الكتاب الأخضر

من معرفة المصادر

الكتاب الاخضر هو كتاب من تأليف معمر القذافي، ويدور حول الأفكار والمنهج المستخلص للرئيس معمر القذافي من الحضارات اليونانية والاسلامية والاوروبية الحديثة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الأول

(( أداة الحكم هي المشكلة السياسية الأولى التي تواجه الجماعات البشرية )). ((الأسرة يعود النزاع فيها أغلب الأحيان إلى هذه المشكلة )). (( أصبحت هذه المشكلة خطيرة جداً بعد أن تكونت المجتمعات الحديثة )).

تواجه الشعوب الآن هذه المشكلة المستمرة . وتعاني المجتمعات العديد من المخاطر والآثار البالغة المترتبة عليها . ولم تنجح بعد في حلها حلاً نهائيّا و ديمقراطيّا . ويقدم الكتاب الأخضر الحل النهائي لمشكلة أداة الحكم.

إن كافة الأنظمة السياسية في العالم الآن هي نتيجة صراع أدوات الحكم على السلطة صراعاً سلمياً أو مسلحاً كصراع الطبقات أو الطوائف أو القبائل أو الأحزاب أو الأفراد ، و نتيجته دائماً فوز أداة حكم : فرد أو جماعة أو حزب أو طبقة ... وهزيمة الشعب ، أي هزيمة الديمقراطية الحقيقية .

إن الصراع السياسي الذي يسفر عن فوز مرشح ما بنسبة 51 % مثلا من مجموع أصوات الناخبين تكون نتيجته أداة حكم دكتاتورية ولكن في ثوب ديمقراطي مزيف، حيث إن 49% من الناخبين تحكمهم أداة حكم لم ينتخبوها ، بل فرضت عليهم ، وتلك هي الدكتاتورية.وقد يسفر هذا الصراع السياسي عن فوز أداة حكم لا تمثل إلا الأقلية ، وذلك عندما تتوزع أصوات الناخبي ن على مجموعة مرشحين ينال أحدهم عدداً أكبر من الأصوات بالنسبة لكل واحد منهم على حدة، ولكن إذا جمعت الأصوات التي نالها الذين أقل منهم أصبحت أغلبية ساحقة، ومع هذا ينجح صاحب الأصوات الأقل ، ويعتبر نجاحه شرعياً وديمقراطياً !. وفي الواقع تقوم دكتاتورية في ثوب ديمقراطية زائفة.

هذه هي حقيقة النظم السياسية السائدة في العالم اليوم، والتي يبدو واضحاً تزييفها للديمقراطية الحقيقية، وأنها أنظمة دكتاتورية.


المجالس النيابية الحديثة السائدة في العالم

والمجلس النيابي تمثيل خادع للشعب ، والنظم النيابية حل تلفيقي لمشكل الديمقراطية.

المجلس النيابي يقوم أساساً نيابة عن الشعب ، وهذا الأساس ذاته غير ديمقراطي ؛ لأن الديمقراطية تعني سلطة الشعب لا سلطة نائبة عنه … ومجرد وجود مجلس نيابي معناه غياب الشعب ، والديمقراطية الحقيقية لا تقوم إلا بوجود الشعب نفسه لا بوجود نواب عنه.

أصبحت المجالس النيابية حاجزاً شرعياً بين الشعوب وممارسة السلطة ، حيث عزلت الجماهير عن ممارسة السياسة ، واحتكرت السيادة لنفسها نيابة عنها .. ولم يبق للشعوب إلا ذلك المظهر الزائف للديمقراطية المتمثل في الوقوف في صفوف طويلة لوضع أوراق التصويت في صناديق الانتخابات.

ولكي نعري المجلس النيابي لتظهر حقيقته ، علينا أن نبحث من أين يأتي هذا المجلس … فهو إما منتخب من خلال دوائر انتخابية ، أو من خلال حزب أو ائتلاف أحزاب وإما بالتعيين . وكل هذه الطرق ليست بطرق ديمقراطية ، إذ إن تقسيم السكان إلى دوائر انتخابية يعني أن العضو النيابي الواحد ينوب عن آلاف أو مئات الآلاف أو الملايين من الشعب حسب عدد السكان . ويعني أن النائب لا تربطه أية صلة تنظيمية شعبية بالناخبين إذ يعتبر نائباً عن كل الشعب كبقية النواب. هذا ما تقتضـيه الديمقراطية التقليدية السائدة ... ومن هنا تنفصل الجماهير نهائياً عن النائب ، وينفصل النائب نهائياً عن الجماهير ، وبمجرد حصوله على أصواتها يصبح هو المحتكر لسيادتها والنائب عنها في تصريف أمورها .. وهكذا نرى أن الديمقراطية التقليدية السائدة في العالم الآن تخلع القداسة والحصانة على عضو المجلس النيابي بينما لا تقر ذلك بالنسبة لأفراد الشعب ، ومعنى هذا أن المجالس النيابية أصبحت أداة لسلب السلطة الشعبية واحتكارها لنفسها ، وأصبح من حق الشعوب اليوم أن تكافح من خلال الثورة الشعبية من أجل تحطيم أدوات احتكار الديمقراطية والسيادة السالبة لإرادة الجماهير المسماة المجالس النيابية ، وأن تعلن صرختها المدوية المتمثلة في المبدأ الجديد ( لا نيابة عن الشعب ). أما إذا انبثق المجلس النيابي عن حزب نتيجة فوزه في الانتخابات فهو في هذه الحالة مجلس الحزب وليس مجلس الشعب ، فهو ممثل للحزب وليـس ممثلاً للشعب. والسلطة التنفيذية التي يعينها المجلس النيابي هي سلطة الحزب الفائز وليست سلطة الشعب . وكذلك بالنسبة للمجلس النيابـي الذي ينال كل حزب عدداً من مقاعده ، فأصحاب تلك المقاعد هم ممثلون لحزبهم وليسوا للشعب، والسلطة التي يقيمها هذا الائتلاف هي سلطة تلك الأحزاب المؤتلفة وليست سلطة الشعب.

إن الشعب في مثل هذه الأنظمة هو الفريسة المتصارع عليها ، وهو الذي تستغفله وتستغله هذه الأدوات السياسية المتصارعة على السلطة لتنتزع منه الأصوات وهو واقف في صفوف منتظمة صامتة تتحرك كالمسبحة لتلقـى بأوراقها في صناديق الاقتراع بنفس الكيفية التي تلقى بهـا أوراق أخـرى في صناديق القمامة..هذه هي الديمقراطية التقليدية السائدة في العالم كله سواء النظم ذات الحزب الواحد أو ذات الحزبين أو ذات الأحزاب المتعددة ، أو التي بدون أحزاب. وهكذا يتضح أن ( التمثيل تدجيل ).

أما المجالس التي تقام نتيجة التعيين و الوراثة فلا تدخل تحت أي مظهر للديمقراطية. و حيث إن نظام الانتخابات للمجالس النيابية يقوم على الدعاية لكسب الأصوات ، إذن فهو نظام(ديماغوجي) بمعنى الكلمة ،وأن الأصوات يمكن شراؤها ويمكن التلاعب بها... وأن الفقراء لا يستطيعون خوض معارك الانتخابات التي ينجح فيها الأغنياء دائما ... وفقط !.

إن نظرية التمثيل النيابي نادى بها الفلاسفة والمفكرون والكتاب عندما كانت الشعوب تساق كالقطيع بواسطة الملوك والسلاطين والفاتحين وهي لا تدري … وكان أقصى ما تطمع فيه الشعوب في تلك العصور هو أن يكون لها ممثل ينوب عنها مع أولئك الحكام الذين كانوا يرفضون ذلك ، ولهذا كافحت الشعوب مريراً وطويلاً لتحقق ذلك المطمع ! إذن لا يعقل الآن بعد انتصار عصر الجمهوريات وبداية عصر الجماهير أن تكون الديمقراطية هي الحصول على مجموعة قليلة من النواب ليمثلوا الجماهير الغفيرة. إنها نظرية بالية وتجربة مستهلكة. إن السلطة يجب أن تكون بالكامل للشعب.

إن أعتى الدكتاتوريات التي عرفها العالم قامت في ظل المجالس النيابية.

الحزب

الحزب هو الدكتاتورية العصرية .. هو أداة الحكم الدكتاتورية الحديثة ... إذ إن الحزب هو حكم جزء للكل ... وهو آخر الأدوات الدكتاتورية حتى الآن .وبما أن الحزب ليس فرداً، فهو يضفي ديمقراطية مظهرية بما يقيمه من مجالس ولجان ودعاية بواسطة أعضائه . فالحزب ليس أداة ديمقراطية على الإطلاق ، لأنه يتكون إما من ذوي المصالح الواحدة... أو الرؤية الواحدة .. أو الثقافة الواحدة ...أو المكان الواحد .. أو العقيدة الواحدة .. هؤلاء يكونون الحزب لتحقيق مصالحهم أو فرض رؤيتهم أو بسط سلطان عقيدتهم على المجتمع ككل، وهدفهم السلطة باسم تنفيذ برنامجهم. ولا يجوز ديمقراطياً أن يحكم أي من هؤلاء كل الشعب الذي يتكون من العديد من المصالح والآراء و الأمزجة والأماكن والعقائد .. فالحزب أداة حكم دكتاتورية تمكن أصحاب الرؤية الواحدة أو المصلحة الواحدة من حكم الشعب بأكمله... أيّ شعب... والحزب هو الأقلية بالنسبة للشعب. إن الغرض من تكوين الحزب هو خلق أداة لحكم الشعب ... أي حكم الذين خارج الحزب بواسطة الحزب... فالحزب يقوم أساساً على نظرية سلطوية تحكمية.. أي تحكّم أصحاب الحزب في غيرهم من أفراد الشعب .. يفترض أن وصوله للسلـطة هو الوسـيلة لتحقيق أهدافه ، ويفترض أن أهدافه هي أهداف الشعب ، وتلك نظرية تبرير دكتاتورية الحزب ، وهي نفس النظرية التي تقوم عليها أي دكتاتورية.

ومهما تعددت الأحزاب فالنظرية واحدة بل يزيد تعددها من حدة الصراع على السلطة … ويؤدي الصراع الحزبي على السلطة إلى تحطيم أسس أيّ إنجاز للشعب... ويخرب أي مخطط لخدمة المجتمع … لأن تحطيم الإنجازات وتخريب الخطط هو المبرر لمحاولة سحب البساط من تحت أرجل الحزب الحاكم ليحل محله المنافس له.

والأحزاب في صراعها ضد بعضها ، إن لم يكن بالسلاح _ وهو النادر_ فبشجب وتسفيه أعمال بعضها بعضاً . وتلك معركة لابد أن تدور فوق مصالح المجتمع الحيوية والعليا ،ولابد أن تذهب بعض تلك المصالح العليا ضحية لتطاحن أدوات الحكم على السلطة إن لم تذهب كلها ، لأن انهيار تلك المصالح تأكيد لحجة الحزب المعارض ضد الحزب الحاكم ، أو الأحزاب المعارضة ضد الأحزاب الحاكمة. إن حزب المعارضة لكونه أداة حكم ولكي يصل إلى السلطة ، لابد لـه من إسقـاط أداة الحكـــم التي في السلطة ،ولكي يسقطها لابد أن يهدم أعمالها ويشكك في خططها، حتى ولو كانت صالحة للمجتمع ليبرر عدم صلاحها كأداة حكم… وهكذا تكون مصالح المجتمع وبرامجه ضحية صراع الأحزاب على السلطة .

وهكذا برغم ما يثيـره صـراع تعـدد الأحزاب من نشاط سياسي إلا أنه مدمر سياسياً واجتماعياً واقتصادياً لحيـاة المجتمع من ناحية ،ومن ناحية أخرى فنتيجة الصراع هي انتصار أداة حكم أخرى كسابقتها، أي سقوط حزب وفوز حزب ولكن هزيمة الشعب … أي هزيمة الديمقراطية. كما أن الأحزاب يمكن شراؤها أو ارتشاؤها من الداخل أو من الخارج .

الحزب يقوم أصلاً ممثلاً للشعب ، ثم تصبح قيادة الحزب ممثلة لأعضاء الحزب، ثم يصبح رئيس الحزب ممثلا لقيادة الحزب. ويتضح أن اللعبة الحزبية لعبة هزلية خادعة تقوم على شكل صوري للديمقراطية ،ومحتوى أناني سلطوي أساسه المناورات والمغالطات واللعب السياسي ، ذلك ما يؤكد أن الحزبية أداة دكتاتورية ولكن عصرية. إن الحزبية دكتاتورية صريحة وليست مقنّعة، إلا أن العالم لم يتجاوزها بعد ، فهي حقاً دكتاتورية العصر الحديث.

إن المجلس النيابي للحزب الفائز هو مجلس الحزب… والسلطة التنفيذية التي يكونها ذلك المجلس هي سلطة الحزب على الشعب ، وإن السلطة الحزبية التي يفترض أنها لمصلحة كل الشعب، هي في واقع الأمر عدو لدود لجزء من الشعب، وهو حزب أو أحزاب المعارضة وأنصارها من الشعب. والمعارضة ليست رقيباً شعبياً على سلطة الحزب الحاكم بل هي متربصة لمصلحة نفسها لكي تحل محله في السلطة، أما الرقيب الشرعي وفق هذه الديمقراطية الحديثة فهو المجلس النيابي الذي غالبيته هم أعضاء الحزب الحاكم، أي الرقابة من حزب السلطة، والسلطة من حزب الرقابة .هكذا يتضح التدجيل والتزييف وبطلان النظريات السياسية السائدة في العالم اليوم والتي تنبثق منها الديمقراطية التقليدية الحالية.

(( الحزب يمثل جزءاً من الشعب،وسيادة الشعب لا تتجزأ )). ((الحزب يحكم نيابة عن الشعب ، والصحيح لا نيابة عن الشعب )).

الحزب هو قبيلة العصر الحديث ... هو الطائفة، إن المجتمع الذي يحكمه حزب واحد هو تماماً مثل المجتمع الذي تحكمه قبيلة واحدة أو طائفة واحدة ، ذلك أن الحزب يمثل ، كما سبق ، رؤية مجموعة واحدة من الناس ، أو مصالح مجموعة واحدة من المجتمع ، أو عقيدة واحدة ، أو مكاناً واحداً ، وهو بالتالي أقلية إذا ما قورن بعدد الشعب ، وهكذا القبيلة والطائفة فهي أقلية إذا ما قورنت بعدد الشعب ، وهي ذات مصالح واحدة أو عقيدة طائفية واحدة ، ومن تلك المصالح أو العقيدة تتكون الرؤية الواحدة ولا فرق بين الحزب أو القبيلة إلا رابطة الدم والتي ربما وجدت عند منشأ الحزب.

إن الصراع الحزبي على السلطة لا فرق بينه إطلاقا وبين الصراع القبلي والطائفي ذاته، وإذا كان النظام القبلي والطائفي مرفوضاً ومستهجناً سياسياً فيجب أن يرفض ويستهجن النظام الحزبي أيضاً ، فكلاهما يسلك مسلكاً واحداً ، ويؤدي إلى نتيجة واحدة.

إن التأثير السلبي والمدمر للصراع القبلي أو الطائفي في المجتمع هو نفس التأثير السلبي والمدمر للصراع الحزبي في المجتمع.

الطبقة

النظام السياسي الطبقي هو نفس النظام السياسي الحزبي ، أو النظام السياسي القبلي ، أو النظام السياسي الطائفي...أن تسود على المجتمع طبقة مثلما يسود عليه حزب أو قبيلة أو طائفة . إن الطبقة هي مجموعة من المجتمع ذات مصالح واحدة،وكذلك الحزب والطائفة والقبيلة.

إن المصالح الواحدة تنشأ من وجود مجموعة من الناس تجمعها رابطة الدم أو العقيدة أو الثقافة أو المكان أو مستوى المعيشة. والطبقة والحزب والطائفة والقبيلة تنشأ كذلك من ذات الأسباب المؤدية إلى ذات النتيجة أي بسبب دم أو معتقد أو مستوى معيشي أو ثقافة أو مكان تنجم عنها رؤية واحدة لتحقيق تلك المصالح فيظهر الشكل الاجتماعي لتلك المجموعة في صورة طبقة أو حزب أو قبيلة أو طائفة ، والنتيجة هي تكوّن أداة بسبب اجتماعي تتحرك بأسلوب سياسي لتحقيق رؤية ومصلحة تلك الجماعة . وفي كل الأحوال فالشعب ليس هو الطبقة ولا الحزب ولا القبيلة ولا الطائفة ، وإنما تلك جزء من الشعب فقط ، وتمثل أقلية فيه. وإذا سادت على المجتمع الطبقة أو الحزب أو القبيلة أو الطائفة صار النظام السائد آنذاك نظاماً دكتاتورياً . ومع هذا فالائتلاف الطبقي والائتلاف القبلي أفضل من الائتلاف الحزبي ، إذ إن الشعب يتكون أصلاً من مجموع قبائل، ويندر وجود الذين لا قبيلة لهم ، وكل الناس تنتمي إلى مستويات طبقية معينة. أما الحزب أو الأحزاب فليس كل الشعب في عضويتها. ومن هنا فالحزب والائتلاف الحزبي هو الأقلية أمام الجماهير الغفيرة خارج العضوية. ووفقاً للديمقراطية الحقيقية فلا مبرر لطبقة أن تسحق بقية الطبقات من أجل مصلحتها هي ، ولا مبرر لحزب أن يسحق بقية الأحزاب لمصلحته ، ولا مبرر لقبيلة أن تسحق بقية القبائل لمصلحتها، ولا مبرر لطائفة أن تسحق بقية الطوائف لمصلحتها. الإباحة بهذه التصفية تعني نبذ منطق الديمقراطية والاحتكام لمنطق القوة. إن مثل هذا الإجراء عمل دكتاتوري ، لأنه ليس لمصلحة كل المجتمع الذي لا يتكون من طبقة واحدة ، ولا قبيلة واحدة ... ولا طائفة واحدة ... ولا من أعضاء الحزب فقط ، ولا مبرر للقيام به ...إن مبرره الدكتاتوري هو أن المجتمع فعلاً يتكون من أطراف متعددة ، ولكن أحدها يقوم بتصفيتها ، أي تصفية بقية الأطراف ليبقى هو فقط. إذن فمثـل هـذا العـمل ليس لمصلحة كل المجتمع بل لمصلحة طبقة واحدة ، أو قبيلة واحدة، أو طائفة واحدة ، أو حزب واحد ، أي لمصلحة الذين يحلون محل المجتمع، لأن هذا الإجراء التصفوي أصـلاً قائم ضد أفراد المجتمع الذين ليسوا من ضمن الحزب أو الطبقة أو القبيلة أو الطائفة القائمة بالتصفية.

