الكامل في اللغة - الجزء الثامن
ثم انحط الزبير بن علي على أصبهان، فحصر بها عتاب بن ورقاء الرياحي سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في بعضهن. فلما طال به الحصار قال لأصحابه: ما تنتظرون? والله ما تؤتون من قلة، وإنكم لفرسان عشائركم، ولقد حاربتموهم مراراً فانتصفتم منهم، وما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه أخوه، ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه، فقاتلوا القوم وبكم قوة، من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح الغد، صلى بهم الصبح، ثم خرج بهم إلى الخوارج وهم غارون، وقد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين، ومن أراد الجهاد فليخرج معي. فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم، فقاتلوا بجد لم ير الخوارج منهم مثله، فعقروا منهم خلقاً كثيراً وقتلوا الزبير بن علي، وانهزمت الخوارج، فلم يتبعهم عتاب. ففي ذلك يقول الشاعر: ويوم بجـي تـلافـيتـه ولولاك لاصطلم العسكر - قال أبو العباس: نفسر قول: ولولاك في آخر هذا الخبر إن شاء الله - وقال رجل من بني ضبة في تلك الوقعة: خرجت من المدينة مستميتاً ولم أك في كتيبة ياسمينـا أليس من الفضائل أن قومي عدوا مستلمين مجاهدينـا وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون، ويحمل بعضهم على بعض، وربما كانت مواقفة لغير حرب ، وربما اشتدت الحرب بينهم. وكان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح، ويكنى أبا هريرة، إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج وبالزبير بن علي: يا ابن أبي الماحور والأشرار كيف ترون يا كلاب النـار! شد أبي هـريرة الـهـرار يهركم باللـيل والـنـهـار ألم تروا جياً على المضمـار تمسي من الرحمن في جوار فغاظهم ذلك منه، فكمن له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه، فظنت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا توافقوا نادوهم: ما فعل الهرار? فيقولون: ما به من بأس، حتى أبل من علته، فخرج إليهم فصاح: يا أعداء الله، أترون بي بأساً! فصاحوا به: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية، في النار الحامية. قال أبو العباس: نفسر أشياء من العربية تحتاج إلى الشرح. من ذلك قوله: ولولاك، ومنه قوله: ألم تروا جياً ومنه قوله: يهركم بالليل والنهار. أما قوله: لولاك فإن سيبويه يزعم أن لولا تخفض المضمر ويرتفع بعدها الظاهر بالإبتداء. فيقال: إذا قلت لولاك، فما الدليل على أن الكاف مخفوضة دون أن تكون منصوبة، وضمير النصب كضمير الخفض? فتقول: إنك تقول لنفسك: لولاي، ولو كانت منصوبة لكانت النون قبل الياء، كقولك: رماني وأعطاني، قال يزيد بن الحكم الثقفي: وكم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منـهـوي النيق: أعلى الجبل، وجزم الإنسان خلقه. فيقال له: الضمير في موضع ظاهره، فكيف يكون مختلفاً? وإن كان هذا جائزاً فلم لا يكون في الفعل وما أشبهه، نحو إن وما كان معها في الباب? وزعم الأخفش سعيد أن ضمير مرفوع، ولكن وافق ضمير الخفض، كما يستوي الخفض والنصب، فيقال: فهل هذا في غير هذا الموضع? قال أبو العباس: والذي أقوله أن هذا خطأ لا يصلح، إلا أن تقول: لولا أنت، كما قال عز وجل: " لولا أنتم لكنا مؤمنين " " سبأ: 31 ". ومن خالفنا فهو لا بد يزعم أن الذي قلناه أجود، ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعده. وأما جي فالأجود فيها أن تقول: ألم تروا جي على المضمار
فلا تنون، لأنها مدينة، والاسم أعجمي، والمؤنث إذا سمي باسم أعجمي على ثلاثة أحرف ينصرف إذا كان مؤنثاً، وإن كان أوسطه سكاناً، نحو جور وحمص وماه وما كن مثل ذلك، ولو كان اسماً لمذكر لانصرف، فإن صرفته جعلته اسماً لبلد، وإن لم تصرفه جعلته اسماً لبلدة أو لمدينة، ألا ترى أنك تصرف نوحاً ولوطاً، وهما أعجميان? وكذلك لو كان على ثلاثة أحرف كلها متحرك، لأنك تصرف قدماً لو سميت بها رجلاً، فالأعجمي بمنزلة المؤنث، لأن امتناعها واحد.
وأما قوله: يهركم فإن كل ما كان من المضاعف على ثلاثة أحرف وكان متعدياً، فإن المضارع منه على يفعل، نحو شده يشده، وزره يزره، ورده يرده، وحله يحله وجاء منه حرفان على يفعل، ويفعل، فيهما جيد: هره يهره، إذا كرهه، يهره أجود، وعله بالحناء يعله، ويعله أجود. ومن قال: حبته قال: يحبه لا غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي: " فاتبعوني يحببكم الله " " آل عمران: 31 ". وذلك أن بني تميم تدغم في موضع الجزم، وتحرك أواخره لالتقاء الساكنين . ولاية قطري بن الفجاءة على الخوارج ومبايعتهم له رجع الحديث: قال أبو العباس: ثم إن الخوارج أداروا أمرهم بينهم، فأرادوا تولية عبيد بن هلال، فقال: أدلكم على من هو خير مني! من يطاعن في قبل، ويحمي في دبر، عليكم قطري بن الفجاءة المازني. فبايعوه، فوقف بهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، أمض بنا إلى فارس، فقال: إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر، لكن نصير إلى الأهواز، فإن خرج مصعب بن الزبير من البصرة دخلناها. فأوا الأهواز، ثم ترفعوا عنها إلى إيذج وكان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا ، فقال لأصحابه: إن قطرياً قد أطل علينا، وإن خرجنا عن البصرة دخلها، فبعث إلى المهلب فقال: اكفنا هذا العدو، فخرج إليهم المهلب، فلما أحس به القطري، يمم كرمان، فأقام المهلب بالأهواز، ثم كر قطري عليه وقد استعد، فكان الخوارج في جميع حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة السلاح، وكثرة الدواب، وحصانة الجنن، فحاربهم المهلب، فنفاهم إلى رام هرمز. وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغماً لعتاب بن ورقاء، يقال إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي، وكان الحارث بن عميرة هو الذي تولى قتله وحاص إليه أصحابه، ففي ذلك يقول أعشى همدان: إن المكارم أكملت أسبـابـهـا لابن الليوث الغر من قحطـان لفارس الحامي الحقيقة معلمـاً زاد الرفاق إلى قرى نجـران الحارث بن عميرة الليث الـذي يحمي العراق إلى قرى كرمان ود الأزارق لو يصاب بطعـنة ويموت من فرسانهم مـائتـان وتأويله: أن الرفقة إذا صحبها أغناها عن التزود، كما قال جرير وأراد ابن له سفراً، وفي ذلك السفر يحيى بن أبي حفصة، فقال لأبيه: زودني فقال جرير: أزاداً سوى يحيى تريد وصاحـبـاً ألا إن يحيى نعم زاد المسـافـر فما تنكر الكوماء ضربة سـيفـه إذا أرملوا أو خف ما في الغرائر وقوله: ويموت من فرسانهم يكون على وجهين: مرفوعاً ومنصوباً، فالرفع على العطف، ويدخل في التمني. والنصب على الشرط والخروج من العطف، وفي مصحف ابن مسعود: " ودوا لو تدهن فيدهنون " والقراءة " فيدهنون " " القلم: 9 " على العطف. وفي الكلام: ود لو تأتيه فتحدثه، وإن شئت نصبت الثاني. قال أبو العباس: وخرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن، ولم يأت المهلب وأصحابه، فتواقفوا يوماً على الخندق، فناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب? قالوا: إمام هدى، قالوا: فما تقولون في عبد الملك? قالوا: ضال مضل. فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل مصعب، وأن أهل الشأم فاجتمعوا على عبد الملك، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج: ما تقولون في مصعب? قالوا: لا نخبركم، قالوا: فما تقولون في عبد الملك? قالوا: إمام هدى، قالوا: يا أعداء الله! بالأمس ضال مضل، واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا، عليكم لعنة الله! وولي خالد بن عبد الله بن أسيد، فقدم فدخل البصرة، فأراد عزل المهلب، فأشير عليه بألا يفعل، وقيل له: إنما أمن أهل هذا المصر، بأن المهلب بالأهواز، وعمر بن عبيد الله بفارس فقد تنحى عمر، وإن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة من الأزارقة فأبى إلا عزله، فقدم المهلب البصرة، وخرج خالد إلى الأهواز، فأشخصه، فلما صار بكربج دينار لقيه قطري فمنعه حط أثقاله، وحاربه ثلاثين يوماً. ثم أقام قطري بإزائه، وخندق على نفسه، فقال المهلب: إن قطريا ً ليس بأحق بالخندق منك، فعبر دجيلاً إلى شق نهر تيرى، واتبعه قطري، فصار إلى مدينة نهر تيرى فبنى سورها وخندق عليها، فقال المهلب لخالد: خندق على نفسك، فإني لا آمن عليك البيات، فقال: يا أبا سعيد، الأمر أعجل من ذلك، فقال المهلب لبعض ولده: إني أرى أمراً ضائعاً، ثم قال لزياد بن عمرو: خندق علينا، فخندق المهلب وأمر بسفنه ففرغت، وأبى خالد أن يفرغ سفنه، فقال المهلب لفيروز حصين: صر معنا، فقال: يا أبا سعيد، الحزم ما تقول، غير أني أكره أن أفارق أصحابي. قال: فكن بقربنا، قال: أما هذه فنعم. وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالداً بجيش كثيف، أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ففعل، فقدم عليه عبد الرحمن، فأقام قطري يغاديهم القتال ويراوحهم أربعين يوماً، فقال المهلب لمولى لأبي عيينة: انتبذ إلى ذلك الناووس فبت عليه في كل ليلة، فمتى أحسست خبراً من الخوارج أو حركة أو صهيل خيل فاعجل إلينا. فجاء ليلة فقال: قد تحرك القوم. فجلس المهلب بباب الخندق، وأعد قطري سفناً فيها حطب فأشعلها ناراً، وأرسلها على سفن خالد، وخرج في أدبارها حتى خالطهم. فجعل لا يمر برجل إلى قتله، ولا بدابة إلا عقرها، ولا بفسطاط إلا هتكه. فأمر المهلب يزيد ابنه فخرج في مائة فارس، فقاتل وأبلى يومئذ، وخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأبلى بلاء حسناً؛ وخرج فيروز حصين في مواليه، فلم يزل يرميهم بالنشاب هو ومن معه، فأثر أثراً جميلاً، فصرع يزيد بن المهلب يومئذ، وصرع عبد الرحمن، فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا، وسقط فيروز حصين في الخندق، فأخذ بيده رجل من الأزد فاستنقذه، فوهب له فيروز حصين عشرة آلاف درهم، وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء، فجعل لا يرى إلا قتيلاً أو صريعاً، فقال للمهلب: يا أبا سعيد، كدن نفتضح، فقال خندق على نفسك، فإلا تفعل عادوا إليك؛ فقال: اكفني أمر الخندق، فجمع له الأحماس ، فلم يبق شريف إلا عمل فيه، فصاح بهم الخوارج: والله لو لا هذا الساحر المزوني لكان الله قد دمر عليكم. وكانت الخوارج تسمي المهلب الساحر، لأنهم كانوا يدبرون الأمر فيجدونه قد سبق إلى نقض تدبيرهم، فقال أعشى همدان لابن الأشعث في كلمة طويلة: ويوم أهوازك لا تنسـه ليس الثنا والذكر بالداثر وقد ذكرنا ف قصر المدود، من أن مد المقصور لا يجوز، ما يغني عن إعادته. فيروز حصين وبعض أخباره ونذكر فيروز حصين لما مر من ذكره: وكان فيروز حصين رجلاً جيد البيت في العجم، كريم المحتد، مشهر الآباء، فلما أسلم والي حصيناً، وهو حصين بن عبد الله العنبري، من بني العنبر بن تميم بن مر، ثم من ولد طريف بن تميم، وكان فيروز حصين شجاعاً جواداً، نبيل الصورة، جهير الصوت، وتروي الرواة أن رجلاً من العرب كانت أمه فتاة، فقاول بني عم له. فسبوه بالعجمية، ومر فيروز حصين، فقال: هذا خالي، فمن منكم له خال مثله? وظن الفتى أن فيروز لم يسمعها، وسمعها فيروز، فلما صار إلى منزله بعث إلى الفتى، فاشترى له منزلاً وجارية، ووهب له عشرة آلاف درهم. ومن مآثره المعروفة أن الحجاج بن يوسف لما واقف ابن الأشعث برستقاباذ نادى منادي الحجاج: من أتى برأس فيروز فله عشرة آلاف درهم. ففصل فيروز من الصف، فصاح بالناس: من عرفني فقد اكتفى، ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين، وقد عرفتم مالي ووفائي، من أتى برأس الحجاج فله مائة ألف، فقال الحجاج، فوالله لقد تركني أكثر التلفت وإني لبين خاصتي. فأتى به الحجاج فقال له: أأنت الجاعل في رأس أميرك مائة ألف درهم ? قال: قد فعلت، فقال: والله لأمهدنك ثم لأحملنك؛ أين المال? قال: عندي فهل إلى الحياة من سبيل? قال: لا، قال: فأخرجني إلى الناس حتى أجمع لك المال فلعل قلبك يرق علي! ففعل الحجاج، فخرج فيروز فأحل الناس من ودائعه، وأعتق رقيقه، وتصدق بماله، ثم رد إلى الحجاج فقال: شأنك الآن فاصنع ما شئت، فشد في القصب الفارسي، ثم سل حتى شرح، ثم نضح بالخل والملح، فما تأوه حتى مات. قال أبو العباس: ومضى قطري إلى كرمان، فانصرف خالد إلى البصرة، فأقام قطري بكرمان أشهراً، ثم عمد لفارس، وخرج خالد إلى الأهواز، وندب للناس رجلاً، فجعلوا يطلبون المهلب، فقال خالد: ذهب المهلب بحظ هذا المصر، إني قد وليت أخي قتال الأزارقة، فولى أخاه عبد العزيز، واستخلف المهلب على الأهواز في ثلثمائة، ومضى عبد العزيز في ثلاثين ألفاً، والخوارج بدراب جرد، فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب، فسيعلمون! قال صعب بن زيد: فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز جاءني كردوس حاجب المهلب فقال: أجب الأمير، فجئت إلى المهلب وهو في سطح وعليه ثياب هروية، فقال: يا صعب، أنا ضائع، كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز، وأخشى أن