الكامل في اللغة - الجزء السادس
من تشبيهات المحدثين ومن تشبيه المحدثين المستطرف قول بشار: كأن فؤاده كـرة تـنـزى حذار البين إن نفع الحذار يروعه السرار بكل أمـر مخافة أن يكون به السرار وفي هذه القصيدة: جفت عيني عن التغميض حتى كأن جفونها عنهـا قـصـار أقول وليلتـي تـزداد طـولاً أما لليل بـعـدهـم نـهـار وقال الحسن بن هانئ في صفة الخمر: فإذا ما لمسـتـهـا فـهـبـاء يمنع اللمس ما يبيح العأن يكونا في كؤوس كأنـهـن نـجـوم جاريات، بـروجـهـا أيدينـا طالعات مع السقـاة عـلـينـا فإذا ما غربن يغربـن فـينـا فهذه قطعة من التشبيه غاية، على سخف كلام المحدثين. وقال الحنفي: وهو إسحاق بن خلف في صفة السيف: ألقى بجانـب خـصـره أمضى من الأجل المتاح وكأنـمـا در الـهـبـا ء عليه أنفاس الـرياح وقال دعبل بن علي في صفة المصلوب : لم أر صفاً مثل صف الزط تسعين منهم صلبوا في خط من كل عال جذعه بالشـط كأن في جذعه المشـتـط أخو نعاس جد في التمطـي قد خامر النوم ولـم يغـط وقال يزيد المهلبي في مثله : قام ولما يستعن بسـاقـه آلف مثواه على فراقـه كأنما يضحك في أشداقه
أراد بياض الشريط في فيه.
وقال أعرابي في صفة مصلوب، وهو الأخطل: قال أبو الحسن: الأخطل الذي يعني رجل محدث من أهل البصرة، ويعرف بالأخيطل، ويلقب ببرقوقا، وذكر أبو الحسن أن أبا العباس كان يدلس به:
كأنه عاشق قد مد سفـحـتـه يوم الفراق إلى توديعه مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثـتـه مواصل لتميه من الـكـسـل
وقال مسلم بن الوليد:
وضعت حيث ترتاب الرياح به وتحسد الطير فيه أضبع البلد
وقال حبيب بن أوس قال أبو الحسن: يعني به إسحاق بن إبراهيم الطاهري:
قد تقلصت شفتاه من حفيظتـه فخيل من شدة التقليص مبتسما
وقال أيضاً في رجل ينسبه إلى الدعوة :
وتنقل من معشر في معشر فكأن أمك أو أباك الزئبق
يقال: زئبق، وزئبر، مهموزان، ودرهم مزأبق، وثوب مزأبر .
ومن إفراط التشبيه قول أبي خراش الهذالي يصف سرعة أبيه في العدو:
كأنهـم يسـعـون فـي إثـر طـائر خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض
يبادر جنح اللـيل فـهـو مـهـابـد يحث الجناح بالتبسـط والـقـبـض
وقال أوس بن حجر قال أبو الحسن: أهل الكوفة يرونها لعبيد بن الأبرص:
كأن ريقتها بعد الكرى اغتبـقـت من ماء أدكن في الحانوت نضاح
أو من معتقة ورهاء نشـوتـهـا أو من أنابيب رمـان وتـفـاح
وقال ابن عبدل يهجو رجلاً بالبخر:
نكهت علي نكهة أخدري شتيم شابك الأنياب ورد
وفي هذا الشعر:
فما يدنو إلى فـيه ذبـاب ولو طليت مشافره بقنـد
يرين حلاوة ويخفن موتاً وشيكاً إن هممن له بورد
والذباب: الواحد من الذبان، وأدنى العدد فيه أذبة، والكثير الذبان؛ ولكنه ذكر واحداً ثم خبر عن سائر الجنس، والأسد أنتن السباع فماً، كما أن الصقر أنتن الطير فماً.
قال بعض المحدثين في رجل يهجوه، والمهجو داود بن بكر، وكان ولي الأهواز وفارس، والشعر لأبي الشمقمق:
وله لـحـية تـيس وله منقار نـسـر
وله نـكـهة لـيث خالطت نحهة صقر
وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن بن عائشة:
من يكـن إبـطـه كـآبـــاط ذا الخلق فإبطاي في عداد الفقاح
لي إبطان يرمـيان جـلـيسـي بشبيه السـلاح أو بـالـسـلاح
فكأني مـن نـتـن هـذا وهـذا جالس بين مصعـب وصـبـاح
يعني مصعب بن عبد الله الزبيري، وصباح بن خاقان المنقري - وكانا جليسين - لا يكادان يفترقان، وصديقين متواصلين، لا يكادان يتصارمان.
فحدثت أن أحمد بن هشام لقيهما يوماً، فقال: أما سمعتما ما قال فيكما هذا? يعني إسحاق بن الموصلي، فقالا: ما قال فينا إلا خيراً، قال: قال:
لام فيها مصعب وصباح فعصينا مصعباً وصباحا
وأبينا غير سعي إلـيهـا فاسترحنا منهما واستراحا
قال: ما قال إلا خيراً، ولكن . المكروة ما قال فيك، إذ يقول:
وصافية تعشي العيون رقـيقة رهينة عام في الدنـان وعـام
أدرنا بها الكأس الروية موهنـاً من الليل حتى انجاب كل ظلام
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا من العي نحكي أحمد بن هشام
واعمل أن للتشبيه حداً؛ لأن الأشياء تشابه من وجوه، وتباين من وجوه؛ فإنما ينظر إلى التشبيه من أين وقع ، فإذا شبه الوجه بالشمس والقمر فإنما يراد به الضياء والرونق، ولا يراد به العظم والإحراق. قال الله جل وعز: " كأنهن بيض مكنون " " الصافات: 49 "، والعرب تشبه النساء ببيض النعام، تريد نقاءه ورقة لونه ، قال الراعي:
كأن بيض نعام في ملاحفها إذا اجتلاهن قيظ ليله ومد
وقيل للأوسية - وهي امرأة حكيمة في العرب - بحضرة عمر بن الخطاب رحمه الله: أي منظر أحسن? فقالت: قصور بيض، في حدائق خضر، فأنشد عمر بن الخطاب لعدي بن زيد:
كدمى العاج في المحاريب أو كالبيض في الروض زهره مستنير
وقال آخر:
كالبيض في الأدحي يلمع بالضحى فالحسن حسن والنـعـيم نـعـيم
وقال جرير:
ما استوصف الناس من شيء يروقهم إلا رأوا أم نوح فوق ما وصـفـوا كأنـهـا مـزنة غـــراء رائحة أو درة ما يواري ضوءها الصدف المزنة: السحابة البيضاء خاصة، وجمعها مزن، قال الله جل وعز: ءأنتم أنزلتموه من المزن " " الواقعة: 69 "؛ فالمرأة تشبه بالسحابة لتهاديها وسهولة مرها، قال الأعشى: كأن مشيتها من بيت جارتهـا مر السحابة لا ريث ولا عجل الريث: الإبطاء، فهذا ما تلحقه العين منها، فأما الخفة فهي كأسرع مار، وإن خفي ذلك على البصر، قال الله جل وعز: " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " " النمل: 88". والعرب تشبه المرأة بالشمس، والقمر، والغصن، والكثيب ، والغزال، والبقرة الوحشية، والسحابة البيضاء، والدرة، والبيضة؛ وإنما تقصد من كل شيء إلى شيء. قال ذو الرمة: ومية أحسن الثقلـين جـيداً وسالفة وأحسنهـم قـذالا فلم أر مثلها نظراً وعـينـاً ولا أم الغزال ولا الغزالا تريك بياض غرتها ووجهاً كقرن الشمس أفتق ثم زالا أصاب خصاصة فبدا كليلاً كلا وانغل سائره انغـلالا الجيد: العنق، والسالفة: ناحية العنق، والقذالان: ناحيتا القفا من الرأس. وقوله: أفتق ثم زالا، يقال: أفتق السحاب، إذا انكشف انكشافة فكانت منه فرجة يسيرة بين السحابتين. تقول العرب: دام علينا الغيم ثم أفتقنا، وإذا نظر إلى الشمس والقمر من فتق السحاب فهو أحسن ما يكون وأشده استنارة. وقوله: كلا يريد في سرعة ما بدا ثم غاب. وقال الله عز وجل: " كأنهن الياقوت والمرجان " " الرحمن: 58 "، وقال تبارك وتعالى: "كأمثال اللؤلؤ المكنون " " الواقعة: 23 ". والمكنون: المصون، يقال: كننت الشي، إذا صنته. وأكننته، إذا أخفيته، فهذا المعروف، قال الله تبارك وتعالى: " أو كننتم في أنفسكم " " البقرة: 235 " وقد يقال: كننته، أخفيته. وقد قال جرير في يزيد بن عبد الملك، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن سفيان: الحزم والجود والإيمان قد نزلوا على يزيد أمين الله فاحتلفـوا ضخم الدسيعة والإيمان، غرته كالبدر ليلة كاد الشهر ينتصف وقال ذو الرمة: فيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالـم وقال ابن أبي ربيعة: أبصرتها ليلة ونـسـوتـهـا يمشين بين المقام والحـجـر يرفلن في الريط والمروط كما تمشي الهوينى سواكن البقـر فهذه تشبيهات غريبات مفهومة. وقال أبو عبد الرحمن العطوي : قد رأينا الغزال والغصن النجمـين شمس الضحـى وبـدر الـظـلام فوحق الـبـيان يعـضـده الـبـر هان مـاقـط ألـد الـخـصـام ما رأينا سـوى الـحـبـيبة شـيئاً جمع الحسن كلـه فـي نـظـام فهي تجري مجرى الأصالة في الرأ ي ومجرى الأرواح في الأجسـام البرهان: الحجة، قال الله عز وجل: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " " البقرة: 111 " أي حججكم. والماقط: موضع الحرب، فضربه مثلاً لموضع المناظرة والمحاجة. والألد: الشديد الخصومة، قال الله تبارك وتعالى: " وتنذر به قوماً لداً " " مريم: 97 "، وقال: " وهو ألد الخصام " " البقرة: 204 ". وقالت ليلى الأخيلية : كأن فتى الفتيان توبة لـم ينـخ بنجد ولم يطلع مع المتغـور ولم يقدع الخصم الألد ويملأ ال جفان سديفاً يوم نكباء صرصر السديف: شقق السنام. الرياح ومواقعها والنكباء: الريح بين الريحين، لأن الرياح أربع، وما بين كل ريحين نكباء، فهي ثمان في المعنى. فما بين مطلع سهيل إلى مطلع الفجر جنوب، وإنما تأتي الجنوب من قبل اليمن، قال جرير: وحبذا نفحات من يمـانـية تأتيك من جبل الريان أحيانا وإذا هبت من تلقاء الفجر فهي الصبا تقابل القبلة، فالعرب تسميها القبول، قال الشاعر : إذا قلت هذا حين أسلو يهيجنـي نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر وإذا أتت من قبل الشأم فهي شمال، قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشأم تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور وهي تقابل الجنوب، وكذلك قال امرؤ القيس: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمـأل وإذا جاءت من دبر البيت الحرام فهي الدبور، وهي تهب بشدة، والعرب تسميها محوة، عن أبي زيد، لأنها تمحو السحاب. ومحوة معرفة لا تنصرف، فأما الأصمعي فزعم أن محوة من أسماء الشمال. وأنشدا جميعاً: قد بكرت محوة بالعجاج فدمرت بقية الرجـاج الرجاج: حاشية الإبل وضعافها. وقال الأعشى: لها زجل كحفيف الحصـا د صادف بالليل ريحاً دبورا ولهذه الرياح أسماء كثيرة، وأحكام في العربية، لأن بعضهم يجعلها نعوتاً، وبعضهم يجعلها أسماء، وكذلك مصادرها تحتاج إلى الشرح والتفسير، ونحن ذاكرون ذلك في عقب هذا الباب، إن شاء الله. يقال: جنبت الريح جنوباً، وشملت شمولاً، ودبرت دبوراً، وصبت صبواً، وسمت سموماً، وحرت حروراً، مضمومات الأوائل. فإذا أردت الأسماء فتحت أوائلها، فقلت: جنوب، وشمول، وسموم، ودبور، وحرور. ولم يأت من المصادر شيء مفتوح الأول، إلا أشياء يسيرة، قالوا: توضأت وضوءاً حسناً، وتطهرت طهوراً، وأولعت بالشيء ولوعاً، وإن عليه لقبولا، ووقدت النار وقوداً، وأكثرهم يجعل الوقود الحطب، والوقود المصدر. ويقال: الشمال، على لغات ست، يقال: شمال، وشمأل، وشمال، وشمل وشمل، وشامل، غير مهموز. ويقال للشمال: الجربياء، قال ابن أحمر: بجو م قساً ذفر الخزامى تداعى الجربياء به الحنينا ويقال للجنوب: الأزيب. ويقال للصبا: القبول، وبعضهم يجعله للجنوب، وهو في الصبا أشهر، بل هو القول الصحيح. والإير، والهير، والأير، والهير، قال الشاعر: مطاعيم أيسار إلى الهير هبت فهذا يدل على أنه الصبا، وذاك أنهم إنما يتمدحون بالإطعام في المشتاة . وشدة الزمان، كما قال طرفة: نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتـفـر الجفلى: العامة، والنقرى: الخاصة، والآدب: صاحبة المأدبة. يقال: مأدبة ومأدبة للدعوة. وفي الحديث: " إن القرآن مأدبة الله ". قال أهل العلم: معناه مدعاة الله، وليس من الأدب. وأكثر المفسرين قالوا القول الأول، وكلاهما في العربية جائز ويدل على القول الأول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا الجفنة الغراء "، أي التي يجتمع الناس عليها ويدعون إليه، ويقال في الدعوة: أدبه يأدبه أدباً، إذا دعاه، قال الشاعر: وما أصبح الضحاك إلا كخالع عصانا فأرسلنا المنية تأدبـه وقولنا في الرياح: إنها تكو أسماء ونعوتاً نفسره إن شاء الله. يقول أكثر العرب: هذه ريح جنوب، وريح شمال، وريح دبور، فتجعل جنوباً، وشمالاً، ودبوراً، وسائر الرياح نعوتاً. قال الأعشى: لها زجل كحفيف الحصـا د صادف بالليل ريحاً دبورا وقال زهير: مكلل بأصول النبت تنسـجـه ريح شمال لضاحي مائه حبك وقال جرير: ريح خريق شمال أو يمانية فهذا يكون على النعت أجود، لأنه أوضحه بيمانية، ولا تكون اليمانية إلا نعتاً، لأنها منسوبة؛ فأما الخريق فهي الشديدة من كل ريح، قال حميد بن ثور: بمثوى حرام والمطي كأنه قناً مسند هبت لهن خريق والبليل: الباردة من كل ريح . وأصل ذلك الشمال. لجرير في بني مجاشع قل جرير يعير بني مجاشع لخذلانهم الزبير بن العوام، في كلمة يقول فيها: إني تذكرني الزبـير حـمـامة تدعو بأعلى الأيكـتـين هـديلا يا لهف نفسي إذ يغرك حبلـهـم هلا اتخذت على القيون كفـيلا قالت قريش ما أذل مجاشـعـاً جاراً وأكرم ذا القتيل قـتـيلا! أفبعد مترككم خلـيل مـحـمـد ترجو القيون مع الرسول سبيلا! أفتى الندى وفتى الطعان غررتم وأخا الشمال إذا تهـت بـلـيلا
ويرى أن أحيحة بن الجلاح الأنصاري - وكان يبخل - كان إذا هبت الصبا طلع من أطمه . فنظر إلى احية هبوبها. ثم يقول لها هبي هبوبك. فقد أعددت لك ثلثمائة وستين صاعاً من عجوة. أدفع إلى الوليد منها خمس تمرات، فيرد علي منها ثلاثاً، أي لصلابتها، بعد جهد ما يلوك منها اثنتين.
