال عنده ويفهمه فلم يوجد سبب النقض في حقه وإن شك هل نام أم لا أو خطر بباله شيء لا يدري أرؤيا أو حديث نفس, فلا وضوء عليه.
مسألة:
قال: والارتداد عن الإسلام وجملة ذلك أن الردة تنقض الوضوء وتبطل التيمم وهذا قول الأوزاعي وأبي ثور وهي الإتيان بما يخرج به عن الإسلام إما نطقا أو اعتقادا, أو شكا ينقل عن الإسلام فمتى عاود إسلامه ورجع إلى دين الحق فليس له الصلاة حتى يتوضأ, وإن كان متوضئا قبل ردته وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يبطل الوضوء بذلك وللشافعي في بطلان التيمم به قولان لقول الله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم} فشرط الموت ولأنها طهارة فلا تبطل بالردة, كالغسل من الجنابة ولنا: قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} والطهارة عمل وهي باقية حكما تبطل بمبطلاتها فيجب أن تحبط بالشرك ولأنها عبادة يفسدها الحدث فأفسدها الشرك كالصلاة والتيمم ولأن الردة حدث, بدليل قول ابن عباس الحدث حدثان حدث اللسان وحدث الفرج وأشدهما حدث اللسان وإذا أحدث لم تقبل صلاته بغير وضوء لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) متفق عليه وما ذكروه تمسك بدليل الخطاب, والمنطوق مقدم عليه ولأنه شرط الموت لجميع المذكور في الآية وهو حبوط العمل والخلود في النار وأما غسل الجنابة فلا يتصور فيه الإبطال, وإنما يجب الغسل بسبب جديد يوجبه وهنا يجب الغسل أيضا عند من أوجب على من أسلم الغسل.
فصل:
ولا ينقض الوضوء ما عدا الردة من الكلام من الكذب والغيبة, والرفث والقذف وغيرها نص عليه أحمد وقال ابن المنذر: أجمع من نحفظ قوله من علماء الأمصار على أن القذف وقول الزور, والكذب والغيبة لا توجب طهارة ولا تنقض وضوءا, وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا بالوضوء من الكلام الخبيث وذلك استحباب عندنا ممن أمر به ولا نعلم حجة توجب وضوءا في شيء من الكلام, وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) ولم يأمر في ذلك بوضوء.
فصل:
وليس في القهقهة وضوء روي ذلك عن عروة وعطاء والزهري ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال أصحاب الرأي: يجب الوضوء من القهقهة داخل الصلاة دون خارجها وروي ذلك عن الحسن والنخعي والثوري لما روى أبو العالية (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي فجا">فصل: وليس في القهقهة وضوء روي ذلك عن عروة وعطاء والزهري ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وقال أصحاب الرأي: يجب الوضوء من القهقهة داخل الصلاة دون خارجها وروي ذلك عن الحسن والنخعي والثوري لما روى أبو العالية (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي فجاء ضرير فتردى في بئر فضحك طوائف فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين ضحكوا أن يعيدوا الوضوء والصلاة) وروي من غير طريق أبي العالية بأسانيد ضعاف, وحاصله يرجع إلى أبي العالية كذلك قال عبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد, والدارقطني ولنا: أنه معنى لا يبطل الوضوء خارج الصلاة فلم يبطله داخلها كالكلام وأنه ليس بحدث ولا يفضي إليه فأشبه سائر ما لا يبطل ولأن الوجوب من الشارع ولم ينص عن الشارع في هذا إيجاب الوضوء, ولا في شيء يقاس هذا عليه وما رووه مرسل لا يثبت وقد قال ابن سيرين: لا تأخذوا بمراسيل الحسن وأبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا والمخالف في هذه المسألة يرد الأخبار الصحيحة لمخالفتها الأصول فكيف يخالفها ها هنا بهذا الخبر الضعيف عند أهل المعرفة.
مسألة:
قال: ومس الفرج الفرج اسم لمخرج الحدث, ويتناول الذكر والدبر وقبل المرأة وفي نقض الوضوء بجميع ذلك خلاف في المذهب وغيره فنذكره إن شاء الله مفصلا: ونبدأ بالكلام في مس الذكر فإنه آكدها فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما, ينقض الوضوء وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وأبان بن عثمان وعروة وسليمان بن يسار والزهري والأوزاعي والشافعي وهو المشهور عن مالك وقد روي أيضا عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وابن سيرين وأبي العالية والرواية الثانية, لا وضوء فيه روي ذلك عن علي وعمار وابن مسعود وحذيفة وعمران بن حصين وأبي الدرداء وبه قال ربيعة والثوري وابن المنذر وأصحاب الرأي لما روى قيس بن طلق, عن أبيه قال: (قدمنا على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ فقال وهل هو إلا بضعة منك أو مضغة منك) رواه أبو داود والنسائي, والترمذي وابن ماجه ولأنه عضو منه فكان كسائره, ووجه الرواية الأولى ما روت بسرة بنت صفوان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من مس ذكره فليتوضأ) وعن جابر مثل ذلك وعن أم حبيبة وأبي أيوب قالا: سمعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من مس فرجه فليتوضأ) وفي الباب عن أبي هريرة رواهن ابن ماجه وقال أحمد حديث بسرة وحديث أم حبيبة صحيحان وقال الترمذي حديث بسرة حسن صحيح وقال البخاري: أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة وقال أبو زرعة حديث أم حبيبة أيضا صحيح وقد روي عن بضعة عشر من الصحابة رضوان الله عليهم فأما خبر قيس فقال أبو زرعة وأبو حاتم: قيس ممن لا تقوم بروايته حجة ثم إن حديثنا متأخر لأن أبا هريرة قد رواه, وهو متأخر الإسلام صحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع سنين وكان قدوم طلق على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم يؤسسون المسجد أول زمن الهجرة, فيكون حديثنا ناسخا له وقياس الذكر على سائر البدن لا يستقيم لأنه تتعلق به أحكام ينفرد بها من وجوب الغسل بإيلاجه والحد والمهر وغير ذلك.
فصل:
فعلى رواية النقض لا فرق بين العامد وغيره وبه قال الأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو أيوب وأبو خيثمة لعموم الخبر, وعن أحمد: لا ينتقض الوضوء إلا بمسه قاصدا مسه قال أحمد بن الحسين: قيل لأحمد الوضوء من مس الذكر: فقال: هكذا - وقبض على يده - يعني إذا قبض عليه وهذا قول مكحول وطاوس وسعيد بن جبير وحميد الطويل قالوا: إن مسه يريد وضوءا وإلا فلا شيء عليه لأنه لمس, فلا ينقض الوضوء من غير قصد كلمس النساء.
فصل:
ولا فرق بين بطن الكف وظهره وهذا قول عطاء والأوزاعي وقال مالك والليث والشافعي وإسحاق: لا ينقض مسه إلا بباطن كفه لأن ظاهر الكف ليس بآلة للمس فأشبه ما لو مسه بفخذه واحتج أحمد بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- (إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس بينهما سترة فليتوضأ) وفي لفظ: (إذا أفضى أحدكم إلى ذكره فقد وجب عليه الوضوء) رواه الشافعي في مسنده وظاهر كفه من يده والإفضاء: اللمس من غير حائل ولأنه جزء من يده تتعلق به الأحكام المعلقة على مطلق اليد, فأشبه باطن الكف.
فصل:
ولا ينقض مسه بذراعه وعن أحمد أنه ينقض لأنه من يده وهو قول عطاء والأوزاعي والصحيح الأول لأن الحكم المعلق على مطلق اليد في الشرع لا يتجاوز الكوع بدليل قطع السارق, وغسل اليد من نوم الليل والمسح في التيمم وإنما وجب غسله في الوضوء لأنه قيده بالمرافق ولأنه ليس بآلة للمس, أشبه العضد وكونه من يده يبطل بالعضد فإنه لا خلاف بين العلماء فيه.
فصل:
ولا فرق بين ذكره وذكر غيره وقال داود: لا ينقض مس ذكر غيره لأنه لا نص فيه والأخبار إنما وردت في ذكر نفسه, فيقتصر عليه ولنا أن مس ذكر غيره معصية وأدعى إلى الشهوة وخروج الخارج, وحاجة الإنسان تدعو إلى مس ذكر نفسه فإذا انتقض بمس ذكر نفسه فبمس ذكر غيره أولى وهذا تنبيه يقدم على الدليل, وفي بعض ألفاظ خبر بسرة: " من مس الذكر فليتوضأ ".
فصل:
ولا فرق بين ذكر الصغير والكبير وبه قال عطاء والشافعي وأبو ثور وعن الزهري والأوزاعي: لا وضوء على من مس ذكر الصغير لأنه يجوز مسه والنظر إليه وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه قبل زبيبة الحسن وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مس زبيبة الحسن ولم يتوضأ) ولنا عموم قوله: " من مس الذكر فليتوضأ " ولأنه ذكر آدمي متصل به أشبه الكبير, والخبر ليس بثابت ثم إن نقض اللمس لا يلزم منه كون القبلة ناقضة ثم ليس فيه أنه صلى ولم يتوضأ فيحتمل أنه لم يتوضأ في مجلسه وجواز اللمس والنظر يبطل بذكر نفسه.
فصل:
وفرج الميت كفرج الحي لبقاء الاسم والحرمة, لاتصاله بجملة الآدمي وهو قول الشافعي وقال إسحاق: لا وضوء عليه وفي الذكر المقطوع وجهان: أحدهما ينقض لبقاء اسم الذكر والآخر لا ينقض لذهاب الحرمة, وعدم الشهوة بمسه فأشبه ثيل الجمل ولو مس القلفة التي تقطع في الختان قبل قطعها انتقض وضوءه لأنها من جلدة الذكر وإن مسها بعد القطع فلا وضوء عليه لزوال الاسم والحرمة.
فصل:
فأما مس حلقة الدبر, فعنه روايتان أيضا: إحداهما لا ينقض الوضوء وهو مذهب مالك قال الخلال: العمل والأشيع في قوله وحجته أنه لا يتوضأ من مس الدبر لأن المشهور من الحديث: " من مس ذكره فليتوضأ " وهذا ليس في معناه لأنه لا يقصد مسه ولا يفضي إلى خروج خارج والثانية ينقض نقلها أبو داود وهو مذهب عطاء والزهري والشافعي لعموم قوله: " من مس فرجه فليتوضأ " ولأنه أحد الفرجين, أشبه الذكر.
فصل:
وفي مس المرأة فرجها أيضا روايتان: إحداهما ينقض لعموم قوله: " من مس فرجه فليتوضأ " وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) ولأنها آدمي مس فرجه فانتقض وضوءه كالرجل والأخرى لا ينتقض قال المروذي: قيل لأبي عبد الله فالجارية إذا مست فرجها أعليها وضوء؟ قال: لم أسمع في هذا بشيء قلت لأبي عبد الله: حديث عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: " أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ " فتبسم, وقال: هذا حديث الزبيدي وليس إسناده بذاك ولأن الحديث المشهور في مس الذكر وليس مس المرأة فرجها في معناه لكونه لا يدعو إلى خروج خارج, فلم ينقض.
فصل:
فأما لمس فرج الخنثى المشكل فلا يخلو من أن يكون اللمس منه أو من غيره فإن كان اللمس منه فلمس أحد فرجيه لم ينتقض وضوءه لأنه يحتمل أن يكون الملموس خلقة زائدة وإن لمسهما جميعا وقلنا: لا ينقض وضوء المرأة مس فرجها لم ينتقض وضوءه لجواز أن يكون امرأة مست فرجها, أو خلقة زائدة وإن قلنا: ينقض انتقض وضوءه لأنه لا بد أن يكون أحدهما فرجا وإن كان اللامس رجلا, فمس الذكر لغير شهوة لم ينتقض وضوءه وإن مسه لشهوة انتقض وضوءه في ظاهر المذهب فإنه إن كان ذكرا فقد مسه وإن كان أنثى فقد مسها لشهوة وإن مس قبل المرأة لم ينتقض وضوءه لجواز أن يكون خلقة زائدة من رجل وإن مسهما جميعا لشهوة, انتقض وضوءه لما ذكرنا في الذكر وإن كان لغير شهوة انتقض وضوءه في الظاهر لأنه لا يخلو من أن يكون مس ذكر رجل أو فرج امرأة وإن كان اللامس امرأة فلمست أحدهما لغير شهوة, لم ينتقض وضوءها وإن لمست الذكر لشهوة لم ينتقض وضوءها لجواز أن يكون خلقة زائدة من امرأة فإن مست فرج المرأة لشهوة انبنى على مس المرأة الرجل لشهوة, فإن قلنا ينقض انتقض وضوءها ها هنا لذلك وإلا لم ينتقض وإن مستهما جميعا لغير شهوة وقلنا: إن مس فرج المرأة ينقض الوضوء انتقض وضوءها ها هنا وإلا فلا وإن كان اللامس خنثى مشكلا لم ينتقض وضوءه, إلا أن يجمع بين الفرجين في اللمس ولو مس أحد الخنثيين ذكر الآخر ومس الآخر فرجه وكان اللمس منهما لشهوة, أو لغيرها فلا وضوء على واحد منهما لأن كل واحد منهما على انفراده يقين الطهارة باق في حقه والحدث مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك لأنه يحتمل أن يكونا جميعا امرأتين فلا ينتقض وضوء لامس الذكر, ويحتمل أن يكونا رجلين فلا ينتقض وضوء لامس الفرج وإن مس كل واحد منهما ذكر الآخر احتمل أن يكونا امرأتين, وقد مس كل واحد منهما خلقة زائدة من الآخر وإن مس كل واحد منهما قبل الآخر احتمل أن يكونا رجلين.
فصل:
ولا ينتقض الوضوء بمس ما عدا الفرجين من سائر البدن كالرفغ والأنثيين والإبط, في قول عامة أهل العلم إلا أنه روي عن عروة قال: من مس أنثييه فليتوضأ وقال الزهري: أحب إلى أن يتوضأ وقال عكرمة: من مس ما بين الفرجين فليتوضأ وقول الجمهور أولى لأنه لا نص في هذا ولا هو في معنى المنصوص عليه فلا يثبت الحكم فيه ولا ينتقض وضوء الملموس أيضا لأن الوجوب من الشرع وإنما وردت السنة في اللامس ولا ينتقض الوضوء بمس فرج بهيمة, وقال الليث بن سعد: عليه الوضوء وقال عطاء: من مس قنب حمار عليه الوضوء, ومن مس ثيل جمل لا وضوء عليه وما قلناه قول جمهور العلماء وهو أولى لأن هذا ليس بمنصوص على النقض به ولا هو في معنى المنصوص عليه فلا وجه للقول به.
مسألة:
قال: القيء الفاحش والدم الفاحش والدود الفاحش يخرج من الجروح وجملته أن الخارج من البدن من غير السبيل ينقسم قسمين: طاهرا ونجسا فالطاهر لا ينقض الوضوء على حال ما, والنجس ينقض الوضوء في الجملة رواية واحدة روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعلقمة وعطاء وقتادة والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وكان مالك وربيعة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر, لا يوجبون منه وضوءا وقال مكحول: لا وضوء إلا فيما خرج من قبل أو دبر لأنه خارج من غير المخرج مع بقاء المخرج, فلم يتعلق به نقض الطهارة كالبصاق ولأنه لا نص فيه ولا يمكن قياسه على محل النص, وهو الخارج من السبيلين لكون الحكم فيه غير معلل ولأنه لا يفترق الحال بين قليله وكثيره وطاهره ونجسه وها هنا بخلافه, فامتنع القياس ولنا: ما روى أبو الدرداء: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال ثوبان: صدق أنا صببت له وضوءه) رواه الأثرم والترمذي, وقال: هذا أصح شيء في هذا الباب قيل لأحمد: حديث ثوبان ثبت عندك؟ قال: نعم وروى الخلال بإسناده عن ابن جريج عن أبيه, قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " إذا قلس أحدكم فليتوضأ " قال ابن جريج: وحدثني ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك وأيضا فإنه قول من سمينا من الصحابة, ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا ولأنه خارج يلحقه حكم التطهير فنقض الوضوء كالخارج من السبيل وقياسهم منقوض بما إذا انفتح مخرج دون المعدة.
فصل:
وإنما ينتقض الوضوء بالكثير من ذلك دون اليسير, وقال بعض أصحابنا: فيه رواية أخرى أن اليسير ينقض ولا نعرف هذه الرواية ولم يذكرها الخلال في " جامعه " إلا في القلس, واطرحها وقال القاضي: لا ينقض رواية واحدة وهو المشهور عن الصحابة رضي الله عنهم قال ابن عباس في الدم: إذا كان فاحشا فعليه الإعادة وابن أبي أوفى بزق دما ثم قام فصلى وابن عمر عصر بثرة فخرج دم, وصلى ولم يتوضأ قال أبو عبد الله: عدة من الصحابة تكلموا فيه وأبو هريرة كان يدخل أصابعه في أنفه وابن عمر عصر بثرة وابن أبي أوفى عصر دملا وابن عباس قال: إذا كان فاحشا وجابر أدخل أصابعه في أنفه, وابن المسيب أدخل أصابعه العشرة في أنفه وأخرجها متلطخة بالدم يعني: وهو في الصلاة وقال أبو حنيفة: إذا سال الدم ففيه الوضوء وإن وقف على رأس الجرح, لم يجب لعموم قوله عليه السلام: (من قاء أو رعف في صلاته فليتوضأ) ولنا ما روينا عن الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا وقد روى الدارقطني بإسناده, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ليس الوضوء من القطرة والقطرتين) وحديثهم لا تعرف صحته ولم يذكره أصحاب السنن وقد تركوا العمل به, فإنهم قالوا: إذا كان دون ملء الفم لم يجب الوضوء منه.
فصل:
وظاهر مذهب أحمد أن الكثير الذي ينقض الوضوء لا حد له أكثر من أنه يكون فاحشا وقيل: يا أبا عبد الله ما قدر الفاحش؟ قال: ما فحش في قلبك وقيل له: مثل أي شيء يكون الفاحش؟ قال: قال ابن عباس: ما فحش في قلبك وقد نقل عنه أنه سئل: كم الكثير؟ فقال: شبر في شبر وفي موضع قال: قدر الكف فاحش وفي موضع قال: الذي يوجب الوضوء من ذلك إذا كان مقدار ما يرفعه الإنسان بأصابعه الخمس من القيح والصديد والقيء, فلا بأس به فقيل له: إن كان مقدار عشرة أصابع؟ فرآه كثيرا قال الخلال: والذي استقر عليه قوله في الفاحش أنه على قدر ما يستفحشه كل إنسان في نفسه قال ابن عقيل: إنما يعتبر ما يفحش في نفوس أوساط الناس لا المتبذلين, ولا الموسوسين كما رجعنا في يسير اللقطة الذي لا يجب تعريفه إلى ما لا تتبعه نفوس أوساط الناس ونص أحمد في هذا كما حكيناه وذهب إلى قول ابن عباس رضي الله عنه
فصل:
والقيح والصديد كالدم فيما ذكرنا, وأسهل وأخف منه حكما عند أبي عبد الله لوقوع الاختلاف فيه فإنه روي عن ابن عمر والحسن أنهم لم يروا القيح والصديد كالدم وقال أبو مجلز في الصديد: لا شيء إنما ذكر الله الدم المسفوح, وقال الأوزاعي في قرحة سال منها كغسالة اللحم: لا وضوء فيه وقال إسحاق: كل ما سوى الدم لا يوجب وضوءا وقال مجاهد وعطاء وعروة والشعبي والزهري وقتادة والحكم والليث: القيح بمنزلة الدم فلذلك خف حكمه عنده واختياره مع ذلك إلحاقه بالدم وإثبات مثل حكمه فيه ولكن الذي يفحش منه يكون أكثر من الذي يفحش من الدم.
فصل:
والقلس كالدم, ينقض الوضوء منه ما فحش قال الخلال الذي أجمع عليه أصحاب أبي عبد الله عنه أنه إذا كان فاحشا أعاد الوضوء منه وقد حكي عنه فيه الوضوء إذا ملأ الفم وقيل عنه إذا كان أقل من نصف الفم لا يتوضأ والأول المذهب وكذلك الحكم في الدود الخارج من الجسد, إذا كان كثيرا نقض الوضوء وإن كان يسيرا لم ينقض, والكثير ما فحش في النفس.
فصل:
فأما الجشاء فلا وضوء فيه لا نعلم فيه خلافا قال مهنا: سألت أبا عبد الله عن الرجل يخرج من فيه الريح مثل الجشاء الكثير؟ قال لا وضوء عليه وكذلك النخاعة لا وضوء فيها سواء كانت من الرأس أو الصدر لأنها طاهرة أشبهت البصاق.
مسألة:
قال: وأكل لحم الجزور وجملة ذلك أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل حال نيئا ومطبوخا, عالما كان أو جاهلا وبهذا قال جابر بن سمرة ومحمد بن إسحاق وإسحاق وأبو خيثمة ويحيى بن يحيى وابن المنذر وهو أحد قولي الشافعي قال الخطابي: ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث وقال الثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا ينقض الوضوء بحال لأنه روي عن ابن عباس, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الوضوء مما يخرج لا مما يدخل) وروي عن جابر قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار) رواه أبو داود ولأنه مأكول أشبه سائر المأكولات وقد روي عن أبي عبد الله أنه قال: في الذي يأكل من لحوم الإبل: إن كان لا يعلم ليس عليه وضوء وإن كان الرجل قد علم وسمع, فهذا عليه واجب لأنه قد علم فليس هو كمن لا يعلم ولا يدري قال الخلال: وعلى هذا استقر قول أبي عبد الله في هذا الباب ولنا: ما روى البراء بن عازب قال: (سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لحوم الإبل فقال: توضئوا منها وسئل عن لحوم الغنم, فقال: لا يتوضأ منها) رواه مسلم وأبو داود وروى جابر بن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله أخرجه مسلم, وروى الإمام أحمد بإسناده عن أسيد بن حضير وقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (توضئوا من لحوم الإبل, ولا تتوضئوا من لحوم الغنم) وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك قال أحمد, وإسحاق وابن راهويه: فيه حديثان صحيحان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث البراء وحديث جابر بن سمرة وحديثهم عن ابن عباس لا أصل له وإنما هو من قول ابن عباس موقوف عليه, ولو صح لوجب تقديم حديثنا عليه لكونه أصح منه وأخص والخاص يقدم على العام وحديث جابر لا يعارض حديثنا أيضا لصحته وخصوصه فإن قيل: فحديث جابر متأخر فيكون ناسخا قلنا: لا يصح النسخ به لوجوه أربعة أحدها, أن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل متأخر عن نسخ الوضوء مما مست النار أو مقارن له بدليل أنه قرن الأمر بالوضوء من لحوم الإبل بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم وهي مما مست النار فإما أن يكون النسخ حصل بهذا النهي, وإما أن يكون بشيء قبله فإن كان به فالأمر بالوضوء من لحوم الإبل مقارن لنسخ الوضوء مما غيرت النار فكيف يجوز أن يكون منسوخا به؟ ومن شروط النسخ تأخر الناسخ وإن كان النسخ قبله, لم يجز أن ينسخ بما قبله الثاني أن أكل لحوم الإبل إنما نقض لكونه من لحوم الإبل لا لكونه مما مست النار, ولهذا ينقض وإن كان نيئا فنسخ إحدى الجهتين لا يثبت به نسخ الجهة الأخرى كما لو حرمت المرأة للرضاع, ولكونها ربيبة فنسخ التحريم بالرضاع لم يكن نسخا لتحريم الربيبة الثالث أن خبرهم عام وخبرنا خاص, والعام لا ينسخ به الخاص لأن من شروط النسخ تعذر الجمع والجمع بين الخاص والعام ممكن بتنزيل العام على ما عدا محل التخصيص الرابع: أن خبرنا صحيح مستفيض ثبتت له قوة الصحة والاستفاضة والخصوص, وخبرهم ضعيف لعدم هذه الوجوه الثلاثة فيه فلا يجوز أن يكون ناسخا له فإن قيل: الأمر بالوضوء في خبركم يحتمل الاستحباب فنحمله عليه ويحتمل أنه أراد بالوضوء قبل الطعام وبعده غسل اليدين لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام, اقتضى غسل اليد كما كان عليه السلام يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده وخص ذلك بلحم الإبل لأن فيه من الحرارة والزهومة ما ليس في غيره قلنا أما الأول فمخالف للظاهر من ثلاثة أوجه: أحدها, أن مقتضى الأمر الوجوب الثاني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن حكم هذا اللحم فأجاب بالأمر بالوضوء منه فلا يجوز حمله على غير الوجوب لأنه يكون تلبيسا على السائل, لا جوابا الثالث أنه عليه السلام قرنه بالنهي عن الوضوء من لحوم الغنم والمراد بالنهي ها هنا نفي الإيجاب لا التحريم, فيتعين حمل الأمر على الإيجاب ليحصل الفرق وأما الثاني فلا يصح لوجوه أربعة: أحدها: أنه يلزم منه حمل الأمر على الاستحباب فإن غسل اليد بمفرده غير واجب, وقد بينا فساده الثاني: أن الوضوء إذا جاء على لسان الشارع وجب حمله على الموضوع الشرعي دون اللغوي لأن الظاهر منه أنه إنما يتكلم بموضوعاته الثالث: أنه خرج جوابا لسؤال السائل عن حكم الوضوء من لحومها, والصلاة في مباركها فلا يفهم من ذلك سوى الوضوء المراد للصلاة الرابع: أنه لو أراد غسل اليد لما فرق بينه وبين لحم الغنم فإن غسل اليد منهما مستحب ولهذا قال: " من بات وفي يده ريح غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه " وما ذكره من زيادة الزهومة فأمر يسير لا يقتضي التفريق والله أعلم ثم لا بد من دليل نصرف به اللفظ عن ظاهره ويجب أن يكون الدليل له من القوة بقدر قوة الظواهر المتروكة, وأقوى منها وليس لهم دليل وقياسهم فاسد فإنه طردي لا معنى فيه, وانتفاء الحكم في سائر المأكولات لانتفاء المقتضي لا لكونه مأكولا فلا أثر لكونه مأكولا, ووجوده كعدمه ومن العجب أن مخالفينا في هذه المسألة أوجبوا الوضوء بأحاديث ضعيفة تخالف الأصول فأبو حنيفة أوجبه بالقهقهة في الصلاة دون خارجها بحديث من مراسيل أبي العالية ومالك والشافعي أوجباه بمس الذكر, بحديث مختلف فيه معارض بمثله دون مس بقية الأعضاء وتركوا هذا الحديث الصحيح الذي لا معارض له, مع بعده عن التأويل وقوة الدلالة فيه لمخالفته لقياس طردي.
فصل:
وفي شرب لبن الإبل روايتان: إحداهما ينقض الوضوء لما روى أسيد بن حضير, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (توضئوا من لحوم الإبل وألبانها) رواه الإمام أحمد في المسند وفي لفظ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن ألبان الإبل فقال: توضئوا من ألبانها " وسئل عن ألبان الغنم فقال: " لا تتوضئوا من ألبانها " رواه ابن ماجه, وروي نحوه عن عبد الله بن عمرو والثانية لا وضوء فيه لأن الحديث الصحيح إنما ورد في اللحم وقولهم: فيه حديثان صحيحان يدل على أنه لا صحيح فيه سواهما والحكم ها هنا غير معقول, فيجب الاقتصار على مورد النص فيه وفيما سوى اللحم من أجزاء البعير من كبده وطحاله وسنامه, ودهنه ومرقه وكرشه, ومصرانه وجهان: أحدهما لا ينقض لأن النص لم يتناوله, والثاني ينقض لأنه من جملة الجزور وإطلاق اللحم في الحيوان يراد به جملته لأنه أكثر ما فيه ولذلك لما حرم الله تعالى لحم الخنزير كان تحريما لجملته, كذا ها هنا.
فصل:
وما عدا لحم الجزور من الأطعمة لا وضوء فيه سواء مسته النار أو لم تمسه هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن الخلفاء الراشدين وأبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وعامر بن ربيعة وأبي الدرداء وأبي أمامة, وعامة الفقهاء ولا نعلم اليوم فيه خلافا وذهب جماعة من السلف إلى إيجاب الوضوء مما غيرت النار منهم ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو طلحة وأبو موسى وأبو هريرة وأنس وعمر بن عبد العزيز وأبو مجلز وأبو قلابة والحسن والزهري لما روى أبو هريرة, وزيد وعائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (توضئوا مما مست النار) وفي لفظ (إنما الوضوء مما مست النار) رواهن مسلم ولنا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (ولا تتوضئوا من لحوم الغنم) وقول جابر (كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار) رواه أبو داود, والنسائي.
مسألة:
قال: وغسل الميت اختلف أصحابنا في وجوب الوضوء من غسل الميت فقال أكثرهم بوجوبه سواء كان المغسول صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى, مسلما أو كافرا وهو قول إسحاق والنخعي وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة فروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء وعن أبي هريرة, قال: أقل ما فيه الوضوء ولا نعلم لهم مخالفا في الصحابة ولأن الغالب فيه أنه لا يسلم أن تقع يده على فرج الميت فكان مظنة ذلك قائما مقام حقيقته كما أقيم النوم مقام الحدث وقال أبو الحسن التميمي: لا وضوء فيه وهذا قول أكثر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله لأن الوجوب من الشرع ولم يرد في هذا نص, ولا هو في معنى المنصوص عليه فبقي على الأصل ولأنه غسل آدمي فأشبه غسل الحي وما روي عن أحمد في هذا يحمل على الاستحباب دون الإيجاب فإن كلامه يقتضي نفي الوجوب فإنه ترك العمل بالحديث المروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (من غسل ميتا فليغتسل) وعلل ذلك بأن الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة فإذا لم يوجب الغسل بقول أبي هريرة, مع احتمال أن يكون من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأن لا يوجب الوضوء بقوله مع عدم ذلك الاحتمال أولى وأحرى.
مسألة:
قال: وملاقاة جسم الرجل للمرأة لشهوة المشهور من مذهب أحمد -رحمه الله- , أن لمس النساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة وهذا قول علقمة وأبي عبيدة والنخعي والحكم وحماد ومالك والثوري وإسحاق والشعبي فإنهم قالوا: يجب الوضوء على من قبل لشهوة, ولا يجب على من قبل لرحمة وممن أوجب الوضوء في القبلة ابن مسعود وابن عمر والزهري وزيد بن أسلم ومكحول ويحيى الأنصاري وربيعة والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز والشافعي قال أحمد: المدنيون والكوفيون ما زالوا يرون أن القبلة من اللمس تنقض الوضوء حتى كان بآخرة وصار فيهم أبو حنيفة فقالوا: لا تنقض الوضوء ويأخذون بحديث عروة, ونرى أنه غلط وعن أحمد رواية ثانية لا ينقض اللمس بحال وروي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء وطاوس والحسن ومسروق وبه قال أبو حنيفة: إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها لما روى حبيب, عن عروة عن عائشة (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل امرأة من نسائه وخرج إلى الصلاة, ولم يتوضأ) رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما وهو حديث مشهور رواه إبراهيم التيمي عن عائشة أيضا, ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بهذا شرع ولا هو في معنى ما ورد الشرع به, وقوله: {أو لامستم النساء} أراد به الجماع بدليل أن المس أريد به الجماع فكذلك اللمس ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين, وعن أحمد رواية ثالثة أن اللمس ينقض بكل حال وهو مذهب الشافعي لعموم قوله تعالى: {أو لامستم النساء} وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين, قال الله تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا: {وأنا لمسنا السماء} وقال الشاعر: لمست بكفي كفه أطلب الغنى وقرأها ابن مسعود: {أو لامستم النساء} وأما حديث القبلة فكل طرقه معلولة قال يحيى بن سعيد: احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء وقال أحمد: نرى أنه غلط الحديثين جميعا - يعني حديث إبراهيم التيمي وحديث عروة فإن إبراهيم التيمي لا يصح سماعه من عائشة وعروة المذكور ها هنا عروة المزني, ولم يدرك عائشة كذلك قاله سفيان الثوري قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني ليس هو عروة بن الزبير وقال إسحاق: لا تظنوا أن حبيبا لقي عروة وقال: وقد يمكن أن يقبل الرجل امرأته لغير شهوة برا بها وإكراما لها, ورحمة ألا ترى إلى ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قدم من سفر فقبل فاطمة فالقبلة تكون لشهوة ولغير شهوة ويحتمل أنه قبلها من وراء حائل واللمس لغير شهوة لا ينقض, لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمس زوجته في الصلاة وتمسه ولو كان ناقضا للوضوء لم يفعله (قالت عائشة إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي) متفق عليه وفي حديث آخر فإذا أراد أن يوتر مسني برجله وروى الحسن قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسا في مسجده في الصلاة فقبض على قدم عائشة غير متلذذ) رواه إسحاق بإسناده والنسائي وعن عائشة (قالت فقدت النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فجعلت أطلبه, فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد وهو يقول: أعوذ برضاك من سخطك, وبمعافاتك من عقوبتك) رواهما النسائي ورواه مسلم (وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حاملا أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا سجد وضعها وإذا قام حملها) متفق عليه والظاهر أنه لا يسلم من مسها ولأنه لمس لغير شهوة فلم ينقض, كلمس ذوات المحارم يحققه أن اللمس ليس بحدث في نفسه وإنما نقض لأنه يفضي إلى خروج المذي أو المني فاعتبرت الحالة التي تفضي إلى الحدث فيها وهي حالة الشهوة.
فصل:
ولا فرق بين الأجنبية وذات المحرم, والكبيرة والصغيرة وقال الشافعي: لا ينقض لمس ذوات المحارم ولا الصغيرة في أحد القولين لأن لمسهما لا يفضي إلى خروج خارج, أشبه لمس الرجل الرجل ولنا عموم النص واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة, ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع فأما لمس الميتة ففيه وجهان: أحدهما ينقض لعموم الآية والثاني, لا ينقض اختاره الشريف أبو جعفر وابن عقيل لأنها ليست محلا للشهوة فهي كالرجل.
فصل:
ولا يختص اللمس الناقض باليد بل أي شيء منه لاقى شيئا من بشرتها مع الشهوة, انتقض وضوءه به سواء كان عضوا أصليا أو زائدا وحكي عن الأوزاعي: لا ينقض اللمس إلا بأحد أعضاء الوضوء ولنا, عموم النص والتخصيص بغير دليل تحكم لا يصار إليه ولا ينقض مس شعر المرأة ولا ظفرها, ولا سنها وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولا ينقض لمسها بشعره ولا سنه ولا ظفره لأن ذلك مما لا يقع الطلاق على المرأة بتطليقه ولا الظهار ولا ينجس الشعر بموت الحيوان ولا بقطعه منه في حياته.
فصل:
وإن لمسها من وراء حائل, لم ينتقض وضوءه في قول أكثر أهل العلم وقال مالك والليث ينقض إن كان ثوبا رقيقا وكذلك قال ربيعة: إذا غمزها من وراء ثوب رقيق لشهوة لأن الشهوة موجودة وقال المروذي: لا نعلم أحدا قال ذلك غير مالك والليث لنا أنه لم يلمس جسم المرأة فأشبه ما لو لمس ثيابها, والشهوة بمجردها لا تكفي كما لو مس رجلا بشهوة أو وجدت الشهوة من غير لمس.
فصل:
وإن لمست امرأة رجلا, ووجدت الشهوة منهما فظاهر كلام الخرقي نقض وضوئهما بملاقاة بشرتهما وقد سئل أحمد عن المرأة إذا مست زوجها؟ قال: ما سمعت فيه شيئا, ولكن هي شقيقة الرجل يعجبني أن تتوضأ لأن المرأة أحد المشتركين في اللمس فهي كالرجل وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشهوة لأن ما ينتقض بالتقاء البشرتين لا فرق فيه بين اللامس والملموس, كالتقاء الختانين وفيه رواية أخرى: لا ينتقض وضوء المرأة ولا وضوء الملموس وللشافعي قولان كالروايتين ووجه عدم النقض أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء فيتناول اللامس من الرجال, فيختص به النقض كلمس الفرج ولأن المرأة والملموس لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص لأن اللمس من الرجل مع الشهوة مظنة لخروج المذي الناقض, فأقيم مقامه ولا يوجد ذلك في حق المرأة والشهوة من اللامس أشد منها في الملموس, وأدعى إلى الخروج فلا يصح القياس عليهما وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل.
فصل:
ولا ينتقض الوضوء بلمس عضو مقطوع من المرأة لزوال الاسم, وخروجه عن أن يكون محلا للشهوة ولا بمس رجل ولا صبي ولا بمس المرأة المرأة لأنه ليس بداخل في الآية ولا هو في معنى ما في الآية لأن المرأة محل لشهوة الرجل شرعا وطبعا وهذا بخلافه ولا بمس البهيمة لذلك ولا بمس خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا ولا امرأة ولا بمس الخنثى لرجل أو امرأة لذلك, والأصل الطهارة فلا تزول بالشك ولا أعلم في هذا كله خلافا والله أعلم.
مسألة:
قال: ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث, أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو على ما تيقن منهما يعني: إذا علم أنه توضأ وشك هل أحدث, أو لا بنى على أنه متطهر وإن كان محدثا فشك هل توضأ أو لا, فهو محدث يبني في الحالتين على ما علمه قبل الشك ويلغي الشك وبهذا قال الثوري وأهل العراق والأوزاعي والشافعي وسائر أهل العلم فيما علمنا إلا الحسن ومالكا, فإن الحسن قال: إن شك في الحدث في الصلاة مضى فيها وإن كان قبل الدخول فيها, توضأ وقال مالك: إن شك في الحدث إن كان يلحقه كثيرا فهو على وضوئه وإن كان لا يلحقه كثيرا توضأ لأنه لا يدخل في الصلاة مع الشك ولنا ما روى عبد الله بن زيد قال: (شكي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل يخيل إليه وهو في الصلاة أنه يجد الشيء, قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) متفق عليه ولمسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه أم لم يخرج فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) ولأنه إذا شك تعارض عنده الأمران, فيجب سقوطهما كالبينتين إذا تعارضتا ويرجع إلى التيقن, ولا فرق بين أن يغلب على ظنه أحدهما أو يتساوى الأمران عنده لأن غلبة الظن إذا لم تكن مضبوطة بضابط شرعي لا يلتفت إليها, كما لا يلتفت الحاكم إلى قول أحد المتداعيين إذا غلب على ظنه صدقه بغير دليل
فصل:
إذا تيقن الطهارة والحدث معا ولم يعلم الآخر منهما مثل من تيقن أنه كان في وقت الظهر متطهرا مرة ومحدثا أخرى, ولا يعلم أيهما كان بعد صاحبه فإنه يرجع إلى حاله قبل الزوال فإن كان محدثا فهو الآن متطهر لأنه متيقن أنه قد انتقل عن هذا الحدث إلى الطهارة ولم يتيقن زوالها, والحدث المتيقن بعد الزوال يحتمل أن يكون قبل الطهارة ويحتمل أن يكون بعدها فوجوده بعدها مشكوك فيه, فلا يزول عن طهارة متيقنة بشك كما لو شهدت بينة لرجل أنه وفي زيدا حقه وهو مائة فأقام المشهود عليه بينة بإقرار خصمه له بمائة, لم يثبت له بها حق لاحتمال أن يكون إقراره قبل الاستيفاء منه وإن كان قبل الزوال متطهرا فهو الآن محدث لما ذكرنا في الطرف الآخر.
فصل:
وإن تيقن أنه في وقت الظهر نقض طهارته وتوضأ عن حدث وشك في السابق منهما نظر فإن كان قبل الزوال متطهرا, فهو على طهارة لأنه تيقن أنه نقض تلك الطهارة ثم توضأ إذ لا يمكن أن يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة ونقض هذه الطهارة الثانية مشكوك فيه, فلا يزول عن اليقين بالشك وإن كان قبل الزوال محدثا فهو الآن محدث لأنه تيقن أنه انتقل عنه إلى الطهارة ثم نقضها, والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها والله أعلم. فهذا جميع نواقض الطهارة ولا تنتقض بغير ذلك في قول عامة العلماء إلا أنه قد حكي عن مجاهد والحكم وحماد: في قص الشارب وتقليم الأظفار, ونتف الإبط الوضوء وقول جمهور العلماء بخلافهم ولا نعلم لهم فيما يقولون حجة, والله سبحانه أعلم. باب ما يوجب الغسل قال أبو محمد بن بري النحوي: غسل الجنابة بفتح الغين وقال ابن السكيت: الغسل: الماء الذي يغتسل به والغسل: ما غسل به الرأس.
مسألة:
قال أبو القاسم -رحمه الله-: [والموجب للغسل خروج المني] الألف واللام هنا للاستغراق, ومعناه أن جميع موجبات الغسل هذه الستة المسماة: أولها خروج المني وهو الماء الغليظ الدافق الذي يخرج عند اشتداد الشهوة ومني المرأة رقيق أصفر وروى مسلم في صحيحه, بإسناده أن (أم سليم حدثت أنها سألت نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل فقالت أم سليم: واستحييت من ذلك وهل يكون هذا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعم, فمن أين يكون الشبه ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر, فمن أيهما علا أو سبق يكون منه الشبه وفي لفظ أنها قالت هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- نعم, إذا رأت الماء) متفق عليه فخروج المني الدافق بشهوة يوجب الغسل من الرجل والمرأة في يقظة أو في نوم وهو قول عامة الفقهاء قاله الترمذي ولا نعلم فيه خلافا.
فصل:
فإن خرج شبيه المني لمرض أو برد لا عن شهوة, فلا غسل فيه وهذا قول أبي حنيفة ومالك وقال الشافعي: ويجب به الغسل ويحتمله كلام الخرقي لقوله عليه السلام: إذا رأت الماء " وقوله: (الماء من الماء) ولأنه مني خارج فأوجب الغسل كما لو خرج حال الإغماء ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف المني الموجب للغسل بكونه أبيض غليظا وقال لعلي (إذا فضخت الماء فاغتسل) رواه أبو داود, والأثرم (إذا رأيت فضخ الماء فاغتسل) والفضخ: خروجه على وجه الشدة وقال إبراهيم الحربي: خروجه بالعجلة وقوله: " إذا " رأت الماء " يعني الاحتلام وإنما يخرج في الاحتلام بالشهوة والحديث الآخر منسوخ, على أن هذا يجوز أن يمنع كونه منيا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف المني بصفة غير موجودة في هذا.
فصل:
فإن أحس بانتقال المني عند الشهوة فأمسك ذكره فلم يخرج فلا غسل عليه في ظاهر قول الخرقي وإحدى الروايتين عن أحمد وقول أكثر الفقهاء والمشهور عن أحمد وجوب الغسل, وأنكر أن يكون الماء يرجع وأحب أن يغتسل ولم يذكر القاضي في وجوب الغسل خلافا قال: لأن الجنابة تباعد الماء عن محله, وقد وجد فتكون الجنابة موجودة فيجب الغسل بها ولأن الغسل تراعى فيه الشهوة, وقد حصلت بانتقاله فأشبه ما لو ظهر ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علق الاغتسال على الرؤية وفضخه بقوله: " إذا رأت الماء " و " إذا فضخت الماء فاغتسل " فلا يثبت الحكم بدونه, وما ذكره من الاشتقاق لا يصح لأنه يجوز أن يسمى جنبا لمجانبته الماء ولا يحصل إلا بخروجه منه أو لمجانبته الصلاة أو المسجد أو غيرهما مما منع منه ولو سمي بذلك مع الخروج, لم يلزمه وجود التسمية من غير خروج فإن الاشتقاق لا يلزم منه الاطراد ومراعاة الشهوة للحكم لا يلزم منه استقلالها به, فإن أحد وصفي العلة وشرط الحكم مراع له ولا يستقل بالحكم ثم يبطل بلمس النساء, وبما إذا وجدت الشهوة ها هنا من غير انتقال فإن الشهوة لا تستقل بالحكم في الموضعين مع مراعاتها فيه وكلام أحمد ها هنا إنما يدل على أن الماء إذا انتقل لزم منه الخروج وإنما يتأخر, ولذلك يتأخر الغسل إلى حين خروجه فعلى هذا إذا خرج المني بعد ذلك لزمه الغسل سواء اغتسل قبل خروجه أو لم يغتسل لأنه مني خرج بسبب الشهوة, فأوجب الغسل كما لو خرج حال انتقاله وقد قال أحمد -رحمه الله- في الرجل يجامع ولم ينزل, فيغتسل ثم يخرج منه المني: عليه الغسل وسئل عن رجل رأى في المنام أنه يجامع فاستيقظ فلم يجد شيئا, فلما مشى خرج منه المني قال: يغتسل وقال القاضي في الذي أحس بانتقال المني, فأمسك ذكره فاغتسل ثم خرج منه المني من غير مقارنة شهوة بعد البول: فلا غسل عليه رواية واحدة وإن كان قبل البول فعلى روايتين لأنه بعد البول غير المني المنتقل خرج بغير شهوة, فأشبه الخارج لمرض وإن كان قبله فهو ذلك المني الذي انتقل ووجه ما قلنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالغسل عند رؤية الماء وفضخه, وقد وجد ونص أحمد على وجوب الغسل على المجامع الذي يرى الماء بعد غسله وهذا مثله, وقد دللنا على أن من أحس بانتقال المني ولم يخرج لا غسل عليه ويلزم من ذلك وجوب الغسل عليه بظهوره لئلا يفضي إلى نفي الوجوب عنه بالكلية, مع انتقال المني لشهوة وخروجه.