إن المجتمع الذي تمزّقه الصراعات الحزبيـة مثل المجتمع الذي تمزّقه الصراعات القبلية أو الطائفية سواء بسواء.

إن الحزب الذي يقوم باسم الطبقة يتحول تلقائياً إلى بديل عن الطبقة ... ويستمر في التحول التلقائي حتى يصير خليفة للطبقة المعادية لطبقته. إن الطبقة التي ترث المجتمع ترث أيضاً صفاته، بمعنى أنه لو سحقت طبقة العمال مثلاً كل الطبقات الأخرى فإن طبقة العمال هذه تصبح هي الوارث للمجتمع، أي تصبح هي القاعدة المادية والاجتماعية للمجتمع. وبما أن الوارث يحمل صفات الموروث ، وإن كانت تلك الصفات لا تظهر دفعة واحدة.. ولكن خلال التطور والتوالد يتحقق ذلك، فبمرور الزمن تبرز صفات الطبقات التي صفِّيت من داخل طبقة العمال ذاتها … ويتجه أصحاب تلك الصفات اتجاهات متباينة وفقاً للصفة … وهكذا تصبح طبقة العمال، فيما بعد مجتمعاً قائماً بحاله فيه نفس تناقضات المجتمع القديم.. فيتباين أولاً مستوى الأفراد المادي والمعنوي …ثم تبرز الفئات… ثم تتحول تلقائياً إلى طبقات.. نفس الطبقات المبادة … ويتجدد الصراع على حكم المجتمع، كل مجموعة أفراد أولاً، ثم كل فئة ثم كل طـبقة جديدة، يحاول كل من هؤلاء أن يكون هو أداة الحكم.

إن القاعدة المادية للمجتمع غير ثابتة، لأنها أيضاً اجتماعية من جانب آخر. إن أداة الحكم للقاعدة المادية الواحدة في المجتمع ربما تستقر إلى حين،ولكنها تتعرض للزوال بمجرد تولّد مستويات مادية واجتماعية جديدة من ذات القاعدة المادية الواحدة.

إن أي مجتمع تتصارع فيه الطبقات كان في الماضي مجتمع طبقة واحدة... ولكن تلك الطبقة تولدت عنها تلك الطبقات بحكم التطور الحتمي للأشياء. إن الطبقة التي تنزع الملكية من غيرها وتضعها في يدها لكي تستقر أداة الحكم لمصلحة تلك الطبقة، ستجد أن هذه الملكية فعلت فعلها داخل تلك الطبقة كما تفعل الملكية تماماً داخل المجتمع ككل. ومجمل القول:إن محاولات توحيد القاعدة المادية للمجتمع من أجل حل مشكلة الحكم أو حسم الصراع لمصلحة حزب أو طبقة أو طائفة أو قبيلة … ومحاولات إرضاء الجماهير بانتخاب ممثلين عنها ، أو أخذ رأيها في الاستفتاءات … إن تلك المحاولات جميعها باءت بالفشل ، وأصبح تكرارها مضيعة لوقت الإنسان وضحكاً على الشعوب من ناحية أخرى.

الاستفتــاء

الاستفتاء تدجيل على الديمقراطية .إن الذين يقولون (نعم) والذين يقولون(لا) لم يعبروا في الحقيقة عن إرادتهم ، بل ألجموا بحكم مفهوم الديمقراطية الحديثة ، ولم يسمح لهم بالتفوّه إلا بكلمة واحدة وهي : إما (نعم) ، وإما (لا)!. إن ذلك أقسى وأقصى نظام دكتاتوري كبحي.إن الذي يقول (لا) يجب أن يعبر عن سبب ذلك ، ولماذا لم يقل (نعم) ، والذي يقول (نعم) يجب أن يعلل هذه الموافقة ، ولماذا لم يقل (لا) ، وماذا يريد كل واحد، وما سبب الموافقة أو الرفـض ؟! إذن ما هو الطريق الذي ينبغي أن تسلكه الجماعات البشرية لتتخلص نهائياً من عصور الاستبداد والدكتاتورية ؟.

بما أن المشكل المستعصي في قضية الديمقراطية هو أداة الحكم الذي عبرت عنه الصراعات الحزبية والطبقية والفردية ، وما ابتداع وسائل الانتخابات والاستفتاء إلا تغطية لفشل تلك التجارب الناقصة في حل هذه المشكلة - إذن ، الحل يكمن في إيجاد أداة حكم ليست واحدة من كل تلك الأدوات محل الصراع ، والتي لا تمثل إلا جانباً واحداً من المجتمع ، أي إيجاد أداة حكم ليست حزباً ولا طبقة ولا طائفة ولا قبيلة ، بل أداة حكم هي الشعب كله .. وليست ممثلة عنه ولا نائبة. ( فلا نيابة عن الشعب ) و( التمثيل تدجيل ). وإذا أمكن إيجاد تلك الأداة ، فإذن ، انحلت المشكلة وتحققت الديمقراطية الشعبية ، وتكون الجماعات البشرية قد أنهت عصور الاستبداد والنظم الدكتاتورية وحلت محلها سلطة الشعب.

إن الكتاب الأخضر يقدم الحل النهائي لمشكلة أداة الحكم ، ويرسم الطريق أمام الشعوب لتعبر عصور الدكتاتورية إلى عصور الديمقراطية الحقيقية ..

إن هذه النظرية الجديدة تقوم على أساس سلطة الشعب دون نيابة أو تمثيل … وتحقق ديمقراطية مباشرة بشكل منظم وفعال ، غير تلك المحاولة القديمة للديمقراطية المباشرة المفتقرة إلى إمكانية التطبيق على أرض الواقع والخالية من الجدية لفقدانها للتنظيم الشعبي على المستويات الدنيا.


المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية

المؤتمرات الشعبية هي الوسيلة الوحيدة للديمقراطية الشعبية. إن أي نظام للحكم خلافاً لهذا الأسلوب ، أسلوب المؤتمرات الشعبية ،هو نظام حكم غير ديمقراطي. إن كافة أنظمة الحكم السائدة في العالم الآن ليست ديمقراطية ما لم تهتد إلى هذا الأسلوب. المؤتمرات الشعبية هي آخر المطاف لحركة الشعوب نحو الديمقراطية.

المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية هي الثمرة النهائية لكفاح الشعوب من أجل الديمقراطية.

المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية ليست من صنع الخيال بقدر ما هي نتـاج للفكر الإنساني الذي استوعب كافة التجارب الإنسانية من أجل الديمقراطية. إن الديمقراطية المباشرة هي الأسلوب المثالي الذي ليس محل نقاش أو خلاف في حالة تحققه واقعياً. وبما أن الشعب مهما كان عدده يستحيل جمعه دفعة واحدة ليناقش ويتدارس ويقرر سياسته ، لذا انصرفت الأمم عن الديمقراطية المباشرة وبقيت مجرد فكرة طوباوية بعيدة عن دنيا الواقع. وقد استعيض عنها بنظريات حكم عديدة كالمجالس النيابية والتكثلات الحزبية ، والاستفتاءات التي أدت جميعها إلى عزل الشعب عن ممارسة سياسة شؤونه ، وسلب سيادته ، واحتكار السياسة والسيادة من قبل تلك الأدوات المتعاقبة والمتصارعة على الحكم ... من الفردإلى الطبقة ، إلى الطائفة والقبيلة إلى المجلس أو الحزب . ولكن الكتاب الأخضـر يبشر الشعوب بالهداية إلى طريق الديمقراطية المباشرة وفق نظام بديع وعملي … وحيث إن فكرة الديمقراطية المباشرة لا يختلف عليها اثنان عاقلان على أنها المثلى … بيد أن أسلوب تطبيقها كان مستحيلاً … وحيث إن هذه النظرية العالمية الثالثة تقدم لنا تجربة واقعية للديمقراطية المباشرة، إذن انحلت مشكلة الديمقراطية نهائياً في العالم ..ولم يبق أمام الجماهير إلا الكفاح للقضاء على كافة أشكال الحكم الدكتاتورية السائدة في العالم الآن ، والتي تسمى زيفاً بالديمقراطية بأشكالها المتعددة …من المجالس النيابية إلى الطائفة والقبيلة والطبقة ، إلى الحزب الواحد ، إلى الحزبين، إلى تعدد الأحزاب.

ليس للديمقراطية إلا أسلوب واحد ونظرية واحدة .. وما تباين واختلاف الأنظمة التي تدعي الديمقراطية إلا دليل على أنها ليست ديمقراطية... ليس لسلطة الشعب إلا وجه واحد ، ولايمكن تحقيق السلطة الشعبية إلا بكيفية واحدة... وهي المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية. (( فلا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية )) و(( اللجان في كل مكان )).

أولاً_ يقسم الشعب إلى مؤتمرات شعبية أساسية ويختار كل مؤتمر أمانة له ، ومن مجموع أمانات المؤتمرات تتكون مؤتمرات شعبية غير الأساسية ... ثم تختار جماهير تلك المؤتمرات الشعبية الأساسية لجاناً شعبية إدارية لتحلّ محل الإدارة الحكومية ، فتصبح كل المرافق في المجتمع تدار بواسطة لجان شعبية. وتصير اللجان الشعبية التي تدير المرافق مسؤولة أمام المؤتمرات الشعبية الأساسية التي تملي عليها السياسة وتراقبها في تنفيذ تلك السياسة. وبهذا تصبح الإدارة شعبية والرقابة شعبية ، وينتهي التعريف البالي للديمقراطية الذي يقول: (( الديمقراطية هي رقابة الشعب على الحكومة )) ليحل محله التعريف الصحيح وهو (( الديمقراطية هي رقابة الشعب على نفسه)).

إن المواطنين جميعاً الذين هم أعضاء تلك المؤتمرات الشعبية ينتمون وظيفياً أو مهنياً إلى فئات مختلفة ... لذا عليهم أن يشكلوا مؤتمرات شعبية مهنية خاصة بهم، علاوة على كونهم مواطنين أعضاء في المؤتمرات الشعبية الأساسية أو اللجان الشعبية ... إن ما تتناوله المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية يرسم في صورته النهائية في مؤتمر الشعب العام الذي تلتقي فيه أمانات المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية، وإن ما يصوغه مؤتمر الشعب العام الذي يجتمع دورياً أو سنوياً يطرح بالتالي على المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية ليبدأ التنفيذ من قبل اللجان الشعبية المسؤولة أمام المؤتمرات الشعبية الأساسية. إن مؤتمر الشعب العام ليس مجموع أعضاء أو أشخاص طبيعيين كالمجالس النيابية، إنه لقاء المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية.

بذلك تنحل مشكلة أداة الحكم بداهة وتنتهي الأدوات الدكتاتورية ، ويصبح الشعب هو أداة الحكم ، وتحل نهائياً معضلة الديمقراطية في العالم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

شريعة المجتمع

الشريعة هي المشكلة الأخرى المرادفة لمشكلة أداة الحكم والتي لم تحل بعد في العصر الحديث، برغم أنها حلت في فترات من التاريخ. أن تختص لجنة أو مجلس بوضع شريعة للمجتمع ، ذلك باطل وغير ديمقراطي. أن تعدّل شريعة المجتمع أو تلغى بواسطة فرد أو لجنة أو مجلس ، ذلك أيضاً باطل وغير ديمقراطي. إذن ، ما هي شريعة المجتمع ؟ ومن يضعها ؟ًًًًُ وما أهميتها بالنسبة للديمقراطية ؟.

الشريعة الطبيعية لأي مجتمع هي العرف أو الدين.أي محاولة أخرى لإيجاد شريعة لأي مجتمع خارجة عن هذين المصدرين هي محاولة باطلة وغير منطقية.الدساتير ليست هي شريعة المجتمع ... الدستور عبارة عن قانون وضعي أساسي.إن ذلك القانون الوضعي الأساسي يحتاج إلى مصدر يستند إليه حتى يجد مبرره. إن مشكلة الحرية في العصر الحديث هي أن الدساتير صارت هي شريعة المجتمع ،وأن تلك الدساتير لا تستند إلا إلى رؤية أدوات الحكم الدكتاتورية السائدة في العالم، من الفرد إلى الحزب ، و الدليل على ذلك هو الاختلاف من دستور إلى آخر برغم أن حرية الإنسان واحدة. وسبب الاختلاف هو اختلاف رؤية أدوات الحكم ، و هذا هو مقتل الحرية في نظم العالم المعاصر.

إن الأسلوب الذي تبتغيه أدوات الحكم في السيطرة على الشعوب هو الذي يفرغ في الدستور ، وتجبر الناس علــى إطاعته بقوة القوانين المنبثقة عن الدستور المنبثق من أمزجة ورؤية أداة الحكم.

إن سنّة أدوات الحكم الدكتاتورية هي التي حلت محل سنّة الطبيعة. القانون الوضعي حل محل القانون الطبيعي ففقدت المقاييس. إن الإنسان هو الإنسان في أي مكان . واحد في الخلقة … وواحد في الإحساس. ولهذا جاء القانون الطبيعي ناموساً منطقياً للإنسان كواحد ، ثم جاءت الدساتير كقوانين وضعية تنظرإلى الإنسان غير واحد، وليس لها ما يبررها في تلك النظرة إلا مشيئة أدوات الحكم ... الفرد أو المجلس أو الطبقة أو الحزب للتحكم في الشعوب.

وهكذا نرى الدساتير تتغير عادة بتغير أداة الحكم ، وهذا يدل على أن الدستور مزاج أدوات الحكم وقائم لمصلحتها وليس بقانون طبيعي. إن هذا هو الخطر المحدق بالحرية الكامن في فقدان الشريعة الحقيقية للمجتمع الإنساني واستبدالها بتشريعات وضعية وفـق الأسلوب الذي ترغبه أداة الحكم في حكم الجماهير ... و الأصل هو أن أسلوب الحكم هو الذي يجب أن يتكيف وفقاً لشريعة المجتمع لا العكس.

إذن ، شريعة المجتمع ليست محل صياغة وتأليف. وتكمن أهمية الشريعة في كونها هي الفيصل لمعرفة الحق والباطل ، والخطأ والصواب ، وحقوق الأفراد وواجباتهم . إذ إن الحرية مهددة ما لم يكن للمجتمع شريعة مقدسة و ذات أحكام ثابتة غير قابلة للتغيير أو التبديل بواسطة أي أداة من أدوات الحكم ، بل أداة الحكم هي الملزمة باتباع شريعة المجتمع ... ولكن الشعوب الآن في جميع أنحاء العالم تحكـم بواسطـة شرائـع وضعية قابلـة للتغيير والإلغاء حسب صراع أدوات الحكم على السلطة.

إن استفتاء الشعوب على الدساتير أحياناً ليس كافياً ، لأن الاستفتاء في ذاته تدجيل على الديمقراطية، ولا يسمح إلا بكلمة واحدة وهي (نعم) أو (لا) فقط. ثم إن الشعوب مرغمة على الاستفتاء بحكم القوانين الوضعية ، والاستفتاء على الدستور لا يعني أنه شريعة المجتمع ، و لكن يعني أنه دستور فحسب ، أي هو الشيء موضوع الاستفتاء ليس إلا.

شريعة المجتمع تراث إنساني خالد ليس ملكاً للأحياء فقط. ومن هذه الحقيقة تصبح كتابة دستور واستفتاء الحاضرين عليه لوناً من الهزل.

إن موسوعات القوانيـن الوضعية الناشئة عن الدساتير الوضعية مليئة بالعقوبات المادية الموجهة ضد الإنسان ، أما العرف فهو خال تقريباً من تلك العقوبات ... العرف يوجب عقوبات أدبية غير مادية لائقة بالإنسان ... الدين يحتوي العرف ويستوعبه … ومعظم العقوبات المادية في الدين مؤجلة ، وأكثر أحكامه مواعظ وإرشادات وإجابات على أسئلة ، وتلك أنسب شريعة لاحترام الإنسان. الدين لا يقرر عقوبات آنية إلا في حالات قصوى ضرورية للمجتمع. الدين احتواء للعرف . والعرف تعبير عن الحياة الطبيعية للشعوب … إذن ، الدين المحتوي للعرف تأكيد للقانون الطبيعي.إن الشرائع اللادينية اللاعرفية هي ابتداع من إنسان ضد إنسان آخر ، وهي بالتالي باطلة لأنها فاقدة للمصدر الطبيعي الذي هو العرف والدين.