من أخبار لبيد بن ربيعة
وكان لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب شريفاً في الجاهلية والإسلام. قد نذر ألا تهب الصبا إلا نحر وأطعم حتى تنقضي. فهبت في الإسلام ، وهو بالكوفة مقتر مملق، فعلم بذلك الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف - وكان واليها لعثمان بن عفان، وكان أخاه لأمه. وأمهما أروى بنت كريز بن حبيب بن ربيعة بن شمس . وأم أروى البيضاء بنت عبد المطلب - فخطب الناس وقال: إنكم قد عرفتم نذر أبي عقيل، وما وكد على نفسه. فأعينوا أخاكم. ثم نزل فبعث إليه بمائة ناقة وبعث الناس، فقضى نذره. ففي ذلك تقول ابنة لبيد:
إذا هبت رياح أبي عقيل دعونا عند هبتها الوليدا
ومن جعل الشمال، والجنوب أسماء لم يصرفها إذا سمي بشيء منها رجل، لأنك إذا سميت رجلاً مذكراً باسم مؤنث على أربعة أحرف فصاعداً لا علامة للتأنيث فيه لم تصرفه في المعرفة، وصرفته في النكرة، نحو عناق، وأتان، وعقرب، وإن كان نعتاً انصرف. لأنك إذا سميت رجلاً مذكراً بنعت مؤنث لا علامة فيه صرفته. لأنه مذكر نعت به المؤنث. نحو حائض، وطالق، ومتئم، ومرضع.
وإذا ذكرنا من الباب شيئاً فما لم نذكره منه فعلى مجراه ومنهاجه. قال الشاعر. فجعل ما وصفنا أسماء:
حالت وحيل بها وغـير آيهـا طول البلى تجري به الريحان
ريح الشمال مع الجنوب وتارة رهم الربيع وصائب التهتـان
وقد أنشدوا بيت زهير:
ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
وقولنا: لا علامة فيه للتأنيث، لتعرف كيف حكم علامات التأنيث، لأن ذلك إنما يكون على ضربين: فما كانت فيه ألف التأنيث مقصورة أو ممدودة فغير منصرف في معرفة ولا نكرة لمذكر كان أو مؤنث. فالمقصور نحو حبلى، وسكرى، وما أشبه ذلك. والممدود نحو حمراء، وصفراء، وصحراء، وما أشبه ذلك.
فإن كانت مدودة لغير التأنيث انصرف إذا كان لمذكر في المعرفة والنكرة، زائداً كان أو أصلياً. فالأصلي نحو سقاء، وغذاء، وحذاء، ورداء - والزائدة، نحو علباء، وحرباء، وقوباء يا فتى. ومن قال: قوباء يا فتى - أنث ولم يصرف، لأن الأولى ملحقة، وهذه للتأنيث، فأما الألف المقصورة التي لغير التأنيث، فإن كانت أصلية انصرفت في المذكر. نحو ملهى، ومغزى، ومشترى.
وإن كانت زائدة لغير التأنيث انصرفت في النكرة، ولم تنصرف في المعرفة، نحو أرطى، وعلقى، فيمن جعل الواحدة علقاة.
وأما ما كانت فيه هاء التأنيث فهو منصرف في النكرة، وغير منصرف في المعرفة، لمذكر كان أو مؤنث، عربياً كان أو أعجمياً.
فهذه جملة هذا الباب، فأما قياسه وشرحه فقد أتينا عليه في الكتاب المقتضب.
ويقال في أكثر الكلام: هبت جنوباً، وهبت شمالاً، فيستغنى عن ذكر الريح، وهذا مما يؤكد أنها نعوت، لأن الحال إنما بابها أن تقع فيما يكون وصفاً قال جرير:
هبت شمالاً فذكر ما ذكرتكـم عند الصفاة إلى شرقي حورانا
وقال الآخر:
فأي حـي إذا هـبـت شـآمـية واستدفأ الكلب بالمأسور ذي الذئب
المأسور، يعني قتباً . وإنما الأسر الشد بالقد حتى يحكم، وإنما قيل الأسير من ذا، لأنه كان يشد بالقد، ثم قالت العرب لكل محكم شديد أسير قال الله تبارك وتعالى: " نحن خلقناهم وشددنا أسرهم " " الإنسان: 28 ".
وقوله: ذي الذئب. يعني الفضول التي وسعته وأسبغته. يقال: غبيط مذأب أي ذو ذئب، أي موسع، والغبيط: مركب من مراكب النساء.
لأوس بن حجر
قال أوس بن حجر: في شدة البرد وغلبة الشمال، يرثي فضالة بن كلدة الأسدي:
والحافظ الناس في قحوط إذا لم يرسلوا تحت عائذ ربعـا
وعزت الشمأل الرياح وقـد أمسى كميع الفتاة ملتفـعـا
وكانت الكاعب الممنعة الحس ناء في زاد أهلها سـبـعـا
تحوط، وقحوط، وكحل، وحجرة، أسماء للسنة المجدبة. والعائذ: الحديثة النتاج، فتنحر أولادها في السنة المجدبة إبقاء على ألبانها وشحومها. والربع الذي ينتج في الربيع، والهبع: الذي ينتج في الصيف. يقال: ما له هبع ولا ربع. وإنما سمي: هبعاً، لأن الربع أسن منه فيمشي مع أمهاته ، ولا يلحقهن الهبع إلا باجتهاد فيستعين بعنقه في المشي، يقال إذا فعل ذلك: هبع يهبع.
ويقال للريح الشمال: نسع، ومسع، قال الهذلي:
قد حال دون دريسـيه مـؤوبة نسع لها بعضاه الأرض تهزير
الدريسان: ثوبان خلقان. ومؤوبة، مفعلة، من التأويب، وهو سير النهار لا تعريج فيه. قال أبو عبيدة: هو سير النهار، والإسناد: سير الليل لا تغريس فيه، وأنشد لسلامة بن جندل:
يومان يوم مقامـات وأنـدية ويوم سير إلى الأعداء تأويب
وإنما يعني ريحاً. وقوله: نسع: أي شمال. والعضاه: شجر ضخام فبعض العرب يقول للواحدة: عضاهة، وللجميع: عضاة. على وزن دجاجة ودجاج، وبعضهم يقول للواحدة: عضة، فيقول في الجمع عضوات. وعضهات. فتكون من الواو ومن الهاء قال الشاعر:
هذا طريق يأزم المآزمـا وعضوات تقطع اللهازما
ونظير عضة، سنة؛ على أن الساقط الهاء في قول بعض العرب، والواو في قول بعضهم، تقول في جمعها سنوات. وسانيت الرجل. وبعضهم يقول: سهات. وأكريته مسانهة.
وهذا الحرف في القرآن يقرأ على ضروب. فمن قرأ: " لم يتسنه وانظر " فوصل بالهاء - هو مأخوذ من: سانهت، التي هي سنيهة. ومن جعله من الواو قال في الوصل: " لم يتسن وانظر " " البقرة: 259 ". فإذا وقف قال: لم يسنه فكانت الهاء زائدة لبيان الحركة. بمنزلة الهاء في قوله: " فبهداهم اقتده " " الأنعام: 90 ". و " كتابيه " " الحاقة: 19 " و " حسابية " " الحاقة: 20" والمعنى واحد. وتأويله: لم تغيره السنون. ومن لم يقصد إلى السنة، قال: لم يتأسن. والآسن: المتغير، قال الله جل وعز: " فيها أنهار من ماء غير ءاسن " " محمد: 15 "، ويقال: أسن في هذا المعنى، كما يقال: رجل حاذر وحذر.
ويقال للريح الجنوب: النعامى. قال أبو ذؤيب.
مرته النعامى فلـم يعـتـرف خلاف النعامى من الشأم ريحا
ومعنى مرته استرته. وفي الحديث: " ما هبت الريح الجنوب إلا أسال الله بها وادياً ".
وقال رجل يمدح رجلاً:
فتى خلقت أخلاقه مطمئنة له نفحات ريحهن جنوب
يريد أن الجنوب تأتي بالمطر والندى.
والعرب تكره الدبور، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ".
وقلما يكون بالدبور المطر، لأنها تجفل السحاب، ويكون فيها الرهج والغبرة.
ولا تهب إلا أقل ذاك بشدة، فتكاد تقلع البيوت وتأتي على الزروع.
لرجل في الهداء
وقال رجل يهجو رجلاً:
لو كنت ريحاً كانت الدبـورا أو كنت غيماً لم تكن مطيرا
أو كنت ماء لم تكن طهـوراً أو كنت مخاً كـنـت ريرا
أو كنت برداً كنت زمهريرا
الرير: المخ الرقيق، يقال: مخ رير ورار، في معنى واحد، وقال السليك:
يصيدك قافلاً والمخ رار
وقال آخر:
لو كنت ماء لم تكـن بـعـذب أو كنت سيفاً كنت غير عضب
أو كنت لحماً كنت لحم كلـب أو كنت عيراً كنت غير نـدب
للسليك يرثي فرسه
فأما قول السليك فإنه يرثي فرسه، وكان يقال له النحام، فقال:
كأن قـوائم الـنـحـام لـمـا تحمل صحبتي أصلاً مـحـار
على قرمـاء عـالـية شـواه كأن بياض غرتـه خـمـار
وما يدريك ما فـقـري إلـيه إذا ما القوم ولـوا أو أغـاروا
ويحضر فوق جهد الحضر نصاً يصيدك قافـلاً والـمـخ رار
قوله:
كأن قوائم النحام محار
المحارة: الصدفة، يريد الملاسة، وأنه قد ارتفعت قوائمه للموت. والأصل: جمع أصيل، والأصيل، والأصيل العشي، يقال: أصيل وأصل، مثل قضيب وقضب، وجمع أصل آصال، وهو جمع الجمع، وتقديره: عنق وأعناق، وطنب وأطناب. ويقال في جمع أصيلة أصائل، مثل خليفة وخلائف، قال الأعشى:
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
وقال أبو ذؤيب:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصـائل وقرماء، ممدودة: اسم موضع. وشواه: قوائمه. وقد فسرناه قبل هذا. وقوله: ولوا أو أغاروا إذا طلبوا أو هربوا. وقوله: يصيدك أي يصيد لك، يقال: صدتك ظبياً، قال الله عز وجل: " وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " " المطففين: 3 " أي كالوا لهم، أو وزنوا لهم، يقال: كلتك ووزنتك، لأنه قد قال تعالى أولاً: " إذا اكتالوا على الناس يستوفون " " المطففين: 3 ". فأما ما جاء في الحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الهبوب: " اللهم اجعلها رياحاً ولاتجعلها ريحاً "، فإن العرب تقول: لا تلقح السحاب إلا من رياح. وتصديق ذلك قول الله عز وجل: " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً " " الروم: 48 " وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا هبت بحرية ثم تذاءبت " قال الشاعر: تسح إذا تذاءبت الرياح يقول: إذا تقابلت ، يقال: تذاءبت الرياح، وتناوحت، أي تقابلت، وتناوح الشجر، إذا قابل بعضه بعضاً، وإنما سميت النائحة نائحة، لأنها تقابل صاحبتها. فإذا خلصت الريح عندهم دبوراً فهي من جنس البوار، وإذا خلصت شمالاً شتوية فهي من آيات الجدب، ومن ثم تقول العرب: فلا يطعم في الشمال، كما تقول: يطعم في المحل. قال أوس بن حجر: وعزت الشمأل الرياح أي غلبتها، فكانت أقوى منها، فلم تدع لها موضعاً وقوله: " وعزني في الخطاب " " ص: 23 " أي غلبني في المخاطبة والخصومة، ومن أمثال العرب: من عز بر وتأويله: من غلب استلب ، قالت الخنساء: كأن لم يكونوا حمى يتقـى إذا الناس إذ ذاك م عز بزا بين غنوي وفزاري قال أبو العباس: وحدثني عمرو بن بحر الجاحظ قال: رأيت رجلاً من غنى يفاخر رجلاً نم بني فزارة، ثم أحد بني بدر بن عمرو، وكان الغنوي متمكناً من لسانه؛ وكان الفزاري بكيئاً فقال الغنوي: ماؤنا من بين الرقم إلى كذا، وهم جيراننا فيه، فنحن أقصر منهم رشاء، وأعذب منهم ماء، لنا ريف السهور ومعاقل الجبال. وأرضهم سبخة، ومياههم أملاح، وأرشيتهم طوال، والعرب من عز بز، فبعزنا ما تخيرنا عليهم، وبذلهم ما رضوا منا بالضيم. وقوله: كان الفزاري بكيئاً يقول: غير قادر على الكلام، وأصل ذلك في الحلب، يقال ناقة غزيرة وناقة بكيء، وهي ضد الغزيرة، أي قليلة اللبن، ودهين وصمرد، في معنى، يقال: بكأت الشاة والناقة، وبكؤت، قال الشاعر: فإذا ما حاردت أو بـكـؤت فض عن خاتم أخرى طينها وقال سلامة بن جندل: يقول محبسها أدنى لمرتعهـا ولو تداعى ببكء كل محلوب يقول: إن نحبس الإبل على ضر ونقاتل عنها فهو أدنى بأن تعز فترتع فيما تستقبل، وإن ذهبت ألبانها، لأنا إن أطردناها وهربنا طمع فينا واستذللنا، ويقال في الكلام: رجل عيي بكي. قال أبو العباس: وهذا لغنوي: إذا قابل بقبيلته آل بدر فقد أعظم الفرية، وبلغ في البهت، وأشمت العدو بجمهور قيس، وصار بهم إلى قول الأخطل: وقد سرني من قيس عيلان أننـي رأيت بني العجلان سادوا بني بدر وكان زياد يقول - وهو الغاية في السياسة - أوصيكم بثلاثة: العالم والشريف، والشيخ، فوالله لا أوتى بوضيع سب شريفاً، أو شاب وثب بشيخ، أو جاهل امتهن عالماً إلا عاقبت وبالغت. لعمارة بن عقيل يهجو بني أسد وقال عمارة لبني أسد بن خزيمة: يا أيها السائلي عمداً لأخـبـره بذات نفسي وأيدي الله فوق يدي إن تستقم أسد ترشد وإن شغبـت فلا يلـم لائم إلا بـنـي أسـد إني رأيتكم يعصى كـبـيركـم وتكنعون إلى ذي الفجرة النكد فباعد الله كل البـعـد داركـم ولا شفاكم من الأضغان والحسد فرأى عصيانهم الكبير من إقبح العيب، وأدله على ضغن بعضهم لبعض، وحسد بعضهم بعضاً، والوضيع ينقلب إلى الشريف، لأنه يرى مقاولته فخراً، والاجتراء عليه ربحاً، كما أن مقاولة الشريف للئيم ذل وضعة. قال الشاعر: إذا أنت قاولـت الـلـئيم فـإنـمـا يكون عليك الفضل حين تقـاولـه ولست كمي يرضى بما غيره الرضا ويمسح رأس الذئب والذئب آكـلـه وسنشبع هذا المعنى إن شاء الله. وفي هذا الشعر بيت يقدم في باب الفتك، وهو:
فلا تقربن أمر الصريمة بـامـرئ إذا رام أمراً عوقـتـه عـواذلـه وقل للفؤاد إن تـرى بـك نـزوة من الروع أفرخ أكثر الروع باطله الصريمة: العزيمة. وقد امتنع قوم من الجواب تنبلاً، ومواضعهم تنبئ عن ذلك، وامتنع قوم عياً بلا اعتلال، وامتنع قوم عجزاً ، واعتلوا بكرهة السفه، وبعضهم معتل برفعة نفسه عن خصمه، وبعضهم كان يسبه الرجل الركيك من العشيرة فيعرض عنه ويسب سيد قومه، وكانت الجاهلية ربما فعلته تقى الذحول ، قال الراجز: إن بجيلاً كلما هـجـانـي ملت على الأغطش أو أبان أو طلحة الخير فتى الفتيان أولاك قوم شأنهم كشانـي ما بلت من أعراضهم كفاني وإن سكت عرفوا إحساني وقال أحد المحدثين: إني إذا هو كلب الحي قلت لـه إسلم، وربك مخنوق على الجرر قوله: إسلم فاستأنف بألف الوصل، لأن النصف الأول موقوف عليه. قال الشاعر: ولا يبادر في الشتاء وليدنا القدر ينزلها بغير جعال الجعال: الذي تنزل به البرمة، وربما توقيت به حرارتها. قال الراجز: لا نسب الـيوم ولا خـلة إتسع الخرق على الراقع وهذا كثير غير معيب. وفي مثل اختيار النبيل لتكافؤ الأغراض قول الأخطل: شفى النفس قتلى من سليم وعامر ولم يشفها قتلى غني ولا جسـر ولا جشم شر الـقـبـائل إنـهـا كبيض القطا ليسوا بسود ولا حمر ولو ببني ذبيان بلـت رمـاحـنـا لقرت بهم عيني وباء بهم وتـري وقال رجل من المحدثين، وهو حمدان بن بان اللاحقي: أليس من الكبائر أن وغـداً لآل معذل يهجو سـدوسـا هجا عرضاً لهم غضاً جديداً وأهدف عرض والده اللبيسا وقال آخر: اللؤم أكرم من وبـر ووالـده واللؤم أكرم من وبر وما ولدا قوم إذا جر جاني قومهم أمنوا من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا اللؤم داء لوبر يقتـلـون بـه لا يقتلون بـداء غـيره أبـدا وقال رجل من المحدثين : أما الهجاء فدق عرضك دونـه والمدح عنك كما علمت جليل فاذهب فأنت طليق عرضك إنه عرض عززت به وأنت ذليل وقال آخر: نبئت كلباً هاب رمـيي لـه ينبحني من موضـع نـائي لو كنت من شيء هجوناك أو لو بنت للسامـع والـرائي فعد عن شتمي فإني امـرؤ حلمـنـي قـلة أكـفـائي وقال آخر : فلو أني بليت بهـاشـمـي خؤولته بنو عبد الـمـدان صبرت على عداوته ولكن تعالي فانظري بمن ابتلاني من أخبار ذوي الحلم ووقف رجل عليه مقطعات على الأحنف بن قيس يسبه - وكان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفه الأحنف - فجعل لا يألوا أن يسبه سباً يغضب، والأحنف مطرق لا يكلمه ، فلما رآه لا يكلمه أقبل الرجل يعض إبهامه ، ويقول: يا سوأتاه! والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه!. وفعل ذلك آخر، فأمسك عنه الأحنف، فأكثر الرجل، إلى أن أراد الأحنف القيام للغداء؛ فأقبل على الرجل، فقال له: يا هذا! إن غداءنا قد حضر، فانهض بنا إليه إن شئت، فإنك مذ اليوم تحدر بجمل ثفال. والثفال من الإبل: البطيء الثقي الذي لا يكاد ينبعث. وعدت على الأحنف سقطة في هذا الباب، وهو أن عمرو بن الأهم دس عليه رجلاً ليسفهه. فقال له: يا أبا بحر ، ما كان أبوك في قومه? قال: كان من أوسطهم، لم يسدهم، ولم يتخلف عنهم، فرجع إليه ثانية، ففطن الأحنف أنه من قبل عمرو، فقال: ما كان مال أبيك? فقال: كانت له صرم يمنح منها ويقري، ولم يك أهتم سلاحاً . وجعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه - ولم تكن في موضع مرضي إنما كانت من عنزة، ثم من بني جلان - فأتاه الرجل، وهو بمصر أميراً عليهم، فقال: أردت أن أعرف أم الأمير. فقال: نعم، كان امرأة ، من عنزة، ثم من بني جلان، تسمى ليلى، وتلقت النابغة، إذهب فخذ ما جعل لك.