توافيني الأزارقة ولا جند معي، فابعث رجلاً م قبلك يأتيني بخبرهم سابقاً به إلي، فوجهت رجلاً يقال له عمران بن فلان، فقلت: اصحب عسكر عبد العزيز واكتب إلي بخبر يوم يوم، أورده على المهلب. فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة، فقال له الناس: هذا يوم صالح، فينبغي أن تنزل - أيها الأمير - حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا، فقال: كلا، الأمر قريب، فنزل الناس على غير أمره، فلم يستتم النزول حتى ورد عليهم سعد الطلائع في خمسمائة فارس، كأنهم خيط ممدود. فناهضهم عبد العزيز، فواقفوه ساعة، ثم انهزموا عنه مكيدة، فاتبعهم، فقال له الناس: لا تتبعهم فإنا على غير تعبية، فأبى، فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة، فاقتحمها وراءهم. والناس ينهونه، وكان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي، الملقب عبس الطعان، وعلى بكر بن وائل مقاتل بن مسمع القيسي وعلى شرطته رجلاً من بني ضبيعة بن نزار، فنزلوا عن العقبة ونزل خلفهم، وكان لهم في بطن العقبة كمين، فلما صاروا وراءها خرج عليهم الكمين. وعطف سعد الطلائع، فترجل عبس بن طلق فقتل، وقتل مقاتل بن مسمع، وقتل الضبعي صاحب الشرطة، وانحاز عبد العزيز، واتبعهم الخوارج على فرسخين يقتلونهم كيف شاؤوا، وكان عبد العزيز قد خرج معه بأم حفص ابنة المنذر بن الجارود امرأته. فسبوا النساء يومئذ، وأخذوا أسرى لا تحصى، فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقاً، ثم سدوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه. وقال رجل حضر ذلك اليوم: رأيت عبد العزيز، وإن ثلاثين رجلاً ليضربونه بأسيافهم وما تحيك في جنته . يقال ما أحاك فيه السف، وما يحيك فيه، وما حك ذا الأمر في صدري، وما حكى في صدري، وما احتكى في صدري. ويقال: حاك الرجل في مشيته يحيك؛ إذا تبختر. ونودي على السبي يومئذ، فغولي بأم حفص، فبلغ بها رجل سبعين ألفاً، وذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا ولحقوا بالخوارج، ففرض لكل واحد منهم خمسمائة، فكاد يأخذها، فشق ذلك على قطري وقال: ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفاً، إن هذه لفتنة ، فوثب إليها أبو الحديد العبدي فقتلها، فأتي به قطري فقال له : يا أبا الحديد، مهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت المؤمنين قد تزايدوا في هذه المشركة، فخشيت عليهم الفتنة. فقال قطري: قد أصبت وأحسنت! فقال رجل من الخوارج: كفانا فتنة عـظـمـت وجـلـت بحمد الله سـيف أبـي الـحـديد أهاب المسلمون بـهـا وقـالـوا على فرط الهوى: هل من مزيد? فزاد أبو الحديد بنـصـل سـيف رقيق الحد فعل فـتـى رشـيد قوله: أهاب يريد أعلن، يقال أهبت به، إذا دعوته، مثل صوت، قال الشاعر: أهاب بأحزان الفؤاد مهـيب وماتت نفوس للهوى وقلوب وقوله: مهيم حرف استفهام ، معناه: ما الخبر وما الأمر، فهو دال على ذلك محذوف الخبر، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بعبد الرحمن بن عوف ردع خلوق فقال: مهيم! فقال: تزوجت يا رسول الله، فقال: أولم ولو بشاة، وكان تزوج على نواة، وأصحاب الحديث يروونه على نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم. وهذا خطأ وغلط. العرب تقول نواة فتعني بها خمسة دراهم، كما تقول: النش لعشرين درهماً، والأوقية لأربعين درهماً، فإنما هو اسم لهذا المعنى. وكان العلاء بن مطرف السعدي ابن عمر عمرو القنا، وكان يحب أن يلقاه في تلك الحروب مبارزة، فلحقه عمرو القنا وهو منهزم، فضحك عمرو وقال متمثلاً: تمناني لـيلـقـانـي لـقـيط أعام لك ابن صعصعة بن سعد ثم صاح به: انج أبا المصدى! وكان عمرو القنا يكنى أيضاً أبا المصدى. وهذا البيت الذي تمثل به عمرو ليزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي، يقوله يعني لقيط بن زرارة، وكان يطلبه. وقوله: أعام لك يريد يا عامر، فرخم، وإنما يريد الحي تعجباً، أي لكم أعجب من تمنيه للقائي! فدعا بني عامر بن صعصعة، وهم بنو صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ياقل إن عامر بن صعصعة هو ابن سعد بن زيد مناة بن تميم، لا ابن معاوية، وإنهم ناقلة في قيس، ولذلك امتنعت بنو سعد من محاربتهم مع بني تميم يوم جبلة، ولذلك أنذرهم كرب بن صفوان. وهذا البيت وضعه سيبويه في باب النداء الذي معناه معنى التعجب، وشبيه به قول الصلتان العبدي: فيا شاعرا ًلا شاعر اليوم مثله جرير ولكن كليب تواضـع على معنى قوله: فلله دره شاعراً! وكان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين له، إحداهما من بني ضبة يقال لها أم جميل، والأخرى بنت عمه، وهي فلانة بنت عقيل، فطلق الضبية وتخلص بهما يومئذ، وحمل الضبية أولاً. ففي ذلك يقول: ألست كريماً إذ أقول لـفـتـيتـي قفوا فاحملوها قبل بنت عـقـيل ولو لم يكن عودي نضاراً لأصبحت تجر على المتـنـين أم جـمـيل قال الصعب بن يزيد: بعثني المهلب لآتيه بالخبر، فضربت إلى قنطرة أربك على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم، فلم أحسس خبراً، فسرت مهجراً إلى أن أمسيت، فلما أظلمنا سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم ، فقلت: ما وراءك? فقال: الشر، فقلت: فأين عبد العزيز? قال: أمامك، فلما كان من آخر الليل إذا أنا بزهاء خمسين فارساً معهم لواء، فقلت، لواء من هذا? فقالوا: هذا لواء عبد العزيز؛ فتقدمت إليه، فسلمت وقلت: أصلح الله الأمير! لا يكبرن عليك ما كان، فإنك كنت في شر جند وأخبثه. قال لي: أو كنت معنا? قلت: لا، ولكن كأني شاهد أمرك، قال: كأنك كنت معنا، قلت: أرسلني المهلب لآتيه بخبرك. ثم تركته وأقبلت إلى المهلب، فقال لي: ما وراءك? قلت ما يسرك، قد هزم عبد العزيز وقل جيشه. فقال: ويحك! وما يسرني من هزيمة رجل من قريش وقل جيش المسلمين! قلت: قد كان ساءك أو سرك، فوجه رجلاً إلى خالد يخبره. قال الرجل: فلما أخبرت خالداً قال: كذبت ولؤمت. ودخل رجل من قريش فكذبني. وقال لي خالد: والله لهممت أن أضرب عنقك. قلت: أصلح الله الأمير! إن كنت كاذباً فاقتلني، وإن كنت صادقاً مطرف هذا المتكلف. فقال خالد: لبئس ما أخطرت به دمك! فما برحت حتى دخل بعض الفل. وقدم عبد العزيز سوق الأهواز، فأكرمه المهلب وكساه، وقدم معه على خالد، واستخلف ابنه حبيباً، وقال له: تحسس عن الأخبار، فإن أحسست بخبر الأزارقة قريباً منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى، فلما دخلها أعلم خالد، فغضب عليه، واستتر حبيب في بني هلال بن عامر بن صعصعة. فتزوج هناك في استتاره الهلالية أم عباد بن حبيب. وقال الشاعر لخالد يفيل رأيه، أي يخطئه: بعثت غلاماً من قريش فـروقة وتترك ذا الرأي الأصيل المهلبا أبى الذم واختار الوفاء وأحكمت قواه وقد ساس الأمور وجربـا وقال الحارث بن خالد المخزومي: فر عبد العزيز لما رأى الأب طال بالسفح نازلوا قطـريا ويروى:
فر عبد العزيز إذ راء عيسى وابن داود نـازلاً قـطـريا عاهد الله إن نجا ملـمـنـايا ليعودن بعـدهـا حـرمـيا يسكن الخل والصفاح فمـرا ن وسلعا وتـارة نـجـديا حيث لا يشهد القتال ولا يس مع يوماً لكـر خـيل دويا قوله: إذ راء عيسى، الأصل رأى ولكنه قلب فقدم الألف وأخر الهمزة، كما قال كثير: وكل خليل راءني فهـو قـائل من اجلك هذا هامة اليوم أو غد والقلب كثير في كلام العرب، وسنذكر منه شيئاً في موضعه إن شاء الله. وقوله: ملمنايا يريد من المنايا، ولكنه حذف النون لقرب مخرجها من اللام، فكانتا كالحرفين يلتقيان على لفظ فيحذف أحدهما، ومن كلام العرب أن يحذفوا النون إذا لقيت لام المعرفة ظاهرة، فيقولون في بني الحارث وبني العنبر وما أشبه ذلك: بلحارث وبلعنبر وبلهجيم كما يقولون: علماء بنو فلان فحذفون إحدى اللامين. وقوله: ليعودن بعدها حرميا العرب تنسب إلى الحرم فيقولون حرمي وحرمي على قولهم حرمة البيت وحرمة البيت، وقال النابغة الذبياني: من قول حرمية قالت وقد رحلوا هل في مخفيكم من يشتري أدما والخل: ها هنا موضع، وأصله الطريق في الرمل. وكتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز، وقال للمهلب: ما ترى عبد الملك صانعاً بي? قال: يعزلك، قال: أتراه قاطعاً رحمي? قال: نعم، قد أتته هزيمة أمية أخيك من البحرين، وتأتيه هزيمة أخيك عبد العزيز من فارس! قال أبو العباس: فكتب عبد الملك إلى خالد : أما بعد، فإني كنت حددت لك حداً في أمر المهلب، فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي واستبددت برأيك، فوليت المهلب الجباية، ووليت أخاك حرب الأزارقة، فقبح الله هذا رأياً! أتبعث غلاماً غراً لم يجرب الحروب للحرب ، وتترك سيداً شجاعاً مدبراً حازماً قد مارس الحروب تشغله بالجباية،! أما لو كافأتك على قدر ذبنك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه، ولكن تذكرت رحمك فلفتني عنك، وقد جعلت عقوبتك عزلك. وولى بشر بن مروان وهو بالكوفة وكتب إليه: أما بعد، فإنك أخو أمير المؤمنين، يجمعك وإياه مروان بن الحكم، وإن خالداً لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية، فانظر المهلب بن أبي صفرة، فوله حرب الأزارقة، فإنه سيد بطل مجرب، فأمدده من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل. فشق عليه ما أمره به في المهلب، وقال: والله لأقتلنه، فقاله له موسى بن نصير: أيها الأمير ، إن للمهلب حفاظاً وبلاء ووفاء. وخرج بشر بن مروان يريد البصرة، فكتب موسى وعكرمة إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به. فتلقاه المهلب على بغل، فسلم عليه في خمار الناس، فلما جلس بشر مجلسه قال: ما فعل أميركم المهلب? قالوا: قد تلقاك أيها الأمير وهو شاك. فهم بشر أو يولي حرب الأزارقة عمر بن عبيد الله، فقال أسماء بن خارجة: إنما ولاك أمير المؤمنين لنرى رأيك. فقال له عكرمة ابن ربعي: اكتب إلى أمير المؤمنين وأعلمه علة المهلب. فكتب إليه يعلمه علة المهلب وأن بالبصرة من يغني غناءه، ووجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه، رئيسهم عبد الله بن حكم المجاشعي، فلما قرأ الكتاب خلا بعبد الله بن حكيم فقال: إن لك ديناً ورأياً وحزماً، فمن لقتال هؤلاء الأزارقة? قال: المهلب. قال: إنه عليل. قال: ليست علته بمانعة ، فقال عبد الملك: أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد. فكتب إلى بشر يعزم عليه أن يولي المهلب، فوجه إليه. قال المهلب: أنا عليل ولا يمكنني الإختلاف، فأمر بشر بحمل الدواوين إليه، فجعل ينتخب، فاعترض بشر عله، فاقتطع أكثر نخبته، ثم عزم ألا يقيم بعد ثالثة، وقد أخذت الخوارج الأهواز وخلفوها وراء ظهورهم وصاروا بالفرات، فخرج إليهم المهلب حتى صار إلى شهار طاق، فأتاه شيخ من بني تميم، فقال: أصلح الله الأمير! إن سني ما ترى، فهبني لعيالي قال: على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد، كيف تحثنا على الجهاد وأنت تحبس أشرافنا وأهل النجدة منا? ففعل الشيخ ذلك، فقال بشر: وما أنت وذاك? قال: لا شيء، وأعطى المهلب رجلاً ألف درهم على أن يأتي بشراً فيقول له أيها الأمير أعن المهلب بالشرط والمقاتلة، ففعل الرجل ذلك، فقال له بشر: ما أنت وذاك? قال نصيحة حضرتني للأمير والمسلمين، ولا أعود إلى مثلها، فأمده بالشرطة والمقاتلة. وكتب بشر إلى خليفته بالكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف من كل ربع ألفين، ويوجه به مدداً إلى المهلب، فلما أتاه الكتاب بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فعقد له، واختار له من كل ربع ألفين، فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير البجلي، وعلى ربع تميم وهمدان عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وعلى ربع كندة وربيعة محمد بن إسحاق بن الأشعث الكندي، وعلى مذحج وأسد حر بن قيس المذاحجي، فقدموا على بشر، فخلا بعبد الرحمن بن مخنف، فقال له: قد عرفت رأي فيك وثقتي بك، فكن عند ظني، انظر هذا المزوني فخالفه في أمره، وأفسد عليه رأيه، فخرج عبد الرحمن بن مخنف وهو يقول: ما أعجب ما طمع مني فيه هذا الغلام! يأمرني أن أصغر شيخاً من مشايخ أهلي وسيداً من ساداتهم! فلحق بالمهلب. فلما أحس الأزارقة بدنوه منهم انكشفوا من الفرات، فاتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز، فنفاهم عنها، ثم اتبعهم إلى رام هرمز فهزمهم منها، فدخلوا فارس وأبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديداً ، تقدم فيه وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فلما صار القوم بفارس وجه إليهم ابنه المغيرة، فقال له عبد الرحمن بن صبح: أيها الأمير! إنه ليس برأي قتل هذه الأكلب، ولئن والله قتلتهم لتقعدن في بيتك، ولكن طاولهم وكل بهم، فقال: ليس هذا من الوفاء. فلم يلبث برام هرمز إلا شهراً حتى أتاهم موت بشر، فاضطرب الجند على ابن مخنف، فوجه إلى محمد بن إسحاق بن الأشعث ابن زحر واستحلفهما ألا يبرحا، فحلفا له ولم يقيا، ف-جعل الجند من أهل الكوفة يتسللون حتى اجتمعوا بسوق الأهواز، وأراد أهل الانسلال من