فصل:
فأما إن احتلم أو جامع فأمنى, ثم اغتسل ثم خرج منه مني فالمشهور عن أحمد أنه لا غسل عليه, قال الخلال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله أنه ليس عليه إلا الوضوء بال أو لم يبل, فعلى هذا استقر قوله وروي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء والزهري ومالك والليث والثوري وإسحاق وقال سعيد بن جبير: لا غسل عليه إلا من شهوة وفيه رواية ثانية: إن خرج بعد البول فلا غسل فيه, وإن خرج قبله اغتسل وهذا قول الأوزاعي وأبي حنيفة ونقل ذلك عن الحسن لأنه بقية ماء خرج بالدفق والشهوة فأوجب الغسل كالأول وبعد البول خرج بغير دفق وشهوة, ولا نعلم أنه بقية الأول لأنه لو كان بقيته لما تخلف بعد البول وقال القاضي: فيه رواية ثالثة عليه الغسل بكل حال وهو مذهب الشافعي لأن الاعتبار بخروجه كسائر الأحداث وقال في موضع آخر: لا غسل عليه رواية واحدة لأنه جنابة واحدة فلم يجب به غسلان, كما لو خرج دفعة واحدة والصحيح أنه يجب الغسل لأن الخروج يصلح موجبا للغسل وما ذكره يبطل بما إذا جامع فلم ينزل فاغتسل, ثم أنزل فإن أحمد قد نص على وجوب الغسل عليه بالإنزال مع وجوبه بالتقاء الختانين.
فصل:
إذا رأى أنه قد احتلم ولم يجد منيا, فلا غسل عليه قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم لكن إن مشى فخرج منه المني أو خرج بعد استيقاظه, فعليه الغسل نص عليه أحمد لأن الظاهر أنه كان انتقل وتخلف خروجه إلى ما بعد الاستيقاظ وإن انتبه فرأى منيا ولم يذكر احتلاما, فعليه الغسل لا نعلم فيه اختلافا أيضا وروي نحو ذلك عن عمر وعثمان وبه قال ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والنخعي والحسن ومجاهد وقتادة ومالك والشافعي وإسحاق لأن الظاهر أن خروجه كان لاحتلام نسيه وروي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى الفجر بالمسلمين ثم خرج إلى الجرف فرأى في ثوبه احتلاما, فقال: ما أراني إلا قد احتلمت فاغتسل وغسل ثوبه, وصلى وروي نحوه عن عثمان وروت عائشة قالت: (سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما؟ قال: يغتسل وعن الرجل يرى أنه قد احتلم, ولا يجد بللا فقال لا غسل عليه) رواه أبو داود وابن ماجه وروت أم سلمة (أن أم سليم قالت يا رسول الله هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم, إذا رأت الماء) متفق عليه وهذا يدل على أنه لا غسل عليها إلا أن ترى الماء
فصل:
إذا انتبه من النوم فوجد بللا لا يعلم هل هو مني أو غيره؟ فقال أحمد: إذا وجد بلة اغتسل إلا أن يكون به إبردة, أو لاعب أهله فإنه ربما خرج منه المذي فأرجو أن لا يكون به بأس وكذلك إن كان انتشر من أول الليل بتذكر أو رؤية لا غسل عليه وهو قول الحسن لأنه مشكوك فيه, يحتمل أنه مذي وقد وجد سببه فلا يوجب الغسل مع الشك وإن لم يكن وجد ذلك, فعليه الغسل لخبر عائشة لأن الظاهر أنه احتلام وقد توقف أحمد في هذه المسألة في مواضع وقال مجاهد وقتادة: لا غسل عليه حتى يوقن الدافق قال قتادة: يشمه وهذا هو القياس ولأن اليقين بقاء الطهارة فلا يزول بالشك والأولى الاغتسال لموافقة الخبر وإزالة الشك.
فصل:
فإن رأى في ثوبه منيا, وكان مما لا ينام فيه غيره فعليه الغسل لأن عمر وعثمان اغتسلا حين رأياه في ثوبهما ولأنه لا يحتمل أن يكون إلا منه ويعيد الصلاة من أحدث نومة نامها فيه إلا أن يرى أمارة تدل على أنه قبلها فيعيد من أدنى نومة يحتمل أنه منها وإن كان الرائي له غلاما يمكن وجود المني منه, كابن اثنتي عشرة سنة فهو كالرجل لأنه وجد دليله وهو محتمل للوجود وإن كان أقل من ذلك, فلا غسل عليه لأنه لا يحتمل فيتعين حمله على أنه من غيره فأما إن وجد الرجل منيا في ثوب ينام فيه هو وغيره ممن يحتلم, فلا غسل على واحد منهما لأن كل واحد منهما بالنظر إليه مفردا يحتمل أن لا يكون منه فوجوب الغسل عليه مشكوك فيه وليس لأحدهما أن يأثم بصاحبه لأن أحدهما جنب يقينا, فلا تصح صلاتهما كما لو سمع كل واحد منهما صوت ريح يظن أنها من صاحبه, أو لا يدري من أيهما هي.
فصل:
إذا وطئ امرأته دون الفرج فدب ماؤه إلى فرجها ثم خرج أو وطئها في الفرج, فاغتسلت ثم خرج ماء الرجل من فرجها فلا غسل عليها وبهذا قال قتادة والأوزاعي وإسحاق وقال الحسن: تغتسل لأنه مني خرج فأشبه ماءها والأول أولى لأنه ليس منيها, فأشبه غير المني.
مسألة:
قال: [ والتقاء الختانين] يعني: تغييب الحشفة في الفرج فإن هذا هو الموجب للغسل سواء كانا مختتنين أو لا, وسواء أصاب موضع الختان منه موضع ختانها أو لم يصبه ولو مس الختان الختان من غير إيلاج فلا غسل بالاتفاق واتفق الفقهاء على وجوب الغسل في هذه المسألة إلا ما حكي عن داود أنه قال: لا يجب لقوله عليه السلام (الماء من الماء) وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يقولون: لا غسل على من جامع فأكسل يعني: لم ينزل ورووا في ذلك أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانت رخصة رخص فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أمر بالغسل, قال سهل ابن سعد: حدثني أبي بن كعب (أن الماء من الماء كان رخصة أرخص فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم نهى عنها) متفق عليه ورواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي, وقال: حديث حسن صحيح وروي عن أبي موسى الأشعرى قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الماء الدافق أو من الماء وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل, فقال أبو موسى فأنا أشفيكم من ذلك فقمت فاستأذنت على عائشة فقلت: يا أماه, أو يا أم المؤمنين إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحييك, فقالت: لا تستحيي أن تسألني عن شيء كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك قلت: فما يوجب الغسل قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (إذا جلس بين شعبها الأربع, ومس الختان الختان فقد وجب الغسل) متفق عليه وفي حديث عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من خالف في ذلك جعلته نكالا وروى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا قعد بين شعبها الأربع, وجهدها فقد وجب عليه الغسل) متفق عليه زاد مسلم وإن لم ينزل " قال الأزهري أراد بين شعبتي رجليها وشعبتي شفريها وحديثهم منسوخ بدليل حديث سهل بن سعد والحمد لله.
فصل:
وإن أولج بعض الحشفة أو وطئ دون الفرج, أو في السرة ولم ينزل فلا غسل عليه لأنه لم يوجد التقاء الختانين ولا ما في معناه وإن انقطعت الحشفة, فأولج الباقي من ذكره وكان بقدر الحشفة وجب الغسل, وتعلقت به أحكام الوطء من المهر وغيره وإن كان أقل من ذلك لم يجب شيء
فصل:
فإن أولج في قبل خنثى مشكل, أو أولج الخنثى ذكره في فرج أو وطئ أحدهما الآخر في قبله فلا غسل على واحد منهما لأنه يحتمل أن تكون خلقة زائدة فإن أنزل الواطئ أو أنزل الموطوء من قبله, فعلى من أنزل الغسل ويثبت لمن أنزل من ذكره حكم الرجال ولمن أنزل من قبله حكم النساء لأن الله تعالى أجرى العادة بذلك في حق الرجال والنساء وذكر القاضي في موضع أنه لا يحكم له بالذكورية بالإنزال من ذكره, ولا بالأنوثية بالحيض من فرجه ولا بالبلوغ بهذا ولنا أنه أمر خص الله تعالى به أحد الصنفين فكان دليلا عليه, كالبول من ذكره أو من قبله ولأنه أنزل الماء الدافق لشهوة فوجب عليه الغسل لقوله عليه السلام: " الماء من الماء " وبالقياس على من تثبت له الذكورية أو الأنوثية.
فصل:
فإن كان الواطئ أو الموطوء صغيرا فقال أحمد يجب عليهما الغسل وقال: إذا أتى على الصبية تسع سنين ومثلها يوطأ, وجب عليها الغسل وسئل عن الغلام يجامع مثله ولم يبلغ فجامع المرأة يكون عليهما جميعا الغسل؟ قال: نعم قيل له: أنزل أو لم ينزل؟ قال: نعم وقال: ترى عائشة حين كان يطؤها النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن تغتسل, ويروى عنها: " إذا التقى الختانان وجب الغسل " وحمل القاضي كلام أحمد على الاستحباب وهو قول أصحاب الرأي وأبي ثور لأن الصغيرة لا يتعلق بها المأثم ولا هي من أهل التكليف ولا تجب عليها الصلاة التي تجب الطهارة لها فأشبهت الحائض ولا يصح حمل كلام أحمد على الاستحباب لتصريحه بالوجوب, وذمه قول أصحاب الرأي وقوله: هو قول سوء واحتج بفعل عائشة وروايتها للحديث العام في الصغير والكبير ولأنها أجابت بفعلها وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولها: فعلته أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا فكيف تكون خارجة منه وليس معنى وجوب الغسل في الصغير التأثيم بتركه بل معناه أنه شرط لصحة الصلاة, والطواف وإباحة قراءة القرآن واللبث في المسجد, وإنما يأثم البالغ بتأخيره في موضع يتأخر الواجب بتركه ولذلك لو أخره في غير وقت الصلاة لم يأثم, والصبي لا صلاة عليه فلم يأثم بالتأخير وبقي في حقه شرطا, كما في حق الكبير وإذا بلغ كان حكم الحدث في حقه باقيا كالحدث الأصغر, ينقض الطهارة في حق الكبير والصغير والله أعلم.
مسألة:
قال: [ وإذا أسلم الكافر] وجملته أن الكافر إذا أسلم وجب عليه الغسل سواء كان أصليا أو مرتدا, اغتسل قبل إسلامه أو لم يغتسل وجد منه في زمن كفره ما يوجب الغسل أو لم يوجد وهذا مذهب مالك وأبي ثور وابن المنذر وقال أبو بكر: يستحب الغسل, وليس بواجب إلا أن يكون قد وجدت منه جنابة زمن كفره فعليه الغسل إذا أسلم سواء كان قد اغتسل في زمن كفره أو لم يغتسل وهذا مذهب الشافعي ولم يوجب عليه أبو حنيفة الغسل بحال لأن العدد الكثير والجم الغفير أسلموا, فلو أمر كل من أسلم بالغسل لنقل نقلا متواترا أو ظاهرا ولأن (النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذا إلى اليمن قال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ولو كان الغسل واجبا لأمرهم به لأنه أول واجبات الإسلام ولنا: ما روى (قيس بن عاصم قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل بماء وسدر) رواه أبو داود, والنسائي وأمره يقتضي الوجوب وما ذكروه من قلة النقل فلا يصح ممن أوجب الغسل على من أسلم بعد الجنابة في شركه, فإن الظاهر أن البالغ لا يسلم منها ثم إن الخبر إذا صح كان حجة من غير اعتبار شرط آخر على أنه قد روي, أن سعد بن معاذ وأسيد بن حضير حين أرادا الإسلام, سألا مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قالا: نغتسل ونشهد شهادة الحق وهذا يدل على أنه كان مستفيضا ولأن الكافر لا يسلم غالبا من جنابة تلحقه ونجاسة تصيبه, وهو لا يغتسل ولا يرتفع حدثه إذا اغتسل فأقيمت مظنة ذلك مقام حقيقته, كما أقيم النوم مقام الحدث والتقاء الختانين مقام الإنزال.
فصل:
فإن أجنب الكافر ثم أسلم لم يلزمه غسل الجنابة, سواء اغتسل في كفره أو لم يغتسل وهذا قول من أوجب غسل الإسلام وقول أبي حنيفة وقال الشافعي عليه الغسل في الحالين وهذا اختيار أبي بكر لأن عدم التكليف لا يمنع وجوب الغسل كالصبا والجنون, واغتساله في كفره لا يرفع حدثه لأنه أحد الحدثين فلم يرتفع في حال كفره كالحدث الأصغر وحكي عن أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي أنه يرفع حدثه لأنه أصح نية من الصبي وليس بصحيح لأن الطهارة عبادة محضة فلم تصح من كافر, كالصلاة ولنا - على أنه لا يجب - أنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر أحدا بغسل الجنابة مع كثرة من أسلم من الرجال والنساء البالغين المتزوجين ولأن المظنة أقيمت مقام حقيقة الحدث فسقط حكم الحدث كالسفر مع المشقة.
فصل:
ويستحب أن يغتسل المسلم بماء وسدر كما في حديث قيس ويستحب إزالة شعره لأن (النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر رجلا أسلم, فقال: احلق وقال لآخر معه: ألق عنك شعر الكفر واختتن) رواه أبو داود وأقل أحوال الأمر الاستحباب.
مسألة:
قال: [ والطهر من الحيض والنفاس] قال ابن عقيل: هذا تجوز فإن الموجب للغسل في التحقيق هو الحيض والنفاس لأنه هو الحدث وانقطاعه شرط وجوب الغسل وصحته فسماه موجبا لذلك, وهذا كقولهم: انقطاع دم الاستحاضة مبطل للصلاة والمبطل إنما هو الحدث الخارج لكن عفي عنه للضرورة فإذا انقطع الدم زالت الضرورة, فظهر حكم الحدث حينئذ وأضيف الحكم إلى الانقطاع لظهوره عنده ولا خلاف في وجوب الغسل بالحيض والنفاس وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالغسل من الحيض في أحاديث كثيرة (فقال لفاطمة بنت أبي حبيش دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها, ثم اغتسلي وصلي) متفق عليه وأمر به في حديث أم سلمة وحديث عدي بن ثابت عن أبيه, عن جده رواهما أبو داود وغيره, وأمر به في حديث أم حبيبة وسهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش, وغيرهن وقد قيل في قول الله تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن} يعني: إذا اغتسلن منع الزوج وطأها قبل الغسل فدل على وجوبه عليها والنفاس كالحيض سواء فإن دم النفاس هو دم الحيض, وإنما كان في مدة الحمل ينصرف إلى غذاء الولد فحين خرج الولد خرج الدم لعدم مصرفه وسمي نفاسا
فصل:
فأما الولادة إذا عريت عن دم, فلا يجب فيها الغسل في ظاهر كلام الخرقي وقال غيره: فيها وجهان أحدهما يجب الغسل بها لأنها مظنة للنفاس الموجب فقامت مقامه في الإيجاب, كالتقاء الختانين ولأنها يستبرأ بها الرحم أشبهت الحيض ولأصحاب الشافعي وجهان كالوجهين والأول الصحيح فإن الوجوب بالشرع ولم يرد بالغسل ها هنا ولا هو في معنى المنصوص, فإنه ليس بدم ولا مني وإنما ورد الشرع بالإيجاب بهذين الشيئين وقولهم: إنه مظنة قلنا: المظان إنما يعلم جعلها مظنة بنص أو إجماع ولا نص في هذا ولا إجماع والقياس الآخر مجرد طرد لا معنى تحته, ثم قد اختلفا في أكثر الأحكام فليس تشبيهه به في هذا الحكم أولى من مخالفته في سائر الأحكام.
فصل:
إذا كان على الحائض جنابة فليس عليها أن تغتسل حتى ينقطع حيضها نص عليه أحمد, وهو قول إسحاق وذلك لأن الغسل لا يفيد شيئا من الأحكام فإن اغتسلت للجنابة في زمن حيضها صح غسلها, وزال حكم الجنابة نص عليه أحمد وقال: تزول الجنابة والحيض لا يزول حتى ينقطع الدم قال: ولا أعلم أحدا قال: لا تغتسل إلا عطاء, فإنه قال: الحيض أكبر قال: ثم نزل عن ذلك وقال: تغتسل وهذا لأن أحد الحدثين لا يمنع ارتفاع الآخر كما لو اغتسل المحدث الحدث الأصغر.
فصل:
ولا يجب الغسل من غسل الميت وبه قال ابن عباس وابن عمر وعائشة والحسن والنخعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر, وأصحاب الرأي وعن علي وأبي هريرة أنهما قالا: من غسل ميتا فليغتسل وبه قال سعيد بن المسيب وابن سيرين والزهري واختاره أبو إسحاق الجوزجاني لما روي عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من غسل ميتا فليغتسل, ومن حمل ميتا فليتوضأ) قال الترمذي: هذا حديث حسن وذكر أصحابنا رواية أخرى عن أحمد في وجوب الغسل على من غسل الميت الكافر خاصة لأن (النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر عليا أن يغتسل لما غسل أباه) ولنا قول صفوان بن عسال الرازي قال: (أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة) ولأنه غسل آدمي فلم يوجب الغسل كغسل الحي, وحديثهم موقوف على أبي هريرة قاله الإمام أحمد وقال ابن المنذر ليس في هذا حديث يثبت ولذلك لا يعمل به في وجوب الوضوء على من حمله وقد ذكر لعائشة قول أبي هريرة " ومن حمله فليتوضأ " قالت: وهل هي إلا أعواد حملها, ذكره الأثرم بإسناده ولا نعلم أحدا قال به في الوضوء من حمله وأما حديث على رضي الله عنه فقال أبو إسحاق الجوزجاني ليس فيه أنه غسل أبا طالب إنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اذهب فواره, ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني قال: فأتيته فأخبرته فأمرني فاغتسلت) وقد قيل: يجب الغسل من غسل الكافر الحي ولا نعلم لقائل هذا القول حجة توجبه وأهل العلم على خلافه.
فصل:
ولا يجب الغسل على المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا من غير احتلام, ولا أعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اغتسل من الإغماء وأجمعوا على أنه لا يجب ولأن زوال العقل في نفسه ليس بموجب للغسل ووجود الإنزال مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك, فإن تيقن منهما الإنزال فعليهما الغسل لأنه يكون من احتلام فيدخل في جملة الموجبات المذكورة ويستحب الغسل من جميع ما نفينا وجوب الغسل منه لوجود ما يدل عليه من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- له, والخروج من الخلاف.
مسألة:
قال: [ والحائض والجنب والمشرك إذا غمسوا أيديهم في الماء فهو طاهر] أما طهارة الماء فلا إشكال فيه إلا أن يكون على أيديهم نجاسة, فإن أجسامهم طاهرة وهذه الأحداث لا تقتضي تنجيسها قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر ثبت ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم, وغيرهم من الفقهاء وقالت عائشة عرق الحائض طاهر وكل ذلك قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي ولا يحفظ عن غيرهم خلافهم وقد روى (أبو هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه فاغتسلت ثم جئت فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة فقال: سبحان الله, إن المؤمن لا ينجس) متفق عليه وروي (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم إليه بعض نسائه قصعة ليتوضأ منها فقالت امرأة: إني غمست يدي فيها وأنا جنب فقال: الماء لا يجنب وقال لعائشة: ناوليني الخمرة من المسجد فقالت: إني حائض قال إن حيضتك ليست في يدك وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشرب من سؤر عائشة وهي حائض ويضع فاه على موضع فيها وتتعرق العرق, وهي حائض فيأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويضع فاه على موضع فيها وكانت تغسل رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي حائض وتوضأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من مزادة مشركة) متفق عليه وتوضأ عمر من جرة نصرانية (وأجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يهوديا دعاه إلى خبز وإهالة سنخة) ولأن الكفر معنى في قلبه, فلا يؤثر في نجاسة ظاهره كسائر ما في القلب والأصل الطهارة ويتخرج التفريق بين الكتابي الذي لا يأكل الميتة والخنزير وبين غيره ممن يأكل الميتة والخنزير, ومن لا تحل ذبيحتهم كما فرقنا بينهم في آنيتهم وثيابهم.
فصل:
وأما طهورية الماء فإن الحائض والكافر لا يؤثر غمسهما يديهما في الماء شيئا لأن حدثهما لا يرتفع وأما الجنب فإن لم ينو بغمس يده في الماء رفع الحدث منها فهو باق على طهوريته بدليل حديث المرأة التي قالت: غمست يدي في الماء وأنا جنب, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " الماء لا يجنب " ولأن الحدث لا يرتفع من غير نية فأشبه غمس الحائض وإن نوى رفع حدثها فحكم الماء حكم ما لو اغتسل الجنب فيه للجنابة وقال بعض أصحابنا: إذا نوى رفع الحدث, ثم غمس يده في الماء ليغترف بها صار الماء مستعملا والصحيح - إن شاء الله - أنه إذا نوى الاغتراف لم يصر مستعملا لأن قصد الاغتراف منع قصد غسلها على ما بيناه في المتوضئ إذا اغترف من الإناء بعد غسل وجهه وإن انقطع حيض المرأة ولم تغتسل, فهي كالجنب فيما ذكرنا من التفصيل وقد اختلف عن أحمد في هذا فقال في موضع في الجنب والحائض يغمس يده في الإناء: إذا كانا نظيفين, فلا بأس به وقال في موضع آخر: كنت لا أرى به بأسا ثم حدثت عن شعبة عن محارب بن دثار, عن ابن عمر وكأني تهيبته وسئل عن جنب وضع له ماء فأدخل يده ينظر حره من برده؟ قال: إن كان إصبعا فأرجو أن لا يكون به بأس وإن كانت اليد أجمع فكأنه كرهه وسئل عن الرجل يدخل الحمام, وليس معه أحد ولا ما يصب به على يده أترى له أن يأخذ بفمه؟ قال: لا, يده وفمه واحد وقياس المذهب ما ذكرناه وكلام أحمد محمول على الكراهة المجردة لما فيه من الخلاف وقال أبو يوسف: إن أدخل الجنب يده في الماء لم يفسد وإن أدخل رجله فسد لأن الجنب نجس, وعفي عن يده لموضع الحاجة وكره النخعي الوضوء بسؤر الحائض وقال جابر بن زيد لا يتوضأ به للصلاة وأكثر أهل العلم لا يرون بسؤرها بأسا منهم الحسن ومجاهد والزهري ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبو عبيد وقد دللنا على طهارة الجنب والحائض والتفريق بين اليد والرجل لا يصح لأنهما استويا فيما إذا أصابتهما نجاسة فاستويا في الجنابة, ويحتمل أن نقول به لأن اليد يراد بها الاغتراف وقصده هو المانع من جعل الماء مستعملا وهذا لا يوجد في الرجل لأنها لا يغترف بها فكان غمسها بعد إرادة الغسل استعمالا للماء والله أعلم
مسألة:
قال: [ ولا يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة إذا خلت بالماء] اختلفت الرواية عن أحمد, -رحمه الله- في وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت به والمشهور عنه: أنه لا يجوز ذلك وهو قول عبد الله بن سرجس والحسن وغنيم بن قيس وهو قول ابن عمر في الحائض والجنب قال أحمد: قد كرهه غير واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما إذا كان جميعا فلا بأس والثانية, يجوز الوضوء به للرجال والنساء اختارها ابن عقيل وهو قول أكثر أهل العلم لما روى مسلم في صحيحه قال: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يغتسل بفضل وضوء ميمونة وقالت ميمونة: اغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يغتسل, فقلت: إني قد اغتسلت منه فقال: الماء ليس على جنابة) ولأنه ماء طهور جاز للمرأة الوضوء به, فجاز للرجل كفضل الرجل ووجه الرواية الأولى ما روى الحكم بن عمرو (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) قال الترمذي: هذا حديث حسن ورواه أبو داود وابن ماجه: قال الخطابي: قال محمد بن إسماعيل: خبر الأقرع لا يصح والصحيح في هذا خبر عبد الله بن سرجس, وهو موقوف ومن رفعه فقد أخطأ قلنا: قد رواه أحمد واحتج به, وهذا يقدم على التضعيف لاحتمال أن يكون قد روي من وجه صحيح خفي على من ضعفه وأيضا فإنه قول جماعة من الصحابة قال أحمد: أكثر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون: إذا خلت بالماء فلا يتوضأ منه فأما حديث ميمونة فقد قال أحمد: أنفيه لحال سماك, ليس أحد يرويه غيره وقال: هذا فيه اختلاف شديد بعضهم يرفعه وبعضهم لا يرفعه ولأنه يحتمل أنها لم تخل به, فيجعل عليه جمعا بين الخبرين.
فصل:
واختلف أصحابنا في تفسير الخلوة به فقال الشريف أبو جعفر قولا يدل على أن الخلوة هي أن لا يحضرها من لا تحصل الخلوة في النكاح بحضوره, سواء كان رجلا أو امرأة أو صبيا عاقلا لأنها إحدى الخلوتين, فنافاها حضور أحد هؤلاء كالأخرى وقال القاضي: هي أن لا يشاهدها رجل مسلم فإن شاهدها صبي أو امرأة أو رجل كافر لم تخرج بحضورهم عن الخلوة وذهب بعض الأصحاب إلى أن الخلوة استعمالها للماء من غير مشاركة الرجل في استعماله لأن أحمد قال: إذا خلت به فلا يعجبني أن يغتسل هو به وإذا شرعا فيه جميعا فلا بأس به لقول عبد الله بن سرجس: اغتسلا جميعا هو هكذا, وأنت هكذا - قال عبد الواحد في إشارته: كان الإناء بينهما - وإذا خلت به فلا تقربنه رواه الأثرم وقد (كانت عائشة تغتسل هي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد يغترفان منه جميعا) متفق عليه فيخص بهذا عموم النهي وبقينا فيما عداه على العموم.
فصل:
فإن خلت به في بعض أعضائها, أو في تجديد طهارة أو استنجاء أو غسل نجاسة, ففيه وجهان: أحدهما المنع لأنه طهارة شرعية والثاني لا يمنع لأن الطهارة المطلقة تنصرف إلى طهارة الحدث الكاملة وإن خلت به ذمية في اغتسالها ففيه وجهان: أحدهما هو كخلوة المسلمة لأنها أدنى حالا من المسلمة وأبعد من الطهارة وقد تعلق بغسلها حكم, شرعي وهو حل وطئها إذا اغتسلت من الحيض وأمرها به إذا كان من جنابة والثاني لا يؤثر لأن طهارتها لا تصح فهي كتبردها وإن خلت المرأة بالماء في تبردها, أو تنظيفها أو غسل ثوبها من الوسخ لم يؤثر لأنه ليس بطهارة.
فصل:
وإنما تؤثر خلوتها في الماء القليل, وما بلغ القلتين لا تؤثر خلوتها فيه لأن حقيقة النجاسة والحدث لا تؤثر فيه فوهم ذلك أولى.
فصل:
ومنع الرجل من استعمال فضلة طهور المرأة تعبدي غير معقول المعنى نص عليه أحمد ولذلك يباح لامرأة سواها التطهر به في طهارة الحدث, وغسل النجاسة وغيرهما لأن النهي اختص الرجل ولم يعقل معناه فيجب قصره على محل النهي, وهل يجوز للرجل غسل النجاسة به؟ فيه وجهان: أحدهما لا يجوز وهو قول القاضي لأنه مانع لا يرفع حدثه فلم يزل النجس كسائر المائعات والثاني يجوز وهو الصحيح لأنه ماء يطهر المرأة من الحدث والنجاسة, ويزيلها من المحال كلها إذا فعلته فيزيلها إذا فعله الرجل كسائر المياه ولأنه ماء يزيل النجاسة بمباشرة المرأة فيزيلها إذا فعله الرجل, كسائر المياه والحديث لا نعقل علته فيقتصر على ما ورد به لفظه, ونحو هذا يحكى عن ابن أبي موسى والله أعلم.
باب الغسل من الجنابة مسألة:
قال أبو القاسم [ وإذا أجنب غسل ما به من أذى وتوضأ وضوءه للصلاة ثم أفرغ على رأسه ثلاثا, يروي أصول الشعر ثم يفيض الماء على سائر جسده] قال الفراء: يقال جنب الرجل وأجنب وتجنب واجتنب من الجنابة ولغسل الجنابة صفتان: صفة إجزاء, وصفة كمال فالذي ذكره الخرقي ها هنا صفة الكمال قال بعض أصحابنا: الكامل يأتي فيه بعشرة أشياء النية والتسمية, وغسل يديه ثلاثا وغسل ما به من أذى والوضوء, ويحثي على رأسه ثلاثا يروي بها أصول الشعر ويفيض الماء على سائر جسده ويبدأ بشقه الأيمن, ويدلك بدنه بيده وينتقل من موضع غسله فيغسل قدميه ويستحب أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه قال أحمد: الغسل من الجنابة على حديث عائشة وهو ما روي عنها, قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثا وتوضأ وضوءه للصلاة ثم يخلل شعره بيده, حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده) متفق عليه وقالت ميمونة: (وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وضوء الجنابة فأفرغ على يديه, فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره, ثم ضرب بيده الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا ثم تمضمض, واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض الماء على رأسه, ثم غسل جسده ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه فأتيته بالمنديل فلم يردها, وجعل ينفض الماء بيديه) متفق عليه وفي هذين الحديثين كثير من الخصال المسماة وأما البداية بشقه الأيمن فلأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب التيمن في طهوره وفي حديث عن عائشة (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب, فأخذ بكفيه ثم بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر, ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه) متفق عليه وأما غسل الرجلين بعد الغسل فقد اختلف عن أحمد في موضعه فقال في رواية: أحب إلي أن يغسلهما بعد الوضوء لحديث ميمونة وقال في رواية: العمل على حديث عائشة وفيه أنه توضأ للصلاة قبل اغتساله وقال في موضع: غسل رجليه في موضعه وبعده وقبله سواء ولعله ذهب إلى أن اختلاف الأحاديث فيه يدل على أن موضع الغسل ليس بمقصود, وإنما المقصود أصل الغسل والله تعالى أعلم.
مسألة:
قال: [ وإن غسل مرة وعم بالماء رأسه وجسده, ولم يتوضأ أجزأه بعد أن يتمضمض ويستنشق وينوي به الغسل والوضوء, وكان تاركا للاختيار] هذا المذكور صفة الإجزاء والأول هو المختار ولذلك قال: " وكان تاركا للاختيار " يعني إذا اقتصر على هذا أجزأه مع تركه للأفضل والأولى وقوله: " وينوي به الغسل والوضوء " يعني أنه يجزئه الغسل عنهما إذا نواهما نص عليه أحمد وعنه رواية أخرى: لا يجزئه الغسل عن الوضوء, حتى يأتي به قبل الغسل أو بعده وهو أحد قولي الشافعي لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك ولأن الجنابة والحدث وجدا منه فوجبت لهما الطهارتان كما لو كانا مفردين ولنا قول الله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} جعل الغسل غاية للمنع من الصلاة, فإذا اغتسل يجب أن لا يمنع منها ولأنهما عبادتان من جنس واحد فتدخل الصغرى في الكبرى كالعمرة في الحج قال ابن عبد البر: المغتسل من الجنابة إذا لم يتوضأ وعم جميع جسده, فقد أدى ما عليه لأن الله تعالى إنما افترض على الجنب الغسل من الجنابة دون الوضوء بقوله: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} وهو إجماع لا خلاف فيه بين العلماء, إلا أنهم أجمعوا على استحباب الوضوء قبل الغسل تأسيا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأنه أعون على الغسل وأهذب فيه وروي بإسناده, عن عائشة قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يتوضأ بعد الغسل من الجنابة فإن لم ينو الوضوء لم يجزه إلا عن الغسل فإن نواهما ثم أحدث في أثناء غسله أتم غسله, ويتوضأ) وبهذا قال عطاء وعمرو بن دينار والثوري ويشبه مذهب الشافعي وقال الحسن: يستأنف الغسل ولا يصح لأن الحدث لا ينافي الغسل فلا يؤثر وجوده فيه كغير الحدث.
فصل:
ولا يجب عليه إمرار يده على جسده في الغسل والوضوء, إذا تيقن أو غلب على ظنه وصول الماء إلى جميع جسده وهذا قول الحسن والنخعي والشعبي وحماد والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وقال مالك: إمرار يده إلى حيث تنال يده واجب ونحوه قال أبو العالية وقال عطاء في الجنب يفيض عليه الماء, قال: لا بل يغتسل غسلان لأن الله تعالى قال: {حتى تغتسلوا} ولا يقال: اغتسل إلا لمن دلك نفسه ولأن الغسل طهارة عن حدث فوجب إمرار اليد فيها, كالتيمم ولنا ما روت (أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي, أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) رواه مسلم ولأنه غسل واجب, فلم يجب فيه إمرار اليد كغسل النجاسة وما ذكروه في الغسل غير مسلم فإنه يقال: غسل الإناء وإن لم يمر يده, ويسمى السيل الكبير غاسولا والتيمم أمرنا فيه بالمسح لأنه طهارة بالتراب ويتعذر في الغالب إمرار التراب إلا باليد فإن قيل: فهذا الحديث لم تذكر فيه النية, وهي واجبة ولا المضمضة والاستنشاق وهما واجبان عندكم قلنا: أما النية فإنها سألته عن الجنابة, ولا يكون الغسل للجنابة إلا بالنية وأما المضمضة والاستنشاق فقد دخلا في عمومه لقوله: " ثم تفيضين عليك الماء " والفم والأنف من جملتها.
فصل:
ولا يجب الترتيب ولا الموالاة في أعضاء الوضوء إذا قلنا: الغسل يجزئ عنهما لأنهما عبادتان دخلت إحداهما في الأخرى فسقط حكم الصغرى, كالعمرة مع الحج نص على هذا أحمد قال حنبل: سألته عن جنب اغتسل وعليه خاتم ضيق؟ قال: يغسل موضع الخاتم قلت: فإن جف غسله؟ قال: يغسله ليس هو بمنزلة الوضوء, الوضوء محدود وهذا على الجملة قال الله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} قلت: فإن صلى ثم ذكر؟ قال: يغسل موضعه, ثم يعيد الصلاة وأكثر أهل العلم لا يرون تفريق الغسل مبطلا له إلا أن ربيعة قال: من تعمد ذلك فأرى عليه أن يعيد الغسل وبه قال الليث واختلف فيه عن مالك وفيه وجه لأصحاب الشافعي وما عليه الجمهور أولى لأنه غسل لا يجب فيه الترتيب, فلا تجب الموالاة كغسل النجاسة فلو اغتسل إلا أعضاء وضوئه, لم يجب الترتيب فيها لأن حكم الجنابة باق وقال ابن عقيل والآمدي فيمن غسل جميع بدنه إلا رجليه ثم أحدث: يجب الترتيب في الأعضاء الثلاثة لانفرادها بالحدث الأصغر, ولا يجب الترتيب في الرجلين لاجتماع الحدثين فيهما.
فصل:
إذا اجتمع شيئان يوجبان الغسل كالحيض والجنابة أو التقاء الختانين والإنزال, ونواهما بطهارته أجزأه عنهما قاله أكثر أهل العلم منهم عطاء وأبو الزناد وربيعة ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ويروى عن الحسن والنخعي, في الحائض الجنب يغتسل غسلين ولنا أن (النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يغتسل من الجماع إلا غسلا واحدا) وهو يتضمن شيئين إذ هو لازم للإنزال في غالب الأحوال ولأنهما سببان يوجبان الغسل, فأجزأ الغسل الواحد عنهما كالحدث والنجاسة وهكذا الحكم إن اجتمعت أحداث توجب الطهارة الصغرى كالنوم وخروج النجاسة, واللمس فنواها بطهارته أو نوى رفع الحدث أو استباحة الصلاة أجزأه عن الجميع وإن نوى أحدها, أو نوت المرأة الحيض دون الجنابة فهل تجزئه عن الآخر؟ على وجهين: أحدهما تجزئه عن الآخر لأنه غسل صحيح نوى به الفرض فأجزأه, كما لو نوى استباحة الصلاة والثاني يجزئه عما نواه دون ما لم ينوه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- " إنما لكل امرئ ما نوى " وكذلك لو اغتسل للجمعة هل تجزئه عن الجنابة؟ على وجهين مضى توجيههما فيما مضى.
فصل:
إذا بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء فروي عن أحمد أنه سئل عن حديث العلاء بن زياد (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اغتسل, فرأى لمعة لم يصبها الماء فدلكها بشعره) قال: نعم آخذ به ورواه ابن ماجه, عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وروي عن علي قال: (جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني اغتسلت من الجنابة, وصليت ثم أضحيت فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك) رواه ابن ماجه أيضا قال مهنا: وذكر لي أحمد, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه رأى على رجل موضعا لم يصبه الماء فأمره أن يعصر شعره عليه) وروي عن أحمد أنه قال: يأخذ ماء جديدا فيه حديث لا يثبت بعصر شعره وذكر له حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عصر لمته على لمعة كانت في جسده قال: ذاك ولم يصححه والصحيح أن ذلك يجزئه إذا كان من بلل الغسلة الثانية أو الثالثة, وجرى ماؤه على تلك اللمعة لأن غسلها بذلك البلل كغسلها بماء جديد مع ما فيه من الأحاديث والله أعلم.
مسألة:
قال [ ويتوضأ بالمد وهو رطل وثلث, ويغتسل بالصاع وهو أربعة أمداد] ليس في حصول الإجزاء بالمد في الوضوء والصاع في الغسل خلاف نعلمه وقد روى سفينة, قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغسله الصاع من الماء من الجنابة ويوضئه المد) رواه مسلم وروي أن قوما سألوا جابرا عن الغسل فقال: يكفيك صاع فقال رجل: ما يكفيني فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى شعرا منك وخير منك يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- متفق عليه وفيه أخبار كثيرة صحاح, والصاع: خمسة أرطال وثلث بالعراقي والمد: ربع ذلك وهو رطل وثلث وهذا قول مالك والشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي يوسف, وقال أبو حنيفة: الصاع ثمانية أرطال لأن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتوضأ بالمد - وهو رطلان - ويغتسل بالصاع) ولنا ما روي (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لكعب بن عجرة: أطعم ستة مساكين فرقا من طعام) متفق عليه قال أبو عبيد: ولا اختلاف بين الناس أعلمه في أن الفرق ثلاثة آصع والفرق ستة عشر رطلا فثبت أن الصاع خمسة أرطال وثلث وروي أن أبا يوسف دخل المدينة, فسألهم عن الصاع؟ فقالوا: خمسة أرطال وثلث فطالبهم بالحجة فقالوا: غدا فجاء من الغد سبعون شيخا كل واحد منهم آخذ صاعا تحت ردائه فقال: صاعي ورثته عن أبي, وورثه أبي عن جدي حتى انتهوا به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فرجع أبو يوسف عن قوله وهذا إسناد متواتر يفيد القطع وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المكيال مكيال أهل المدينة) ولم يثبت لنا تغييره, وحديث أنس هذا انفرد به موسى بن نصر وهو ضعيف الحديث قاله الدارقطني
فصل:
والرطل العراقي مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وهو تسعون مثقالا والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم هكذا كان قديما, ثم إنهم زادوا فيه مثقالا فجعلوه إحدى وتسعين مثقالا وكمل به مائة وثلاثون درهما وقصدوا بهذه الزيادة إزالة كسر الدرهم والعمل على الأول لأنه الذي كان موجودا وقت تقدير العلماء المد به, فيكون المد حينئذ مائة درهم وإحدى وسبعين درهما وثلاثة أسباع درهم وذلك بالرطل الدمشقي الذي وزنه ستمائة درهم, ثلاثة أواقي وثلاثة أسباع أوقية والصاع أربعة أمداد فيكن رطلا وأوقية وخمسة أسباع أوقية وإن شئت قلت: هو رطل وسبع رطل
مسألة:
قال: [ فإن أسبغ بدونهما أجزأه] معنى الإسباغ أن يعم جميع الأعضاء بالماء بحيث يجري عليها لأن هذا هو الغسل وقد أمرنا بالغسل: قال أحمد: إنما هو الغسل ليس المسح, فإذا أمكنه أن يغسل غسلا وإن كان مدا أو أقل من مد أجزأه وهذا مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم وقد قيل: لا يجزئ دون الصاع في الغسل والمد في الوضوء وحكي هذا عن أبي حنيفة لأنه روي عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يجزئ من الوضوء مد, ومن الجنابة صاع) والتقدير بهذا يدل على أنه لا يحصل الإجزاء بدونه ولنا أن الله تعالى أمر بالغسل وقد أتى به فيجب أن يجزئه, وقد روي عن عائشة (أنها كانت تغتسل هي والنبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك) رواه مسلم وعن عبد الله بن زيد, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- توضأ بثلثي مد وحديثهم إنما دل بمفهومه وهم لا يقولون به ثم إنه إنما يدل بشرط أن لا يكون للتخصيص فائدة سوى تخصيص الحكم به وهاهنا إنما خصه لأنه خرج مخرج الغالب لأنه لا يكفي في الغالب أقل من ذلك, ثم ما ذكرناه منطوق وهو مقدم على المفهوم اتفاقا وقد روى الأثرم عن القعنبي, عن سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن عطاء أنه سمع سعيد بن المسيب, ورجلا من أهل العراق يسأله عما يكفي الإنسان من غسل الجنابة؟ فقال سعيد: إن لي تورا يسع مدين من ماء ونحو ذلك فأغتسل به ويكفيني, ويفضل منه فضل فقال الرجل: فوالله إني لأستنثر وأتمضمض بمدين من ماء ونحو ذلك فقال سعيد بن المسيب: فبم تأمرني إن كان الشيطان يلعب بك؟ فقال له الرجل: فإن لم يكفني فإني رجل كما ترى عظيم فقال له سعيد بن المسيب: ثلاثة أمداد فقال: ثلاثة أمداد قليل فقال له سعيد فصاع وقال سعيد: إن لي ركوة أو قدحا ما يسع إلا نصف المد ماء أو نحوه ثم أبول ثم أتوضأ وأفضل منه فضلا قال عبد الرحمن: فذكرت هذا الحديث الذي سمعت من سعيد بن المسيب لسليمان بن يسار, فقال سليمان: وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبد الرحمن: فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة: وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال إبراهيم النخعي: إني لأتوضأ من كوز الحب مرتين.
فصل:
وإن زاد على المد في الوضوء والصاع في الغسل, جاز فإن عائشة قالت: (كنت أغتسل أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد من قدح يقال له الفرق) رواه البخاري والفرق ثلاثة آصع وعن أنس, قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) رواه البخاري أيضا ويكره الإسراف في الماء والزيادة الكثيرة فيه لما روينا من الآثار وروى عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بسعد, وهو يتوضأ فقال: (ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ فقال: نعم وإن كنت على نهر جار) رواه ابن ماجه وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن للوضوء شيطانا, يقال له ولهان فاتقوا وسواس الماء) وكان يقال: من قلة فقه الرجل ولوعه بالماء.
مسألة:
قال: [ وتنقض المرأة شعرها لغسلها من الحيض وليس عليها نقضه من الجنابة إذا أروت أصوله] نص على هذا أحمد قال مهنا: سألت أحمد عن المرأة تنقض شعرها إذا اغتسلت من الجنابة؟ فقال: لا فقلت له: في هذا شيء قال: نعم, حديث أم سلمة قلت: فتنقض شعرها من الحيض؟ قال: نعم قلت له: وكيف تنقضه من الحيضة ولا تنقضه من الجنابة؟ فقال حديث أسماء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال " لا تنقضه " ولا يختلف المذهب في أنه لا يجب نقضه من الجنابة, ولا أعلم فيه خلافا بين العلماء إلا ما روي عن عبد الله بن عمر وروى أحمد في " المسند ", حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن أبي الزبير, عن عبيد بن عمير قال (بلغ عائشة أن عبد الله بن عمر يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن فقالت: يا عجبا لابن عمر, يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن, لقد كنت أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- نغتسل فلا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات) واتفق الأئمة الأربعة على أن نقضه غير واجب وذلك لحديث (أم سلمة أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة؟ قال: لا, إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) رواه مسلم إلا أن يكون في رأسها حشو أو سدر يمنع وصول الماء إلى ما تحته, فيجب إزالته وإن كان خفيفا لا يمنع لم يجب, والرجل والمرأة في هذا سواء وإنما اختصت المرأة بالذكر لأن العادة اختصاصها بكثرة الشعر وتوفيره وتطويله وأما نقضه للغسل من الحيض فاختلف أصحابنا في وجوبه فمنهم من أوجبه, وهو قول الحسن وطاوس لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها إذ كانت حائضا: (خذي ماءك وسدرك وامتشطي) ولا يكون المشط إلا في شعر غير مضفور وللبخاري: (انقضي رأسك وامتشطي) ولابن ماجه: (انقضي شعرك واغتسلي) ولأن الأصل وجوب نقض الشعر ليتحقق وصول الماء إلى ما يجب غسله, فعفي عنه في غسل الجنابة لأنه يكثر فيشق ذلك فيه والحيض بخلافه فبقي على مقتضى الأصل في الوجوب وقال بعض أصحابنا: هذا مستحب غير واجب وهو قول أكثر الفقهاء, وهو الصحيح إن شاء الله لأن في بعض ألفاظ حديث (أم سلمة أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للحيضة وللجنابة؟ فقال: لا, إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) رواه مسلم وهذه زيادة يجب قبولها, وهذا صريح في نفي الوجوب وروت، (أسماء أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن غسل المحيض فقال: تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور, ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى تبلغ شؤون رأسها, ثم تصب عليها الماء) رواه مسلم ولو كان النقض واجبا لذكره لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولأنه موضع من البدن فاستوى فيه الحيض والجنابة كسائر البدن, وحديث عائشة الذي رواه البخاري ليس فيه أمر بالغسل, ولو أمرت بالغسل لم يكن فيه حجة لأن ذلك ليس هو غسل الحيض إنما أمرت بالغسل في حال الحيض للإحرام بالحج فإنها قالت: أدركني يوم عرفة وأنا حائض, فشكوت ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: " دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي " وإن ثبت الأمر بالغسل حمل على الاستحباب, بما ذكرنا من الحديث وفيه ما يدل على الاستحباب لأنه أمرها بالمشط وليس بواجب, فما هو من ضرورته أولى.