وقال له مرة المنذر بن الجارود: أي رجل أنت لولا أمك! قال: فإني أحمد الله إليك، إني فكرت فيها البارحة، فأقبلت أنقلها في قبائل العرب، فما خطرت لي عبد القيس ببال . ودخل عمرو مكة فرأى قوماً من قريش قد جلسوا حلقة، فلما رأوه رموه بأبصارهم، فعدل إليهم فقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري! قالوا: أجل، كنا نمثل بينك وبين أخيك هشام أيكما أفضل? فقال عمرو: إن لهشام علي أربعة: أمه ابنة هشام بن الغميرة، وأمي من قد عرفتم، وكان أحب إلى أبيه مني، وقد عرفتم معرفة الوالد بالولد، وأسلم قبلي واستشهد وبقيت. قال أبو العباس: وقد أكثر الناس في الباب الذي ذكرناه، وإنما نذكر من الشيء وجوهه ونوادره. قال رجل لرجل من آل الزبير كلاماً أقذع له فيه، فأعرض الزبيري عنه، ثم دار كلام فسب الزبيري علي بن الحسين، فأعرض عنه، فقال له الرجل الزبيري: ما يمنعك من جوابي? فقال علي: ما منعك من جواب الرجل!. وقد روي قول القائل: لو قلت واحدة لسمعت عشراً، فقال له: ولكنك لو عقلت عشراً ما سمعت واحدة. وقال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني فأجوز ثم أقول لا يعنيني وقال رجل لرجل - وسبه فلم يلتفت إليه: إياك أعني، فقال له الرجل: وعنك أعرض. فأما قول الشعبي للرجل ما قال فمن غير هذا الباب، وإنما مخرجه الديانة، وذاك أن رجلاً سب الشعبي بأمور قبيحة نسبه إليها، فقال له الشعبي: إن كنت كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقاً فغفر الله لي. وقال أبو العباس: قال رجل لأبي بكر الصديق رحمه الله: لأسبنك سباً يدخل معك قبرك، فقال: معك والله يدخل لا معي. ويحدث ابن عائشة عن أبيه: أن رجلاً من أهل الشأم دخل المدينة، فقال: رأيت رجلاً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا أحسن لباساً ولا أفره مركباً منه، فسألت عنه، فقيل لي: الحسن بن علي بن أبي طالب، فقال: أنا ابن ابنه، فقلت له: فيك وبك وبأبيك، أسبهما. فقال: أحسبك غريباً! قلت: أجل. فقال: إن لنا منزلاً واسعاً ومعونة على الحاجة ومالا نواسي منه. فانطلقت وما أجد على وجه الأرض أحب إلي منه . قال أبو العباس: ويتصل بهذا الباب ذكر من رغب برجل عن إرث رجل لا يشاكله، وولاية رجل لا يشابهه. قال الشاعر : بكت دار بشر شجوها أن تبـدلـت هلال بن قعقاع ببشر بن غـالـب وما هي إلا كالعروس تنـقـلـت على رغمها من هاشم في محارب للفرزدق حين ولي ابن هبيرة العراق وقال الفرزدق حين ولي العراق عمر بن هبيرة الغزاري بعقب مسلمة بن عبد الملك : راحت بمسـلـمة الـبـغـال عـشـية فارعي فزارة لا هنـاك الـمـرتـع! ولقـد عـلـمـت إذا فـزارة أمـرت أن سوف يطمع في الإمـارة أشـجـع فأرى الأمور تـنـكـرت أعـلامـهـا حتـى أمـية عـن عـزارة تـنـزع عزل ابن بشر وابن بشر وابن عمرو قبله وأخو هـراة لـمـثـلـهـا يتـوقـع فلما ولي خالد بن عبد الله القسري على عمر بن هبيرة. قال رجل من بني أسد يجيب الفرزدق: عجب الفرزدق من فزارة أن رأى عنها أمية بالمشارق تنزع فلقد رأى عجباً وأحدث بعده أمـر تـضـج لـه الـقـــلـــوب وتـــفـــرع بكـت الـمـنـابـر مـن فـزارة شـــجـــوهـــا فالـيوم مـن قــســـر تـــذوب وتـــجـــزع ومـلـوك خـنـدف أسـلـمـونـا لـــلـــعـــدى للـه در مـلـوكـنـــا مـــا تـــصـــنـــع! كانـوا كـتـاركة بــنـــيهـــا جـــانـــبـــاً سفـهـا وغـيرهـم تـــصـــون وتـــرضـــع الفرزدق أيضاً في هجاء عمرو بن هبيرة قال أبو العباس: وكان الفرزدق هجاء لعمر بن هبيرة عند ولايته العراق. وفي ذلك يقول ليزيد بن عبد الملك: أمير المؤمنين وأنـت بـر أمين لست بالطبع الحريص أأطعمت العرقـا ورافـديه فزارياً أحذ يد القـمـيص تفهق بالعراق أبو المثـنـى وعلم قومه أكل الخبـيص ولم يكن قبلها راعي مخاض ليأمنه على وركي قلوص
قوله: لست بالطبع الحريص. فالطبع: الشديد الطمع الذي لا يفهم لشدة طمعه. وإنما أخذ هذا من طبع السيف، يقال: طبع السيف. يا فتى! وهو سيف طبع، إذا ركبه الصدأ حتى يغطي عليه. والمثل من هذا في الذي طبع على قلبه وإنما هو تغطية وحجاب. يقال: طبع الله على قلب فلان. كما قال جل وعز: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " هذا الوقف. ثم قال: " وعلى أبصارهم غشاوة " " البقرة: 7 " وكذلك: رين على قلبه. وغين على قلبه؛ فالرين يكون من أشياء تألف عليه فتغطيه. قال الله جل وعز: " كلا بل ران قلوبهم ما كانوا يكسبون " "المطففين: 14 ". وأما غين على قلبه. فهي غشاوة تعتريه، والغينة: القطعة من الشجر الملتف تغطي ما تحتها، قال الشاعر: كأنـــــــــــــــي بـــــــــــــــين خـــــــــــــــافـــــــــــــــيتـــــــــــــــي عــــــــــــــــقـــــــــــــــــــــــــــــــاب أصـــــــــــــــاب حـــــــــــــــمـــــــــــــــــــــــــــامة فـــــــــــــــــــــــــــــــي يوم غـــــــــــــــــــــــــــــــين وقال بعضهم: أراد في التفاف من الظلمة. وقال آخرون: أراد في يوم غيم، فأبدل من الميم نوناً، لاجتماع الميم والنون في الغنة. كما يقال للحية: أيم، وأين، واستجازت الشعراء أن تجمع الميم والنون في القوافي، لما ذكرت لك من اجتماعهما في الغنة. قال الراجز: بني إن البر شيء هين ألـــــــمــــــــــنـــــــــــــــطـــــــــــــــق الـــــــــــــــلـــــــــــــــين والـــــــــــــــطـــــــــــــــعـــــــــــــــيم وقال آخر : ما تنقم الحرب العوان مني بازل عامين حديث سنـي لمثل هذا ولدتني أمـي والعراقان: البصرة والكوفة. والرافدان: دجلة والفرات. وقوله: أحذ يد القميص، الأحد: الخفيف. قال طرقة: وأتلع نهاض أحد ململم وإنما نسبه بالخفة في يده إلى السرقة . وقوله: تفهق أي امتلأ مالاً . يقال: بئر تفهق وغدير يفهق إذا امتلأ ماء. قال الراجز: لا ذنب لي قد قلت للقوم استقوا والقوم في عرض غدير يفهق وقال الأعشى فيمدحه المحلق بن حنتم. أحد بني أبي بكر بن كلاب: نفى الذم عن رهط المحلق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهـق هكذا في رواية أبي عبيدة. وقوله: ولم يك قبلها راعي مخاض ليأمنه على وركي قلوص كانت بنو فزارة ترمى بغشيان الإبل. ولذلك قال ابن دارة: لا تأمنن فزاريا خلوت بـه على قلوصك واكتبها بأسيار للفرزدق أيضاً في حبس عمر بن هبيرة فلما عزل ابن هبيرة وحبسه خالد بن عبد الله القسري. قال الفرزدق: لعمري لئن نابت فـزارة نـوبة لمن حدث الأيام تحسبها قـسـر لقد حبس القسري في سجن واسط فتى شيظميا ما ينهنهه الـزجـر فتى لم ترببه النصارى لـم يكـن غذاء له لحم الخنازير والخمـر قوله: فتى شيظيماً ، الشيظمي: الطويل. قال ذو الرمة. إذا ما رمينا رمية في مفازة عراقيبها بالشيظمي المواشك يريد حادياً يسوقها. وقوله: ما ينهنهه الزجر. يقول: ما يحركه. وقوله: فتى لم ترببه النصارى ينبه به على أم خالد، وكانت نصرانية رومية، وكان أبوه استلبها في يوم عيد للروم، فأولادها خالداً وأسداً. ولذلك يقول الفرزدق: ألا قطع الرحمن ظهر مطية أتتنا تهادى من دمشق بخالـد وكيف يؤم الناس من كانت أمه تدين بأن الله ليس بـواحـد! بنى بيعة فيها النصارى لأمـه ويهدم من كفر منار المساجد وقال: عليك أمير المؤمنـين بـخـالـد وأصحابه لا طهر اللـه خـالـدا بنى بيعة فيها الصـلـيب لأمـه ويهدم من بغض الصلاة المساجدا وكان سبب هدم خالد منار المساجد حتى حطها عن دور الناس أنه بلغه شعر لرجل من الموالي، موالي الأنصار، وهو: ليتني في المؤذنـين حـياتـي إنهم يبصرون من في السطوح فيشيرون أو تـشـير إلـيهـم بالهوى كـل ذات دل مـلـيح فحطها عن دور الناس. ويروى عنه فيما روي من عتوه أنه استعفي من بيعة بناها لأمه. فقال لملأ من المسلمين: قبح الله دينهم، إن كان شراً من دينكم! الفرزدق عند هروب ابن هبيرة من سجنه وقال الفرزدق لابن هبيرة حين نقب له السجن وهرب، فسار تحت الأرض هو وابنه حتى نفذا : لما رأيت الأرض قد سد ظهرها ولم يبق إلا بطنها لك مخرجـا
دعوت الذي ناداه يونـس بـعـد مـا ثوى في ثلاث مظلمات فـفـرجـا
فأصبحت تحت الأرض قد سرت سيرة وما سار سار مثلهـا حـين أدلـجـا
خرجت ولم يمنـن عـلـيك طـلاقة سوى ربد التقريب من نسل أعـوجـا
فقال ابن هبيرة: ما رأيت أشرف من الفرزدق! هجاني أميراً، ومدحني أسيراً.
قوله: حيث أدلجا. تقول: أدلجت، إذا سرت في أول الليل. وادلجت، إذا سرت من آخره في السحر. قال زهير.
بكرن بكوراً وادلجن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم
وأعوج: فرس كان لغني، وقالوا، كان لبني كلاب. ولا ينكر هذا، لأن خبيبة بنت رياح الغنوية، ولدت بني جعفر بن كلاب. فلعله أن يكون صار إلى بني جعفر بن كلاب من غني.
والعرب تنسب الخيل الجياد إلى أعوج، وإلى الوجيه، ولاحق، والغراب، واليحموم، وما أشبه هذه الخيل من المتقدمات. قال زيد الخيل:
جلبنا الخيل من أجإ وسلمى تخب نزائعاً خبب الذئاب
جلبنا كل طف أعـوجـي وسلهبة كخافية العقـاب
ثم نرجع إلى التشبيه المصيب؛ قال امرؤ القيس في طول الليل:
كأن الثرا علقت في مصامها بأمراس كتان إلى صم جندل
فهذا في ثبات الليل وإقامته. والمصام: المقام. وقيل للممسك عن الطعام: صائم، لثباته على ذلك، ويقال: صام النهار: إذا قامت الشمس. قال امرؤ القيس:
فدعها وسل الهم عنك بجسرة، ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صـائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
والأمراس: جمع مرس، وهو الحبل. قال أبو زبيد يرثي غلامه ويذكر تعرضه للحرب :
إما تقارن بك الرماح فلا أبكيك إلا للدلو والمرس
وقال في ثبات الليل:
فيا لك من ليل كأن نجومـه بكل مغار الفتل شدت بيذبل
المغار: الشديد الفتل. يقال: أغرت الحبل: إذا شددت فتله. ويذبل: جبل بعينه.
وقال أيضاً:
كأن أباناً في أفانين ودقـه كبير أناس في بجاد مزمل
أبان جبل. وهما أبانان: أبان الأسود، وأبان الأبيض. قال المهلهل - وكان نزل في آخر حربهم، حرب البسوس، في جنب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذحج. وجنب حي من أحيائهم وضيع - فخطبت ابنته ومهرت أدما. فلم يقدر على الامتناع، فزوجها، وقال:
أنكحها فقدها الأراقم فـي جنب وكان الحباء من أدم
لو بأبانين جاء يخطـبـهـا ضرج من أنف خاطب بدم
وقوله: في أفانين ودقه يريد ضروباً من ودقه. والودق: المطر. قال الله تبارك وتعالى: " فترى الودق يخرج من خلاله " " النور: 43 ".
