المصريون بين ساتى والبطل
المصريون بين ساتى والبطل
بقلم: د. أمانى الطويل *
أثار المقال الذى نشره الصديق العزيز الطاهر ساتى فى الزميله الصحافه تحت عنوان ( لسنا هكذا يا أخ العرب ) شجونا مكتومه فى نفسى منذ أن كتب الصديق العزيز أيضا صاحب القلم الرشيق والثقافه الرفيعه مصطفى عبد العزيز البطل مقالا مهما أيضا تحت عنوان ( فى بيتنا رجل مصرى ) قبل شهرين تقريبا فى الزميله ( الأحداث )، ولأن البطل يختصنى بالاطلاع على كل مايكتب بعكس ساتى، رغم ان الاخير أكل معنا عيشا وملحا فى مطعم جريده الأهرام فى الصيف الماضى، فقد تواصلنا أنا والبطل حول فحوى مقاله وقلت له وقتذاك ان علينا ان نفتح حوارا تديره النخبتين المصريه والسودانيه حول صورة كل منا لدى الاخر وانتويت ان أكتب مقالا أخترت أن يكون تحت عنوان فى بيتنا سودانى ولكن جاءت ازمة المحكمه الجنائيه الدوليه فزاد الطلب على تحليلاتنا فى الفضائيات والصحف السياره للموقف المتأزم وسبل مواجهته وتأثيره ليس على مسارات الحل السلمى فى دارفور ولكن على مستقبل السودان وهو أمر لصيق بمستقبل المصريين أيضا ولكن النيه مازالت معقوده على كتابه المقال بذات العنوان. المهم أن شجونى التى أثارها الصديقين العزيزان بمقاليهما تتعلق بما أعتقد أنه رؤية منقوصه وأدراك مشوه لموقف الشعب المصرى من السودان والسودانيين ونعته أما بالتعالى أو السخريه بينما ان حقيقه موقف الشعب المصرى من السودان والسودانيين هو التعاطف والتسامح.
ولنفصل فى ذلك الكثير فالطاهر ساتى بقلمه الرشيق الدافىء دوما نجده يقطر مرارة هذه المره ليصف حلقه كوميديه للفنان محمد هنيدى على أحدى الفضائيات يصف فيها رحله للسودان بعبارات وجدها خادشه لشعب جنوب الوادى ومفتقده للمعلومات الاساسيه حول تقاليد الزواج فيه وعدم معرفه ما اذا كان تقديم الابقار كمهر للعروس يجرى فى جنوب السودان أم شماله، ويصف مؤلف ومخرج الحلقه بالجهل ثم بالخبث حينما يختلط الناس بالأبقار فى حفل الزواج بحيث تكون الرسالة – بحسب منطق الطاهر ساتي - "هكذا هم " !! الوصول لهذه النتيجه استلزم من ساتى السخريه من المصريين بأنهم يسكنون المقابر ويتشاكسون حول التوريث والاهم والاخطر انه لايقدرون قيم السودانيين وصفاتهم النبيله.
هذا العرض السريع غرضه الأول التحليل وليس الرد بالمثل لان ساتى صديق اعتز بفتح حوار معه حول مايكتب، أكثر من كتابه رد عليه يستهدف الدفاع او التراشق متخندقه خلف مصريتى، والأهم أن التحليل تكمن وظائفه الأساسيه فى أكتشاف مواطن الخطأ والخلط حتى يتبين الخيط الابيض من الاسود ونستطيع ان نرشد رؤى الطرفين المصرى والسودانى أزاء بعضهما البعض. و فى التحليل نقول أن ساتى أختار التضخيم من حدث كوميدى في أساسه، أى أن وظيفته الاصلية هى السخريه، ويغفل أنه أذا كان هنيدى قد اختار السخريه من السودانيين فى موقف كهذا فقد سخر من الصعايده المصريين قبل ذلك وسخر منهم أيضا الفنان عادل امام الى حد ان أقام ضده محامو الصعيد دعوه قضائيه وكما يسخر الفنانين من الصعايده يسخر اهل قبلى فى الصعيد من أهل بحرى فى الدلتا فيصفون مثلا الدمياطه وأهالى دمنهوربالبخل والتقتير!