فصل:
وغسل بشرة الرأس واجب سواء كان الشعر كثيفا أو خفيفا وكذلك كل ما تحت الشعر, كجلد اللحية وغيرها لما روت (أسماء أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن غسل الجنابة, فقال: تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور, أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شؤون رأسها, ثم تفيض عليها الماء) وعن علي رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل به من النار كذا وكذا) قال علي: فمن ثم عاديت شعري قال: وكان يجز شعره رواه أبو داود ولأن ما تحت الشعر بشرة أمكن إيصال الماء إليها من غير ضرر فلزمه كسائر بشرته.
فصل:
فأما غسل ما استرسل من الشعر وبل ما على الجسد منه, ففيه وجهان: أحدهما يجب وهو ظاهر قول الأصحاب ومذهب الشافعي لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (تحت كل شعرة جنابة, فبلوا الشعر وأنقوا البشرة) رواه أبو داود وغيره ولأنه شعر نابت في محل الغسل, فوجب غسله كشعر الحاجبين وأهداب العينين والثاني لا يجب ويحتمله كلام الخرقي, وهو قول أبي حنيفة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات " مع إخبارها إياه بشد ضفر رأسها ومثل هذا لا يبل الشعر المشدود ضفره في العادة ولأنه لو وجب بله لوجب نقضه ليعلم أن الغسل قد أتى عليه ولأن الشعر ليس من أجزاء الحيوان بدليل أنه لا ينجس بموته, ولا حياة فيه ولا ينقض الوضوء مسه من المرأة ولا تطلق بطلاقه, فلم يجب غسله للجنابة كثيابها وأما حديث: " بلوا الشعر " فيرويه الحارث بن وجيه وحده وهو ضعيف الحديث عن مالك بن دينار وأما الحاجبان فيجب غسلهما لأن من ضرورة غسل بشرتهما غسلهما وكذا كل شعر من ضرورة غسل بشرته غسله فيجب غسله ضرورة أن الواجب لا يتم إلا به وإن قلنا بوجوب غسله, فترك غسل بعضه لم يتم غسله فإن قطع المتروك ثم غسله لأنه لم يبق في بدنه شيء غير مغسول, ولو غسله ثم انقطع لم يجب غسل موضع القطع ولم يقدح ذلك في غسله.
فصل:
وغسل الحيض كغسل الجنابة, إلا في نقض الشعر وأنه يستحب أن تغتسل بماء وسدر وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها مجرى الدم, والموضع الذي يصل إليه الماء من فرجها ليقطع عنها زفورة الدم ورائحته فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب فإن لم تجد فالماء شاف كاف قالت عائشة رضي الله عنها الله عنها (إن أسماء سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن غسل المحيض, قال: تأخذ إحداكن سدرتها وماءها فتطهر فتحسن الطهور ثم تأخذ فرصة ممسكة, فتتطهر بها فقالت أسماء: وكيف أتطهر بها؟ فقال: سبحان الله تطهري بها فقالت عائشة كأنها تخفي ذلك: تتبعي أثر الدم) رواه مسلم الفرصة: هي القطعة من كل شيء.
فصل:
ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أو يطأ ثانيا, أو يأكل أن يغسل فرجه ويتوضأ وروي ذلك عن علي وعبد الله بن عمر, وكان عبد الله بن عمر يتوضأ إلا غسل قدميه وقال ابن المسيب: إذا أراد أن يأكل يغسل كفيه ويتمضمض وحكي نحوه عن إمامنا وإسحاق وأصحاب الرأي وقال مجاهد: يغسل كفيه لما روي عن عائشة (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يأكل وهو جنب, غسل يديه) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه, وقال مالك يغسل يديه إن كان أصابهما أذى وقال ابن المسيب وأصحاب الرأي: ينام ولا يمس ماء لما روى الأسود عن عائشة قالت: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ينام, وهو جنب ولا يمس ماء) رواه أبو داود وابن ماجه, وغيرهما وروى أحمد في " المسند ": حدثنا أبو بكر بن عياش حدثنا الأعمش, عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة, قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجنب ثم ينام ولا يمس ماء حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل) وروي (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يطوف على نسائه بغسل واحد) رواه البخاري ولأنه حدث يوجب الغسل, فلا يستحب الوضوء مع بقائه كالحيض ولنا ما روي أن عمر سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم, إذا توضأ) متفق عليه وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) رواه مسلم وعن عائشة (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يأكل أو ينام, توضأ يعني وهو جنب) رواه أبو داود فأما حديث عائشة: (ينام وهو جنب ولا يمس ماء) فرواه أبو إسحاق, عن الأسود عن عائشة ورواه غير واحد عن الأسود, عن عائشة (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ قبل أن ينام) رواه شعبة والثوري ويرون أنه غلط من أبي إسحاق قال أحمد: أبو إسحاق روى عن الأسود حديثا خالف فيه الناس, فلم يقل أحد عن الأسود مثل ما قد قال فلو أحاله على غير الأسود والحديث الآخر ليس فيه أنه لم يتوضأ حين أراد أن يعود, على أن هذه الأحاديث محمولة على الجواز وأحاديثنا تدل على الاستحباب فالحائض حدثها قائم, فلا وضوء مع ما ينافيه فلا معنى للوضوء.
فصول في الحمام
بناء الحمام وبيعه, وشراؤه وكراؤه مكروه عند أبي عبد الله قال في الذي يبني حماما للنساء: ليس بعدل قال أبو داود: سألت أحمد عن كري الحمام؟ قال: أخشى كأنه كرهه وقيل له, فإن اشترط على المكتري أن لا يدخله أحد بغير إزار فقال: ويضبط هذا؟ وكأنه لم يعجبه وإنما كرهه لما فيه من فعل المنكرات من كشف العورات ومشاهدتها, ودخول النساء إياه
فصل:
فأما دخوله فإن كان الداخل رجلا يسلم من النظر إلى العورات ونظر الناس إلى عورته فلا بأس بدخوله فإنه يروى أن ابن عباس دخل حماما بالجحفة ويروى ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويروى عن خالد بن الوليد أنه دخل الحمام وكان الحسن وابن سيرين يدخلان الحمام رواه الخلال وإن خشي أن لا يسلم من ذلك, كره له ذلك لأنه لا يأمن وقوعه في المحظور فإن كشف العورة ومشاهدتها حرام بدليل ما روى بهز بن حكيم, عن أبيه عن جده أنه قال: يا رسول الله (عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك, إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قال يا رسول الله فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) (وقال عليه السلام: لا تمشوا عراة) رواهما مسلم قال أحمد: إن علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فادخله, وإلا فلا تدخل وقال سعيد بن جبير: دخول الحمام بغير إزار حرام
فصل:
فأما النساء فليس لهن دخوله مع ما ذكرنا من الستر إلا لعذر من حيض, أو نفاس أو مرض أو حاجة إلى الغسل, ولا يمكنها أن تغتسل في بيتها لتعذر ذلك عليها أو خوفها من مرض أو ضرر, فيباح لها ذلك إذا غضت بصرها وسترت عورتها وأما مع عدم العذر, فلا لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها حمامات, فامنعوا نساءكم إلا حائضا أو نفساء) وروي (أن عائشة دخل عليها نساء من أهل حمص فقالت: لعلكن من النساء اللائي يدخلن الحمامات, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت سترها بينها وبين الله عز وجل).
فصل:
ومن اغتسل عريانا بين الناس لم يجز له ذلك لأن كشفها للناس محرم لما ذكرنا, وإن كان خاليا جاز لأن موسى عليه السلام اغتسل عريانا رواه البخاري وأيوب عليه السلام, اغتسل عريانا وإن ستره إنسان بثوب فلا بأس فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستتر بثوب ويغتسل, ويستحب التستر وإن كان خاليا (لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس).
فصل:
ويجزئه الغسل بماء الحمام قال الخلال: ثبت عن أصحاب أبي عبد الله أن ماء الحمام يجزئ أن يغتسل به, ولا يغتسل منه وذلك أن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك وقال أحمد: لا بأس بالوضوء من ماء الحمام وروي عنه أنه قال: لا بأس أن يأخذ من الأنبوبة وهذا على سبيل الاحتياط ولو لم يفعله جاز لأن الأصل الطهارة, وقد قال أحمد: ماء الحمام عندي طاهر وهو بمنزلة الماء الجاري وقد روى عنه الأثرم أنه قال: من الناس من يشدد فيه, ومنهم من يقول: هو بمنزلة الماء الجاري لأنه ينزف يخرج الأول فالأول قلت: يكون كالجاري وهو يستقر في مكان قبل أن يخرج؟, فقال: قد قلت لك فيه اختلاف وأراه قد ظهر منه أنه يستحب أن يحتاط بماء آخر ولم يبين له ذلك وهذا يدل على أن الماء الجاري لا ينجسه إلا التغير لأنه لو كان يتنجس لم يكن لكونه جاريا أثر ويدل أيضا على استحبابه الاحتياط مع الحكم بطهارة الماء لأن ماء الحمام طاهر لما ذكرنا من قبل وإنما جعله بمنزلة الماء الجاري إذا كان الماء يفيض من الحوض ويخرج, فإن الذي يأتي أخيرا يدفع ما في الحوض ويثبت في مكانه بدليل أنه لو كان ما في الحوض كدرا, وتتابعت عليه دفع من الماء صافيا لزالت كدورته والله أعلم.
فصل:
ولا بأس بذكر الله في الحمام فإن ذكر الله حسن في كل مكان, ما لم يرد المنع منه وقد روي أن أبا هريرة دخل الحمام فقال: لا إله إلا الله وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يذكر الله على كل أحيانه فأما قراءة القرآن فقال أحمد: لم يبن لهذا وكره قراءة القرآن فيه أبو وائل, والشعبي والحسن ومكحول وقبيصة بن ذؤيب ولم يكرهه النخعي, ومالك لما ذكرنا في ذكر الله فيه ووجه الأول أنه محل للتكشف ويفعل فيه ما لا يستحسن عمله في غيره, فاستحب صيانة القرآن عنه والأولى جواز القراءة فيه لأننا لا نعلم فيه حجة تمنع من قراءته فأما التسليم فيه فقال أحمد: لا أعلم أنني سمعت فيه شيئا والأولى جوازه لدخوله في عموم قوله عليه السلام: (أفشوا السلام بينكم).
فصل:
قال أحمد: لا يعجبني أن يدخل الماء إلا مستترا إن للماء سكانا وذلك لما روي عن الحسن والحسين أنهما دخلا الماء, وعليهما بردان فقيل لهما في ذلك فقالا: إن للماء سكانا ولأن الماء لا يستر, فتبدو عورة من دخله عريانا باب التيمم التيمم في اللغة القصد قال الله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} وقال امرؤ القيس: تيممت للعين التي عند ضارج ** يفيء عليها الظل عرمضها طامي وقال الله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} أي: اقصدوه ثم نقل في عرف الفقهاء إلى مسح الوجه واليدين بشيء من الصعيد وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} وأما السنة, فحديث عمار وغيره وأما الإجماع فأجمعت الأمة على جواز التيمم في الجملة.
مسألة:
قال: أبو القاسم [ ويتيمم في قصير السفر وطويله] طويل السفر: ما يبيح القصر والفطر, وقصيره: ما دون ذلك مما يقع عليه اسم سفر مثل أن يكون بين قريتين متقاربتين أو متباعدتين قال القاضي: لو خرج إلى ضيعة له, ففارق البنيان والمنازل ولو بخمسين خطوة جاز له التيمم والصلاة على الراحلة, وأكل الميتة للضرورة فيباح له التيمم فيهما جميعا وهذا قول مالك والشافعي وقد قيل: لا يباح إلا في السفر الطويل وقول الله عز وجل: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} إلى قوله: {فتيمموا} يدل بمطلقه على إباحة التيمم في كل سفر ولأن السفر القصير يكثر فيكثر عدم الماء فيه, فيحتاج إلى التيمم فيه فينبغي أن يسقط به الفرض كالطويل.
فصل:
ولا فرق بين سفر الطاعة والمعصية لأن التيمم عزيمة فلا يجوز تركه بخلاف بقية الرخص ولأنه حكم لا يختص بالسفر, فأبيح في سفر المعصية كمسح يوم وليلة.
فصل:
فإن عدم الماء في الحضر بأن انقطع الماء عنهم, أو حبس في مصر فعليه التيمم والصلاة وهذا قول مالك والثوري, والأوزاعي والشافعي وقال أبو حنيفة, في رواية عنه: لا يصلي لأن الله تعالى شرط السفر لجواز التيمم فلا يجوز لغيره وقد روي عن أحمد: أنه سئل عن رجل حبس في دار, وأغلق عليه الباب بمنزل المضيف أيتيمم؟ قال: لا ولنا ما روى أبو ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الصعيد الطيب طهور المسلم, وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح فيدخل تحت عمومه محل النزاع ولأنه عادم للماء فأشبه المسافر والآية يحتمل أن يكون ذكر السفر فيها خرج مخرج الغالب لأن الغالب أن الماء إنما يعدم فيه كما ذكر, في السفر وعدم وجود الكاتب في الرهن وليسا شرطين فيه, ولو كان حجة فالمنطوق مقدم عليه على أن أبا حنيفة لا يرى دليل الخطاب حجة والآية إنما يحتج بدليل خطابها فعلى هذا إذا تيمم في الحضر, وصلى ثم قدر على الماء فهل يعيد؟ على روايتين إحداهما يعيد وهو مذهب الشافعي لأن هذا عذر نادر, فلا يسقط به القضاء كالحيض في الصوم والثانية لا يعيد وهو مذهب مالك لأنه أتى بما أمر به فخرج من عهدته ولأنه صلى بالتيمم المشروع على الوجه المشروع, فأشبه المريض والمسافر مع أن عموم الخبر يدل عليه وقال أبو الخطاب: إن حبس في المصر صلى ولم يذكر إعادة وذكر الروايتين في غيره ويحتمل أنه إن كان عدم الماء لعذر نادر أو يزول قريبا, كرجل أغلق عليه الباب مثل الضيف ونحوه أو ما أشبه هذا من الأعذار التي لا تتطاول فعليه الإعادة لأن هذا بمنزلة المتشاغل بطلب الماء وتحصيله وإن كان عذرا ممتدا, ويوجد كثيرا كالمحبوس أو من انقطع الماء في قريته, واحتاج إلى استقاء الماء من مسافة بعيدة فله التيمم ولا إعادة عليه لأن هذا عادم للماء بعذر متطاول معتاد, فهو كالمسافر ولأن عدم هذا الماء أكثر من عدم المسافر له فالنص على التيمم للمسافر تنبيه على التيمم ها هنا والله أعلم.
فصل:
ومن خرج من المصر إلى أرض من أعماله لحاجة كالحراث, والحصاد والحطاب والصياد, وأشباههم ممن لا يمكنه حمل الماء معه لوضوئه فحضرت الصلاة ولا ماء معه ولا يمكنه الرجوع ليتوضأ إلا بتفويت حاجته, فله أن يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه لأنه مسافر فأشبه الخارج إلى قرية أخرى ويحتمل أن يلزمه الإعادة لكونه في أرض من أعمال المصر, فأشبه المقيم فيه فإن كانت الأرض التي يخرج إليها من عمل قرية أخرى فلا إعادة عليه وجها واحدا لأنه مسافر.
مسألة:
قال: [ إذا دخل وقت الصلاة وطلب الماء فأعوزه] هذه ثلاثة شروط لصحة التيمم: أحدها دخول وقت الصلاة فإن كانت الصلاة مكتوبة مؤداة لم يجز التيمم قبل دخول وقتها وإن كانت نافلة لم يجز التيمم لها في وقت نهي عن فعلها فيه لأنه ليس بوقت لها وإن كانت فائتة جاز التيمم له في كل وقت لأن فعلها جائز في كل وقت وبهذا قال مالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: يصح التيمم قبل وقت الصلاة لأنها طهارة تبيح الصلاة فأبيح تقديمها على وقت الصلاة كسائر الطهارات وروي عن أحمد, أنه قال: القياس أن التيمم بمنزلة الطهارة حتى يجد الماء أو يحدث فعلى هذا يجوز قبل الوقت والمذهب الأول لأنه طهارة ضرورة فلم يجز قبل الوقت كطهارة المستحاضة, أو نقول: يتيمم للفرض في وقت هو مستغن عنه فأشبه ما لو تيمم عند وجود الماء وقياسهم ينتقض بطهارة المستحاضة ويفارق التيمم سائر الطهارات لكونها ليست لضرورة الشرط الثاني طلب الماء, وهذا الشرط وإعواز الماء إنما يشترط لمن يتيمم لعذر عدم الماء والمشهور عن أحمد اشتراط طلب الماء لصحة التيمم وهو مذهب الشافعي وروي عن أحمد: لا يشترط الطلب وهو مذهب أبي حنيفة (لقوله عليه السلام: التراب كافيك ما لم تجد الماء) ولأنه غير عالم بوجود الماء قريبا منه فأشبه ما لو طلب فلم يجد ولنا قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ولا يثبت أنه غير واجد إلا بعد الطلب لجواز أن يكون بقربه ماء لا يعلمه ولذلك لما أمر في الظهار بتحرير رقبة قال: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} لم يبح له الصيام حتى يطلب الرقبة, ولم يعد قبل ذلك غير واجد ولأنه سبب للصلاة مختص بها فلزمه الاجتهاد في طلبه عند الإعواز كالقبلة.
فصل:
وصفة الطلب أن يطلب في رحله, ثم إن رأى خضرة أو شيئا يدل على الماء قصده فاستبرأه وإن كان بقربه ربوة أو شيء قائم أتاه وطلب عنده وإن لم يكن نظر أمامه ووراءه, وعن يمينه ويساره وإن كانت له رفقة يدل عليهم طلب منهم وإن وجد من له خبرة بالمكان سأله عن مياهه, فإن لم يجد فهو عادم وإن دل على ماء لزمه قصده إن كان قريبا ما لم يخف على نفسه أو ماله أو يخشى فوات رفقته, ولم يفت الوقت وهذا مذهب الشافعي
فصل:
فإن طلب الماء قبل الوقت فعليه إعادة الطلب بعده قاله ابن عقيل لأنه طلب قبل المخاطبة بالتيمم فلم يسقط فرضه, كالشفيع إذا طلب الشفعة قبل البيع وإن طلب بعد الوقت ولم يتيمم عقيبه جاز التيمم بعد ذلك من غير تجديد طلب الشرط الثالث: إعواز الماء بعد الطلب ولا خلاف في اشتراطه لأن الله تعالى قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (وقال عليه السلام: التراب كافيك ما لم تجد الماء) فاشترط أن لا يجد الماء ولأن التيمم طهارة ضرورة, لا يرفع الحدث فلا يجوز إلا عند الضرورة ومع وجود الماء لا ضرورة.
فصل:
وإذا وجد الجنب ما يكفي بعض أعضائه, لزمه استعماله ويتيمم للباقي نص عليه أحمد فيمن وجد ما يكفيه لوضوئه وهو جنب, قال: يتوضأ ويتيمم وبه قال عبدة بن أبي لبابة ومعمر ونحوه قال عطاء وهو أحد قولي الشافعي وقال الحسن, والزهري وحماد ومالك, وأصحاب الرأي وابن المنذر والشافعي في القول الثاني: يتيمم ويتركه لأن هذا الماء لا يطهره, فلم يلزمه استعماله كالمستعمل ولنا قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وخبر أبي ذر شرط في التيمم عدم الماء, وهذا واجد وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري ولأنه وجد من الماء ما يمكنه استعماله في بعض جسده فلزمه ذلك كما لو كان أكثر بدنه صحيحا وباقيه جريحا ولأنه قدر على بعض الشرط فلزمه كالسترة, وإزالة النجاسة وإذا كان أكثر بدنه صحيحا ولا يسلم الحكم في المستعمل, وإن سلمنا فلأنه لا يطهر شيئا منه بخلاف هذا إذا ثبت هذا فإنه يستعمل الماء قبل التيمم ليتحقق الإعواز المشترط.
فصل:
وإن وجد المحدث الحدث الأصغر بعض ما يكفيه فهل يلزمه استعماله؟ على وجهين: أحدهما يلزمه استعماله لما ذكرنا في الجنب ولأنه قدر على بعض الطهارة بالماء, فلزمه كالجنب وكما لو كان بعض بدنه صحيحا وبعضه جريحا والثاني لا يلزمه لأن الموالاة شرط فيها, فإذا غسل بعض الأعضاء دون بعض لم يفد بخلاف الجنابة, ولذلك إذا وجد الماء أجزأه غسل ما لم يغسله فقط وفي الحدث يلزمه استئناف الطهارة وفارق ما إذا كان بعض أعضائه صحيحا وبعضه جريحا لأن العجز ببعض البدن يخالف العجز ببعض الواجب, بدليل أن من بعضه حر إذا ملك رقبة لزمه إعتاقها في كفارته ولو ملك الحر بعض رقبة لم يلزمه إعتاقه وللشافعي قولان كالوجهين.
فصل:
ومن حال بينه وبين الماء سبع أو عدو, أو حريق أو لص فهو كالعادم ولو كان الماء بمجمع الفساق, تخاف المرأة على نفسها منهم فهي عادمته وقد توقف أحمد عن هذه المسألة وقال ابن أبي موسى: تتيمم, ولا إعادة عليها في أصح الوجهين والصحيح أنها تتيمم ولا إعادة عليها وجها واحدا, بل لا يحل لها المضي إلى الماء لما فيه من التعرض للزنا وهتك نفسها وعرضها وتنكيس رءوس أهلها, وربما أفضى إلى قتلها وقد أبيح لها التيمم حفظا للقليل من مالها المباح لها بذله, وحفظا لنفسها من مرض أو تباطؤ برء فهاهنا أولى ومن كان في موضع عند رحله فخاف إن ذهب إلى الماء ذهب شيء من رحله, أو شردت دابته أو سرقت أو خاف على أهله لصا, أو سبعا خوفا شديدا فهو كالعادم ومن كان خوفه جبنا, لا عن سبب يخاف من مثله لم تجزه الصلاة بالتيمم نص عليه أحمد في رجل يخاف بالليل, وليس شيء يخاف منه قال: لا بد من أن يتوضأ ويحتمل أن تباح له بالتيمم ويعيد إذا كان ممن يشتد خوفه لأنه بمنزلة الخائف لسبب ومن كان خوفه لسبب ظنه, فتبين عدم السبب مثل من رأى سوادا بالليل ظنه عدوا فتبين له أنه ليس بعدو, أو رأى كلبا فظنه أسدا أو نمرا فتيمم وصلى ثم بان خلافه, فهل يلزمه الإعادة؟ على وجهين: أحدهما لا يلزمه الإعادة لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته والثاني يلزمه الإعادة لأنه تيمم من غير سبب يبيح التيمم فأشبه من نسي الماء في رحله, وتيمم.
فصل:
ومن كان مريضا لا يقدر على الحركة ولا يجد من يناوله الماء فهو كالعادم قاله ابن أبي موسى وهو قول الحسن لأنه لا سبيل له إلى الماء فأشبه من وجد بئرا ليس له ما يستقي به منها وإن كان له من يناوله الماء قبل خروج الوقت, فهو كالواجد لأنه بمنزلة من يجد ما يستقي به في الوقت وإن خاف خروج الوقت قبل مجيئه فقال ابن أبي موسى: له التيمم ولا إعادة عليه وهو قول الحسن لأنه عادم في الوقت, فأشبه العادم مطلقا ويحتمل أن ينتظر مجيء من يناوله لأنه حاضر ينتظر حصول الماء قريبا فأشبه المشتغل باستقاء الماء وتحصيله.
فصل:
إذا وجد بئرا, وقدر على التوصل إلى مائها بالنزول من غير ضرر أو الاغتراف بدلو أو ثوب يبله ثم يعصره لزمه ذلك وإن خاف فوت الوقت لأن الاشتغال به كالاشتغال بالوضوء وحكم من في السفينة في الماء كحكم واجد البئر, وإن لم يمكنه الوصول إلى مائها إلا بمشقة أو تغرير بالنفس فهو كالعادم وهذا قول الثوري, والشافعي ومن تبعهم ومن كان الماء قريبا منه يمكنه تحصيله, إلا أنه يخاف فوت الوقت لزمه السعي إليه والاشتغال بتحصيله وإن فات الوقت لأنه واجد للماء, فلا يباح له التيمم لقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}.
فصل:
وإن بذل له ماء لطهارته لزمه قبوله لأنه قدر على استعماله ولا منة في ذلك في العادة وإن لم يجده إلا بثمن لا يقدر عليه, فبذل له الثمن لم يلزمه قبوله لأن المنة تلحق به وإن وجده يباع بثمن مثله في موضعه أو زيادة يسيرة, يقدر على ذلك مع استغنائه عنه لقوته ومؤنة سفره, لزمه شراؤه وإن كانت الزيادة كثيرة تجحف بماله لم يلزمه شراؤه لأن عليه ضررا وإن كانت كثيرة لا تجحف بماله, فقد توقف أحمد فيمن بذل له ماء بدينار ومعه مائة فيحتمل إذن وجهين: أحدهما يلزمه شراؤه لأنه واجد للماء قادر عليه, فيلزمه استعماله بدلالة قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} والثاني لا يلزمه شراؤه لأن عليه ضررا في الزيادة الكثيرة فلم يلزمه بذلها كما لو خاف لصا يأخذ من ماله ذلك المقدار وقال الشافعي: لا يلزمه شراؤه بزيادة يسيرة ولا كثيرة لذلك ولنا قول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وهذا واجد, فإن القدرة على ثمن العين كالقدرة على العين في المنع من الانتقال إلى البدل بدليل ما لو بيعت بثمن مثلها, وكالرقبة في كفارة الظهار ولأن ضرر المال دون ضرر النفس وقد قالوا في المريض: يلزمه الغسل ما لم يخف التلف فتحمل الضرر اليسير في المال أحرى فإن لم يكن معه ثمنه فبذل له بثمن في الذمة يقدر على أدائه في بلده, فقال القاضي: يلزمه شراؤه لأنه قادر على أخذه بما لا مضرة فيه وقال أبو الحسن الآمدي: لا يلزمه شراؤه لأن عليه ضررا في بقاء الدين في ذمته وربما يتلف ماله قبل أدائه وإن لم يكن في بلده ما يؤدي ثمنه لم يلزمه شراؤه لأن عليه ضررا وإن لم يبذله له, وكان فاضلا عن حاجته لم يجز له مكاثرته عليه لأن الضرورة لا تدعو إليه لأن هذا له بدل وهو التيمم, بخلاف الطعام في المجاعة.
فصل:
فصل : إذا كان معه ماء ، فأراقه قبل الوقت ، أو مر بماء قبل الوقت ، فتجاوزه ، وعدم الماء في الوقت ، صلى بالتيمم من غير إعادة . وبه يقول الشافعي ، وقال الأوزاعي ، إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت ، كقولنا ، وإلا صلى بالتيمم ، وعليه الإعادة ؛ لأنه مفرط . ولنا ، أنه لم يجب عليه استعماله . فأشبه ما لو ظن أنه يدرك الماء في الوقت . وإن أراق الماء في الوقت ، أو مر به في الوقت فلم يستعمله ، ثم عدم الماء ، يتيمم ويصلي . وفي الإعادة وجهان : أحدهما لا يعيد ؛ لأنه صلى بتيمم صحيح ، تحققت شرائطه ، فهو كما لو أراقه قبل الوقت . والثاني يعيد ؛ لأنه وجبت عليه الصلاة بوضوء ، وهو قد فوت القدرة على نفسه ، فبقي في عهدة الواجب ، وإن وهبه بعد دخول الوقت لم تصح الهبة ، والماء باق على ملكه ، فلو تيمم مع بقاء الماء ، لم يصح تيممه . وإن تصرف فيه الموهوب له ، فهو كما لو أراقه .
فصل:
إذا نسي الماء في رحله أو موضع يمكنه استعماله وصلى بالتيمم فقد توقف أحمد, -رحمه الله- في هذه المسألة وقطع في موضع أنه لا يجزئه وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة وأبو ثور: يجزئه وعن مالك كالمذهبين لأنه مع النسيان غير قادر على استعمال الماء, فهو كالعادم ولنا أنها طهارة تجب مع الذكر فلم تسقط بالنسيان كما لو صلى ناسيا لحدثه, ثم ذكر أو صلى الماسح ثم بان له انقضاء مدة المسح قبل صلاته, ويفارق ما قاسوا عليه فإنه غير مفرط وها هنا هو مفرط بترك الطلب.
فصل:
وإن ضل عن رحله الذي فيه الماء أو كان يعرف بئرا فضاعت عنه, ثم وجدها فقال ابن عقيل: يحتمل أن يكون كالناسي والصحيح أنه لا إعادة عليه وهو قول الشافعي لأنه ليس بواجد للماء فيدخل في عموم قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} ولأنه غير مفرط, بخلاف الناسي وإن كان الماء مع عبده فنسيه العبد حتى صلى سيده, احتمل أن يكون كالناسي واحتمل أن لا يعيد لأن التفريط من غيره.
فصل:
إذا صلى ثم بان أنه كان بقربه بئر أو ماء, نظرت فإن كانت خفية بغير علامة وطلب فلم يجدها فلا إعادة عليه لأنه غير مفرط وإن كانت أعلامه ظاهرة, فقد فرط فعليه الإعادة.
مسألة:
قال: [ والاختيار تأخير التيمم] ظاهر كلام الخرقي أن تأخير التيمم أولى بكل حال وهو المنصوص عن أحمد, وروي ذلك عن علي وعطاء والحسن, وابن سيرين والزهري والثوري, وأصحاب الرأي وقال أبو الخطاب: يستحب التأخير إن رجا وجود الماء وإن يئس من وجوده استحب تقديمه وهو قول مالك وقال الشافعي في أحد قوليه: التقديم أفضل إلا أن يكون واثقا بوجود الماء في الوقت لأنه لا يستحب ترك فضيلة أول الوقت, وهي متحققة لأمر مظنون ولنا قول علي رضي الله عنه في الجنب: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت فإن وجد الماء, وإلا تيمم ولأنه يستحب التأخير للصلاة إلى بعد العشاء وقضاء الحاجة كي لا يذهب خشوعها وحضور القلب فيها ويستحب تأخيرها لإدراك الجماعة فتأخيرها لإدراك الطهارة المشترطة أولى.
مسألة:
قال: [ فإن تيمم في أول الوقت وصلى, أجزأه وإن أصاب الماء في الوقت] وجملة ذلك أن العادم للماء في السفر إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء, إن وجده بعد خروج الوقت فلا إعادة عليه إجماعا قال أبو بكر بن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تيمم وصلى ثم وجد الماء بعد خروج وقت الصلاة, أن لا إعادة عليه وإن وجده في الوقت لم يلزمه أيضا إعادة سواء يئس من وجود الماء في الوقت, أو غلب على ظنه وجوده فيه وبهذا قال أبو سلمة والشعبي والنخعي والثوري, ومالك والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي وقال عطاء, وطاوس والقاسم بن محمد ومكحول, وابن سيرين والزهري وربيعة: يعيد الصلاة ولنا ما روى أبو داود, عن أبي سعيد (أن رجلين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء, فتيمما صعيدا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت, فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرا له ذلك فقال للذي لم يعد: أصبت السنة, وأجزأتك صلاتك وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين) واحتج أحمد بأن ابن عمر تيمم وهو يرى بيوت المدينة فصلى العصر, ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد ولأنه أدى فرضه كما أمر فلم يلزمه الإعادة كما لو وجده بعد الوقت ولأن عدم الماء عذر معتاد, فإذا تيمم معه يجب أن يسقط فرض الصلاة كالمرض ولأنه أسقط فرض الصلاة فلم يعد إلى ذمته كما لو وجده بعد الوقت.
مسألة:
قال: [ والتيمم ضربة واحدة] المسنون عند أحمد التيمم بضربة واحدة فإن تيمم بضربتين جاز وقال القاضي: الإجزاء يحصل بضربة, والكمال ضربتان والمنصوص ما ذكرناه قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: التيمم ضربة واحدة؟ فقال: نعم ضربة للوجه والكفين ومن قال ضربتين, فإنما هو شيء زاده قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم منهم علي وعمار وابن عباس, وعطاء والشعبي ومكحول, والأوزاعي ومالك وإسحاق وقال الشافعي: لا يجزئ التيمم إلا بضربتين للوجه واليدين إلى المرفقين وروي ذلك عن ابن عمر, وابنه سالم والحسن والثوري, وأصحاب الرأي لما روى ابن الصمة، (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تيمم فمسح وجهه وذراعيه) وروى ابن عمر وجابر, وأبو أمامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين) ولأنه بدل يؤتى به في محل مبدله, وكان حده عنهما واحدا كالوجه ولنا ما (روى عمار قال: بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- في حاجة فأجنبت, فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له, فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين, وظاهر كفيه ووجهه) متفق عليه ولأنه حكم علق على مطلق اليدين فلم يدخل فيه الذراع كقطع السارق ومس الفرج, وقد احتج ابن عباس بهذا فقال: إن الله تعالى قال في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} وقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وكانت السنة في القطع من الكفين إنما هو الوجه والكفان يعني التيمم وأما أحاديثهم فضعيفة قال الخلال: الأحاديث في ذلك ضعيفة جدا ولم يرو منها أصحاب السنن إلا حديث ابن عمر وقال أحمد: ليس بصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هو عن ابن عمر, وهو عندهم حديث منكر وقال الخطابي: يرويه محمد بن ثابت وهو ضعيف وقال ابن عبد البر: لم يروه غير محمد بن ثابت وبه يعرف, ومن أجله يضعف عندهم وهو حديث منكر وحديث ابن الصمة صحيح لكن إنما جاء في المتفق عليه: فمسح وجهه ويديه فيكون حجة لنا لأن ما علق على مطلق اليدين لا يتناول الذراعين ثم أحاديثهم لا تعارض حديثنا فإنها تدل على جواز التيمم بضربتين, ولا ينفي ذلك جواز التيمم بضربة كما أن وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثا ثلاثا لا ينفي الإجزاء بمرة واحدة فإن قيل: فقد روي في حديث عمار: إلى المرفقين ويحتمل أنه أراد بالكفين اليدين إلى المرفقين قلنا: أما حديثه إلى المرفقين فلا يعول عليه, إنما رواه سلمة وشك فيه فقال له منصور: ما تقول فيه, فإنه لا يذكر الذراعين أحد غيرك؟ فشك وقال: لا أدري أذكر الذراعين, أم لا؟ قال ذلك النسائي فلا يثبت مع الشك وقد أنكر عليه وخالف به سائر الرواة الثقات, فكيف يلتفت إلى مثل هذا؟ وهو لو انفرد لم يعول عليه ولم يحتج به وأما التأويل فباطل لوجوه: أحدها أن عمارا الراوي له الحاكي لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أفتى بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- في التيمم للوجه والكفين عملا بالحديث وقد شاهد فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- والفعل لا احتمال فيه والثاني أنه قال ضربة واحدة, وهم يقولون ضربتان والثالث أننا لا نعرف في اللغة التعبير بالكفين عن الذراعين والرابع أن الجمع بين الخبرين بما ذكرناه من أن كل واحد من الفعلين جائز أقرب من تأويلهم وأسهل وقياسهم ينتقض بالتيمم عن الغسل الواجب فإنه ينقص عن المبدل, وكذلك في الوضوء فإنه في أربعة أعضاء والتيمم في عضوين, وكذا نقول في الوجه فإنه لا يجب مسح ما تحت الشعور الخفيفة ولا المضمضة والاستنشاق.
فصل:
ولا يختلف المذهب أنه يجزئ التيمم بضربة واحدة وبضربتين, وإن تيمم بأكثر من ضربتين جاز أيضا لأن المقصود إيصال التراب إلى محل الفرض فكيفما حصل جاز كالوضوء
فصل:
فإن وصل التراب إلى وجهه ويديه بغير ضرب, نحو أن ينسف الريح عليه غبارا يعمه فإن كان قصد ذلك وأحضر النية, احتمل أن يجزئه كما لو صمد للمطر حتى جرى على أعضائه والصحيح أنه لا يجزئه لأنه لم يمسح به وقد أمر الله تعالى بالمسح به فإن مسح وجهه بما على وجهه, احتمل أن يجزئه لأنه مسح بالتراب واحتمل أن لا يجزئه لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد والمسح به ولم يأخذ الصعيد وإن لم يكن قصد الريح, ولا صمد لها فأخذ غير ما على وجهه فمسح به وجهه, جاز وإن أمر ما على وجهه منه على وجهه لم يجزه لأنه لم يأخذ التراب لوجهه
فصل:
إذا علا على يديه تراب كثير, لم يكره نفخه فإن في حديث عمار (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما) قال أحمد: لا يضره فعل أو لم يفعل وإن كان خفيفا فقال أصحابنا: يكره نفخه, رواية واحدة فإن ذهب ما عليها بالنفخ لم يجزه حتى يعيد الضرب لأنه مأمور بالمسح بشيء من الصعيد.
مسألة:
قال: [ ويضرب بيديه على الصعيد الطيب وهو التراب] وجملة ذلك أنه لا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر ذي غبار يعلق باليد لأن الله تعالى قال: {فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} قال ابن عباس: الصعيد تراب الحرث وقيل في قوله تعالى: {فتصبح صعيدا زلقا} ترابا أملس والطيب: الطاهر, وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو يوسف, وداود وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز بكل حال ما كان من جنس الأرض كالنورة والزرنيخ والحجارة وقال الأوزاعي: الرمل من الصعيد وقال حماد بن أبي سليمان: لا بأس أن يتيمم بالرخام لما روى البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) وعن أبي هريرة (أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, إنا نكون بالرمل فتصيبنا الجنابة والحيض والنفاس, ولا نجد الماء أربعة أشهر أو خمسة أشهر فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: عليكم بالأرض) ولأنه من جنس الأرض فجاز التيمم به كالتراب ولنا الآية فإن الله سبحانه أمر بالتيمم بالصعيد, وهو التراب فقال: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ولا يحصل المسح بشيء منه إلا أن يكون ذا غبار يعلق باليد, وروي عن علي رضي الله عنه قال: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله جعل لي التراب طهورا) وذكر الحديث رواه الشافعي في " مسنده ", ولو كان غير التراب طهورا لذكره فيما من الله تعالى به عليه وقد روى حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا) فخص ترابها بكونه طهورا ولأن الطهارة اختصت بأعم المائعات وجودا وهو الماء, فتختص بأعم الجامدات وجودا وهو التراب وخبر أبي ذر نخصه بحديثنا, وخبر أبي هريرة يرويه المثنى بن الصباح وهو ضعيف
فصل:
وعن أحمد -رحمه الله- , رواية أخرى في السبخة والرمل أنه يجوز التيمم به قال أبو الحارث: قال أحمد: أرض الحرث أحب إلي, وإن تيمم من أرض السبخة أجزأه قال القاضي: الموضع الذي أجاز التيمم بها إذا كان لها غبار والموضع الذي منع إذا لم يكن لها غبار قال: ويمكن أن يقال في الرمل مثل ذلك وعنه أنه يجوز ذلك مع الاضطرار خاصة قال: وفي رواية سندي: أرض الحرث أجود من السبخ ومن موضع النورة والحصا, إلا أن يضطر إلى ذلك فإن اضطر أجزأه قال الخلال: إنما سهل أحمد فيها إذا اضطر إليها إذا كانت غبرة كالتراب, فأما إذا كانت قلحة كالملح فلا يتيمم بها أصلا وقال ابن أبي موسى: يتيمم عند عدم التراب بكل طاهر تصاعد على وجه الأرض مثل الرمل والسبخة والنورة والكحل, وما في معنى ذلك ويصلي وهل يعيد؟ على روايتين.
فصل:
فإن دق الخزف أو الطين المحرق, لم يجز التيمم به لأن الطبخ أخرجه عن أن يقع عليه اسم التراب وكذا إن نحت المرمر والكذان حتى صار غبارا لم يجز التيمم به لأنه غير تراب وإن دق الطين الصلب كالأرمني جاز التيمم به لأنه تراب.
فصل:
فإن ضرب بيده على لبد أو ثوب أو جوالق أو برذعة أو في شعير, فعلق بيديه غبار فتيمم به جاز نص أحمد على ذلك كله وكلام أحمد يدل على اعتبار التراب حيث كان, فعلى هذا لو ضرب بيده على صخرة أو حائط أو حيوان, أو أي شيء كان فصار على يديه غبار جاز له التيمم به وإن لم يكن فيه غبار, فلا يجوز وقد روى ابن عمر (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب يديه على الحائط ومسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى, فمسح ذراعيه) رواه أبو داود وروى الأثرم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا يتيمم بالثلج فمن لم يجد, فضفة سرجه أو معرفة دابته وأجاز مالك وأبو حنيفة, التيمم بصخرة لا غبار عليها وتراب ندي لا يعلق باليد منه غبار وأجاز مالك التيمم بالثلج والجبس, وكل ما تصاعد على وجه الأرض ولا يجوز عنده التيمم بغبار اللبد والثوب لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ضرب بيده نفخهما ولنا قول الله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} " ومن " للتبعيض فيحتاج أن يمسح بجزء منه والنفخ لا يزيل الغبار الملاصق, وذلك يكفي.
فصل:
إذا خالط التراب ما لا يجوز التيمم به ، كالنورة والزرنيخ والجص ، فقال القاضي : حكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات ، إن كانت الغلبة للتراب جاز ، وإن كانت الغلبة للمخالط ، لم يجز . وقال ابن عقيل : يمنع ، وإن كان قليلا . وهو مذهب الشافعي ؛ لأنه ربما حصل في العضو ، فمنع وصول التراب إليه . وهذا فيما يعلق باليد ، فأما ما لا يعلق باليد ، فلا يمنع ؛ فإن أحمد قد نص على أنه يجوز التيمم من الشعير ؛ وذلك لأنه لا يحصل على اليد منه ما يحول بين الغبار وبينها .
فصل:
إذا كان في طين لا يجد ترابا فحكي عن ابن عباس أنه قال: يأخذ الطين فيطلي به جسده فإذا جف تيمم به وإن خاف فوات الوقت قبل جفافه, فهو كالعادم ويحتمل أنه إن كان يجف قريبا انتظر جفافه وإن فات الوقت لأنه كطالب الماء القريب والمشتغل بتحصيله من بئر ونحوه وإن لطخ وجهه بطين, لم يجزه لأنه لم يقع عليه اسم الصعيد ولأنه لا غبار فيه أشبه التراب الندي.
فصل:
وإن عدم بكل حال صلى على حسب حاله وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة, والثوري والأوزاعي: لا يصلي حتى يقدر ثم يقضي لأنها عبادة لا تسقط القضاء, فلم تكن واجبة كصيام الحائض وقال مالك: لا يصلي ولا يقضي لأنه عجز عن الطهارة فلم تجب عليه الصلاة, كالحائض وقال ابن عبد البر: هذه رواية منكرة عن مالك وذكر عن أصحابه قولين: أحدهما كقول أبي حنيفة والثاني يصلي على حسب حاله ويعيد ولنا ما روى مسلم في " صحيحه " (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أناسا لطلب قلادة أضلتها عائشة, فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكروا ذلك له, فنزلت آية التيمم ولم ينكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك ولا أمرهم بإعادة) فدل على أنها غير واجبة ولأن الطهارة شرط, فلم تؤخر الصلاة عند عدمها كالسترة واستقبال القبلة وإذا ثبت هذا فإذا صلى على حسب حاله, ثم وجد الماء أو التراب لم يلزمه إعادة الصلاة في إحدى الروايتين والأخرى عليه الإعادة وهو مذهب الشافعي لأنه فقد شرط الصلاة, أشبه ما لو صلى بالنجاسة والصحيح الأول لما ذكرنا من الخبر ولأنه أتى بما أمر فخرج عن عهدته لأنه شرط من شرائط الصلاة فيسقط عند العجز عنه كسائر شروطها وأركانها ولأنه أدى فرضه على حسبه, فلم يلزمه الإعادة كالعاجز عن السترة إذا صلى عريانا والعاجز عن الاستقبال إذا صلى إلى غيرها, والعاجز عن القيام إذا صلى جالسا وقياس أبي حنيفة على الحائض في تأخير الصيام لا يصح لأن الصوم يدخله التأخير بخلاف الصلاة, بدليل أن المسافر يؤخر الصوم دون الصلاة ولأن عدم الماء لو قام مقام الحيض لأسقط الصلاة بالكلية ولأن قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها على الصيام وأما قياس مالك فلا يصح (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وقياس الطهارة على سائر شرائط الصلاة أولى من قياسها على الحائض فإن الحيض أمر معتاد يتكرر عادة, والعجز ها هنا عذر نادر غير معتاد فلا يصح قياسه على الحيض ولأن هذا عذر نادر فلم يسقط الفرض كنسيان الصلاة وفقد سائر الشروط والله تعالى أعلم.