وقال عامر بن جوين الطائي:
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
وقوله:
كبير أناس في بجاز مزمل
يريد مزملاً بثيابه. قال الله تبارك وتعالى: " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا " " المزمل: 1-2". وهو المتزمل بثيابه . والتاء مدغمة في الزاي. وإنما وصف امرؤ القيس الغيث. فقال قوم: أراد أن المطر قد خنق الجبل فصار له كاللباس على الشيخ المتزمل.
وقال آخرون: إنما أراد ما كساه المطر من خضرة النبت. وكلاهما حسن. وذكر الودق لأن تلك الخضرة من عمله.
وقال الراجز يصف غيماً:
أقبل في المستن من ربابه أسنمة الآمال في سحابه
أراد أن ذلك السحاب، ينبت ما تأكله الإبل، فتصير شحومها في أسنمتها.
والرباب سحاب دوين المعظم من السحاب، قال المازني :
كأن الرباب دوين السحاب نعام يعلـق بـالأرجـل
وقوله جل وعز: " إني أراني أعصر خمراً " " يوسف: 36 ". أي أعصر عنباً فيصير إلى هذه الحال.
وقال زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطـم
الفنا: شجر بعينه، يثمر ثمراً أحمر ثم يتفرق في هيئة النبق الصغار، فهذا من أحسن التشبيه. وإنما وصف ما يسقط من أنماطهن إذا نزلن.
والعهن: الصوف الملون في قول أكثر أهل اللغة. وأما الأصمعي فقال: كل صوف عهن. وكذلك قال أهل اللغة: الحنتم الخزف الأخضر. وقال الأصمعي: كل خزف حنتم. قال القرشي :
من مبلغ الحسناء أن حليلـهـا بميسان يسقى في زجاج وحنتم
وقال جرير:
ما في مقام ديار تغلب مسجد وبها كنائس حنتـم ودنـان
والتشبيه جار كثيراً في كلام العرب، حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم، لم يبعد.
قال الله عز وجل وله المثل الأعلى: " الزجاجة كأنها كوكب دري " " النور: 35 ". وقال: " طلعها كأنه رءوس الشياطين " " الصافات: 65 ". وقد اعترض معترض من الجهالة الملحدين، في هذه الآية. فقال: إنما يمثل الغائب بالحاضر، ورؤوس الشياطين لم نرها، فكيف يقع التمثيل بها! وهؤلاء في هذا القول كما قال الله جل وعز: " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله" " يونس: 39 ". وهذه الآية قد جاء تفسيرها على ضربين : أحدهما، أن شجراً يقال له الأستن ، منكر الصورة يقال لثمره: رؤوس الشياطين، وهو الذي ذكره النابغة في قوله:
تحيد عن أستن سود أسافله
وزعم الأصمعي أن هذا الشجر يسمى الصوم.
والقولم الآخر - وهو الذي يسبق إلى القلب - أن الله جل ذكره شنع صورة الشياطين في قلوب العباد. فكان ذلك أبلغ من المعاينة، ثم مثل هذه الشجرة مما تنفر منه كل نفس.
حديث أبي النجم العجلي مع هشام بن عبد الملك
قال أبو العباس: وحدثت في إسناد متصل أن أبا النجم العجلي أنشد هشاماً :
والشمس قد صارت كعين الأحول
لما ذهب به الروي عن الفكر في عين هشام، فأغضبه، فأمر بطرده، فطرد . فأمل أبو النجم رجعته. فكان يأوي المسجد ، فأرق هشام ذات ليلة، فقال لحاجبه: ابغني رجلاً عربياً فصيحاً يحادثني وينشدني. فطلب له ما طلب، فوقف على أبي النجم، فأتى. فلما دخل به إليه قال: أين تكون منذ أقصيناك? قال: بحيث ألفتني رسلك. قال: فمن كان أبا مثواك? قال: رجلين. كلبياً وتغلبياً. أتغدى عند أحدهما، وأتعشى عند الآخر، فقال له: مالك من الولد? قال: ابنتان. قال: أزوجتهما? قال: زوجت إحداهما. قال: فيم أوصيتها? قال قلت لها ليلة أهديتها:
سبي الحماة وابهتي علـيهـا وإن أبت فازدلفي إلـيهـا
ثم اقترعي بالود مرفقـيهـا وجددي الحلف به علـيهـا
لا تخبري الدهر بذاك ابنيها
قال: أفأوصيتها بغير هذا? قال: نعم، قالت:
أوصيت من برة قلباً حمرا بالكلب خيراً والحماة شرا
لا تسأمي نهكاً لها وضرا والحي عميهم بشر طرا
وإن كسوك ذهـبـاً ودرا حتى يروا حلو الحياة مرا
قال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب، ولا بنتي كولده، قال: فما حال الأخرى? قال: قد درجت بين بيوت الحي، وتنفعنا في الرسالة والحاجة، قال: فما قلت فيها? قال: قلت:
كأن ظـلامة أخـت شـيبـان يتـيمة ووالـداهـا حــيان
الرأس قمل كلـه وصـئبـان وليس في الرجلين إلا خيطان
فهي التي يذعر منها الشيطان
قال: فقال هشام: يا غلام ، ما فعلت بالدنانير المختومة التي أمرتك بقبضها? قال: ها هي عندي، ووزنها خمسمائة، قال: فادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين، أفلا تراه قال:
فهث التي يذعر منها الشيطان
وإن لم يره، لما قرر فيالقلوب من نكارته وشناعته! وقال آخر:
وفي البقل إن لم يدفع اللـه شـره شياطين يعدو بعضهن على بعض
وزعم أهل اللغة أن كل متمرد من جن أو إنس أو سبع أو حية يقال له شيطان، وأن قولهم: تشيطن إنما معناه تخبث وتنكر، وقد قال الله جل وعز: " شياطين الإنس والجن " " الأنعام: 112 " قال الراجز:
أبصرتها تلتهم الثعبانـا شيطانة تزوجت شيطانا
وقال امرؤ القيس:
أتوعدني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال!
والغول: لم يخبر صادق قط أنه رآها.
ثم نرجع إلى تفسير شعر أبي النجم .
قوله:
سبي الحماة وابهتي عليها
إنما يريد: ابهتيها، فوضع ابهتي في موضع اكذبي فمن ثم وصلها بعلى.
والذي يستعمل في صلة الفعل اللام، لأنها لام الإضافة، تقول: لزيد ضربت ولعمرو أكرمت والمعنى: عمراً أكرمت، وإنما تقديره: إكرامي لعمرو، وضربي لزيد، فأجرى الفعل مجرى المصدر، وأحسن ما يكون ذلك إذا تقدم المفعول، لأن الفعل إنما يجيء وقد عملت اللام. كما قال الله جل وعز: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " " يوسف: 43 "، وإن أخر المفعول فهو عربي حسن، والقرآن محيط بجميع اللغات الفصيحة، قال الله جل وعز: " وأمرت لأن أكون أو المسلمين " " الزمر: 12 " والنحويون يقولون في قوله جل ثناؤه: " قل عسى أن يكون ردف لكم " " النمل: 72 ": إنما هو: ردفكم. وقال كثير: أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل وحروف الخفض يبدل بعضها من بعض، إذا وقع الحرفان في معنى في بعض المواضع، قال الله جل ذكره: " ولأصلبنكم في جذوع النخل " " طه: 71 "، أي على ولكن الجذوع إذا أحاطت دخلت في، لأنها للوعاء، يقال: فلان في النخل. أي قد أحاط به. قال الشاعر : هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعـا وقال الله جل وعز: " أم لهم سلم يستمعون فيه " " الطور: 38 " أي عليه. وقال تبارك وتعالى: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " " الرعد: 11 " أي بأمر الله. وقال ابن الطثرية: غدت من عليه تنفض الطل بعدمـا رأت حاجب الشمس استوى فترفعا وقال الآخر: غدت من عليه بعدما تم خمسهـا تصل وعن قيض بزيزاء مجهل أي من عنده. وقال العامري : إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها وهذا كثير جداً. وقوله: وإن أبت فازدلفي إليها يقول: تقربي، ومن ذا سميت المزدلفة، قال العجاج: ناج طواه الأين مما وجـفـا طي الليالي زلفاً فـزلـفـا سماوة الهلال حتى احقوقفا يقال : زلفة وزلف، كقولك: غرفة وغرف. وقوله: بالكلب خيراً والحماة شرا كلام معيب عند النحويين، وبعضهم لا يجيزه، وذلك لأنه عطف على عاملين: على الباء وعلى الفعل. ومن قال هذا قال: ضربت زيداً في الدار، والحجرة عمراً. قال أبو العباس: وكان أبو الحسن الأخفش يراه ويقرأ: " واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات " " الجاثية: 5 " فعطف على إن وعلى في. وقال عدي بن زيد: أكل امرئ تحسبين أمرأ ونار توقد بالليل نـارا فعطف على كل وعلى الفعل. وأما قوله: غدت من عليه بعد ما تم خمسها فالخمس: ظمء من أظمائها، وهو أن ترد ثم تغب ثلاثاً، ثم ترد، فيبتدأ بيومي وردها مع ظمئها، فيقال: خمس، والربع كحمى الربع. وقوله: تصل أي تسمع لأجوافها صليلاً من يبس العطش، يقال: المسمار يصل في الباب، إذا أكره فيه، قال جرير يخاطب الزبير بمرثيته في هجائه الفرزدق: لو كنت حين غررت بين بيوتنا لسمعت من وقع الحديد صليلا ويقال للحمار: المصلصل، إذا أخرج صوته من جوفه حاداً خفياً. قال الأعشى: عنتريس تعدو إذا حرك السو ط كعدو المصلصل الجوال وقال المفسرون في قوله عز وجل: " من صلصال من حمأ مسنون " " الحجر: 26 "، قالوا : هو الطين الذي قد جف، فإذا قرعه شيء كان له صليل. وتفسير ذلك عند العرب التقن الذي يذهب عنه الماء في الغدران فيتشقق ثم ييبس. والقيض: قشر البيضة الأعلى؛ والذي يلبس البيضة فيكون ما بينها وبين قشرها الأعلى، يقال له: الغرقئ، يقال: ثوب كأنه غرقئ البيض . والزيزاء: ما ارتفع من الأرض، وهو ممدود منصرف في المعرفة والنكرة، إذا كان لمذكر، كالعلباء والحرباء، وسنذكر هذا في غير هذا الموضع مفسراً، على أنا قد استقصيناه في الكتاب المقتضب. والمجهل: الصحراء التي يجهل فيها، فلا يهتدى لسبيلها. ويقال للشيء إذا غب وتغيرت رائحته، صل واصل، فهو صال ومصل، ويقال: نتن وأنتن. ويقال: خم وأخم، وذاك إذا كان مستوراً حتى يفسد. ويقال إذا عتق اللحم فتغير: خنز وخزن، وبيت طرفة أحسن ما ينشد: ثم لا يخنز فينا لحمها إنما يخنز لحم المدخر
ويقال لرب البيت وربة البيت اللذين ينزل بهما الضيف: هي أم مثواه، وهو أبو مثواه، وأنشد أبو عبيدة:
من أم مثوى كريم قد نزلت بها إن الكريم على علاته يسـع
وفي كتاب الله جل وعز: " أكرمي مثواه " " يوسف: 21 "، معناه عند العرب إضافته.
ومن التشبيه المطرد على ألسنة العرب ما ذكروا في سير الناقة وحركة قوائمها، قال الراجز:
كأنها لـيلة غـب الأزرق وقد مددنا باعها للـسـوق
خرقاء بين السلمين ترتقي
قوله: ليلة غب الأزرق، إنما يعني موضعاً، وأحسبه ماء، لأنهم يقولون: نطفة زرقاء، وهي الصافية، قال زهير:
فلما وردنا الماء زرقاً جمامـه وضعن عصي الحاضر المتخيم
وقال آخر:
فألقت عصا التسيار عنها وخيمت بأرجاء عذب الماء زرق محافر
وقوله:
وقد مددنا باعها للسوق
يقول: استفرغنا ما عندها في السير، يقال: تبوعت وانباعت، إذا مدت باعها.
وقوله:
خرقاء بين السلمين ترتقي
يقول: لكثرة حركة الخرقاء وقلة حذقها بالصعود.
وقال الآخر:
كأنـهـا نـائحة تـفـجـع تبكي بشجو وسواها الموجع
وقال الشماخ:
كأن ذراعـيهـا ذراعـا مــدلة بعيد السباب حاولت أن تـعـذرا
من البيض أعطافاً إذا اتصلت دعت فراس بن غنم أو لقيط بن يعمـرا
بها شرق من زعفران وعـنـبـر أطارت من الحسن الرداء المحبرا
تقول وقد بل الدموع خـمـارهـا أبى عفتي ومنصبـي أن أعـيرا
كأن بذفراها مـنـاديل قـارفـت أكف رجال يعصرون الصنوبـرا
كأن ابن آوى موثق تحت غرضها إذا هو لم يكلم بنـابـيه ظـفـرا
شبه يديها بيدي مدلة بجمال ومنصب قد سابت وأقبلت تعتذر وتشير بيديها، فوصف جمالها الذي به تدل؛ ومنصبها المتصل بمن ذكرته.
وقوله:
أطارت من الحسن الرداء المحبرا
يقول: هي مدلة بجمالها، فلا تختمر فتستر شيئاً عن الناظر، لأنها تبتهج بكل ما في وجهها ورأسها.
وقد كشف هذا المعنى عمر بن أبي ربيعة المخزومي حيث يقول:
فلما تواقفنا وسلمـت أقـبـلـت وجوه زهاها الحسن أن تتقنعـا
تبالهن بالعرفان لما عرفـنـنـي وقلن امرؤ باغ أكل فأوضـعـا
وقربن أسباب الهوى لمـقـتـل يقيس ذراعاً كلما قسن إصبعـا
فقلت لمطريهن ويحـك إنـمـا ضررت فهل تستطيع نفعاً فتنفعا
قوله:
كأن بذفراها منـاديل قـارفـت أكف رجال يعصرون الصنوبرا
يقول: لسواد الذفرى، وهذا من كرمها، قال أوس بن حجر:
كأن كحيلاً مـعـقـداً أو عـنـية على رجع ذفراها من الليت واكف
وهذا معنى يسأل عنه، لأن الليتين صفحتا العنق. والذفرى في أعلى القفا، فيكف يكف على الذفرى من الليت! والمعنى إنما هو كأن كحيلاً معقداً أو عنية واكف على رجع ذفراها.
وقوله: من الليت كقولك: كموضع دجلة من بغداد، إنما هو للحد بينهما، لا أنه وكف من شيء على شيء: وأما قوله:
كأن ابن آوى موثق تحت غرضها إذا هو لم يكلم بنابـيه ظـفـرا
يقول: ليست تستقر، فكأن ابن آوى يكلمها بنابيه أو يخلبها بظفره، فهي لا تستقر. وقال أوس بن حجر:
كأن هراً جنيباً تحت غرضتها والتف ديك برجليها وخنزير
والغرض والغرضة واحد، وهو حزام الرحل.
وقال آخر:
كأن ذراعـيهـا ذراعـا بــذية مفجعة لاقت خلائل عن عفـر
سمعن لها واستفرغت في حديثها فلا شيء يفري باليدين كما تفري
قال أبو العباس: أنشدنيهما عبد الصمد بن المعذل، وأنشدنيه سعيد بن سلم . ولو قيل إن هذا من أبلغ ما قيل في هذا الوصف ما كان ذلك بعيداً، وصفها بأنها بذية، وقد فجعت بما أسمعت ونيل منها؛ ولقيت خلائلها بعد زمان وتلك الشكوى كامنة فيها، وأصغين لها فتسمعن .