ويسقط ساتى الكاتب المرموق من تقديراته ان المصريين شعب منتج للنكته تاريخيا يعتاش بها للتعبير عن نفسه وعن مصائبه، فهم ينكتون على انفسهم وعلى كل قياداتهم بكافه انواعها و انماطها ، بلا سقوف ولا خطوط حمراء، ولعل أستخدام الأبقار فى السخريه ليس الأول من نوعه. أختزل ساتى هذا كله ليقول ان هنيدى ومن ورائه المصريين يسخرون من القيم النبيله للشعب السودانى !
النقطه الثانيه فى مقال ساتى هو عدم اداركه - ومن خلفه كثر فى السودان - ان المصريين لايدركون حتى الان السودان الا كقطر واحد رغم مخاطر تشرذمه الماثله وضعف رابطته الوطنيه التى يدركها المتابعون والحادبون على السودان فلا يفرق مع هنيدى ولا مع غيره أين تقدم الأبقار كمهر للعروس فى الشمال ام فى الجنوب فى الشرق أو الغرب. و الواقع أن الممارسه تتم في السودان، وهذا يكفى فالمصرى بطبعه وطبيعته وجدانه مركزى وموحد فحتى مخاطر الازمه الطائفيه ينظر اليها فى الاطار الدينى وليس فى الاطار الوطنى فكلنا مصريون اولا وبعد ذلك نبحث فى مسائل انتمائنا الدينى وهو أمر أظن انه من حسنات المصريين التى أتمنى ان تنتقل للسودانيين فلا يمارسون تعاليا على بعضهم البعض، كما نشتم من تملص ساتى ان يكون التقليد العتيد بتقديم الابقار كمهر للعروس مرتبط بمناطقه الشماليه!
هذا التضخيم من جانب ساتى وقراءه علي عمل كوميدى محدود فى أطار تحريضى على فنان مصرى يتم تنميطه فى أطار انه لم يكن وفيا لمكتشفه المخرج السودانى سعيد حامد أى ( عض اليد التى أمتدت اليه بالخير) أمر لابد وأن أراجع فيه أخونا ساتى، واقول له: شىء من الموضوعيه مطلوب! لاأحد فوق النقد بطبيعه الحال، لكن طرح القضايا فى منظورها الشامل أفضل دائما لصاحب القلم الذى يتحمل مسئوليه وأمانه الكلمه من طرحها فى اطار جزئى فرؤيه هنيدى بعيدا عن كونه مصرى ابن نكته حتى على نفسه فيه ظلم كبير.
ولعل هذا التضخيم الذى وقع فيه الطاهر ساتى ذكرنى بجلسه جمعتنى أثناء زيارتى الأخيره للخرطوم الشهر الماضى بعدد من الاخوه الصحفيين من جريده الميدان الذين قدموا لى دعوه كريمه للتفاكر حول المستجدات ومعرفه مايدور فى مصر حول أزمه المحكمه الجنائيه الدوليه والعلاقات المصريه السودانيه ففوجئت بمن يطرح أزمه السدود فى الولايه الشماليه وأن أقامه هذه السدود ورائها مصر لسببن الاول أن تستزرع اراضى الشماليه ويستوطنها مصريين والثانى أن تحجز هذه السدود طمى نهر النيل عن السد العالى وكان هذا الطرح متأثرا بما كتبه مصطفى البطل فى مقاله فى مقاله المشار اليه سالفا. ما أفزعنى فى هذا الطرح أمرين الأول أستبعاد السبب الرئيسى لأقامه السدود وهو تنميه المنطقه أقتصاديا صحيح ان الحكومه السودانيه أخطأت بأستبعاد مصالح الاهالى المحليين ومشاورتهم فى ضوء انهم المتضررون الرئيسيون بالتهجير ولكن لايمكن اسقاط الاغراض التنمويه والأقتصاديه عن هذه الخطوه الثانى هوحجم التدقيق الذى يمارسه هؤلاء الصحفيين ازاء المعلومات التى يتلقونها من جانب اناس يشتغلون فى توجيه الرأى العام وربما صناعه أجندته أيضا فلايمكن أهمال أن هذه الخطوه هى فى أطار سودانى خالص وانه مهما بلغت العلاقات الرسميه بين الحكومتين من توافق فلا يمكن لحكومه سودانيه ان تتماهى مع القاهره الى هذا الحد خصوصا اذ كانت هذه الحكومه هى حكومه الانقاذ التى عليها ماعليها ازاء مصر والمصريين . ومايعوز فى مسأله تدقيق الموقف المصرى من مسأله الأستزراع فى الولايه الشماليه هو أن أنماط الزراعه الأقتصاديه حاليا هى فى أطار الشركات الكبرى التى تعتمد على الميكنه الزراعيه التى لايعوزها الا بشر لايتجاوز عددهم أصابع اليد الواحده لاداره زراعه الالاف الأفدنه أى أن أنماط الزراعه الحاليه لن تنتج توطينا للمصريين فى السودان .