من يراقب سير المجتمع

السؤال: من يراقب المجتمع لينبه إلى الانحراف عن الشريعة إذا وقع …؟ ديمقراطياً ليس ثمة جهة تدعي حق الرقابة النيابية عن المجتمع في ذلك. إذن (( المجتمع هو الرقيب على نفسه )). إن أي ادعاء من أية جهة ... فرداً أو جماعة بأنها مسؤولة عن الشريعة هو دكتاتورية، لأن الديمقراطية تعني مسؤولية كل المجتمع ... الرقابة إذن من كل المجتمع تلك هي الديمقراطية. أما كيف يتأتى ذلك ، فعن طريق أداة الحكم الديمقراطية الناتجة عن تنظيم المجتمع نفسه ( في المؤتمرات الشعبية الأساسية ). وحكم الشعب بواسطـة المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية ثم مؤتمر الشعب العام (المؤتمـر القومي ) الذي تلتقي فيه أمانات المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية. ووفقاً لهذه النظرية ، فالشعب هو أداة الحكم، والشعب في هذه الحالة هو الرقيب على نفسه.

بهذا تتحقق الرقابة الذاتية للمجتمع على شريعته.

كيف يصحح المجتمع اتجاهه إذا انحرف عن شريعته ؟ إذا كانت أداة الحكم دكتاتورية كما هو الحال في النظم السياسية في العالم اليوم ، فإن يقظة المجتمع للانحراف عن الشريعة ليس لها وسيلة للتعبير وتقويم الانحراف إلا العنف ، أي الثورة على أداة الحكم … والعنف أو الثورة حتى إذا كان تعبيراً عن إحساس المجتمع حيال ذلك الانحراف ، إلا أنه ليس كل المجتمع مشاركاً فـيه، بـل يقوم به من يملك مقدرة على المبادرة والجسارة على إعلان إرادة المجتمع ... بيد أن هذا المدخل هو مدخل الدكتاتورية ، لأن هذه المبادرة الثورية تمكن بحكم ضرورة الثورة لأداة حكم نائبة عن الشعب ، ومعنى هذا أن أداة الحكم ما زالت دكتاتورية... علاوة على أن العنف والتغيير بالقوة في حد ذاته عمل غير ديمقراطي ،ولكنه يحدث نتيجة وجود وضع غير ديمقراطي سابق له. والمجتمع الذي مازال يدور حول هذه المحصلة هو مجتمع متخلف... إذن ، ما هو الحل ؟ الحل : هو أن يكون الشعب هو أداة الحكم ... من المؤتمرات الشعبية الأساسية إلى مؤتمر الشعب العام ، وأن تنتهي الإدارة الحكومية لتحل محلها اللجان الشعبية ، وأن يكون مؤتمر الشعب العـام مؤتمرا قومياً تلتقي فيه المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية. وإذا حدث انحراف عن شريعة المجتمع في مثل هذا النظام يعالج عن طريق المراجعة الديمقراطية وليس عن طريق القوة. والعملية هنا ليست عملية اختيار إرادي لأسلوب التغيير أو المعالجة ، بل هي نتيجة حتمية لطبيعة النظام الديمقراطي هذا ، إذ إنه في مثل هذه الحالة لا توجد جهة خارج جهة أخرى حتى توجه لها أعمال العنف أو تحملها مسؤولية الانحراف.

الصحافة

إن الشخص الطبيعي حر في التعبير عن نفسه حتى ولو تصرف بجنون ليعبر عن أنه مجنون. إن الشخص الاعتباري هو أيضاً حر في التعبير عن شخصيته الاعتبارية ، ولكن في كلتا الحالتين لا يمثل الأول إلا نفسه ، ولا يمثل الثاني إلا مجموعة الأشخاص الطبيعيين المكونين لشخصيته الاعتبارية. المجتمع يتكون من العديد من الأشخاص الطبيعيين ،والعديد من الاعتباريين. إذن ، تعبير شخص طبيعي عن أنه مجنون مثلاً لا يعني أن بقية أفراد المجتمع مجانين كذلك. أي أن تعبير شخص طبيعي لا يعني إلا التعبير عن نفسه ، وتعبير شخص اعتباري لا يعني إلا التعبير عن مصلحة أو رأي مجموعة المكونين لتلك الشخصية الاعتبارية. فشركة إنتاج أو بيع الدخان لا تعبر مصلحياً إلا عن مصالح المكونين لتلك الشركة .. أي ، المنتفعين بإنتاج أو بيع الدخان حتى وهو ضار بصحة الآخرين.

الصحافة وسيلة تعبير للمجتمع… وليست وسيلة تعبير لشخص طبيعي أو معنوي، إذن ، منطقياً وديمقراطياً لا يمكن أن تكون ملكاً لأي منهما. الفرد الذي يملك صحيفة هي صحيفته وتعبر عن وجهة نظره هو فقط. والادعاء بأنها صحيفة الرأي العام هو ادعاء باطل لا أساس له من الصحة ، لأنها تعبر في الواقع عن وجهة نظر شخص طبيعي ، ولا يجوز ديمقراطياً أن يملك الفرد الطبيعي أي وسيلة نشر أو إعلام عامة ، ولكن من حقه الطبيعي أن يعبر عن نفسه فقط بأية وسيلة حتى ولو كانت جنونية ليبرهن على جنونه. إن الصحيفة التي يصدرها حرفيون مثلاً هي وسيلة تعبير لهذه الفئة من المجتمع فقط ، تطرح وجهة نظرها فقط ، وليس وجهة نظر الرأي العام .. وهكذا الشأن في بقية الأشخاص الاعتباريين والطبيعيين في المجتمع.

إن الصحافة الديمقراطية هي التي تصدرها لجنة شعبية مكونة من كل فئات المجتمع المختلفة … في هذه الحالة فقط ولا أخرى سواها تكون الصحافة أو وسيلة الإعلام معبرة عن المجتمع ككل ، وحاملة لوجهة نظر فئاته العامة ، وبذلك تكون الصحافة ديمقراطية أو إعلاماً ديمقراطياً.

إذا أصدر المهنيون الطبيون أي صحيفة فلا يحق لها إلا أن تكون طبية بحتة … وهكذا بالنسبة لبقية الفئات. الشخص الطبيعي يحق له أن يعبٌرعن نفسـه فقـط، ولا يحق له ديمقراطياً أن يعبٌر عن أكثر من نفسه ... وينتهي بهذا انتهاء جذرياً وديمقراطياً ما يسمى في العالم ( بمشكلة حرية الصحافة ). إن مشكلة حرية الصحافة التي لم ينته النزاع حولها في العالم هي وليدة مشكلة الديمقراطية عموماً ... ولا يمكن حلها ما لم تحل أزمة الديمقراطية برمتها في المجتمع كله ... وليس من طريق لحل تلك المشكلة المستعصية ، أعني مشكلة الديمقراطية ، إلا طريق وحيد وهو طريق النظرية العالمية الثالثة.

إن النظام الديمقراطي وفقاً لهذه النظرية بنـاء متماسك ، كل حَجَرٍ فيـه مبنيّ على ما تحته من المؤتمرات الشعبية الأساسية والمؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية إلى أن تلتقي كلها في جلسة مؤتمر الشعب العام. و ليس هناك أي تصور آخر لمجتمع ديمقراطي على الإطلاق غير هذا التصور. وأخيراً … إن عصر الجماهير وهو يزحف حثيثاً نحونا بعد عصر الجمهوريات يلهب المشاعر ، ويبهر الأبصار ، ولكنه بقدر ما يبشر به من حرية حقيقية للجماهير ، وانعتاق سعيد من قيود أدوات الحكم … فهو ينذر بمجيء عصر الفوضى والغوغائية من بعده ، إن لم تنتكس الديمقراطية الجديدة التي هي سلطة الشعب … وتعود سلطة الفرد أو الطبقة أو القبيلة أو الطائفة أوالحزب.

هذه هي الديمقراطية الحقيقية من الناحية النظرية. أما من الناحية الواقعية فإن الأقوياء دائماً يحكمون … أي أن الطرف الأقوى في المجتمع هو الذي يحكم.

الفصل الثاني

الركن الاقتصادي للنظرية العالمية الثالثة

بالرغم من أن تطورات تاريخية هامة قد حدثت على طريق حل مشكلة العمل وأجرة العمل، أي العلاقة بين العمال .. وأصحاب العمل، بين المالكين والمنتجين، منها تحديد ساعات العمل، وأجرة العمل الإضافي والإجازات المختلفة والاعتراف بحد أدنى للأجور، و مشاركة العمال في الأرباح والإدارة ،ومنع الفصل التعسفي، والضمان الاجتماعي ، وحـق الإضراب ، وكل ما حوته قوانين العمل التي لا يكاد يخلو تشريع معاصر منها . و حدثت أيضاً تحولات لا تقل أهمية عن تلك في جانب الملكية من حيـث ظهور أنظمة تحد من الدخل، و أنظمة تحرم الملكية الخاصة و تسندها إلي الحكومة . برغـم كل هـذه التطورات التي لا يستهان بها في تاريخ المشكل الاقتصادي إلا أن المشكلة مازالت قائمة جذرياً مع كل التقليمات والتحسينات والتهذيبات والإجراءات و التطورات التي طرأت عليها و التي جعلتها أقل حدة من القرون الماضية ، وحققت مصالح كثيرة للعاملين ، إلا أن المشكل الاقتصادي لم يحل بعد في العالم ، فالمحاولات التي انصبت على الملكية لم تحل مشكلة المنتجين ، فلا يزالون أجراء برغم انتقال أوضاع الملكية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار واتخاذها عدة أوضاع في الوسط بين اليسار واليمين. والمحاولات التي انصبت على الأجرة لا تقل بعداً في هذا الجانب عن المحاولات التي انصبت على الملكية ونقلتها من وضع إلى وضع. وفي مجمل معالجة قضية الأجرة هو المزايا التي حصل عليها العاملون وضمنتها التشريعات وحمتها النقابات حيث تبدلت الحالة السيئة التي كان عليها المنتجون غداة الانقلاب الصناعي، واكتسب العمال والفنيون والإداريون حقوقاً مع مرور الزمن كانت بعيدة المنال . ولكن في واقع الأمر فإن المشكل الاقتصادي مازال قائماً . إن المحاولة التي انصبت على الأجور ليست حلاً على الإطلاق ، وإنما هي محاولة تلفيقية وإصلاحية أقرب إلى الإحسان منها إلى الاعتراف بحق للعاملين. لماذا يعطى العاملون أجرة ؟ لأنهم قاموا بعملية إنتاج لصالح الغير الذي استأجرهم لينتجوا له إنتاجا,ً إذن، هم لم يستهلكوا إنتاجهم ، بل اضطروا إلى التنازل عنه مقابل أجرة ، والقاعدة السليمة هي :

الذي ينتج هو الذي يستهلك

(( إن الأجـراء . مهما تحسنت أجورهم . هم نوع من العبيد )) . إن الأجير هـو شبه العبد للسيد الذي يستأجره ، بل هو عبد مؤقت ، وعبوديته قائمة بقيام عمله مقابل أجر من صاحب العمل بغض النظر عن حيثية صاحب العمل من حيث هو فرد أو حكومة . فالعاملون من حيث علاقتهم بالمالك أوبالمنشأة الإنتاجية ، من حيث مصالحهم الخاصة واحدة .. فهم أجراء في كل الحالات الموجودة الآن في العالم، برغم أن أوضاع الملكية مختلفة من اليمين إلى اليسار . حتى المنشأة الاقتصادية العامة لا تعطي لعمالها إلا أجورا ومساعدات اجتماعية أخرى أشبه بالإحسان الذي يتفضل به الأغنياء أصحاب المؤسسات الاقتصادية الخاصة على العاملين معهم . فالقول بأن الدخل في حالة الملكية العامة يعود إلى المجتمع ، بمن فيه العاملون خلافاً لدخل المؤسسة الخاصة الذي يعود إلى مالكها فقط .صحيح إذا نظرنا إلى المصلحة العامة للمجتمع و ليس إلى المصالح الخاصة للعاملين ، وإذا افترضنا أن السلطة السياسية والمحتكرة للملكية هي سلطة كل الناس ، أي أنها سلطة الشعب بكامله يمارسها عن طريق المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية .. وليست سلطة طبقة واحدة ، أوحزب واحد ، أو مجموعة أحزاب ، أو سلطة طائفة ،أو قبيلة ،أو عائلة ، أو فرد ، أو أي نوع من السلطة النيابية . ومع هذا فإن ما يعود على العاملين مباشرة من حيث مصالحهم الخاصة ، في شكل أجور أو نسبة من الأرباح أو خدمات اجتماعية ، هو نفس الذي يعود على العاملين في المؤسسة الخاصة : أي أن كلا من العاملين في المنشأة العامة والمنشأة الخاصة هم أجراء برغم اختلاف المالك .

وهكذا فإن التطور الذي طرأ على الملكية من حيث نقلها من يد إلى يد لم يحل مشكلة حق العامل في الإنتاج ذاته الذي ينتجه مباشرة ، وليس عن طريق المجتمع أو مقابل أجرة ، والدليل على ذلك هو أن المنتجين لا يزالون أجراء برغم تبدل أوضاع الملكية . إن الحل النهائي هو إلغاء الأجرة ، وتحرير الإنسان من عبوديتها ، والعودة إلى القواعد الطبيعية التي حددت العلاقة قبل ظهور الطبقات وأشكال الحكومات والتشريعات الوضعية . إن القواعد الطبيعية هي المقياس والمرجع والمصدر الوحيد في العلاقات الإنسانية.

إن القواعد الطبيعية أنتجت اشتراكية طبيعية قائمة على المساواة بين عناصر الإنتاج الاقتصادي ، وحققت استهلاكاً متساوياً تقريباً لإنتاج الطبيعة بين الأفراد. أماعمليات استغلال إنسان لإنسان ، واستحواذ فرد على أكثر من حاجته من الثروة، فهي ظاهرة الخروج عن القاعدة الطبيعية وبداية فساد وانحراف حياة الجماعة البشرية ، وهي بداية ظهور مجتمع الاستغلال . وإذا حللنا عوامل الإنتاج الاقتصادي منذ القدم وحتى الآن ، ودائماً ، نجدها تتكون حتماً من عناصر إنتاج أساسية ، وهي مواد إنتاج ، و وسيلة إنتاج ، ومنتج. والقاعدة الطبيعية للمساواة هي : أن لكل عنصر من عناصر الإنتاج حصة في هذا الإنتاج ، لأنه إذا سُحب واحد منها لا يحدث إنتاج ، ولكل عنصر دور أساسي في عملية الإنتاج ، وبدونه يتوقف الإنتاج .

وما دام كل عنصر من هذه العناصر ضرورياً وأساسياً ، إذن هي متساوية في ضرورتها في العملية الإنتاجية ، ولابد أن تتساوى في حقها في الإنتاج الذي أنتجته وطغيان أحدها على الآخر هو تصادم مع القاعدة الطبيعية للمساواة ، وتعدّعلى حق الغير ، إذن ، لكل عنصر حصة بغض النظر عن هذه العناصر، فإذا وجدنا عملية إنتاجية تمت بواسطة عنصرين فقط يصير لكل عنصر نصف الإنتاج وإذا تمت بثلاثة عناصر يصير لكل عنصر ثلث الإنتاج … وهكذا.

وبتطبيق هذه القاعدة الطبيعية على الواقع القديم والمعاصر نجد الآتي : في مرحلة الإنتاج اليدوي تتكون عملية الإنتاج من مواد خام وإنسان منتج ، ثم دخلت وسيلة إنتاج في الوسط بحيث استخدمها الإنسان في عملية الإنتاج ، ويعتبر الحيوان نموذجاً لها كوحدة قوة ، ثم تطورت هذه الوسيلة وحلت الآلة محل الحيوان ، وتطورت أنواع وكميات المواد الخام من مواد بسيطة رخيصة إلى مواد مركبة وثمينة للغاية . وتطور أيضاً الإنسان من عامل عادي إلى مهندس وفني ، ومن أعداد غفيرة من العاملين إلى نفر قليل من الفنيين . بيد أن عناصر الإنتاج وإن تغيرت كيفياً وكمياً لم تتغير في جوهرها من حيث دور كل واحد منها في عملية الإنتاج وضرورته ، فخام الحديد مثلاً الذي هو أحد عناصر الإنتاج قديماً وحديثاً كان يصنع بطريقة بدائية ينتج منه الحداد يدوياً سكيناً أو فأساً أو رمحاً … الخ … والآن نفس خام الحديد يصنع بواسطة أفران عالية ينتج منه المهندسون والفنيون الآلات والمحركات والمركبات بأنواعها المختلفة. والحيوان الذي هو الحصان أو البغل أو الجمل وما في حكمها ، والذي كان أحد عناصر الإنتاج ، حل محله الآن المصنع الضخم والآلات الجبارة.