المهلب، فخطبهم فقال: إنكم لستم كأهل الكوفة، إنما تبون عن مصركم وأموالكم وحرمكم فأقام منهم قوم وتسلل منهم ناس كثير. وكان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان، فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز، يحلف فيه بالله مجتهداً، لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم وانصرفوا عصاة لا يظفر بأحد منهم إلا قتله فجاء مولاه، فجعل يقرأ الكتاب عليهم ولا يرى في وجههم قبوله، فقال: إني لأرى وجوهاً ما القبول من شأنها، فقال له ابن زحر: أيها العبد، اقرأ ما في الكتاب وانصرف إلى صاحبك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا، وجعلوا يستحثونه بقراءته ، ثم قصدوا قصداً الكوفة، فنزلوا النخيلة، وكتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في الدخول فأبى، فدخلوها بغير إذن. ولاية الحجاج العراق وأمره مع المهلب والخوارج فلم يزل المهلب ومن معه من قواده ابن مخنف في عدد قليل، فلم ينشبوا أن ولي الحجاج العراق، فدخل الكوفة قبل البصرة، وذلك في سنة خمس وسبعين، فخطبهم وتهددهم، وقد ذكرنا الخطبة متقدماً. ثم نزل فقال لوجوه أهلها: ما كانت الولاة تفعل بالعصاة? فقالوا: كانت تضرب وتحبس، فقال الحجاج: ولكن ليس لهم عندي إلا السيف، إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون، ولو ساغت المعصية لأهلها ما قوتل عدو ولا جبي فيء، ولا عز دين. ثم جلس لتوجيه الناس، فقال: قد أجلتكم ثلاثاً، وأقسم بالله لا يتخلف أحد من أصحاب ابن مخنف بعدها ولا من أهل الثغور إلا قتلته، ثم قال لصاحب حرسه وصاحب شرطه: إذا مضت ثلاثة أيام فاتخذا سيوفكما عصياً، فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي بابنه، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا أنف لكم مني، وهو أشد بني تميم أيداً، وأجمعهم سلاحاً، وأربطهم جأشاً، وأنا شيخ كبير عليل، واستشهد جساءه، فقال له الحجاج: إن عذرك لواضح، وإن ضعفك لبين ولكني أكره أن يجترئ بك الناس علي. وبعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان، ثم أمر به فقتل، فاحتمل الناس، وإن أحدهم ليتبع بزاده وسلاحه، ففي ذلك يقول ابن الزبير الأسدي: أقول لعبد الـلـه يوم لـقـيتـه أرى الأمر أمسى منصباً متشعبا تخير فإما أن تزور ابن ضابـئ عميراً وإما أن تزور المهلـبـا هما خطتا خسف نجاؤك منهمـا ركوبك حوليا من الثلج أشهبـا فما إن أرى الحجاج يغمد سيفـه يد الدهر حتى يترك الطفل أشيبا فأضحى ولو كانت خراسان دونه رآها مكان السوق أو هي أقربا وهرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج وقال: أقاتلي الحجاج إن لم أزر له دراب وأترك عند هند فؤاديا وقد مرت هذه الأبيات. وخرج الناس عن الكوفة، وأتى الحجاج البصرة، فكان عليهم أشد إلحاحاً وقد كان أتاهم خبره بالكوفة، فتحمل الناس قبل قدومه، فأتاه رجل م بني يشكر، وكن شيخاً كبيراً أعور، وكان يجعل على عينه العوراء صوفة، فكان يلقب ذا الكرسفة، فقال: أصلح الله الأمير! إن بي فتقاً، وقد عذرني بشر، وقد رددت العطاء، فقال: إنك عندي لصادق، ثم أمر به فضربت عنقه، ففي ذلك يقول كعب، الأشقري أو الفرزدق: لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة تقرقر منها بطن كـل غـريف ويروى عن ابن ميرة قال: إنا لنتغدى معه يوماً إذ جاء رجل من بني سليم برجل قوده، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا عاص، فقال له الرجل: أنشدك الله أيها الأمير في دمي، فوالله ما قبضت ديواناً قط، ولا شهدت عسكراً، وإني لحائك أخذت من تحت الحف ، فقال: اضربوا عنقه، فلما أحس بالسيف سجد، فلحقه السيف وهو ساجد، فأمسكنا عن الأكل ، فأقبل علينا الحجاج فقال: مالي أراكم صفرت أيديكم واصفرت وجوهكم وحد نظركم من قتل رجل واحد! إن العاصي يجم خلالاً: يخل بمركزه، ويعصي أميره، ويغر المسلمين وهو أجير لهم، وإنما يأخذ الأجرة لما يعمل، والوالي مخير فيه، إن شاء قتل وإن شاء عفا. ثم كتب الحجاج إلى المهلب: أما بعد؛ فإن بشراً رحمه الله استكره نفسه عليك، وأراك غناءه عنك، وأنا أريك حاجتي إليك، فأرني الجد في قتال عدوك، ومن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله، فإني قاتل من قبلي، ومن كان عندي من ولي من هرب عنك فأعلمني مكانه، فإني أرى أن آخذ الولي بالولي، والسمي بالسمي. فكتب إليه المهلب: ليس قبلي إلا مطيع، وإن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذب، وإذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب، وإذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك، فهب لي هؤلاء الذي سميتهم عصاة، فإنما هم فريقان أبطال، أرجو أن يقتل الله بهم لعدو ونادم على ذنبه. فلما رأى المهلب كثرة الناس عليه قال: اليوم قوتل هذا العدو، ولما رأى ذلك قطري قال: انهضوا بنا نريد السردن فنتحصن فيها، فقال عبيدة بن هلال: أو نأتي سابور، وخرج المهلب في آثارهم، فأتى أرجان، وخاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن، وليست بمدينة، ولكن جبال محدقة منيعة، فلم يصب بها أحداً، فخرج نحوهم فعسكر بكازرون، واستعدوا لقتاله، وخندق على نفسه، ثم وجه إلى عبد الرحمن بن مخنف: خندق على نفسك، فوجه إليه: خنادقنا سيوفنا، فوجه إليه المهلب: إني لا آمن عليك البيات، فقال ابنه جعفر: ذاك أهون علينا من ضرطة جمل! فأقبل المهلب على ابنه المغيرة فقال: لم يصيبوا الرأي ولم يأخذوا بالوثيقة، فلما أصبح القوم غادوه الحرب، فبعث إلى ابن مخنف يستمده، فأمده بجماعة، وجعل عليهم ابنه جعفراً، فجاؤوا وعيهم أقبية بيض جدد، فقاتلوا يومئذ حتى عرف مكانهم، وحاربهم المهلب، وأبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد، ثم نظر إلى رئيس منهم يقال له صالح بن مخراق، وهو ينتخب قوماً من جلة العسكر، حتى بلغوا أربعمائة، فقال لابنه المغيرة: ما يعد هؤلاء إلا للبيات. وانكشف الخوارج والأمر للمهلب عليهم، وقد كثر فيهم القتل والجراح. وقد كان الحجاج في كل يوم يتفقد العصاة ويوجه الرجال، فكان يحسبهم نهاراً، ويفتح الحبس ليلاً، فينسل الناس إلى ناحية المهلب، وكأن الحجاج لا يعلم، فإذا رأى إسراعهم تمثل: إن لها لسائقاً عشنزرا إذا ونين ونية تغشمرا العشنزر: الصلب، والغشمرة : ركوب الرأس. والمتغشمر: الجاد على ما خيلت. وكتب إلى المهلب من قبل الوقعة: أما بعد، فإنه بلغني أنك أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدو، وإني وليتك وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشي وعباد بن حصين الحبطي. واخترتك وأنت من أهل عمان، ثم رجل من الأزد، فالقهم يوم كذا في مكان كذا، وإلا أشرعت إليك صدر الرمح. فشاور بنيه فقالوا: إنه أمير، فلا تغلظ عليه في الجواب. فكتب إليه المهلب: ورد علي كتابك تزعم أني أقبلت على جباية الخراج فهو عن قتال العدو أعجز، وزعمت أنك وليتني وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي وعباد بن حصين الحبطي، ولو وليتهما لكانا مستحقين لذلك في فضلهما وغنائهما وبطشهما، واخترتني وأنا رجل من الأزد، ولعمري إن شراً من الأزد لقبيلة تنازعها ثلاث قبائل، لم تستقر في واحدة منهن. وزعمت أني إن لم ألقهم في يوم كذا، في مكان كذا، أشرعت إلي صدر الرمح، فلو فعلت لقبلت إليك ظهر المجن، والسلام. ثم كانت الواقعة. فلما انصرف الخوارج قال المهلب لابنه الميغرة: إني أخاف البيات على بني تميم فانهض إليهم فكن فيهم. فأتاهم المغيرة، فقال له الحريش بن هلال: يا أبا حاتم، أيخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا? قال له فليبت آمناً، فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله. فلما انتصف الليل وقد رجع المغيرة إلى أبيه، سرى صالح بن مخارق في القوم الذي أعدهم إلى ناحية بني تميم، ومعه عبيدة بن هلال، وهو يقول: إني لمذك للشـراة نـارهـا ومانع ممن أتاهـا دارهـا وغاسل بالطعن عنها عارها فوجد بني تميم أيقاظاً متحارسين، فخرج إليهم الحريش بن هلال وهو يقول: لقد وجدتم وقراً أنجـادا لا كشفاً ميلاً ولا أوغادا هيهات لا تلفوننا رقـادا لا بل إذا صيح بنا آسادا ثم حمل على القوم فرجعوا عنه، فاتبعهم وصاح بهم: إلى أين كلاب النار! فقالوا: إنما أعدت النار لك ولأصحابك، فقال الحريش: كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار إن دخلها مجوسي فيما بين سفوان وخراسان. قوله: وجدتم وقراً جمع وقر. والنجد: ضد البليد، وهو المتيقظ الذي لا كسل عنده ولا فتور. والأميل فيه قولان: قالوا: الذي لا يستقر على الدابة، وقالوا: هو الذي لا سيف معه. والأكشف: الذي لا ترس معه. والأجم: الذي لا رمح معه. والحاسر: الذي لا درع عليه. والأعزل: الذي لا يتقوم على ظهر الدابة. والوغد: الضعيف. ثم قال بعضهم لبعض: نأتي عسكر ابن مخنف فإنه لا خندق عليهم، وقد تعب فرسانهم اليوم مع المهلب، وقد زعموا أنا أهون علهم من ضرطة جمل، فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف وأصحابه بهم إلا وقد خالطوهم في عسكرهم. وكان ابن مخنف شريفاً. يقول رجل من غامد لرجل يعاتبه، ويضرب بابن مخنف المثل: تروح وتغدو كل يوم معظماً كأنك فينا مخنف وابن مخنف فترجل عبد الرحمن بن مخنف فجالدهم فقتل، وقتل معه سبعون من القراء، فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، ونفر من أصحاب ابن مسعود، وبلغ الخبر المهلب، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب، فجاءهم مغيثاً فقاتلهم حتى ارتث وصرع، ووجه المهلب إليهم ابنه حبيباً فكشفهم، ثم جاء المهلب حتى صلى على ابن مخنف وأصحابه رحمهم الله، وصار جنده في جند المهلب، فضمهم إلى ابنه حبيب، فعيرهم البصريون، فقال رجل لجعفر بن عبد الرحمن: تركت أصحابنا تدمى نحورهـم وجئت تسعى إلينا خضفة الجمل قوله: خضفة الجمل يريد ضرطة الجمل، يقال: خضف البعير. وأنشدني الرياشي لأعرابي يذم رجلاً اتخذ وليماً: إنا وجدنا خلفاً بئس الخـلـف أغلق عنا بـابـه م حـلـف لا يدخل البواب إلا من عرف عبداً إذا ما ناء بالجمل خضف يقال: ناء بحمله، إذا حمله في ثقل وتكلف، وفي القرآن: " ما إن مفاتحه لتنوأ بالعصبة أولي القوة " " القصص: 76 ".، والمعنى أن العصبة تنوء بالمفاتيح. وقد مضى تفسير هذا. فلامهم المهلب، وقال: بئسما قلتم! والله ما فروا ولا جبنوا، ولكنهم خالفا أميرهم، أفلا تذكرون فراركم يوم دولاب، وفراركم بدارس عن عثمان، وفراركم عني! ووجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم، وكتب إليه: إنك لتحب بقاءهم لتأكل بهم. فقال المهلب لأصحابه: حركوهم، فخرج فرسان من أصحابه إليهم، فخرج إليهم من الخوارج جمع، فاقتتلوا إلى الليل، فقال لهم الخوارج: ويلكم أما تملون! فقالوا: لا، حتى تملوا، قالوا: فمن أنتم? قالوا: تميم، قالت الخوارج: ونحن بنو تميم، فلما أمسوا افترقوا، فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب وخرج إليهم عشرة من الخوارج، فاحتفر كل واحد حفيرة وأثبت قدمه فيها، فكلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره وقام مكانه، حتى أعتموا ، فقال لهم الخوارج: ارجعوا، فقالوا: بل ارجعوا أنتم، فقالوا إلى الحجاج، فقال له: مه! قال: رأيت قوماً لا يعين عليهم إلا الله. وكتب إليه المهلب: إني منتظر بهم إحدى ثلاث: موت ذريع، أو جوع مضر، أو اختلاف من أهوائهم. وكان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد، كان يتولى ذلك بنفسه، ويستعين بولده وبمن يحل محلهم في الثقة عنده. وقال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب: عدمتك يا مهلب مـن أمـير أما تندى يمينك للـفـقـير! بدولاب أضعت دماء قومـي وطرت على مواشكة درور فقال المهلب: ويحك! والله إني لأقيكم بنفسي وولدي، قال: جعلني الله فداء الأمير! فذاك الذي نكره منك، ما كلنا يحب الموت، قال: ويحك! وهل عنه محيص? قال: لا، ولكنا نكره التعجيل، وأنت تقدم عليه إقداماً، قال المهلب: أما سمعت قول هبيرة الكلحبة اليربوعي: فقلت لكأس ألجميها فـإنـمـا نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا قال: بلى والله قد سمعته، ولكن قولي أحب إلي منه، وهو : فلما وقفـتـم غـدوة وعـدوكـم إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري وطرت ولم أحف مقالة عـاجـز يساقي المنايا بالرجينية السـمـر فقال له المهلب :بئس حشو الكتيبة والله أنت! فإن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك، فقال: بل أقيم معك أيها الأمير، فوهب له المهلب وأعطاه، فقال يمدحه: يرى حتماً عليه أبو سـعـيد جلاد القوم في أولى النفـير إذا نادى الشراة أبـا سـعـيد مشى في رفل محكمة القتير الرفل: الذيل. وكان المهلب يقول: ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع بدل بيهس بن صهيب، فيقال له: أيها الأمير، بيهس ليس بشجاع، فيقول: أجل، ولكنه سديد الرأي محكم العقل، وذو الرأي حذر سؤول، فأنا آمن أن يعتقل، فلو كان مكانه ألف شجاع قلت: إنهم ينشامون حين يحتاج إليهم .