مسألة:
قال: [ وينوي به المكتوبة] لا نعلم خلافا في أن التيمم لا يصح إلا بنية, غير ما حكي عن الأوزاعي والحسن بن صالح أنه يصح بغير نية وسائر أهل العلم على إيجاب النية فيه وممن قال ذلك: ربيعة ومالك, والليث والشافعي وأبو عبيد, وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وذلك لما ذكرنا في الوضوء, وينوي استباحة الصلاة فإن نوى رفع الحدث لم يصح لأنه لا يرفع الحدث قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن طهارة التيمم لا ترفع الحدث إذا وجد الماء بل متى وجده أعاد الطهارة جنبا كان أو محدثا وهذا مذهب مالك, والشافعي وغيرهما وحكي عن أبي حنيفة أنه يرفع الحدث لأنه طهارة عن حدث يبيح الصلاة, فيرفع الحدث كطهارة الماء ولنا أنه لو وجد الماء لزمه استعماله لرفع الحدث الذي كان قبل التيمم إن كان جنبا, أو محدثا أو امرأة حائضا ولو رفع الحدث لاستوى الجميع لاستوائهم في الوجدان ولأنها طهارة ضرورة, فلم ترفع الحدث كطهارة المستحاضة وبهذا فارق الماء إذا ثبت هذا فإنه إن نوى بتيممه فريضة, فله أن يصلي ما شاء من الفرض والنفل سواء نوى فريضة معينة أو مطلقة فإن نوى نفلا أو صلاة مطلقة لم يجز أن يصلي به إلا نافلة وبهذا قال الشافعي, وقال أبو حنيفة: له أن يصلي ما شاء لأنها طهارة يصح بها النفل فصح بها الفرض كطهارة الماء ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا لم ينو الفرض فلا يكون له وفارق طهارة الماء لأنها ترفع الحدث المانع من فعل الصلاة, فيباح له جميع ما يمنعه الحدث ولا يلزم استباحة النفل بنية الفرض لأن الفرض أعلى ما في الباب فنيته تضمنت نية ما دونه وإذا استباحه استباح ما دونه تبعا.
فصل:
إذا نوى الفرض استباح كل ما يباح بالتيمم من النفل, قبل الفرض وبعده وقراءة القرآن ومس المصحف, واللبث في المسجد وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي: وقال مالك: لا يتطوع قبل الفريضة بصلاة غير راتبة وحكي نحوه عن أحمد لأن النفل تبع للفرض فلا يتقدم المتبوع ولنا أنه تطوع, فأبيح له فعله إذا نوى الفرض كالسنن الراتبة وكما بعد الفرض وقوله: إنه تبع قلنا: إنما هو تبع في الاستباحة لا في الفعل, كالسنن الراتبة وقراءة القرآن وغيرهما وإن نوى نافلة أبيحت له, وأبيح له قراءة القرآن ومس المصحف والطواف لأن النافلة آكد من ذلك كله لأن الطهارتين مشترطتان لها بالإجماع, وفي اشتراطهما لما سواها خلاف فيدخل الأدنى في الأعلى كدخول النافلة في الفريضة ولأن النفل يشتمل على قراءة القرآن, فنية النفل تشمله وإن نوى شيئا من ذلك لم يبح له التنفل بالصلاة لأنه أدنى فلا يستبيح الأعلى بنيته كالفرض مع النفل وإن تيمم للطواف أبيح له قراءة القرآن, واللبث في المسجد لأنه أعلى منهما فإنه صلاة ويشترط له الطهارتان, وله نفل وفرض ويدخل في ضمنه اللبث في المسجد لأنه لا يكون إلا في المسجد وإن نوى أحدهما لم يستبح الطواف لأنه أعلى منهما وإن نوى فرض الطواف استباح نفله وإن نوى نفله, لم يستبح فرضه كالصلاة وإن نوى بتيممه قراءة القرآن لكونه جنبا أو اللبث في المسجد أو مس المصحف, لم يستبح غير ما نواه لقوله عليه السلام: " وإنما لكل امرئ ما نوى " ولأنه لم ينو ذلك ولا ما هو أعلى منه فلم يستبحه, كما لا يستبيح الفرض إذا لم ينوه
فصل:
وإن تيمم الصبي لإحدى الصلوات الخمس ثم بلغ لم يستبح بتيممه فرضا لأن ما نواه كان نفلا, ويباح أن يتنفل به كما لو نوى به البالغ النفل فأما إن توضأ قبل البلوغ ثم بلغ, فله أن يصلي به فرضا ونفلا لأن الوضوء للنفل يبيح فعل الفرض.
مسألة:
قال: [ فيمسح بهما وجهه وكفيه] لا خلاف في وجوب مسح الوجه والكفين لقول الله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} ويجب مسح جميعه واستيعاب ما يأتي عليه الماء منها لا يسقط منها إلا المضمضة والاستنشاق, وما تحت الشعور الخفيفة وبهذا قال الشافعي وقال سليمان بن داود: يجزئه إن لم يصب إلا بعض وجهه وبعض كفيه ولنا قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} والباء زائدة فصار كأنه قال: فامسحوا وجوهكم وأيديكم منه فيجب تعميمهما, كما يجب تعميمهما بالغسل لقوله: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} فيضرب ضربة واحدة فيمسح وجهه بباطن أصابع يديه وظاهر كفيه إلى الكوعين بباطن راحتيه, ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل بين الأصابع وليس بفرض لأن فرض الراحتين قد سقط بإمرار كل واحدة على ظهر الكف قال ابن عقيل: رأيت التيمم بضربة واحدة قد أسقط ترتيبا مستحقا في الوضوء, وهو أنه يعتد بمسح باطن يديه قبل مسح وجهه وكيفما مسح بعد استيعاب محل الفرض أجزأه سواء كان بضربة, أو ضربتين أو ثلاث أو أكثر.
فصل:
وإن تيمم بضربتين للوجه واليدين إلى المرفقين فإنه يمسح بالأولى وجهه, ويمسح بالثانية يديه فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى ويمرها على ظهر الكف, فإذا بلغ الكوع قبض أطراف أصابعه على حرف الذراع ويمرها إلى مرفقه ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع, ويمرها عليه ويرفع إبهامه فإذا بلغ الكوع أمر الإبهام على ظهر إبهام يده اليمنى, ويمسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل بين أصابعهما, ولو مسح إلى المرفقين بضربة واحدة أو ثلاث أو أكثر جاز لأنه مسح محل التيمم بالغبار, فجاز كما لو مسحه بضربتين.
فصل:
فإن بقي من محل الفرض شيء لم يصله التراب أمر يده عليهما ما لم يفصل راحته, فإن فصل راحته وكان قد بقي عليها غبار جاز أن يمسح بها وإن لم يبق عليها غبار, احتاج إلى ضربة أخرى وإن كان المتروك من الوجه مسحه وأعاد مسح يديه ليحصل الترتيب وإن تطاول الفصل بينهما, وقلنا بوجوب الموالاة استأنف التيمم لتحصل الموالاة ويرجع في طول الفصل وقصره إلى القدر الذي ذكرناه في الطهارة لأن التيمم فرع عليها والحكم في التسمية كالحكم في التسمية في الوضوء, ما مضى من الخلاف فيه لأنه بدل منه.
فصل:
ويجب مسح اليدين إلى الموضع الذي يقطع منه السارق أومأ أحمد إلى هذا لما سئل عن التيمم فأومأ إلى كفه ولم يجاوزه, وقال: قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} من أين تقطع يد السارق؟ أليس من ها هنا؟ وأشار إلى الرسغ وقد روينا عن ابن عباس نحو هذا فعلى هذا إن كان أقطع من فوق الرسغ سقط مسح اليدين, وإن كان من دونه مسح ما بقي وإن كان من المفصل فقال ابن عقيل: يمسح موضع القطع قال: ونص عليه أحمد لأن الرسغين في التيمم كالمرفقين في الوضوء, فكما أنه إذا قطع من المرفقين في الوضوء غسل ما بقي كذا ها هنا يمسح العظم الباقي وقال القاضي: يسقط الفرض لأن محله الكف الذي يؤخذ في السرقة, وقد ذهب لكن يستحب إمرار التراب عليه ومسح العظم الباقي مع بقاء الكف إنما كان ضرورة استيعاب الواجب لأن الواجب لا يتم إلا به فإذا زال الأصل المأمور به, سقط ما وجب لضرورته كمن سقط عنه غسل الوجه لا يجب عليه غسل جزء من الرأس, ومن سقط عنه الصيام لا يجب عليه إمساك جزء من الليل.
فصل:
فإن أوصل التراب إلى محل الفرض بخرقة أو خشبة فقال القاضي: يجزئه لأن الله تعالى أمر بالمسح, ولم يعين آلته فلا يتعين وقال ابن عقيل: فيه وجهان بناء على مسح الرأس بخرقة رطبة وإن مسح محل الفرض بيد واحدة, أو ببعض يده أجزأه إذ كانت يده أقرب إليه من غيرها وإن يممه غيره جاز, كما لو وضأه غيره وتعتبر النية في المتيمم دون الميمم لأنه الذي يتعلق الإجزاء والمنع به.
مسألة:
قال: [ وإن كان ما ضرب بيديه غير طاهر لم يجزه] لا نعلم في هذا خلافا وبه قال الشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي إلا أن الأوزاعي قال: إن تيمم بتراب المقبرة وصلى, مضت صلاته ولنا قول الله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} والنجس ليس بطيب ولأن التيمم طهارة فلم يجز بغير طاهر كالوضوء, فأما المقبرة فإن كانت لم تنبش فترابها طاهر وإن كان نبشها والدفن فيها تكرر, لا يجوز التيمم بترابها لاختلاطه بصديد الموتى ولحومهم وإن شك في تكرر الدفن فيها أو في نجاسة التراب الذي تيمم به جاز التيمم به لأن الأصل الطهارة, فلا يزول بالشك كما لو شك في طهارة الماء.
فصل:
ويجوز أن يتيمم جماعة من موضع واحد بغير خلاف كما يجوز أن يتوضأ جماعة من حوض واحد فأما ما تناثر من الوجه واليدين بعد مسحهما به, ففيه وجهان: أحدهما يجوز التيمم به لأنه لم يرفع الحدث وهذا قول أبي حنيفة والثاني لا يجوز لأنه مستعمل في طهارة أباحت الصلاة أشبه الماء المستعمل في الطهارة وللشافعي وجهان كهذين.
مسألة:
قال: [ وإذا كان به قرح أو مرض مخوف, وأجنب فخشي على نفسه إن أصابه الماء غسل الصحيح من جسده, وتيمم لما لم يصبه الماء] هذه المسألة دالة على أحكام منها: إباحة التيمم للجنب وهو قول جمهور العلماء منهم: علي وابن عباس, وعمرو بن العاص وأبو موسى وعمار, وبه قال الثوري ومالك والشافعي, وأبو ثور وإسحاق وابن المنذر, وأصحاب الرأي وكان ابن مسعود لا يرى التيمم للجنب ونحوه عن عمر رضي الله عنهما, وروى البخاري عن شقيق بن سلمة أن أبا موسى ناظر ابن مسعود في ذلك واحتج عليه بحديث عمار, وبالآية التي في المائدة قال: فما درى عبد الله ما يقول فقال: إنا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء أن يدعه ويتيمم وقال الترمذي: ويروى عن ابن مسعود أنه رجع عن قوله ومما يدل على إباحة التيمم للجنب: ما روى عمران بن حصين، (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم, فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم؟ فقال: أصابتني جنابة ولا ماء قال: عليك بالصعيد, فإنه يكفيك) متفق عليه وحديث أبي ذر وعمرو بن العاص وحديث جابر في الذي أصابته الشجة لأنه حدث فيجوز له التيمم, كالحدث الأصغر ومنها أن الجريح والمريض إذا خاف على نفسه من استعمال الماء جاز له التيمم, هذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عباس ومجاهد وعكرمة, وطاوس والنخعي وقتادة, ومالك والشافعي ولم يرخص له عطاء في التيمم إلا عند عدم الماء لظاهر الآية ونحوه عن الحسن في المجدور الجنب, قال: لا بد من الغسل ولنا قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} وحديث عمرو بن العاص حين تيمم من خوف البرد وحديث ابن عباس وجابر في الذي أصابته الشجة ولأنه يباح له التيمم إذا خاف العطش, أو خاف من سبع فكذلك ها هنا فإن الخوف لا يختلف, وإنما اختلفت جهاته.
فصل:
واختلف في الخوف المبيح للتيمم ، فروي عن أحمد : لا يبيحه إلا خوف التلف . وهذا أحد قولي الشافعي . وظاهر المذهب : أنه يباح له التيمم إذا خاف زيادة المرض ، أو تباطؤ البرء ، أو خاف شيئا فاحشا ، أو ألما غير محتمل . وهذا مذهب أبي حنيفة ، والقول الثاني للشافعي . وهو الصحيح ؛ لعموم قوله تعالى : {وإن كنتم مرضى أو على سفر} ولأنه يجوز له التيمم إذا خاف ذهاب شيء من ماله ، أو ضررا في نفسه ؛ من لص ، أو سبع ، أو لم يجد الماء إلا بزيادة على ثمن مثله كثيرة ؛ فلأن يجوز هاهنا أولى ؛ ولأن ترك القيام في الصلاة ، وتأخير الصيام ، لا ينحصر في خوف التلف ، وكذلك ترك الاستقبال ، فكذا هاهنا فأما المريض أو الجريح الذي لا يخاف الضرر باستعمال الماء ، مثل من به الصداع والحمى الحارة ، أو أمكنه استعمال الماء الحار ، ولا ضرر عليه فيه ، لزمه ذلك ؛ لأن إباحة التيمم لنفي الضرر ، ولا ضرر عليه هاهنا . وحكي عن مالك ، وداود إباحة التيمم للمريض مطلقا ؛ لظاهر الآية . ولنا أنه واجد للماء ، لا يستضر باستعماله ، فلم يجز له التيمم ، كالصحيح ، والآية اشترط فيها عدم الماء ، فلم يتناول محل النزاع ، على أنه لا بد فيها من إضمار الضرورة ، والضرورة إنما تكون عند الضرر ، ومنها أن الجريح والمريض إذا أمكنه غسل بعض جسده دون بعض ، لزمه غسل ما أمكنه ، وتيمم للباقي . وبهذا قال الشافعي . وقال أبو حنيفة ، ومالك : إن كان أكثر بدنه صحيحا غسله ، ولا تيمم عليه ، وإن كان أكثره جريحا ، تيمم ولا غسل عليه ؛ لأن الجمع بين البدل والمبدل لا يجب ، كالصيام والإطعام . ولنا ما روى جابر قال : (خرجنا في سفر ، فأصاب رجلا منا شجة في وجهه ، ثم احتلم ، فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة ، وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل ، فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك ، فقال : قتلوه ، قتلهم الله ألا سألوا ، إذ لم يعلموا ، فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ، ويعصب على جرحه خرقة ، ثم يمسح عليها ، ثم يغسل سائر جسده .) رواه أبو داود ، وعن ابن عباس مثله . ولأن كل جزء من الجسد يجب تطهيره بشيء إذا استوى الجسم كله في المرض أو الصحة . فيجب ذلك فيه وإن خالفه غيره ، كما لو كان من جملة الأكثر ، فإن حكمه لا يسقط بمعنى في غيره ، وما ذكروه منتقض بالمسح على الخفين مع غسل بقية أعضاء الوضوء ، ويفارق ما قاسوا عليه ، فإنه جمع بين البدل والمبدل في محل واحد ، بخلاف هذا ، فإن التيمم بدل عما لا يصيبه الماء ، دون ما أصابه
فصل:
ما لا يمكن غسله من الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجريح حكمه حكم الجريح فإن لم يمكنه ضبطه, وقدر أن يستنيب من يضبطه لزمه ذلك فإن عجز عن ذلك تيمم وصلى وأجزأه لأنه عجز عن غسله, فأجزأه التيمم عنه كالجريح.
فصل:
إذا كان الجريح جنبا فهو مخير إن شاء قدم التيمم على الغسل وإن شاء أخره, بخلاف ما إذا كان التيمم لعدم ما يكفيه لجميع أعضائه فإنه يلزمه استعمال الماء أولا لأن التيمم للعدم ولا يتحقق إلا بعد فراغ الماء, وها هنا التيمم للعجز عن استعماله في الجريح وهو متحقق على كل حال ولأن الجريح يعلم أن التيمم بدل عن غسل الجرح والعادم لما يكفي جميع أعضائه لا يعلم القدر الذي يتيمم له إلا بعد استعمال الماء وفراغه, فلزمه تقديم استعماله وإن كان الجريح يتطهر للحدث الأصغر فذكر القاضي أنه يلزمه الترتيب فيجعل التيمم في مكان الغسل الذي يتيمم بدلا عنه فإن كان الجرح في وجهه بحيث لا يمكنه غسل شيء منه, لزمه التيمم أولا ثم يتيمم للوضوء وإن كان في بعض وجهه خير بين غسل صحيح وجهه ثم تيمم وبين أن يتيمم ثم يغسل صحيح وجهه ويتمم وضوءه وإن كان الجرح في عضو آخر, لزمه غسل ما قبله ثم كان فيه على ما ذكرنا في الوجه وإن كان في وجهه ويديه ورجليه احتاج في كل عضو إلى تيمم في محل غسله, ليحصل الترتيب ولو غسل صحيح وجهه ثم تيمم له وليديه تيمما واحدا لم يجزه لأنه يؤدي إلى سقوط الفرض عن جزء من الوجه واليدين في حالة واحدة فإن قيل: يبطل هذا بالتيمم عن جملة الطهارة, حيث يسقط الفرض عن جميع الأعضاء جملة واحدة قلنا: إذا كان عن جملة الطهارة فالحكم له دونها وإن كان عن بعضها, ناب عن ذلك البعض فاعتبر فيه ما يعتبر فيما ينوب عنه من الترتيب ويحتمل أن لا يجب هذا الترتيب لأن التيمم طهارة مفردة فلا يجب الترتيب بينها وبين الطهارة الأخرى, كما لو كان الجريح جنبا ولأنه تيمم عن الحدث الأصغر فلم يجب أن يتيمم عن كل عضو في موضع غسله كما لو تيمم عن جملة الوضوء ولأن في هذا حرجا وضررا, فيندفع بقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وحكى الماوردي عن مذهب الشافعي مثل هذا وحكى ابن الصباغ عنه مثل القول الأول.
فصل:
وإن تيمم الجريح لجرح في بعض أعضائه ، ثم خرج الوقت ، بطل تيممه ، ولم تبطل طهارته بالماء إن كانت غسلا لجنابة أو نحوها ؛ لأن الترتيب والموالاة غير واجبين فيها . وإن كانت وضوءا ، وكان الجرح في وجهه ، خرج بطلان الوضوء على الوجهين اللذين في الفصل الذي قبل هذا ؛ فمن أوجب الترتيب أبطل الوضوء هاهنا ؛ لأن طهارة العضو الذي ناب التيمم عنه بطلت ، فلو لم يبطل فيما بعده لتقدمت طهارة ما بعده عليه ، فيفوت الترتيب . "ومن" لم يوجب الترتيب لم يبطل الوضوء ، وجوز له أن يتيمم لا غير . وإن كان الجرح في إحدى رجليه ، أو فيهما ، فعلى قول من لا يوجب الترتيب بين الوضوء والتيمم ، لا تجب الموالاة بينهما أيضا ، وعليه التيمم وحده . ومن أوجب الترتيب ، فقياس قوله : أن يكون في الموالاة وجهان ، بناء على الموالاة في الوضوء ، وفيها روايتان ؛ إحداهما ، تجب ، فتجب هاهنا ، ويبطل الوضوء لفواتها . والثانية لا تجب ، فيكفيه التيمم وحده . ويحتمل أن لا تجب الموالاة بين الوضوء والتيمم ، وجها واحدا ؛ لأنهما طهارتان ، فلم تجب المولاة بينهما ، كسائر الطهارات ؛ ولأن في إيجابها حرجا ، فينتفي بقوله سبحانه : {وما جعل عليكم في الدين من حرج} .
فصل:
وإن خاف من شدة البرد وأمكنه أن يسخن الماء, أو يستعمله على وجه يأمن الضرر مثل أن يغسل عضوا عضوا وكلما غسل شيئا ستره, لزمه ذلك وإن لم يقدر تيمم وصلى في قول أكثر أهل العلم وقال عطاء والحسن: يغتسل, وإن مات لم يجعل الله له عذرا ومقتضى قول ابن مسعود: أنه لا يتيمم فإنه قال: لو رخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا برد عليه الماء أن يتيمم ويدعه ولنا قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} وقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وروى أبو داود, وأبو بكر الخلال بإسنادهما (عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل, فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح, فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال, وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئا) وسكوت النبي -صلى الله عليه وسلم- يدل على الجواز لأنه لا يقر على الخطأ ولأنه خائف على نفسه فأبيح له التيمم كالجريح والمريض, وكما لو خاف على نفسه عطشا أو لصا أو سبعا في طلب الماء وإذا تيمم وصلى فهل يلزمه الإعادة؟ على روايتين: إحداهما لا يلزمه وهو قول الثوري, ومالك وأبي حنيفة وابن المنذر لحديث عمرو, فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمره بالإعادة ولو وجبت لأمره بها ولأنه خائف على نفسه أشبه المريض ولأنه أتى بما أمر به, فأشبه سائر من يصلي بالتيمم والثانية يلزمه الإعادة وهو قول أبي يوسف ومحمد لأنه عذر نادر غير متصل فلم يمنع الإعادة كنسيان الطهارة والأول أصح ويفارق نسيان الطهارة لأنه لم يأت بما أمر به وإنما ظن أنه أتى به, بخلاف مسألتنا وقال أبو الخطاب: لا إعادة عليه إن كان مسافرا وإن كان حاضرا فعلى روايتين وذلك لأن الحضر مظنة القدرة على تسخين الماء ودخول الحمامات, بخلاف السفر وقال الشافعي: يعيد إن كان حاضرا وإن كان مسافرا فعلى قولين.
مسألة:
قال: [ وإذا تيمم صلى الصلاة التي حضر وقتها, وصلى به فوائت إن كانت عليه والتطوع إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى] المذهب أن التيمم يبطل بخروج الوقت ودخوله ولعل الخرقي إنما علق بطلانه, بدخول وقت صلاة أخرى تجوزا منه إذا كان خروج وقت الصلاة ملازما لدخول وقت الأخرى إلا في موضع واحد, وهو وقت الفجر فإنه يخرج منفكا عن دخول وقت الظهر ويبطل التيمم بكل واحد منهما فلا يجوز أن يصلي به صلاتين في وقتين, روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس, رضي الله عنهم والشعبي والنخعي, وقتادة ويحيى الأنصاري وربيعة, ومالك والشافعي والليث, وإسحاق وروى الميمونى عن أحمد في المتيمم قال: إنه ليعجبني أن يتيمم لكل صلاة, ولكن القياس أنه بمنزلة الطهارة حتى يجد الماء أو يحدث لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنب يعني قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا ذر (الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين, فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك) وهو مذهب سعيد بن المسيب والحسن والزهري, والثوري وأصحاب الرأي وروي عن ابن عباس وأبي جعفر لأنها طهارة تبيح الصلاة, فلم تتقدر بالوقت كطهارة الماء ولنا ما روى الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال: التيمم لكل صلاة وابن عمر قال: تيمم لكل صلاة ولأنها طهارة ضرورة, فتقيدت بالوقت كطهارة المستحاضة وطهارة الماء ليست للضرورة بخلاف مسألتنا والحديث أراد به أنه يشبه الوضوء في إباحة الصلاة, ويلزمه التساوي في جميع الأحكام إذا ثبت هذا فإنه إذا نوى بتيممه مكتوبة فله أن يصلي به ما شاء من الصلوات, فيصلي الحاضرة ويجمع بين الصلاتين ويقضي فوائت, ويتطوع قبل الصلاة وبعدها هذا قول أبي ثور وقال مالك والشافعي: لا يصلي به فرضين وقد روي عن أحمد أنه قال: لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة, ثم يتيمم للأخرى وهذا يحتمل أن يكون مثل قولهما لما روي عن ابن عباس أنه قال: من السنة أن لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للأخرى وهذا مقتضى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولأنها طهارة ضرورة فلا يجمع بها بين فريضتين, كما لو كانا في وقتين ولنا أنها طهارة صحيحة أباحت فرضا فأباحت فرضين, كطهارة الماء ولأنه بعد الفرض الأول تيمم صحيح مبيح للتطوع نوى به المكتوبة فكان له أن يصلي به فرضا, كحالة ابتدائه ولأن الطهارة في الأصول إنما تتقيد بالوقت دون الفعل كطهارة الماسح على الخف, وهذه في النوافل وطهارة المستحاضة ولأن كل تيمم أباح صلاة أباح ما هو من نوعها بدليل صلوات النوافل وأما حديث ابن عباس, فيرويه الحسن بن عمارة وهو ضعيف ثم يحتمل أنه أراد أن لا يصلي به صلاتين في وقتين بدليل أنه يجوز أن يصلي به صلوات من التطوع, ويجمع بين صلاتين فرض ونفل وإنما امتنع الجمع بين فرضي وقتين لبطلان التيمم, بخروج وقت الأولى منها إذا ثبت هذا فإن الخرقي إنما ذكر قضاء الفوائت والتطوع ولم يذكر الجمع بين صلاتين, وكذا ذكر الإمام أحمد فيحتمل أن لا يجوز الجمع بين الصلاتين وهو مذهب أبي ثور والصحيح جواز الجمع لما ذكرنا من الأدلة ولأن ما أباح فرضين فائتين ما أباح فرضين في الجمع كسائر الطهارات وقال الماوردي: ليس للمتيمم أن يجمع بين صلاتين بحال لأن الصلاة الثانية تفتقر إلى تيمم, والتيمم يفتقر إلى طلب والطلب يقطع الجمع ومن شرطه الموالاة - يعني على مذهب الشافعي - وهذا ينبغي أن يتقيد بالجمع في وقت الأولى, فأما الجمع في وقت الثانية فلا تشترط له الموالاة في الصحيح فإن قيل: فكيف يمكن قضاء الفوائت والترتيب شرط, فيجب تقديم الفائتة على الحاضرة فكيف تتأخر الفائتة عنها؟ قلنا: يمكن ذلك لوجوه: أحدها أن يقدم الفائتة على الحاضرة الثاني أن ينسى الفائتة ثم يذكرها بعد الحاضرة الثالث أن يخشى فوات وقت الحاضرة فيصليها, ثم يصلي في بقية الوقت فوائت الرابع أنه إذا كثرت الفوائت بحيث لا يمكن قضاؤها قبل خروج وقت الحاضرة فله أن يصلي الحاضرة في الجماعة في أول الوقت ويقدمها على الفوائت, في إحدى الروايتين فإنه لا بد من تقديمها على بعض الفوائت فلا فائدة في تأخيرها ولأنه لو لزم تأخيرها إلى آخر وقتها للزم ترك الجماعة الحاضرة بالكلية
مسألة:
قال: [ وإذا خاف العطش حبس الماء وتيمم, ولا إعادة عليه] قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المسافر إذا كان معه ماء وخشي العطش أنه يبقي ماءه للشرب, ويتيمم منهم علي وابن عباس والحسن, وعطاء ومجاهد وطاوس, وقتادة والضحاك والثوري, ومالك والشافعي وإسحاق, وأصحاب الرأي ولأنه خائف على نفسه من استعمال الماء فأبيح له التيمم كالمريض.
فصل:
وإن خاف على رفيقه, أو رقيقه أو بهائمه فهو كما لو خاف على نفسه لأن حرمة رفيقه كحرمة نفسه, والخائف على بهائمه خائف من ضياع ماله فأشبه ما لو وجد ماء بينه وبينه لص أو سبع يخافه على بهيمته أو شيء من ماله وإن وجد عطشان يخاف تلفه لزمه سقيه, ويتيمم قيل لأحمد: الرجل معه إداوة من ماء للوضوء فيرى قوما عطاشا أحب إليك أن يسقيهم أو يتوضأ؟ قال: يسقيهم ثم ذكر عدة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتيممون, ويحبسون الماء لشفاههم وقال أبو بكر والقاضي: لا يلزمه بذله لأنه محتاج إليه ولنا أن حرمة الآدمي تقدم على الصلاة بدليل ما لو رأى حريقا, أو غريقا في الصلاة عند ضيق وقتها لزمه ترك الصلاة, والخروج لإنقاذه فلأن يقدمها على الطهارة بالماء أولى وقد روي في الخبر, أن بغيا أصابها العطش فنزلت بئرا فشربت منه فلما صعدت رأت كلبا يلحس الثرى من العطش, فقالت: لقد أصاب هذا من العطش مثل ما أصابني فنزلت فسقته بموقها فغفر الله لها فإذا كان هذا الأجر من سقى الكلب فغيره أولى.
فصل:
وإذا وجد الخائف من العطش ماء طاهرا, وماء نجسا يكفيه أحدهما لشربه فإنه يحبس الماء الطاهر لشربه ويريق النجس إن استغنى عن شربه وقال القاضي: يتوضأ بالطاهر, ويحبس النجس لشربه لأنه وجد ماء طاهرا مستغنى عن شربه فأشبه ما لو كان ماء كثيرا طاهرا ولنا أنه لا يقدر على ما يجوز الوضوء به ولا على ما يجوز له شربه سوى هذا الطاهر, فجاز له حبسه إذا خاف العطش كما لو لم يكن معه سواه وإن وجدهما وهو عطشان شرب الطاهر, وأراق النجس إذا استغنى عنه سواء كان في الوقت أو قبله وقال بعض الشافعية: إن كان في الوقت شرب النجس لأن الطاهر مستحق الطهارة, فهو كالمعدوم وليس بصحيح لأن شرب النجس حرام وإنما يصير الطاهر مستحقا للطهارة إذا استغنى عن شربه وهذا غير مستغن عن شربه, ووجود النجس كعدمه لتحريم شربه.
فصل:
وإذا كان الماء موجودا إلا أنه إذا اشتغل بتحصيله واستعماله فات الوقت لم يبح له التيمم سواء كان حاضرا أو مسافرا, في قول أكثر أهل العلم منهم: الشافعي وأبو ثور وابن المنذر, وأصحاب الرأي وعن الأوزاعي والثوري: له التيمم رواه عنهما الوليد بن مسلم قال الوليد: فذكرت ذلك لمالك وابن أبي ذئب, وسعيد بن عبد العزيز فقالوا: يغتسل وإن طلعت الشمس وذلك لقول الله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} وحديث أبي ذر, وهذا واجد للماء ولأنه قادر على الماء فلم يجز له التيمم كما لو لم يخف فوت الوقت ولأن الطهارة شرط, فلم يبح تركها خيفة فوت وقتها كسائر شرائطها وإن خاف فوت العيد لم يجز له التيمم وقال الأوزاعي, وأصحاب الرأي: له التيمم لأنه يخاف فوتها بالكلية فأشبه العادم ولنا الآية والخبر, وما ذكرنا من المعنى وإن خاف فوت الجنازة فكذلك في إحدى الروايتين لما ذكرنا والأخرى يباح له التيمم, ويصلي عليها وبه قال النخعي والزهري والحسن, ويحيى الأنصاري وسعد بن إبراهيم والليث, والثوري والأوزاعي وإسحاق, وأصحاب الرأي لأنه لا يمكن استدراكها بالوضوء فأشبه العادم وقال الشعبي: يصلي عليها من غير وضوء ولا تيمم لأنها لا ركوع فيها ولا سجود وإنما هي دعاء, فأشبهت الدعاء في غير الصلاة ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور وقوله: لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ) وقول الله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية ثم أباح ترك الغسل مشروطا بعدم الماء بقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} فما لم يوجد الشرط يبقى على قضية العموم
مسألة:
قال: [ وإذا نسي الجنابة وتيمم للحدث لم يجزه] وبهذا قال مالك وأبو ثور وقال أبو حنيفة, والشافعي: يجزئه لأن طهارتهما واحدة فسقطت إحداهما بفعل الأخرى كالبول والغائط ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا لم ينو الجنابة فلم يجزه عنها ولأنهما سببان مختلفان فلم تجز نية أحدهما عن الآخر, كالحج والعمرة ولأنهما طهارتان فلم تتأد إحداهما بنية الأخرى كطهارة الماء عند الشافعي, وفارق ما قاسوا عليه فإن حكمهما واحد وهو الحدث الأصغر ولهذا تجزئ نية أحدهما عن نية الآخر في طهارة الماء.
فصل:
وإن تيمم للجنابة, لم يجزه عن الحدث الأصغر لما ذكرنا والخلاف فيها كالتي قبلها فعلى هذا يحتاج إلى تعيين ما تيمم له من الحدث الأصغر والجنابة والحيض والنجاسة فإن نوى الجميع بتيمم واحد أجزأه لأن فعله واحد فأشبه طهارة الماء, وإن نوى بعضها أجزأه عن المنوي دون ما سواه وإن كان التيمم عن جرح في عضو من أعضائه نوى التيمم عن غسل ذلك العضو.
فصل:
وإذا تيمم للجنابة دون الحدث, أبيح له ما يباح للمحدث من قراءة القرآن واللبث في المسجد ولم تبح له الصلاة, والطواف ومس المصحف وإن أحدث لم يؤثر ذلك في تيممه لأنه نائب عن الغسل فلم يؤثر الحدث فيه, كالغسل وإن تيمم للجنابة والحدث ثم أحدث بطل تيممه للحدث, وبقي تيمم الجنابة بحاله ولو تيممت المرأة بعد طهرها من حيضها لحدث الحيض ثم أجنبت, لم يحرم وطؤها لأن حكم تيمم الحيض باق ولا يبطل بالوطء لأن الوطء إنما يوجب حدث الجنابة قال ابن عقيل: وإن قلنا كل صلاة تحتاج إلى تيمم احتاج كل وطء إلى تيمم يخصه, والأول أصح.
مسألة:
قال: [ وإذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة خرج فتوضأ, أو اغتسل إن كان جنبا واستقبل الصلاة] المشهور في المذهب أن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل تيممه سواء كان في الصلاة أو خارجا منها فإن كان في الصلاة بطلت, لبطلان طهارته ويلزمه استعمال الماء فيتوضأ إن كان محدثا, ويغتسل إن كان جنبا وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة وقال مالك والشافعي, وأبو ثور وابن المنذر: إن كان في الصلاة مضى فيها وقد روي ذلك عن أحمد, إلا أنه روي عنه ما يدل على رجوعه عنه قال المروذي: قال أحمد: كنت أقول يمضي ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث على أنه يخرج وهذا يدل على رجوعه عن هذه الرواية واحتجوا بأنه وجد المبدل بعد التلبس بمقصود البدل فلم يلزمه الخروج, كما لو وجد الرقبة بعد التلبس بالصيام ولأنه غير قادر على استعمال الماء لأن قدرته تتوقف على إبطال الصلاة وهو منهي عن إبطالها بقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} ولنا قوله عليه السلام: (الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين, فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك) أخرجه أبو داود والنسائي دل بمفهومه: على أنه لا يكون طهورا عند وجود الماء وبمنطوقه على وجوب إمساسه جلده عند وجوده ولأنه قدر على استعمال الماء فبطل تيممه, كالخارج من الصلاة ولأن التيمم طهارة ضرورة فبطلت بزوال الضرورة كطهارة المستحاضة إذا انقطع دمها يحققه أن التيمم لا يرفع الحدث وإنما أبيح للمتيمم أن يصلي مع كونه محدثا لضرورة العجز عن الماء, فإذا وجد الماء زالت الضرورة فظهر حكم الحدث كالأصل ولا يصح قياسهم فإن الصوم هو البدل نفسه, فنظيره إذا قدر على الماء بعد تيممه ولا خلاف في بطلانه ثم الفرق بينهما أن مدة الصيام تطول فيشق الخروج منه لما فيه من الجمع بين فرضين شاقين, بخلاف مسألتنا وقولهم: إنه غير قادر غير صحيح فإن الماء قريب وآلته صحيحة والموانع منتفية, وقولهم: إنه منهي عن إبطال الصلاة قلنا: لا يحتاج إلى إبطال الصلاة بل هي تبطل بزوال الطهارة كما في نظائرها فإذا ثبت هذا, فمتى خرج فتوضأ لزمه استئناف الصلاة وقيل: فيه وجه آخر أنه يبني على ما مضى منها كالذي سبقه الحدث والصحيح أنه لا يبني لأن الطهارة شرط, وقد فاتت ببطلان التيمم فلا يجوز بقاء الصلاة مع فوات شرطها ولا يجوز بقاء ما مضى صحيحا مع خروجه منها قبل إتمامها وكذا نقول فيمن سبقه الحدث وإن سلمنا, فالفرق بينهما أن ما مضى من الصلاة انبنى على طهارة ضعيفة ها هنا فلم يكن له البناء عليه كطهارة المستحاضة, بخلاف من سبقه الحدث.
فصل:
والمصلي على حسب حاله بغير وضوء ولا تيمم إذا وجد ماء في الصلاة, أو ترابا خرج منها بكل حال لأنها صلاة بغير طهارة ويحتمل أن يخرج فيها مثل ما في التيمم إذا وجد الماء إذا قلنا إنه لا تلزمه الإعادة ولأن الطهارة شرط سقط اعتباره فأشبهت السترة إذا عجز عنها فصلى عريانا, ثم وجد السترة في أثناء الصلاة قريبا منه وكل صلاة يلزمه إعادتها فإنه يلزمه الخروج منها إذا زال العذر, ويلزمه استقبالها وإن قلنا لا يلزمه إعادتها فإنها تشبه صلاة المتيمم إذا وجد الماء على ما مضى من القول فيها.
فصل:
ولو يمم الميت, ثم قدر على الماء في أثناء الصلاة عليه لزمه الخروج لأن غسل الميت ممكن غير متوقف على إبطال المصلي صلاته, بخلاف مسألتنا ويحتمل أن تكون كمسألتنا لأن الماء وجد بعد الدخول في الصلاة.
فصل:
وإذا قلنا لا يلزم المصلي الخروج لرؤية الماء فهل يجوز له الخروج؟ فيه وجهان: أحدهما, له ذلك لأنه شرع في مقصود البدل فخير بين الرجوع إلى المبدل وبين إتمام ما شرع فيه, كمن شرع في صوم الكفارة ثم أمكنه الرقبة والثاني لا يجوز له الخروج لأن ما لا يوجب الخروج من الصلاة لا يبيح الخروج منها كسائر الأشياء ولأصحاب الشافعي وجهان, كهذين.
فصل:
إذا رأى ماء في الصلاة ثم انقلب قبل استعماله فإن قلنا يلزمه الخروج من الصلاة فقد بطلت صلاته وتيممه برؤية الماء, والقدرة عليه ويلزمه استئناف التيمم والصلاة وإن قلنا لا تبطل صلاته واندفق وهو فيها, فقال ابن عقيل: ليس له أن يصلي بذلك التيمم صلاة أخرى وهذا مذهب الشافعي لأن رؤية الماء حرمت عليه افتتاح صلاة أخرى ولو تلبس بنافلة ثم رأى ماء فإن كان نوى عددا أتى به وإن لم يكن نوى عددا, لم يكن له أن يزيد على ركعتين لأنه أقل الصلاة على ظاهر المذهب قال الشيخ -رحمه الله-: ويقوى عندي أننا إذا قلنا لا تبطل الصلاة برؤية الماء فله افتتاح صلاة أخرى لأن رؤية الماء لم تبطل التيمم, ولو بطل لبطلت الصلاة وما وجد بعدها لا يبطله فأشبه ما لو رآه وبينه وبينه سبع ثم اندفق قبل زوال المانع, وله أن يصلي ما يشاء كما لو لم ير الماء.
فصل:
إذا تيمم ثم رأى ركبا يظن أن معه ماء, وقلنا بوجوب الطلب أو رأى خضرة أو شيئا يدل على الماء في موضع يلزمه الطلب فيه, بطل تيممه وكذلك إن رأى سرابا ظنه ماء بطل تيممه وهذا مذهب الشافعي لأنه لما وجب الطلب بطل التيمم وسواء تبين له خلاف ظنه أو لم يتبين فأما إن رأى الركب أو الخضرة في الصلاة, لم تبطل صلاته ولا تيممه لأنه دخل فيها بطهارة متيقنة فلا تزول بالشك ويحتمل أن لا يبطل تيممه أيضا, إذا كان خارجا من الصلاة لأن الطهارة المتيقنة لا تبطل بالشك كطهارة الماء ووجوب الطلب ليس بمبطل للتيمم لأن كونه مبطلا إنما يثبت بدليل شرعي, وليس في هذا نص ولا معنى نص فينتفي الدليل.
فصل:
وإن خرج وقت الصلاة ، وهو فيها ، بطل تيممه ، وبطلت صلاته ؛ لأن طهارته انتهت بانتهاء وقتها ، فبطلت صلاته ، كما لو انقضت مدة المسح ، وهو في الصلاة .
فصل:
ويبطل التيمم عن الحدث بكل ما يبطل الوضوء, ويزيد برؤية الماء المقدور على استعماله وخروج الوقت وزاد بعض أصحابنا ظن وجود الماء, على ما ذكرنا وزاد بعضهم ما لو نزع عمامة أو خفا يجوز له المسح عليه فإنه يبطل تيممه وذكر أن أحمد نص عليه لأنه مبطل للوضوء فأبطل التيمم, كسائر مبطلاته والصحيح أن هذا ليس بمبطل للتيمم وهذا قول سائر الفقهاء لأن التيمم طهارة لم يمسح فيها عليه فلا يبطل بنزعه, كطهارة الماء وكما لو كان الملبوس مما لا يجوز المسح عليه ولا يصح قولهم: إنه مبطل للوضوء لأن مبطل الوضوء نزع ما هو ممسوح عليه فيه, ولم يوجد ها هنا ولأن إباحة المسح لا يصير بها ماسحا ولا بمنزلة الماسح كما لو لبس عمامة يجوز المسح عليها, ومسح على رأسه من تحتها فإنه لا تبطل طهارته بنزعها فأما التيمم للجنابة فلا يبطله إلا رؤية الماء, وخروج الوقت وموجبات الغسل وكذلك التيمم لحدث الحيض والنفاس, لا يزول حكمه إلا بحدثهما أو بأحد الأمرين.
فصل:
يجوز التيمم لكل ما يتطهر له من نافلة أو مس مصحف, أو قراءة قرآن أو سجود تلاوة أو شكر, أو لبث في مسجد قال أحمد يتيمم ويقرأ جزأه يعني الجنب وبذلك قال عطاء ومكحول, والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري, ومالك والشافعي والثوري, وأصحاب الرأي وقال أبو مخرمة: لا يتيمم إلا لمكتوبة وكره الأوزاعي أن يمس المتيمم المصحف ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين) وقوله عليه السلام: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) ولأنه يستباح بطهارة الماء, فيستباح بالتيمم كالمكتوبة.
فصل:
وإن كانت على بدنه نجاسة ، وعجز عن غسلها ؛ لعدم الماء ، أو خوف الضرر باستعماله تيمم لها وصلى . قال أحمد : هو بمنزلة الجنب ، يتيمم . وروي معنى ذلك عن الحسن . وروي عن الأوزاعي ، والثوري ، وأبي ثور : يمسحها بالتراب ، ويصلي ؛ لأن طهارة النجاسة إنما تكون في محل النجاسة دون غيره . وقال القاضي : يحتمل أن يكون معنى قول أحمد : إنه بمنزلة الجنب الذي يتيمم ، أي أنه يصلي على حسب حاله كما يصلي الجنب الذي يتيمم ، وهذا قول الأكثرين من الفقهاء ؛ لأن الشرع إنما ورد بالتيمم للحدث ، وغسل النجاسة ليس في معناه ؛ لأنه إنما يؤتى به في محل النجاسة ، لا في غيره ؛ ولأن مقصود الغسل إزالة النجاسة ، ولا يحصل ذلك بالتيمم . ولنا قوله عليه السلام : (الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين) ، وقوله : (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) ؛ ولأنها طهارة في البدن تراد للصلاة ، فجاز لها التيمم عند عدم الماء ، أو خوف الضرر باستعماله كالحدث ويفارق الغسل التيمم فإنه في طهارة الحدث يؤتى به في غير محله ، فيما إذا تيمم لجرح في رجله ، أو موضع من بدنه غير وجهه ويديه ، بخلاف الغسل ، وقولهم : لم يرد به الشرع . قلنا : هو داخل في عموم الأخبار ، وفي معنى طهارة الحدث ؛ لما ذكرنا . فإذا ثبت هذا ، فإنه إذا تيمم للنجاسة وصلى ، فهل يلزمه الإعادة ؟ على روايتين . وقال أبو الخطاب : إن كان على جرحه نجاسة يستضر بإزالتها ، تيمم وصلى ولا إعادة عليه . وإن تيمم للنجاسة عند عدم الماء وصلى ، لزمته الإعادة عندي . وقال أصحابنا : لا تلزمه الإعادة ؛ لقوله عليه السلام : (التراب كافيك ما لم تجد الماء) ؛ ولأنها طهارة ناب عنها التيمم ، فلم تجب الإعادة فيها ، كطهارة الحدث ، وكما لو تيمم لنجاسة على جرحه يضره إزالتها ؛ ولأنه لو صلى من غير تيمم لم يلزمه الإعادة ، فمع التيمم أولى ؛ فأما إن كانت النجاسة على ثوبه ، أو غير بدنه ، فإنه لا يتيمم لها ؛ لأن التيمم طهارة في البدن ، فلا ينوب عن غير البدن كالغسل ؛ ولأن غير البدن لا ينوب فيه الجامد عند العجز ، بخلاف البدن .
فصل:
فإن اجتمع عليه نجاسة وحدث ومعه ما لا يكفي إلا أحدهما, غسل النجاسة وتيمم للحدث نص على هذا أحمد وقال الخلال: اتفق أبو عبد الله وسفيان على هذا ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأن التيمم للحدث ثابت بالنص والإجماع ومختلف فيه للنجاسة وإن كانت النجاسة على ثوبه, قدم غسلها وتيمم للحدث وروي عن أحمد: أنه يتوضأ ويدع الثوب لأنه واجد للماء, والوضوء أشد من غسل الثوب وحكاه أبو حنيفة عن حماد في الدم والأول أولى لما ذكرناه لأنه إذا قدم غسل نجاسة البدن مع أن للتيمم فيها مدخلا فتقديم طهارة الثوب أولى, وإن اجتمع نجاسة على الثوب ونجاسة على البدن وليس معه إلا ما يكفي أحدهما, غسل الثوب وتيمم لنجاسة البدن لأن للتيمم فيها مدخلا.