والمواد المنتجة التي كانت أدوات بدائية أصبحت الآن معدات فنية معقدة . ومع هذا فعوامل الإنتاج الطبيعية الأساسية ثابتة جوهرياً برغم تطورها الهائل ، وهذا الثبات الجوهري لعناصر الإنتاج يجعل القاعدة الطبيعية هي القاعدة السليمة التي لا مفر من العودة إليها في حل المشكل الاقتصادي حلاً نهائياً ، وذلك بعد فشل كل المحاولات التاريخية السابقة التي تجاهلت القواعد الطبيعية . إن النظريات التاريخية السابقة عالجت المشكل الاقتصادي من زاوية ملكية الرقبة لأحد عناصر الإنتاج فقط ، ومن زاوية الأجور مقابل الإنتاج فقط ، ولم تحل المشكلة الحقيقية وهي مشكلة الإنتاج نفسه . ( وهكذا كان أهم خصائص الأنظمة الاقتصادية السائدة الآن في العالم هو نظام الأجور الذي يجرد العامل من أي حق في المنتجات التي ينتجها ، سواء أكان الإنتاج لحساب المجتمع أم لحساب منشأة خاصة ) . إن المنشأة الصناعية الإنتاجية قائمة من مواد إنتاج وآلات المصنع وعمال ، ويتولد الإنتاج من استخدام آلات المصنع بواسطة العمال في تصنيع المواد الأولية … وهكذا فالمواد المصنعة الجاهزة للاستعمال والاستهلاك مرت بعملية إنتاجية ما كانت لتحصل لولا المواد الخام والمصنع والعمال ، بحيث لو استبعدنا المواد الأولية لما وجد المصنع ما يصنعه . ولو استبعدنا المصنع لما تصنعت المواد الخام . ولو استبعدنا المنتجين لما اشتغل المصنع . وهكذا فالعناصر التي هي ثلاثة في هذه العملية متساوية الضرورة في عملية الإنتاج ولولاهاـ هي الثلاثة ـ لما حصل إنتاج ، وأي واحد منها لا يستطيع القيام بهذه العملية الإنتاجية بمفرده ، كما أن أي اثنين من هذه العناصر الثلاثة في مثل هـذه العملية لا يستطيعان القيام بالإنتاج في غياب العنصر الثالث . والقاعدة الطبيعية في هذه الحالة تحتم تساوي حصص هذه العوامل الثلاثة في الإنتاج ، أي أن إنتاج مثل هذا المصنع يقسم إلى ثلاث حصص ، ولكل عنصر من عناصر الإنتاج حصة ، فليس المهم المصنع فقط ،ولكن المهم من يستهلك إنتاج المصنع. كذلك العملية الإنتاجية الزراعية التي تتم بفعل الإنسان والأرض دون استخدام وسيلة ثالثة ، هي مثل العملية الإنتاجية الصناعية اليدوية تماماً ، فالإنتاج في مثل هذه الحالة يقسم إلى حصتين فقط بعدد عوامل الإنتاج . أما إذا استخدمت وسيلة آلية أو ما في حكمها للزراعة … فالإنتاج هنا يقسم إلى ثلاث حصص : الأرض والزارع ، والآلة التي استخدمها في عملية الزراعة .

وهكذا يقام نظام اشتراكي تخضع له كل العمليات الإنتاجية قياساً على هذه القاعدة الطبيعية .

إن المنتجين هم العمال ، وقد سموا هكذا لأن كلمة العمال أو الشغيلة أو الكادحين لم تعد حقيقة ، والسبب هو أن العمال حسب التعريف التقليدي آخذون في التغير كميا وكيفيا ، وأن طبقة العمال في تناقص مستمر ، يتناسب طردياً مع تطور الآلات والعلم .

إن الجهد الذي كان يلزم لإحداثه عدد من العمال ، أصبح الآن يحدث بفعل حركة الآلة. وتشغيل الآلة يتطلب أقل عدد من المشغلين ، وهذا هو التغير الكمي للقوة العاملة. كما أن الآلة استلزمت قدرة فنية بدل القدرة العضلية ، وهذا هو التغير الكيفي في القوة العاملة .

إن قوة منتجة فحسب أصبحت أحد عناصر الإنتاج ، وقد تحولت الشغيلة بفعل التطور من الأعداد الغفيرة الكادحة الجاهلة إلى أعداد محدودة من فنيين ومهندسين وعلماء . ونتيجة لذلك فإن نقابات العمال ستختفي وتحل محلها نقابات المهندسين والفنيين ، إذ إن التطور العلمي هو مكسب للإنسانية لايمكن العودة عنه ، وإن الأمية مقضي عليها بحكم هذا التطور ، وإن الشغيلة العادية ظاهرة مؤقتة آخذة في الاختفاء تدريجياً أمام التطور العلمي . بيد أن الإنسان بشكله الجديد سيبقى دائماً عنصراً أساسياً في عملية الإنتاج .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في الحاجـة تكمن الحرية

الحاجـة : إن حرية الإنسان ناقصة إذا تحكم آخر في حاجته ، فالحاجة قد تؤدي إلى استعباد إنسان لإنسان ، والاستغلال سببه الحاجة . فالحاجة مشكل حقيقي ، والصراع ينشأ من تحكم جهة ما في حاجات الإنسان

البــيت لساكنـه

المسكن : حاجة ضرورية للفرد والأسرة ، فلا ينبغي أن يكون ملكاً لغيره . لا حرية لإنسان يعيش في مسكن غيره بأجـرة أو بدونها . إن المحاولات التي تبذلها الدول من أجل معالجة مشكلة المسكن ليست حلاً على الإطلاق لهذه المشكلة، والسبب هو أن تلك المحاولات لا تستهدف الحل الجذري والنهائي ، وهو ضرورة أن يملك الإنسان مسكنه ، بل استهدفت الأجرة من حيث خفضها أو زيادتها وتقنينها ، سواء أكانت هذه الأجرة لحساب خاص أم عام . فلا يجوز في المجتمع الاشتراكي أن تتحكم أي جهة في حاجة الإنسان ، بمن فيها المجتمع نفسه . فلا يحق لأحد أن يبني مسكناً زائداً عن سكناه وسكن ورثته بغرض تأجيره ، لأن المسكن هو عبارة عن حاجة لإنسان آخر ، وبناءه بقصد تأجيره هو شروع في التحكم في حاجة ذلك الإنسان . وفي الحاجة تكمن الحرية .

المعاش

المعاش : حاجة ماسة جداً للإنسان ، فلا يجوز أن يكون معاش أي إنسان في المجتمع أجرة من أي جهة أو صدقة من أحد ، فلا أجراء في المجتمع الاشتراكي بل شركاء . فمعاشك هو ملكية خاصة لك تديرها بنفسك في حدود إشباع حاجاتك، أو يكون حصة في إنتاج أنت أحد عناصره الأساسية ، وليس أجرة مقابل إنتاج لأي كان .

المركوب

المركوب : حاجة ضرورية أيضاً للفرد والأسرة ، فلا ينبغي أن يكون مركوبك ملكاً لغيرك . فلا يحق في المجتمع الاشتراكي لإنسان أو جهة أخرى أن تمتلك وسائل ركوب شخصية بغرض تأجيرها لأن ذلك تحكم في حاجة الآخرين .

الأرض

الأرض : الأرض ليست ملكاً لأحد . ولكن يحق لكل واحد استغلالها للانتفاع بها شغلاً وزراعة ورعياً مدى حياته وحياة ورثته في حدود جهده الخاص دون استخدام غيره بأجر أو بدونه ، وفي حدود إشباع حاجاته . إنه لو جاز امتلاك الأرض لما وجد غير الحاضرين نصيبهم فيها ، وإن الأرض ثابتة ، والمنتفعين بها يتغيرون بمرور الزمن مهنة و قدرة و وجودا . إن غاية المجتمع الاشتراكي الجديد هي تكوين مجتمع سعيد لأنه حر، وهذا لا يتحقق إلا بإشباع الحاجات المادية والمعنوية للإنسان ، وذلك بتحرير هذه الحاجات من سيطرة الغير وتحكمه فيها.

إن إشباع الحاجات ينبغي أن يتم دون استغلال أو استعباد الغير ، وإلا تناقض مع غاية المجتمع الاشتراكي الجديد .

فالإنسان في المجتمع الجديد ، إما أن يعمل لنفسه لضمان حاجاته المادية، وإما أن يعمل لمؤسسة اشتراكية يكون شريكاً في إنتاجها، أو أن يقوم بخدمة عامة للمجتمع، ويضمن له المجتمع حاجاته المادية .

إن النشاط الاقتصادي في المجتمع الاشتراكي الجديد هو : نشاط إنتاجي من أجل إشباع الحاجات المادية ، وليس نشاطاً غير إنتاجي أو نشاطاً يبحث عن الربح من أجل الادخار الزائد عن إشباع تلك الحاجات . إن ذلك لا إمكانية له بحكم القواعد الاشتراكية الجديدة .

إن الغاية المشروعة للنشاط الاقتصادي للأفراد هي إشباع حاجاتهم فقط ، إذ إن ثروة العالم محدودة على الأقـل في كل مرحلة … وكذلك ثروة كل مجتمع على حدة ، ولهذا لا يحق لأي فرد القيام بنشاط اقتصادي بغرض الاستحواذ على كمية من تلك الثروة أكثر من إشباع حاجاته ، لأن المقدار الزائد عن حاجاته هو حق للأفراد الآخرين . ولكن يحق له الادخار من حاجاته من إنتاجه الذاتي وليس من جهد الغير ولا على حساب حاجات الغير . لأنه لو جاز القيام بنشاط اقتصادي أكثر من إشباع الحاجات لحاز إنسان أكثر من حاجاته ، ولحرم غيره من الحصول على حاجاته . إن الادخار الزائد عن الحاجة هو حاجة إنسان آخر من ثروة المجتمع .

إن إباحة الإنتاج الخاص للحصول على ادخار فوق إشباع الحاجات ، وإباحة استخدام الغير لإشباع حاجاتك ، أو استخدامه للحصول على ما هو فوق حاجاتك … أي تسخير إنسان لإشباع حاجات غيره وتحقيق ادخار لغيره على حساب حاجاته هو عين الاستغلال .

إن العمل مقابل أجرة ، إضافة إلى كونه عبودية للإنسان كما أسلفنا ، هو عمل بدون بواعث على العمل لأن المنتج فيه أجير وليس شريكاً .

إن الذي يعمل لنفسه مخلص في عمله الإنتاجي دون شك ، لأن باعثه على الإخلاص في الإنتاج هو اعتماده على عمله الخاص لإشباع حاجاته المادية. والذي يعمل في مؤسسة اشتراكية ، هو شريك في إنتاجها ، مخلص في عمله الإنتاجي دون شك ، لأن باعثه على الإخلاص في الإنتاج هو حصوله على إشباع حاجاته من ذلك الإنتاج ، أما الذي يعمل مقابل أجرة فليس له باعث على العمل .

إن العمل بالأجرة يواجه عجزاً في حل مشكلة زيادة الإنتاج وتطويره ، وسواء أكان خدمات أم إنتاجاً فإنه يواجه تدهوراً مستمراً لأنه قائم على أكتاف الأجراء .

أمثلة على العمل الأجير لحساب المجتمع ، والعمل الأجير لحساب خاص ، والعمل بدون أجرة.

المثال الأول : (أ) عامل ينتج (10) تفاحات لحساب المجتمع ، ويمنحه المجتمع تفاحة واحدة مقابل إنتاجه ، وهي ما يشبع حاجته تماماً . (ب) عامل ينتج (10) تفاحات لحساب المجتمع ، ويعطيه المجتمع تفاحة واحدة مقابل إنتاجه ، وهي أقل من إشباع حاجاته .


المثال الثاني : عامل ينتج (10) تفاحات لحساب فرد آخر ، ويتقاضى أجراً يقل عن ثمن تفاحة واحدة .

المثال الثالث : عامل ينتج (10) تفاحات لنفسه .

-النتيجة: الأول (أ) لن يزيد من إنتاجه لأنه مهما زاد فلن يناله شخصياً منه إلا تفاحة واحدة وهو ما يشبع حاجاته . وهكذا فكل القوى العاملة لحساب المجتمع متقاعسة باستمرار نفسياً - تلقائياً . الأول (ب) ليس له دافع للإنتاج ذاته لأنه ينتج للمجتمع دون أن يحصل على إشباع حاجاته ، ولكنه يستمر في العمل بدون دافع ، لأنه مضطر إلى الرضوخ لظروف العمل العام في كل المجتمع . وتلك حالة كل أفراده . الثاني : لا يعمل لينتج أصلا ، ولكنه يعمل ليحصل على أجرة ، وحيث إن أجرته أقل من الحصول على حاجته، فهو إما أن يبحث عن سيد آخر يبيع له عمله بثمن أفضل من الأول ، وإما أن يضطر إلى الاستمرار في العمل ليبقى على قيد الحياة . أما الثالث : فهو الوحيد الذي ينتج دون تقاعس ، ودون إجبار . وحيث إن المجتمع الاشتراكي ليس فيه إمكانية لإنتاج فردي فوق إشباع الحاجات الفردية ولا يسمح بإشباع الحاجات على حساب أو بواسطة الغير، وإن المؤسسات الاشتراكية تعمل لإشباع حاجات المجتمع . إذن ،المثال الثالث يوضح الوضعية السليمة للإنتاج الاقتصادي ، بيد أنه في كل الحالات - حتى السيئة منها - يستمر الإنتاج من أجل البقاء . وليس أدل على ذلك من أن الإنتاج في المجتمعات الرأسمالية يتراكم ويتضخم في يد المالكين القلة والذين لا يعملون ولكن يستغلون جهد الكادحين الذين يضطرون إلى الإنتاج ليعيشوا .إلا أنّ الكتاب الأخضر لا يحل مشكلة الإنتاج المادي فقط بل يرسم طريق الحل الشامل لمشكلات المجتمع الإنساني ليتحرر الفرد مادياً ومعنوياً تحرراً نهائياً لتتحقق سعادته .

-أمثلة أخرى : - إذا افترضنا أن ثروة المجتمع هي (10) وحدات وعدد سكانه (10) فإن نصيب كل فرد من ثروة المجتمع هو 10\10 = واحدة فقط من وحدات الثروة . ولكن إذا وجد أن عددا من أفراد المجتمع يملك أكثر من وحدة من الوحدات . إذن ، عدد آخر من ذات المجتمع لا يملك منها شيئاً ، والسبب هو أن نصيبه من وحدات الثروة استحوذ عليه الآخرون.. ولهذا يوجد أغنياء وفقراء في المجتمع الاستغلالي . ولنفرض أن خمسة من هذا المجتمع وجدنا كل واحد منهم يملك وحدتين ، إذن هناك خمسة آخرون منه لا يملكون شيئاً ، أي 50 % محرومون من حقهم في ثروتهم . ذلك لأن الوحدة الإضافية التي يمتلكها كل واحد من الخمسة الأولى هي نصيب الخمسة الثانية . وإذا كان ما يحتاج إليه الفرد في هذ المجتمع لإشباع حاجاته هو وحدة فقط من وحدات ثروة المجتمع ، فإن الفرد الذي يملك أكثر من وحدة من تلك الوحدات هو مسئول في حقيقة الأمر على حق لأفراد المجتمع الآخرين . وحيث إن هذه الحصة هي فوق ما يحتاج إليه لإشباع حاجاته المقدرة بوحدة واحدة من وحدات الثروة ، إذن هو يستولي عليها لأجل الاكتناز، وهذا الاكتناز لا يتحقق له إلا على حساب حاجة الغير ، أي بالأخذ من نصيب الآخرين في هذه الثروة . وهذا هو سبب وجود الذين يكنزون ولا ينفقون أي يدخرون فوق إشباع حاجاتهم ، و وجود السائلين والمحرومين أي الذين يسألون عن حقهم في ثروة مجتمعهم و لا يجدون ما يستهلكون . إنها عملية نهب و سرقة ، ولكنها علنية ومشروعة حسب القواعد الظالمة الاستغلالية التي تحكم ذلك المجتمع . أما ما وراء إشباع الحاجات فهو يبقى أخيراً ملكاً لكل أفراد المجتمع ، أما الأفراد فلهم أن يدخروا ما يشاءون من حاجتهم فقط ،إذإن الاكتناز فوق الحاجات هو تعدّ على ثروة عامة . إن المجدين والحذاق ليس لهم حق في الاستيلاء على نصيب الغير نتيجة جدهم وحذقهم، ولكنهم يستطيعون أن يستفيدوا من تلك المزايا في إشباع حاجاتهم والادخار من تلك الحاجات . كما أن العاجزين والبلهاء والمعتوهين لا يعني حالهم هذا أن ليس لهم نفس النصيب الذي للأصحاء في ثروة المجتمع. إن ثروة المجتمع تشبه مؤسسة تموين ، أو مخزن تموين يقدم يومياً لعدد من الناس مقداراً من التموين بوزن محدد يكفي لإشباع حاجة أولئك الناس في اليوم ، ولكل فرد أن يدخر من ذلك المقدار ما يريد ، أي له أن يستهلك ما يشاء ويدخر ما يشاء من حصته ، وفي هذا يستغل قدراته الذاتية وحذقه. أما الذي يستغل تلك المواهب ليتمكن من الأخذ من مخزن التموين العام ليضيفه إلى نفسه فهو سارق ما في ذلك شك. وهكذا ، فالذي يستخدم حذقه ليكسب ثروة أكثر من إشباع حاجاته هو في الواقع معتد على حق عام وهو ثروة المجتمع التي هي مثل المخزن المذكور في هذا المثال .