ومطرت السماء مطراً شديداً وهم بسابور، وبين المهلب وبين الشراة عقبة، فقال المهلب: من يكفينا هذه العقبة الليلة? فلم يقم أحد، فلبس المهلب سلاحه وقام إلى العقبة واتبعه ابنه المغيرة، فقال رجل من أصحابه يقال له عبد الله: دعانا الأمير إلى ضبط العقبة، والحظ في ذلك لنا فلم نطعه، فلبس سلاحه واتبعه جماعة من أهل العسكر فصاروا إليه، فإذا المهلب والمغيرة لا ثالث لهما، فقالوا: انصرف أيها الأمير، فنحن نكفيك إن شاء الله، فلما أصبحوا إذا بالشراة على العقبة، فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فارس، فجعل يحمل وفرسه يزلق، وتلقاه مدرك بن المهلب في جماعة حتى ردهم.
فلما كان يوم النحر والمهلب على المنبر يخطب الناس، إذا الشراة قد تألبوا، فقال المهلب: سبحان الله! أفي مثل هذا اليوم! يا مغيرة أكفنيهم، فخرج إليهم المغيرة بن المهلب وأمامه سعد بن نجد القردوسي، وكان سعد شجاعاً متقدماً في شجاعته، وكان الحجاج إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له: لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا - وقردوس من الأزد. فخرج أمام المغيرة، وتبع المغيرة جماعة من فرسان المهلب، فالتقوا، وأما الخوارج غلام جامع السلاح، مديد القامة، كريه الوجه، شديد الحملة، صحيح الفروسية، فأقبل يحمل على الناس وهو يقول: نحن صبحناكم غداة النحـر بالخيل أمثال الوشيج تجري فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد، ثم تجاولا ساعة، فطعنه سعد فقتله، والتقى الناس، فصرع يومئذ المغيرة، فحامى عليه سعد بن نجد وذبيان السختياني وجماعة من الفرسان حتى ركب، وانكشف الناس عند سقطة المغيرة، حتى صاروا إلى أبيه المهلب، فقالوا: قتل المغيرة، ثم أتاه ذبيان السختياني، فأخبره بسلامته، فأعتق كل مملوك كان بحضرته. ووجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل، وتحصنت بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعز ناصراً، وأكثر عدداً، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبناً، ولكنك اتخذت أكلاً ، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلا أنكرتني، والسلام. فقال المهلب للجراح: يا أبا عقبة، والله ما تركت جيلة إلا احتلتها، ولا مكيدة إلا أعملتها، وما العجب من إبطاء النصر وتراخي الظفر، ولكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره! ثم ناهضهم ثلاثة أيام، يغاديهم القتال، ولا يزالوا كذلك إلى العصر، وينصرف أصحابه وبهم قرح، وبالخوارج قرح وقتل، فقال له الجراح : قد أعذرت. فكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم، على أنك لا تظن بي معصية ولا جبناً، وقد عاتبتني معاتبة الجبان، وأوعدتني وعيد العاصي، فاسأل الجراح، والسلام. فقال الحجاج للجراح: كيف رأيت أخاك? قال: والله ما رأيت أيها الأمير مثله قط ولا ظننت أن أحداً يبقى على مثل ما هو عليه. ولقد شهدت أصحابه أياماً ثلاثة يغدون إلى الحرب ثم ينصرفون عنها وهم بها يتطاعنون بالرماح، ويتجالدون بالسيوف، ويتخابطون بالعمد، ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئاً، رواح قوم تلك عادتهم وتجارتهم. فقال: الحجاج: لشد ما مدحته أبا عقبة! قال: الحق أولى. وكانت ركب الناس قديماً من الخشب، فكان الرجل يضرب ركابه فيتقطع، فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد، فأمر المهلب فضربت الركب من الحديد، وهو أول من أمر بطبعها، ففي ذلك يقول عمران بن عصام العنزي: ضربوا الدراهم في إمارتهم وضربت للحدثان والحرب حلقاً ترى منها مرافقـهـم كمناكب الجمالة الحـرب وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي، من بني رياح بن يربوع بن حنظلة، وهو والي إصبهان، يأمره بالمسير إلى المهلب، وأن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف، فكل بلد تدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه، وأنت على أهل الكوفة، فإذا دخلتم بلداً فتحه لأهل الكوفة فأنت أمير الجماعة فيه ، والمهلب على أهل البصرة فقد عتاب في إحدى جماديين من سنة ست وسبعين على المهلب، وهو بسابور، وهي من فتوح أهل البصرة فكان المهلب أمير الناس، وعتاب على أصحاب ابن مخنف، والخوارج في أيديهم كرمان، وهم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي. فوجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه مناجزة القوم، أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن، من بني عامر بن صعصعة، والآخر من آل أبي عقيل جد الحجاج، فضم زياداً إلى ابنه حبيب، وضم الثقفي إلى يزيد ابنه، وقال لهما: خذا يزيد وحبيباً بالمناجزة، فغادوا الخوارج فاقتتلوا أشد قتال، فقتل زياد بن عبد الرحمن، وفقد الثقفي، ثم باكروهم في اليوم الثاني وقد وجد الثقفي، فدعا به المهلب ودعا بالغداء، فجعل النبل يعق قريباً منهم، والثقفي يعجب من أمر المهلب، فقال الصلتان العبدي: ألا يا أصبحاني قبل عوق العـوائق وقبل اختراط القوم مثل العقـائق غداة حبيب في الـحـديد يقـودنـا نخوض المنايا في ظلال الخوافق حرون إذا ما الحرب طار شرارها وهاج عجاج الحرب فوق البوارق فمن مبلغ الحـجـاج أن أمـينـه زياداً أطاحـتـه رمـاح الأزارق قوله: وقبل اختراط القوم مثل العقائق يعني السيوف، والعقائق: جمع عقيقة، يقال: سيف كأنه عقيقة برق، أي كأنه لمعة برق، ويقال انعق البرق إذا تبسم. وللعقيقة مواضع: يقال فلان بعقيقة الصبي ، أي بالشعر الذي ولد به لم يحلقه، ويقال: عققت الشيء أي قطعته، ومن ذا فلان يعق أبويه، وكذا عققت عن الصبي، إذا ذبحت عنه، قوال أعرابي: ألم تعلمي يا دار بلجاء أنـنـي إذا أجدبت أو كان خصباً جنابها أحب بلاد الله ما بين مشـرف إلي أن يصوب سـحـابـهـا بلاد بها عق الشباب تميمـتـي وأول أرض مس جلدي ترابها فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر، حتى ظهر شبيب، فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير إليه ليوجه إلى شبيب، وكتب إلى المهلب يأمره بأن يرزق الجند، فرق المهلب أهل البصرة، وأبى أن يرزق أهل الكوفة، فأبى، فجرت بينهما غلظة، فقال عتاب: قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جباناً. وكان يبلغني أنك جواد فرأيتك بخيلاً، فقال له المهلب: يا ابن اللخنا! فقال له عتاب: لكنك معم مخول ، فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف، ووثب ابن تيم بن هبيرة بن أبي مصقلة على عتاب فشتمه، وقد كان المهلب كارهاً للحلف، فلما رأى نصرهة بكر بن وائل سره الحلف واغتبط به، ولم يزل يؤكده فغضبت تميم البصرة لعتاب، وغضبت أزد الكوفة للمهلب. فلما رأى ذلك المغيرة بن المهلب مشى بين أبيه وبين عتاب، فقال لعتاب: يا أبا ورقاء، إن الأمير يصير لك إلى كل ما تحب، وسأل أباه أن يرزق أهل الكوفة، فأجابه، فصلح الأمر، فكانت تميم قاطبة وعتاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلب، وقال عتاب: إني لأعرف فضله على أبيه، وقال رجل من الأزد من بني إياد بن سود: ألا أبلغ أبا ورقـاء عـنـا فلولا أننا كنا غـضـابـا على الشيخ المهلب إذ جفانا للاقت خيلكم منا ضرابـا وكان المهلب يقول لبنيه: لا تبدأوهم بقتال حتى يبدأوكم فيبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا نصرتم عليهم. فشخص عتاب بن ورقاء إلى الحجاج في سنة سبع وسبعين، فوجه إلى شبيب، فقتله شبيب، وأقام المهلب على حربهم، فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهراً اختلفوا. وكان سبب اختلافهم أن رجلاً حداداً من الأزارقة كان يعمل نصالاً مسمومة، فيرمى بها أصحاب المهلب، فرفع ذلك إلى المهلب فقال: أنا قطري فقال: ألق هذا الكتاب في عسكر قطري واحذر على نفسك - وكان الحداد يقال له أبزى - فمضى الرسول، وكان في الكتاب: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إلي، وقد وجهت إليك بألف درهم ، فاقبضها وزدنا من هذه النصال، فوقع الكتاب والدراهم إلى قطري. فدعا بأبزى، فقال: ما هذا الكتاب? قال: لا أدري، قال: فهذه الدراهم? قال: ما أعلم علماها، فأمر به فقتل، فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له: أقتلت رجلاً إلى غير ثقة ولا تبين! فقال له: ما حال هذه الدراهم! قال: يجوز أن يكون أمرها كذباً ويجوز أن يكون حقاً، فقال له قطري: قتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحاً، وليس للرعية أن تعترض عليه، فتنكر له عبد ربه في جماعة معه ، ولم يفارقوه. فبلغ ذلك الملهب فدس إليه رجلاً نصرانياً، فقال له: إذا رأيت قطرياً فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنما سجدت لك. ففعل النصراني، فقال له قطري: إنما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك، فقال له رجل من الخوارج قد عبدك من دون الله، وتلا: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " " الأنبياء: 98 "، فقال قطري: إن هؤلاء النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم فما ضر ذلك عيسى شيئاً، فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر ذلك عليه وقال: أقتلت ذمياً! فاختلفت الكلمة فبلغ ذلك المهلب، فوجه إليهم رجلاً يسألهم عن شيء تقدم به إليه، فأتاهم الرجل فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم، فمات أحدهما في الطريق وبلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة، ما تقولون فيهما? فقال بعضهم: أما الميت فمؤمن من أهل الجنة، وأما الآخر الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيزها. وقال قوم آخرون: بل هما كافران حتى يجيزا المحنة، فكثر الاختلاف. فخرج قطري إلى حدود إصطخر، فأقام شهراً والقوم في اختلافهم، ثم أقبل، فقال لهم صالح بن مخراق: يا قوم، إنكم قد قررتم أعين عدوكم وأطعمتوهم لكم، لما ظهر من اختلافكم، فعودوا إلى سلامة القلوب واجتماع الكلمة. وخرج عمرو القنا فنادى: يا أيها المحلون ، هل لكم في الطراد، فقد طال العهد به! ثم قال: ألم تر أنا مـذ ثـلاثـون لـيلة قريب وأعداء الكتاب عل خفض فتهايج القوم، وأسرع بعضهم إلى بعض، فأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب، وصار في وسط الأزارقة، فجعلت الرماح تحطه وترفعه، واعتورت رأسه السيوف، وعليه ساعد حديد فوضع يده على رأسه، فجعلت السيوف لا تعمل فيه شيئاً، واستنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع، وكان الذي صرعه عبيدة بن هلال، وهو يقول: أنا ابن خير قومه هلال شيخ على دين أبي بلال وذاك ديني آخر الليالي فقال رجل للمغيرة: كنا نعجب كيف تصرع، والآن نعجب كيف تنجو! وقال المهلب لبنيه: إن سرحكم لغار، ولست آمنهم عليه، أفوكلتم به أغار على السرح، فشق ذلك على المهلب، وقال: كل أمر لا أليه بنفسي فهو ضائع، وتذمر عليهم، فقال له بشر بن المغيرة: أرح نفسك، فإن كنت إنما تريد مثلك فوالله لا يعدل أحدنا شسع نعلك، فقال: خذوا عليهم الطريق، فثار بشر بن المغيرة، ومدرك والمفضل ابنا المهلب، فسبق بشر إلى الطريق، فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح ، أي يطرده، وهو يقول: نحن أقمعناكم بشل السرح وقد نكأنا القرح بعد القرح الشل: الطرد: ويقال: نكأت القرحة، مهموز، ونكيت العدو، غير مهموز، من النكاية، ونكأت القرحة نكأ، قال ابن هرمة: ولا أراها تزال ظالـمة تحدث لي قرحة وتنكؤها ولحقه المفضل ومدرك، فصاحا برجل من طيئ: اكفنا الأسود، فاعتوره الطائي وبشر بن المغيرة فقتلاه، وأسرا رجلاً من الأزارقة، فقال المهلب: ممن الرجل? قال: رجل من همدان، قال: إنك لشين همذان، وخلى سبيله. وكان عياش الكندي شجاعاً بئيساً ، فأبلى يومئذ، ثم مات على فراشه بعد ذلك، فقال المهلب: لا وألت نفس الجبان بعد عياش! وقال المهلب: ما رأيت كهؤلاء كلما ينقص منهم يزيد فيهم! ووجه الحجاج إلى المهلب رجلين: أحدهما من كلب، والآخر من