والفري: الشق، يقال: فرى أوداجه، أي قطع، وفريت الأديم. وإذا قلت: أفريت، فمعناه أصلحت. وقول الحجاج: إني والله ما أهم إلا مضيت ولا أخلق إلا فريت. يقول: إذا قدرت قطعت. يقال: فريت القربة والمزادة، فهما مفريتان، قال ذو الرمة :
كأنه من كلى مفرية سرب وقال امرؤ القيس: كأن الحصى من خلفها وأمامها إذا نجلته رجلها حذف أعسرا كأن صليل المرو حين تشـذه صليل زيوف ينتقدن بعبقـرا قوله: حذف أعسرا يريد أنه يذهب على غير قصد. وقوله: صليل زيوف يقال: إن الزائف شديد الصوت صافيه. وقال آخر: كأن يديهـا يدا مـاتــح أتى يوم ورد لغب زرودا يخاف العقاب وفي نفسه إذا هو أنهـل ألا يعـودا يقول: هذا الساقي يخاف العقاب إن قصر، ولا عودة له إليه ثانية، فهو يستقي سقية في مرة واحدة. وقد أكثروا في هذا، فمن الإفراط في السرعة قول ذي الرمة: كأنه كوكب في إثر عفـرية مسوم في سواد الليل منقضب يقال: عفرية وعفرية في معنى واحد، والتاء في عفريت زائدة، وهو ملحق بقنديل، يقال: فلان عفرية زبنية. والزبنية: المنكر، وجمعه زبانية، وأصله من الحركة، يقال: زبنه، إذا دفعه، ويقال : عفرية نفرية، على التوكيد، وعفريت نفريت، ويقال: عفارية، ولم يتبع بنفارية . ومن الإفراط قول الحطيئة: وإن نظرت يوماً بمؤخر عينها إلى علم بالغور قالت له ابعد ومن الإفراط قوله: بأرض ترى فرخ الحبارى كأنـه بها راكب موف على ظهر قردد ومن ذلك قوله: وكادت على الأطواء أطواء ضارج تساقطني والرحل من صوت هدهد وقال آخر: مروح برجليها إذا هي هجرت ويمنعها من أن تطير زمامها وقال الشماخ: مروح تغتلي في البيد حرف تكاد تطير من رأي القطيع وكذلك الأعرابي الذي يقول: لو ترسل الريح لجئنا قبلها وقد مضى خبره. وأملح ما قيل في هذا المعنى وأجوده قول امرئ القيس: وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هـيكـل فجعله للوحش كالقيد. وحدثت أن رجلاً نظر إلى ظبية ترود، فقال له أعرابي: أتحب أن تكون لك? قال: نعم، قال: فأعطني أربع دراهم حتى أردها إليك، ففعل، فخرج يمحص في إثرها، فجدت وجد، حتى أخذ بقرنيها، فجاء بها، وهو يقول: وهي على البعد تلوي خدها تريغ شدي وأريغ شـدهـا كيف ترى عدو غلام ردها قال أبو العباس: ومن حلو التشبيه وقريبه، وصريح الكلام وبلغيه قول ذي الرمة: ورمل كأوراك العذارى قطعته وقد جللته المظلمات الحنادس الحندس: اشتداد الظلمة، وهو توكيد لها، يقال: ليل حندس، وليل أليل، كما يقال: ليل مظلم. وقال الشماخ في صفة الفرس: مفج الحوامي عن نسور كأنـهـا نوى القسب ترت عن جريم ملجلج قوله: مفج الحوامي يريد مفرق الحوامي، فالحوامي: نواحي الحافر. والنسور، واحدها نسر، وهي نكتة في داخل الحافر، ويحمد الفرس إذا صلب ذلك منه، ولذلك شبه بنوى القسب ، وترت: سقطت. والجريم: المصروم، والملجلج: الذي قد لجلج مضغاً في الفم، ثم قذف لصلابته. وقوله: مفج ليس يريد الذي هو شديد التفرقة، ولكن الانفصال عن النسر، فإنه إن اتسع واستوى أسفله فذلك الرحح ، وهو مذموم في الخيل، وكذلك إن ضاق وصغر قيل له: مضطر، وكان عيباً قبيحاً. قال حميد الأرقط: لا رحح فيها ولا اضطرار ولم يقلب أرضها البيطار ولا لحبليه بها حـبـار الحبار: الأثر . ويروى: ولم يقلم ، وتأويل ذلك: أن حوافرها لا تتشعث فيقلمها البيطار، لأنها إذا كانت كذلك ذهب منها شيء بعد شيء فمحقها. وقال علقمة بن عبدة: لا في شظاها ولا أرساغها عنت ولا السنابك أفناهـن تـقـلـيم وإنما يحمد الحافر المقعب، وهو الذي هيئته كهيئة القعب، وإن كان كذلك قيل: حافر وأب . قال ابن الخرع : لها حافر مثل قعب الوليد يتخذ الفأر فيه مغـارا يريد: لو دخل الفأر فيه لصلح، كقول القائل: فأتى بحفنة يقعد عليها عشرة، أي لو عقد عليها عشرة لصلح. وقال الراجز: وأب حمت نسوره الأوقارا يقال: حافر موقور، وهو أن يصيبه داء يشبه الرهصة وفي كل حافر حاميتان. وهما حرفاه من عن يمين وشمال، ومقدمه السنبك، ومؤخره الدابرة. مثل قوله: عن جريم ملج قول علقمة بن عبدة: سلاءة كعصا النهدي غل بهـا ذو فيئة من نوى قران معجوم شبهها بالشوكة من شوك النخل؛ لأن الفرس الأنثى يخمد منها أن يدق صدرها وينخرط على امتلاء إلى مؤخرها، والحمام يحمد منهن أن يعرض الصدر ثم ينخرط إلى ذنبه ضموراً، فيقال في صفته: كأنه جلم. وقوله: كعصا النهدي، يريد في الصلابة، كما قال: وكل كميت كالهراوة صلدم وقوله: ذو فيئة من نوى قران يقول: ذو رجعة، يقول: مضغته الإبل فلم تكسره ثم بعرته صحاحاً. ومعجوم: ممضوغ، يقال: عجمته أعجمه عجماً إذا مضغته، فالعجم، ويقال للنوى من كل شيء: العجم، متحرك الجيم ، قال الأعشى: وجذعانها كلقيط العجم وقال النابغة: فظل يعجم أعلى الروق منقبـضـاً في حالك اللون صدق، غير ذي أود ومثل البيت الأول قول عقبة بن سبق العنزي: له بين حـواشـيه نسور كنوى القسب فهذا تشبيه مقارب جداً. ومن التشبيه الحسن قول الشاعر : كأن المتن والشرخين مـنـه خلاف النصل سيط به مشيج يريد سهماً رمي به فأنفذ الرمية وقد اتصل به دمها، والمتن: متن السهم، وشرخ كل شيء: حده، فأراد شرخي الفوق، وهما حرفاه. والمشيج: اختلاط الدم بالنطفة، وهذا أصله، قال الشماخ: طوت أحشاء مرتجة لوقت على مشج سلالته مهـين وقال الله جل وعز: " من نطفة أمشاج نبتليه " " الإنسان: 2 "، وفي الحديث: " اقتلوا مسان المشركين واستبقوا شرخهم " ، أي الشباب، لأن الشرخ الحد، قال حسان بن ثابت: إن شرخ الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونـا قال أبو العباس: وأنشدنا عمرو بن مرزوق. قال أنشدنا شعبة. قال: أنشدنا سماك بن حرب في هذا الحديث: إن شرخ الشباب تألفه البيض وشيب القذال شيء زهـيد فأما قول الشنفرى: كأن لها في الأرض نسياً تقصه على أمها وإن تحدثك تبـلـت فإنما أراد شدة استحيائها، يقول: لا ترفع رأسها، كأنها تطلب شيئاً في الأرض. والنسي على ضربين: أحدهما ما تقادم عهده حتى ينسى، والآخر ما أضله أهله فيطلب ويطمع فيه. وتقصه: تتبعه، قال الله جل وعز: " وقالت لأخته قصيه " " القصص: 11 "، أي اتبعي أثره، والأم: القصد. وقوله: وإن تحدثك تبلت، تقطع الحديث لاستحيائها. وأنشد بشار بن برد الأعمى قول كثير: ألا إنما ليلى عصا خيزرانة إذا غمزوها بالأكف تلين قال: فقال: الله أبو صخر! جعلها عصا، ثم يعتذر لها! والله لو جعلها عصا من مخ أو زبد لكان قد نجنها بالعصا، ألا قال كما قلت : وبيضاء المحاجر من معد كأن حديثها قطع الجنـان إذا قامت لسبحتها تثـنـت كأن عظامها من خيزران والخيزرانة: كل غصن لين يتثنى، ويقال للمردي: خيزرانة؛ إذا كان تثنى إذا اعتمد عليه، قال النابغة: يظل من خوفه الملاح معتصماً بالخيزرانة بعد الأين والنجـد الأين: الإعياء، والنجد: العرق . وقد عاب بعض الناس قول كثير: فما روضة بالحزن طيبة الثـرى يمج الندى جثجاثها وعـرارهـا بمنخرق من بطن واد كـأنـمـا تلاقت به عطـارة تـجـارهـا بأطيب من أردان عزة موهـنـاً وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها وحكى الزبيريون أن امرأة مدينية عرضت لكثير فقالت: أأنت القائل هذين البيتين? قال: نعم، قالت: فض الله فاك! أرأيت لو أن زنجية بخرت أردانها بمندل رطب أما كانت تطيب! ألا قلت كما قال سيدك امرؤ القيس: ألم تر أني كلما جئت طارقـاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب قوله: جثجاثها وعرارها الجثجاث: ريحانة طيبة الريح برية؛ من أحرار البقل؛ قال جرير يهجو خالد عينين العبدي: كم عمة لك يا خلـيد وخـالة خضر نواجذها من الكـراث نبتت بمنبته فطاب لريحـهـا ونأت عن القيصوم والجثجاث وإنما هجاه بالكراث، لأن عبد القيس يسكنون البحرين، والكراث من أطعمتهم، والعامة يسمونه الركل والركال، قال أحد العبديين: ألا حبذا الأحسا وططيب ترابها وركالها غاد علـينـا ورائح
وقول كثير: وعرارها فالعرار البهار البري، وهو حسن الصفرة طيب الريح، قال الأعشى:
بيضاء ضحوتها وصفراء العشية كالعراره
وقوله: موهناً يريد بعد هديء من الليل ، يقال: أتانا بعد هديء من الليل، وبعد وهن من الليل ، أي بعد دخولنا في الليل، وأنشد أبو زيد:
هبت تلومك بعد وهن في الندى بسل عليك ملامتي وعتـابـي
والمندل: العود. يقال له: المندل والمندلي. قال الشاعر :
أمن زينب ذي النـار قبيل الصبح ما تخبو
إذا ما خمدت يلقـى عليها المندل الرطب
قال أبو العباس: ذي معناه ذه يقال: ذا عبد الله، وذي أمة الله، وذة أمة الله، وته أمة الله، وتا أمة الله؛ فإذا قلت: هذا عبد الله: فالإسم ذا وها للتنبيه. وعلى هذا القول : هذي أمة الله وهذه أمة الله . وإن شئت أسكنت في الوصل فقلت: هذه أمة الله. وإذا قلت: هذهي أمة الله. فالياء زائدة. لأن هذه الهاء لما كانت في لفظ المضمر شبهوها به في زيادة الياء. نحو: مررت بهي يا فتى! ولا يجوز أن تضم الهاء في هذه على قول من قال: مررت بهو، لأن هاء الإضمار أصلها الضم. تقول: رأيتهو يا فتى، ورأيتهم يا فتى! وهذه الهاء ليست من هذه، إنما هي مشبهة وتقول: هاته هند، وهاتي هند، وهاتا هند، على زيادة ها للتنبيه. قال جرير:
هذي التي جدعت تيماً معاطسها ثم اقعدي بعدها يا تيم أو قومي
وقال عمران بن حطان:
وليس لعيشنا هذا مهاه وليست دارنا هاتا بدار
قال أبو العباس: النحويون يثبتون الهاء في الوصل فيقولون: مهاه. وتقديره: فعال. ومعناه اللمع والصفاء . يقال: وجه له مهاه يا فتى! والأصمعي يقول: مهاة. تقديرها حصاة. يجعل الهاء زائدة. وتقديرها في قوله فعلة والمهاة: البلورة. والمهاة: البقرة والوحشية، وجمعها المها .
فإذا صغرت: ذه قلت: تيا، كأنك صغرت تا. ولا تصغر ذه على لفظها، لأنك إذا صغرت ذا قلت: ذيا. فلو صغرت ذي فقلت: ذيا، لالتبس المؤنث بالمذكر، فصغروا ما يخالف فيه المؤنث المذكر.
وهذه، المبهمة يخالف تصغيرها تصغير سائر الأسماء. وسنذكر ذلك فيباب نفرده له إن شاء الله.
عاد القول إلى التشبيه.
أنشدتني أم الهيثم في صفة جمل:
كأن صوت نابه بـنـابـه صرير خطاف على كلابه
أرادت الصريف، وهو أن يحك أحد نابيه بالآخر.
وقوله: صرير خطاف على كلابه فالخطاف ما تدور عليه البكرة. والكلاب ما وليه.
وقد قال النابغة:
مقذوفة بدخيس النخض بازلهـا له صريف صريف القعو بالمسد
القعو: ما تدور عليه البكرة إذا كان من خشب، فإن كان من حديد فهو خطاف. وإن دارت على حبل فذلك الحبل يسمى الدرك.
وقوله: مقذوفة يقول: مرمية باللحم. والدخيس: الذي قد ركب بعضه بعضاً. والنخض: اللحم. وبازلها: نابها. ومعنى بزل، وفطر، واحد: وهو أ، ينشق الناب. قال ذو الرمة:
كأن على أنـيابـهـا كـل سـدفة صياح البوازي من صريف اللوائك
يقول: مما تلوكه. ويقال في الغضب: تركت فلاناً يصرف نابه عليك ويحرق ويحرق. ورأيته يعض عليك الأرم، قال زهير في مدح حصن بن حذيفة :
أبي الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فأفضى والسيوف معاقله
وقال آخر:
نبئت أحماء سليمـى أنـمـا ظلوا غضاباً يعلوكون الأرما
وقال بعض النحويين: يعني الشفاة. وقال بعضهم: يعني الأصابع.
فأما قولهم: عض على ناجذه وهو آخر الأسنان، فيكون على وجهين: أحدهما أنه قد احتنك وبلغ، والآخر: أن يكون للإطراق والتشدد.
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا لقيتم القوم فاجمعوا القلوب وعضوا على النواجذ، فإن ذلك ينبي السيوف عن الهام.
ثم نعود إلى التشبيه.
قال الراجز :
كأنها حين بناها الـبـاس جنية في رأسها أمـراس
بها سكون وبها شـمـاس يخرج منها الحجر الكباس
يمر لا يحبسـه حـبـاس لا نافذ الطعن ولا تـراس
يصف المنجنيق. والأمراس: الحبال، والواحد مرس . والكباس: الضخم. يقال: هامة كبساء يا فتى؛ ورأس أكبس. والحباس: الذي من شأنه أن يحبس. يقال: رجل ضارب للذي يضرب، كثيراً كان منه ذلك أو قليلاً، فإذا قلت: ضراب وقتال، فإنما يكثر الفعل، ولا يكون للقليل.
قال الراجز:
أخضر من معدن ذي قساس كأنه في الحيد ذي الأضراس
يرمى به في البلد الدهـاس
يصف معولاً. وذو قساس: معدن للحديد الجيد، وهو يقرب من بلاد بني أسد. والحيد: ما أشرف من الجبل أو غير ذلك، يقال للطنف حيد، وهو الذي يسميه أهل الحضر الإفريز؛ يقال طنف حائطك، ويقال للناتئ في وسط الكتف: حيد وعير، وكذا الناتئ في القدم. وقوله: ذي الأضراس يريد الموضع الضرس الخشن ذا الحجارة. فيقول: هذا المعوللحدته يقع في الخشونة فيهدمها كما يهدم الدهاس. والدهاس: ما لآن من الرمل. قال دريد بن الصمة في يوم حنين: أين مجتلد القوم? فقالوا: بأوطاس . فقال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس ، ولا لين دهس! وقال العجاج يصف حماراً:
كأن في فيه إذا ما شحجـا عوداً دوين اللهوات مولجا
هذا يصف العير الوحشي الذي قد أسن تراه لا يشتد نهيقه، وكأنه يعالجه علاجاً. قال الشماخ:
إذا رجع التعشير شجاً كأنـه بناجذه من خلف قارحه شجي
فأما قول عنترة:
بركت على ماء الرداع كأنـمـا بركت على قصب أجش مهضم
فإنما يصف الناقة ويذكر حنينها. يقال إنه يخرج منها كأشجى صوت، فإنما شبهه بالزمير، وأراد القصب الذي يزمر به. قال الأصمعي: هو الذي يقال له بالفارسية ناي. قال الراعي يصف الحادي:
زجل الحداء كأن في حيزومه قصباً ومقنعة الحنين عجولا
المقنع: الرافع رأسه، في هذا الموضع، ويقال في غيره: الذي يحط رأسه استخذاء وندماً؛ قال الله جل وعز: " مقنعي رؤوسهم " " إبراهيم: 43 ". ومن قال هو الرافع رأسه: فتأويله عندنا أن يتطاول فينظر ثم يطأطئ رأسه، فهو بعد يرجع إلى الإغضاء والإنكسار.