فصل:
وإذا اجتمع جنب وميت ومن عليها غسل حيض ومعهم ماء لا يكفي إلا أحدهم فإن كان ملكا لأحدهم, فهو أحق به فإنه يحتاج إليه لنفسه ولا يجوز له بذله لغيره, سواء كان مالكه الميت أو أحد الحيين وإن كان الماء لغيرهم وأراد أن يجود به على أحدهم فعن أحمد, -رحمه الله- روايتان: إحداهما الميت أحق به لأن غسله خاتمة طهارته فيستحب أن تكون طهارة كاملة, والحي يرجع إلى الماء فيغتسل ولأن القصد بغسل الميت تنظيفه ولا يحصل بالتيمم والحي يقصد بغسله إباحة الصلاة, ويحصل ذلك بالتراب والثانية الحي أولى لأنه متعبد بالغسل مع وجود الماء والميت قد سقط الفرض عنه بالموت اختار هذا الخلال وهل يقدم الجنب أو الحائض؟ فيه وجهان: أحدهما الحائض لأنها تقضي حق الله تعالى وحق زوجها في إباحة وطئها والثاني: الجنب إذا كان رجلا لأن الرجل أحق بالكمال من المرأة ولأنه يصلح إماما لها, وهي لا تصلح لإمامته وإن كان على أحدهم نجاسة فهو أولى به وإن وجدوا الماء في مكان فهو للأحياء لأن الميت لا يجد شيئا وإن كان للميت ففضلت منه فضلة فهو لورثته, فإن لم يكن له وارث حاضر فللحي أخذه بقيمته لأن في تركه إتلافه وقال بعض أصحابنا: ليس له أخذه لأن مالكه لم يأذن له فيه إلا أن يحتاج إليه للعطش فيأخذه بشرط الضمان وإن اجتمع جنب ومحدث, فالجنب أحق إن كان الماء يكفيه لأنه يستفيد به ما لا يستفيده المحدث وإن كان وفق حاجة المحدث فهو أولى به لأنه يستفيد به طهارة كاملة وإن كان لا يكفي واحدا منهما فالجنب أولى به لأنه يستفيد به تطهير بعض أعضائه وإن كان يكفي كل واحد منهما ويفضل منه فضلة لا تكفي الآخر, فالمحدث أولى لأن فضلته يمكن للجنب استعمالها ويحتمل أن الجنب أولى لأنه يستفيد بغسله ما لا يستفيد المحدث وإذا تغلب من غيره أولى منه على الماء فاستعمله, كان مسيئا وأجزأه لأن الآخر لم يملكه وإنما رجح لشدة حاجته.
فصل:
وهل يكره للعادم جماع زوجته إذا لم يخف العنت؟ فيه روايتان إحداهما يكره لأنه يفوت على نفسه طهارة ممكنا بقاؤها والثانية لا يكره, وهو قول جابر بن زيد والحسن وقتادة, والثوري والأوزاعي وإسحاق, وأصحاب الرأي وابن المنذر وحكي عن الأوزاعي أنه إن كان بينه وبين أهله أربع ليال فليصب أهله, وإن كان ثلاث فما دونها فلا يصبها والأولى جواز إصابتها من غير كراهة لأن (أبا ذر قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني أعزب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة فأصلي بغير طهور؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الصعيد الطيب طهور) رواه أبو داود والنسائي وأصاب ابن عباس من جارية له رومية, وهو عادم للماء وصلى بأصحابه وفيهم عمار فلم ينكروه قال إسحاق بن راهويه: هو سنة مسنونة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أبي ذر وعمار وغيرهما فإذا فعلا ووجدا من الماء ما يغسلان به فرجيهما غسلاهما, ثم تيمما وإن لم يجدا تيمما للجنابة والحدث الأصغر والنجاسة, وصليا.
مسألة:
قال: [ وإذا شد الكسير الجبائر وكان طاهرا ولم يعد بها موضع الكسر مسح عليها كلما أحدث, إلى أن يحلها] الجبائر: ما يعد لوضعه على الكسر لينجبر وقوله: " ولم يعد بها موضع الكسر " أراد لم يتجاوز الكسر إلا بما لا بد من وضع الجبيرة عليه فإن الجبيرة إنما توضع على طرفي الصحيح ليرجع الكسر قال الخلال: كأن أبا عبد الله استحب أن يتوقى أن يبسط الشد على الجرح بما يجاوزه ثم سهل في مسألة الميموني والمروذي لأن هذا مما لا ينضبط, وهو شديد جدا ولا بأس بالمسح على العصائب كيف شدها والصحيح ما ذكرناه إن شاء الله لأنه إذا شدها على مكان يستغنى عن شدها عليه, كان تاركا لغسل ما يمكنه غسله من غير ضرر فلم يجز, كما لو شدها على ما لا كسر فيه فإذا شدها على طهارة وخاف الضرر بنزعها, فله أن يمسح عليها إلى أن يحلها وممن رأى المسح على العصائب ابن عمر وعبيد بن عمير, وعطاء وأجاز المسح على الجبائر الحسن والنخعي ومالك, وإسحاق والمزني وأبو ثور, وأصحاب الرأي وقال الشافعي في أحد قوليه: يعيد كل صلاة صلاها لأن الله تعالى أمر بالغسل ولم يأت به ولنا ما روى علي رضي الله عنه قال: (انكسرت إحدى زندي, فأمرني النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أمسح على الجبائر) رواه ابن ماجه وحديث جابر في الذي أصابته الشجة ولأنه قول ابن عمر ولم يعرف له في الصحابة مخالفا ولأنه مسح على حائل أبيح له المسح عليه فلم تجب معه الإعادة, كالمسح على الخف.
فصل:
ويفارق مسح الجبيرة مسح الخف من خمسة أوجه: أحدها أنه لا يجوز المسح عليها إلا عند الضرر بنزعها والخف بخلاف ذلك والثاني, أنه يجب استيعابها بالمسح لأنه لا ضرر في تعميمها به بخلاف الخف فإنه يشق تعميم جميعه ويتلفه المسح وإن كان بعضها في محل الفرض, وبعضها في غيره مسح ما حاذى محل الفرض نص عليه أحمد الثالث أنه يمسح على الجبيرة من غير توقيت بيوم وليلة ولا ثلاثة أيام لأن مسحها للضرورة فيقدر بقدرها, والضرورة تدعو في مسحها إلى حلها فيقدر بذلك دون غيره الرابع أنه يمسح عليها في الطهارة الكبرى, بخلاف غيرها لأن الضرر يلحق بنزعها فيها بخلاف الخف الخامس أنه لا يشترط تقدم الطهارة على شدها في إحدى الروايتين اختاره الخلال وقال: قد روى حرب, وإسحاق والمروذي في ذلك سهولة عن أحمد واحتج بابن عمر, وكأنه ترك قوله الأول وهو أشبه لأن هذا مما لا ينضبط ويغلظ على الناس جدا, فلا بأس به ويقوي هذا حديث جابر في الذي أصابته الشجة فإنه قال: (إنما كان يجزئه أن يعصب على جرحه خرقة, ويمسح عليها) ولم يذكر الطهارة وكذلك أمر عليا أن يمسح على الجبائر ولم يشترط طهارة ولأن المسح عليها جاز دفعا لمشقة نزعها, ونزعها يشق إذا لبسها على غير طهارة كمشقته إذا لبسها على طهارة والرواية الثانية: لا يمسح عليها إلا أن يشدها على طهارة وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه حائل يمسح عليه, فكان من شرط المسح عليه تقدم الطهارة كسائر الممسوحات فعلى هذا إذا لبسها على غير طهارة ثم خاف من نزعها, تيمم لها وكذا إذا تجاوز بالشد عليها موضع الحاجة وخاف من نزعها تيمم لها لأنه موضع يخاف الضرر باستعمال الماء فيه, فيتيمم له كالجرح نفسه.
فصل:
ولا يحتاج مع مسحها إلى تيمم ، ويحتمل أن يتيمم مع مسحها فيما إذا تجاوز بها موضع الحاجة ؛ لأن ما على موضع الحاجة يقتضي المسح ، والزائد يقتضي التيمم ، وكذلك فيما إذا شدها على غير طهارة ؛ لأنها مختلف في إباحة المسح عليها . فإذا قلنا لا يمسح عليها . كان فرضها التيمم . وعلى القول الآخر يكون فرضها المسح ، فإذا جمع بينهما خرج من الخلاف ، ومذهب الشافعي في الجمع بينهما قولان في الجملة لحديث جابر في الذي أصابته الشجة . ولنا أنه محل واحد ، فلا يجمع فيه بين بدلين ، كالخف ؛ ولأنه ممسوح في طهارة ، فلم يجب له التيمم ، كالخف ، وصاحب الشجة ، الظاهر أنه لبسها على غير طهارة .
فصل:
ولا فرق بين كون الشد على كسر أو جرح قال أحمد: إذا توضأ وخاف على جرحه الماء, مسح على الخرقة وحديث جابر في صاحب الشجة إنما هو في المسح على عصابة جرح لأن الشجة اسم لجرح الرأس خاصة ولأنه حائل موضع يخاف الضرر بغسله فأشبه الشد على الكسر وكذلك إن وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه, مسح عليه نص عليه أحمد قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن الجرح يكون بالرجل يضع عليه الدواء, فيخاف إن نزع الدواء إذا أراد الوضوء أن يؤذيه؟ قال: ما أدري ما يؤذيه ولكن إذا خاف على نفسه أو خوف من ذلك, مسح عليه وروى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة, فألقمها مرارة فكان يتوضأ عليها ولو انقطع ظفر إنسان أو كان بأصبعه جرح خاف إن أصابه الماء أن يزرق الجرح, جاز المسح عليه نص عليه أحمد وقال القاضي في اللصوق على الجرح: إن لم يكن في نزعه ضرر نزعه وغسل الصحيح, ويتيمم للجرح ويمسح على موضع الجرح فإن كان في نزعه ضرر فحكمه حكم الجبيرة, يمسح عليه.
فصل:
فإن كان في رجله شق فجعل فيه قيرا فقال أحمد ينزعه ولا يمسح عليه وقال: هذا أهون, هذا لا يخاف منه فقيل له: متى يسع صاحب الجرح أن يمسح على الجرح؟ فقال: إذا خشي أن يزداد وجعا أو شدة وتعليل أحمد في القير بسهولته يقتضي أنه متى كان على شيء يخاف منه جاز المسح عليه كما قلنا في الإصبع المجروحة إذا جعل عليها مرارة أو عصبها, مسحها وقال مالك في الظفر يسقط: يكسوه مصطكا ويمسح عليه وهو قول أصحاب الرأي.
فصل:
وإذا لم يكن على الجرح عصاب فقد ذكرنا فيما تقدم أنه يغسل الصحيح, ويتيمم للجرح وقد روى حنبل عن أحمد في المجروح والمجدور يخاف عليه, يمسح موضع الجرح ويغسل ما حوله يعني يمسح إذا لم يكن عليه عصاب. باب المسح على الخفين المسح على الخفين جائز عند عامة أهل العلم حكى ابن المنذر عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخفين اختلاف أنه جائز وعن الحسن قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسح على الخفين) وروى البخاري عن سعد بن مالك, والمغيرة وعمرو بن أمية (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على الخفين) وروى أبو داود (عن جرير بن عبد الله, أنه توضأ ومسح على الخفين فقيل له: أتفعل هذا؟ قال: ما يمنعني أن أمسح, وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح فقيل له: قبل نزول المائدة أو بعده؟ فقال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة وفي رواية أنه قال: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بال, ثم توضأ ومسح على خفيه) قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة متفق عليه ورواه حذيفة والمغيرة, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- متفق عليهما قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء فيه أربعون حديثا عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رفعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وما وقفوا.
فصل:
وروي عن أحمد أنه قال: المسح أفضل يعني من الغسل لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إنما طلبوا الفضل وهذا مذهب الشافعي والحكم, وإسحاق لأنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه) (وما خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ولأن فيه مخالفة أهل البدع وقد روي عن سفيان الثوري أنه قال لشعيب بن حرب: لا ينفعك ما كتبت, حتى ترى المسح على الخفين أفضل من الغسل وروى حنبل عن أحمد أنه قال: كله جائز, المسح والغسل ما في قلبي من المسح شيء ولا من الغسل وهذا قول ابن المنذر وروي عن ابن عمر, أنه أمرهم أن يمسحوا على خفافهم وخلع خفيه وتوضأ, وقال: حبب إلي الوضوء وقال ابن عمر: إني لمولع بغسل قدمي فلا تقتدوا بي وقيل: الغسل أفضل لأنه المفروض في كتاب الله تعالى والمسح رخصة وقد ذكرنا من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب أن تقبل رخصه).
مسألة:
قال أبو القاسم, -رحمه الله-: [ ومن لبس خفيه وهو كامل الطهارة ثم أحدث, مسح عليهما] لا نعلم في اشتراط تقدم الطهارة لجواز المسح خلافا ووجهه: ما روى المغيرة قال: (كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فأهويت لأنزع خفيه, فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما) متفق عليه فأما إن غسل إحدى رجليه فأدخلها الخف ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف, لم يجز المسح أيضا وهو قول الشافعي وإسحاق ونحوه عن مالك وحكى بعض أصحابنا رواية أخرى عن أحمد أنه يجوز المسح رواها أبو طالب عنه, وهو قول يحيى بن آدم وأبي ثور وأصحاب الرأي لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس فجاز المسح, كما لو نزع الخف الأول ثم عاد فلبسه وقيل أيضا فيمن غسل رجليه, ولبس خفيه ثم غسل بقية أعضائه: يجوز له المسح وذلك مبني على أن الترتيب غير واجب في الوضوء وقد سبق ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دعهما, فإني أدخلتهما طاهرتين) وفي لفظ لأبي داود: (دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان) فجعل العلة وجود الطهارة فيهما جميعا وقت إدخالهما ولم توجد طهارتهما وقت لبس الأول ولأن ما اعتبرت له الطهارة اعتبر له كمالها كالصلاة ومس المصحف ولأن الأول خف ملبوس قبل رفع الحدث, فلم يجز المسح عليه كما لو لبسه قبل غسل قدميه ودليل بقاء الحدث أنه لا يجوز له مس المصحف بالعضو المغسول, فأما إذا نزع الخف الأول ثم لبسه فقد لبسه بعد كمال الطهارة وقول الخرقي: " ثم أحدث " يعني الحدث الأصغر فإن جواز المسح مختص به, ولا يجزئ المسح في جنابة ولا غسل واجب ولا مستحب, لا نعلم في هذا خلافا وقد روى صفوان بن عسال المرادي قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا, أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح ولأن وجوب الغسل يندر, فلا يشق إيجاب غسل القدم بخلاف الطهارة الصغرى ولذلك وجب غسل ما تحت الشعور الكثيفة, وهكذا الحكم في العمامة وسائر الحوائل إلا الجبيرة وما في معناها.
فصل:
فإن تطهر, ثم لبس الخف فأحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف لم يجز له المسح لأن الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فصار كما لو بدأ اللبس وهو محدث
فصل:
فإن تيمم, ثم لبس الخف لم يكن له المسح لأنه لبسه على طهارة غير كاملة ولأنها طهارة ضرورة بطلت من أصلها, فصار كاللابس له على غير طهارة ولأن التيمم لا يرفع الحدث فقد لبسه وهو محدث وإن تطهرت المستحاضة ومن به سلس البول, وشبههما ولبسوا خفافا فلهم المسح عليها نص عليه أحمد لأن طهارتهم كاملة في حقهم قال ابن عقيل: لأنها مضطرة إلى الترخص, وأحق من يترخص المضطر فإن انقطع الدم وزالت الضرورة بطلت الطهارة من أصلها, ولم يكن لها المسح كالمتيمم إذا وجد الماء.
فصل:
إذا لبس خفين ثم أحدث, ثم لبس فوقهما خفين أو جرموقين لم يجز المسح عليهما بغير خلاف لأنه لبسهما على حدث وإن مسح على الأولين, ثم لبس الجرموقين لم يجز المسح عليهما أيضا ولأصحاب الشافعي وجه في تجويزه لأن المسح قائم مقام غسل القدم ولنا أن المسح على الخف لم يزل الحدث عن الرجل فكأنه لبسه على حدث ولأن الخف الممسوح عليه بدل والبدل لا يكون له بدل ولأنه لبسه على طهارة غير كاملة, فأشبه المتيمم وإن لبس الفوقاني قبل أن يحدث جاز المسح عليه بكل حال سواء كان الذي تحته صحيحا أو مخرقا وهو قول الحسن بن صالح, والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي, ومنع منه مالك في إحدى روايتيه والشافعي في أحد قوليه لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب فلا يتعلق به رخصة عامة, كالجبيرة ولنا أنه خف ساتر يمكن متابعة المشي فيه أشبه المفرد وكما لو كان الذي تحته مخرقا, وقوله: " الحاجة لا تدعو إليه " ممنوع فإن البلاد الباردة لا يكفي فيها خف واحد غالبا ولو سلمنا ذلك ولكن الحاجة معتبرة بدليلها, وهو الإقدام على اللبس لا بنفسها فهو كالخف الواحد إذا ثبت هذا فمتى نزع الفوقاني قبل مسحه لم يؤثر ذلك, وكان لبسه كعدمه وإن نزعه بعد مسحه بطلت الطهارة, ووجب نزع الخفين وغسل الرجلين لزوال محل المسح ونزع أحد الخفين كنزعهما لأن الرخصة تعلقت بهما فصار كانكشاف القدم ولو أدخل يده من تحت الفوقاني, ومسح الذي تحته جاز لأن كل واحد منهما محل للمسح فجاز المسح على ما شاء منهما كما يجوز غسل قدمه في الخف, مع أن له المسح عليه ولو لبس أحد الجرموقين في إحدى الرجلين دون الأخرى جاز المسح عليه وعلى الخف الذي في الرجل الأخرى لأن الحكم تعلق به وبالخف في الرجل الأخرى, فهو كما لو لم يكن تحته شيء
فصل:
فإن لبس خفا مخرقا فوق صحيح فعن أحمد جواز المسح قال في رواية حرب: الخف المخرق إذا كان في رجليه جورب مسح وإن كان الخف منخرقا, وأما إن كان تحته لفائف أو خرق فلا يجوز المسح نص عليه أحمد في مواضع ووجهه أن القدم مستور بما يجوز المسح عليه فجاز المسح كما لو كان السفلاني مكشوفا, بخلاف ما إذا كان تحته لفافة وقال القاضي وأصحابه: لا يجوز المسح إلا على التحتاني لأن الفوقاني لا يجوز المسح عليه مفردا فلم يجز المسح عليه مع غيره, كالذي تحته لفافة وإن لبس مخرقا على مخرق فاستتر القدم بهما, احتمل أن يكون كالتي قبلها لأن القدم مستور بالخفين فأشبه المستور بالصحيحين أو صحيح ومخرق, واحتمل أن لا يجوز لأن القدم لم يستتر بخف صحيح بخلاف التي قبلها
فصل:
وإن لبس الخف بعد طهارة مسح فيها على العمامة أو العمامة بعد طهارة مسح فيها على الخف, فقال بعض أصحابنا: ظاهر كلام أحمد: أنه لا يجوز المسح لأنه لبس على طهارة ممسوح فيها على بدل فلم يستبح المسح باللبس فيها كما لو لبس خفا على طهارة مسح فيها على خف وقال القاضي: يحتمل جواز المسح لأنها طهارة كاملة, وكل واحد منهما ليس ببدل عن الآخر بخلاف الخف الملبوس على خف ممسوح عليه.
فصل:
وإن لبس الجبيرة على طهارة مسح فيها على خف أو عمامة وقلنا ليس من شرطها الطهارة, جاز المسح بكل حال وإن اشترطنا لها الطهارة احتمل أن يكون كالعمامة الملبوسة على طهارة مسح فيها على الخف, واحتمل جواز المسح بكل حال لأن مسحها عزيمة وإن لبس الخف على طهارة مسح فيها على الجبيرة جاز المسح عليه لأنها عزيمة ولأنها كانت ناقصة فهو لنقص لم يزل, فلم يمنع جواز المسح كنقص طهارة المستحاضة قبل زوال عذرها وإن لبس الجبيرة على طهارة مسح فيها على الجبيرة جاز المسح, لما ذكرناه
مسألة:
قال: [ يوما وليلة للمقيم وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر] قال أحمد: التوقيت ما أثبته في المسح على الخفين قيل له: تذهب إليه؟ قال: نعم وهو من وجوه وبهذا قال عمر, وعلى وابن مسعود وابن عباس, وأبو زيد وشريح وعطاء, والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي, وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال الليث: يمسح ما بدا له وكذلك قال مالك في المسافر وله في المقيم روايتان إحداهما يمسح من غير توقيت والثانية لا يمسح لما روى أبي بن عمارة (قال: قلت: يا رسول الله أتمسح على الخفين؟ قال: نعم قلت: يوما؟ قال: ويومين قلت: وثلاثة؟ قال: وما شئت) رواه أبو داود ولأنه مسح في طهارة فلم يتوقت, كمسح الرأس والجبيرة ولنا: ما روى علي رضي الله عنه (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم) رواه مسلم وحديث صفوان بن عسال, وقد ذكرناه وعن عوف بن مالك الأشجعي (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر, ويوما وليلة للمقيم) رواه الإمام أحمد وقال: هو أجود حديث في المسح على الخفين لأنه في غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخر فعله, وحديثهم ليس بالقوي قال أبو داود وفي إسناده مجاهيل منهم: عبد الرحمن بن رزين وأيوب بن قطن ومحمد بن زيد ويحتمل أنه يمسح ما شاء, إذا نزعهما عند انتهاء مدته ثم لبسهما ويحتمل أنه قال: " وما شئت " من اليوم واليومين والثلاثة ويحتمل أنه منسوخ بأحاديثنا لأنها متأخرة لكون حديث عوف في غزوة تبوك وليس بينها وبين وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا شيء يسير, وقياسهم ينتقض بالتيمم
فصل:
إذا انقضت المدة بطل الوضوء وليس له المسح إلا أن ينزعهما ثم يلبسهما على طهارة كاملة وفيه رواية أخرى أنه يجزئه غسل قدميه, كما لو خلعهما وسنذكر ذلك والخلاف فيه -إن شاء الله تعالى- وقال الحسن: لا يبطل الوضوء, ويصلي حتى يحدث ثم لا يمسح بعد حتى ينزعهما وقال داود: ينزع خفيه ولا يصلي فيهما فإذا نزعهما صلى حتى يحدث لأن الطهارة لا تبطل إلا بحدث ونزع الخف ليس بحدث, وكذلك انقضاء المدة ولنا أن غسل الرجلين شرط للصلاة وإنما قام المسح مقامه في المدة فإذا انقضت لم يجز أن يقوم مقامه إلا بدليل ولأنها طهارة لا يجوز ابتداؤها, فيمنع من استدامتها كالمتيمم عند رؤية الماء.
مسألة:
قال: [ فإن خلع قبل ذلك أعاد الوضوء] يعني قبل انقضاء المدة إذا خلع خفيه بعد المسح عليهما بطل وضوءه وبه قال النخعي, والزهري ومكحول والأوزاعي, وإسحاق وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى, أنه يجزئه غسل قدميه وهو مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي لأن مسح الخفين ناب عن غسل الرجلين خاصة فطهورهما يبطل ما ناب عنه, كالتيمم إذا بطل برؤية الماء وجب ما ناب عنه وهذا الاختلاف مبني على وجوب الموالاة في الوضوء فمن أجاز التفريق جوز غسل القدمين لأن سائر أعضائه مغسولة ولم يبق إلا غسل قدميه, فإذا غسلهما كمل وضوءه ومن منع التفريق أبطل وضوءه لفوات الموالاة فعلى هذا لو خلع الخفين قبل جفاف الماء عن يديه, أجزأه غسل قدميه وصار كأنه خلعهما قبل مسحه عليهما وقال الحسن وقتادة, وسليمان بن حرب: لا يتوضأ ولا يغسل قدميه لأنه أزال الممسوح عليه بعد كمال الطهارة فأشبه ما لو حلق رأسه بعد المسح عليه أو قلم أظفاره بعد غسلها ولأن النزع ليس بحدث, والطهارة لا تبطل إلا بالحدث ولنا أن الوضوء بطل في بعض الأعضاء فبطل في جميعها كما لو أحدث, وما ذكروه يبطل بنزع أحد الخفين فإنه يبطل الطهارة في القدمين جميعا وإنما ناب مسحه عن إحداهما وأما التيمم عن بعض الأعضاء إذا بطل, فقد سبق القول فيه في موضعه وحكي عن مالك أنه إذا خلع خفيه غسل قدميه مكانه وصحت طهارته وإن أخره, استأنف الطهارة لأن الطهارة كانت صحيحة في جميع الأعضاء إلى حين نزع الخفين أو انقضاء المدة وإنما بطلت في القدمين خاصة, فإذا غسلهما عقيب النزع لم تفت الموالاة لقرب غسلهما من الطهارة الصحيحة في بقية الأعضاء بخلاف ما إذا تراخى غسلهما ولا يصح لأن المسح قد بطل حكمه, وصار إلى أن نضيف الغسل إلى الغسل فلم يبق للمسح حكم ولأن الاعتبار في الموالاة إنما هو لقرب الغسل من الغسل لا من حكمه, فإنه متى زال حكم الغسل بطلت الطهارة ولم ينفع قرب الغسل شيئا لكون الحكم لا يعود بعد زواله إلا بسبب جديد.
فصل:
وإن نزع العمامة بعد مسحها بطلت طهارته أيضا وعلى الرواية الأخرى, يلزمه مسح رأسه وغسل قدميه ليحصل الترتيب ولو نزع الجبيرة بعد مسحها فهو كنزع العمامة, إلا أنه إن كان مسح عليها في غسل يعم البدن لم يحتج إلى إعادة غسل ولا وضوء لأن الترتيب والموالاة ساقطان فيه
فصل:
ونزع أحد الخفين كنزعهما في قول أكثر أهل العلم منهم: مالك والثوري, والأوزاعي وابن المبارك والشافعي, وأصحاب الرأي ويلزمه نزع الآخر وقال الزهري: يغسل القدم الذي نزع الخف منه ويمسح الآخر لأنهما عضوان, فأشبها الرأس والقدم ولنا أنهما في الحكم كعضو واحد ولهذا لا يجب ترتيب أحدهما على الآخر, فيبطل مسح أحدهما بظهور الآخر كالرجل الواحدة وبهذا فارق الرأس والقدم.
فصل:
وانكشاف بعض القدم من خرق كنزع الخف فإن انكشفت ظهارته, وبقيت بطانته لم تضر لأن القدم مستورة بما يتبع الخف في البيع فأشبه ما لو لم ينكشط
فصل:
وإن أخرج رجله إلى ساق الخف, فهو كخلعه وبهذا قال إسحاق وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يبين لي أن عليه الوضوء لأن الرجل لم تظهر وحكى أبو الخطاب في " رءوس المسائل " عن أحمد رواية أخرى كذلك ولنا, أن استقرار الرجل في الخف شرط جواز المسح بدليل ما لو أدخل الخف فأحدث قبل استقرارها فيه, لم يكن له المسح فإذا تغير الاستقرار زال شرط جواز المسح فيبطل المسح لزوال شرطه, كزوال استتاره وإن كان إخراج القدم إلى ما دون ذلك لم يبطل المسح لأنها لم تزل عن مستقرها.
فصل:
كره أحمد لبس الخفين وهو يدافع الأخبثين أو أحدهما لأن الصلاة مكروهة بهذه الطهارة واللبس يراد ليمسح عليه للصلاة وكان إبراهيم النخعي إذا أراد أن يبول لبس خفيه ولا يرى الأمر في ذلك واسعا لأن الطهارة كاملة, فأشبه ما لو لبسه إذا خاف غلبة النعاس وإنما كرهت الصلاة لأن اشتغال قلبه بمدافعة الأخبثين يذهب بخشوع الصلاة ويمنع الإتيان بها على الكمال, وربما حمله ذلك على العجلة فيها ولا يضر ذلك في اللبس.
مسألة:
قال: [ ولو أحدث وهو مقيم فلم يمسح حتى سافر, أتم على مسح مسافر منذ كان الحدث] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من لم يمسح حتى سافر أنه يتم مسح المسافر وذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وهو حال ابتدائه بالمسح كان مسافرا وقوله: " منذ كان الحدث " يعني ابتداء المدة من حين أحدث بعد لبس الخف هذا ظاهر مذهب أحمد وهو مذهب الثوري, والشافعي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد رواية أخرى أن ابتداءها من حين مسح بعد أن أحدث ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه فروى الخلال عنه, أنه قال امسح إلى مثل ساعتك التي مسحت وفي لفظ قال: يمسح المسافر إلى الساعة التي توضأ فيها واحتج أحمد بظاهر الحديث, قوله: يمسح المسافر على خفيه ثلاثة أيام ولياليهن " ولأن ما قبل المسح مدة لم تبح الصلاة بمسح الخف فيها فلم تحسب من المدة كما قبل الحدث وقال الشعبي وأبو ثور, وإسحاق: يمسح المقيم خمس صلوات لا يزيد عليها ولنا: ما نقله القاسم بن زكريا المطرز في حديث صفوان: (من الحدث إلى الحدث) ولأن ما بعد الحدث زمان يستباح فيه المسح, فكان من وقته كبعد المسح والخبر أراد أنه يستبيح المسح دون فعله والله أعلم وأما تقديره بعدد الصلوات فلا يصح لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما قدره بالوقت دون الفعل, فعلى هذا يمكن المقيم أن يصلي بالمسح ست صلوات وهو أن يؤخر الصلاة ثم يمسح, ويصليها وفي اليوم الثاني يعجلها فيصليها في أول وقتها قبل انقضاء مدة المسح إن كان له عذر يبيح الجمع من سفر, أو غيره أمكنه أن يصلي سبع صلوات.
مسألة:
قال [ولو أحدث مقيما ، ثم مسح مقيما ، ثم سافر ، أتم على مسح مقيم ، ثم خلع] اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة ؛ فروي عنه : مثل ما ذكر الخرقي وهو قول الثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وروي عنه : أنه يمسح مسح المسافر ، سواء مسح في الحضر لصلاة أو أكثر منها بعد أن لا تنقضي مدة المسح ، وهو حاضر . وهو مذهب أبي حنيفة لقوله عليه السلام : (يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وهذا مسافر ؛ ولأنه سافر قبل كمال مدة المسح ، فأشبه من سافر قبل المسح بعد الحدث . وهذا اختيار الخلال ، وصاحبه أبي بكر . وقال الخلال : رجع أحمد عن قوله الأول إلى هذا ووجه قول الخرقي أنها عبادة تختلف بالحضر والسفر ، وجد أحد طرفيها في الحضر ، فغلب فيها حكم الحضر ، كالصلاة ، والخبر يقتضي أن يمسح المسافر ثلاثا في سفره ، وهذا يتناول من ابتدأ المسح في سفره ، وفي مسألتنا يحتسب بالمدة التي مضت في الحضر .">مسألة:قال [ولو أحدث مقيما ، ثم مسح مقيما ، ثم سافر ، أتم على مسح مقيم ، ثم خلع] اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة ؛ فروي عنه : مثل ما ذكر الخرقي وهو قول الثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وروي عنه : أنه يمسح مسح المسافر ، سواء مسح في الحضر لصلاة أو أكثر منها بعد أن لا تنقضي مدة المسح ، وهو حاضر . وهو مذهب أبي حنيفة لقوله عليه السلام : (يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وهذا مسافر ؛ ولأنه سافر قبل كمال مدة المسح ، فأشبه من سافر قبل المسح بعد الحدث . وهذا اختيار الخلال ، وصاحبه أبي بكر . وقال الخلال : رجع أحمد عن قوله الأول إلى هذا ووجه قول الخرقي أنها عبادة تختلف بالحضر والسفر ، وجد أحد طرفيها في الحضر ، فغلب فيها حكم الحضر ، كالصلاة ، والخبر يقتضي أن يمسح المسافر ثلاثا في سفره ، وهذا يتناول من ابتدأ المسح في سفره ، وفي مسألتنا يحتسب بالمدة التي مضت في الحضر .
فصل:
فإن شك هل ابتدأ المسح في السفر, أو الحضر بنى على مسح حاضر لأنه لا يجوز المسح مع الشك في إباحته فإن ذكر بعد أنه كان قد ابتدأ المسح في السفر جاز البناء على مسح مسافر وإن كان قد صلى بعد اليوم والليلة مع الشك, ثم تيقن فعليه إعادة ما صلى مع الشك لأنه صلى بطهارة لم يكن له أن يصلي بها فهو كما لو صلى يعتقد أنه محدث, ثم ذكر أنه كان على وضوء كانت طهارته صحيحة وعليه إعادة الصلاة وإن كان مسح مع الشك صح لأن الطهارة تصح مع الشك في سببها, ألا ترى أنه لو شك في الحدث فتوضأ ينوي رفع الحدث ثم تيقن أنه كان محدثا أجزأه وعكسه: ما لو شك في دخول الوقت, فصلى ثم تيقن أنه كان قد دخل لم يجزه وكذلك إن شك الماسح في وقت الحدث, بنى على الأحوط عنده وهذا التفريع على الرواية الأولى فأما على الثانية فإنه يمسح مسح المسافر على كل حال.
مسألة:
قال: [ وإذا مسح مسافر أقل من يوم وليلة, ثم أقام أو قدم أتم على مسح مقيم وخلع وإذا مسح مسافر يوما وليلة فصاعدا ثم أقام أو قدم خلع] وهذا قول الشافعي, وأصحاب الرأي ولا أعلم فيه مخالفا لأنه صار مقيما لم يجز له أن يمسح مسح المسافر, كمحل الوفاق ولأن المسح عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر فإذا ابتدأها في السفر ثم حضر في أثنائها غلب حكم الحضر, كالصلاة فعلى هذا لو مسح أكثر من يوم وليلة ثم دخل في الصلاة فنوى الإقامة في أثنائها, بطلت صلاته لأنه قد بطل المسح فبطلت طهارته فبطلت صلاته لبطلانها, ولو تلبس بالصلاة في سفينة فدخلت البلد في أثنائها بطلت صلاته لذلك.
مسألة:
قال: [ ولا يمسح إلا على خفين, أو ما يقوم مقامهما من مقطوع أو ما أشبهه مما يجاوز الكعبين] معناه والله أعلم يقوم مقام الخفين في ستر محل الفرض, وإمكان المشي فيه وثبوته بنفسه والمقطوع هو الخف القصير الساق وإنما يجوز المسح عليه إذا كان ساترا لمحل الفرض لا يرى منه الكعبان لكونه ضيقا أو مشدودا, وبهذا قال الشافعي وأبو ثور ولو كان مقطوعا من دون الكعبين لم يجز المسح عليه وهذا الصحيح عن مالك وحكي عنه, وعن الأوزاعي جواز المسح لأنه خف يمكن متابعة المشي فيه فأشبه الساتر, ولنا أنه لا يستر محل الفرض فأشبه اللالكة والنعلين.
فصل:
ولو كان للخف قدم وله شرج محاذ لمحل الفرض جاز المسح عليه, إذا كان الشرج مشدودا يستر القدم ولم يكن فيه خلل يبين منه محل الفرض وقال أبو الحسن الآمدي: لا يجوز ولنا أنه خف ساتر يمكن متابعة المشي فيه, فأشبه غير ذي الشرج.
فصل:
فإن كان الخف محرما كالقصب والحرير لم يستبح المسح عليه في الصحيح من المذهب وإن مسح عليه, وصلى أعاد الطهارة والصلاة لأنه عاص بلبسه فلم تستبح به الرخصة, كما لا يستبيح المسافر رخص السفر لسفر المعصية ولو سافر لمعصية لم يستبح المسح أكثر من يوم وليلة لأن يوما وليلة غير مختصة بالسفر ولا هي من رخصه فأشبه غير الرخص, بخلاف ما زاد على يوم وليلة فإنه من رخص السفر فلم يستبحه بسفر المعصية كالقصر والجمع.
فصل:
ويجوز المسح على كل خف ساتر, يمكن متابعة المشي فيه سواء كان من جلود أو لبود وما أشبههما فإن كان خشبا أو حديدا أو نحوهما فقال بعض أصحابنا: لا يجوز المسح عليها لأن الرخصة وردت في الخفاف المتعارفة للحاجة, ولا تدعو الحاجة إلى المسح على هذه في الغالب وقال القاضي: قياس المذهب جواز المسح عليها لأنه خف ساتر يمكن المشي فيه أشبه الجلود.
مسألة:
قال: [ وكذلك الجورب الصفيق الذي لا يسقط إذا مشى فيه] إنما يجوز المسح على الجورب بالشرطين اللذين ذكرناهما في الخف أحدهما أن يكون صفيقا, لا يبدو منه شيء من القدم الثاني أن يمكن متابعة المشي فيه هذا ظاهر كلام الخرقي قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل: إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجليه فلا بأس وفي موضع قال: يمسح عليهما إذا ثبتا في العقب وفي موضع قال: إن كان يمشي فيه فلا ينثني, فلا بأس بالمسح عليه فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء ولا يعتبر أن يكونا مجلدين قال أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة, أو ثمانية من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال ابن المنذر: ويروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي وعمار, وابن مسعود وأنس وابن عمر, والبراء وبلال وابن أبي أوفى, وسهل بن سعد وبه قال عطاء والحسن وسعيد بن المسيب, والنخعي وسعيد بن جبير والأعمش, والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك, وإسحاق ويعقوب ومحمد وقال أبو حنيفة, ومالك والأوزاعي ومجاهد, وعمرو بن دينار والحسن بن مسلم والشافعي: لا يجوز المسح عليهما, إلا أن ينعلا لأنهما لا يمكن متابعة المشي فيهما فلم يجز المسح عليهما كالرقيقين ولنا: ما روى المغيرة بن شعبة (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على الجوربين والنعلين) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وهذا يدل على أن النعلين لم يكونا عليهما لأنهما لو كانا كذلك لم يذكر النعلين, فإنه لا يقال: مسحت على الخف ونعله ولأن الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الجوارب ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم, فكان إجماعا ولأنه ساتر لمحل الفرض يثبت في القدم فجاز المسح عليه, كالنعل وقولهم: لا يمكن متابعة المشي فيه قلنا: لا يجوز المسح عليه إلا أن يكون مما يثبت بنفسه ويمكن متابعة المشي فيه فأما الرقيق فليس بساتر.
فصل:
وقد سئل أحمد عن جورب الخرق يمسح عليه؟ فكره الخرق ولعل أحمد كرهها لأن الغالب عليها الخفة, وأنها لا تثبت بأنفسها فإن كانت مثل جورب الصوف في الصفاقة والثبوت فلا فرق وقد قال أحمد في موضع: لا يجزئه المسح على الجورب حتى يكون جوربا صفيقا, يقوم قائما في رجله لا ينكسر مثل الخفين إنما مسح القوم على الجوربين أنه كان عندهم بمنزلة الخف يقوم مقام الخف في رجل الرجل, يذهب فيه الرجل ويجيء.
مسألة:
قال: [ وإن كان يثبت بالنعل مسح فإذا خلع النعل انتقضت الطهارة] يعني أن الجورب إذا لم يثبت بنفسه وثبت بلبس النعل, أبيح المسح عليه وتنتقض الطهارة بخلع النعل لأن ثبوت الجورب أحد شرطي جواز المسح وإنما حصل بلبس النعل, فإذا خلعها زال الشرط فبطلت الطهارة كما لو ظهر القدم والأصل في هذا حديث المغيرة وقوله: " مسح على الجوربين والنعلين " قال القاضي: ويمسح على الجورب والنعل كما جاء الحديث والظاهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما مسح على سيور النعل التي على ظاهر القدم, فأما أسفله وعقبه فلا يسن مسحه من الخف فكذلك من النعل
مسألة:
قال: [ وإذا كان في الخف خرق يبدو منه بعض القدم لم يجز المسح عليه] وجملته أنه إنما يجوز المسح على الخف ونحوه, إذا كان ساترا لمحل الفرض فإن ظهر من محل الفرض شيء لم يجز المسح, وإن كان يسيرا من موضع الخرز أو من غيره إذا كان يرى منه القدم وإن كان فيه شق ينضم ولا يبدو منه القدم لم يمنع جواز المسح نص عليه وهو مذهب معمر, وأحد قولي الشافعي وقال الثوري ويزيد بن هارون وإسحاق, وابن المنذر: يجوز المسح على كل خف وقال الأوزاعي: يمسح على الخف المخرق وعلى ما ظهر من رجله وقال أبو حنيفة: إن تخرق قدر ثلاث أصابع لم يجز, وإن كان أقل جاز ونحوه قال الحسن, وقال مالك: إن كثر وتفاحش لم يجز وإلا جاز وتعلقوا بعموم الحديث, وبأنه خف يمكن متابعة المشي فيه فأشبه الصحيح ولأن الغالب على خفاف العرب كونها مخرقة وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمسحها من غير تفصيل فينصرف إلى الخفاف الملبوسة عندهم غالبا, ولنا أنه غير ساتر للقدم فلم يجز المسح عليه كما لو كثر وتفاحش, أو قياسا على غير الخف ولأن حكم ما ظهر الغسل وما استتر المسح فإذا اجتمعا, غلب حكم الغسل كما لو انكشفت إحدى قدميه.
فصل:
ولا يجوز المسح على اللفائف والخرق نص عليه أحمد وقيل له: إن أهل الجبل يلفون على أرجلهم لفائف إلى نصف الساق؟ قال: لا يجزئه المسح على ذلك إلا أن يكون جوربا وذلك أن اللفافة لا تثبت بنفسها, إنما تثبت بشدها ولا نعلم في هذا خلافا.
مسألة:
قال: [ ويمسح على ظاهر القدم] السنة مسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه فيضع يده على موضع الأصابع, ثم يجرها إلى ساقه خطا بأصابعه وإن مسح من ساقه إلى أصابعه جاز والأول المسنون ولا يسن مسح أسفله ولا عقبه بذلك قال عروة, وعطاء والحسن والنخعي, والثوري الأوزاعي وإسحاق, وأصحاب الرأي وابن المنذر وروي عن سعد أنه كان يرى مسح ظاهره وباطنه وروي أيضا عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز, والزهري ومكحول وابن المبارك, ومالك والشافعي لما روى المغيرة بن شعبة, قال: (وضأت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح أعلى الخف وأسفله) رواه ابن ماجه ولأنه يحاذي محل الفرض فأشبه ظاهره ولنا قول علي رضي الله عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من ظاهره وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح ظاهر خفيه) رواه أبو داود وعن المغيرة قال: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح على الخفين على ظاهرهما) رواه أبو داود, والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وعن عمر قال: (رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالمسح على ظاهر الخفين إذا لبسهما وهما طاهرتان) رواه الخلال بإسناده ولأن باطنه ليس بمحل لفرض المسح, فلم يكن محلا لمسنونه كساقه ولأن مسحه غير واجب ولا يكاد يسلم من مباشرة أذى فيه, تتنجس يده به فكان تركه أولى وحديثهم معلول, قاله الترمذي قال: وسألت أبا زرعة ومحمدا - عنه فقالا: ليس بصحيح وقال أحمد: هذا من وجه ضعيف رواه رجاء بن حيوة, عن وراد كاتب المغيرة ولم يلقه وأسفل الخف ليس بمحل لفرض المسح بخلاف أعلاه.
فصل:
والمجزئ في المسح أن يمسح أكثر مقدم ظاهره خطوطا بالأصابع, وقال الشافعي: يجزئه أقل ما يقع عليه اسم المسح لأنه أطلق لفظ المسح ولم ينقل فيه تقدير فوجب الرجوع إلى ما يتناوله الاسم وقال أبو حنيفة: يجزئه قدر ثلاث أصابع لقول الحسن: سنة المسح خطط بالأصابع فينصرف إلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقل لفظ الجمع ثلاث, ولنا أن لفظ المسح ورد مطلقا وفسره النبي بفعله فيجب الرجوع إلى تفسيره, وقد روى الخلال بإسناده عن المغيرة بن شعبة, فذكر وضوء النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ثم (توضأ ومسح على الخفين فوضع يده اليمنى على خفه الأيمن, ووضع يده اليسرى على خفه الأيسر ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أثر أصابعه على الخفين) قال ابن عقيل: سنة المسح هكذا, أن يمسح خفيه بيديه اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى وقال أحمد: كيفما فعله فهو جائز باليد الواحدة أو باليدين, وقول الحسن مع ما ذكرنا لا يتنافيان.
فصل:
فإن مسح بخرقة أو خشبة, احتمل الإجزاء لأنه مسح على خفيه واحتمل المنع لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح بيده وإن مسح بإصبع أو إصبعين أجزأه إذا كرر المسح بها, حتى يصير مثل المسح بأصابعه وقيل لأحمد: يمسح بالراحتين أو بالأصابع؟ قال: بالأصابع قيل له: أيجزئه بإصبعين؟ قال: لم أسمع.
فصل:
وإن غسل الخف فتوقف أحمد وأجازه ابن حامد لأنه أبلغ من المسح وقال القاضي: لا يجزئه لأنه أمر بالمسح, ولم يفعله فلم يجزه كما لو طرح التراب على وجهه ويديه في التيمم, لكن إن أمر يديه على الخفين في حال الغسل أو بعده أجزأه لأنه قد مسح.
مسألة:
قال: [ وإن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزه] لا نعلم أحدا قال: يجزئه مسح أسفل الخف, إلا أشهب من أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعي لأنه مسح بعض ما يحاذي محل الفرض فأجزأه, كما لو مسح ظاهره والمنصوص عن الشافعي أنه لا يجزئه لأنه ليس محلا لفرض المسح فلم يجزئ مسحه كالساق, وقد ذكرنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما مسح ظاهر الخف ولا خلاف في أنه يجزئ مسح ظاهره قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا يقول بالمسح على الخفين يقول: لا يجزئ المسح على أعلى الخف.