سليم، يستحثانه بالقتال، فقال المهلب متمثلاً: ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم الشعر لأوس بن حجر، وقوله: زبنته يقول: دفعته، ولم يترمرم، أي لم يتحرك، يقال: قيل له كذا وكذا فما ترمرم. وقال ليزيد: حركهم، فحركهم فتهايجوا، وذلك في قرية من قرى إصطخر، فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فطعنه، فشك فخذه بالسرج، فقال المهلب للسلمي والكلبي: كيف نقاتل قوماً هذا طعنهم! وحمل يزيد عليه وقد جاء الرقاد، وهو من فرسان المهلب، وهو أحد بني مالك بن ربيعة، على فرس له أدهم، وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل يزيد ولى الجمع وحماهم فارسان، فقال يزيد لقيس الخشني مولى العيتك من لهذين? قال: أنا، فحمل عليهما، فعطف عليه أحدهما، فطعنه قيس الخشني فصرعه، وحمل عليه الآخر فعانقه، فسقطا جميعاً إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعاً، فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء، فحجزوا بينهما، فإذا معانقه امرأة، فقام قيس مستحيياً، فقال له يزيد: أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقال: أرأيت لو قتلت! أما كان يقال: قتلته امرأة! وأبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي، فقال له غلام له يقال له خلاج: والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى أصير إلى مستقرهم فأستلب مما هناك جاريتين. فقال مولاه: وكيف تمنيت اثنتين? قال: لأعطيك إحداهما وآخذ الأخرى، فقال ابن المنجب: أخلاج إنك لن تعانـق طـفـلة شرقاً بها الجادي كالتـمـثـال حتى تلاقي في الكتيبة معلـمة عمرو القنا وعبيدة بـن هـلال وترى المقعطر في الكتيبة مقدماً في عصبة قسطوا مع الضلال أو أن يعلمك المهلـب غـزوة وترى جبالاً قد دنت لـجـبـال قوله: طفلة يقول: ناعمة، وإذا كسرت الطاء فقلت: طفلة فهي الصغيرة. والجادي: الزعفران، والكتيبة: الجيش، وإنما سمي الجيش كتيبة لانضمام أهله بعضهم إلى بعض. وبهذا سمي الكتاب. ومنه قولهم: كتبت البغلة والناقة إذا خرزت ذلك الموضع منها. وكتبت القربة. والمعلم: الذي قد شهر نفسه بعلامة، إما بعمامة صبيغ، وإما بمشهرة، وإما بغير ذلك. وكان حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه معلماً يوم بدر بريشة نعامة في صدره وكان أبو جدانة - وهو سماك بن خرشة الأنصاري - يوم أحد لم قال رسول الله صلى الله عليه سلم: " من يأخذ سيفي هذا بحقه? " قالوا: وما حقه يا رسول الله? قال: " أن يضرب به في العدو حتى ينحني "، فقال أبو دجانة: أنا، فدفعه إليه، فلبس مشهرة فأعلم بها، وكان قومه يعلمون لما بلوا منه أنه إذا لبس تلك المشهرة لم يبق في نفسه غاية، ففعل، وخرج يمشي بين الصفين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها لمشية يبغضها الله عز وجل إلا في مثل هذا الموضع ". ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع علياً صلوات الله عليه يقول لفاطمة ورمى إليها بسيف، فقال: هاك حميداً فاغسلي عنه الدم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن كنت صدقت القتال اليوم لقد صدقه معك سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة ". وفي بعض الحديث " وقيس بن الربيع " وكل هؤلاء من الأنصار. عاد الحديث إلى ذكر الخوارج: وعمرو القنا من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وعبيدة بن هلال من بني يشكر بن بكر بن وائل، والذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج من بني تميم. قال: ولا أدري أعمرو هو أم غيره. والمقعطر من عبد القيس. وقوله: قسطوا أي جاروا، يقال قسط فهو قاسط، إذا جار، قال الله جل ثناؤه: " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " " الجن: 15 ". ويقال: أقسط يقسط فهو مقسط، إذا عدل، قال الله تعالى: " إن الله يحب المقسطين " " الحجرات: 9 ". وكان بدر بن الهذيل شجاعاً، وكان لحانة، فكان إذا أحس بالخوارج نادى يا خيل الله اركبي، وله يقول القائل: وإذا طلبت إلى المهلب حاجة عرضت توابع دونه وعبـيد العبد كردوس وعبد مثـلـه وعلاج باب الأحمرين شديد كردوس: رجل من الأزد، وكان حاجب المهلب. وقوله: " وعلاج باب الأحمرين شديد "، العرب تسمي العجم الحمراء، وقد مر تفسير ذا. وقوله: توابع أراد به الرجال، فجاز في الشعر، وإنما رده إلى أصله للضرورة، وما كان من النعوت على فاعل فجمعه فاعلون لئلا يلتبس بجمع فاعله التي هي نعت، وقد قلنا في هذا: ولم قالوا: فوارس وهالك في الهوالك. وكان بشر بن المغيرة أبلى يوماً بلاء حسناً عرف مكانه فيه، وكانت بينه وبين بني المهلب جفوة، فقال لهم: يا بني عم، إني قد قصرت عن شكاة العاتب، وجاوزت شكاة المستعتب ؛ حتى كأني لا موصول ولا محروم، فاجعلوا لي فرجة أعش بها وهبوني امرأ رجوتم نصره، أو خفتم لسانه. فرجعوا له ووصلوا، وكلموا فيه المهلب فوصله. وولى الحجاج كردماً فارس، فوجهه الحجاج إليها والحرب قائمة، فقال رجل من أصحاب المهلب: ولو رآها كردم لـكـردمـا كردمة العير أحس الضيغما الضيغم: الأسد. والكردمة: النفور. فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر ودراب جرد لأرزاق الجند، ففعل، وقد كان قطري هدم مدينة إصطخر، لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره، وأراد مثل ذلك بمدينة فسا، فاشتراها منه آزاد مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم فلم يهدمها، فواقعه المهلب فهزمه، ونفاه إلى كرمان، واتبعه ابنه المغيرة وقد كان دفع إليه سيفاً وجه به الحجاج إلى المهلب، وأقسم عليه أن يتقلده، فدفعه إلى المغيرة بعدما تقلد به، فرجع به المغيرة إليه وقد دماه، فسر المهلب بذلك وقال: ما يسرني أن أكون كنت قد دفعته إلى غيرك من ولدي، اكفني جباية خراج هاتين الكورتين، وضم إليه الرقاد، فجعلا يجبيان ولا يعطيان الجند شيئاً، ففي ذلك يقول رجل منهم، وأحسبه من بني تميم، في كلمة له: ولو علم ابن يوسف مانلاقـي من الآفات والكرب الشـداد لفاضت عينه جزعاً علـينـا وأصلح ما استطاع من الفساد ألا قل للأمير جزيت خـيراً أرحنا من مغيرة والـرقـاد فما رزقا الجنود بها قـفـيزاً وقد ساست مطامير الحصاد يقال: ساس الطعام وأساس، إذا وقع فيه السوس، وداد وأداد، من الدود، وروى أبو زيد: ديد فهو مدود في هذا المعنى. فحاربهم المهلب بالسيرجان حتى نفاهم عنها إلى جيرفت، واتبعهم فنزل قرباً منهم، واختلفت كلمتهم. وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اليشكري أتهم بامرأة رجل رأوه مراراً يدخل منزله بغير إذن، فأتوا قطرياً فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم فقالوا: إنا لا نقاره على الفاحشة، فقال: انصرفوا، ثم بعث إلى عبيدة فأخبره وقال: إنا لا نقار على الفاحشة، فقال: بهتوني يا أمير المؤمنين، فما ترى? قال: إني جامع بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البريء، فجمع بينهم فتكلموا، فقام عبيدة فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم ": " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم " " النور: 11 " الآيات. فبكوا وقاموا إليه فاتنقوه، وقالوا: استغفر لنا، ففعل، فقال لهم عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة: والله لقد خدعكم، فبايع عبد ربه منهم ناس كثير لم يظهروا ولم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتاً. وكان قطري قد استعمل رجلاً من الدهاقين فظهرت له أموال كثيرة، فأتوا قطرياً فقالوا: إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا، فقال قطري: إني استعملته وله ضياع وتجارات، فأوغر ذلك صدورهم، وبلغ ذلك المهلب، فقال: إن اختلافهم أشد عليهم مني. وقالوا لقطري: ألا تخرج بنا إلى عدونا? فقال: لا، ثم خرج، فقالوا: قد كذب وارتد! فاتبعوه يوماً فأحس بالشر، فدخل داراً مع جماعة من أصحابه، فصاحوا به: يا دابة، اخرج إلينا، فخرج إليهم، فقال: رجعتم بعدي كفاراً???! فقالوا: أو لست دابة! قال الله عز وجل: " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " " هود: 6 "، ولكنك قد كفرت بقولك: إنا قد رجعنا كفاراً، فتب إلى الله عز وجل، فشاور عبيدة، فقال: إن تبت لم يقبلوا منك، ولكن قل: إنما استفهمت فقلت: أرجعتم بعدي كفاراً? فقال ذلك لهم، فقبلوه منه، فرجع إلى منزله، وعزم أن يبايع المقعطر العبدي، فكرهه القوم وأبوه، فقال له صالح بن مخراق عنه وعن القوم: ابغ لنا غير المقعطر، فقال لهم قطري: أرى طول العهد قد غيركم، وأنتم بصدد عدوكم، فاتقوا الله وأقبلوا على شأنكم، واستعدوا للقاء القوم، فقال صالح بن مخراق: إن الناس قبلنا قد ساموا عثمان بن عفان أن يعزل عنهم سعيد بن العاصي ففعل، ويجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت. فأبى قطري أن يعزله، فقال له القوم: إنا خلعناك وولينا عبد ربه الصغير، فانفصل إلى عبد ربه أكثر من الشطر، وجلهم الموالي والعجم، وكان هناك منهم ثمانية آلاف، وهم القراء، ثم نم صالح بن مخراق، فقال لقطري: هذه نفحة من نفحات الشيطان، فأعفنا من المقعطر وسر بنا إلى عدوك، فأبى قطري إلا المقعطر، فحمل فتى من العرب على صالح بن مخراق، فطعنه فأنفذه، وأجره الرمح فقتله. ومعنى أجره الرمح طعنه وترك الرمح فيه، قال عنترة: وآخر منهم أجررت رمحي وفي البجلي معبلة وقـيع فنشبت الحرب بينهم، فتهايجوا، ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم، فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأجلت الحرب عن ألفي قتيل، فلما كان الغد باكروهم القتال، فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب من المدينة. وأقام عبد ربه بها، وصار قطري خرجاً من مدينة جيرفت بإزائهم، فقال له عبيدة: يا أمير المؤمنين، إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك إلا أن تخندق. فخندق على باب المدينة، وجعل يناوشهم. وارتحل المهلب فكان منهم على ليلة، ورسول الحجاج معه يستحثه فقال له: أصلح الله الأمير! عاجلهم قبل أن يصطلحوا، فقال المهلب: إنهم لن يصطلحوا، ولكن دعهم، فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها، ثم دس رجلاً من أصحابه فقال: إيت عسكر قطري، فقل: إني لم أزل أرى قطرياً يصيب الرأي حتى نزل منزلة هذا فبان خطؤه؛ أنقيم بني المهلب وعبد ربه، يغاديه هذا القتال ويراوحه هذا! فنمى الكلام إلى قطري، فقال: صدق، تنحوا بنا عن هذا الموضع، فإن اتبعنا المهلب قاتلناه، وإن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون، فقال له الصلت بن مرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت إنما تريد الله فاقدم على القوم، وإن كنت إنما تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا، وأنشأ الصلت يقول: قل للمحلين قـد قـرت عـيونـكـم بفرقة القوم والبغضـاء والـهـرب كنا أناسـا عـلـى دين فـغـيرنـا طول الجدال وخلط الجد باللـعـب ما كان أغنى رجالاً ضل سـعـيهـم عن الجدال وأغناهم عن الخـطـب إني لأهونكم في الأرض مضطربـاً ما لي سوى فرسي والرمح من نشب ثم قال: أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع فيه منه، فارتحل قطري، وبلغ ذلك المهلب، فقال لهريم بن عدي بن أبي طحمة المجاشعي: إني لا آمن أن يكون قطري كادنا بترك موضعه، فاذهب فتعرف الخبر، فمضى هريم في إثني عشر فارساً، فلم ير في العسكر إلا عبداً وعلجاً، فسألهما عن قطري وأصحابه، فقالا: مضوا يرتادون غر هذا المنزل، فرجع هريم إلى المهلب فأخبره، فارتحل المهلب حتى نزل خندق قطري، فجعل يقاتلهم أحياناً بالغداة، وأحياناً بالعشي، ففي ذلك يقول رجل من سدوس، يقال له المعنق، وكان فارساً: ليت الحرائر بالعراق شهدننـا ورأيننا بالسفح ذي الأجـيال فنكحن أهل الجزء من فرساننا والضربين جماجم الأبطـال ووجه المهلب يزيد إلى الحجاج يخبره أنه قد نزل منزل