ولا يجوز التفاوت في ثروة الأفراد في المجتمع الاشتراكي الجديد إلا للذين يقومون بخدمة عامة ويخصص لهم المجتمع نصيباً معيناً من الثروة مساوياً لتلك الخدمة … إن نصيب الأفراد لا يتفاوت إلا بمقدار ما يقدم كل منهم من خدمة عامة أكثر من غيره ، و بقدر ما ينتج أكثر من غيره .

وهكذا أنتجت التجارب التاريخية تجربة جديدة كتتويج نهائي لكفاح الإنسان من أجل استكمال حريته وتحقيق سعادته بإشباع حاجاته ودفع استغلال غيره له ، ووضع حد نهائي للطغيان ، وإيجاد طريقة لتوزيع ثروة المجتمع توزيعاً عادلاً حيث تعمل بنفسك لإشباع حاجاتك ، لا أن تسخر الغير ليعمل لحسابك لتشبع على حسابه حاجاتك ، أو أن تعمل من أجل سلب حاجات الآخرين .

إنها نظرية تحرير الحاجات ليتحرر الإنسان . وهكذا فالمجتمع الاشتراكي الجديد هو نتيجة جدلية لاغير للعلاقات الظالمة السائدة في العالم ، والتي ولدت الحل الطبيعي وهو ملكية خاصة لإشباع الحاجات دون استخدام الغير، وملكية اشتراكية ، المنتجون فيها شركاء في إنتاجها تحل محل الملكية الخاصة التي تقوم على إنتاج الأجراء دون حق لهم في الإنتاج الذي ينتجونه فيها .

إن الذي يمتلك المسكن الذي تسكنه ، أو المركوب الذي تركبه أو المعاش الذي تعيش به يمتلك حريتك أو جزءاً من حريتك ، والحرية لا تتجزأ ، ولكي يكون الإنسان سعيداً لابد أن يكون حراً، ولكي يكون حراً لابد من أن يملك حاجاته بنفسه .

إن الذي يمتلك حاجتك يتحكم فيك أو يستغلك ، وقد يستعبدك برغم أي تشريع قد يحرم ذلك .

إن الحاجات المادية الضرورية الماسة والشخصية للإنسان ، بدءا من الملبس والطعام حتى المركوب ، والمسكن ، لابد أن يملكها الإنسان ملكية خاصة ومقدسة ولا يجوز أن تكون مؤجرة من أي جهة. وإن الحصول عليها مقابل أجرة يجعل مالكها الحقيقي يتدخل في حياتك الخاصة ويتحكم في حاجاتك الماسة ، حتى ولو كان المجتمع بصورة عامة ، فيتحكم في حريتك ويفقدك سعادتك ، وكما يتدخل صاحب الملابس التي تؤجرها منه لخلعها منك ربما في الشارع ليتركك عارياً ، يتدخل أيضاً صاحب المركوب ليتركك على قارعة الطريق. ويتدخل كذلك صاحب المسكن ليتركك بلا مأوى . إن الحاجات الضرورية للإنسان من السخرية معالجتها بإجراءات قانونية أو إدارية أو ما إليها ، وإنما يؤسس عليها المجتمع جذرياً وفق قواعد طبيعية . إن هدف المجتمع الاشتراكي هو سعادة الإنسان التي لا تكون إلا في ظل الحرية المادية والمعنوية . وتحقيق الحرية يتوقف على مدى امتلاك الإنسان لحاجاته امتلاكاً شخصياً ومضموناً ضماناً مقدساً.. أي أن حاجتك ينبغي ألاّ تكون ملكاً لغيرك ، وألاّ تكون عرضة للسلب منك من أي جهة في المجتمع ، و إلاّ عشت في قلق يذهب سعادتك ويجعلك غير حر لأنك عائش في ظل توقعات تدخّل خارجي في حاجاتك الضرورية . أما قلب المجتمعات المعاصرة من مجتمعات الأجراء إلى مجتمعات الشركاء فهو حتمي كنتاج جدلي للأطروحات الاقتصادية المتناقضة السائدة في العالم اليوم ، ونتيجة جدلية حتمية للعلاقات الظالمة والتي أساسها نظام الأجرة والتي لم تحل بعد . إن القوة التهديدية لنقابات العمال في العالم الرأسمالي كفيلة بقلب المجتمعات الرأسمالية من مجتمعات أجراء إلى مجتمعات شركاء .

إن احتمال قيام الثورة لتحقيق الاشتراكية يبدأ باستيلاء المنتجين على حصتهم من الإنتاج الذي ينتجونه . وسيتحول غرض الإضرابات العمالية من مطلب زيادة الأجور إلى مطلب المشاركة في الإنتاج ، وسيتم كل ذلك عاجلاً أم آجلاً بالاهتداء بالكتاب الأخضر.

أما الخطوة النهائية فهي وصول المجتمع الاشتراكي الجديد إلى مرحلة اختفاء الربح والنقود ، وذلك بتحويل المجتمع إلى مجتمع إنتاجي بالكامل وبلوغ الإنتاج درجة إشباع الحاجات المادية لأفراد المجتمع ، وفي هذه المرحلة النهائية يختفي الربح تلقائيا وتنعدم الحاجة إلى النقود.

إن الاعتراف بالربح هو اعتراف بالاستغلال ، إذ إن مجرد الاعتراف به لا يجعل له حداً يقف عنده . أما إجراءات الحد منه بالوسائل المختلفة فهي محاولات إصلاحية وغير جذرية لمنع استغلال إنسان لإنسان .

إن الحل النهائي هو إلغاء الربح. ولكن الربح هو محرك للعملية الاقتصادية, ولهذا فإلغاء الربح ليس مسألة قرار , بل هو نتيجة تطور للإنتاج الاشتراكي تتحقق إذا تحقق الإشباع المادي لحاجات المجتمع والأفراد .إن العمل من أجل زيادة الربح هو الذي يؤدي إلى اختفاء الربح في النهاية .

المنزل يخدمه أهلـه

خدم المنازل : خدم المنازل سواء أكانوا بأجر أم بدونه ، هم إحدى حالات الرقيق ، بل هم رقيق العصر الحديث . وحيث إن المجتمع الاشتراكي الجديد يقوم على أساس المشاركة في الإنتاج وليس على الأجور ، فإن خدم المنازل لا تنطبق عليهم القواعد الاشتراكية الطبيعية ، لأنهم يقومون بخدمات لا بإنتاج والخدمات ليس لها إنتاج مادي يقبل القسمة إلى حصص وفقاً للقاعدة الاشتراكية الطبيعية، ولهذا فليس لخدم المنازل إلا العمل مقابل أجر ، أو العمل بدونه في الظروف السيئة . وحيث إن الأجراء هم نوع من العبيد وعبوديتهم قائمة بقيام عملهم مقابل أجر ، وحيث إن خدم المنازل هم في درجة أسفل من الأجراء في المنشآت والمؤسسات الاقتصادية خارج المنازل ، فهم أولى بالانعتاق من عبودية مجتمع الأجراء مجتمع العبيد . فظاهرة خدم المنازل هي إحدى الظواهر الاجتماعية التي تلي ظاهرة الرقيق. والنظرية العالمية الثالثة هي بشير للجماهير بالخلاص النهائي من كل قيود الظلم والاستبداد والاستغلال والهيمنـة السياسية والاقتصادية بقصد قيام مجتمع كل الناس… كل الناس فيه أحرار حيث يتساوون في السلطة والثروة والسلاح لكي تنتصر الحرية الانتصار النهائي والكامل .

لذا فإن الكتاب الأخضر يرسم طريق الخلاص أمام الجماهير من أجراء وخدم منازل لتتحقق حرية الإنسان . ولهذا لا مناص من الكفاح لتحرير خدم المنازل من وضعية الرق التي هم فيها ، وتحويلهم إلى شركاء خارج المنازل حيث الإنتاج المادي القابل للقسمة إلى حصص حسب عوامله … فالمنزل يخدمه أهله . أما حل الخدمة المنزلية الضرورية فلا يكون بخدم بأجر أو بدون أجر، وإنما يكون بموظفين قابلين للترقية أثناء أداء وظيفتهم المنزلية ، ولهم الضمانات الاجتماعية والمادية كأي موظف في خدمة عامة .

الفصل الثالث

إن المحرك للتاريخ الإنساني هو العامل الاجتماعي…أي القومي ، فالرابطة الاجتماعية التي تربط الجماعات البشرية كلاً على حدة … من الأسرة إلى القبيلة إلى الأمة هي أساس حركة التاريخ . ( إن أبطال التاريخ هم أفراد يضحون من أجل قضايا ). ليـس هناك أي تعريف آخر لذلك. ولكن أي قضايا؟ إنهم يضحون من أجل آخرين... ولكن أي آخرين؟ إنهم الآخرون الذين لهم علاقة بهم .. وإن العلاقة بين فرد وجماعة هي علاقة اجتماعية… أي علاقة قوم ببعضهم بعضا . فالأساس الذي كون القوم هو القومية ، إذن ، تلك القضايا هي قضايا قومية … والعلاقة القومية هي العلاقة الاجتماعية فالاجتماعية مشتقة من الجماعة ، أيعلاقة الجماعة فيما بينها.والقومية مشتقة من القوم،أي علاقة القوم فيما بينهم ، فالعلاقة الاجتماعية هي العلاقة القومية .. والعلاقة القومية هي العلاقة الاجتماعية … إذ إن الجماعة هي قوم ، والقوم هم الجماعة حتى إذا قل عدد الواحدة عن الأخرى . ناهيك عن التعريف التفصيلي الذي يعني الجماعة المؤقتة بغض النظر عن علاقات أفرادها القومية . إن المقصود بالجماعة هنا هو الجماعة الدائمة بسبب علاقتها القومية .

ثم ، إن الحركات التاريخية هي الحركات الجماهيرية أي الجماعية .. أي، حركة الجماعة من أجل نفسها.. من أجل استقـلالها عن جماعة أخرى ليست جماعتها ، أي لكل منهما تكوين اجتماعي يربطها بنفسها . فالحركات الجماعية دائماً هي حركات استقلالية ..حركات لتحقيق الذات للجماعة المغلوبة أو المظلومة … من طرف جماعة أخرى ، أما مسألة الصراع على السلطة فهو يقع داخل الجماعة ذاتها حتى مستوى الأسرة ، كما يوضحه الفصل الأول من الكتاب الأخضر الركن السياسي للنظرية العالمية الثالثة . والحركة الجماعية هي حركة قوم من أجل، نفسهاإذ إن الجماعة الواحدة بحكم تكوينها الطبيعي الواحد لها حاجات اجتماعية واحدة تحتاج إلىإشباع بحالة جماعية . وهي ليست فردية على أي وجه ، بل هي حاجات أو حقوق أو مطالب أو غايات جماعية صاحبها قـوم تربطهم قومية واحدة . ولذا سميت هذه الحركات بالحركات القومية . فحركات التحرر القومي في العصر الحاضر هي نفسها الحركات الاجتماعية ، وهي لن تنتهي حتى تتحرر كل جماعة من سيطرة أي جماعة أخرى . أي أن العالم الآن يمر بإحدى دورات حركة التاريخ العادية وهي الصراع القومي انتصاراً للقومية .

هذه هي الحقيقة التاريخية في عالم الإنسان وهي الحقيقة الاجتماعية ، أي أن الصراع القومي .. الصراع الاجتماعي هو أساس حركة التاريخ ، لأنه أقوى من كل العوامل الأخرى ، ذلك لأنه هو الأصل، هو الأساس ..أي أنه هو طبيعة الجماعة البشرية ، طبيعة القوم ، بل هو طبيعة الحياة نفسها ، إذ إن الحيوانات الأخرى من غير الإنسان تعيش في جماعات ، وإن الجماعة هي أساس بقاء جماعات المملكة الحيوانية . والقومية هي أساس بقاء الأمم .

إن الأمم التي تحطمت قوميتها هي التي تعرض وجودها للدمار. إن الأقليات التي هي إحدى المشكلات السياسية في العالم سببها اجتماعي فهي أمم تحطمت قوميتها فتقطعت أوصالها. فالعامل الاجتماعي عامل حياة … عامل بقاء ، ولهذا فهو محرك طبيعي وذاتي للقوم من أجل البقاء .

القومية في عالم الإنسان والحيوان مثل الجاذبية في عالم الجماد والأجرام فلو تحطمت جاذبية الشمس لتطايرت غازاتها وفقـدت وحدتها ، ووحدتها هي أساس بقائها ، إذن ، البقاء أساسه عامل وحدة الشيء . وعـامل وحـدة أي جماعة هو العامل الاجتماعي ، أي القومية . ولهذا السبب تكافح الجماعات من أجل وحدتها القومية ، لأن في ذلك بقاءها ; والعامل القومي … الرابطة الاجتماعية يعمل تلقائياً على دفع القـوم الواحد نحو البقاء مثلما تعمل جاذبية الشيء تلقائياً على بقائه كتلة واحدة حول النواة. إن انتشار الذرات وتطايرها في نظرية القنبلة الذرية ناشيء من تفجيـر النواة مصدر الجذب للذرات التي حولها ، فعندما يدمر عامل الوحدة لتلك الأجسام وتفقد الجاذبية تطير كل ذرة على حدة ، وتنتهي القنبلة إلى تطاير ذرات وما يصحبها . هذه هي طبيعة الأشياء . إن هذا قانون طبيعي ثابت وتجاهله أو الاصطدام به يفسد الحياة . وهكذا تفسد حياة الإنسان عندما يبـدأ تجاهل القومية .. العامل الاجتماعي … جاذبيـة الجماعة سر بقائها .. أو عندما يبدأ الاصطدام به ، وليس هناك مـن منافس للعامل الاجتماعي في التأثير على وحدة الجماعة الواحدة إلا العامل الديني الذي قد يقسم الجماعة القومية ، والذي قد يوحد جماعات ذات قوميات مختلفة . بيد أن العامل الاجتماعي هو الذي يتغلب في النهاية.

هكذا حدث في كل العصور. تاريخياً لكل قوم دين . إن ذلك هو الانسجام .ولكن واقعياً هناك اختلاف ، وهو سبب حقيقي للنزاع وعدم استقرار حياة الشعوب في مختلف العصور أيضاً.

القاعدة السليمة هي أن لكل قوم ديناً، والشذوذ هو خـلاف ذلك . والشذوذ هذا خلق واقعاً غير سليم صار سبباً حقيقياً في نشـوب النزاعات داخل الجماعة القـومية الواحدة . وليس من حل إلا الانسجام مع القاعدة الطبيعية التي هي: لكل أمـة دين, حتى ينطبق العامل الاجتماعي مع العامل الديني فيحصل الانسجام ، وتستقر حياة الجماعات وتقوى وتنمو نمواً سليماً .

الزواج عملية تؤثر على العامل الاجتماعي سلباً وإيجاباً . فبالرغم من أنَ كلاً من الرجل والمرأة حرفي قبول من يريد ورفض من لا يريد كقاعدة طبيعية للحرية ، إلا أن الزواج داخل الجماعة الواحدة مقوّ لوحدتهـا بطبيعة الحال ، ويحقق نمواً جماعياً منسجماً مع العامل الاجتماعي.

الأسرة

فالأسرة بالنسبة للإنسان الفرد أهم من الدولة.. الإنسانية تعـرف الفرد (الإنسان ) والفرد ( الإنسان ) السوي يعرف الأسرة … والأسرة هي مهده ومنشؤه ومظلته الاجتماعية . طبيعياً الإنسانية الفرد والأسرة ، وليس الدولة ..الإنسانية لا تعرف ما يسمى بالدولة …الدولة نظام سياسي واقتصادي اصطناعي وأحياناً عسكري لا علاقة للإنسانية به.. ولا دخل لها فيه . فالأسرة هي تماماً مثل النبتة الواحدة في الطبيعة التي هي أساس النبات الطبيعي .. أما تكييف البيئة الطبيعية إلى مزارع وحدائق وما إليها فهذا إجراء اصطناعي لا صلة له بطبيعة النبتة المتكونة من عدد من الفروع والأوراق والأزهار بما يشبه الأسرة تماماً.

فكون العوامل السياسية والاقتصاديـة أو العسكرية كيفت مجاميع من الأسر في دولة فهذا لا صلة للإنسانية به . وهكذا فأي وضع أو ظرف أو إجراء يؤدي إلى بعثرة الأسرة أو اضمحلالها وضياعها هو وضع غير إنساني وغير طبيعي، بل هو ظرف تعسفي، وهو تماماً مثل أي عمل أو ظرف أو إجراء يؤدي إلى قتل النبتة أو بعثرة فروعها أو إتلاف أزهارها أو أوراقها أو ذبولها.

إن المجتمعات التي يتهدد فيها وجود الأسرة ووحدتها بسبب أي ظرف، هي مثل الحقل النباتي الذي يتهدد نباته بالانجراف أو العطش أو الحرق أو الذبول واليبس. فالحديقة المزهرة أو الحقل المزهر هو الذي تنمو نباتاته نمواً طبيعياً وتزهر وتلقح وتستقر … وكذلك المجتمع الإنساني .