والبعير يحن كأشد الحنين إلى ألافه إذا أخذ من القطيع. قال: وأكثر ما يحن عند العطش. قال الشاعر :
وتفرقوا بعد الجميع لـنـية لا بد أن يتفرق الـجـيران
لا تصبر الإبل الجلاد تفرقت بعد الجميع ويصبر الإنسان
وقال آخر:
وهل ريبة في أن تحن نجيبة إلى إلفها أو أن يحن نجيب!
وإذا رجعت الحنين كان ذلك أحسن صوت يهتاج له المفارقون، كما يهتاجون لنوح الحمام، ولالتياح البروق.
وقال عوف بن محلم، وسمع نوح حمامة:
ألا يا حـمــام الأيك إلـــفـــك حـــاضـــر وغـصـنـك مـــياد فـــفـــيم تـــنـــوح
أفق لا تنح من غير شيء فإنني بكيت زماناً والفؤاد صحيح
ولوعا فشطت غربة دار زينب فهـا أنـا أبــكـــي والـــفـــؤاد قـــريح!
وكل مطوقة عند لعرب حمامة، كالدبسي والقمري والورشان، وما أشبه ذلك؛ قال حميد بن ثور:
وما هاج هذا الشوق إلا حمـامة دعت ساق حر ترحة وترنـمـا
إذا شئت غنتني بأجـزاع بـيشة أو النخل من تثليث أو بيلملـمـا
مطوقة خطباء تسجع كـلـمـا دنا الصيف وانجال الربيع فأنجما
محلاة طوق لم يكن من تمـيمة ولا ضرب صواغ بكفيه درهما
تغنت على غصن عشاء فلم تدع لنائحة في شجوها متـلـومـا
إذا حركته الريح أو مـال مـيلة تغنت عليه مـائلاً ومـقـومـا
عجبت لها أنى يكون غنـاؤهـا فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فمـا!
فلما أر مثلي شاقه صوت مثلهـا ولا عربيا شاقه صوت أعجمـا
وقال ابن الرقاع وذكر حمامة: قال أبو الحسن الأخفش: الصحيح أنه لنصيب:
ومما شجاني أنني كنـت نـائمـاً أعلل من برد الكرى بالتـنـسـم
إلى أن بكت ورقاء في غصن أيكة تردد مبكاها بحسـن الـتـرنـم
فلو قبل مبكاها بكـيت صـبـابة بليلى شفيت النفس قبل الـتـنـدم
ولكن بكت قبلي فهاج لي البـكـا بكاها فقلت الفضل للـمـتـقـدم
أما قول حميد دعت ساق حر فإنما حكى صوتها، ويقال للواحد ذكراً كان أو أنثى: حمامة، والجمع الحمام، والحمامات، فإذا كان ذكراً قلت هذا حمامة، وإذا كانت أنثى قلت هذه حمامة. وكذلك هذا بطة وهذه بطة. ويقال بقرة للذكر والأنثى، ودجاجة لهما، فإذا قلت: ثور، أو ديك بينت الذكر، واستغنيت عن تقديم التذكير.
ويقال للحمامة: تغنت وناحت، وذاك أنه صوت حسن غير مفهوم، فيشبه مرة بهذا ومرة بهذا، قال قيس بن معاذ:
ولو لم يشقني الظاعنون لشاقنـي حمائم ورق في الـديار وقـوع
تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى نوائح ما تجري لـهـن دمـوع
وقوله: وانجال الربيع يقال؛ انجال عنا، أي أقلع، ومثل ذلك أنجم عنا. وإن قلت: أثجم فمعناه لزم ووقع، فهو خلاف أنجم. وإن قلت: انجاب فمعناه انشق. يقال: المجوب للحديدة التي يثقب بها المسيب. ويقال: جبت البلاد أي دخلتها وطوقتها. وفي القرآن: " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " " الفجر: 9 " أي شقوه.
وقوله: لم يكن من تميمة التميمة المعاذة وقد مضى هذا.
وقوله: وما تفغر بمنطقها فما. يقول: لم تفتح. يقال: فغرفاه. إذا فتحه .
وقوله:
ولا عربياً شاقه صوت أعجما
يقول: لم أفهم ما قالت، ولكني استحسنت صوتها واستحزنته، فحننت له.
ويروى أن بعض الصالحين كان يسمع الفارسية تنوح ولا يدري ما تقول. فيبكيه ذلك ويرققه. ويذكر به غي ما قصدت له.
قال أبو العباس: وحدثت أن بعض المحدثين سمع غناء بخراسان بالفارسية فلم يدر ما هو. غير أنه شوقه لشجاه وحسنه. فقال في ذلك:
حمدتك ليلة شرفت وطابت أقام سهادها ومضى كراها
سمعت بها غناء كان أولى بأن يقتاد نفسي من غناهـا
الغناء، الأول: المدود من الصوت. والذي ذكره بعد في القافية: من المال مقصور:
ومسمعه يحار السمع فـيهـا ولا تصممه لا يصمم صداها
مرت أوتارها فشفت وشاقت فلو يسطيع حاسدها فداهـا
ولم أفهم معانـيهـا ولـكـن ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى معـنـى بحب الغانيات ومـا يراهـا
وقال عبد بني الحسحاس:
وراهن ربي مثل ما قد ورينني وأحمى على أكبادهن المكاويا
قال أبو العباس: والشيء يذكر بالشيء وإن كان دونه فنجري لاحتواء الباب والمعنى عليهما.
وفي شعر حميد هذا ما هو أحكم مما ذكرنا وأوعظ، وأحرى أن يمثل به الأشراف، وتسود به الصحف، وهو قوله:
أرى بصري قد رابني بعد صحة وحسبك داء أن تصح وتسلمـا
ولا يلبث العصـران يوم ولـيلة إذا طلبا أن يدركا ما تـيمـمـا
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كفى بالسلامة داء " .
ثم نرجع إلى التشبيه.
قال أبو العباس: والعرب تشبه على أربعة أضرب: فتشبيه مفرط، وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه بعيد يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسه: وهو أخشن الكلام.
فمن التشبيه المفرط المتجاوز، قولهم للسخي: هو كالبحر. وللشجاع: هو كالأسد. وللشريف: سما حتى بلغ النجم. ثم زادوا فوق ذلك. من ذاك قول بعضهم وهو بكر بن النطاح، يقوله لأبي دلف القاسم بن عيسى:
له همم لا منتهـى لـكـبـارهـا وهمته الصغرى أجل من الدهـر
له راحة لو أن معشـار جـودهـا على البر صار البر أندى من البحر
ولو أن خلق الله في مسك فـارس وبارزه كان الخلي من الـعـمـر
وقد قيل: إن امرأة عمران بن حطان قالت له: أما زعمت أنك لم تكذب في شعر قط! قال: أو فعلت? قالت: أنت القائل:
فهناك مجزأة بـن ثـو ر كان أشجع من أسامة
أفيكون رجل أشجع من الأسد! قال: فقال: أنا رأيت مجزأة بن ثور فتح مدينة، والأسد لا يفتح مدينة.
ومن عجيب التشبيه في إفراط، غير أنه خرج من كلام جيد وعني به رجل جليل، فخرج من باب الاحتمال إلى باب الاستحسان، ثم جعل لجودة ألفاظه وحسن رصفه، واستواء نظمه، في غاية ما يستحسن قول النابغة يعني حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو الفزاري:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم وكيف بحصن والجبال جنوح
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل نجوم السماء والأديم صـحـيح
فعما قلـيل ثـم جـاء نـعـيه فظل ندي الحي وهـو ينـوح
ومن تشبيههم المتجاوز الجيد النظم ما قد ذكرناه، وهو قول أبي الطمحان القيني:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههـم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
ويروى عن الأصمعي أنه رأى رجلاً يختال في أزير في يوم قر في مشيته. فقال له: ممن أنت يا مقرور? فقال: أنا ابن الوحيد، أمشي الخيزلى ، ويدفئني حسبي.
وقيل لآخر في هذه الحال: أما يوجعك البرد? فقال: بلى والله، ولكن أذكر حسبي فأدفأ.
وأصوب منهما قول العريان الذي سئل في يوم قر عما يجد، فقال: ما علي منه كبير مؤونة. فقيل : وكيف ذلك ? فقال: دام بي العري، فاعتاد بدني ما تعتاده وجوهكم! ومن التشبيه القاصد الصحيح، قول النابغة:
وعيد أبي قابوس في غير كنهه أتاني ودوني راكس فالضواجع
فبت كأني ساورتنـي ضـئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من نوم العشاء سليمـهـا لحلي النساء في يديه قعـاقـع
تناذرها الراقون من سوء سمها تطلقه طوراً وطوراً تراجـع
فهذه صفة الخائف المهموم. ومثل ذلك قول الآخر :
تبيت الهموم الطارقات يعـدنـنـي كما تعتري الأوصاب رأس المطلق
والمطلق هو الذي ذكره النابغة في قوله:
تطلقه طوراً وطوراص تراجع
وذاك أن المنهوش إذا ألح الوجع به تارة، وأمسك عنه تارة، فقد قارب أن يوأس من برئه.
وإنما ذكر خوفه من النعمان وما يعتريه من لوعة، في إثر لوعة، والفترة بينهما، والخائف لا ينام إلا غراراً، فلذلك شبهه بالملدوغ المسهد.
وقوله:
لحلي النساء في يديه قعاقع
لأنهم كانوا يعلقون حلي النساء على الملدوغ. يزعمون أن ذلك من أسباب البرء، لأنه يسمع تقعقعها النوم فلا ينام، فيدب السم فيه. ويسهد لذلك.
وقال الآخر:
كأن فجاج الأرض وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل
يؤتـى إلـيه أن كـل ثـنــية تيممها ترمـي إلـيه بـقـاتـل
يقال لكل مستطيل كفة. يقال كفة الثوب لحاشيته، وكفة الحابل، إذا كانت مستطيلة. ويقال لكل شيء مستدير كفة، ويقال: ضعه في كفة الميزان، فهذه جملة هذا وكفة الحابل، يعني صاحب الحبالة التي ينصبها للصيد.
وأما التشبيه البعيد الذي لا يقوم بنفسه، فكقوله:
بل لو رأتني أخت جيراننـا إذ أنا في الدار كأني حمار
فإما أراد الصحة، فهذا بعيد، لأن السامع إنما يستدل عليه بغيره. وقال الله جل وعز وهذا البين الواضح: " كمثل الحمار يحمل أسفارا " " الجمعة: 5 " والسفر الكتاب، وقال: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار " " الجمعة: 5 " في أنهم قد تعاموا عنها. وأضربوا عن حدودها وأمرها ونهيها، حتى صاروا كالحمار الذي يحمل الكتب ولا يعلم ما فيها.
وهجا مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة قوماً من رواة الشعر بأنهم لا يعلمون ما هو، على كثرة استكثارهم روايته، فقال:
زوامل للأشعار لا علم عندهـم بجيدها إلا كعـلـم الأبـاعـر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر
والتشبيه كما ذكرنا من أكثر كلام الناس. وقد وقع على ألسن الناس والرجل بعين الظبية أو البقرة الوحشية، والأنف بحد السيف، والفم بالخاتم، والشعر بالعناقيد، والعنق بإبريق فضة، والساق بالجمار . فهذا كلام جار على الألسن: وقد قال سراقة بن مالك بن جعشم: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وساقاه ناديتان في غرزه كأنهما جمارتان، فأرده فوقعت في مقنب من خيل الأنصار، فقرعوني بالرماح، وقالوا: أين تريد? وقال كعب بن مالك الأنصاري: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر تبلج وجهه فصار كأنه البدر.
وعين الإنسان مشبهة بعين الظبي والبقرة في كلامهم المنثور، وشعرهم المنظوم، من جاري ما تكلمت به العرب، وكثر في أشعارها، قال الشاعر :
فعيناك عيناها وجيدك جيدهـا ولكن عظم الساق منك رقيق
وقال ذو الرمة:
أرى فيك من خرقاء يا ظبية اللوى مشابه جنبت اعتلاق الـحـبـائل فعيناك عيناها وجـيدك جـيدهـا ولونك إلا أنهـا غـير عـاطـل وقال آخر : فلم ترعيني مثل سـرب رأيتـه خرجن علينا من زقاق ابن واقف طلعن بأعناق الظبـاء أعـين ال جآذر وامتدت بهـن الـروادف ويقال للخطيب: كأن لسانه مبرد. فهذا الجاري في الكلام، كما يقال للطويل: كأنه رمح. ويقال للمهتز للكرم: كأنه غصن تحت بارح. ومن عجيب التشبيه قول القائل: لعينك يوم البين أسرع واكـفـاً من الفنن الممطور وهو مروح وذاك أن الغصن يقع المطر في ورقه فيصير منها في مثل المداهن، فإذا هبت به الريح لم تلبثه أن تقطره. طرائف من تشبيهات المحدثين ثم نذكر بعد هذا طرائف من تشبيه المحدثين وملاحاتهم، فقد شرطناه في أول الباب، إن شاء الله. قال أبو العباس: ومن أكثرهم تشبيهاً، لاتساعه في القول، وكثرة ثقبه ، واتساع مذهبه الحسن بن هانئ، قال في مديحه الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك: وكنا إذا ما الحائن الـجـد غـره سنا برق غاو أو ضجيج رعـاد تردى له الفضل بن يحيى بن خالد بماضي الظبا أزهاه طول نجـاد أما خـمـيس أرجـوان كـأنـه قميص محوك من قنـاً وجـياد فما هو إلا الدهر يأتي بصرفـه على كل من يشقى به ويعـادي قوله: الحائن الجد يقال: حان الرجل، إذا دنا موته، ويقال: رجل حائن، والمصدر الحين. والجد: الحظ، والجد والجدة، مفتوحان، فإذا أردت المصدر من جددت في الأمر، قلت: أجد جداً مكسور الجيم، ويقال: جددت النخل أجده جداً وجداداً إذا صرمته. ويقال: جذذته جذاً. وتركت الشيء جذاذاً، إذا قطعته قعاً. ويروى هذا البيت لجرير على وجهين: آل المهلب جـذ الـلـه دابـرهـم أضحوا رماداً فلا أصل ولا طرف ويروى جد، وقرأ بعض القراء: " عطاء غير مجذوذ " " هود: 108 " فأما قوله: " فجعلهم جذاذاً " " الأنبياء: 58 " فلم يقرأ بغيره. ويقال: كم جذاذ نخلك. أي كم تصرم منها. ويروى من قول الله جل وعز: " وأنه تعالى جد ربنا " " الجن: 3 " عن أنس بن مالك: " غنى ربنا ". وقرأ سعيد بن جبير: " جدا ربنا ". ولو قرأ قارئ " جدا ربنا " على معنا: جد ربنا لم يقرأ به لتغير الخط، وكذا قراءة سعيد مخالفة الخط . وهذا الشعر ينشد بالكسر: أجدك لم تغتمض ليلة فترقدها مع رقادها ومثله : أجدك لم تسمع وصاة محـمـد رسول الإله حين أوصى وأشهدا لأن معناه أجداً منك، على التوقيف، وتقديره في النصب: أتجد جداً، و يقال: امرأة جداء، إذا كانت لا ثدي لها، فكأنه قطع منها، لأن أصل الجد القطع، ويقال: بلدة جداء، إذا لم تكن بها مياه. قال الشاعر: وجداء ما يرجى بها ذو هـوادة لعرف ولا يخشى السماة ربيبها القرابة والهوادة في المعنى واحدة. قال أبو الحسن: السماة هم الصادة نصف النهار، وروي عن بعض أصحابنا، عن المازني قال: إنما سمي سامياً بالمسماة، وهو خف يلبسه لئلا يسمع الوحض وطأه، وهو عندي من سما للصيد. ينشد هذا البيت: أبى حبي سليمى أن يبيدا وأصبح حبلها خلقاً جديد يقول: أصبح خلقاً مقطوعاً، لأن جديداً في معنى مجدود أي مقطوع، كما تقول: قتيل ومقتول وجريح ومجروح. ويقال في غير هذا المعنى: رجل مجدود، إذا كان ذا خطر وحط ، وفي الدعاء " ولا ينفع ذا الجد منك الجد "، أي من كان له حظ في دنياه لم يدفع ذلك عنه ما يريد الله به. ولو قال قائل: ولا ينفع ذا الجد منك الجد - يريد الاجتهاد - لكان وجهاً. وقوله: سنا برق غاو والسنا: من الضياء مقصور. قال الله جل وعز: " يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار " " النور: 43 ". والسناء: من المجد ممدود. وقال الشاعر: وهم قوم كرام الحي طراً لهم خول إذا ذكر السناء وضربه الحسن ههنا مثلاً وجمع الرعد فقال: رعاد، كقولك: كلب وكلاب، وكعب وكعاب. وقوله: بماضي الظبي. ظبة كل شيء حده، يقال: وخزه بظبة السيف، يراد بذلك حد طرفه.