قطري، وأنه مقيم على عبد ربه، ويسأله أن يوجه في إثر قطري رجلاً جلداً في جيش، فسر ذلك الحجاج سروراً أظهره. ثم كتب إلى المهلب يستحثه مع عبيد بن موهب؛ وفي الكتاب. أما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي، فترجع بعذرك، وذل أنك تمسك حتى تبرأ الجراح، وتنسى القتلى، ويجم الناس ، ثم تلقاهم فتحتمل منهم مثل ما يحتملون منك من وحشة القتل، وألم الجراح، ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم، والقرن قد قصم ، ولعمري ما أنت والقوم سواء؛ لأن من ورائك رجالاً وأمامك أموالاً، وليس للقوم إلا ما معهم. ولا يدرك الوجيف بالدبيب، ولا الظفر بالتعذير. فقال المهلب لأصحابه: إن الله عز وجل قد أراحكم من أقران أربعة قطري بن الفجاءة، وصالح بن مخراق، وعبيدة بن هلال، وسعد الطلائع، وإنما بين أيديكم عبد ربه، في خشار من خشار الشيطان، تقتلونهم إن شاء الله. فكانوا يتغادون القتال ويتراوحون، فتصيبهم الجراح، ثم يتحاجزون كأنما انصرفوا من مجلس كانوا يتحدثون فيه، فيضحك بعضهم إلى بعض، فقال عبيد بن موهب للمهلب: قد بان عذرك، وأنا مخبر الأمير. فكتب المهلب إليه. أما بعد: فإني لم أعط رسلك على قول رسلك على قول الحق أجراً، ولم أحتج منهم مع المشاهدة إلى تلقي، ذكرت أني أجم القوم، ولا بد من راحة يستريح فيها الغالب، ويحتال فيها المغلوب، وذكرت أن في ذلك الجمام ما ينسي القتلى، وتبرأ منه الجراح، وهيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم، تأبى ذلك قتلى لم تجن، وقروح لم تتقرف ، ونحن القوم على حالة، وهم يرقبون منا حالات، إن طمعوا حاربوا، وإن ملوا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا، وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذ وقفوا، ونطلب إذا هربوا فإن تركتين والرأي كان القرن مقصوماً، والداء بإذن الله محسوماً، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعص، وجعلت وجهي إلى بابك، وأنا أعوذ بالله من سخط الله، ومقت الناس. ولما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه: لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال، فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره، والمسلم إذا صح توحيده عز بربه، وقد أراحكم الله من غلظة قطري، وعجلة صالح بن مخراق ونخوته، واختلاط عبيدة بن هلال، ووكلكم إلى بصائركم، فالقوا عدوكم بصبر ونية، وانتقلوا عن منزلكم هذا؛ من قتل منكم قتل شهيداً. ومن سلم من القتل فه المحروم. وقدم في هذا الوقت على المهلب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي، يستحثه بالقتال، ومعه أمينان، فقال له: خالفت وصية الأمير، وآثرت المدافعة والمطاولة، فقال له المهلب: ما تركت جهداً، فلما كان العشي خرج الأزارقة وقد حملوا حرمهم وأموالهم وخف متاعهم لينتقلوا، فقال المهلب لأصحابه: الزموا مصافكم، وأشرعوا رماحكم ، ودعوهم والذهاب، فقال له عبيد: هذا لعمري أيسر عليك، فقال للناس: ردوهم عن وجههم ، وقال لبنيه: تفرقوا في الناس، وقال لعبيد بن أبي ربيعة: كن مع يزيد فخذه بالمحاربة أشد الأخذ، وقال لأحد الأمينين: كنا مع المغيرة ولا ترخص له في الفتور، فاقتتلوا قتالاً شديداً، حتى عقرت الدواب وصرع الفرسان، وقتلت الرجال فجعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال، وسقط رمح برجل من مراد من الخوارج، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل، وذلك مع المغرب، والمرادي يقول: الليل لـيل فـيه ويل ويل وسل بالقوم الشراة السيل إن جاز للأعداء فينا قول فلما عظم الخطب فيه بعث المهلب إلى المغيرة: خل لهم عن الرمح، عليهم لعنة الله ، فخلوا لهم عنه. ثم مضت الخوارج حتى نزلوا على أربعة فراسخ من جيرفت، ودخلها المهلب، فأمر بجمع ما كان لهم فيها من المتاع، وما خلفوه من دقيق وختم عليه هو والثقفي والأمينان، ثم أتبعهم، فإذا هم قد نزلوا على عين لا يشرب منها إلا قوي، يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها، وهناك قرية فيها أهلها، فغاداهم القتال. وضم الثقفي إلى يزيد، وأحد الأمينين إلى المغيرة، واقتتل القوم إلى نصف النهار، فقال المهلب لأبي علقمة العبدي - وكان شجاعاً عاتياً: أمدد بخيل اليحمد، وقل لهم: فليعيرونا جماجمهم ساعة، فقال له: إن جماجمهم ليست بفخار فتعار، وليست أعناقهم كردان فتنبت - قال أبو العباس : تقول العرب لأعذاق النخل: كرادن، وهو فراسي أعرب -. وقال لحبيب بن أوس: كر على القوم، فلم يفعل، وقال:
يقول لي الأمير بغير عـلـم تقدم حين جد به الـمـراس فما لي إن أطعتك مـن حـياة وما لي غير هذا الرأس رأس نصب: غير، لأنه استثناء مقدم، وقد مضى تفسيره. وقال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة: احمل، فقال: لا، إلا أن تزوجني أم مالك بنت المهلب، ففعل، فحمل على القوم فكشفهم، وطعن فيهم، وقال: ليت من يشتري الغداة بمال هلكه اليوم عندنا فيرانـا نصل الكر عند ذاك بطعن إن للموت عندنا ألـوانـا ثم جل الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج، فالتفت عند ذلك المهلب إلى المغيرة فقال: ما فعل الأمين الذي كان معك? قال: قتل، وكان الثقفي قد هرب، وقال ليزيد: ما فعل عبيد بن أبي ربيعة? قال: لم أره منذ كانت الجول، فقال الأمين الآخر للمغيرة: أنت قتلت صاحبي، فلما كان العشي، فقال رجل من بني عامر بن صعصعة: ما زلت يا ثقفي تخطب بينـنـا وتغعمنا بوصـية الـحـجـاج حتى إذا ما الموت أقبل زاخـراً وسما لنا صرفاً بغـير مـزاج وليت يا ثقفي غير مـنـاظـر تنساب بـين أحـزة وفـجـاج ليست مقارعة الكماة لدى الوغى شرب المدامة في إناء زجـاج قوله: بين أحزة هو جمع حزيز، وهو متن ينقاد من الأرض ويغلظ، والفجاج: الطرق، واحدها فج. وقال المهلب للأمين الآخر: ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل حتى تبيتوا عسكرهم، فقال: ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما قتلت صاحبي. قال: ذاك إليك، وضحك المهلب، ولم تكن للقوم خنادق، فكان كل حذراً من صاحبه، غير أن الطعام والعدة مع المهلب، وهم في زهاء ثلاثين ألفاً، فلما أصبح أشرف على واد، فإذا هو برجل معه رمح مكسور وقد خضبه بالدماء، وهو ينشد: جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي إذ بت أطواء بنـي الأصـاغـر أخادعهم عنه ليغـبـق دونـهـم وأعلم غير الظن أني مـغـاور كأني وأبدان الـسـلاح عـشـية يمر بنا في بطن فيحـان طـائر فدعاه المهلب فقال: أتميمي أنت? قال: نعم، قال: أحنظلي? قال: نعم، قال: أيربوعي? قال: نعم، قال: أثعلبي? قال: نعم، قال: أمن آل نويرة? قال: نعم، أنا من ولد مالك بن نويرة، وسبحان الله أيها الأمير! أيكون مثلي في عسكرك لا تعرفه! قال: عرفتك بالشعر. قوله: ذو الخمار يعني فرساً. وكان ذو الخمار فرس مالك بن نوير. قال جرير يهجو الفرزدق: بيربوع فخـرت وآل سـعـد فلا مجدي بلغت ولا افتخاري بيربـوع فـوارس كـل يوم يواري شمسه رهج الغبـار عتيبة، والأحيمر وابن عمـرو وعتاب، وفارس ذي الخمار قوله: أطواء يقال: رجل طوي البط، أي منطو يخبر أنه كان يؤثر فرسه على ولده، فيشبعه وهم جياع، وذلك قوله: أخادعهم عنه ليغبق دونهم والغبوق شرب آخر النهار، وهذا شيء تفخر به العرب، قال الأشعر الجعفي: لكن قعيدة بيتـنـا مـجـفـوة باد جناجن صدرها ولها غنـى نقفي بعيشه أهـلـهـا وثـابة أو جرشعاً نهد المراكل والشوى قال: فمكثوا أياما على غير خنادق يتحارسون ودوابهم مسرجة، فلم يزالوا على ذلك حتى ضعف الفريقان، فلم كانت الليلة التي قتل في صبحتها عبد ربه جمع أصحابه وقال: يا معشر المهاجرين، إن قطرياً وعبيدة هربا طلب البقاء، ولا سبيل إليه، فالقا عدوكم، فإن غلبوكم على الحياة، فلا يغلبنكم على الموت، فتلقوا الرماح بنحوركم، والسيوف بوجوهكم، وهبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة. فلما أصبحوا غادوا المهلب فقاتلوه قتالاً شديداً، نسي به ما كان قبله، فقال رجل من الأزد من أصحاب المهلب: من يبايعني على الموت? فبايعه أربعون رجلاً من الأزد وغيرهم، فصرع بعضهم وقتل بعض، وجرح بعض. وقال عبد الله بن رزام الحارثي لأصحاب المهلب، احملوا، فقال: المهلب: أعرابي مجنون! وكان من أهل نجران، فحمل وحده، فاخترق القوم حتى نجم من ناحية أخرى ثم رجع، ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى، وتهايج الناس، فترجلت الخوارج وعقروا دوابهم، فناداهم عمرو القنا ولم يترجل هو وأصحابه من العرب، وكانوا زهاء أربعمائة: موتوا على ظهور دوابكم ولا تعقروها فقالوا: إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار. فاقتتلوا، ونادى المهلب بأصحابه: الأرض الأرض، قال لبنيه: تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم، ونادى الخوارج: ألا إن العيال لمن غلب، فصبر بنو المهلب، وصبر يزيد بين يدي أبيه، وقاتل قتالاً شديداً ألى فيه، فقال له أبوه: يا بني إني أرى موطناً لا ينجو فيه إلا من صبر، وما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب. وكسرت الخوارج أجفان سيوفهم، وتجاولوا، فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقولاً، فهرب عمرو القنا وأصحابه، وأستأمن قوم، وأجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل وجرحى كثر من الخوارج، فأمر المهلب بأن يدفع كل جريح إلى عشيرته، وظفر عسكرهم فحوى ما فيه، ثم انصرف إلى جيرفت، فقال: الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض والدعة، فما كان عيشنا بعيش، ثم نظر إلى قوم في عسكر لم يعرفهم، فقال: ما أشد عادة السلاح! ناولني درعي: فلبسها ثم قال: خذوا هؤلاء، فلما سير بهم إليه قال: ما أنتم? قالوا: نحن قوم جئنا لنطلب غرتك لنفتك بك، فأمر بهم فقتلوا. قال أبو العباس: ووجه المهلب كعب بن معدان الأشقري، ومرة بن تليد الأزدي، من أزد شنوءة، فوفدا على الحجاج، فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده: يا حفص إني عداني عنكم السفر وقد سهرت فأودى نومي السهر فقال له الحجاج: أخبرني عن بني المهلب، قال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً! وجوادهم وسخيهم قبيصة ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت زعاف، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة! قال: فكيف خلفت جماعة الناس? قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف خلفت جماعة الناس? قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم ? قال: كانوا حماة السرح نهاراً، فإذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد? قال: كانوا كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم? قال: كنا إذا أخذنا عفونا، وإذا أخذوا يئسنا منهم، إذا اجتهدوا واجتهدنا بلغنا فيهم آمالنا بإدراك الفرصة منهم، فقال الحجاج إن العاقبة للمتقين، كيف أفلتكم قطري قال: كدناه ببعض ما كادنا به، فصرنا منه إلى التي نحب، قال: فهلا اتبعتموه? قال: كان الحد عندنا آثر من الفل، قال: فيكيف كان لكم المهلب وكنتم له? قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف اغتباط الناس? قال:فشا فيهم الأمن، وشملهم النفل، قال: أكنت أعددت لي هذا الجواب? قال: لا يعلم الغيب إلا الله قال: فقال: هكذا تكون والله الرجال! المهلب كان أعلم بك حيث وجهك. وكان كتاب المهلب إلى الحجاج: " بسم الله الرحمن الرحيم ": الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما ساه، الذي وصل المزيد بالشكر، والنعمة بالحمج، وقضى ألا ينقطع المزيد منه حتى ينقطع الشكر من عباده. أما بعد، فقد كان من أمرنا ما قد بلغك، وكنا ونحن وعدونا على حالين مختلفين، يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسوءهم منا أكثر مما يسرهم، على اشتداد شوكتهم، فقد كان علن أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة، ونوم به الرضيع، فانتهزت منهم الفرصة في وق إمكانها، وأدنيت السواد من السواد، حتى تعارفت الوجوه، فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله: " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " " الأنعام: 45 ". فكتب إليه الحجاج:
أما بعد، فإن الله عز وجل قد فعل المسلمين خيراً، وأراحهم من حد الجهاد، وكنت أعلم بما قبلك، والحمد لله رب العالمين فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسم في المجاهدين فيئهم، ونفل الناس على قدر بلائهم، وفضل من رأيت تفضيله، وإن كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلاً تقوم بإزائهم، واستعمل على كرمان من رأيت، وول الخيل شهماً من ولدك، ولا ترخص لأحد في اللحاق بمنزلة دون أن تقدم بهم علي، وعجل القدوم، إن شاء الله. فولى المهلب ابنه يزيد كرمان، وقال له: يا بني، إنك اليوم لست كما كنت، إنما لك من مال كرمان ما فضل عن الحجاج، ولن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك، فأحسن إلى من معك، وإن أنكرت من إنسان شيئاً فوجهه إلي، وتفضل على قومك إن شاء الله . قال أبو العباس: وقدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه، وأظهر إكرامه وبره، وقال: يا أهل العراق، أنتم عبيد المهلب، ثم قال: أنت والله كما قال لقيط الإيادي: وقـلـدوا أمـركـم لـلـه دركـم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا لا يطعم النـوع إلا ريث يبـعـثـه هم يكاد حشاه يقصم الـضـلـعـا لا مترفاً إن رخاء العيش سـاعـده ولا إذا عض مكروه به خـشـعـا ما زال يحلب هذا الدهر أشـطـره يكون متبعاً طـوراً ومـتـبـعـا حتى استمرت على شر مـريرتـه مستحكم الرأي لا قحماً ولا ضرعا فقام إليه رجل، فقال: أصلح الله الأمير! والله لكأني أسمع الساعة قطرياً وهو يقول: المهلب كما قال لقيط الإيادي، ثم أنشد هذا الشعر، فسر الحجاج حتى امتلأ سروراً. قوله: نفل إي أقسم بينهم، والنفل: العطية التي تفضل، كذا كان الأصل، وإنما فضل الله عز وجل بالغنائم على عباده، قال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريث وعجل وكذا، أي أعيطتك، ثم صار النفل لازماً واجباً. وقول الإيادي: رحب الذراع، فالرحب: الواسع، وإنما هذا مثل، يريد واسع الصدر متباعد ما بين المنكبين والذراعين، وليس المعنى على تباعد الخلق، ولكن عل سهولة الأمر عليه. قال الشاعر: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريث وعجل وقال جل جلاله: " يسئلونك عن الأنفال " " الأنفال: 1 "، ويقال: نفلتك كذا وكذا، أي أعطيتك، ثم صار النفل لازماً واجباً. وقول الإيادي: رحب الذراع، فالرحب: الواسع، وإنما هذا مثل، يريد واسع الصدر متباعد ما بين المنكبين والذراعين، وليس المعنى على تباعد الخلق، ولكن على سهولة الأمر عليه. قال الشاعر: رحيب الذراع بالتي لا تـشـينـه وإن قيلت العوراء ضاق بها ذرعا وكذلك قوله جل وعز: " يجعل صدره ضيقاً حرجاً " " الأنعام: 125 "، وقوله: مضطلعاً إنما هو مفتعل من الضليع، وهو الشديد، يريد أنه قوي عل أمر الحرب، مستقل بها. وقوله: يكون متبعاً طرواً ومتبعاً أي قد اتبع الناس فعلم ما يصلح به أمر الناس، واتبع فعلم ما يصلح الرئيس، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد ألنا وإيل علينا، أي قد أصلحنا أمور الناس، وأصلحت أمورنا. وقوله: على شرز مريرته فهذا مثل، يقال: شزرت الحبل، إذا كررت فتله بعد استحكامه راجعاً عليه. المريرة: الحبل. والضرع: لصغير الضعيف. والقحم: آخر سن الشيخ، قال العجاج: رأين قحماً شاب وأقلحما طال عليه الدهر فاسلهما والمقلحم مثل القحم، وهو الجاف،ويقال للصبي مقلحم، إذا كان سيء الغذاء، أو ابن هرمين، ويقال: رجل إنقحل وامرأة إنقحلة، إذا أسن حتى ييبس. والمسلهم: الضامر. قال الشاعر: لما رأتني خلقا ًإنقحلا ويقال في معنى: قحم قحر، ويقال: بعير قحارية، في هذا المعنى، وقوله: لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه هم. فريث وعوض ما يضاف إلى الأفعال، وتأويله أنه لا يطعم النوم إلا يسيراً حتى يبعثه الهم، فمعناه مقدار ذلك ومما يضاف إلى الأفعال أسماء الزمان، كقوله عز ذكره: " هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " " المائدة: 119 "؛ فأسماء الزمان كلها تضاف إلى الفعل، نحو قولك: آتيك يوم يخرج زيد. وجئتك يوم قام عبد الله، وما كان منها في معنى الماضي جاز أن يضاف إلى الابتداء والخبر، فتقول: جئتك يوم زيد أمير، ولا يجوز ذلك في المستقبل، وذلك لأن الماضي في معنى إذ، وأنت تقول: أجيئك إذ زيد أمير، والمستقبل في معنى إذا، فلا يجوز أن تقول: أجئتك إذا زيد أمير، فلذلك لا يجوز: أجيئك يوم زيد أمير. فأما الأفعال في إذا وإذ فهي بمنزلة واحدة، تقول: جئتك إذ قام زيد، وأجيئك إذا قام زيد، فهذا واضح بين، ومما يضاف إلى الفعل ذو في قولك: افعل ذاك بذي تسلم، وافعلاه بذي تسلمان معناه: بالذي يسلمكما، ومن ذلك آية في قوله: بآية تقدمون الخيل شعثاً كأن على سنابكها مداما والنحو يتصل ويكثر، وإنما تركه الاستقصاء لأنه موضع اختصار، وقد أتينا على جمع هذا في الكتاب المقتضب . فقال المهلب: إنا والله ما كنا أشد على عدونا ولا أحد، ولكن دمغ الحق الباطل، وقهرت الجماعة الفتنة، والعاقبة للتقوى، وكان ما كرهناه من المطاولة خيراً مما أحببناه من العجلت. فقال له الحجاج: صدقت، اذكر لي القوم الذين أبلوا وصف لي بلاءهم، فأمر الناس فكتبوا ذلك للحجاج، فقال لهم المهلب: ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله. ثم ذكرهم للحجاج على مراتبهم في البلاء وتفاضلهم في الغناء، وقدم بنيه: المغيرة، ويزيد، ومدركاً، وحبيباً، وقبيصة، والمفضل وعبد الملك، ومحمداً وقال: إنه والله لو قدمهم أحد في البلاء لقدمته عليهم، ولولا أن أظلمهم لأخرتهم. قال الحجاج: صدقت، وما أنت بأعلم بهم مني وإن حضرت وإبت إنهم لسيوف من سيوف الله. ثم ذكر معن بن المغيرة بن أبي صفرة والرقاد وأشباههما، فقال الحجاج: أين الرقاد? فدخل رجل طويل أجنأ ، فقال المهلب هذا فارس العرب، فقال الرقاد: أيها الأمير، إني كنت أقاتل مع غير المهلب، فكنت كبعض الناس، فلما صرت مع من يلزمني الصبر ويجعلني أسوة نفسه وولده ويجاريني على البلاء، صرت أنا وأصحابي فرساناً؛ فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم، وزاد ولد المهلب ألفين، وفعل بالرقاد وجماعة شبيهاً بذلك. قال يزيد بن حبناء من الأزارقة: دعي اللوم إن العيش ليس بـدائم لا تعجلي باللوم يا أم عـاصـم فإذ عجلت منك الملامة فاسمعي مقالة مقني بحـقـك عـالـم ولا تعذلينا في الهـدية إنـمـا تكون الهدايا من فضول المغانم فليس بمهد من يكون نـهـاره جلاداً ويمسي ليله غـير نـائم يريد ثواب الله يوماً بـطـعـنة غموس كشدق العنبري بن سالم أبيت وسربالي دلاص حصـينة ومغفرها والسيف فوق الحيازم حلفت برب الواقفـين عـشـية لدى عرفات حلقه غـير آثـم لقد كان في القوم الذين لقيتهـم بسابور شغل عن بروز اللطائم توقـد فـي أيديهـم زاعـبـية ومقهة تقري شؤون الجماجـم قوله: من يكون نهاره جلاداً ويمسي ليله غير نائم يريد يمسي هو في ليله ويكون ه في نهاره، ولكنه جعل الفعل لليل والنهار على السعة، وفي القرآن: " بل مكر الليل والنهار " " سبأ: 33 "، والمعنى بل مكركم في الليل والنهار، وقال من أهل البحرين من اللصوص: أما النهار ففـي قـيد وسـلـسـلة والليل في جوف منحوت من الساج وقال آخر: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بـنـائم ولو قال: من يكون نهاره جلاداً ويمسي ليله غير نائم. فكان جيداً، وذاك أنه أراد من يكون نهاره يجالد جلاداً، كما تقول: إنما أنت سيراً، وإنما أنت ضرباً تريد تسير سيراً، وتضرب ضرباً، فأضمر لعلم المخاطب أنه لا يكون هو سيراً، ولو رفعه على أن يجعل الجلاد في موضع المجالد، على قوله: أنت سير أي أنت جائز كما قالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار وفي القرآن: " قل أرءيتم إن أصبح ماؤكم غوراً " " الملك: 30 " أي غائراً، وقد مضى تفسير هذا بأكثر من هذا الشرح، ولو قال: ويسمي ليله غير نائم لجاز: يصير اسمه في يمسي، ويجعل ليله ابتداء، وغير نائم خبره على السعة التي ذكرنا. وقوله: غموس يريد واسعة محيطة. والعنبري بن سالم رجل منهم كان يقال له الأشدق. واللطائم: واحدتها: لطيمة، وهي الإبل التي تحمل البز والعطر. وقوله: توقد في أيديهم زاعبية يعني الرماح، والتوقد للأسنة، والزاعبية منسوبة إلى زاعب، وهو رجل من الخزرج كان يعمل الرماح. وتفري: تقد، يقال فرى إذا قطع، وأفرى إذا أصلح. وقال حبيب بن عوف من قواد المهلب: أبا سعيد جزاك اللـه صـالـحة فقد كفيت ولم تعنف على أحـد داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا وكنت كالوالد الحاني على الولد وقال عبيدة بن هلال في هربهم مع قطري: ما زالت الأقدار حتى قذفنني بقومس بين الفرخان وصول ويروى أن قاضي قطري، وهو رجل من بني عبد القيس، سمع قول عبيدة بن هلال: علا فوق عرش فوق سبـع ودونـه سماء ترى الأرواح من دونها تجري فقال له العبدي: كفرت إلا أن تأتي بمخرج، قال: نعم، روح المؤمن تعرج إلى السماء، قال: صدقت. وقال يذكر رجلاً منهم: يطوي وترفعه الرياح كأنـه شلو تنشب في مخالب ضار فثوى صريعاً والرماح تنوشه إن الشراة قصيرة الأعمار تنوشه: تأخذه وتتناوله، قال الله عز وجل: " وأنى لهم التناوش من مكان بعيد " " سبأ: 52 " أي التناول. ومثل بيته هذا قول حبيب الطائي: فيم الشماتة إعلاناً بأسد وغـى أفناهم الصبر إذ أبقاكم الجزع وقال أيضاً في شبيه بهذا المعنى: إن ينتحل حدثان الموت أنفسـكـم ويسلم الناس بين الحوض والعطن فالماء ليس عجيبـاً أن أعـذبـه يفنى ويمتد عمر الآجـن الأسـن وقالأيضاً: عليك سلام الله وقفاً فـإنـنـي رأيت الكريم الحر ليس له عمر وقال القاسم بن عيسى: أحبك يا جنان فأنت مـنـي مكان الروح من بدن الجبان ولو أني أقول كان روحـي لخفت عليك بادرة الزمـان لإقدامي إذا ما الحرب جاشت وهاب حماتها حر الطعـان وقال معاوية بن أبي سفيان في خلاف هذا المعنى: أكان الجبـان يرى أنـه يدافع عنه الفرار الأجل فقد تدرك الحادثات الجبان ويسلم منها الشجاع البطل رجع الحديث: وقال رجل من عبد القيس من أصحاب المهلب: سائل بنا عمرو القنا وجنوده وأبا نعامة سيد الكـفـار أبو نعامة: قطري. وقال المغيرة بن حبناء الحنظلي من أصحاب المهلب: إني امرؤ كفني ربي وأكرمنـي عن الأمور التي في رعيها وخم وإنما أنا إنسـان أعـيش كـمـا عاشت رجال وعاشت قبلها أمم ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا عني بما صنعوا عجز ولا بكـم ولو أردت قفولاً ما تجهمـنـي إذن الأمير ولا الكتاب إذ رقموا إن المهلب إن أشتـق لـرؤيتـه أو أمتدحه فإن الناس قد علمـوا أن الأريب الذي ترجى نوافـلـه والمستعان الذي تجلى به الظلـم القائل الفاعل الميمـون طـائره أبو سعيد إذا ما عدت الـنـعـم أزمان أزمان إذ عض الحديد بهم وإذ تمنى رجال أنهم هـزمـوا قال أبو العباس: وهذا الكتاب لم نبتدئه لتتصل فيه أخبار الخوارج ولكن ربما اتصل الشيء بالشيء، والحديث ذو شجون، ويقترح المقترح ما يفسخ به عزم صاحب الكتاب، ويصده عن سننه، ويزيله عن طريقه. ونحن راجعون إن شاء الله إلى ما ابتدأ له هذا الكتاب، فإن مر من أخبار الخوارج شيء مر كما مر غيره ولو نسقناه على ما جرى من ذكرهم لكان الذي يلي هذا خبر نجدة، وأبي فديك، وعمارة الرجل الطويل، وشبيب، ولكان يكون الكتاب للخوارج مخلصاً. ^ الجزء الرابع بسم الله الرحمن الرحيم باب في اختصار الخطب والتحميد والمواعظ نبذ من كلام الحكماء في الموعظة قال أبو العباس: كان الحسن يقول: الحمد لله الذي كلفنا ما لو كلفنا غيره، لصرنا فيه إلى معصيته، وآجرنا على ما لا بد لنا منه. يقول: كلفنا الصبر، ولو كلفنا الجزع لم يمكنا أن نقيم