فالمجتمع المزدهر هو الذي ينمو فيه الفرد في الأسرة نمواً طبيعياً ، وتزدهر فيه الأسرة ، ويستقر الفرد في الأسرة البشرية مثل الورقة في الغصن أو مثل الغصن في الشجرة لا معنى له إذا انفصل عنها ولا حياة مادية له . وكذلك الفرد إذا انفصل عن الأسرة ، أي الفرد بلا أسرة ، لا معنى له ولا حياة اجتماعية له ، وإذا وصل المجتمع الإنساني إلى وجود الإنسان بدون أسرة يصبح حينئذ مجتمع صعاليك ، مثله مثل النبات الصناعي.

القبيلة

القبيلة هي الأسرة بعد أن كبرت نتيجة التوالد..إذن القبيلة هي أسرة كبيرة . والأمة هي القبيلة بعد أن كبرت نتيجة التوالد .. إذن الأمة هي قبيلة كبيرة . والعالم هو الأمة بعد أن تشعبت إلى أمم نتيجة التكاثر . إذن العالم هو أمة كبيرة.

إن العلاقة التي تربط الأسرة هي التي تربط القبيلة وهي التي تربط الأمة ، وهي التي تربط العالم إلا أنها تفتر كلما كثر العدد . فالإنسانية هي القومية . والقومية هي القبلية، والقبلية هي الرابطة الأسرية ، إلا أن درجة حرارتها تبرد من المستوى الصغير إلى المستوى الكبير. هذه حقيقة اجتماعية لا ينكرها إلا الذي يجهلها .

إذن ، الرابطة الاجتماعية والتماسك والوحدة ،والألفة والمحبة أقوى على مستوى الأسرة منه على مستوى القبيلة ، وأقوى على مستوى القبيلة منه على مستوى الأمةوأقوى على مستوى الأمة منه على مستوى العالم .

إن المنافع والمزايا والقيم والمثل العليا المترتبة على تلك الروابط الاجتماعية توجد حيث تكون درجة هذه الروابط قوية بطبيعة الحال ودون شك كبديهية ، أي أنها أقوى على مستوى الأسرة من مستوى القبيلة ، وأقوى على مستوى القبيلة منها على مستوى الأمة ، وعلى مستوى الأمة منها على مستوى العالم . وهكذا تتلاشى أو تفقد تلك الروابط الاجتماعية والمنافع والمزايا والمثل المترتبة عليها كلما تلاشت أو فقدت الأسرة والقبيلة والأمة والإنسانية .

ولذا من المهم جداً للمجتمع الإنساني أَن يحافـظ علـى التمـاسك الأسري والقبلي والقومي والأممي ليستفيد من المنافع والمزايا والقيم والمثل التي يوفرها الترابط والتماسك والوحدة والألفة والمحبة الأسرية والقبلية والقومية والإنسانية. فالمجتمع الأسري أفضل اجتماعياً من المجتمع القبلي . والمجتمع القبلي أفضل اجتماعياً من المجتمع القومي … والمجتمع القومي أفضل من المجتمع الأممي من حيث الترابط والتراحم والتضامن والمنفعة .

فوائد القبيلة

من حيث كون القبيلة أسرة كبيرة ، إذن هي توفر لأفرادها ما توفره الأسرة لأفرادها أيضاً من منافع مادية ومزايا اجتماعية . فالقبيلة هي أسرة من الدرجة الثانية . والجدير بالتأكيد هو أن الفرد قد يسلك أحياناً سلوكاً مشيناً لا يستطيعه أمام الأسرة ، ولكـن نظـراً لصغر حجمـها فهو لا يحس برقابتها ، على عكس القبيلة التي لا يشعر أفرادها أنهم في حرية من مراقبتها.

وبنـاء على هذه الاعـتبـارات كـونت القبيلة سلوكاً لأفرادها يتحول إلى تربية اجتماعية أفضل وأنبل من أي تربية مدرسية … والقبيلة مدرسة اجتماعية ينشأ أفرادها منذ الطفولة على تشرب مثل عليا تتحول إلى سلوك حياة تترسخ تلقائياً كلما كبر الإنسان ، على عكس التربية والعلوم التي يتم تلقينها رسمياً والتي تتلاشى تدريجياً كلما كبر الفرد لأنها رسمية ولأنها إجبارية ، ولأن الفرد يعى أنها ملقنة له.

والقبيلة مظلة اجتماعية طبيعية للضمان الاجتماعي ، فهي توفر لأفرادها بحكم التقاليـد القبليـة الاجتماعيـة ديـة جماعية وغرامة جماعية وثأراً جماعياً ودفاعاً جماعياً ، أي حماية اجتماعية …

إن الدم هو الأصل في تكوين القبيلة ، ولكنها لا تتوقف عليه هو فقط , فالانتماء هو أيضاً من مكونات القبيلة. وبمرور الزمن تتلاشى الفروق بين مكونات الدم ومكونات الانتماء ، وتبقى القبيلة وحدة اجتماعية ومادية واحدة، ولكنها وحدة دم وأصل أكثر من أي تكوين آخر .

الأمة

الأمة هي مظلة سياسية قومية للفرد أبعد من المظلة الاجتماعية التي توفرها القبيلة لأفرادها… والقبلية هي إفساد القومية ، فالولاء القبلي يضعف الولاء القومي ويكون على حسابه.مثلما الـولاء العائلي يكون على حساب الولاء القبلي فيضعفه كذلك . والتعصب القومي بقدر ما هو ضروري للأمة هو مهدد للإنسانية. إن الأمة في المجتمع الدولي هي مثل الأسرة في القبيلة ، فكلما تناحرت عائلات القبيلة الواحدة وتعصبت لنفسها تهددت القبيلة بطبيعة الحال . مثل أفراد الأسرة الواحدة إذا تناحروا وتعصب كل فرد لذاته تهددت الأسرة . وإذا تناحرت قبائل الأمة وتعصبت كل قبيلة لنفسها تهددت تلك الأمة ، والتعصب القومي واستخدام القوة القومية ضد الأمة غير القوية أو التقدم القومي نتيجة استحواذ ما لأمة أخرى هو شر وضار للإنسانية . ومع هذا فالفرد القوي والمحترم لذاته والمدرك لمسؤولياته الفردية مهم ونافع للأسرة . والأسرة المحترمة والقوية المدركة لأهميتها مفيدة اجتماعياً ومادياً للقبيلة . والأمة المتقدمة والمنتجة والمتحضرة مفيدة للعالم كله. والبناء السياسي والقومي يفسد إذا نزل إلى المستوى الاجتماعي ، أي المستوى العائلي والقبلي وتفاعل معه وأخذ اعتباراته .

بما أن الأمة عبارة عن أسرة كبيرة بعد أن مرت بمرحلة القبيلة وتعدد القبائل المتفرعة من أصل واحد ، وكذلك المنتمية إلى ذلك الأصل انتماء مصيرياً . والأسرة لا تصير أمة إلا بعد مرورها بمراحل القبيلة وتفرعها ومرحلة الانتماء نتيجـة الاختلاط المختلف … وذلك يتحقق حتماً اجتماعياً بعد زمن لا يمكن إلا أن يكون طويلاً . ومع هذا ، فإن طول الزمن كما ينشئ أمماً جديدة يساعد على تفتيت أمم قديمة ، ولكن الأصل الواحد والانتماء المصيري هما الأساسان التاريخيان لأي أمة . ويبقى الأصل في المرتبة الأولى والانتماء في المرتبة الثانية ، فالأمة ليست أصلاً فقط ،حتى وإن كان الأصل هو أساسها ومنشأها ، ولكن الأمة علاوة على ذلك هي تراكمات تاريخية بشرية تجعل مجموعة من الناس تعيش على رقعة واحدة من الأرض… وتصنع تاريخا واحداً… ويتكون لها تراث واحد.. وتصبح تواجه مصيراً واحداً . وهكذا فالأمة بغض النظر عن وحدة الدم هي في النهاية انتماء ومصير . ولكن لماذا شهدت خريطة الأرض دولاً عظمى ثم اختفت وظهرت على خريطتها دول أخرى والعكس ؟ هل السبب سياسي ولا علاقة له بالركن الاجتماعي للنظرية العالمية الثالثة ، أم السبب اجتماعي ويخص هذا الفصل من الكتاب الأخضر ؟لنر : لا خلاف على أن الأسرة تكوين اجتماعي وليس سياسياً، والقبيلة كذلك، لأنها أسرة توالدت وتكاثرت فأصبحت أسراً عديدة.والأمة هي القبيلة بعد أن كبرت وتعددت أفخاذها وبطونها وتحولت إلى عشائر ثم قبائل.

فالأمة أيضاً تكوين اجتماعي علاقته (القومية)… والقبيلة تكوين اجتماعي علاقته (القبلية)… والأسرة تكوين اجتماعي علاقته (الأسرية). وأمم العالم تكوين اجتماعي علاقته (الإنسانية)..هذه بديهيات . ثم هنـاك تكويـن سيـاسي يكون الدولة هو الذي يشكل خريطة العالم السياسية… ولكن لماذا تتغير خريطة العالم من عصر إلى آخر ؟ السبب هو أن التكوين السياسي هذا قد يكون منطبقا على التكوين الاجتماعي وقد لا يكون كذلك . فعند انطباقه على الأمة الواحدة يدوم ولا يتغير ، وإذا تغير نتيجة استعمار خارجي أو تدنى يعود للظهور مرة أخـرى تحت شعار الكفاح القومي ، أو النهوض القومي ، والوحدة القومية . أما إذا كان التكوين السياسي يجمـع أكثر من أمة ، فإن خريطته تتمزق من جراء استقلال كل أمة تحت شعار قوميتها. وهكذا تمزقت خريطة الإمبراطوريات التي شهدها العالم لأنها تجمع عدة أمم ما تلبث حتى تتعصب كل أمة لقوميتها ، وتطلب الاستقلال فتتمزق الإمبراطورية السياسية لتعود مكوناتها إلى أصولها الاجتماعية، والدليل واضح تمام الوضوح في تاريخ العالم إذا راجعناه في كل عصر من عصوره.

ولكن لماذا تتكون تلك الإمبراطوريات من أمم مختلفة ؟ . الجواب هو أن تكوين الدولة ليس تكويناً اجتماعيـاً فقـط كالأسرة والقبيلة والأمة، فالدولة كيان سياسي تخلقه عدة عوامل أبسطها وأولها القومية . فالدولة القومية هي الشكل السياسي الوحيد المنسجم مع التكوين الاجتماعي الطبيعي وهي التي يدوم بقاؤها ما لم تتعرض لطغيان قومية أخرى أقـوى منهـا، أو أن يتـأثر تكوينهـا السيـاسي كدولة بتكوينهـا الاجتمـاعي كقبائل وعشائر وأسر. فلو خضع التكوين السياسي للتكوين الاجتماعي العائلي والقبلي أو الطائفي وأخذ اعتباراته لفسد.

أما العوامل الأخرى لتكوين الدولة غير الدولة البسيطة ( الدولة القومية ) فهي عوامل دينية واقتصادية وعسكرية .

فالدين الواحد قد يكون دولة من عدة قوميات… والضرورة الاقتصادية كذلك … والفتوحات العسكرية أيضاً... وهكذا يشهد العالم في عصر ما تلك الدولة أو الإمبراطورية ، ثم يراها قد اختفت في عصر آخر.فعندما تظهر الروح القومية أقوى من الروح الدينية ، ويشتد الصراع بين القوميات المختلفة التي يجمعها دين واحد مثلاً ، تستقل كل أمة راجعة إلى تكوينها الاجتماعي فتختفي تلك الإمبراطورية… ثم يأتي الدور الديني مرة أخرى عندما تظهر الروح الدينية أقوى من الروح القوميـة فتتحد القوميـات المختلفة تحت علم الدين الواحد.. حتى يأتي الدور القومي مرة أخرى وهكذا .

فكل الدول المتكونـة من قوميـات مختـلفة بسـبب ديني أو اقتصادي أوعسكري أو عقائدي وضعي سوف يمزقهاالصراع القومي حتى تستقل كل قومية.. أي ينتصر حتماً العامل الاجتماعي علىالعامل السياسي.

وهكذا فبالرغم من الضرورات السياسيةالتي تحتم قيام الدولة ، إلا أن أساس حياة الأفراد هو الأسرة ثم القبيلة ثم الأمة إلىالإنسانية ، فالعامل الأساسي هو العامل الاجتماعي وهو الثابت .. أي القومية.

فيجب التركيز على الحقيقة الاجتماعية والعناية بالأسرة ليظهر الإنسان السوي المربى ، ثم القبيلة كمظلة اجتماعية ومدرسة اجتماعية طبيعية تربي الإنسان اجتماعياً فيما فوق الأسرة ثم الأمة ، إذإن الفرد لا يعرف قيمة القيم الاجتماعية إلا من الأسرة والقبيلة ، وهما التكوين الاجتماعي الطبيعي الذي لا دخل لأحد في صنعه ، العناية بالأسرة من أجل الفرد والقبيلة ، من أجل الأسرة، من أجل الفرد والأمة..أي القومية ، فالعامل الاجتماعي هو المحرك الحقيقي والدائم للتاريخ ( أي العامل القومي ) .

إن تجاهل الرابطة القومية للجماعات البشرية ، وبناء نظام سياسي متعارض مع الوضع الاجتماعي هو بناء مؤقت سيتهدم بحـركـة العـامل الاجتماعي لتلك الجماعات ، أي الحركة القومية لكل أمة.

تلك كلها حقائق معطاة أصلاً في حياة الإنسان ، وليست تصورات اجتهادية، وعلى كل فرد في العالم أن يعيها ويعمل وهو مدرك لها حتى يكون عمله صالحاً. أي من الضروري معرفة هذه الحقائق الثابتة حتى لا يقع انحراف وخلل وإفساد لحياة الجماعات البشرية نتيجة عدم فهم واحترام هذه الأصول للحياة الإنسانية. ا.

المرأة

المرأة إنسان والرجل إنسان ليس في ذلك خلاف ولا شك . إذن المرأة والرجل متساويان إنسانياً بداهة ، وإن التفريق بين الرجل والمرأة إنسانياً هو ظلم صارخ ليس له مبرر ؛ فالمرأة تأكل وتشرب كما يأكل الرجل ويشرب… والمرأة تكره وتحب كما يكره الرجل ويحب.. والمرأة تفكر وتتعلم وتفهم كما يفكر الرجل ويتعلم ويفهم... والمرأة تحتاج إلى المأوى والملبس والمركوب كما يحتاج الرجل إلى ذلك.. والمرأة تجوع وتعطش كما يجوع الرجل ويعطش.. والمرأة تحيا وتموت كما يحيا الرجل ويموت .ولكن لماذا رجل ولماذا امرأة ؟ أجل. فالمجتمع الإنساني ليس رجالاً فقط ، وليس نساء فقط فهو رجال ونساء .. أي رجل وامرأة بالطبيعة.. لماذا لم يُخلًق رجال فقط .. ولماذا لم يُخلًق نساء فقط .. ثم ما الفرق بين الرجال والنساء أي بين الرجل والمرأة ، لماذا الخليقة اقتضت خلق رجل وامرأة ؟ .. إنه بوجود رجل وامرأة وليس رجلفقط أو امرأة فقط. لا بد أن ثمة ضرورة طبيعية لوجود رجل وامرأة وليس رجل أو امرأة فقط.. إذن ، كل واحد منهما ليس هو الآخر… إذن، هناك فرق طبيعي بين الرجل والمرأة ، والدليل عليه وجود رجل وامرأة بالخليقة..وهذا يعني طبعاً وجود دور لكل واحد منهما يختلف وفقا لإختلاف كل واحد منهماعن الآخر. إذن ، لا بد من ظرف يعيشه كل واحد منهما يؤدي فيه دوره المختلف عن الآخر، ومختلف عن ظرف الآخر باختلاف الدور الطبيعي ذاته. ولكي نتمكن من معرفة هذا الدور.. لنعـرف الخلاف في طبيعة خلق الرجل والمرأة..أي ما هي الفروق الطبيعية بينهما ؟

المرأة أنثى، والرجل ذكر… والمرأة طبقاً لذلك يقول طبيب أمراض النساء .. ( إنها تحيض أو تمرض كل شهر ، والرجل لا يحيض لكونه ذكراً فهو لا يمرض شهرياً (( بالعادة )).وهذا المرض الدوري ، أي كل شهر ،هو نزيف..أي أن المرأة لكونها أنثى تتعرض طبيعياً لمرض نزيف كل شهر.والمرأة إن لم تحض تحمل.. وإذا حملت تصبح بطبيعة الحمل مريضة قرابة سنة.. أي مشلولة النشاط الطبيعي حتى تضع . وعندما تضع أو تجهض فإنها تصاب بمرض النفاس وهو مرض ملازم لكل عملية وضع أو إجهاض . والرجل لا يحمل وبالتالي لا يصاب طبيعياً بهذه الأمراض التي تصاب بها المرأة لكونها أنثى . والمرأة بعد ذلك ترضع ما كـانت تحمله.. والرضاعة الطبيعية قرابة العامين .. والرضاعة الطبيعية تعني أن المرأة يلازمها طفلها وتلازمه بحيث تصبح كذلك مشلولة النشاط ومسؤولة مباشرة عن إنسان آخر هي التي تقوم بمساعدته في القيام بكل الوظائف البيولوجية ، وبدونها يموت. والرجل لا يحمل ولا يرضع ).انتهى شرح الطبيب.