فصل:
والحكم في المسح على عقب الخف كالحكم في مسح أسفله لأنه ليس بمحل لفرض المسح فهو كأسفله
مسألة:
قال: والرجل والمرأة في ذلك سواء يعني في المسح على الخفاف, وسائر أحكامه وشروطه لعموم الخبر ولأنه مسح أقيم مقام الغسل فاستوى فيه الرجال والنساء كالتيمم, ولا فرق بين المستحاضة ومن به سلس البول وغيرهما وقال بعض الشافعية: ليس لهما أن يمسحا على الخف أكثر من وقت صلاة لأن الطهارة التي لبسا الخف عليها لا يستباح بها أكثر من ذلك ولنا عموم قوله عليه السلام: (يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) ولأن المسح لا يبطل بمبطلات الطهارة فلا يبطل بخروج الوقت لكن إن زال عذرهما كملا في بابهما, فلم يكن لهما المسح بتلك الطهارة كالتيمم إذا أكمل بالقدرة على الماء لا يمسح بالخف الملبوس على التيمم.
فصل:
ويجوز المسح على العمامة قال ابن المنذر: وممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق, وبه قال عمر وأنس وأبو أمامة, وروي عن سعد بن مالك وأبي الدرداء رضي الله عنهم وبه قال عمر بن عبد العزيز والحسن, وقتادة ومكحول والأوزاعي, وأبو ثور وابن المنذر وقال عروة والنخعي, والشعبي والقاسم ومالك, والشافعي وأصحاب الرأي: لا يمسح عليها لقول الله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} ولأنه لا تلحقه المشقة في نزعها فلم يجز المسح عليها, كالكمين ولنا ما روي عن المغيرة بن شعبة قال: (توضأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومسح على الخفين والعمامة) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وفي " مسلم " (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على الخفين والخمار) قال أحمد: هو من خمسة وجوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- روى الخلال, بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله ولأنه حائل في محل ورد الشرع بمسحه فجاز المسح عليه, كالخفين ولأن الرأس عضو يسقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائله كالقدمين, والآية لا تنفي ما ذكرناه فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبين لكلام الله مفسر له وقد مسح النبي -صلى الله عليه وسلم- على العمامة, وأمر بالمسح عليها وهذا يدل على أن المراد بالآية المسح على الرأس أو حائله ومما يبين ذلك, أن المسح في الغالب لا يصيب الرأس وإنما يمسح على الشعر وهو حائل بين اليد وبينه فكذلك العمامة, فإنه يقال لمن لمس عمامته أو قبلها: قبل رأسه ولمسه وكذلك أمر بمسح الرجلين واتفقنا على جواز مسح حائلهما.
فصل:
ومن شروط جواز المسح على العمامة أن تكون ساترة لجميع الرأس, إلا ما جرت العادة بكشفه كمقدم الرأس والأذنين وشبههما من جوانب الرأس, فإنه يعفى عنه بخلاف الخرق اليسير في الخف فإنه لا يعفى عنه لأن هذا الكشف جرت العادة به لمشقة التحرز عنه, وإن كان تحت العمامة قلنسوة يظهر بعضها فالظاهر جواز المسح عليهما لأنهما صارا كالعمامة الواحدة ومن شروط جواز المسح عليها أن تكون على صفة عمائم المسلمين, بأن يكون تحت الحنك منها شيء لأن هذه عمائم العرب وهي أكثر سترا من غيرها ويشق نزعها, فيجوز المسح عليها سواء كانت لها ذؤابة أو لم يكن قاله القاضي وسواء كانت صغيرة أو كبيرة وإن لم يكن تحت الحنك منها شيء ولا لها ذؤابة, لم يجز المسح عليها لأنها على صفة عمائم أهل الذمة ولا يشق نزعها وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط) رواه أبو عبيد قال: والاقتعاط أن لا يكون تحت الحنك منها شيء وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا ليس تحت حنكه من عمامته شيء, فحنكه بكور منها وقال: ما هذه الفاسقية؟ فامتنع المسح عليها للنهي عنها وسهولة نزعها وإن كانت ذات ذؤابة, ولم تكن محنكة ففي المسح عليها وجهان: أحدهما جوازه لأنه لا تشبه عمائم أهل الذمة, إذ ليس من عادتهم الذؤابة والثاني لا يجوز لأنها داخلة في عموم النهي ولا يشق نزعها.
فصل:
وإذا كان بعض الرأس مكشوفا, مما جرت العادة بكشفه استحب أن يمسح عليه مع العمامة نص عليه أحمد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح على عمامته وناصيته في حديث المغيرة بن شعبة, وهو حديث صحيح قاله الترمذي وهل الجمع بينهما واجب؟ وقد توقف أحمد عنه فيخرج فيها وجهان: أحدهما وجوبه للخبر ولأن العمامة نابت عما استتر, فبقي الباقي على مقتضى الأصل كالجبيرة والثاني لا يجب لأن العمامة نابت عن الرأس, فتعلق الحكم بها وانتقل الفرض إليها فلم يبق لما ظهر حكم ولأن وجوبهما معا يفضي إلى الجمع بين بدل ومبدل في عضو واحد, فلم يجز من غير ضرورة كالخف وعلى هذا تخرج الجبيرة ولا خلاف في أن الأذنين لا يجب مسحهما لأنه لم ينقل ذلك وليسا من الرأس إلا على وجه التبع.
فصل:
وإن نزع العمامة بعد المسح عليها, بطلت طهارته نص عليه أحمد وكذلك إن انكشف رأسه إلا أن يكون يسيرا, مثل إن حك رأسه أو رفعها لأجل الوضوء فلا بأس قال أحمد: إذا زالت العمامة عن هامته, لا بأس ما لم ينقضها أو يفحش ذلك وذلك لأن هذا مما جرت العادة به, فيشق التحرز عنه وإن انتقضت العمامة بعد مسحها بطلت طهارته لأن ذلك بمنزلة نزعها وإن انتقض بعضها ففيه روايتان, ذكرهما ابن عقيل: إحداهما لا تبطل طهارته لأنه زال بعض الممسوح عليه مع بقاء العضو مستورا, فلم تبطل الطهارة ككشط الخف مع بقاء البطانة, والثانية: تبطل قال القاضي: لو انتقض منها كور واحد بطلت لأنه زال الممسوح عليه فأشبه نزع الخف
فصل:
واختلف في وجوب استيعاب العمامة بالمسح فروي عن أحمد أنه قال: يمسح على العمامة, كما يمسح على رأسه فيحتمل أنه أراد التشبيه في صفة المسح دون الاستيعاب وأنه يجزئ مسح بعضها لأنه ممسوح على وجه الرخصة فأجزأ مسح بعضه, كالخف ويحتمل أنه أراد التشبيه في الاستيعاب فيخرج فيها من الخلاف ما في وجوب استيعاب الرأس وفيه روايتان أظهرهما وجوب استيعابه بالمسح فكذلك في العمامة لأن مسح العمامة بدل من الجنس, فيقدر بقدر المبدل كقراءة غير الفاتحة من القرآن بدلا من الفاتحة, يجب أن يكون بقدرها ولو كان البدل تسبيحا لم يتقدر بقدرها, ومسح الخف بدل من غير الجنس لأنه بدل عن الغسل فلم يتقدر به كالتسبيح بدلا عن القرآن وقال القاضي: يجزئ مسح بعضها, كإجزاء المسح في الخف على بعضه ويختص ذلك بأكوارها وهي دوائرها دون وسطها فإن مسح وسطها وحده فإن مسح وسطها ففيه وجهان أحدهما يجزئه, كما يجزئ مسح بعض دوائرها والثاني لا يجزئه كما لو مسح أسفل الخف.
فصل:
والتوقيت في مسح العمامة كالتوقيت في مسح الخف لما روى أبو أمامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يمسح على الخفين والعمامة ثلاثا في السفر, ويوما وليلة للمقيم) رواه الخلال بإسناده إلا أنه من رواية شهر بن حوشب ولأنه ممسوح على وجه الرخصة فيوقت بذلك, كالخف.
فصل:
والعمامة المحرمة كعمامة الحرير والمغصوبة لا يجوز المسح عليها لما ذكرنا في الخف المغصوب وإن لبست المرأة عمامة, لم يجز المسح عليها لما ذكرنا من التشبه بالرجال فكانت محرمة في حقها وإن كان لها عذر, فهذا يندر فلم يرتبط الحكم به
فصل:
ولا يجوز المسح على القلنسوة الطاقية, نص عليه أحمد قال هارون الحمال: سئل أبو عبد الله عن المسح على الكلتة؟ فلم يره وذلك لأنها لا تستر جميع الرأس في العادة ولا يدوم عليه, وأما القلانس المبطنات كدنيات القضاة والنوميات, فقال إسحاق بن إبراهيم قال أحمد: لا يمسح على القلنسوة وقال ابن المنذر: ولا نعلم أحدا قال بالمسح على القلنسوة إلا أن أنسا مسح على قلنسوته وذلك لأنها لا مشقة في نزعها, فلم يجز المسح عليها كالكلتة ولأنها أدنى من العمامة غير المحنكة التي ليست لها ذؤابة وقال أبو بكر الخلال: إن مسح إنسان على القلنسوة لم أر به بأسا لأن أحمد قال في رواية الميموني أنا أتوقاه وإن ذهب إليه ذاهب لم يعنفه قال الخلال: وكيف يعنفه؟ وقد روي عن رجلين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأسانيد صحاح ورجال ثقات فروى الأثرم, بإسناده عن عمر أنه قال: إن شاء حسر عن رأسه وإن شاء مسح على قلنسوته وعمامته وروى بإسناده, عن أبي موسى أنه خرج من الخلاء فمسح على القلنسوة ولأنه ملبوس معتاد يستر الرأس, فأشبه العمامة المحنكة وفارق العمامة التي ليست محنكة ولا ذؤابة لها لأنها منهي عنها.
فصل:
وفي مسح الرأس على مقنعتها روايتان: إحداهما يجوز لأن أم سلمة كانت تمسح على خمارها ذكره ابن المنذر وقد روي (عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بالمسح على الخفين والخمار) ولأنه ملبوس للرأس معتاد, يشق نزعه فأشبه العمامة والثانية لا يجوز المسح عليه فإن أحمد سئل: كيف تمسح المرأة على رأسها؟ قال: من تحت الخمار, ولا تمسح على الخمار قال: وقد ذكروا أن أم سلمة كانت تمسح على خمارها وممن قال لا تمسح على خمارها نافع والنخعي, وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز لأنه ملبوس لرأس المرأة, فلم يجز المسح عليه كالوقاية ولا يجزئ المسح على الوقاية, رواية واحدة لا نعلم فيه خلافا لأنها لا يشق نزعها فهي كالطاقية للرجل والله أعلم باب الحيض: الحيض دم يرخيه الرحم إذا بلغت المرأة ثم يعتادها في أوقات معلومة لحكمة تربية الولد, فإذا حملت انصرف ذلك الدم بإذن الله إلى تغذيته ولذلك لا تحيض الحامل فإذا وضعت الولد قلبه الله تعالى بحكمته لبنا يتغذى به الطفل ولذلك قلما تحيض المرضع فإذا خلت المرأة من حمل ورضاع بقي ذلك الدم لا مصرف له, فيستقر في مكان ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة وقد يزيد على ذلك, ويقل ويطول شهر المرأة ويقصر على حسب ما ركبه الله تعالى في الطباع وسمي حيضا من قولهم: حاض السيل قال عمارة بن عقيل: أجالت حصاهن الذواري وحيضت ** عليهن حيضات السيول الطواحم وقد علق الشرع على الحيض أحكاما فمنها أنه يحرم وطء الحائض في الفرج, لقول الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} ومنها أنه يمنع فعل الصلاة والصوم بدليل (قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: أليست إحداكن إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي) رواه البخاري وقالت حمنة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني أستحاض حيضة شديدة منكرة قد منعتني الصوم والصلاة وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت أبي حبيش: (إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة) ومنها أنه يسقط وجوب الصلاة دون الصيام لما روي (أن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية, ولكني أسأل فقالت: كنا نحيض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) متفق عليه إنما قالت لها عائشة ذلك لأن الخوارج يرون على الحائض قضاء الصلاة ومنها أنه يمنع قراءة القرآن لقوله عليه السلام: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن) ومنها أنه يمنع اللبث في المسجد والطواف بالبيت لأنه في معنى الجنابة ومنها أنه يحرم الطلاق لقول الله تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} ولما (طلق ابن عمر امرأته وهي حائض أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- برجعتها وإمساكها حتى تطهر) ومنها أنه يمنع صحة الطهارة لأن حدثها مقيم ومنها أنه يوجب الغسل عند انقطاعه لقوله عليه السلام (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي) متفق عليه وهو علم على البلوغ لقوله عليه السلام: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) ولا تنقضي العدة في حق المطلقة وأشباهها إلا به, لقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} وأكثر هذه الأحكام مجمع عليها بين علماء الأمة وإذا ثبت هذا فالحاجة داعية إلى معرفة الحيض ليعلم ما يتعلق به من الأحكام قال أحمد, -رحمه الله-: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث: حديث فاطمة وأم حبيبة وحمنة وفي رواية: حديث أم سلمة مكان حديث أم حبيبة وسنذكر هذه الأحاديث وغيرها في مواضعها, -إن شاء الله تعالى-.
مسألة: قال [ وأقل الحيض: يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما] هذا الصحيح من مذهب أبي عبد الله وقال الخلال: مذهب أبي عبد الله لا اختلاف فيه, أن أقل الحيض يوم وأكثره خمسة عشر يوما وقيل عنه: أكثره سبعة عشر يوما وللشافعي قولان كالروايتين في أقله وأكثره وقال إسحاق بن راهويه: قال عطاء: الحيض يوم واحد وقال سعيد بن جبير: أكثره ثلاثة عشر يوما وقال الثوري, وأبو حنيفة وصاحباه: أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة لما روى واثلة بن الأسقع, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة) وقال أنس: قرء المرأة: ثلاث أربع خمس, ست سبع ثمان, تسع عشرة ولا يقول أنس ذلك إلا توقيفا وقال مالك بن أنس: ليس لأقله حد, يجوز أن يكون ساعة لأنه لو كان لأقله حد لكانت المرأة لا تدع الصلاة حتى يمضي ذلك الحد ولنا أنه ورد في الشرع مطلقا من غير تحديد ولا حد له في اللغة, ولا في الشريعة فيجب الرجوع فيه إلى العرف والعادة كما في القبض, والإحراز والتفرق وأشباهها, وقد وجد حيض معتاد يوما قال عطاء: رأيت من النساء من تحيض يوما وتحيض خمسة عشر وقال أحمد: حدثني يحيى بن آدم, قال: سمعت شريكا يقول: عندنا امرأة تحيض كل شهر خمسة عشر يوما حيضا مستقيما وقال ابن المنذر: قال الأوزاعي: عندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشيا يرون أنه حيض تدع له الصلاة وقال الشافعي رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوما لا تزيد عليه وأثبت لي عن نساء أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام وذكر إسحاق بن راهويه عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: تحيض امرأتي يومين قال إسحاق: وقالت امرأة من أهلنا معروفة: لم أفطر منذ عشرين سنة في شهر رمضان إلا يومين وقولهن يجب الرجوع إليه, لقوله تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} فلولا أن قولهن مقبول ما حرم عليهن الكتمان وجرى ذلك مجرى قوله: {ولا تكتموا الشهادة} ولم يوجد حيض أقل من ذلك عادة مستمرة في عصر من الأعصار فلا يكون حيضا بحال وحديث واثلة يرويه محمد بن أحمد الشامي, وهو ضعيف عن حماد بن المنهال وهو مجهول وحديث أنس يرويه الجلد بن أيوب, وهو ضعيف قال ابن عيينة: هو حديث لا أصل له وقال أحمد في حديث أنس: ليس هو شيئا هذا من قبل الجلد بن أيوب قيل: إن محمد بن إسحاق رواه وقال: ما أراه سمعه إلا من الحسن بن دينار وضعفه جدا قال: وقال يزيد بن زريع: ذاك أبو حنيفة لم يحتج إلا بالجلد بن أيوب, وحديث الجلد قد روي عن علي رضي الله عنه ما يعارضه فإنه قال: ما زاد على خمسة عشر استحاضة وأقل الحيض يوم وليلة.
فصل: وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما لأن كلام أحمد لا يختلف أن العدة تصح أن تنقضي في شهر واحد إذا قامت به البينة وقال إسحاق: توقيت هؤلاء بالخمسة عشر باطل وقال أبو بكر: أقل الطهر مبني على أكثر الحيض فإن قلنا أكثره خمسة عشر يوما, فأقل الطهر خمسة عشر وإن قلنا أكثره سبعة عشر فأقل الطهر ثلاثة عشر وهذا كأنه بناه على أن شهر المرأة لا يزيد على ثلاثين يوما, يجتمع لها فيه حيض وطهر وأما إذا زاد شهرها على ذلك تصور أن يكون حيضها سبعة عشر وطهرها خمسة عشر وأكثر وقال مالك, والثوري والشافعي وأبو حنيفة: أقل الطهر خمسة عشر وذكر أبو ثور أن ذلك لا يختلفون فيه, ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أن امرأة جاءته وقد طلقها زوجها, فزعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض طهرت عند كل قرء وصلت فقال علي لشريح: قل فيها فقال شريح: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرضى دينه وأمانته, فشهدت بذلك وإلا فهي كاذبة فقال علي: " قالون وهذا بالرومية ومعناه: جيد وهذا لا يقوله إلا توقيفا ولأنه قول صحابي انتشر, ولم نعلم خلافه رواه الإمام أحمد بإسناده ولا يجيء إلا على قولنا أقله ثلاثة عشر, وأقل الحيض يوم وليلة وهذا في الطهر بين الحيضتين وأما الطهر في أثناء الحيضة فلا توقيت فيه فإن ابن عباس قال: أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل وروي أن الطهر إذا كان أقل من يوم, لا يلتفت إليه لقول عائشة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ولأن الدم يجري مرة وينقطع أخرى فلا يثبت الطهر بمجرد انقطاعه كما لو انقطع أقل من ساعة.
مسألة: قال: [ فمن أطبق بها الدم فكانت ممن تميز فتعلم إقباله بأنه أسود ثخين منتن, وإدباره رقيق أحمر تركت الصلاة في إقباله فإذا أدبر, اغتسلت وتوضأت لكل صلاة وصلت] قوله: " طبق بها الدم " يعني امتد وتجاوز أكثر الحيض فهذه مستحاضة, قد اختلط حيضها باستحاضتها فتحتاج إلى معرفة الحيض من الاستحاضة لترتب على كل واحد منهما حكمه ولا تخلو من أربعة أحوال: مميزة لا عادة لها, ومعتادة لا تمييز لها ومن لها عادة وتمييز ومن لا عادة لها ولا تمييز أما المميزة: فهي التي ذكرها الخرقي في هذه المسألة, وهي التي لدمها إقبال وإدبار بعضه أسود ثخين منتن وبعضه أحمر مشرق, أو أصفر أو لا رائحة له ويكون الدم الأسود أو الثخين لا يزيد على أكثر الحيض, ولا ينقص عن أقله فحكم هذه أن حيضها زمان الدم الأسود أو الثخين أو المنتن فإن انقطع فهي مستحاضة, تغتسل للحيض وتتوضأ بعد ذلك لكل صلاة وتصلي, وذكر أحمد المستحاضة فقال: لها سنن وذكر المعتادة ثم قال: وسنة أخرى, إذا جاءت فزعمت أنها تستحاض فلا تطهر قيل لها: أنت الآن ليس لك أيام معلومة فتجلسينها ولكن انظري إلى إقبال الدم وإدباره, فإذا أقبلت الحيضة - وإقبالها أن ترى دما أسود يعرف - فإذا تغير دمها وكان إلى الصفرة والرقة فذلك دم استحاضة فاغتسلي, وصلي وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بالتمييز إنما الاعتبار بالعادة خاصة لما روت أم سلمة (أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: لتنظر عدة الأيام والليالي التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر, فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل) رواه أبو داود والنسائي, وابن ماجه وهو أحد الأحاديث الثلاثة التي قال الإمام أحمد: إن الحيض يدور عليها ولنا ما روت عائشة قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إني أستحاض, فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة, فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي) متفق عليه وللنسائي وأبي داود: (إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف, فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي فإنما هو عرق) وقال ابن عباس: أما ما رأت الدم البحراني فإنها تدع الصلاة وقال: إنها والله لن ترى الدم الذي هو الدم بعد أيام محيضها إلا كغسالة ماء اللحم وحديث أم سلمة إنما يدل على اعتبار العادة ولا نزاع فيه وحديث فاطمة هو أحد الثلاثة التي يدور عليها الحيض.
فصل: ظاهر كلام الخرقي أن المميزة إذا عرفت التمييز جلسته من غير اعتبار تكرار وهو ظاهر كلام أحمد فيما رويناه عنه وكذلك قال ابن عقيل لأن معنى التمييز أن يتميز أحد الدمين عن الآخر في الصفة, وهذا يوجد بأول مرة وبهذا قال الشافعي وقال القاضي وأبو الحسن الآمدي: إنما تجلس المميزة من التمييز ما تكرر مرتين أو ثلاثا بناء على الروايتين فيما تثبت به العادة ولنا, قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي) أمرها بترك الصلاة إذا أقبلت الحيضة من غير اعتبار أمر آخر, ثم مده إلى حين إدباره ولأن التمييز أمارة بمجرده فلم يحتج إلى ضم غيره إليه كالعادة, وعند القاضي: إنما تجلس من التمييز ما وافق العادة لأنه يعتبر التكرار ومتى تكرر صار عادة.
فصل: فإن لم يكن الأسود مختلفا مثل أن ترى في كل شهر ثلاثة أسود, ثم يصير أحمر ويعبر أكثر الحيض فالأسود وحده حيض ولو لم يعبر أكثر الحيض كان جميع الدم حيضا لأنه دم أمكن أن يكون حيضا, فكان حيضا كما لو كان كله أحمر وإن كان مختلفا مثل أن يرى في الشهر الأول خمسة أسود, وفي الثاني أربعة وفي الثالث ثلاثة أو في الأول خمسة, وفي الثاني ستة وفي الثالث سبعة أو في الأول خمسة, وفي الثاني أربعة وفي الثالث ستة أو غير ذلك من الاختلاف فعلى قولنا الأسود حيض في كل حال, وعلى قول القاضي الأسود حيض فيما وافق العادة فقط وهو ثلاث في الأولى وخمس في الثانية, وأربع في الثالثة وما زاد عليه إن تكرر فهو حيض وإن لم يتكرر فليس بحيض وعلى قوله: لا تجلس منه في الشهر الأول والثاني إلا اليقين الذي تجلسه من لا تمييز لها, فإن كانت مبتدأة لم تجلس إلا يوما وليلة وهل تجلس الذي يتكرر في الشهر الثالث أو الرابع؟ ينبني على الروايتين فيما تثبت به العادة ويكون حكمها حكم المبتدأة التي ترى دما لا يعبر أكثر الحيض الأحمر ها هنا كالطهر هناك, والأسود كالدم هناك فإن كانت ناسية وكان الأسود في أثناء الشهر وقلنا إنها تجلس من أول الشهر, جلست ها هنا من أول الشهر ما تجلسه الناسية وإن كان أحمر ولا تنتقل إلى الأسود حتى يتكرر فإذا تكرر انتقلت إليه, وعلمنا أنه حيض فتقضي ما صامته من الفرض فيه.
فصل: فإذا رأت أسود بين أحمرين أو أحمر بين أسودين وانقطع لدون أكثر الحيض, فالجميع حيض إذا تكرر لأن الأحمر أشبه بالحيض من الطهر وإن عبر أكثر الحيض وكاد الأسود بمفرده يصلح أن يكون حيضا فهو حيض, والأحمر كله استحاضة لأن الأحمر الأول أشبه بالأحمر الثاني الذي حكمنا بأنه استحاضة وتلفق الأسود إلى الأسود فيكون حيضا ولا فرق بين كون الأسود قليلا أو كثيرا إذا كان بانضمامه إلى بقية الأسود يبلغ أقل الحيض, ولا يزيد على أكثره ولا يكون بين طرفيهما زمن يزيد على أكثر الحيض وكذلك لا فرق بين كون الأحمر قليلا أو كثيرا إذا كان زمنه يصلح أن يكون طهرا فأما إن كان زمنه لا يصلح أن يكون طهرا مثل الشيء اليسير أو ما دون اليوم, على إحدى الروايتين فإنه يلحق بالدمين الذي هو بينهما لأنه لو كان الدم منقطعا لم يحكم بكونه طهرا, فإذا كان الدم جاريا كان أولى فلو رأت يوما دما أسود ثم رأت الثاني دما أحمر, ثم رأت الثالث أسود ثم صار أحمر وعبر لفقت الأسود إلى الأسود, فصار حيضها يومين وباقي الدم استحاضة وإن رأت نصف يوم أسود ثم صار أحمر, ثم رأت الثاني كذلك ثم رأت الثالث كله أسود ثم صار أحمر وعبر, فإن قلنا إن الطهر يكون أقل من يوم لفقت الأسود إلى الأسود فكان حيضها يومين وإن قلنا لا يكون أقل من يوم فحيضها الأيام الثلاثة الأول, والباقي استحاضة وإن رأت نصف يوم أسود ثم صار أحمر وعبر إلى العاشر ثم رأته كله أسود, ثم صار أحمر وعبر فالأسود حيض كله, ونصف اليوم الأول ولو رأت بين الأسود وبين الأحمر نقاء يوما أو أكثر لم يتغير الحكم الذي ذكرناه لأن الأحمر محكوم بأنه استحاضة مع اتصاله بالأسود, فمع انفصاله عنه أولى.
فصل: إذا رأت في شهر خمسة أسود ثم صار أحمر واتصل, وفي الثاني كذلك ثم صار الثالث كله أحمر ثم رأت في الرابع مثل الأول, ثم رأت في الخامس خمسة أحمر ثم صار أسود واتصل فحيضها الأسود من الأول والثاني والرابع وأما الثالث والخامس فلا تمييز لها فيهما لأن حكم الأسود في الخامس سقط لعبوره فإن قلنا العادة تثبت بمرتين جلست ذلك من الأشهر الثلاثة, وهي الثالث والرابع والخامس وإن قلنا لا تثبت إلا بثلاثة جلست ذلك من الخامس لأنها قد رأت ذلك في ثلاثة أشهر وقيل: لا تثبت لها عادة, وتجلس ما تجلسه من الخامس من الدم الأسود لأنه أشبه بدم الحيض.
فصل: إذا رأت في كل شهر خمسة عشر يوما دما أسود وخمسة عشر أحمر فالأسود كله حيض لأنه يصلح أن يكون حيضا, وقد رأت فيه أمارة الحيض فيثبت كونه حيضا.
مسألة: قال [ فإن لم يكن دمها منفصلا وكانت لها أيام من الشهر تعرفها, أمسكت عن الصلاة فيها واغتسلت إذا جاوزتها] هذا القسم الثاني: وهي من لها عادة ولا تمييز لها لكون دمها غير منفصل أي على صفة لا تختلف ولا يتميز بعضه من بعض, على ما ذكرناه في المميزة وكذلك إن كان منفصلا إلا أن الدم الذي يصلح للحيض دون أقل الحيض أو فوق أكثره فهذه لا تمييز لها فإذا كانت لها عادة قبل أن تستحاض جلست أيام عادتها, واغتسلت عند انقضائها ثم تتوضأ بعد ذلك لوقت كل صلاة وتصلي وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وقال مالك لا اعتبار بالعادة, إنما الاعتبار بالتمييز فإن لم تكن مميزة استطهرت بعد زمان عادتها بثلاثة أيام إن لم تجاوز خمسة عشر يوما, وهي بعد ذلك مستحاضة واحتج بحديث فاطمة الذي ذكرناه ولنا حديث أم سلمة وقد روي في حديث فاطمة (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي) متفق عليه وفي لفظ قال: (فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة, فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي) متفق عليه وروت أم حبيبة أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الدم؟ فقال لها (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي, وصلي) رواه مسلم وروى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في (المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل, وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة) أخرجه أبو داود والترمذي ولا حجة له في الحديث على ترك العادة في حق من لا تمييز لها.
فصل: ولا يختلف المذهب أن العادة لا تثبت بمرة وظاهر مذهب الشافعي أنها تثبت بمرة وقال بعضهم: تثبت بمرتين لأن المرأة التي استفتت لها أم سلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ردها إلى الشهر الذي يلي شهر الاستحاضة ولأن ذلك أقرب إليها فوجب ردها إليه, ولنا أن العادة مأخوذة من المعاودة ولا تحصل المعاودة بمرة واحدة والحديث حجة لنا لأنه قال (لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها) " وكان " يخبر بها عن دوام الفعل وتكراره, ولا يحصل ذلك بمرة ولا يقال لمن فعل شيئا مرة: كان يفعل وفي الحديث الآخر: (تدع الصلاة أيام أقرائها) والأقراء جمع وأقله ثلاثة وسائر الأحاديث الدالة على العادة تدل على هذا, ولا نفهم من اسم العادة فعل مرة بحال واختلفت الرواية: هل تثبت بمرتين أو ثلاث؟ فعنه أنها تثبت بمرتين لأنها مأخوذة من المعاودة وقد عاودتها في المرة الثانية وعنه لا تثبت إلا بثلاث لظاهر الأحاديث ولأن العادة لا تطلق إلا على ما كثر وأقله ثلاثة ولأن أكثر ما يعتبر له التكرار اعتبر ثلاثا, كأيام الخيار في المصراة.
فصل: وتثبت العادة بالتمييز فإذا رأت دما أسود خمسة أيام في ثلاثة أشهر أو شهرين على الرواية الأخرى ثم صار, أحمر واتصل ثم صار في سائر الأشهر دما مبهما, كانت عادتها زمن الدم الأسود.
فصل: والعادة على ضربين: متفقة ومختلفة فالمتفقة أن تكون أياما متساوية, كأربعة في كل شهر فإذا استحيضت جلست الأربعة فقط وأما المختلفة فإن كانت على ترتيب, مثل إن كانت ترى في شهر ثلاثة وفي الثاني أربعة وفي الثالث خمسة, ثم تعود إلى ثلاثة ثم إلى أربعة على ما كانت فهذه إذا استحيضت في شهر فعرفت نوبته عملت عليه, ثم على الذي بعده ثم على الذي بعده على العادة وإن نسيت نوبته حيضناها اليقين وهو ثلاثة أيام ثم تغتسل, وتصلي بقية الشهر وإن أيقنت أنه غير الأول وشكت هل هو الثاني أو الثالث؟ جلست أربعة لأنها اليقين ثم تجلس من الشهرين الآخرين ثلاثة ثلاثة, ثم تجلس في الرابع أربعة ثم تعود إلى الثلاثة كذلك أبدا ويجزئها غسل واحد عند انقضاء المدة التي جلستها كالناسية إذا جلست أقل الحيض لأن ما زاد على اليقين مشكوك فيه فلا نوجب عليها الغسل بالشك, ويحتمل وجوب الغسل عليها أيضا عند مضي أكثر عادتها لأن يقين الحيض ثابت وحصول الطهارة بالغسل مشكوك فيه فلا تزول عن اليقين بالشك ولأن هذه متيقنة وجوب الغسل عليها في أحد الأيام الثلاثة في اليوم الخامس وقد اشتبه عليها, وصحة صلاتها تقف على الغسل فيجب عليها لتخرج على العهدة بيقين كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها وهذا الوجه أصح لما ذكرنا, وتفارق الناسية فإنها لا تعلم لها حيضا زائدا على ما جلسته وهذه تتيقن لها حيضا زائدا على ما جلسته تقف صحة صلاتها على غسلها منه, فوجب ذلك فعلى هذا يلزمها غسل ثان عقيب اليوم الخامس في كل شهر, وإن جلست في رمضان ثلاثة أيام قضت خمسة أيام لأن الصوم كان في ذمتها ولا نعلم أن اليومين اللذين صامتهما أسقطا الفرض من ذمتها, فيبقى على الأصل ويحتمل أن يلزمها في كل شهر ثلاثة أغسال: غسل عقب اليوم الثالث وغسل عقب الرابع, وغسل عقب الخامس لأن عليها عقيب الرابع غسلا في أحد الأشهر وكل شهر يحتمل أن يكون هو الشهر الذي يجب الغسل فيه بعد الرابع فيلزمها ذلك كما قلنا في الخامس وإن كان الاختلاف على غير ترتيب, مثل أن تحيض من شهر ثلاثة ومن الثاني خمسة ومن الثالث أربعة, وأشباه ذلك فإن كان هذا يمكن ضبطه ويعتادها على وجه لا يختلف فالحكم فيه كالذي قبله وإن كان غير مضبوط, جلست الأقل من كل شهر وهي الثلاثة إن لم يكن لها أقل منها واغتسلت عقيبه وذكر ابن عقيل في هذا الفصل, أن قياس المذهب أن فيه رواية ثانية وهي إجلاسها أكثر عادتها في كل شهر كالناسية للعدد, تجلس أكثر الحيض وهذا لا يصح إذ فيه أمرها بترك الصلاة وإسقاطها عنها مع يقين وجوبها عليها, فإننا متى أمرناها بترك الصلاة خمسة أيام في كل شهر ونحن نعلم وجوبها عليها في يومين منها في شهر, وفي يوم في شهر آخر فقد أمرناها بترك الصلاة الواجبة يقينا فلا يحل ذلك ولا تسقط الصلاة الواجبة بالاشتباه, كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها وفارق الناسية فإننا لا نعلم عليها صلاة واجبة يقينا, والأصل بقاء الحيض وسقوط الصلاة فتبقى عليه.
فصل: ولا تكون المرأة معتادة حتى تعرف شهرها, ووقت حيضها وطهرها وشهر المرأة عبارة عن المدة التي لها فيها حيض وطهر وأقل ذلك أربعة عشر يوما تحيض يوما, وتطهر ثلاثة عشر وإن قلنا: أقل الطهر خمسة عشر يوما فأقصر ما يكون الشهر ستة عشر يوما وأكثره لا حد له لكون أكثر الطهر لا حد له, والغالب أنه الشهر المعروف بين الناس فإذا عرفت أن شهرها ثلاثون يوما وأن حيضها منه خمسة أيام, وطهرها خمسة وعشرون وعرفت أوله فهي معتادة, وإن عرفت أيام حيضها وأيام طهرها فقد عرفت شهرها, وإن عرفت أيام حيضها ولم تعرف أيام طهرها أو أيام طهرها ولم تعرف أيام حيضها فليست معتادة لكنها متى جهلت شهرها, رددناها إلى الغالب فحيضناها من كل شهر حيضة كما رددناها في عدد أيام الحيض إلى ست أو إلى سبع, لكونه الغالب.
فصل: القسم الثالث من أقسام المستحاضة: من لها عادة وتمييز وهي من كانت لها عادة فاستحيضت ودمها متميز بعضه أسود وبعضه أحمر فإن كان الأسود في زمن العادة فقد اتفقت العادة والتمييز في الدلالة, فيعمل بهما وإن كان أكثر من العادة أو أقل ويصلح أن يكون حيضا ففيه روايتان: إحداهما يقدم التمييز, فيعمل به وتدع العادة وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله " فكانت ممن تميز تركت الصلاة في إقباله " ولم يفرق بين معتادة وغيرها واشترط في ردها إلى العادة أن لا يكون دمها متصلا, وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن صفة الدم أمارة قائمة به والعادة زمان منقض ولأنه خارج يوجب الغسل فرجع إلى صفته عند الاشتباه كالمني وظاهر كلام أحمد اعتبار العادة وهو قول أكثر الأصحاب لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد أم حبيبة, والمرأة التي استفتت لها أم سلمة إلى العادة ولم يفرق ولم يستفصل بين كونها مميزة أو غيرها وحديث فاطمة قد روي فيه ردها إلى العادة, وفي لفظ آخر ردها إلى التمييز فتعارضت روايتان وبقيت الأحاديث الباقية خالية عن معارض فيجب العمل بها على أن حديث فاطمة قضية عين, وحكاية حال يحتمل أنها أخبرته أنها لا عادة لها أو علم ذلك من غيرها, أو قرينة حالها وحديث عدي بن ثابت عام في كل مستحاضة فيكون أولى ولأن العادة أقوى لكونها لا تبطل دلالتها, واللون إذا زاد على أكثر الحيض بطلت دلالته فما لا تبطل دلالته أقوى وأولى.
فصل: ومن كان حيضها خمسة أيام من أول كل شهر, فاستحيضت وصارت ترى ثلاثة أيام دما أسود في أول كل شهر فمن قدم العادة قال: تجلس خمسة في كل شهر, كما كانت تجلس قبل الاستحاضة ومن قدم التمييز جعل حيضها الثلاثة التي ترى الدم الأسود فيها إلا أنها لا تترك الصلاة في الشهر الأول فيما زاد على الثلاثة لأنا لا نعلم أنها مستحاضة إلا بتجاوز الدم أكثر الحيض ولا نعلم ذلك في الشهر الأول فإذا عبر الدم أكثر الحيض في الشهر الأول علمنا أنه استحاضة فلا تجلس في الثاني ما زاد على الدم الأسود فإن رأت في كل شهر عشرة دما أسود, ثم صار أحمر واتصل فمن قال: إنها لا تلتفت إلى ما زاد على العادة حتى تتكرر لم يحيضها في الشهرين الأولين أو الثلاثة إلا خمسة قدر عادتها ومن قال: إنها إذا زادت على العادة جلسته بأول مرة أجلسها في الشهر الأول خمسة عشر يوما, ثم تغتسل وتصلي وفي الثاني تجلس أيام العادة وهي الخمسة الأولى من الشهر عند من يقدم العادة على التمييز, ومن قدم التمييز لم يعتبر فيه التكرار أجلسها العشرة كلها فإذا تكرر ثلاثة أشهر على هذا الوصف فقال القاضي: تجلس العشرة في الشهر الرابع, على الروايتين جميعا لأن الزيادة على العادة تثبت بتكرر الأسود ويحتمل أن لا تجلس زيادة على عادتها على قول من يقدم العادة على التمييز لأنا لو جعلنا الزائد على العادة من التمييز حيضا بتكرره لجعلنا الناقص عنها استحاضة بتكرره فكانت لا تجلس فيما إذا رأت ثلاثة أسود ثم صار أحمر, أكثر من الثلاثة والأمر بخلاف ذلك
فصل: فإن كان حيضها خمسا من أول شهر فاستحيضت فصارت ترى خمسة أسود ثم يصير أحمر ويتصل, فالأسود حيض بلا خلاف لموافقته زمن العادة والتمييز وإن رأت مكان الأسود أحمر ثم صار أسود, وعبر سقط حكم الأسود لعبوره أكثر الحيض وكان حيضها الأحمر, لموافقته زمن العادة وإن رأت مكان العادة أحمر ثم خمسة أسود ثم صار أحمر واتصل, فمن قدم العادة حيضها أيام العادة وإذا تكرر الأسود فقال القاضي: يصير حيضا وأما من يقدم التمييز, فإنه يجعل الأسود وحده حيضا.
مسألة: قال: [ فإن كانت لها أيام أنسيتها فإنها تقعد ستا أو سبعا في كل شهر] هذه من القسم الرابع من أقسام المستحاضة وهي من لا عادة لها ولا تمييز وهذا القسم نوعان: أحدهما الناسية, ولها ثلاثة أحوال: أحدها أن تكون ناسية لوقتها وعددها وهذه يسميها الفقهاء المتحيرة والثانية أن تنسى عددها, وتذكر وقتها والثالثة أن تذكر عددها وتنسى وقتها فالناسية لهما, هي التي ذكر الخرقي حكمها وأنها تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة يكون ذلك حيضها, ثم تغتسل وهي فيما بعد ذلك مستحاضة تصوم وتصلي وتطوف وعن أحمد أنها تجلس أقل الحيض, ثم إن كانت تعرف شهرها وهو مخالف للشهر المعروف جلست ذلك من شهرها, وإن لم تعرف شهرها جلست من الشهر المعروف لأنه الغالب وقال الشافعي في الناسية لهما: لا حيض لها بيقين وجميع زمنها مشكوك فيه, تغتسل لكل صلاة وتصلي وتصوم ولا يأتيها زوجها وله قول آخر, أنها تجلس اليقين وقال بعض أصحابه: الأول أصح لأن هذه لها أيام معروفة ولا يمكن ردها إلى غيرها فجميع زمانها مشكوك فيه, وقد روت عائشة (أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمرها أن تغتسل لكل صلاة) متفق عليه ولنا ما روت حمنة بنت جحش, قالت: كنت أستحاض حيضة كبيرة شديدة فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أستفتيه فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت: يا رسول الله, إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة فما تأمرني فيها؟ قد منعتني الصيام والصلاة قال: (أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم قلت: هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- سآمرك أمرين, أيهما صنعت أجزأ عنك فإن قويت عليهما فأنت أعلم فقال إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام, أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي فإذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة, أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزئك وكذلك فافعلي, كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن فإن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلين حتى تطهرين وتصلين الظهر والعصر جميعا, ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين وتغتسلين للصبح, فافعلي وصومي إن قويت على ذلك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أعجب الأمرين إلي) رواه أبو داود والترمذي, وقال هذا حديث حسن صحيح قال: وسألت محمدا عنه فقال: هو حديث حسن وحكي ذلك عن أحمد أيضا وهو بظاهره يثبت الحكم في حق الناسية لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستفصلها هل هي مبتدأة أو ناسية؟ ولو افترق الحال لاستفصل وسأل واحتمال أن تكون ناسية أكثر, فإن حمنة امرأة كبيرة كذلك قال أحمد ولم يسألها النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تمييزها لأنه قد جرى من كلامها من تكثير الدم وصفته ما أغنى عن السؤال عنه, ولم يسألها هل لها عادة فيردها إليها؟ لاستغنائه عن ذلك لعلمه إياه إذ كان مشتهرا, وقد أمر به أختها أم حبيبة فلم يبق إلا أن تكون ناسية ولأن لها حيضا لا تعلم قدره فيرد إلى غالب عادات النساء كالمبتدأة ولأنها لا عادة لها ولا تمييز, فأشبهت المبتدأة وقولهم: لها أيام معروفة قلنا: قد زالت المعرفة فصار وجودها كالعدم وأما أمره أم حبيبة بالغسل لكل صلاة فإنما هو ندب, كأمره لحمنة في هذا الخبر فإن أم حبيبة كانت معتادة ردها إلى عادتها وهي لها أم سلمة, على أن حديث أم حبيبة إنما روي عن الزهري وأنكره الليث بن سعد فقال: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر أم حبيبة أن تغتسل لكل صلاة, ولكنه شيء فعلته هي.
فصل: قوله: " ستا أو سبعا " الظاهر أنه ردها إلى اجتهادها ورأيها فيما يغلب على ظنها أنه أقرب إلى عادتها أو عادة نسائها أو ما يكون أشبه بكونه حيضا ذكره القاضي في بعض المواضع, وذكر في موضع آخر أنه خيرها بين ست وسبع لا على طريق الاجتهاد كما خير واطئ الحائض بين التكفير بدينار أو نصف دينار, بدليل أن حرف " أو " للتخيير والأول إن شاء الله أصح لأنا لو جعلناها مخيرة أفضى إلى تخييرها في اليوم السابع بين أن تكون الصلاة عليها واجبة وبين كونها محرمة وليس لها في ذلك خيرة بحال أما التكفير ففعل اختياري يمكن التخيير فيه بين إخراج دينار أو نصف دينار, والواجب نصف دينار في الحالين لأن الواجب لا يتخير بين فعله وتركه وقولهم: إن " أو " للتخيير قلنا: وقد يكون للاجتهاد كقول الله تعالى {فإما منا بعد وإما فداء} و " إما " " كأو " في وضعها وليس للإمام في الأسرى إلا فعل ما يؤديه إليه اجتهاده أنه الأصلح.