وقوله: أزهاه طول نجاد، النجاد: حمائل السيف، وأزهاه: رفعه وأعلاه، والرجل يمدح بالطول، فلذلك يذكر طول حماله. قال مروان بن أبي حفصة يمدح المهدي: قصرت حمائله عليه فقلصت ولقد تأنق قينها فأطالـهـا وقال الحسن بن هانئ يمدح محمداً الأمين: سبط البنان إذا احتبى بنجـاده عمر الجماجم ولا سماط قيام وقال جرير للفرزدق: تعالوا ففاتونا ففي الحكـم مـقـنـع إلى الغر من أهل البطاح الأكـارم فإني لأرضى عبد شمس وما قضـت وأرضى الطوال البيض من آل هاشم وقال الآخر: لما التقى الصفان واختلف القنا نهالا وأسباب المنايا نهالـهـا تبين لـي أن الـقـمـاءة ذلة وأن أشداء الرجال طوالهـا وقوله: أمام خميس، الخميس ههنا: الجيش، وكذلك قال ربيئة أهل خيبر، لما أطل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم: محمد الخميس، أي والجيش. وقال الشاعر، وهو طرفة: وأي خميس لا أفأنا تـهـابـه وأسيافنا يقطرن من كبشه دما أفأنا: رددنا. يقال: أفاءه يفيء إذا رد. والأرجوان: الأحمر . قال الشاعر: عشية غادرت خيلي حميداً كأن عليه حلة أرجـوان والجياد: الخيل. وفي القرآن: " إذا عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد " " ص: 31 ". ومن تشبيهه الجيد في هذا الشعر الذي ذكرنا قوله: ترى الناس أفواجاً إلى باب داره كأنهما رجـلا دبـى وجـراد فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنـى ويوم رقاب بوكرت لحـصـاد ومن التشبيه الجيد قوله : فكأني بما أزين منها قعدي يزين التحكيما وكان سبب هذا الشعر أن الخليفة تشدد عليه من شرب الخمر، وحبسه من أجل ذلك حبساً طويلاً، فقال: أيها الرائحان باللـوم لـومـا لا أذوق المدام إلا شـمـيمـا نالني بالـمـلام فـيهـا إمـام لا أرى لي خلافه مستقـيمـا فاصرفاها إلى سواي فـإنـي لست إلا على الحديث نديمـا كبر حظي منها إذا هي دارت أن أراها وأن أشم النسـيمـا فكأني بـمـا أزين مـنـهـا قعدي يزين الـتـحـكـيمـا لم يطق حمله السلاح إلى الحر ب فأوصى المطيق ألا يقيمـا فهذا المعنى لم يسبقه إليه أحد. قال: وحدثت أن العماني الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس: كأن أذنيه إذا تشوفـا قادمة أو قلماً محرفا فعلم القوم كلهم أنه قد لحن، ولم يهتد منهم أحد لإصلاح البيت إلا الرشيد. فإنه قال له: قل: تخال أذنيه إذا تشوفا. والراجز وإن كان لحن فقد أحسن التشبيه. ويروي أن جريراً دخل إلى الوليد، وابن الرقاع العاملي عنده ينشده القصيدة التي يقول فيها: غلب المساميح الوليد سـمـاحة وكفى قريش المعضلات وسادها قال جرير: فحسدته على أبيات منها، حتى أنشد في صفة الظبية: تزجي أغن كأن إبرة روقه قال: فقلت في نفسي: وقع والله، ما يقدر أن يقول أو يشبه به، قال: فقال: قلم أصاب من الدواة مدادها قال: فما قدرت حسداً له أن أقيم حتى انصرفت. ومن التشبيه الحسن الذي نستطرفه قوله: تعاطيكها كف كـأن بـنـانـهـا إذا اعترضتها العين صف مداري ومن التشبيه المليح قوله: وكأن سلمى إذ تودعـنـا وقد اشرأب الدمع أن يكفا رشأ تواصين القـيان بـه حتى عقدن بأذنه شنـفـا وفي هذا الشعر من التشبيه الجيد قوله : خير فؤادك أو ستخـبـره قسماً لينتهين أو حـلـفـا الحب ظهر أنت راكـبـه فإذا صرفت عنانه انصرفا ومن التشبيه الجيد قوله : إليك رمت بالقوم خوص كأنما جماجمها فوق الحجاج قبور وله أيضاً: سأرحل من قود المهـارى شـمـلة مسخرة ما تسـتـحـث بـحـادي مع الريح ما راحت فإن هي أعصفت نهور برأس كـالـعـلاة وهـادي العلاة: السندان، قال جرير: أيفخر بالمحمم قين ليلى وبالكير المرقع والغلاء وقال الحسن بن هانئ في صفة السفينة:
بنيت على قدر ولاءم بـينـهـا طبقان من قير ومـن ألـواح فكأنها والماء ينطح صـدرهـا والخيزرانة في يد الـمـلاح جون من العقبان يبتدر الدجـى يهوي بصوت واصطفاق جناح وقال في شعر آخر، يصف الخمر، ويذكر صفاءها ورقتها، وضياءها وإشراقها: إذا عب فيها شارب القوم خلته يقبل في داج من الليل كوكبا فأما قوله: بنينا على كسرى سـمـاء مـدامة جوانبها مـحـفـوفة بـنـجـوم فلو رد في كسرى بن ساسان روحه إذاً لاصطفانـي دون كـل نـديم فإنما كانت صورة كسرى في الإناء. وقوله: جوانبها محفوفة بنجوم فإنما يريد ما تطوق به من الزبد. وقد قال في أخرى. أول الشعر من غير الأم . ودار ندامى خلفـوهـا وأدلـجـوا بها أثر مـنـهـم جـديد ودارس مساحب من جر الزقاق على الثرى وأضعاث ريحان جـنـي ويابـس حبست بها صحبي فألفت شملـهـم وإني على أمثال تلك لـحـابـس أقمنا بـهـا يومـاً ويومـاً ولـيلة ويوماً له يوم الترحـل خـامـس تدار علينا الراح في عـسـجـدية حبتها بأنواع التـصـاوير فـارس قرارتها كسرى وفي جنبـاتـهـا مهاً تدريها بالقسـي الـفـوارس فللخمر ما ذرت عليه جـيوبـهـا وللماء ما دارت عليه القـلانـس العسجدية: منسوبة إلى العسجد، وهو الذهب. وقال المثقب العبدي: قالت ألا تشـتـري ذاكـم إلا بما شئنـا ولـم يوجـد إلا ببدري ذهب خـالـص كل صباح آخر المسـنـد من مال من يجني ويجني له سبعون قنطاراً من العسجد وقوله: تدريها أي تختلها. يقال: دريت الصيد. إذا ختلته. قال الأخطل: وإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني بسهمك والرامي يصيد وما يدري وقال الحسن بن هانئ: ما حطك الواشون من رتبة عندي ولا ضرك مغتـاب كأنما أثنوا ولم يعـلـمـوا عليك عندي بالذي عابـوا وهذا المعنى عندي مأخوذ من قول النعمان بن المنذر لحجل بن نضلة، وقد ذكر معاوية بن شكل، فقال: أبيت اللعن! إنه لقعو الأليتين، مقبل النعلين، فجج الفخذين، مشاء بأقراء، تباع إماء، قتال ظبآء. فقال النعمان: أردت أن تذيمه فمدهته. قوله: مقبل النعلين، يقول: لنعله قبال. ينسبهإلى الترفه. وتباع إماء، وقتال ظباء، من ذلك. والقعو: ما تدور فيه البكرة إذا كان من خشب. وقوله: تذيمه معناه تذمه. يقال: ذمه يذمه ذماً وذامه يذيمه ذيماً، وذأمه يذأمه ذأما. والمعنى واحد، قال الله تبارك وتعالى: " اخرج منها مذءوماً مدحورا " " الأعراف: 18 ".وقال الحارث بن خالد المخزومي لعبد الملك: صحبتك إذ عيني عليها غشـاوة فلما انجلت قطعت نفسي أذيمها وقوله: فمدهته يريد مدحته. فأبدل من الحاء هاء، لقرب المخرج، وبنو سعد بنزياد مناة بن تميم كذلك تقول: ولخم ومن قاربها. قال رؤبة: لله در الغـانـيات الـمـده سبحن واسترجعن من تألهي يريد المدح، وفي هذه الأرجوزة: براق أصلاد الجبين الأجله يريد الأجلح، والعرب تقول: جلح الرجل جلحاً، وجله يجله جلهاً، وجلي يجلي جلى، والمعنى واحد، قال العجاج: مع الجلا ولائح القتير ومثل بيت الحسن وكلام النعمان قول عمرو بن معد يكرب: كأن محرشاً في بيت سعدي يعل بعيبها عندي شـفـيع وفي قصيدة الحسن هذه: إن جـئت لـم تــأت وإن لـــم أجـــئ جئت، فـهـذا مـــنـــك لـــي داب! كأنما أنت وإن كنت لاتكذب في الميعاد كذاب وهذا كلام طريف. ومن حسن تشبيه المحدثين قول بشار بن برد العقيلي : وكأن تحت لسـانـهـا هاروت ينفث فيه سحرا وتخال ما جمعت علـيه بنانها ذهبـاً وعـطـرا وهذا التشبيه الجامع. ونظيره في جمع شيئين لمعنيين ما ذكرت لك من قول مسلم بن الوليد: كأن فيسرجه بدراً وضرغاما ومن حسن التشبيه من قول المحدثين قول عباس بن الأحنف: أحرم منكم بما أقـول وقـد نال به العاشقون من عشقوا صرت كأني ذبالة نصبـت تضيء للناس وهي تحترق فهذا حسن في هذا جداً. ومن حسن ما قالوا في التشبيه قول إسماعيل بن القاسم، أبي العتاهية للرشيد: أمين الله أمنك خـير أمـن عليك من التقى فيه لبـاس تساس من السماء بكل فضل وأنت به تسوس كما تساس كأن الخلق ركب فيه روح له جسد وأنت علـيه راس وقد أخذ هذا المعنى علي بن جبلة، فقال في مدحه حميد بن عبد الحميد، وزاد في الشرح والترتيب، فقال: يرتق مـا يفـتـق أعـداؤه وليس يأسو فـتـقة آسـي فالناس حسم وإمام الـهـدى رأس وأنت العين في الراس والعرب تختصر في التشبيه، وربما أومأت به إيماء، قال أحد الرجاز: بتنا بـحـسـان ومـعـاه تـئط ما زلت أسعى بينهم وألـتـبـط حتى إذا كاد الظـلام يخـتـلـط جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط! يقول في لون الذئب، واللبن إذا جهد بالماء ضرب إلى الغبرة، وأنشد الأصمعي: وتشربه محضاً وتسقي عيالها سجاجاً كأقراب الثعالب أورقا السجاج: الرقيق الممذوق. والقربان: الجنبان، والواحد قرب، والجميع أقراب ، من ذلك قول عمر بن الخطاب رحمه الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شاور في رجل جنى جناية، وجاء قومه يشفعون له، فشفع له قوم آخرون، فقال له عمر: يا رسول الله، أرى أن توجع قربيه، فقال القوم: يا رسول الله، إنك لن تشتد على أمتك بقول عمر: فنزل إليه جبرائيل عليه السلام فقال له ثلاثاً: يا محمد، القول قول عمر، شد الإسلام بعمر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب الرجل. والأورق: لون بين الخضرة والسواد، يقال: جمل أورق بين الورقة، وهو الأم ألوان الإبل عند العرب وأطيبها لحماً. ومن مليح التشبيه للمحدثين قول عبد الصمد بن المعدل في صفة العقرب: تبرز كالقرنين حين تطـلـعـه تزحله مراً ومـراً تـرجـعـه في مثل صدر السبت خلق تفظعه أعصل خطار تـلـوح شـعـه أسود كالسبجة فيه مبـضـعـه لا تصنع الرقشاء ما لا يصنعـه وفي هذه الأرجوزة أيضاً: بات بها حين حبيش يتبـعـه وبات جذلان وثيراً مضعـه ذا سنة آمـن مـا يروعـه حتى دنت منه لحتف تزمعه فاظت تجم سمها وتجمعـه يا بؤس للمودعه ما يودعه فشرعت أم الحمام إصبعـه أنحت عليه كالشهاب تلذعه عطك سربال حرير تخلعـه فكل خل ظاهر تفجـعـه يزداد من بغت الحمام جزعه واليأس من تيسيره توقعـه وكذلك قال يزيد بن ضبة أو يزيد بن الصمة . قال أبو الحسن: شك العباس في أنه لأحدهما، أعني هذا البيت: وكنهم بانـوا ولـم أدر بـغـتة وأفظع شيء حين يفجؤك البغت ومن أحسن التشبيه ومليحه قول رجل يهجو رجلاً برثاثة الحال: يأتيك في جبة محـرقة أطول أعمار مثلها يوم وطيلسان كالآل يلبسـه على قميص كأنه غيم والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له، وإنما ذكرنا منه شيئاً لئلا يخلو هذا الكتاب من شيء من المعاني. ونختم ما ذكرنا من أشعار المحدثين ببيتين أو ثلاثة من الشعر الجيد، ثم نأخذ في غير هذا الباب إن شاء الله. قال طفيل: تقريبه المرطى والجون معتدل كأنه سبد بالماء مـغـسـول السبد: طائر بعينه. وقد قالوا: الخصفة التي توضع عند البئر، وهو بالطائر أشبه، وإنما أراد العرق في هذا الوقت. وخير الخيل ما لم يسرع عرقه ولم يبطئ، فإذا جاء ف وقته شمله. قال الراجز: كأنه والطرف منه سامي مشتمل جاء من الحمام وقال الأعشى: يعادي النحوص ومسحلها وعفوهما قبل أن يستجم
النحوص، جماعها نحص، وهي التي لم تحمل في عامها. والمسحل: العير. والعفو: الولد وجمعه عفاء، فاعلم؛ وهو أسعى له إذا لم يكن لعامه. ويستحم: يعرق. وفي حديث أم زرع: مضجعه كمسل الشطبة وتكفيه ذراع الجفرة ، ومعناه أنه خميص البطن، وهذا تمدح به العرب وتستحسنه، فأما قول متمم بن نويرة:
فتى غير مبطان العشيات أروعا
فإما أراد أنه لا يستعجل بالعشاء لانتظاره الضيف؛ كما قال:
وضيف إذا أرغى طروقاً بعيره وعان نآه الغل حتى تكنـعـا
وقالوا في قول الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل غروب شمـس
قالوا: أرادت بطلوع الشمس وقت الغارة، وبغروب الشمس وقت الأضياف.
وقال رجل لبعض أهله : والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح فتكون فارساً: وقال رجل من بني أسد لرجل من قيس: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان.
فهذه كلها نعوت قد عرفت لقوم حتى كأنها سمات لهم، وكانوا يقولون: ينبغي أن يكون الفارس مهفهف الخصرين ، متوقد العينين، حمش الذراعين . وأنشد الأصمعي:
كأنما ساعداه ساعد ذيب
قالوا: ومن نعت السيد أن يكون لحيماً، ضخم الهامة، جهير الصوت، إذا خطا أبعد، وإذا تؤمل ملأ العين؛ لأن حقه أن يكون في صدر مجلس، أو ذروة منبر، أو منفرداً في موكب.