إن هذه المعطيات الطبيعية تكون فروقاً خلقية لا يمكن أن يتساوى فيها الرجل والمرأة… وهي في حد ذاتها حقيقة ضرورة وجود ذكروأنثى أي رجل وامرأة .وإن لكل واحد منهما دوراً أو وظيفة في الحياة مختلفة عن الآخر.. ولا يمكن أن يحل فيها الذكر محل الأنثى على الإطلاق ،أي لا يمكن أن يقوم الرجل بهذه الوظائف الطبيعية بدل المرأة .. والجدير بالاعتبار أن هذه الوظائف البيولوجية عبء ثقيل على المرأة يكلفها جهداً وألماً ليسا هينين. ولكن بدون هذه الوظيفة التي تؤديها المرأة تتوقف الحياة البشرية . أي ، هي وظيفة طبيعية ليست اختيارية وليست إجبارية،ثم هي ضرورية، وبديلها الوحيد توقف الحياة البشرية تماماً. هناك تدخل إرادي ضد الحمل ، ولكنه هو البديل للحياة البشرية ، وهناك التدخل الإرادي الجزئي ضد الحمل… وهناك التدخل ضد الرضاعة، ولكنها حلقات في سلسلة العمل المضاد للحياة الطبيعية والتي على قمتها القتل... أي ، أن تقتل المرأة ذاتها لكي لا تحمل ولا تنجب ولا ترضع.. لا يخرج عن بقية التدخلات الاصطناعية ضد طبيعة الحياة المتمثلة في الحمل والرضاعة والأمومة والزواج… إلا أنها متفاوتة في درجتها .

إن الاستغناء عن دور المرأة الطبيعي في الأمومة، أي أن تحل دور الحضانة محل الأم - هو بداية الاستغناء عن المجتمع الإنساني وتحويله إلى مجتمع بيولوجي وإلى حياة صناعية.

إن فصل الأطفال عن أمهاتهم وحشرهم في دور الحضانة هو عملية تحويلهم إلى ما يشبه أفراخ الدجاج تماماً ، حيث تشكل دور الحضانة ما يماثل محطات التسمين التي تجمـع فيها الأفراخ بعد تفقيسـها.. إن بني الإنسان لا تصلح له وتناسب طبيعته وتليق بكرامتـه إلا الأمومـة الطبيعية.. أي أن ( الطفل تربيه أمه ) .. ..وأن ينشأ في أسرة فيها أمومة وأبوة وأخوة ..

لا في محطة كمحطة تربية الدواجن … إن الدواجن هي أيضاً تحتاج إلى الأمومة كطور طبيعي مثل بقية أبناء المملكة الحيوانية كلها . ولهذا فتربيتها في محطات تشبه دور الحضانة ضد نموها الطبيعي.. وحتى لحومها أقرب إلى اللحم الصناعي منها إلى اللحم الطبيعي.. إن لحم طيور المحطات غير مستساغ ، وقد لا يكون مفيداً ، لأن طيوره لم تنشأ نشأة طبيعية .. أي ، لم تنشأ في ظل الأمومة الطبيعية . إن الطيور البرية أشهى وأنفع لأنها نمت نمواً أمومياً طبيعياً ، وتتغذى غذاءً طبيعياً . أما الذين لا أسرة لهم ولا مأوى فالمجتمع هو وليهم . ولمثل هؤلاء فقط يضع المجتمع دور الحضانة وما إليها . أن يتولى هؤلاء المجتمع أفضل من أن يتولاهم الأفراد الذين ليسوا آباءهم .

إذا أجري اختبار طبيعي لمعرفة الاتجاه الطبيعي للطفل بين أمه وبين محطة لتربية الأطفال . فإن الطفل سيتجه إلى أمه وليس إلى المحطة .. وحيث إن الميل الطبيعي للطفل هو نحو أمه… إذن ، الأم هي مظلة الحضانة الطبيعية والصحيحة ..وتوجيهه إلى دار الحضانة بدل أمه هو إجبار له وعسف ضد ميله الطبيعي الحر .

إن النمو الطبيعي للأشياء هو النمو السليم بحرية . أن تجعل من دار الحضانة أماً هو عمل قسري مضاد لحرية النمو السليم . إن الأطفال الذين يساقون إلى دار الحضانة إنما يساقون جبراً.. أو استغفالاً وبلاهة طفولية، ويساقون إليها لأسباب مادية بحتة وليست اجتماعية . ولو رفعت عنهم وسائل الإجبار وبلاهة الطفولة لرفضوا دار الحضانة والتصقوا بأمهاتهم ، وليس هنـاك مبـرر لـهذه العمليـة غير الطبيعية وغير الإنسانية، إلا أن المرأة ليست في وضع يناسب طبيعتها.. أي أنها مضطرة إلى القيام بواجبات غير اجتماعية ومضادة للأمومة .

إن المرأة وفقاً لطبيعتها التي رتبت عليها دوراً طبيعياً غير دور الرجل لا بد لها من وضع غير وضع الرجل تقوم فيه بأداء دورها الطبيعي .

إن الأمومة وظيفة الأنثى وليست وظيفة الذكر ، ولهذا فمن الطبيعي ألاَ يفصل الأبناء عن الأم … وأي إجراء لفصل الأبناء عن الأم هو عسف وقهر ودكتاتورية . وإن الأم التي تتخلى عن الأمومة تجاه أبنائها تخالف دورها الطبيعي في الحياة . ويجب أن تتوفر لها الحقوق والظروف الملائمة الخالية كذلك من العسف والقهر الذي يجعل المرأة تمارس دورها الطبيعي في ظروف غير طبيعية، الوضع الذي يتناقض مع بعضه بعضاً.

فإذا تخلت المرأة عن دورها الطبيعي في الولادة والأمومة مضطرة ، إذن مورس عليها القهر والدكتاتورية . إن المرأة المحتاجة إلى عمل يجعلها غير قادرة على أداء مهمتها الطبيعية هي غير حرة ومجبرة على ذلك بفعل الحاجة …إذ إنه في الحاجة تكمن الحرية .

ومن الظروف الملائمة والتي تكون ضرورية أيضاً للمرأة كي يتسنى لها أداء مهمتها الطبيعية ، والتي تختلف عن الرجل ، هي تلك الظروف التي تناسب إنساناً مريضاً مثقلا بداء الحمل .. أي حمل إنسان آخر في أحشائه يعجزه عن مستوى الكفاءة المادية . ومن الجور أن نضع المرأةالتي هذا هو حالها في إحدى مراحل الأمومة في ظرف لا يتفق مع هذه الحالة كالعمل البدني الذي هو عبارة عن عقوبة للمرأة مقابل خيانتها الإنسانية للأمومة ، وهو أيضاً عبارة عن ضريبة تدفعها لتدخل عالم الرجال الذين ليسوا طبعاً من جنسها .

إن المرأة التي يعتقد - بمن فيهم هي - أنها تمارس العمل البدني بمحض إرادتها هي ليست كذلك في حقيقة الحال .. إذ إنها لا تقوم بذلك إلا لأن المجتمع المادي القاسي وضعها في ظروف قاهرة دون أن تدري هي مباشرة ، ولا سبيل لها إلا أن تخضع لظروف ذلك المجتمع وهي تعتقد أنها تعمل بحرية … إنها ليست حرة أمام قاعدة : إنه لا فرق بين الرجل والمرأة في كل شيء .

إن عبارة : ( في كل شيء ) هي الخدعة الكبيرة للمرأة .. وهي التي تحطم الظروف الملائمة والضرورية التي تكون حاجة للمرأة لا بد أن تتمتع بها دون الرجل وفقاً لطبيعتها التي رتبت عليها دوراً طبيعيـاً تؤديه في الحياة .

إن المساواة بين الرجل والمرأة في حمل أثقال وهي حامل جور وقسوة .. والمساواة بينهما في صيام ومشقة - وهي ترضع جور وقسوة ..والمساواة بينهما في عمل قذر تشويهـاً لجمـالها … وتنفيـراً مـن أنوثتها جور وقسوة . إن تعليمها منهجاً يؤدي بها وفقاً له إلى ممارسة عمل لا يناسب طبيعتها هو أيضاً جور وقسوة . إن المرأة والرجـل لا فـرق بينهمـا في كل ما هو إنساني،فلا يجوز لأي واحد منهما أن يتزوج الآخر برغم إرادته ، أو أن يطلقه دون محاكمة عادلة تؤيده أو دون اتفاق إرادتي الرجل والمرأة بدون محاكمة .. أو أن تتزوج المرأة دون اتفاق على طلاق ، أو أن يتزوج الرجل دون اتفاق أو طلاق .والمرأة هي صاحبة المنزل،لأن المنزل هو أحد الظروف الملائمة والتي تكون ضرورية للمرأة التي تحمل وتمرض وتلد وتقوم بالأمومة . إن الأنثى هي صاحبة مأوى الأمومة أي البيت ، حتى في عالم الحيوانات الأخرى غير الإنسان وواجبها الأمومة بطبيعتها، فمن العسف أن يحرم الأبناء من أمهم أو أن تحرم المرأة من بيتها .

المرأة أنثى لا غير .. وأنثى تعني أنها ذات طبيعة بيولوجية مختلفة عن الرجل لكونه ذكراً .. والطبيعة البيولوجية للأنثى المختلفة عن الذكر جعلت للمرأة صفات غير صفات الرجل في الشكـل والجوهر .فشكل المرأة مختلف عن شكل الرجل لأنها أنثى ..وكـذلك كـل أنثـى في المخلوقات الحية من نبات وحيوان مختلفة في شكلها وجوهرها عن ذكرها . تلك حقيقة طبيعية لا مجال لأي مناقشة فيها. والذكر في الممكلة الحيوانية والنباتية خلق طبيعياً قوياً وخشناً ، والأنثى في النبات والحيوان والإنسان خلقت طبيعياً جميلة ورقيقة . هذه حقائق طبيعية وأزلية خلقت بها هذه الكائنات الحيـة المسماة بالإنسان أو الحيوان أو النبات. وترتيباً على هذه الخلقة المختلفة ، وترتيباً على نواميس الطبيعة مـارس الذكر دور القوي الخشن دون إجبار . بل لأنه خلق هكذا .

ومارست الأنثى دور الرقيق الجميل دون اختيار - بل لأنها خلقت هكذا . وهذه القاعدة الطبـيعية هي الحكم العدل ، لكونها طبيعة من جهة، ولكونها هي القاعدة الأساسية للحرية ، لأن الأشياء خلقت حرة ولأن أي تدخل مضاد لقاعدة الحرية هو عسف . إن عـدم التـزام هذه الأدوار الطبيعية والاستهتار بحدودها هو استهتار بقيم الحياة نفسها ، وإفساد لها والطبيعة ترتبت هكذا انسجاماً مع حتمية الحياة بين الكينونة والصيرورة . فالكائن الحي عندما يخلق حياً هو كائن ، وحتماً يعيش إلى أن يصير ميتاً . فالبقاء بين البداية والنهاية قائم على ناموس خلقي طبيعي ليس فيه اختيار ولا إجبار ، بل هو طبيعي … هو الحرية الطبيعية . ففي الحيوان والنبات والإنسان لا بد من ذكر وأنثى بوقوع الحياة من الكينونة حتى الصيرورة، وليس وجودهما فقط ، بل لا بد من ممارسة دورهما الطبيعي - الذي خلقا من أجله - ويجب أن يكون بكفاءة تامة وإذا لم يؤد بالتمام، إذن هناك خلل في مسيرة الحياة نتيجة ظرف ما . وهذا هو الحال الذي تعيشه المجتمعات الآن في كل مكان من العـالم تقريباً نتيجة الخلـط بين دور الرجل والمرأة، أي نتيجة محاولات تحويل المرأة إلى رجل وانسجاماً مع الخلقة وغايتها عليهما أن يبدعا في دورهما ، والعكس هو القهقرى.. هو الاتجاه المضاد للطبيعة الهادم لقاعدة الحرية المضاد للحياة المضاد للبقاء . ولابد أن يقوم كل واحد منهما بدوره الذي خلق له ولا يتنازل عنه ،لأن التنازل عنه أو عن بعضه لا يقع إلا من جراء ظروف قاهرة …أي في حالة غير سوية..فالمرأة التي تمتنع عن الحمل أو الزواج أو الزينة والرقة لأسباب صحية، فهي تتنازل عن دورها الطبيعي في الحياة تحت هذا الظرف الصحي القاهر..والمرأة التي تمتنع عن الحـمل والزواج أو الأمومة … الخ. بسبب العمل تتنازل عن دورها الطبيـعي تحت الظـرف القـاهر أيضاً.. والمرأة التي تمتنع عن الحمل أو الزواج أو الأمومة .. الخ .. دون أي سبب مادي فهي تتنازل عن دورها الطبيعي تحت ظرف قاهر من الشذوذ المعنوي عن الطبيعة الخلقية . وهكذا فالتنازل عن القيام بالدور الطبيعي للأنثى أو الذكر في الحياة لا يمكن أن يكون إلا تحت ظروف غير طبيعيـة معاكسة للحرية مهـددة للبقاء . وعليه لابد من ثورة عالمية تقضي على كل الظروف المادية التي تعطل المرأة عن القيام بدورها الطبيعي في الحياة، والتي تجعلها تقوم بواجبات الرجل لكي تتساوى معه في الحقوق ، وإن هذه الثورة ستأتي حتماً ، خاصة في المجتمعات الصناعية ، كرد فعل لغريزة البقاء، وحتى دون أي محرض على الثورة كالكتاب الأخضر مثلاً . إن كل المجتمعات تنظر إلى المرأة الآن كسلـعة ليس إلا .. الشرق ينظـر إليهـا باعتبـارها متـاعاً قابلاً للبيـع والشراء ، والغرب ينظر إليها باعتبـارها ليسـت أنثى .

إن دفع المرأة لعمل الرجل هو اعتداء ظالم على أنوثتها التي زودت بها طبيعياً لغرض طبيعي ضروري للحياة .. إذ إن عمل الرجل يطمس المعالم الجميلة للمرأة التي أرادت لها الخليقة أن تظهر لتؤدي دوراً غير دور العمل الذي يناسب غير الإناث .. إنه تماماً مثل الأزهار التي خلقت لتجذب حبوب اللقاح .. ولتخلف البذور .. ولو طمسناها لانتهى دور النبات في الحياة .. وإنه هو الزخرفة الطبيعية في الفراشة والطيور وبقية إناث الحيوانات لهذا الغرض الحيوي الطبيـعي . وإن عمل الرجل إذا قامت به المرأة فعليها أن تتحول إلى رجل تاركة دورها وجمالها. إن المرأة لها حقوقها كاملة دون أن تجبر على التحول إلى رجل والتخلي عن أنوثتها .

إن التركيب الجسماني المختلف طبيعياً بين الرجل والمرأة يؤدي إلى أن وظائف الأجزاء المختلفة للأنثى عن الذكر مختلفة كذلك .. وهذا يؤدي إلى اختلاف طبيعي نتيجة لاختلاف وظائف الأعضاء المختلفة بين الرجل والمرأة ويؤدي إلى اختلاف في المزاج والنفس والأعصاب وشكل الجسم .. فالمرأة عطوف.. والمرأة جميلة.. والمرأة سريعة البكاء .. والمرأة تخاف…وعموماً نتيجة للخلقة الطبيعية فالمرأة رقيقة والرجل غليظ .

إن تجاهل الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة والخلط بين أدوارهما اتجاه غير حضاري على الإطلاق .. ومضاد لنواميس الطبيـعة .. ومهدم للحيـاة الإنسانيـة .. وسبب حقيقي في بؤس الحياة الاجتماعية للإنسان .

إن المجتمعات الصناعية في هذا العصر التي كيفت المرأة للعمل المادي مثل الرجل على حساب أنوثتها ودورها الطبيعي في الحياة ، من الناحية الجمالية والأمومة و السكينة ، هي مجتمعات غير حضارية.. هي مجتـمعـات مادية.. وليست متـحضرة.. ومن الغباء والخطر على الحضارة والإنسانية تقليدها .

وهكذا فالمسألة ليست أن تعمل المرأة أو لا تعمل.. فهذا طرح مادي سخيف - فالعمل يجب أن يوفره المجتمع لكل أفراده القادرين عليه والمحتاجين إليه رجالاً ونساء . ولكن أن يعمل كل فرد في المجال الذي يناسبه . وألا يضطر تحت العـسف إلى أن يعمل مـالا يناسبه .

أن يجد الأطفال أنفسهم في ظرف عمل الكبار ذلك جور ودكتاتورية . وأن تجد المرأة نفسها في ظرف عمل الرجال ذلك جور ودكتاتورية أيضاً .

الحرية هي أن يتعلم كل إنسان المعرفة التي تناسبه والتي تؤهله لعمل يناسبه والدكتاتورية هي أن يتعلم الإنسان معرفة لا تناسبه .. وتقوده إلى عمل لا يناسبه … إن العمل الذي يناسب الرجل ليس دائماً هو العمل الذي يناسب المرأة … والمعرفة التي تناسب الطفل ليست هي المعرفة التي تناسب الكبير .

ليس هناك فرق في الحقوق الإنسانية بين الرجل والمرأة ، والكبير والصغير .. ولكن ليست ثمة مساواة تامة بينهم فيما يجب أن يقوموا به من واجبات .