فصل: ولا تخلو الناسية من أن تكون جاهلة بشهرها, أو عالمة به فإن كانت جاهلة بشهرها رددناها إلى الشهر الهلالي, فحيضناها في كل شهر حيضة لحديث حمنة ولأنه الغالب فترد إليه كردها إلى الست والسبع وإن كانت عالمة بشهرها, حيضناها في كل شهر من شهورها حيضة لأن ذلك عادتها فترد إليها كما ترد المعتادة إلى عادتها في عدد الأيام, إلا أنها متى كان شهرها أقل من عشرين يوما لم نحيضها منه أكثر من الفاضل عن ثلاثة عشر يوما أو خمسة عشر يوما لأنها لو حاضت أكثر من ذلك, لنقص طهرها عن أقل الطهر ولا سبيل إليه وهل تجلس أيام حيضها من أول كل شهر أو بالتحري والاجتهاد؟ فيه وجهان: أحدهما, تجلسه من أول كل شهر إذا كان يحتمل لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لحمنة (تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله, ثم اغتسلي وصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثة وعشرين ليلة وأيامها) فقدم حيضها على الطهر ثم أمرها بالصلاة والصوم في بقيته ولأن المبتدأة تجلس من أول الشهر, مع أنه لا عادة لها فكذلك الناسية ولأن دم الحيض دم جبلة والاستحاضة عارضة, فإذا رأت الدم وجب تغليب دم الحيض والوجه الثاني أنها تجلس أيامها من الشهر بالتحري والاجتهاد وهذا قول أبي بكر, وابن أبي موسى لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ردها إلى اجتهادها في القدر بقوله: " ستا أو سبعا " فكذلك في الزمان ولأن للتحري مدخلا في الحيض بدليل أن المميزة ترجع إلى صفة الدم فكذلك في زمنه فإن تساوى عندها الزمان كله, ولم يغلب على ظنها شيء تعين إجلاسها من أول الشهر لعدم الدليل فيما سواه. القسم الثاني الناسية لعددها دون وقتها, كالتي تعلم أن حيضها في العشر الأول من الشهر ولا تعلم عدده فهي في قدر ما تجلسه كالمتحيرة, تجلس ستا أو سبعا في أصح الروايتين إلا أنها تجلسها من العشر دون غيرها, وهل تجلسها من أول العشر أو بالتحري؟ على وجهين وإن قالت: أعلم أنني كنت أول الشهر حائضا ولا أعلم آخره أو إنني كنت آخر الشهر حائضا ولا أعلم أوله أو لا أعلم هل كان ذلك أول حيضي أو آخره؟ حيضناها اليوم الذي علمته, وأتمت بقية حيضها مما بعده في الصورة الأولى ومما قبله في الثانية وبالتحري في الثالثة, أو مما يلي أول الشهر على اختلاف الوجهين. القسم الثالث الناسية لوقتها دون عددها, وهذه تتنوع نوعين: أحدهما أن لا تعلم لها وقتا أصلا مثل أن تعلم أن حيضها خمسة أيام, فإنها تجلس خمسة من كل شهر إما من أوله أو بالتحري على اختلاف الوجهين والثاني, أن تعلم لها وقتا مثل أن تعلم أنها كانت تحيض أياما معلومة من العشر الأول من كل شهر فإنها تجلس عدد أيامها من ذلك الوقت دون غيره, ثم لا يخلو عدد أيامها إما أن يكون زائدا على نصف ذلك الوقت أو لا يزيد فإن كان زائدا على نصفه, مثل أن تعلم أن حيضها ستة أيام من العشر الأول من كل شهر أضعفنا الزائد فجعلناه حيضا بيقين, وتجلس بقية أيامها بالتحري في أحد الوجهين وفي الآخر من أول العشر ففي هذه المسألة الزائد يوم وهو السادس, فنضعفه ويكون الخامس والسادس حيضا بيقين لأننا متى عددنا لها ستة أيام من أي موضع كان من العشر دخل فيه الخامس والسادس يبقى لها أربعة أيام, فإن أجلسناها من الأول كان حيضها من أول العشر إلى آخر السادس منها يومان حيض بيقين, والأربعة حيض مشكوك فيه والأربعة الباقية طهر مشكوك فيه وإن أجلسناها بالتحري, فأداها اجتهادها إلى أنها من أول الشهر فهي كالتي ذكرنا وإن جلست الأربعة من آخر الشهر كانت حيضا مشكوكا فيه, والأربعة الأولى طهر مشكوك فيه وإن قالت: حيضي سبعة أيام من العشر الأول فقد زادت يومين على نصف الوقت فنضعفهما فيصير لها أربعة أيام حيضا بيقين, وهي من أول الرابع إلى آخر السابع ويبقى لها ثلاثة أيام تجلسها من أول العشر أو بالتحري, فيكون ذلك حيضا مشكوكا فيه ويبقى لها ثلاثة طهرا مشكوكا فيه, وسائر الشهر طهر وحكم الحيض المشكوك فيه حكم الحيض المتيقن في ترك العبادات وإن كان حيضها نصف الوقت فما دون, فليس لها حيض بيقين لأنها متى كانت تحيض خمسة أيام احتمل أن تكون الخمسة الأولى وأن تكون الثانية, وأن تكون بعضها من الأولى وباقيها من الثانية فتجلس خمسة بالتحري أو من أول العشر, على اختلاف الوجهين.
فصل: ولا يعتبر التكرار في الناسية لأنها عرفت استحاضتها في الشهر الأول فلا معنى للتكرار.
فصل: وإذا ذكرت الناسية عادتها بعد جلوسها في غيره رجعت إلى عادتها لأن تركها لعارض النسيان, فإذا زال العارض عادت إلى الأصل وإن تبين أنها كانت تركت الصلاة في غير عادتها لزمها إعادتها ويلزمها قضاء ما صامته من الفرض في عادتها, فلو كانت عادتها ثلاثة من آخر العشر الأول فجلست السبعة التي قبلها مدة ثم ذكرت, لزمها قضاء ما تركت من الصلاة والصيام المفروض في السبعة وقضاء ما صامت من الفرض في الثلاثة لأنها صامته في زمن حيضها.
مسألة: قال: [ والمبتدأ بها الدم تحتاط فتجلس يوما وليلة, وتغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي فإن انقطع دمها في خمسة عشر يوما اغتسلت عند انقطاعه وتفعل مثل ذلك ثانية وثالثة فإن كان بمعنى واحد, عملت عليه وأعادت الصوم إن كانت صامت في هذه الثلاث مرار لفرض] هذا النوع الثاني من القسم الرابع وهي من لا عادة لها ولا تمييز وهي التي بدأ بها الحيض ولم تكن حاضت قبله والمشهور عن أحمد فيها أنها تجلس إذا رأت الدم, وهي ممن يمكن أن تحيض وهي التي لها تسع سنين فصاعدا فتترك الصوم والصلاة فإن زاد الدم على يوم وليلة اغتسلت عقيب اليوم والليلة, وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي وتصوم فإن انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون, اغتسلت غسلا ثانيا عند انقطاعه وصنعت مثل ذلك في الشهر الثاني والثالث فإن كانت أيام الدم في الأشهر الثلاثة متساوية, صار ذلك عادة وعلمنا أنها كانت حيضا فيجب عليها قضاء ما صامت من الفرض لأنا تبينا أنها صامته في زمن الحيض قال القاضي: المذهب عندي في هذا رواية واحدة قال: وأصحابنا يجعلون في قدر ما تجلسه المبتدأة في الشهر الأول أربع روايات: إحداهن أنها تجلس أقل الحيض والثانية غالبه, والثالثة أكثره والرابعة عادة نسائها قال: وليس ها هنا موضع الروايات وإنما موضع ذلك إذا اتصل الدم, وحصلت مستحاضة في الشهر الرابع وقد نقل عن أحمد ما يدل على صحة قول الأصحاب فروى صالح قال: قال أبي: أول ما يبدأ الدم بالمرأة تقعد ستة أيام أو سبعة أيام وهو أكثر ما تجلسه النساء على حديث حمنة فظاهر هذا أنها تجلس ذلك في أول حيضها وقوله: أكثر ما تجلسه النساء يعني أن الغالب من النساء هكذا يحضن وروى حرب عنه قال: سألت أبا عبد الله قلت: امرأة أول ما حاضت استمر بها الدم, كم يوما تجلس؟ قال: إن كان مثلها من النساء من يحضن فإن شاءت جلست ستا أو سبعا حتى يتبين لها حيض ووقت وإن أرادت الاحتياط, جلست يوما واحدا أول مرة حتى يتبين وقتها وقال في موضع آخر: قالوا هذا وقالوا هذا, فأيها أخذت فهو جائز وروى الخلال بإسناده عن عطاء في البكر تستحاض ولا تعلم لها قرءا, قال: لتنظر قرء أمها أو أختها أو عمتها أو خالتها فلتترك الصلاة عدة تلك الأيام وتغتسل وتصلي قال حنبل قال أبو عبد الله: ها حسن واستحسنه جدا وهذا يدل على أنه أخذ به, وهذا قول عطاء والثوري والأوزاعي وروي عن أحمد: أنها تجلس أكثر الحيض إلا أن المشهور في الرواية عنه مثل ما ذكر الخرقي وقال مالك وأبو حنيفة, والشافعي: تجلس جميع الأيام التي ترى الدم فيها إلى أكثر الحيض فإن انقطع لأكثره فما دون فالجميع حيض لأنا حكمنا بأن ابتداء الدم حيض مع جواز أن يكون استحاضة, فكذلك أثناؤه ولأننا حكمنا بكونه حيضا فلا ننقض ما حكمنا به بالتجويز كما في المعتادة ولأن دم الحيض دم جبلة, والاستحاضة دم عارض لمرض عرض وعرق انقطع والأصل فيها الصحة والسلامة وأن دمها دم الجبلة دون العلة ولنا, أن في إجلاسها أكثر من أقل الحيض حكما ببراءة ذمتها من عبادة واجبة عليها فلم يحكم به أول مرة كالمعتدة لا يحكم ببراءة ذمتها من العدة بأول حيضة ولا يلزم اليوم والليلة لأنها اليقين, فلو لم نجلسها ذلك أدى إلى أن لا نجلسها أصلا ولأنها ممن لا عادة لها ولا تمييز فلم تجلس أكثر الحيض كالناسية.
فصل: والمنصوص في المبتدأة اعتبار التكرار ثلاثا, فعلى هذا لا تنتقل عن اليقين في الشهر الثالث وقد نص في المعتادة ترى الدم زيادة على عادتها على جلوسها الزائد بمرتين في إحدى الروايتين عنه, فكذا ها هنا وقد مضى توجيههما وعلى الروايات كلها إذا انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون, وكان في الأشهر الثلاثة على قدر واحد انتقلت إليه وعملت عليه, وصار ذلك عادة لها وأعادت ما صامته من الفرض فيه لأننا تبينا أنها صامته في حيضها.
فصل: وإن انقطع في الأشهر الثلاثة مختلفا ففي شهر انقطع على سبع, وفي شهر على ست وفي شهر على خمس نظرت إلى أقل ذلك, وهو الخمس فجعلته حيضا وما زاد عليه لا يكون حيضا, حتى يأتي عليه التكرار نص عليه وإن جاء في الشهر الرابع ستا أو أكثر صارت الستة حيضا لتكررها ثلاثا, وكذلك الحكم في السابع إذا تكرر ثلاثا ومن قال بإجلاسها ستا أو سبعا فإنها تجلس ذلك من غير تكرار ولا تجلس ما زاد عليه حتى يتكرر, ولذلك من أجلسها عادة نسائها فإنه يجلسها ما وافق عادتهن من غير تكرار.
فصل: ومتى أجلسناها يوما وليلة, أو ستا أو سبعا أو عادة نسائها فرأت الدم أكثر من ذلك, لم يحل لزوجها وطؤها فيه حتى ينقطع أو يتجاوز أكثر الحيض لأنه يحتمل أن يكون حيضا احتمالا ظاهرا وإنما أمرناها بالصوم فيه والصلاة احتياطا لبراءة ذمتها, فيجب ترك وطئها احتياطا أيضا وإن انقطع الدم واغتسلت حل وطؤها وهل يكره؟ على روايتين: إحداهما, لا يكره لأنها رأت النقاء الخالص أشبه غير المبتدأة والثانية يكره لأننا لا نأمن معاودة الدم, فكره وطؤها كالنفساء إذا انقطع دمها لأقل من أربعين يوما فإن عاودها الدم في زمن العادة لم يطأها, نص عليه لأنه زمن صادف زمن الحيض فلم يجز الوطء فيه كما لو لم ينقطع وعنه: لا بأس بوطئها قال الخلال الأحوط في قوله على ما اتفقوا عليه دون الأنفس الثلاثة, أنه لا يطؤها.
مسألة: قال: [ فإن استمر بها الدم ولم يتميز قعدت في كل شهر ستا أو سبعا لأن الغالب من النساء هكذا يحضن] قوله: " استمر بها الدم " يعني زاد على أكثر الحيض وقوله: " لم يتميز " يعني لم يكن دمها منفصلا على الوجه الذي ذكرناه فهذه حكمها أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة وقد ذكر الخرقي علته, وهي أن الغالب من النساء هكذا يحضن والظاهر أن حيض هذه كحيض غالب النساء فيجب ردها إليه كردها في الوقت إلى حيضة في كل شهر وهذا أحد قولي الشافعي, وعن أحمد أنها تجلس يوما وليلة من كل شهر وهذا القول الثاني للشافعي لأن ذلك اليقين وما زاد عليه مشكوك فيه فلا تزول عن اليقين بالشك وعنه رواية ثالثة: أنها تجلس أكثر الحيض وهو مذهب أبي حنيفة لأنه زمان الحيض فإذا رأت الدم فيه جلسته, كالمعتادة وعنه أنها تجلس عادة نسائها وهو قول عطاء والثوري, والأوزاعي لأن الغالب أنها تشبههن في عادتهن والأول أولى لحديث حمنة فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ردها إلى ست أو سبع ولم يردها إلى اليقين, ولا إلى عادة نسائها ولا إلى أكثر الحيض ولأن هذه ترد إلى غالب عادات النساء في وقتها لكونها تجلس في كل شهر مرة فكذلك في عدد أيامها وبهذا يبطل ما ذكرناه لليقين ولعادة نسائها.
فصل: وهل ترد إلى ذلك إذا استمر بها الدم في الشهر الرابع أو الثاني؟ المنصوص أنها لا ترد إلى ست أو سبع إلا في الشهر الرابع لأنا لم نحيضها أكثر من ذلك إذا لم تكن مستحاضة فأولى أن نفعل ذلك إذا كانت مستحاضة قال القاضي: ويحتمل أن تنتقل إليها في الشهر الثاني بغير تكرار لأننا قد علمنا استحاضتها, فلا معنى للتكرار في حقها.
فصل: وإن كانت التي استمر بها الدم مميزة على ما ذكرناه فيما مضى جلست بالتمييز فيما بعد الأشهر الثلاثة وتجلس في الثلاثة اليقين يوما وليلة, إلا أن نقول: العادة تثبت بمرتين فإنها تعود إلى التمييز في الشهر الثالث ويعمل به وقال ابن عقيل: وعن أحمد أنها ترد إلى التمييز في الشهر الثاني, ولا يعتبر التكرار فإنه قال: إذا بدأ بها الحيض ولم ينقطع عنها الدم, ولم تعرف أيامها قعدت إقبال الدم إذا أقبل سواده وغلظه وريحه فإذا أدبر وصفا وذهب ريحه صلت وصامت وذلك لأنها مستحاضة مميزة, فترد إلى تمييزها كما في الشهر الرابع ولا يعتبر التكرار في التمييز بعد أن تعلم كونها مستحاضة, على ما نصرناه وقال القاضي: لا تجلس منه إلا ما تكرر فعلى هذا إذا رأت في كل شهر خمسة أحمر ثم خمسة أسود ثم أحمر واتصل جلست زمان الأسود, فكان حيضها والباقي استحاضة وهل تجلس زمان الأسود في الشهر الثاني أو الثالث أو الرابع؟ يخرج ذلك على الروايات الثلاث ولو رأت عشرة أحمر ثم خمسة أسود, ثم أحمر واتصل فالحكم فيها كالتي قبلها فإن اتصل الأسود, وعبر أكثر الحيض فليس لها تمييز ونحيضها من الأسود لأنه أشبه بدم الحيض ولو رأت أقل من يوم دما أسود, فلا تمييز لها لأن الأسود لا يصلح أن يكون حيضا لقلته عن أقل الحيض وإن رأت في الشهر الأول أحمر كله وفي الثاني والثالث والرابع خمسة أسود, ثم أحمر واتصل وفي الخامس كله أحمر فإنها تجلس في الأشهر الثلاثة اليقين, وفي الرابع أيام الدم الأسود وفي الخامس تجلس خمسة أيضا لأنها قد صارت معتادة وقال القاضي: لا تجلس من الرابع إلا اليقين إلا أن نقول بثبوت العادة بمرتين وهذا فيه نظر فإن أكثر ما يقدر فيها أنها لا عادة لها ولا تمييز, ولو كانت كذلك لجلست ستا أو سبعا في أصح الروايات, فكذا ها هنا ومن لم يعتبر التكرار في التمييز فهذه مميزة ومن قال إن المميزة تجلس بالتمييز في الشهر الثاني قال إنها تجلس الدم الأسود في الشهر الثالث لأنها لا تعلم أنها مميزة قبله, ولو رأت في شهر خمسة أسود ثم صار أحمر واتصل وفي الثاني كذلك, وفي الثالث كله أحمر والرابع رأت خمسة أحمر ثم صار أسود واتصل, جلست اليقين من الأشهر الثلاثة والرابع لا تمييز لها فيه فتصير فيه إلى ستة أيام أو سبعة, في أشهر الروايات إلا أن نقول العادة تثبت بمرتين فتجلس من الثالث والرابع خمسة خمسة وقال القاضي: لا تجلس في الأشهر الأربعة إلا اليقين, وهذا بعيد لما ذكرناه ولو كانت رأت في الرابع خمسة أسود والباقي كله أحمر صار عادة بذلك.
مسألة: قال: [ والصفرة والكدرة في أيام الحيض من الحيض] يعني إذا رأت في أيام عادتها صفرة أو كدرة, فهو حيض وإن رأته بعد أيام حيضها لم يعتد به نص عليه أحمد وبه قال يحيى الأنصاري, وربيعة ومالك والثوري, والأوزاعي وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي, وإسحاق وقال أبو يوسف وأبو ثور: لا يكون حيضا إلا أن يتقدمه دم أسود لأن أم عطية, وكانت بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة بعد الغسل شيئا رواه أبو داود وقال: بعد الطهر ولنا قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} وهذا يتناول الصفرة والكدرة, وروى الأثرم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث إليها النساء بالدرجة فيها الكرسف, فيها الصفرة والكدرة فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة وحديث أم عطية إنما يتناول ما بعد الطهر والاغتسال ونحن نقول به, وقد قالت عائشة: ما كنا نعد الكدرة والصفرة حيضا مع قولها المتقدم الذي ذكرناه.
فصل: وحكم الصفرة والكدرة حكم الدم العبيط في أنها في أيام الحيض حيض وتجلس منها المبتدأة كما تجلس من غيرها وإن رأتها فيما بعد العادة فهو كما لو رأت غيرها على ما سيأتي ذكره, إن شاء الله وإن طهرت ثم رأت كدرة أو صفرة لم يلتفت إليها لخبر أم عطية وعائشة وقد روى النجاد, بإسناده عن محمد بن إسحاق عن فاطمة, عن أسماء قالت: كنا في حجرها مع بنات بنتها فكانت إحدانا تطهر ثم تصلي ثم تنكس بالصفرة اليسيرة, فنسألها فتقول: اعتزلن الصلاة حتى لا ترين إلا البياض خالصا والأول أولى لما ذكرنا, وقول عائشة وأم عطية أولى من قول أسماء وقال القاضي: معنى هذا أنها لا تلتفت إليه قبل التكرار وقول أسماء فيما إذا تكرر فجمع بين الأخبار والله أعلم.
مسألة: قال: [ ويستمتع من الحائض بما دون الفرج] وجملته أن الاستمتاع من الحائض فيما فوق السرة ودون الركبة جائز بالنص والإجماع, والوطء في الفرج محرم بهما واختلف في الاستمتاع بما بينهما فذهب أحمد -رحمه الله- إلى إباحته وروي ذلك عن عكرمة وعطاء, والشعبي والثوري وإسحاق, ونحوه قال الحكم فإنه قال: لا بأس أن تضع على فرجها ثوبا ما لم يدخله وقال أبو حنيفة ومالك, والشافعي: لا يباح لما روي عن عائشة قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض) رواه البخاري وعن عمر قال: (سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال: فوق الإزار) ولنا قول الله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} والمحيض: اسم لمكان الحيض, كالمقيل والمبيت فتخصيصه موضع الدم بالاعتزال دليل على إباحته فيما عداه فإن قيل: بل المحيض الحيض مصدر حاضت المرأة حيضا ومحيضا, بدليل قوله تعالى في أول الآية: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} والأذى: هو الحيض المسئول عنه وقال تعالى: {واللائي يئسن من المحيض} قلنا: اللفظ يحتمل المعنيين وإرادة مكان الدم أرجح, بدليل أمرين: أحدهما أنه لو أراد الحيض لكان أمرا باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية والإجماع بخلافه والثاني أن سبب نزول الآية, أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة اعتزلوها فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها, ولم يجامعوها في البيت فسأل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلت هذه الآية فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- (اصنعوا كل شيء غير النكاح) رواه مسلم في " صحيحه " وهذا تفسير لمراد الله تعالى, ولا تتحقق مخالفة اليهود بحملها على إرادة الحيض لأنه يكون موافقا لهم ومن السنة قوله عليه السلام: (اصنعوا كل شيء غير النكاح) وروي عنه عليه السلام أنه قال: (اجتنب منها شعار الدم) ولأنه منع الوطء لأجل الأذى فاختص مكانه كالدبر, وما رووه عن عائشة دليل على حل ما فوق الإزار لا على تحريم غيره وقد يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض المباح تقذرا, كتركه أكل الضب والأرنب وقد روى عكرمة عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا ثم ما ذكرناه منطوق وهو أولى من المفهوم.
فصل: فإن وطئ الحائض في الفرج أثم ويستغفر الله تعالى, وفي الكفارة روايتان: إحداهما يجب عليه كفارة لما روى أبو داود والنسائي, بإسنادهما عن ابن عباس (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: يتصدق بدينار أو بنصف دينار) والثانية لا كفارة عليه, وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من أتى كاهنا فصدقه بما قال, أو أتى امرأته في دبرها أو أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-) رواه ابن ماجه, ولم يذكر كفارة ولأنه وطء نهي عنه لأجل الأذى فأشبه الوطء في الدبر وللشافعي قولان كالروايتين وحديث الكفارة مداره على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وقد قيل لأحمد: في نفسك منه شيء؟ قال: نعم لأنه من حديث فلان أظنه قال: عبد الحميد وقال: لو صح ذلك الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كنا نرى عليه الكفارة وقال في موضع: ليس به بأس, وقد روى الناس عنه فاختلاف الرواية في الكفارة مبني على اختلاف قول أحمد في الحديث وقد روي عن أحمد أنه قال: إن كانت له مقدرة تصدق بما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال أبو عبد الله بن حامد كفارة وطء الحائض تسقط بالعجز عنها أو عن بعضها ككفارة الوطء في رمضان.
فصل: وفي قدر الكفارة روايتان: إحداهما, أنها دينار أو نصف دينار على سبيل التخيير, أيهما أخرج أجزأه روي ذلك عن ابن عباس والثانية, أن الدم إن كان أحمر فهي دينار وإن كان أصفر فنصف دينار وهو قول إسحاق, وقال النخعي: إن كان في فور الدم فدينار وإن كان في آخره فنصف دينار لما روى ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن كان دما أحمر فدينار, وإن كان دما أصفر فنصف دينار) رواه الترمذي والأول أصح قال أبو داود الرواية الصحيحة: " يتصدق بدينار أو بنصف دينار " ولأنه حكم تعلق بالحيض فلم يفرق بين أوله وآخره كسائر أحكامه فإن قيل: فكيف تخير بين شيء ونصفه؟ قلنا: كما يخير المسافر بين قصر الصلاة وإتمامها, فأيهما فعل كان واجبا كذا ها هنا.
فصل: وإن وطئ بعد طهرها وقبل غسلها فلا كفارة عليه وقال قتادة, والأوزاعي: عليه نصف دينار ولو وطئ في حال جريان الدم لزمه دينار لأنه حكم تعلق بالوطء في الحيض فثبت قبل الغسل, كالتحريم ولنا أن وجوب الكفارة بالشرع وإنما ورد بها الخبر في الحائض وغيرها لا يساويها لأن الأذى المانع من وطئها قد زال بانقطاع الدم, وما ذكروه يبطل بما لو حلف لا يطأ حائضا فإن الكفارة تجب بالوطء في الحيض ولا تجب في غيره.
فصل: وهل تجب الكفارة على الجاهل والناسي؟ على وجهين: أحدهما, تجب لعموم الخبر ولأنها كفارة تجب بالوطء أشبهت كفارة الوطء في الصوم والإحرام والثاني لا تجب لقوله عليه السلام: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان) ولأنها تجب لمحو المأثم, فلا تجب مع النسيان ككفارة اليمين فعلى هذا لو وطئ طاهرا, فحاضت في أثناء وطئه لا كفارة عليه وعلى الرواية الأولى عليه كفارة وهو قول ابن حامد, قال: ولو وطئ الصبي لزمته الكفارة لعموم الخبر وقياسا على كفارة الإحرام ويحتمل أن لا يلزمه كفارة لأن أحكام التكليف لا تثبت في حقه, وهذا من فروعها فلا تثبت.
فصل: وهل تلزم المرأة كفارة؟ المنصوص أن عليها الكفارة قال أحمد في امرأة غرت زوجها: إن عليه الكفارة وعليها وذلك لأنه وطء يوجب الكفارة فأوجبها على المرأة المطاوعة, ككفارة الوطء في الإحرام وقال القاضي: في وجوبها على المرأة وجهان: أحدهما لا يجب لأن الشرع لم يرد بإيجابها عليها وإنما يتلقى الوجوب من الشرع وإن كانت مكرهة أو غير عالمة فلا كفارة عليها, لقوله عليه السلام: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
فصل: والنفساء كالحائض في هذا لأنها تساويها في سائر أحكامها ويجزئ نصف دينار من أي ذهب كان إذا كان صافيا من الغش, ويستوي تبره ومضروبه لوقوع الاسم عليه وهل يجوز إخراج قيمته؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز لأن المقصود يحصل بإخراج هذا القدر من المال, على أي صفة كان من المال فجاز بأي مال كان كالخراج والجزية والثاني, لا يجوز لأنه كفارة فاختص ببعض أنواع المال كسائر الكفارات, فعلى هذا الوجه هل يجوز إخراج الدراهم مكان الدينار فيه وجهان بناء على إخراجها عنه في الزكاة والصحيح جوازه لما ذكرنا ولأنه حق يجزئ فيه أحد الثمنين, فأجزأ فيه الآخر كسائر الحقوق ومصرف هذه الكفارة إلى مصرف سائر الكفارات لكونها كفارة ولأن المساكين مصرف حقوق الله تعالى وهذا منها.
مسألة: قال: [ فإن انقطع دمها, فلا توطأ حتى تغتسل] وجملته أن وطء الحائض قبل الغسل حرام وإن انقطع دمها في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر: هذا كالإجماع منهم وقال أحمد بن محمد المروذي: لا أعلم في هذا خلافا وقال أبو حنيفة: إن انقطع الدم لأكثر الحيض حل وطؤها, وإن انقطع لدون ذلك لم يبح حتى تغتسل أو تتيمم, أو يمضي عليها وقت صلاة لأن وجوب الغسل لا يمنع من الوطء بالجنابة ولنا قول الله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} يعني إذا اغتسلن هكذا فسره ابن عباس ولأن الله تعالى قال في الآية: {ويحب المتطهرين} فأثنى عليهم فيدل على أنه فعل منهم أثنى عليهم به, وفعلهم هو الاغتسال دون انقطاع الدم فشرط لإباحة الوطء شرطين: انقطاع الدم والاغتسال, فلا يباح إلا بهما كقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} لما اشترط لدفع المال إليهم بلوغ النكاح والرشد لم يبح إلا بهما كذا ها هنا ولأنها ممنوعة من الصلاة لحدث الحيض فلم يبح وطؤها كما لو انقطع لأقل الحيض وما ذكروه من المعنى منقوض بما إذا انقطع لأقل الحيض ولأن حدث الحيض آكد من حدث الجنابة, فلا يصح قياسه عليه.
مسألة: قال: [ ولا توطأ مستحاضة إلا أن يخاف على نفسه] اختلف عن أحمد -رحمه الله- في وطء المستحاضة, فروي ليس له وطؤها إلا أن يخاف على نفسه الوقوع في محظور وهو مذهب ابن سيرين والشعبي والنخعي, والحاكم لما روى الخلال بإسناده عن عائشة أنها قالت: المستحاضة لا يغشاها زوجها ولأن بها أذى, فيحرم وطؤها كالحائض فإن الله تعالى منع وطء الحائض معللا بالأذى بقوله: {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} أمر باعتزالهن عقيب الأذى مذكورا بفاء التعقيب ولأن الحكم إذا ذكر مع وصف يقتضيه ويصلح له علل به كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} والأذى يصلح أن يكون علة فيعلل به, وهو موجود في المستحاضة فيثبت التحريم في حقها وروي عن أحمد إباحة وطئها مطلقا من غير شرط وهو قول أكثر الفقهاء لما روى أبو داود عن عكرمة, عن حمنة بنت جحش أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها وقال: كانت أم حبيبة تستحاض, وكان زوجها يغشاها ولأن حمنة كانت تحت طلحة وأم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف وقد سألتا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أحكام المستحاضة فلو كان حراما لبينه لهما وإن خاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك الوطء, أبيح على الروايتين لأن حكمها أخف من حكم الحائض ولو وطئها من غير خوف فلا كفارة عليه لأن الوجوب من الشرع, ولم يرد بإيجابها في حقها ولا هي في معنى الحائض لما بينهما من الاختلاف وإذا انقطع دمها أبيح وطؤها من غير غسل ليس بواجب عليها, أشبه سلس البول.
مسألة: قال: [ والمبتلى بسلس البول وكثرة المذي فلا ينقطع, كالمستحاضة يتوضأ لكل صلاة بعد أن يغسل فرجه] وجملته أن المستحاضة, ومن به سلس البول أو المذي أو الجريح الذي لا يرقأ دمه وأشباههم ممن يستمر منه الحدث ولا يمكنه حفظ طهارته, عليه الوضوء لكل صلاة بعد غسل محل الحدث وشده والتحرز من خروج الحدث بما يمكنه فالمستحاضة تغسل المحل ثم تحشوه بقطن أو ما أشبهه, ليرد الدم (لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لحمنة حين شكت إليه كثرة الدم: أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم فإن لم يرتد الدم بالقطن, استثفرت بخرقة مشقوقة الطرفين تشدها على جنبيها ووسطها على الفرج) وهو المذكور في حديث أم سلمة " لتستثفر بثوب وقال لحمنة " تلجمي " لما قالت: إنه أكثر من ذلك فإذا فعلت ذلك ثم خرج الدم, فإن كان لرخاوة الشد فعليها إعادة الشد والطهارة وإن كان لغلبة الخارج وقوته وكونه لا يمكن شده أكثر من ذلك, لم تبطل الطهارة لأنه لا يمكن التحرز منه فتصلي ولو قطر الدم قالت عائشة: (اعتكفت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة من أزواجه, فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي) رواه البخاري وفي حديث: (صلى وإن قطر الدم على الحصير) وكذلك من به سلس البول أو كثرة المذي, يعصب رأس ذكره بخرقة ويحترس حسب ما يمكنه ويفعل ما ذكر وكذلك من به جرح يفور منه الدم, أو به ريح أو نحو ذلك من الأحداث ممن لا يمكنه قطعه عن نفسه فإن كان مما لا يمكن عصبه, مثل من به جرح لا يمكن شده أو به باسور أو ناصور لا يتمكن من عصبه صلى على حسب حاله, كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه حين طعن صلى وجرحه يثعب دما.
فصل: ويلزم كل واحد من هؤلاء الوضوء لوقت كل صلاة إلا أن يخرج منه شيء وبهذا قال الشافعي, وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك لا يجب الوضوء على المستحاضة وروي ذلك عن عكرمة وربيعة واستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لكل صلاة إلا أن يؤذيه البرد فإن آذاه قال: فأرجو أن لا يكون عليه ضيق في ترك الوضوء واحتجوا بأن في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة بنت أبي حبيش: (فاغتسلي وصلي) ولم يأمرها بالوضوء ولأنه ليس بمنصوص على الوضوء منه ولا في معنى المنصوص لأن المنصوص عليه الخارج المعتاد وليس هذا بمعتاد, ولنا ما روى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في (المستحاضة: تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل, وتصوم وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة) رواه أبو داود والترمذي, وعن عائشة قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت خبرها ثم قال: اغتسلي, ثم توضئي لكل صلاة وصلي) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح ولأنه خارج من السبيل, فنقض الوضوء كالمذي إذا ثبت هذا فإن طهارة هؤلاء مقيدة بالوقت لقوله: " تتوضأ عند كل صلاة " وقوله: " ثم توضئي لكل صلاة " ولأنها طهارة عذر وضرورة, فتقيدت بالوقت كالتيمم.
فصل: فإن توضأ أحد هؤلاء قبل الوقت وخرج منه شيء, بطلت طهارته لأن دخوله يخرج به الوقت الذي توضأ فيه وخروج الوقت مبطل لهذه الطهارة كما قررناه ولأن الحدث مبطل للطهارة, وإنما عفي عنه لعدم إمكان التحرز عنه مع الحاجة إلى الطهارة وإن توضأ بعد الوقت صح وارتفع حدثه ولم يؤثر فيه ما يتجدد من الحدث الذي لا يمكن التحرز منه فإن دخل في الصلاة عقيب طهارته, أو أخرها لأمر يتعلق بمصلحة الصلاة كلبس الثياب وانتظار الجماعة, أو لم يعلم أنه خرج منه شيء جاز وإن أخرها لغير ذلك ففيه وجهان: أحدهما, الجواز لأنها طهارة أريدت للصلاة بعد دخول وقتها فأشبهت التيمم ولأنها طهارة ضرورة فتقيدت بالوقت, كالتيمم والثاني لا يجوز لأنه إنما أبيح له الصلاة بهذه الطهارة مع قيام الحدث للحاجة والضرورة ولا ضرورة ها هنا وإن خرج الوقت بعد أن خرج منها شيء, أو أحدثت حدثا سوى هذا الخارج بطلت الطهارة قال أحمد في رواية أحمد بن القاسم: إنما أمرها أن تتوضأ لكل صلاة, فتصلي بذلك الوضوء النافلة والصلاة الفائتة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى فتتوضأ أيضا وهذا يقتضي إلحاقها بالتيمم, في أنها باقية ببقاء الوقت يجوز لها أن تتطوع بها وتقضي بها الفوائت, وتجمع بين الصلاتين ما لم تحدث حدثا آخر أو يخرج الوقت.
فصل: ويجوز للمستحاضة الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد لأن (النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر حمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد, وأمر به سهلة بنت سهيل) وغير المستحاضة من أهل الأعذار مقيس عليها وملحق بها.
فصل: إذا توضأت المستحاضة, ثم انقطع دمها فإن تبين أنه انقطع لبرئها باتصال الانقطاع تبينا أن وضوءها بطل بانقطاعه لأن الحدث الخارج مبطل للطهارة عفي عنه للعذر, فإذا زال العذر زالت الضرورة فظهر حكم الحدث وإن عاد الدم فظاهر كلام أحمد أنه لا عبرة بهذا الانقطاع قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله فقلت: إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير, ويوقتون بوقت يقولون: إذا توضأت للصلاة وقد انقطع الدم ثم سال بعد ذلك قبل أن تدخل في الصلاة, تعيد الوضوء ويقولون: إذا كان الدم سائلا فتوضأت ثم انقطع الدم, قولا آخر قال: لست أنظر في انقطاعه حين توضأت سال أم لم يسل إنما آمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والفائتة, حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرها بالوضوء لكل صلاة من غير تفصيل فالتفصيل يخالف مقتضى الخبر ولأن اعتبار هذا يشق, والعادة في المستحاضة وأصحاب هذه الأعذار أن الخارج يجري وينقطع واعتبار مقدار الانقطاع فيما يمكن فعل العبادة فيه يشق وإيجاب الوضوء به حرج لم يرد الشرع به, ولا سأل عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- المستحاضة التي استفتته فيدل ذلك ظاهرا على عدم اعتباره مع قول الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ولم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من الصحابة هذا التفصيل وقال القاضي وابن عقيل: إن تطهرت المستحاضة حال جريان دمها ثم انقطع قبل دخولها في الصلاة, ولم يكن لها عادة بانقطاعه لم يكن لها الدخول في الصلاة حتى تتوضأ لأنها طهارة عفي عن الحدث فيها لمكان الضرورة فإذا انقطع الدم زالت الضرورة, فظهر حكم الحدث كالمتيمم إذا وجد الماء وإن دخلت في الصلاة فاتصل الانقطاع زمنا يمكن الوضوء والصلاة فيه فهي باطلة لأننا تبينا بطلان طهارتها بانقطاعه وإن عاد قبل ذلك, فطهارتها صحيحة لأننا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة فأشبه ما لو ظن أنه أحدث ثم تبين أنه لم يحدث وفي صحة الصلاة وجهان: أحدهما, يصح لأننا تبينا صحة طهارتها لبقاء استحاضتها والثاني لا يصح لأنها صلت بطهارة لم يكن لها أن تصلي بها فلم تصح كما لو تيقن الحدث وشك في الطهارة, فصلى ثم تبين أنه كان متطهرا وإن عاودها الدم قبل دخولها في الصلاة لمدة تتسع للطهارة والصلاة بطلت الطهارة, وإن كانت لا تتسع لم تبطل لأننا تبينا عدم الطهر المبطل للطهارة فأشبه ما لو ظن أنه أحدث, فتبين أنه لم يحدث وإن كان انقطاعه في الصلاة ففي بطلان الصلاة به وجهان مبنيان على المتيمم يرى الماء في الصلاة ذكر ذلك ابن حامد وإن عاود الدم, فالحكم فيه على ما مضى في انقطاعه في غير الصلاة وإن توضأت في زمن انقطاعه ثم عاودها الدم قبل الصلاة أو فيها أو كانت مدة انقطاعه تتسع للطهارة والصلاة, بطلت طهارتها بعود الدم لأنها بهذا الانقطاع صارت في حكم الطاهرات فصار عود الدم كسبق الحدث وإن كان انقطاعا لا يتسع لذلك لم يؤثر عوده لأنها مستحاضة, ولا حكم لهذا الانقطاع وهذا مذهب الشافعي وقد ذكرنا من كلام أحمد -رحمه الله- ما يدل على أنه لا عبرة بهذا الانقطاع بل متى كانت مستحاضة أو بها عذر من هذه الأعذار فتحرزت وتطهرت, فطهارتها صحيحة وصلاتها بها ماضية ما لم يزل عذرها, وتبرأ من مرضها أو يخرج وقت الصلاة أو تحدث حدثا سوى حدثها.
فصل: فإن كانت لها عادة بانقطاع الدم زمنا لا يتسع للطهارة والصلاة فتوضأت, ثم انقطع دمها لم يحكم ببطلان طهارتها ولا صلاتها, إن كانت فيها لأن هذا الانقطاع لا يفيد المقصود وإن اتصل الانقطاع وبرأت وكان قد جرى منها دم بعد الوضوء بطلت طهارتها والصلاة لأنا تبينا أنها صارت في حكم الطاهرات بذلك الانقطاع وإن اتصل زمنا يتسع للطهارة والصلاة, فالحكم فيها كالحكم في التي لم يجر لها عادة بانقطاعه على ما ذكر فيه وإن كانت لها عادة بانقطاعه زمنا يتسع للطهارة والصلاة لم تصل حال جريان الدم وتنتظر إمساكه, إلا أن تخشى خروج الوقت فتتوضأ وتصلي فإن شرعت في الصلاة في آخر الوقت بهذه الطهارة فأمسك الدم عنها, بطلت طهارتها لأنها أمكنتها الصلاة بطهارة غير ضرورية فلم تصح صلاتها بغيرها كغير المستحاضة وإن كان زمن إمساكه يختلف, فتارة يتسع وتارة لا يتسع فهي كالتي قبلها إلا أن تعلم أن انقطاعه في هذا الوقت لا يتسع ويحتمل أنها إذا شرعت في الصلاة, ثم انقطع الدم لا تبطل صلاتها لأنها شرعت فيها بطهارة يقينية وانقطاع الدم يحتمل أن يكون متسعا, فتبطل ويحتمل أن يكون ضيقا فلا تبطل, ولا يزول اليقين بالشك فإن اتصل الانقطاع تبينا أنه كان مبطلا فبطلت الطهارة والصلاة به.
مسألة: قال: [ وأكثر النفاس أربعون يوما] هذا قول أكثر أهل العلم قال أبو عيسى الترمذي: أجمع أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك, فتغتسل وتصلي وقال أبو عبيد: وعلى هذا جماعة الناس وروي هذا عن عمر وابن عباس, وعثمان بن أبي العاص وعائذ بن عمرو وأنس وأم سلمة رضي الله عنهم وبه قال الثوري, وإسحاق وأصحاب الرأي وقال مالك والشافعي: أكثره ستون يوما وحكى ابن عقيل, عن أحمد رواية مثل قولهما لأنه روى عن الأوزاعي أنه قال: عندنا امرأة ترى النفاس شهرين وروي مثل ذلك عن عطاء أنه وجده والمرجع في ذلك إلى الوجود قال الشافعي غالبه أربعون يوما ولنا ما روى أبو سهل كثير بن زياد, عن مسة الأزدية عن أم سلمة قالت: (كانت النفساء تجلس على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين يوما وأربعين ليلة) رواه أبو داود والترمذي, وقال: هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث أبي سهل وهو ثقة قال الخطابي: أثنى محمد بن إسماعيل على هذا الحديث وروى الحكم بن عتيبة عن مسة, عن أم سلمة (عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها سألته: كم تجلس المرأة إذا ولدت قال: أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك) رواه الدارقطني ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم, فكان إجماعا وقد حكاه الترمذي إجماعا ونحوه حكى أبو عبيد, وما حكوه عن الأوزاعي يحتمل أن الزيادة كانت حيضا أو استحاضة كما لو زاد دمها عن الستين, أو كما لو زاد دم الحائض على خمسة عشر يوما.
مسألة: قال: [ وليس لأقله حد أي وقت رأت الطهر اغتسلت وهي طاهر, ولا يقربها زوجها في الفرج حتى تتم الأربعين استحبابا] وبهذا قال الثوري والشافعي وقال مالك والأوزاعي, وأبو عبيد: إذا لم تر دما تغتسل وتصلي وقال محمد بن الحسن وأبو ثور: أقله ساعة وقال أبو عبيد: أقله خمسة وعشرون يوما ولنا أنه لم يرد في الشرع تحديده, فيرجع فيه إلى الوجود وقد وجد قليلا وكثيرا وقد روي أن امرأة ولدت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم تر دما, فسميت ذات الجفوف قال أبو داود: ذاكرت أبا عبد الله حديث جرير: كانت امرأة تسمى الطاهر تضع أول النهار وتطهر آخره فجعل يعجب منه وقال علي رضي الله عنه لا يحل للنفساء إذا رأت الطهر إلا أن تصلي ولأن اليسير دم وجد عقيب سببه وهو الولادة فيكون نفاسا كالكثير, وقد روي عن أحمد أنها إذا رأت النقاء لدون اليوم لا تثبت لها أحكام الطاهرات قال يعقوب: سألت أبا عبد الله عن المرأة إذا ضربها المخاض فتكون أيامها عشرا, فترى النقاء قبل ذلك فتغتسل ثم ترى الدم من يومها؟ قال: هذا أقل من يوم, ليس عليها شيء فعلى هذا لا تثبت لها أحكام الطاهرات حتى ترى الطهر يوما كاملا ووجه ذلك أن الدم يجري تارة وينقطع أخرى فلا يخرج عن حكم النفاس بمجرد انقطاعه لأن ذلك يفضي إلى أن لا تسقط الصلاة عنها في نفاسها, إذ ما من وقت صلاة إلا يوجد فيه طهر يجب عليها الصلاة به وهذا يخالف النص والإجماع وإذا لم يعتبر مجرد انقطاع الدم فلا بد من ضابط للانقطاع المعدود طهرا واليوم يصلح أن يكون ضابطا لذلك, فتعلق الحكم به.
فصل: وإن ولدت ولم تر دما فهي طاهر لا نفاس لها لأن النفاس هو الدم ولم يوجد, وفي وجوب الغسل عليها وجهان: أحدهما لا يجب لأن الوجوب من الشرع وإنما ورد الشرع بإيجابه على النفساء, وليست هذه نفساء ولا في معناها لأن النفساء قد خرج منها دم يقتضي خروجه وجوب الغسل ولم يوجد ذلك فيمن لم يخرج منها والثاني, يجب لأن الولادة مظنة للنفاس فتعلق الإيجاب بها كتعلقه بالتقاء الختانين, وإن لم يوجد الإنزال.
فصل: وإذا طهرت لدون الأربعين اغتسلت وصلت وصامت ويستحب أن لا يقربها زوجها قبل الأربعين قال أحمد: ما يعجبني أن يأتيها زوجها, على حديث عثمان بن أبي العاص أنها أتته قبل الأربعين فقال لا تقربيني ولأنه لا يأمن عود الدم في زمن الوطء, فيكون واطئا في نفاس وهذا على سبيل الاستحباب فإنا حكمنا لها بأحكام الطاهرات ولهذا يلزمها أن تغتسل وتصلي, وتصوم وإن عاد دمها في مدة الأربعين ففيه روايتان إحداهما أنه من نفاسها تدع له الصوم والصلاة نقل عنه أحمد بن القاسم أنه قال: فإن عاودها الدم قبل الأربعين, أمسكت عن الصلاة والصوم فإن طهرت أيضا اغتسلت وصلت وصامت وهذا قول عطاء والشعبي لأنه دم في زمن النفاس, فكان نفاسا كالأول وكما لو اتصل والثانية أنه مشكوك فيه, تصوم وتصلي ثم تقضي الصوم احتياطا وهذه الرواية المشهورة عنه نقلها الأثرم, وغيره ولا يأتيها زوجها وإنما ألزمها فعل العبادات في هذا الدم لأن سببها متيقن وسقوطها بهذا الدم مشكوك فيه, فلا يزول اليقين بالشك وأمرها بالقضاء احتياطا لأن وجوب الصلاة والصوم متيقن وسقوط الصوم بفعله في هذا الدم مشكوك فيه, فلا يزول بالشك والفرق بين هذا الدم وبين الزائد على الست والسبع في حق الناسية حيث لا يجب قضاء ما صامته فيه مع الشك أن الغالب مع عادات النساء ست أو سبع, وما زاد عليه نادر بخلاف النفاس ولأن الحيض يتكرر فيشق إيجاب القضاء فيه والنفاس بخلافه, وكذلك الدم الزائد عن العادة في الحيض وقال مالك: إن رأت الدم بعد يومين أو ثلاثة فهو نفاس وإن تباعد ما بينهما, فهو حيض ولأصحاب الشافعي وجهان فيما إذا رأت الدم يوما وليلة بعد طهر خمسة عشر يوما: أحدهما يكون حيضا والثاني, يكون نفاسا وقال القاضي إن رأت الدم أقل من يوم وليلة بعد طهر خمسة عشر يوما فهو دم فساد تصلي وتصوم ولا تقضي وهذا قول أبي ثور وإن كان الدم الثاني يوما وليلة فالحكم فيه كما قلناه, من أنها تصوم وتصلي وتقضي الصوم ولنا أنه دم صادف زمن النفاس فكان نفاسا, كما لو استمر ولا فرق بين قليله وكثيره لما ذكرناه من جعله حيضا فإنما خالف في العبارة, فإن حكم الحيض والنفاس واحد وأما ما صامته في زمن الطهر فلا إعادة عليها فيه.