وكانوا يقولون في نعت السيد: يملأ العين جمالاً، والسمع مقالاً.
وقال أبو علي دعبل بن علي في رجل نسبه إلى السؤدد، يقوله لمعاذ بن جبل بن سعيد الحميري، وهو من ولد حميد بن عبد الرحمن الفقيه:
فإذا جالسـتـه صـدرتـه وتنحيت له في الحاشـيه
وإذا سايرتـه قـدمـتـه وتأخرت مع المستـأنـيه
وإذا ياسرته صـادفـتـه سلس الخلق سليم الناحـيه
وإذا عاسرته صـادفـتـه شرس الرأي أبياً داهـيه
فاحمد الله على صحبـتـه وأسأل الرحمن منه العافيه
وهذا المعنى قد أجمله جرير في قوله:
بشر أبو مروان إن عاسرته عير وعند يساره ميسـور
باب
تجتمع فيه طرائف من حسن الكلام، وجيد الشعر، وسائر الأمثال، ومأثور الأخبار، إن شاء الله.
الحجاج بن يوسف والوليد بن عبد الملك
كان الحجاج بن يوسف يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أثنت الوفود عل الحجاج عند الوليد بن عبد الملك، والحجاج حاضر، قال زياد بن عمرو: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش، وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم؛ فلم يكن أحد بعد أخف على قلب الحجاج منه.
لابن قيس الرقيات في معاتبة المهلب
ولزياد يقول ابن قيس الرقيات في معاتبته المهلب بن أبي صفرة:
أبلغا جاري المهلب عنـي كل جار مفارق لا محاله
إن جاراتك اللواتي بتكريت لتنبيذ رحلهـن مـقـالـه
لو تعلقن من زياد بن عمرو بحبال لما ذممن حبـالـه
غلبت أمـه أبـاه عـلـيه فهو كالكابلي أشبه خالـه
ولقد غالني يزيد وكـانـت في يزيد خيانة ومغـالـه
عتكي كأنـه ضـوء بـدر يحمد الناس قوله وفعالـه
نبذ من أقوال الحكماء
وقال أسماء بن خارجة الفزاري: لا أشاتم رجلاً، ولا أرد سائلاً، إنما هو كريم أسد خلته، وأو لئيم اشتري عرضي منه.
وقال سهل بن هارون: يجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بحمد الله وقبل استفتاحها، كما بدئ بالنعمة قبل استحقاقها.
وكان يقول عند التعزية: التهنئة بآجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة.
وأراد رجل الحج، فأتى شعبة بن الحجاج يودعه، فقال له شعبة: أما إنك إن لم تر الحلم ذلاً، والسفه أنفاً! سلم لك حجك.
وقال أويس القرني: إن حقوق الله لم تترك عند مسلم درهماً.
لدعبل يذم رجلاً
وقال دعبل بن علي الخزاعي يذم رجلاً:
رأيت أبا عمران يبـذل عـرضـه وخبز أبي عمران في أحرز الحرز
يحن إلى جاراته بـعـد شـبـعـه وجاراته غرثى تحن إلى الخـبـز
لبعض آل المهلب
وقال آخر :
قوم إذا أكلوا أخفوا كـلامـهـم واستوثقوا من رتاج الباب والدار لا يقبس الجار منهم فضل نارهم ولا تكف يد عن حرمة الجـار لرجل من طيئ وكان قتل رجلاً من بني أسد وقال رجل من طيئ، وكان رجل منهم، يقال له زيد، من ولد عروة بن زيد الخيل، قتل رجلاً من بني أسد يقال له زيد، ثم أقيد به بعد: علا زيدنا يوم الحمى رأس زيدكم بأبيض مصقول الغـرار يمـان فإن تقتلوا زيداً بـزيد فـإنـمـا أقادكم السلطان بـعـد زمـان قال أبو الحسن، وأنشدنا غيره: علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم بأبيض من ماء الحديد يمـان لشمعل التغلبي حين ضربه عبد الملك بن مروان قال: كلم شمعل التغلبي عبد الملك كلاماً لم يرضه، فرماه عبد الملك بالجرز فخدش وهشم، فقال شمعل. أمن جذبه بالرجل مني تباشـرت عداتي، فلا عيب علي ولا سخر فإن أمير المؤمـنـين وسـيفـه لكالدهر، لا عار بما فعل الدهر! وقال الحجاج بن يوسف: البخل على الطعام أقبح من البرص على الجسد. وقال زياد: كفى بالبخيل عاراً أن اسمه لم يقع في حمد قط، وكفى بالجواد مجداً أن اسمه لم يقع في ذم قط. وقال آخر: ألا ترين وقد قطعـتـنـي عـذلا ماذا من الفضل بين البخل والجود! لا يعدم السائلون الخير أفـعـلـه إما نوالا وإمـا حـسـن مـردود إلا يكـن ورق يومـاً أراج بــه للخابطين فـإنـي لـين الـعـود قوله: إلا يكن ورق يريد المال، وضربه مثلاً. ويقال: أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده. والاختباط: ضرب الشجر ليسقط الورق، فجعل الخابط الطالب، والورق المال، كما قال زهير: وليس مانع ذي قربى ولا رحم يوماً ولا معدماً من خابط ورقا بخل الحطيئة ويروى أن ضيفاً نزل بالحطيئة، وهو يرعى غنماً له، وفي يده عصاً، فقال الضيف: يا راعي الغنم ما عندك? ، فأومأ إليه الحطيئة بعصاه، وقال: عجراء من سلم ، فقال الرجل: إني ضيف، فقال الحطيئة: للضيفان أعددتها!. متفرقات من شعر دعبل وقال دعبل: وابن عمران يبتغي عربـياً ليس يرضى البنات للأكفاء إن بدت حاجة له ذكر الضي ف وينساه عند وقت الغداء وقال أيضاً: أضياف سالم في خفض وفي دعة وفي شراب ولحم غير ممـنـوع وضيف عمرو وعمرو يسهران معاً عمرو لبطنته والضيف للـجـوع وقال أيضاً: ما يرحل الضيف عني بعد تكرمة إلا برفد وتـشـييع ومـعـذرة وقال أيضاً: لم يطيقوا أن يسمعوا وسمـعـنـا وصبرنا على رحـى الأسـنـان صوت مضغ الضيوف أحسن عندي من غناء الـقـيان بـالـعـيدان لرجل من قريش وقال القرشي من بني أمية: إذا ما وترنا لم ننم عن تراتـنـا ولم نك أوغالاً نقيم البـواكـيا ولكننا نمضي الجياد شـوازبـاً فنرمي بها نحو التارت المراميا لجرير يفتخر ويهجو الأخطل وقومه وقال جرير: إن الذي حرم الخلافة تغـلـبـاً جعل النبوة والخـلافة فـينـا مضر أبي وأبو الملوك وهل لكم يا خزر تغلب من أب كأبينـا ! هذا ابن عمي في دمشق خلـيفة لو شئت ساقكم إلي قـطـينـا إن الفرزدق إذ تحنف كـارهـاً أضحى لتغلب والصليب خدينـا ولقد جزعت إلى النصارى بعدما لقي الصليب من العذاب مهينـا هل تشهدون من المشاعر مشعراً أو تسمعون من الأذان أذينـا ! قال أبو العباس: حدثني عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، قال: لما بلغ الوليد قوله: هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إلي قطـينـا قال الوليد: أما والله لو قال: " لو شاء ساقكم "، لفعلت ذاك به، ولكنه قال: " لو شئت " فجعلني شرطياً له. ويروى أن بلالاً قعد يوماً ينظر بين الخصوم، ورجل منهم ناحياً يتمثل قول الأخطل على غير معرفة :
وابن المراغة حابس أعياره مرمى القصية ما يذقن بلالاً فسمعه بلال، فلما تقدم مع خصمه قال له بلال: أعد علي إنشادك، فغمزه بعض الجلساء، فقال الرجل: إني والله ما أدري من قاله، ولا فيمن قيل? فقال بلال: أجل، هو أسير من ذاك، هلما فاحتجا. وقال جرير: مررت على الديار فما رأينا كدار بين تلعة والنـظـيم عرفت المنتأى وعرفت منها مطايا القدر كالحدأ الجثـوم وقال آخر: لقد تبلت فؤادك إذ تـولـت ولم تخش العقوبة في التولي عرفت الدار يوم وقفت فيها بريح المسك تنفح في المحل باب من أخبار الخوارج في بيعتهم لعبد الله بن وهب الراسبي قال أبو العباس: ذكر أهل العلم من الصفرية أن الخوارج لما عزموا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي من الأزد، تكره ذلك، فأبوا من سواه، ولم يريدوا غيره. فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم، استبيتوا الرأي، أي دعوه يغب . وكان يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبري. قوله: استبينوا الرأي يقول: دعوا رأيكم تأتي عليه ليلة ثم تعقبوه، يقال: بيت فلان كذا كذا، إذا فعله ليلاً، وفي القرآن: " إذ يبيتون ما لا يرضى من القول " " النساء: 108 "، أي أداروا ذلك بينهم ليلاً، وأنشد أبو عبيدة: أتوني فلم أرض ما بيتـوا وكانوا أتوني بأمر نكـر لأنكح أيمـهـم مـنـذراً وهل ينكح العبد حر لحر! والرأي الدبري: الذي يعرض بعد وقوع الشيء، كما قال جرير : ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم ولا يعرفون الأمر إلا تدبـرا وكان عبد الله بن وهب ذا رأي وفهم، ولسان وشجاعة، وإنما لجأوا إليه وخلعوا معدان الإيادي، لقول معدان: سلام على من بايع الله شـارياً وليس على الحزب المقيم سلام فبرئت منه الصفرية، وقالوا: خالفت، لأنك برئت من القعد . والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب، ومن ذي المعصية الظاهرة. شأنهم مع واصل بن عطاء وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة، فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم - وكانوا قد أشرفوا على العطب - فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك? قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويفهموا حدوده. فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين، فإنكم إخواننا! قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " " التوبة: 6 "، فأبلغونا مأمننا. فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذاك لكم، فساروا بجمعهم حتى بلغوهم المأمن. مناظرة عبد الله بن عباس لهم وذكر أهل العلم من غير وجه أن علياً رضي الله تعالى عنه لما وجه إليهم عبد الله بن عباس رحمة الله عليه، ليناظرهم، قال لهم: ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين? قالوا: قد كان للمؤمنين أميراً، فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان، فليتب بعد إقراره بالكفر نعد له. فقال ابن عباس: ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه أن يقر على نفسه بالكفر! قالوا: إنه قد حكم، قال: إن الله عز وجل قد أمرنا بالتحكيم في قتل صيد، فقال عز وجل: " يحكم به ذوا عدل منكم " " المائدة: 95 "، فكيف في إمامه قد أشكلت على المسلمين! فقالوا: إنه قد حكم عليه فلم يرض، فقال: إن الحكومة كالإمامة، ومتى فسق الإمام وجبت معصيته، وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما فقال بعضهم لبعض: لا تجعلوا احتجاج قريش حجة عليكم، فإن هذا من القوم الذين قال الله عز وجل فيهم: " بل هم قوم خصمون " " الزخرف: 58 "، وقال عز وجل: " وتنذر به قوماً لدا " " مريم: 97 ". الفتوى فيمن أصاب صيداً وهو محرم
والشيء يذكر بالشيء. وجاء في الحديث أن رجلاً أعرابياً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني أصبت ظبياً وأنا محرم، فالتفت عمر إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال: قل، فقال عبد الرحمن: يهدي شاة، فقال عمر: أهد شاة. فقال الأعرابي: والله ما درى أمير المؤمنين ما فيها حتى استفتى غيره! فخفقه عمر رضوان الله عليه بالدرة، وقال: أتقتل في الحرم وتغمص الفتيا! إن الله عز وجل قال: " يحكم به ذوا عدل منكم " " المائدة: 95 "، فأنا عمر بن الخطاب، وهذا عبد الرحمن بن عوف.
وفي هذا الحديث ضروب من الفقه؛ منها ما ذكروا أن عبد الرحمن بن عوف قال أولاً، ليكون قول الإمام حكماً قاطعاً ومنها أنه رأى أن الشاة مثل الظبية، كما قال الله عز وجل: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " " المائدة: 95 ". وأنه لم يسأله: أخطأ قتلته أم عمداً? وجعل الأمرين واحداً. ومنها أنه لم يسأله: أقتلت صيداً قبله وأنت محرم? لأن قوماً يقولون: إذا أصاب ثانية لم يحكم عليه، ولكنا نقول له : اذهب فاتق الله، لقول الله تبارك وتعالى: " ومن عاد فينتقم الله منه " " المائدة: 95 ". قول قطري بن الفجاءة لأبي خالد القناني ورد أبي خالد عليه من طريف أخبار الخوارج قول قطري بن الفجاءة المازني لأبي خالد القناني وكان من قعد الخوارج: أبا خالد إنفر فلست بـخـالـد وما جعل الرحمن عذراً لقاعد أتزعم أن الخارجي على الهدى وأنت مقيم بين لص وجاحـد! فكتب إليه أبو خالد: لقـد زاد الـحـياة إلـي حـبـاً بناتي، إنهن مـن الـضـعـاف أحاذر أن يرين الفقـر بـعـدي وأن يشربن رنقاً بـعـد صـاف وأن يعرين إن كسي الـجـواري فتنبو العين عن كرم عـجـاف ولو لا ذاك قد سومت مـهـري وفي الرحمن للضعفـاء كـاف أبانا من لنـا إن غـبـت عـنـا وصار الحي بعدك في اختلاف ! من أخبار عمران بن حطان وأشعاره هذا خلاف ما قال عمران بن حطان، أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهب بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وكان رأس القعد من الصفرية وخطيبهم وشاعرهم، قال: لما قتل أبو بلال، وهو مرداس بن أدية وهي جدته، وأبوه حدير، وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، قال عمران بن حطان: لقد زاد الحياة إلى بغضاً وحـــــــــــــــبـــــــــــــــاً لـــــــــــــــلـــــــــــــــــــخـــــــــــــــــــــــــــــــروج أبـــــــــــــــــــــــــــــــو بـــــــــــــــــــــــــــــــلال أحـــــــــــــــاذر أن أمـــــــــــــــوت عـــــــــــــــــــــــــــــــلـــــــــــــــــــــــــــــــى فـــــــــــــــــــــــــــــــراشـــــــــــــــــــــــــــــــي وأرجـــــــــــــــو الـــــــــــــــمـــــــــــــــوت تـــــــــــــــحـــــــــــــــت ذرا الـــــــــــــــعـــــــــــــــــــــــــــــــوالـــــــــــــــــــــــــــــــي ولـــــــــــــــو أنـــــــــــــــي عـــــــــــــــلـــــــــــــــمـــــــــــــــت بـــــــــــــــأن حـــــــــــــــتــــــــــــــــــــفـــــــــــــــــــــــــــــــي كحـــــــــــــــتـــــــــــــــف أبـــــــــــــــي بــــــــــــــــــلال لـــــــــــــــــــــــــــــــم أبـــــــــــــــــــــــــــــــالـــــــــــــــــــــــــــــــي فمـــــــــــــــن يك هـــــــــــــــمـــــــــــــــه الـــــــــــــــــــدنـــــــــــــــــــــــــــــــيا فـــــــــــــــــــــــــــــــإنـــــــــــــــــــــــــــــــي لهـــــــــــــــا والــــــــــــــــــلـــــــــــــــــــــــــــــــه رب الـــــــــــــــــــــــــــــــبـــــــــــــــــــــــــــــــيت قـــــــــــــــــــــــــــــــال وفيه يقول: يا عين بكي لمرداس ومصرعـه يا رب مرداس اجعلني كمرداس تركتني هائماً أبكي لـمـرزئتـي في منزل موحش من بعد إيناس أنكرت بعدك من قد كنت أعرفـه ما الناس بعد يا مرداس بالنـاس إما شربت بـكـأس دار أولـهـا على القرون فذاقوا جرعة الكاس فكل من لم يذقها شارب عـجـلاً منها بأنفاس ورد بعـد أنـفـاس