أما الموقف المصرى من مسأله التوطين فدائما مايتم الأعتماد فيها على كلام وزير الدفاع الفريق عبد الرحيم حسين وزيارته لمركز الدراسات السياسيه والأستراتجيه بالأهرام عن دعوته للمصريين من القدوم والعمل فى السودان وتكراره لمعان شبيهه فى جده .
مايهمنى من قول وزير الدفاع هو ماكان فى القاهره حتى تكتمل الصوره لدى مصطفى البطل فقد كنت حاضره بذاتى لهذا اللقاء وقلت أننا لانريد أن يكون الوجود المصرى فى السودان استقواء بنا من طرف على طرف وأن الوجود او الدور المصرى فى السودان يجب ان يكون محلا لأجماع القوى السياسيه السودانيه شمالا وجنوبا جميعها بأعتبارها ممثله للشعب السودانى بكافه أعراقه وثقافاته وان يكون داعما للسودان الوطن قبل اى شىء أخر ولعل هذا الموقف هو ماكان وراء مقال د. محمد السيد سعيد نائب مدير المركز ورئيس تحرير جريده البديل فى مقاله الذى نشرته الأحداث تحت عنوان فانتازيا سودانيه ردا على البطل فسعيد قال فى هذا اللقاء ان المصريين لن يكونوا فى السودان الا وفقا لأطر قانونيه واضحه وأن تجربه قريه الخالصه فىالسودان لن تتكرر . مالا يعرفه الكثيرون أن وزير الدفاع السودانى عضب من المركز وخبراءه ولم يزر المركز مره أخرى منذ هذا التاريخ .
هذا التوضيح أظن انه كان لازما فى ضوء أن مركز الدراسات وفقا لتقاليده لاينشر الا أطروحات ضيوفه منفرده وهو مأ اعتمد عليه مصطفى البطل على مايبدو فى مقاله ولكن كان أمام البطل أن يستقصى ولديه العديد من الوسائل سواء بالعلاقات المباشره أو بمتابعه انتاج المصريين فى هذا المجال.
ويبدو فى تقديرى أن طرح العلاقات بمصر فى الصحف يحوز على اهتمام عال ومتابعه فى أوساط الرأى العام كما أنها تنتج جماهيريه قد تكون من الدوافع المهمه للكتاب والصحفيين لتناول هذا الملف فقد لاحظت مثلا ان عدد قراء مقال ساتى عن هنيدى بلغ سته أضعاف قراءه فى المقال السابق عليه كما أن التعليقات عليه فاقت التعليقات على مقالاته الأخرى، ولكننى لم انتبه لتفعيل هذا المُحدد مع مقال البطل لاننى قرأته على بريدى الآلكترونى وليس علي موقع الصحيفة.
المهم عندى ان هذه الجماهيريه تستلزم التدقيق وتحرى المصلحه العليا لوادى النيل بأكمله، فلن نستطيع ان نبارح أماكننا على الخريطه ومن الأجدى والأفضل ان تسعى النخبتين المصريه والسودانيه الى مصالح شعبينا وترسيخ مبادى الشراكه فى المستقبل الأفضل، بدلا من السعى نحو التحريض وتشويه صورة كل منا لدى الآخر، فلن نجني وقتذاك الا الخسائر وفقدان الفرص المتاحه!
٭ باحثة في مركز الاهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية - القاهرة