فصل: إذا رأت المرأة الدم بعد وضع شيء يتبين فيه خلق الإنسان ، فهو نفاس . نص عليه وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة ، فليس بنفاس . وإن كان الملقى بضعة لم يتبين فيها شيء من خلق الإنسان ، ففيها وجهان : أحدهما ، هو نفاس ؛ لأنه بدء خلق آدمي ، فكان نفاسا ، كما لو تبين فيها خلق آدمي . والثاني ، ليس بنفاس ؛ لأنه لم يتبين فيها خلق آدمي ، فأشبهت النطفة . فصل: إذا ولدت المرأة توأمين, فذكر أصحابنا عن أحمد روايتين فيها: إحداهما أن النفاس من الأول كله أوله وآخره, قالوا: وهي الصحيحة وهذا قول مالك وأبي حنيفة فعلى هذا متى انقضت مدة النفاس من حين وضعت الأول لم يكن ما بعده نفاسا لأن ما بعد ولادة الأول دم بعد الولادة, فكان نفاسا كالمنفرد وآخره منه لأن أوله منه, فكان آخره منه كالمنفرد واختلف أصحابنا في الرواية الثانية فقال الشريف أبو جعفر, وأبو الخطاب في " رءوس المسائل " هي أن أوله من الأول وآخره من الثاني وهذا قول القاضي في كتاب " الروايتين " لأن الثاني ولد فلا تنتهي مدة النفاس قبل انتهائها منه كالمنفرد فعلى هذا تزيد مدة النفاس على الأربعين في حق من ولدت توأمين وقال القاضي أبو الحسين في " مسائله ", وأبو الخطاب في " الهداية ": الرواية الثانية أنه من الثاني فقط وهذا قول زفر لأن مدة النفاس مدة تتعلق بالولادة فكان ابتداؤها وانتهاؤها من الثاني كمدة العدة فعلى هذا ما تراه من الدم قبل ولادة الثاني لا يكون نفاسا ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه, كالأقوال الثلاثة وذكر القاضي أنه منهما رواية واحدة وإنما الخلاف في الدم الذي بين الولادتين, هل هو نفاس أم لا؟ وهذا ظاهره إنكار لرواية من روى أن آخر النفاس من الأول.
فصل: وحكم النفساء حكم الحائض في جميع ما يحرم عليها ويسقط عنها, لا نعلم في هذا خلافا وكذلك تحريم وطئها وحل مباشرتها والاستمتاع بما دون الفرج منها, والخلاف في الكفارة بوطئها وذلك لأن دم النفاس هو دم الحيض إنما امتنع خروجه مدة الحمل لكونه ينصرف إلى غذاء الحمل فإذا وضع الحمل, وانقطع العرق الذي كان مجرى الدم خرج من الفرج فيثبت حكمه, كما لو خرج من الحائض ويفارق النفاس الحيض في أن العدة لا تحصل به لأنها تنقضي بوضع الحمل قبله ولا يدل على البلوغ لحصوله بالحمل قبله.
مسألة: قال: [ ومن كانت لها أيام فزادت على ما كانت تعرف لم تلتفت إلى الزيادة, إلا أن تراه ثلاث مرات فتعلم حينئذ أن حيضها قد انتقل فتصير إليه فتترك الأول وإن كانت صامت في هذه الثلاث مرارا أعادته, إذا كان صوما واجبا وإذا رأت الدم قبل أيامها التي كانت تعرف فلا تلتفت إليه, حتى يعاودها ثلاث مرات] وجملة ذلك أن المرأة إذا كانت لها عادة مستقرة في الحيض فرأت الدم في غير عادتها لم تعتد بما خرج من العادة حيضا, حتى يتكرر ثلاثا في إحدى الروايتين أو مرتين في الأخرى نقل حنبل عن أحمد في امرأة لها أيام معلومة, فتقدمت الحيضة قبل أيامها لم تلتفت إليها تصوم وتصلي, فإن عاودها في الثانية مثل ذلك فإنه دم حيض منتقل ونقل الفضل بن زياد: لا تنتقل إليه إلا في الثالثة, فلتمسك عن الصلاة والصوم وفي لفظ له قال: سألت أبا عبد الله عن المرأة أيام أقرائها معلومة فربما زاد في الأشهر الكثيرة على أيام أقرائها أتمسك عن الصلاة أو تصلي؟ قال: بل تصلي, ولا تلتفت إلى ما زاد على أقرائها إلا أن يكون دم حيض تنتقل إليه أو نحو هذا قلت: أفتصلي إلى أن يصيبها ثلاث مرارا ثم تدع الصلاة بعد ثلاث؟ قال: نعم, بعد ثلاث ففي هذه الرواية تصريح بأنها لا تعد الزيادة من حيضها إلا في المرة الرابعة وأنها تصلي وتصوم في المرات الثلاث وفي روايته الأولى يحتمل أنها تحتسبه من حيضها في المرة الثالثة لقوله: لا تنتقل إليه إلا في الثالثة ويحتمل أنه أراد بعد الثالثة, وفي رواية حنبل احتمالان أحدهما أنها تنتقل إليه في المرة الثانية وتحتسبه من حيضها والثاني, أنها لا تنتقل إليه إلا في الثالثة وأكثر الروايات عنه اعتبار التكرار ثلاثا فيما خرج عن العادة سواء رأت الدم قبل عادتها أو بعدها مع بقاء العادة أو انقطاع الدم فيها, أو في بعضها فإنها لا تجلس في غير أيامها حتى تتكرر مرتين أو ثلاثا فإذا تكرر علمنا أنه حيض منتقل, فتصير إليه أي تترك الصلاة والصوم فيه وتصير عادة لها, وتترك الأول أي العادة الأولى لأنها قد انتقلت عنها وصارت العادة أكثر منها أو غيرها ثم يجب عليها قضاء ما صامته من الفرض في هذه المرات الثلاث التي أمرناها بالصيام فيها لأننا تبينا أنها صامته في حيض, والصوم في الحيض غير صحيح وأما الصلاة فليس عليها قضاؤها لأن الحائض لا تقضي الصلاة قال أبو عبد الله: ولا يعجبني أن يأتيها زوجها في الأيام التي تصلي فيها لأننا لا نأمن كونها حيضا وإنما تصلي وتصوم احتياطا للعبادة, وترك الوطء احتياطا أيضا فيجب كما تجب الصلاة وإن تجاوزت الزيادة أكثر الحيض فهي استحاضة, ولا تجلس غير أيام العادة بكل حال ومثال ذلك امرأة عادتها ثلاثة أيام في أول كل شهر فرأت خمسة في أول الشهر أو رأت يومين من آخر الشهر الذي قبله, والثلاثة المعتادة أو طهرت الثلاثة ورأت ثلاثة بعده أو أكثر منها, أو أقل قبلها أو بعدها أو طهرت اليوم الأول ورأت ثلاثة بعده أو أكثر منها, أو طهرت يومين ورأت يومين بعدهما أو أكثر منها أو رأت الدم يومين في آخر الشهر ويوما في أوله وما أشبه ذلك فإنها لا تجلس في جميع هذه الصور, ما عدا الأول من الشهر حتى تتكرر لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجلسي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) ولأن لها عادة فردت إليها, كالمستحاضة وقال أبو حنيفة: ما رأته قبل العادة ليس بحيض حتى يتكرر مرتين وما تراه بعدها فهو حيض وقال الشافعي: جميعه حيض, ما لم تتجاوز أكثر الحيض وهذا أقوى عندي لأن عائشة رضي الله عنها كانت تبعث إليها النساء بالدرجة فيها الصفرة والكدرة فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ومعناه لا تعجلن بالغسل حتى ينقطع الدم وتذهب الصفرة والكدرة, ولا يبقى شيء يخرج من المحل بحيث إذا دخلت فيه قطنة خرجت بيضاء ولو لم تعد الزيادة حيضا للزمها الغسل عند انقضاء العادة وإن كان الدم جاريا ولأن الشارع علق على الحيض أحكاما, ولم يحده فعلم أنه رد الناس فيه إلى عرفهم والعرف بين النساء أن المرأة متى رأت دما يصلح أن يكون حيضا, اعتقدته حيضا ولو كان عرفهن اعتبار العادة على الوجه المذكور لنقل ولم يجز التواطؤ على كتمانه, مع دعاء الحاجة إليه ولذلك لما كان بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- معه في الخميلة فجاءها الدم, فانسلت من الخميلة فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: " ما لك؟ أنفست؟ " قالت: نعم فأمرها أن تأتزر ولم يسألها النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل وافق العادة أو جاء قبلها؟ ولا هي ذكرت ذلك ولا سألت عنه, وإنما استدلت على الحيضة بخروج الدم فأقرها عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك حين حاضت عائشة في عمرتها في حجة الوداع إنما علمت الحيضة برؤية الدم لا غير, ولم تذكر عادة ولا ذكرها لها النبي -صلى الله عليه وسلم- والظاهر أنه لم يأت في العادة لأن عائشة استكرهته واشتد عليها, وبكت حين رأته وقالت: وددت إني لم أكن حججت العام ولو كانت تعلم لها عادة تعلم مجيئه فيها وقد جاء فيها ما أنكرته, ولا صعب عليها ولو كانت العادة معتبرة على الوجه المذكور في المذهب, لبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته ولما وسعه تأخير بيانه إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقته, وأزواجه وغيرهن من النساء يحتجن إلى بيان ذلك في كل وقت فلم يكن ليغفل بيانه وما جاء عنه عليه السلام ذكر العادة, ولا بيانها إلا في حق المستحاضة لا غير وأما امرأة طاهر ترى الدم في وقت يمكن أن يكون حيضا ثم ينقطع عنها, فلم يذكر في حقها عادة أصلا ولأننا لو اعتبرنا التكرار فيما خرج عن العادة أدى إلى خلو نساء عن الحيض بالكلية مع رؤيتهن الدم في زمن الحيض, وصلاحية أن يكون حيضا بيانه أن المرأة إذا رأت الدم في غير أيام عادتها وطهرت أيام عادتها لم تمسك عن الصلاة ثلاثة أشهر, فإذا انتقلت في الشهر الرابع إلى أيام أخر لم نحيضها أيضا ثلاثة أشهر وكذلك أبدا فيفضي إلى إخلائها من الحيض بالكلية ولا سبيل إلى هذا, فعلى هذا القول تجلس ما تراه من الدم قبل عادتها وبعدها ما لم يزد على أكثر الحيض فإن زاد على أكثره علمنا أنه استحاضة, فرددناها إلى عادتها ويلزمها قضاء ما تركته من الصلاة والصيام فيما زاد على عادتها لأننا تبينا أنه ليس بحيض, وإنما هو استحاضة.
فصل: فإن كانت لها عادة فرأت الدم أكثر منها وجاوز أكثر الحيض, فهي مستحاضة وحيضها منه قدر العادة لا غير ولا تجلس بعد ذلك من الشهور المستقبلة إلا قدر العادة, ولا أعلم في هذا خلافا عند من اعتبر العادة فأما إن كانت عادتها ثلاثة من كل شهر فرأت في شهر خمسة أيام ثم استحيضت في الشهر الآخر, فإنها لا تجلس مما بعده من الشهور إلا ثلاثة ثلاثة وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي: تجلس خمسة من كل شهر وهذا مبني على أن العادة لا تثبت بمرة وإن رأت خمسة في شهرين فهل تنتقل عادتها إلى خمسة؟ يخرج على الروايتين فيما تثبت به العادة, وإن رأت الخمسة في ثلاثة أشهر ثم استحيضت انتقلت إليها, وجلست من كل شهر خمسة بغير خلاف بينهم.
مسألة: قال: [ ومن كانت لها أيام فرأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر, تغتسل وتصلي فإن عاودها الدم لم تلتفت إليه حتى تجيء أيامها] الكلام في هذه المسألة في فصلين: أحدهما, في الطهر بين الدمين والثاني في حكم الدم العائد بعده
فصل: أما الأول فإن المرأة متى رأت الطهر فهي طاهر تغتسل, وتلزمها الصلاة والصيام سواء رأته في العادة أو بعد انقضائها, ولم يفرق أصحابنا بين قليل الطهر وكثيره لقول ابن عباس: أما ما رأت الطهر ساعة فلتغتسل ويتوجه أن انقطاع الدم متى نقص عن اليوم فليس بطهر بناء على الرواية التي حكيناها في النفاس أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم وهو الصحيح إن شاء الله لأن الدم يجري مرة, وينقطع أخرى وفي إيجاب الغسل على من تطهر ساعة بعد ساعة حرج ينتفي بقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ولأننا لو جعلنا انقطاع الدم ساعة طهرا ولا تلتفت إلى ما بعده من الدم, أفضى إلى أن لا يستقر لها حيض فعلى هذا لا يكون انقطاع الدم أقل من يوم طهرا إلا أن ترى ما يدل عليه, مثل أن يكون انقطاعه في آخر عادتها أو ترى القصة البيضاء وهو شيء يتبع الحيض أبيض, يسمى الترية روي ذلك عن إمامنا وروي عنه أن القصة البيضاء هي القطنة التي تحشوها المرأة إذا خرجت بيضاء كما دخلت لا تغير عليها فهي القصة البيضاء بضم القاف حكي ذلك عن الزهري وروي عن إمامنا أيضا, وقال أبو حنيفة: ليس النقاء بين الدمين طهرا بل لو صامت فيه فرضا لم يصح ولزمها قضاؤه, ولا يجب عليها فيه صلاة ولا يأتيها زوجها فيكون الدمان وما بينهما حيضا وهو أحد قولي الشافعي لأن الدم يسيل تارة وينقطع أخرى ولأنه لو لم يكن من الحيض لم يحتسب من مدته, ولنا قول الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} وصف الحيض بكونه أذى فإذا ذهب الأذى وجب أن يزول الحيض وقال ابن عباس: أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل وقالت عائشة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ولأنها صامت وهي طاهر, فلم يلزمها القضاء كما لو لم يعد الدم فأما قولهم: إن الدم يجري تارة وينقطع أخرى قلنا لا عبرة بالانقطاع اليسير وإنما إذا وجد انقطاع كبير يمكن فيه الصلاة والصيام, وتتأدى العبادة فيه وجبت عليها لعدم المانع من وجوبها. ">فصل:أما الأول فإن المرأة متى رأت الطهر فهي طاهر تغتسل, وتلزمها الصلاة والصيام سواء رأته في العادة أو بعد انقضائها, ولم يفرق أصحابنا بين قليل الطهر وكثيره لقول ابن عباس: أما ما رأت الطهر ساعة فلتغتسل ويتوجه أن انقطاع الدم متى نقص عن اليوم فليس بطهر بناء على الرواية التي حكيناها في النفاس أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم وهو الصحيح إن شاء الله لأن الدم يجري مرة, وينقطع أخرى وفي إيجاب الغسل على من تطهر ساعة بعد ساعة حرج ينتفي بقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ولأننا لو جعلنا انقطاع الدم ساعة طهرا ولا تلتفت إلى ما بعده من الدم, أفضى إلى أن لا يستقر لها حيض فعلى هذا لا يكون انقطاع الدم أقل من يوم طهرا إلا أن ترى ما يدل عليه, مثل أن يكون انقطاعه في آخر عادتها أو ترى القصة البيضاء وهو شيء يتبع الحيض أبيض, يسمى الترية روي ذلك عن إمامنا وروي عنه أن القصة البيضاء هي القطنة التي تحشوها المرأة إذا خرجت بيضاء كما دخلت لا تغير عليها فهي القصة البيضاء بضم القاف حكي ذلك عن الزهري وروي عن إمامنا أيضا, وقال أبو حنيفة: ليس النقاء بين الدمين طهرا بل لو صامت فيه فرضا لم يصح ولزمها قضاؤه, ولا يجب عليها فيه صلاة ولا يأتيها زوجها فيكون الدمان وما بينهما حيضا وهو أحد قولي الشافعي لأن الدم يسيل تارة وينقطع أخرى ولأنه لو لم يكن من الحيض لم يحتسب من مدته, ولنا قول الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} وصف الحيض بكونه أذى فإذا ذهب الأذى وجب أن يزول الحيض وقال ابن عباس: أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل وقالت عائشة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ولأنها صامت وهي طاهر, فلم يلزمها القضاء كما لو لم يعد الدم فأما قولهم: إن الدم يجري تارة وينقطع أخرى قلنا لا عبرة بالانقطاع اليسير وإنما إذا وجد انقطاع كبير يمكن فيه الصلاة والصيام, وتتأدى العبادة فيه وجبت عليها لعدم المانع من وجوبها.
فصل: الفصل الثاني: إذا عاودها الدم فلا يخلو إما أن يعاودها في العادة, أو بعدها فإن عاودها في العادة ففيه روايتان: إحداهما, أنه من حيضها لأنه صادف زمن العادة فأشبه ما لو لم ينقطع وهذا مذهب الثوري, وأصحاب الرأي والشافعي والثانية ليس بحيض, وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن أبي موسى ومذهب عطاء لأنه عاد بعد طهر صحيح, فأشبه ما لو عاد بعد العادة وعلى هذه الرواية يكون حكمه حكم ما لو عاد بعد العادة على ما سنذكره فيما بعد -إن شاء الله تعالى- وقد روي عن أحمد -رحمه الله-: إذا كانت أيامها عشرا, فقعدت خمسا ثم رأت الطهر فإنها تصلي, فإذا كان اليوم التاسع أو الثامن فرأت الدم صلت وصامت, وتقضي الصوم وهذا على سبيل الاحتياط لوجود التردد في هذا الدم فأشبه دم النفساء العائد في مدة النفاس فإن رأته في العادة وتجاوز العادة, لم يخل من أن يعبر أكثر الحيض أو لا يعبر فإن عبر أكثر الحيض فليس بحيض لأن بعضه ليس بحيض, فيكون كله استحاضة لأنه متصل به فكان أقرب إليه فإلحاقه بالاستحاضة أقرب من إلحاقه بالحيض لانفصاله عنه, وإن انقطع لأكثره فما دون فمن قال: إن ما لم يعبر العادة ليس بحيض فهذا أولى أن لا يكون حيضا ومن قال: هو حيض ففي هذا على قوله ثلاثة أوجه: أحدها, أن جميعه حيض بناء على الوجه الذي ذكرنا في أن الزائد على العادة حيض ما لم يعبر أكثر الحيض والثاني, أن ما وافق العادة حيض لموافقته العادة وما زاد عليها ليس بحيض لخروجه عنها والثالث أن الجميع ليس بحيض لاختلاطه بما ليس بحيض فإن تكرر فهو حيض, على الروايتين جميعا فأما إن عاد بعد العادة لم يخل من حالين: أحدهما أن لا يمكن كونه حيضا والثاني أن يمكن ذلك فإن لم يمكن كونه حيضا لعبوره أكثر الحيض, وأنه ليس بينه وبين الدم أقل الطهر فهذا استحاضة كله سواء تكرر أو لم يتكرر لأنه لا يمكن جعل جميعه حيضا, فكان جميعه استحاضة لأن إلحاق بعضه ببعض أولى من إلحاقه بغيره والثاني أن يمكن جعله حيضا وذلك يتصور في حالين أحدهما, أن يكون بضمه إلى الدم الأول لا يكون بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما فإذا تكرر جعلناهما حيضة واحدة ويلفق أحدهما إلى الآخر, ويكون الطهر الذي بينهما طهرا في خلال الحيض والصورة الثانية أن يكون بينهما أقل الطهر إما ثلاثة عشر يوما, أو خمسة عشر يوما ويكون كل واحد من الدمين يصلح أن يكون حيضا بمفرده بأن يكون يوما وليلة فصاعدا فهذا إذا تكرر كان الدمان حيضتين, وإن نقص أحدهما عن أقل الحيض فهو دم فساد إذا لم يمكن ضمه إلى ما بعده ومثال ذلك ما لو كانت عادتها عشرة من أول الشهر, فرأت خمسة منها دما وطهرت خمسة ثم رأت خمسة دما, وتكرر ذلك فالخمسة الأولى والثانية حيضة واحدة تلفق الدم الثاني إلى الأول وإن رأت الثاني ستة أو سبعة لم يمكن أن يكون حيضا لأن بين طرفيها أكثر من خمسة عشر يوما وليس بينهما أقل الطهر وإن رأت يوما دما وثلاثة عشر طهرا, ثم رأت يوما دما وتكرر هذا كانا حيضتين وصار شهرها أربعة عشر يوما وكذلك إن رأت يومين دما وثلاثة عشر طهرا, ثم رأت يومين دما وثلاثة عشر طهرا ثم رأت يومين دما وتكرر شهرها خمسة عشر يوما وإن كان الطهر بينهما أحد عشر يوما فما دون وتكرر, فهما حيضة واحدة لأنه ليس بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما ولا بينهما أقل الطهر وإن كان بينهما اثنا عشر يوما طهرا لم يمكن كونهما جميعا حيضا لأنه لا يمكن كونهما حيضة واحدة لزيادتهما بما بينهما من الطهر على أكثر الحيض, ولا يمكن جعلهما حيضتين لأنه ليس بينهما أقل الطهر فيكون حيضها منهما ما وافق العادة والآخر استحاضة وعلى هذا كل ما يتفرع من المسائل, إلا أنها لا تلتفت إلى ما رأته بعد الطهر فيما خرج عن العادة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثا فإن تكرر وأمكن جعله حيضا, فهو حيض وإلا فلا وكل موضع رأت الدم ولم تترك العبادة فيه ثم تبين أنه كان حيضا, فعليها قضاء الصوم المفروض فيه وكل موضع عدته حيضا وتركت فيه العبادة ثم تبين أنه طهر فعليها قضاء ما تركته من الواجبات فيه.
فصل: واختلف أصحابنا في مراد الخرقي, -رحمه الله- بقوله: " فإن عاودها الدم فلا تلتفت إليه فقال أبو الحسن التميمي والقاضي, وابن عقيل: أراد إذا عاودها بعد العادة وعبر أكثر الحيض بدليل أنه منعها أن تلتفت إليه مطلقا, ولو أراد غير ذلك لقال: حتى يتكرر قال القاضي: ويحتمل أنه أراد إذا عاودها بعد العادة ولم يعبر فإنها لا تلتفت إليه قبل التكرار وقال أبو حفص العكبري: أراد معاودة الدم في كل حال سواء كان في العادة أو بعدها لأن لفظه مطلق فيتناول بإطلاقه الزمان كله وهذا أظهر إن شاء الله وما ذكروه من الترجيح معارض بمثله, وهو أن قولهم يحتاج إلى إضمار عبور أكثر الحيض وليس هذا أولى من إضمار التكرار فيتساويان, ويسلم الترجيح الذي ذكرناه.
فصل: في التلفيق ومعناه ضم الدم إلى الدم الذين بينهما طهر وقد ذكرنا أن الطهر في أثناء الحيضة طهر صحيح فإذا رأت يوما طهرا ويوما دما ولم يجاوز أكثر الحيض, فإنها تضم الدم إلى الدم فيكون حيضا وما بينهما من النقاء طهر على ما قررناه ولا فرق بين أن يكون زمن الدم أكثر من زمن الطهر أو مثله أو أقل منه مثل أن ترى يومين دما ويوما طهرا, أو يومين طهرا ويوما دما أو أقل أو أكثر فإن جميع الدم حيض إذا تكرر ولم يجاوز لمدة أكثر الحيض فإن كان الدم أقل من يوم مثل أن ترى نصف يوم دما ونصفه طهرا, أو ساعة وساعة فقال أصحابنا: هو كالأيام يضم الدم إلى الدم فيكون حيضا وما بينهما طهر, إذا بلغ المجتمع منه أقل الحيض فإن لم يبلغ ذلك فهو دم فساد وفيه وجه آخر لا يكون الدم حيضا, إلا أن يتقدمه حيض صحيح متصل وهذا كله مذهب الشافعي وله قول في النقاء بين الدمين أنه حيض وقد ذكرناه وذكرنا أيضا وجها لنا في أن النقاء متى كان أقل من يوم لم يكن طهرا فعلى هذا متى نقص النقاء عن يوم كان الدم وما بينه حيضا كله, فإن جاوز الدم أكثر الحيض بأن يكون بين طرفيه أكثر من خمسة عشر يوما مثل أن ترى يوما دما ويوما طهرا إلى ثمانية عشر يوما, فهي مستحاضة لا تخلو من أن تكون معتادة أو مميزة أو لا عادة لها ولا تمييز, أو يوجد في حقها الأمران فإن كانت معتادة مثل أن يكون حيضها خمسة أيام في أول كل شهر فهذه تجلس أول يوم ترى الدم فيه في العادة, وتغتسل عند انقطاعه وما بعد ذلك مبني على الروايتين في الطهر في أثناء الحيضة هل يمنع ما بعده أن يكون حيضا أو لا؟ فإن قلنا يمنع, فحيضها اليوم الأول خاصة وما بعده استحاضة وإن قلنا لا يمنع فحيضها اليوم الأول, والثالث والخامس فيحصل لها من عادتها ثلاثة أيام والباقي استحاضة وفي وجه آخر أنه يلفق لها الخمسة من أيام الدم جميعها, فتجلس السابع والتاسع والصحيح الأول لأن هذين اليومين ليسا من عادتها فلا تجلسهما كغير الملفقة وإن كانت مميزة جلست زمان الدم الأسود من الأيام فكان حيضها وباقيه استحاضة وإن كانت مبتدأة جلست اليقين في ثلاثة أشهر, من أول دم تراه أو في شهرين ثم تنتقل بعد ذلك إلى ستة أيام أو سبعة وهل يلفق لها السبعة من خمسة عشر يوما, أو تجلس أربعة أيام من سبعة أيام؟ على وجهين كما قلنا فيمن عادتها سبعة أيام فإذا قلنا تجلس زمان الدم من سبعة, جلست الأول والثالث والخامس والسابع وإن أجلسناها ستة أيام سقط السابع وإن قلنا تلفق لها زادت التاسع والحادي عشر إن قلنا تجلس ستة وإن جلست سبعة زادت الثالث عشر وهكذا الحكم في الناسية وهذا أحد قولي الشافعي إلا أنه لا يلفق لها عدد أيامها في أحد الوجهين وقال القاضي, في المعتادة كما ذكرنا وفي غيرها: ما عبر الخمسة عشر استحاضة وأيام الدم من الخمسة عشر حيض كلها إذا تكرر فإن كان يوما ويوما فلها ثمانية أيام حيض وسبعة طهر وإن كانت أنصافا فلها سبعة أيام ونصف حيض ومثلها طهر وهذا قول ابن بنت الشافعي لأن الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض وما بعده, فإنها فيما بعده في حكم الطاهرات نأمرها بالصلاة والصيام ولنا: أن الطهر لو ميز بعد الخامس عشر لميز قبله كتميز اللون, والحكم فيما إذا كان أنصافا أو مختلفا يوما دما وأياما طهرا أو أياما طهرا وأياما دما كالحكم في الأيام الصحاح المتساوية, إلا أنه إذا كان الجزء الذي ترى الدم فيه أولا أقل من أقل الحيض ففيه وجه أنه لا يكون حيضا حتى يسبقه دم متصل يصلح أن يكون حيضا وإن قلنا الطهر يمنع ما بعده من كونه حيضا قبل التكرار وجاء في العادة فإنها تضم إلى الأول ما تكمل به أقل الحيض فإذا كانت ترى الدم يوما ويوما, ضمت الثالث إلى الأول فكان حيضا في المرة الأولى والثانية ثم تنتقل إلى ما تكرر في المرة الثالثة أو الرابعة على اختلاف الوجهين, وإذا رأت أقل من أقل الحيض ثم طهرت ثلاثة عشر يوما ثم رأت دما مثل ذلك, وقلنا أقل الطهر ثلاثة عشر يوما فهو دم فساد لأنه لا يصلح أن يكون حيضة واحدة لفصل أقل الطهر بينهما ولا حيضتين لنقصان كل واحد منهما عن أقل الحيض, وإن قلنا أقل الطهر خمسة عشر ضممنا الأول إلى الثاني فكانا حيضة واحدة, إذا بلغا بمجموعهما أقل الحيض وإن كان كل واحد من الدمين يبلغ أقل الحيض فهما حيضتان, إن قلنا: أقل الطهر ثلاثة عشر وإن قلنا أقله خمسة عشر ضممنا الثاني إلى الأول فكانا حيضا واحدا إذا لم يكن بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما, فإن كان بين طرفيهما خمسة عشر يوما لم يكن جعلهما جميعا حيضا فيجعل أحدهما حيضا والآخر استحاضة وعلى هذا فقس.">فصل:ومعناه ضم الدم إلى الدم الذين بينهما طهر وقد ذكرنا أن الطهر في أثناء الحيضة طهر صحيح فإذا رأت يوما طهرا ويوما دما ولم يجاوز أكثر الحيض, فإنها تضم الدم إلى الدم فيكون حيضا وما بينهما من النقاء طهر على ما قررناه ولا فرق بين أن يكون زمن الدم أكثر من زمن الطهر أو مثله أو أقل منه مثل أن ترى يومين دما ويوما طهرا, أو يومين طهرا ويوما دما أو أقل أو أكثر فإن جميع الدم حيض إذا تكرر ولم يجاوز لمدة أكثر الحيض فإن كان الدم أقل من يوم مثل أن ترى نصف يوم دما ونصفه طهرا, أو ساعة وساعة فقال أصحابنا: هو كالأيام يضم الدم إلى الدم فيكون حيضا وما بينهما طهر, إذا بلغ المجتمع منه أقل الحيض فإن لم يبلغ ذلك فهو دم فساد وفيه وجه آخر لا يكون الدم حيضا, إلا أن يتقدمه حيض صحيح متصل وهذا كله مذهب الشافعي وله قول في النقاء بين الدمين أنه حيض وقد ذكرناه وذكرنا أيضا وجها لنا في أن النقاء متى كان أقل من يوم لم يكن طهرا فعلى هذا متى نقص النقاء عن يوم كان الدم وما بينه حيضا كله, فإن جاوز الدم أكثر الحيض بأن يكون بين طرفيه أكثر من خمسة عشر يوما مثل أن ترى يوما دما ويوما طهرا إلى ثمانية عشر يوما, فهي مستحاضة لا تخلو من أن تكون معتادة أو مميزة أو لا عادة لها ولا تمييز, أو يوجد في حقها الأمران فإن كانت معتادة مثل أن يكون حيضها خمسة أيام في أول كل شهر فهذه تجلس أول يوم ترى الدم فيه في العادة, وتغتسل عند انقطاعه وما بعد ذلك مبني على الروايتين في الطهر في أثناء الحيضة هل يمنع ما بعده أن يكون حيضا أو لا؟ فإن قلنا يمنع, فحيضها اليوم الأول خاصة وما بعده استحاضة وإن قلنا لا يمنع فحيضها اليوم الأول, والثالث والخامس فيحصل لها من عادتها ثلاثة أيام والباقي استحاضة وفي وجه آخر أنه يلفق لها الخمسة من أيام الدم جميعها, فتجلس السابع والتاسع والصحيح الأول لأن هذين اليومين ليسا من عادتها فلا تجلسهما كغير الملفقة وإن كانت مميزة جلست زمان الدم الأسود من الأيام فكان حيضها وباقيه استحاضة وإن كانت مبتدأة جلست اليقين في ثلاثة أشهر, من أول دم تراه أو في شهرين ثم تنتقل بعد ذلك إلى ستة أيام أو سبعة وهل يلفق لها السبعة من خمسة عشر يوما, أو تجلس أربعة أيام من سبعة أيام؟ على وجهين كما قلنا فيمن عادتها سبعة أيام فإذا قلنا تجلس زمان الدم من سبعة, جلست الأول والثالث والخامس والسابع وإن أجلسناها ستة أيام سقط السابع وإن قلنا تلفق لها زادت التاسع والحادي عشر إن قلنا تجلس ستة وإن جلست سبعة زادت الثالث عشر وهكذا الحكم في الناسية وهذا أحد قولي الشافعي إلا أنه لا يلفق لها عدد أيامها في أحد الوجهين وقال القاضي, في المعتادة كما ذكرنا وفي غيرها: ما عبر الخمسة عشر استحاضة وأيام الدم من الخمسة عشر حيض كلها إذا تكرر فإن كان يوما ويوما فلها ثمانية أيام حيض وسبعة طهر وإن كانت أنصافا فلها سبعة أيام ونصف حيض ومثلها طهر وهذا قول ابن بنت الشافعي لأن الطهر في اليوم السادس عشر يفصل بين الحيض وما بعده, فإنها فيما بعده في حكم الطاهرات نأمرها بالصلاة والصيام ولنا: أن الطهر لو ميز بعد الخامس عشر لميز قبله كتميز اللون, والحكم فيما إذا كان أنصافا أو مختلفا يوما دما وأياما طهرا أو أياما طهرا وأياما دما كالحكم في الأيام الصحاح المتساوية, إلا أنه إذا كان الجزء الذي ترى الدم فيه أولا أقل من أقل الحيض ففيه وجه أنه لا يكون حيضا حتى يسبقه دم متصل يصلح أن يكون حيضا وإن قلنا الطهر يمنع ما بعده من كونه حيضا قبل التكرار وجاء في العادة فإنها تضم إلى الأول ما تكمل به أقل الحيض فإذا كانت ترى الدم يوما ويوما, ضمت الثالث إلى الأول فكان حيضا في المرة الأولى والثانية ثم تنتقل إلى ما تكرر في المرة الثالثة أو الرابعة على اختلاف الوجهين, وإذا رأت أقل من أقل الحيض ثم طهرت ثلاثة عشر يوما ثم رأت دما مثل ذلك, وقلنا أقل الطهر ثلاثة عشر يوما فهو دم فساد لأنه لا يصلح أن يكون حيضة واحدة لفصل أقل الطهر بينهما ولا حيضتين لنقصان كل واحد منهما عن أقل الحيض, وإن قلنا أقل الطهر خمسة عشر ضممنا الأول إلى الثاني فكانا حيضة واحدة, إذا بلغا بمجموعهما أقل الحيض وإن كان كل واحد من الدمين يبلغ أقل الحيض فهما حيضتان, إن قلنا: أقل الطهر ثلاثة عشر وإن قلنا أقله خمسة عشر ضممنا الثاني إلى الأول فكانا حيضا واحدا إذا لم يكن بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما, فإن كان بين طرفيهما خمسة عشر يوما لم يكن جعلهما جميعا حيضا فيجعل أحدهما حيضا والآخر استحاضة وعلى هذا فقس.
مسألة: قال والحامل لا تحيض إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس مذهب أبي عبد الله -رحمه الله- أن الحامل لا تحيض, وما تراه من الدم فهو دم فساد وهو قول جمهور التابعين منهم: سعيد بن المسيب وعطاء والحسن, وجابر بن زيد وعكرمة ومحمد بن المنكدر والشعبي, ومكحول وحماد والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة, وابن المنذر وأبو عبيد وأبو ثور وروي عن عائشة رضي الله عنها والصحيح عنها أنها إذا رأت الدم لا تصلي وقال مالك والشافعي والليث: ما تراه من الدم حيض إذا أمكن وروي ذلك عن الزهري وقتادة, وإسحاق لأنه دم صادف عادة فكان حيضا كغير الحامل ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة) فجعل وجود الحيض علما على براءة الرحم, فدل ذلك على أنه لا يجتمع معه واحتج إمامنا بحديث سالم عن أبيه (أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا) فجعل الحمل علما على عدم الحيض, كما جعل الطهر علما عليه ولأنه زمن لا يعتادها الحيض فيه غالبا فلم يكن ما تراه فيه حيضا كالآيسة قال أحمد إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم وقول عائشة يحمل على الحبلى التي قاربت الوضع, جمعا بين قوليها فإن الحامل إذا رأت الدم قريبا من ولادتها فهو نفاس تدع له الصلاة كذلك قال إسحاق: وقال الحسن: إذا رأت الدم على الولد أمسكت عن الصلاة وقال يعقوب بن بختان سألت أحمد عن المرأة إذا ضربها المخاض قبل الولادة بيوم أو يومين تعيد الصلاة؟ قال: لا وقال إبراهيم النخعي: إذا ضربها المخاض فرأت الدم قال: هو حيض وهذا قول أهل المدينة, والشافعي وقال عطاء: تصلي ولا تعده حيضا ولا نفاسا ولنا: أنه دم خرج بسبب الولادة فكان نفاسا كالخارج بعده وإنما يعلم خروجه بسبب الولادة إذا كان قريبا منها ويعلم ذلك برؤية أماراتها من المخاض ونحوه في وقته: وأما إن رأت الدم من غير علامة على قرب الوضع لم تترك له العبادة لأن الظاهر أنه دم فساد فإن تبين كونه قريبا من الوضع, كوضعه بعده بيوم أو بيومين أعادت الصوم المفروض إن صامته فيه وإن رأته عند علامة على الوضع تركت العبادة فإن تبين بعده عنها أعادت ما تركته من العبادات الواجبة لأنها تركتها من غير حيض ولا نفاس.
مسألة: قال: وإذا رأت الدم ولها خمسون سنة فلا تدع الصوم ولا الصلاة, وتقضي الصوم احتياطا فإن رأته بعد الستين فقد زال الإشكال وتيقن أنه ليس بحيض, فتصوم وتصلي ولا تقضي اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في هذه المسألة فالذي نقل الخرقي ها هنا أنها لا تيأس من الحيض يقينا إلى ستين سنة, وما تراه فيما بين الخمسين والستين مشكوك فيه لا تترك له الصلاة ولا الصوم لأن وجوبهما متيقن فلا يسقط بالشك, وتقضي الصوم المفروض احتياطا لأن وجوبه كان متيقنا وما صامته في زمن الدم مشكوك في صحته فلا يسقط به ما تيقن وجوبه وروي عنه ما يدل على أنها بعد الخمسين لا تحيض وكذلك قال إسحاق بن راهويه لا يكون حيضا بعد الخمسين, ويكون حكمها فيما تراه من الدم حكم المستحاضة لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إذا بلغت خمسين سنة خرجت من حد الحيض وروي عنها أنها قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد الخمسين وروي عنه أن نساء الأعاجم يئسن من المحيض في خمسين ونساء بني هاشم وغيرهم من العرب إلى ستين سنة وهو قول أهل المدينة لما روى الزبير بن بكار في كتاب النسب عن بعضهم أنه قال: لا تلد لخمسين سنة إلا العربية, ولا تلد لستين إلا قرشية وقال: إن هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ولها ستون سنة وقال أحمد في امرأة من العرب رأت الدم بعد الخمسين إن عاودها مرتين أو ثلاثة فهو حيض وذلك لأن المرجع في هذا إلى الوجود وقد وجد حيض من نساء ثقات أخبرن به عن أنفسهن بعد الخمسين, فوجب اعتقاد كونه حيضا كما قبل الخمسين ولأن الكلام فيما إذا وجد من المرأة دم في زمن عادتها على وجه كانت تراه قبل ذلك فالوجود ها هنا دليل الحيض كما كان قبل الخمسين دليلا, فوجب جعله حيضا وأما إيجاب الصلاة والصوم فيه فللاحتياط لوقوع الخلاف فيه, والصحيح أنه لا فرق بين نساء العرب وغيرهن لأنهن لا يختلفن في سائر أحكام الحيض فكذلك في هذا وما ذكر عن عائشة لا حجة فيه لأن وجود الحيض أمر حقيقي, المرجع فيه إلى الوجود والوجود لا علم لها به ثم قد وجد بخلاف ما قالته فإن موسى بن عبد الله بن حسن قد ولدته أمه بعد الخمسين ووجد الحيض فيما بعد الخمسين على وجهه, فلا يمكن إنكاره فإن قيل: هذا الدم ليس بحيض مع كونه على صفته, وفي وقته وعادته بغير نص فهذا تحكم لا يقبل فأما بعد الستين فقد زال الإشكال وتيقن أنه ليس بحيض لأنه لم يوجد وقد علم أن للمرأة حالا تنتهي فيه إلى الإياس لقول الله تعالى {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم} قال أحمد في المرأة الكبيرة ترى الدم لا يكون حيضا هو بمنزلة الجرح وإن اغتسلت فحسن وقال عطاء: هي بمنزلة المستحاضة ومعنى القولين واحد وذلك لأن هذا الدم إذا لم يكن حيضا فهو دم فساد, وحكمها حكم المستحاضة ومن به سلس البول على ما مر حكمهما
فصل: وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين لأن الصغيرة لا تحيض بدليل قول الله تعالى {واللائي لم يحضن} ولأن المرجع فيه إلى الوجود, ولم يوجد من النساء من يحضن عادة فيما دون هذا السن ولأن دم الحيض إنما خلقه الله لحكمة تربية الحمل به فمن لا تصلح للحمل لا توجد فيها حكمته فينتفي لانتفاء حكمته كالمني فإنهما متقاربان في المعنى, فإن أحدهما يخلق منه الولد والآخر يربيه ويغذيه وكل واحد منهما لا يوجد من صغير, ووجوده علم على البلوغ وأقل سن تبلغ له الجارية تسع سنين فكان ذلك أقل سن تحيض له وقد روي عن عائشة أنها قالت (إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة) وروي ذلك مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد به حكمها حكم المرأة وهذا قول الشافعي وقد حكي عنه أنه قال: رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة وهذا يدل على أنها حملت لدون عشر سنين, وحملت ابنتها لمثل ذلك فعلى هذا إذا رأت بنت تسع سنين دما تركت الصلاة لأنها رأته في زمن يصلح للحيض فإن اتصل يوما وليلة فهو حيض يثبت به بلوغها, ونثبت فيه أحكام الحيض كلها وإن انقطع لدون ذلك فهو دم فساد لا يثبت به شيء مما ذكرنا وإن رأت الدم لدون تسع سنين, فهو دم فساد على كل حال لأنه لا يجوز أن يكون حيضا وقد روى الميموني عن أحمد, في بنت عشر رأت الدم قال: ليس بحيض فعلى هذا ليس التسع ولا العشر زمنا للحيض قال القاضي: فيجب على هذا أن يقال: أول زمن يصح فيه وجود الحيض ثنتا عشرة سنة لأنه الزمان الذي يصح فيه بلوغ الغلام والأول أصح
مسألة: قال: والمستحاضة إن اغتسلت لكل صلاة فهو أشد ما قيل فيها وإن توضأت لكل صلاة أجزأها اختلف أهل العلم في المستحاضة, فقال بعضهم: يجب عليها الغسل لكل صلاة روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وهو أحد قولي الشافعي في المتحيرة لأن عائشة روت (أن أم حبيبة استحيضت, فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمرها أن تغتسل لكل صلاة) متفق عليه وروى أبو داود (أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرها بالغسل عند كل صلاة) وقال بعضهم تغتسل كل يوم غسلا وروي ذلك عن عائشة, وعن ابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب فإنهم قالوا: تغتسل من ظهر إلى ظهر قال مالك: إني أحسب حديث ابن المسيب إنما هو: من طهر إلى طهر ولكن الوهم دخل فيه يعني أن الطاء غير المعجمة أبدلت بالظاء المعجمة وقال بعضهم: تجمع بين كل صلاتي جمع بغسل واحد, وتغتسل للصبح على ما في حديث حمنة وقد ذكرناه وكذلك أمر به سهلة بنت سهيل وبه قال عطاء والنخعي وأكثر أهل العلم, على أن الغسل عند انقضاء الحيض ثم عليها الوضوء لكل صلاة ويجزئها ذلك ويروى هذا عن عروة, وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال عكرمة وربيعة ومالك إنما عليها الغسل عند انقضاء حيضها وليس عليها للاستحاضة وضوء لأن ظاهر حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة, في حديث فاطمة بنت أبي حبيش الغسل فقط لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها: " فاغتسلي وصلي " ولم يذكر الوضوء لكل صلاة ولنا: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي, وتوضئي لكل صلاة) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وهذه زيادة يجب قبولها وفي حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في المستحاضة (تدع الصلاة أيام أقرائها, ثم تغتسل وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة) ولأنه دم خارج من الفرج, فأوجب الوضوء كدم الحيض وهذا يدل على أن الغسل المأمور به في سائر الأحاديث مستحب غير واجب والغسل لكل صلاة أفضل لما فيه من الخروج من الخلاف, والأخذ بالثقة والاحتياط وهو أشد ما قيل ثم يليه في الفضل والمشقة الجمع بين كل صلاتين بغسل واحد, والاغتسال للصبح ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: (وهو أعجب الأمرين إلي) ثم يليه الغسل كل يوم مرة بعد الغسل عند انقضاء الحيض ثم تتوضأ لكل صلاة, وهو أقل الأمور ويجزئها والله أعلم.
فصل: وحكم طهارة المستحاضة حكم التيمم في أنها إذا توضأت في وقت الصلاة صلت بها الفريضة ثم قضت الفوائت, وتطوعت حتى يخرج الوقت نص على هذا أحمد وعلى قياس ذلك لها الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد وقال الشافعي: لا تجمع بين فرضين بطهارة واحدة ولا تقضي به فوائت ولا تجمع بين صلاتين كقوله في التيمم ويحتمله قول الخرقي لقوله: (لكل صلاة) وحجتهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (توضئي لكل صلاة) ولنا أنه قد روي في بعض ألفاظ حديث فاطمة: (توضئي لوقت كل صلاة) ولأنه وضوء يبيح النفل فيبيح الفرض, كوضوء غير المستحاضة وحديثهم محمول على الوقت كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (أينما أدركتك الصلاة فصل) أي وقتها, وحديث حمنة ظاهر في الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد لأنه لم يأمرها بالوضوء بينهما وهو مما يخفى ويحتاج إلى بيانه ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
فصل: روي عن أحمد -رحمه الله- , أنه قال: لا بأس أن تشرب المرأة دواء يقطع عنها الحيض إذا كان دواء معروفا.