الأقليات

ما هي الأقلية ، وما لها وما عليها ، وكيف تحل مشكلة الأقلية وفقاً لحل مشاكل الإنسان المختلفة على ضوء النظرية العالمية الثالثة ؟ .

الأقلية نوعـان لا ثالث لهـما :أقلية تنتمي إلى أمة وإطارها الاجتماعي هو أمتها … وأقلية ليس لها أمة ، وهذه لا إطار اجتماعي لها إلا ذاتها .. وهذا النوع هو الذي يكون أحد التراكمات التاريخية التي تكـون في النهايـة الأمـة بفعل الانتماء والمصير .. وهذه الأقلية لها حقوقها الاجتماعيـة الذاتية كمـا اتضح لنا. ومن الجور المساس بتلك الحقوق من طرف أي أغلبية . فالصفة الاجتماعية ذاتية وليست قابلة للمنح والخلع . أما مشكلاتها السياسية والاقتصادية فلا تحل إلا ضمن المجتمع الجماهيري الذي يجب أن تكون بيد جماهيره السلطة والثروة والسلاح .. إن النظر إلى الأقلية على أنها أقلية من الناحيـة السياسية والاقتصادية هو دكتاتورية وظلم .

السود

( السود سيسودون في العالم) : إن آخر عصر من عصور الرق كان استرقاق الجنس الأبيض للجنس الأسود . وهذا العصر سيظل ماثلاً في ذهن الإنسان الأسود حتى يشعر بأنه قد رد اعتباره .

إن هذا الحـدث التـاريخي المأساوي، والشعور المؤلم به ، والبحث النفسي عن حالة شعور بالرضا لرد الاعتبار لجنس بحاله هي سبب نفسي لا يمكن تجاهله في حركة الجنس الأسود ليثأر لنفسه وليسود . مضافاً إلى هذا ما تحتمه الدورات التاريخية الاجتماعية .. ومنها أن الجنس الأصفر قد ساد العالم عندما زحف من آسيا على بقية القارات … ثم جاء دور الجنس الأبيض عندما قام بحركة استعمار واسعة شملت كل قارات العالم .. والآن جاء دور الجنس الأسود ليسود كذلك .

إن الجنس الأسود هو الآن في وضع اجتماعي متـخلف جداً . بيد أن هذا التخلف يعمل لصالـح تفوق هذا الجنس عددياً ، إذ إن المستـوى المتدني الذي يعيشه السود جعلهم في مأمن من معرفة وسائل تحديد النسل وتنظيمه . كما أن عاداتهم الاجتماعية المتخلفة هي سبب في عدم وجود حد للزواج مما يؤدي إلى تكاثرهم بدون حدود ، في الوقت الذي يتناقص فيه عدد الأجناس الأخرى بسبب تحديد النسل وتحديد الزواج وبسبب الانشغال بالعمل الدائب ، خلافاً للسود الذين يمارسون الخمول في جو حار دائم .

التعليم

العلم أو التـعليم ليـس ذلك المنـهج المنظم ، وتلك المواد المبّوبة التي يجبر الشباب على تعلمها خلال سـاعات محدودة على كراس مصفوفة وفي كتب مطبوعة . إن هذا النوع من التعليم _هو السائد في جميع أنحاء العالم الآن-هو أسلوب مضاد للحرية .. إن التعليم الإجباري الذي تتباهى دول العالم به كلما تمكنت من فرضه على شبيبتها هو أحد الأساليب القامعة للحرية .. إنه طمس إجباري لمواهب الإنسان .. وهو توجيه إجباري لاختيارات الإنسان .. إنه عمل دكتاتوري قاتل للحرية لأنه يمنع الإنسان من الاختيار الحر والإبداع والتألق .. أن يجبر الإنسان على تعلم منهج ما ، عمل دكتاتوري .. أن تفرض مواد معينة لتلقينها للناس عمل دكتاتوري .

إن التعليم الإجباري .. والتعليم المنهجي المنظم هو تجهيل إجباري في الواقع للجماهير . إن جميع الدول التي تحدد مسـارات التـعليم عن طريق مناهج رسمية .. وتجبر الناس على ذلك وتحدد رسمياً المواد والمعارف المطلوب تعلمها هي دول تمارس العسف ضد مواطنيها . إن كافة أساليب التعليم السائدة في العالم يجب أن تحطمها ثورة ثقافية عالمية تحرر عقلية الإنسان من مناهج التعصب والتكييف العمدي لذوق ومفهوم وعقلية الإنسان .

إن هـذا يعني إقفال أبواب دور العـلم كما يبدو للسطحيين عند قراءتهم له ، وانصراف الناس عن التعلم . إنه على العكس من ذلك ، يعني أن يوفر المجتمع كل أنواع التعليم ، ويترك للناس حرية التوجه إلى أي علم تلقائياً، وهذا يتطلب أن تكون دور التعليم كافية لكل أنواع المعارف . وإن عدم الوصول إلى الكفاية منها هو حد لحرية الإنسان ، وإرغام له على تعلم معارف معينة،وهي المتوفرة، وحرمانه من حق طبيعي نتيجة غياب المعارف الأخرى . فالمجتمعات التي تمنع المعرفة والتي تحتكرها هي مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحرية .وهكذا فالمجتمعات التي تمنع معرفة الدين كما هو هي مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحرية .. والمجتمعات التي تحتكر المعرفة الدينية هي أيضاً مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحريـة ..والمجـتمعـات التي تشوه دين الغيـر وحضارة الغير وسلوك الغير في حالة تقديمها كمـعرفة لنفسها هي كذلك مجتمعات متعصبة رجعية.. معادية للحرية. والمجتمعات التي تمنع المعرفة المادية هي مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحرية. والمجتمعات التي تحتكر المعرفة المادية هي مجتمعات رجعية متعصبة للجهل معادية للحرية. المعرفة حق طبيعي لكل إنسان وليس لأحد الحق في أن يحرمه منه بأي مبرر إلا إذا ارتكب الإنسان نفسه من الفعل ما يمنعه من ذلك. إن الجهل سينتهي عندما يقدم كل شيء على حقيقته.. وعندما تتوفر معرفته لكل إنسان بالطريقة التي تناسبه .

الألحان والفنون

إن الإنسان لا يزال متأخراً مادام عاجزاً عن التعبير بلغة واحدة .. وإلى أن يحقق الإنسان تلك الأمنية الإنسانية - والتي تبدو مستحيلة - سيبقى التعبير عن الفرح والحزن وعن الخير والشر ، وعن الجمال والقبح ، وعن الراحة والشقاء ، والفناء والخلود ، والحب والبغض .. وعن الألوان والأحاسيس والأذواق والمزاج - سيبقى التعبير عن كل هذه الأشياء بنفس اللغة التي يتكلم بها كل شعب تلقائيـاً .. بل سيبقى السلوك حسب رد الفعل الناشئ من الإحسـاس الذي تخلقه اللغة في فهم صاحبها .

إن تعلّم لغة واحدة مهما كانت ليس هو الحل في الوقت الحاضر .. إن هذه المسألة ستستمر حتما بدون حل إلى أن تمر عملية وحدة اللغـة بـعدة أحقاب وأجيال ، بشرط أن ينتهي عامل الوراثة من هذه الأجيال نتيجة مرور زمن كاف لذلك، إذ إن إحساس وذوق ومزاج الأجداد والآباء هو الذي يشكل إحساس وذوق ومزاج الأبناء والأحفاد . فإذا كان أولئك الأجداد يعبرون بلغات مختلفة ، والأحفاد يعبرون بلغة واحدة ، فإن هؤلاء الأحفاد لا يحسون ذوق بعضهم بعضا حتى وهم يتكلمون بلغة واحدة ..إن وحدة الذوق تلك لا تتحقق إلاَ بعد أن تصنع اللغة الجديدة ذوق وإحساس الأجيال المتوارثة من بعضها بعضاً .

إذا كانت جماعة من الناس تلبس اللون الأبيض في حالة الحزن ، وجماعة أخرى تلبس الأسود في نفس الحالة فإن إحساس كل جماعة سيتكيف حسب ذينك اللونين .. أي واحدة تكره الأسود، والأخرى تحبه، والعكس بالعكس . وهذا الإحساس له تأثير مادي على الخلايا وعلى كل الذرات وحركتها في الجسم .. وبهذا سينتقل هذا التكيف بالوراثة ، فيكره الوريث اللون الذي يكرهه مورثه تلقائياً نتيجة وراثته لإحساس مورثه ، وهكذا الشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها وتراثها ، ولا تنسجم مع فنون غيرها بسبب عامل الوراثة حتى ولو كانت هذه الشعوب المختلفة تراثاً تتكلم حالياً لغة واحدة .

بل إن هذا الاختلاف يظهر ولو كان في حده الأدنى حتى بين جماعات الشعب الواحد. إن تعلم لغة واحدة ليس مشكلة .. وإن فهم فنـون الغير نتيجة معرفة لغتـه ليس مشكلة أيضاً .. ولكن المشكلة هي استحالة التكيف الوجداني الحقيقي مع لغة الغير . وهذا سيبقى مستحيلاً إلى أن ينتهي أثر الوراثة في جسم الإنسان المتحول إلى اللغة الواحدة .

إن البشرية مازالت حقاً متأخرة مادام الإنسان لا يتكلم مع أخيه الإنسان لغة واحدة موروثة وليست متعلمة .. ومع هذا فإن بلوغ البشرية تلك الغاية يبقى مسألة وقت ما لم تنتكس الحضارة .

الرياضة و الفروسية و العروض

الرياضة إما خاصة كالصلاة يقوم بها الإنسان بنفسه وبمفرده حتى داخل حجرة مغلقة ، وإما عامة تمارس في الميادين وبشكل جماعي كالصلاة التي تمارس في المعابد بصورة جماعية . إن النوع الأول من الرياضة يهم الفرد شخصه ، أما النوع الثاني فهو يهم كل الشعب يمارسه كله ولا يتركه لأحد يمارسه بالنيابة عنه .. مثلما هو من غير المعقول أن تدخل الجماهير المعابد لتتفرج على شخص أو مجموعة تصلى دون أن تمارس هي الصلاة ! يكون أيضاً من غير المعقول أن تدخل الجماهير الملاعب والميادين لتتفرج على لاعب أو لاعبين دون أن تمارس هي الرياضة بنفسها . إن الرياضة مثل الصلاة ومثل الأكل ومثل التدفئة والتهوية ، فمن الغباء أن تدخل الجماهير إلى مطعم لتتفرج على شخص يأكل أو مجموعة تأكل ! أو تترك الناس شخصاً أو مجموعة يتمتعون بالتدفئة لأجسامهم نيابة عنها أو بالتهوية ! لا يعقل أن يجيز المجتمع لفرد أو فريق أن يحتكر الرياضة دون المجتمع، وأن يتحمل المجتمع تكاليف ذلك الاحتكار لصالح فرد أو فريق .. تماماً مثلما لا يجوز ديمقراطياً أن يسمح الشعب لفرد أو جماعة حزباً كان أو طبقة أو طائفة أو قبيلة أو مجلساً أن يقرر مصيره نيابة عنه ، ويحس بحاجاته نيابة عنه .

الرياضة الخاصة لا تهم إلا من يمارسها وعلى مسؤوليته ونفقته .الرياضة العامة حاجة عامة للناس لا ينوب أحد في ممارستها نيابة عنهم مادياً وديمقراطياً … فمن الناحية المادية لا يستطيع هذا النائب أن ينقل ما استفاده لجسمه أو لروحه المعنوية رياضياً للآخرين . وديمقراطياً لا يحق لفرد أو فريق أن يحتكر الرياضة أو السلطة أو الثروة أو السلاح دون الآخرين.

إن النوادي الرياضية التي هي أساس الرياضة التقليدية في العالم اليوم ، والتي تستحوذ على كل النفقات والإمكانات العامة الخاصة بالنشاط الرياضي في كل دولة .. إن هذه المؤسسات ما هي إلا أدوات احتكارية اجتماعية شأنها شأن الأدوات السياسية الدكتاتورية التي تحتكر السلطة دون الجماهير ، والأدوات الاقتصادية التي تحتكر الثروة عن المجتمع ، والأدوات العسكرية التقليدية التي تحتكر السلاح عن المجتمع . فكما يحطم عصر الجماهير أدوات احتكار الثروة والسلطة والسلاح … لابد أن يحطم أدوات احتكار النشاط الاجتماعي من رياضة وفروسية وما إليها ..إن الجماهير التي تصطف لتؤيد مرشحاً لينوب عنها في تقرير مصيرها وعلى أساس افتراض مستحيل في أن ينوبها ويحمل بالنيابة عنها كرامتها وسيادتها وكل حيثيتها .ولا يبقى لتلك الجماهير المسلوبة الإرادة والكرامة إلا أن تتفرج على شخص يقوم بعمل كان من الطبيعي أن تقوم به الجماهير نفسها، هي مثل الجماهير التي لا تمارس الرياضة بنفسها ولنفسها نتيجة لعجزها عن ممارستها لجهلها واستغفالها من قبل أدوات الاحتكار التي تعمل على تلهية الجماهير وتخديرها لتمارس الضحك والتصفيق بدلاً من ممارسة الرياضة التي تحتكرها تلك الأدوات الاحتكارية … مثلما السلطة تكون جماهيرية ، فالرياضة كذلك تكون جماهيرية ومثلما الثروة تصبح لكل الجماهير والسلاح للشعب … تكون الرياضة ، بوصفها نشاطاً اجتماعيا جماهيرية كذلك .

إن الرياضة العامة تخص كل الجماهير .. وهي حق لكل الشعب لما لها من فوائد صحية وترفيهية ، من الغباء تركها لأفراد ولجماعات معينة تحتكرها وتجني فوائدها الصحية والمعنوية بمفردها، بينما الجماهير تقدم كل التسهيلات والإمكانات، وتدفع النفقات لقيام الرياضة العامة وما تتطلبه. .إن الآلاف التي تملأ مدرجات الملاعب لتتفرج وتصفق وتضحك هي الآلاف المغفلة التي عجزت عن ممارسة الرياضة بنفسها حتى صارت مصطفة على رفوف الملعب تمارس الخمول والتصفيق لأولئك الأبطال الذين انتزعوا منها المبادأة. وسيطروا على الميدان ، واستحوذوا على الرياضة ، وسخروا كل الإمكانات التي تحملتها الجماهير نفسها لصالحهم . إن مدرجات الملاعب العامة معدة أصلاً للحيلولة دون الجماهير والميادين والملاعب ، أي لكي تمنع الجماهير من الوصول إلى ميادين الرياضة ، وإنها ستخلى ثم تلغى يوم تزحف الجماهير وتمارس الرياضة جماهيرياً في قلب الملاعب والميادين الرياضية ، وتدرك أن الرياضة نشاط عام ينبغي أن يمارس لا أن يتفرج عليه . كان يمكن أن يكون العكس معقولاً، وهو أن الأقلية العاجزة أو الخاملة هي التي تتفرج .

إن مدرجات الملاعب ستختفي عندما لا يوجد من يجلس عليها . إن الناس العاجزين عن ممارسة أدوار البطولة في الحياة ، والذين يجهلون أحداث التاريخ، والقاصرين عن تصور المستقبل ، وغير الجادين في حياتهم هم الهامشيون الذين يملأون مقاعد المسارح والعروض ليتفرجوا على أحداث الحياة ، ويتعلموا كيف تسير ، تماماً كالتلاميذ الذين يملأون مقاعد المدارس لأنهم غير متعلمين..بل يكونون أميين في البداية .

إن الذين يصنعون الحياة بأنفسهم ليسوا في حاجة إلى مشاهدة كيف تسير الحياة بواسطة ممثلين على خشبة المسرح أو دور العرض . وهكذا فالفرسان الذين يمتطي كل واحد منهم جواده لا مقعد له على حافة ميدان السباق ، فلو كان لكل واحد جواد لما وجد من يتفرج ويصفق للسباق . فالمتفرجون القاعدون هم فقط الذين غير قادرين على ممارسة هذا النشاط لأنهم ليسوا من راكبي الخيول .

هكذا فالشعوب البدوية لا تهتم بالمسرح والعروض لأنها كادحة وجادة في حياتها للغاية ، فهي صانعة الحياة الجادة ، ولهذا تسخر من التمثيل . والجماعات البدوية كذلك لا تتفرج على لاعبين ، بل تمارس الأفراح أو الألعاب بصورة جماعية ، لأنها تحس عفوياً بالحاجة إليها فتمارسها دون تفسير .

أما الملاكمة والمصارعة بأنواعها فهي دليل على أن البشرية لم تتخلص بعد من كل السلوك الوحشي … ولكنها ستنتهي حتماً عندما يرقى الإنسان درجات أكثر على سلم الحضارة . إن المبارزة بالمسدسات ، وقبلها تقديم القربان البشري ، كانت سلوكاً مألوفاً في مرحلة من مراحل تطور البشرية … ولكن منذ مئات السنين انتهت هذه الأعمال الوحشية … وأصبح الإنسان يضحك على نفسه ويتحسر لها في ذات الوقت لأنه كان يمارس تلك الأمور . وهكذا شأن الملاكمة والمصارعة بأنواعها بعد عشرات أو مئات السنين. ولكن الأفراد المتحضرين أكثر من غيرهم ، والأرقى عقلياً هم القادرون الآن على تجنب ذلك السلوك الوحشي ممارسة وتشجيعاً.