عليه، وآجرنا على الصبر، ولا بد لنا من الرجوع إليه. وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول عند التعزية: عليكم بالصبر، فإن به يأخذ الحازم، وإليه يلجأ الجازع. وقال للأشعث بن قيس: إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور. وقال الخزيمي: ولو شئت أن أبكي دماً لبكـيتـه عليه، ولكن ساحة الصبر أوسع وفي هذا الشعر وإن لم يكن من هذا الباب: وأعددته ذخراً لكل ملـمةٍ وسهم المنايا بالذخائر مولع خطبة لأبي طالب وخطب أبو طالب بن عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تزوجه خديجة بنت خويلد رحمة الله عليها، فقال؛ الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً، وجعلنا الحكام على الناس؛ ثم إن محمد بن عبد الله، ابن أخي، من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه براً وفضلاً، وكرماً وعقلاً، ومجداً ونبلاً، وإن كان في المال قل، فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعلي. وهذه الخطبة من أقصد خطب الجاهلية. وفود النابغة الجعدي على ابن الزبير ومن جميل محاورات العرب ما روي لنا عن يحيى بن محمد بن عروة، عن أبيه عن جده، قال: أقحت السنة علينا، النابغة الجعدي، فلم يشعر به ابن الزبير حين صلى الفجر حتى مثل بين يديه يقول: حكيت لنا الصديق حـين ولـيتـنـا وعثمان والفارق فارتاح مـعـدم وسويت بين الناس في العدل فاستووا فعاد صباحاً حالك الليل مـظـلـم أتاك أبو ليلى يشـق بـه الـدجـى دجى الليل جواب الفلاة عثمـثـم لترفع منه جانبـاً ذعـذعـت بـه صروف الليالي والزمان المصمـم فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فأيسر وسائلك عندنا الشعر، أما صفوة أموالنا فلبني أسد، وأما عفوتها فلآل الصديق، ولك في بيت المال حقان: حق لصحبتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق بحقك في المسلمين. ثم أمر له بسبع قلائص وراحلة رحيل. ثم أمر بأن توقر له حباً وتمراً. فجعل أبو ليلى يأخذ التمر فيستجمع به الحب فيأكله، فقال له ابن الزبير: لشد ما بلغ منك الجهد يا أبا ليلى! فقال النابغة: أما على ذاك لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما استرجمت قريش فرحمت وسئلت فأعطت، وحدثت فصدقت، ووعدت فأنجزت، فأنا والنبيون على الحوض فراط لقادمين". قوله: أقحمت السنة يكون على وجهين: يقال: اقتحم إذا دخل قاصداً، وأكثر ما يقال من غير أن يدخل، ويكون من القحمة، وهي السنة الشديدة، وهو أشبه الوجهين، والآخر حسن. والسنة: الجدب، يقال: أصابتهم سنة إذا أصابهم جذب، ومن ذا قوله عز وجل: "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين" الأعراف: 130، أي بالجدب. وقوله: صفوة، فهي في معنى الصفو، وأكثر ما يستعمل الكسر، والباب في المصادر للحال الدائمة الكسر كقولك: حسن الجلسة والركبة والمشية والنيمة، كأنها خلقة. والعفوة إنما هو ما عفا، أي ما فضل، "خذ العفو" الأعراف 199، قالوا: الفضل، وكذلك قوله جل اسمه: "ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو" البقرة 219. وقوله: عثمثم، يريد الموثق الخلق الشديد. وذعذعت، أي أذهبت ماله وفرقت حاله. وقوله: راحلة رحيل، أي قوية على الرحلة معودة لها. ويقال: فحل فحيل، أي مستحكم في الفحلة، وفي الحديث أن ابن عمر قال لرجل: اشتر لي كبشاً لأضحي به، أملح، واجعله أقرن فحيلاً. وقوله: فأنا والنبيون على الحوض فراط لقادمين، الفارط: الذي يتقدم القوم فيصلح لهم الدلاء والأرشية وما أشبه ذلك من أمرهم حتى يردوا، ومن ذلك قول المسلمين في الصلاة على الطفل: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنا فرطكم على الحوض". وكان يقال: يكفيك من قريش أنها أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسباً، ومن بيت الله بيتاً. ويقال: إن دار أسد ابن عبد العزى كان يقال لها: رضع الكعبة، وذلك أنها تفيء عليها الكعبة صباحاً، وتفيء على الكعبة عشياً، وإن كان الرجل من ولد أسد ليطوف بالبيت فينقطع شسع نعله فيرمي بنعله في منزله فتصلح له، فإذا عاد في الطواف رمي بها إليه، وفي ذلك يقول القائل: لهاشم وزهير فضـل مـكـرمة بحيث حلت نجوم الكبش والأسـد مجاور البيت ذي الأركان بيتهمـا ما دونهم في جوار البيت من أحد وقال آخر: سمين قريش مانع منك لحمه وغث قريش حيث كان سمين وقال آخر: وإذا ما أصبته مـن قـريش هاشمياً أصبت قصد الطريق وقال حرب بن أمية لأبي مطر الحضرمي يدعوه إلى حلفه ونزول مكة: أبا مطر هلم إلـى صـلاح فتكنفك الندامى من قـريش وتأمن وسطهم وتعيش فيهـم أبا مطر هديت لخير عـيش وتسكن بلدة عـزت قـديمـاً وتأمن أن يزورك رب جيش صلاح: اسم من أسماء مكة وكانت بلداً لقاحاً، واللقاح: الذي ليس في سلطان ملك، وكانت لا تغزى تعظيماً لها، حتى كان أمر الفجار، وإنما سمي الفجار لفجورهم إذ قاتلوا في الحرم. وكانت قريش تعز الحليف وتكرم المولى وتكاد تلحقه بالصميم، وكانت العرب تفعل ذلك، ولقريش فيه تقدم. تحريض سديف على بني أمية ودخل سديف مولى أبي العباس السفاح0 على أبي العباس أمير المؤمنين، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك، وقد أدناه وأعطاه يده فقبلها، فلما رأى ذلك سديف أٌبل على أبي العباس، وقال: لا يغرنك ما ترى مـن أنـاس إن تحت الضـلـوع داءً ودوياً فضع السيف وارفع السوط حتى لا ترى فوق ظهرهـا أمـوياً فأقبل عليه سليمان فقال: قتلتني أيها الشيخ قتلك الله! وقام أبو العباس فدخل، فإذا المنديل قد ألقي في عنق سليمان ثم جر فقتل. تحريض شبل بن عبد الله على بني أمية ودخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي، وقد أجلس ثمانين رجلاً من بني أمية على سمط الطعام، فمثل بين يديه، فقال: أصبح الملك ثابـت الآسـاس بالبهاليل من بني الـعـبـاس طلبوا وتر هاشم فشـفـوهـا بعد ميل من الـزمـان وياس لا تقلين عبد شمـس عـثـاراً واقطعن كل رقلة وأواسـي ذلها أظهر التـودد مـنـهـا وبها منكم كحز المـواسـي ولقد غاظني وغـاظ سـوائي قربهم من نمارق وكراسـي أنزلوها بحيث أنزلـهـا الـل ه بدار الهـوان والإتـعـاس واذكروا مصرع الحسين وزيداً وقتيلاً بجانب الـمـهـراس والقتيل الذي بحران أضحـى ثاوياً بين غربة وتـنـاسـي نعم شبل الهراش مولاك شبل لو نجا من حبائل الإفـلاس! فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد، وبسطت عليهم البسط، وجلس عليها، ودعا بالطعام، وإنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً وقال لشبل: لولا أنك خلطت كلامك بالمسألة لأغنمتك جميع أموالهم، ولعقدت لك على جميع موالي بني هاشم. قوله: الآساس واحدها أس، وتقديرها فعل وأفعال وقد يقال للواحد: أساس، وجمعه أسس. والبهلول: الضحاك. وقوله: بعد ميل من الزمان ويأس يقال: فيك ميل علينا، وفي الحائط ميل، وكذلك كل منتصب. وقوله: واقطعن كل رقلة، الرقلة: النخلة الطويلة، ويقال إذا وصف الرجل بالطول: كأنه رقلة. والأواسي، ياؤه مشددة في الأصل وتخفيفها يجوز، ولو لم يجز في الكلام لجاز في الشعر؛ لأن القافية تقتطعه، وكل مثقل فتخفيفه في القوافي جائز، كقوله: أصحوت اليوم أم شاقتك هر ومن الحب جنون مستعـر وواحدها أسية وهي أصل البناء بمنزلة الأساس.
وقوله: وغاظ سوائي تقول: ما عندي رجل سوى زيد، فتقصر إذا كسرت أوله، فإذا فتحت أوله على هذا المعنى مددت، قال الأعشى:
تجانف عن جو اليمامة، ناقتي وما قصدت من أهلها لسوائكا والسواء ممدود في كل موضع وإن اختلفت معانيه، فهذا واحد منه، والسواء: الوسط، ومنه قوله عز وجل: "فرءاه في سواء الجحيم" الصافات 55. يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد والسواء: العدل والاستواء، ومنه قوله عز وجل: "إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" أل عمران 64، ومن ذلك: عمرو وزيد سواء، والسواء: التمام، يقال: هذا درهم سواء، وأصله من الأول، وقوله عز وجل: "في أربعة أيام سواء للسائلين" فصلت 10، معناه تماماً. ومن قرأ: سَواءٍ فإنما وضعه في موضع مستويات. والنمارق، واحدتها نمرقة، وهي الوسائد، قال الفرزدق: وإنا لتجري الكأس بين شروبنا وبين أبي قابوس فوق النمارق وقال نصيب: إذا ما بساط اللهو مد وقربت للذاته أنماطه ونمـارقـه وقوله: مصرع الحسين وزيد يعني زيد بن علي بن الحسين، كان قد خرج على هشام بن عبد الملك، وقتله يوسف بن عمر الثقفي وصلبه بالكناسة عرياناً، هو وجماعة من أصحابه. ويروى الزبيريون أنه كان بين يوسف بن عمر وبين رجل إحنة، فكان يطلب عليه علة، فلما ظفر بزيد بن علي وأصحابه أحسوا بالصلب، فأصلحوا من أبدانهم واستحدوا، فصلبوا عراة، وأخذ يوسف عدوه ذلك، فنحله أنه كان من أصحاب زيد فقتله وصلبه، ولم يكن استحد، لأنه كان عند نفسه آمناً، وكان بالكوفة رجل معتوه عقده التشيع، فكان يجيء فيقف على زيد وأصحابه فيقول: صلى الله عليك يا ابن رسول الله، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور ودافعت الظالمين؛ ثم يقبل عليهم رجلاً رجلا فيقول: وأنت يا فلان؛ فجزاك الله خيراً، فقد جاهدت في الله حق جهاده، وأنكرت الجور ونصرت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقف على عدو يوسف فيقول: فأما أنت يا فلان، فوفور عانتك يدل على أنك بريء مما قرفت به! قال أبو العباس: وقال حبيب بن جدرة - ويقال: ابن جدرة، وهي السلعة - الهلالي. قال الأخفش: الصحيح عندنا ابن خدرة بالخاء وكسرها، وقال المبرد: لم أسمعه إلا جَدَرَةَ ويقال: جُدرةَ. وهو من الخوارج، يعني زيد بن علي: يابا حسين لو شراة عصـابة صحبوك كان لوردهم إصدار يابا حسين والجديد إلى بـلـى أولاد درزة أسلموك وطاروا تقول العرب للسفلة والسقاط: أولاد درزة، وتقول لمن تسبه: ابن فرتنى، وأولاد فرتنى. وتقول للصوص: بنو غبراء، وفي هذا الباب. ويروى أن شاعراً لبني أمية قال معارضاً للشيع في تسميتهم زيداً المهدي والشاعر هو الأعور الكلبي: صلبنا لكم زيداً على جذع نخـلة ولم نر مهدياً على الجذع يصلب ونظر بعد زمين إلى رأس زيد ملقى في دار يوسف وديك ينقره، فقال قائل من الشيعة: اطردوا الديك عن ذؤابة زيد طالما ما كان لا تطاه الدجاج وقوله: وقتيلاً بجانب المهراس يعني حمزة بن عبد المطلب، والمهراس ماء بأحد، ويروى في الحديث أن رسول الله صلى الله علية وسلم عطش يوم أحد، فجاءه علي في درقة بماء من المهراس فعافه فغسل به الدم عن وجهه. وقال ابن الزبعري في يوم أحد: ليت أشياخي ببـدر شـهـدوا جزع الخزرج من وقع الأسل فاسأل المهراس من ساكـنـه بعد أبدان وهام كالـحـجـل وإنما نسب شبل قتل حمزة إلى بني أمية؛ لأن أبا سفيان بن حرب كان قائد الناس يوم أحد. والقتيل الذي بحران هو إبراهيم بن محمد بن علي، وهو الذي يقال له الإمام. وكان يقال: ضحى بنو حرب بالدين يوم كربلاء، وضحى بنو مروان بالمروءة يوم العقر؛ فيوم كربلاء يوم الحسين بن علي بن أبي طالب وأصحابه، ويوم النقر يوم قتل يزيد بن المهلب وأصحابه. وإنما ذكرنا هذا لتقدم في إكرام مواليها. من أخبار الموالي ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش موتة زيداً مولاه، وقال: إن قتل فأميركم جعفر. وأمر رسول الله أسامة بن زيد، فبلغه أن قوماً طعنوا في إمارته، وكان أمره على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار، فقال عليه السلام: "إن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه قبله، ولقد كان لها أهلاً، وإن أسامة لها لأهل"، وقالت عائشة: لو كان زيد حياً ما استخلف رسول الله غيره. وقال عبد الله بن عمر لأبيه: لم فضلت أسامة علي وأنا وهو سيان? فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك، وكان أحب إلى رسول الله منك. وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه لتميط عن أسامة أذى من مخاط أو لعاب، فكأنها تكرهته، فتولى منه ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. وقال له يوماً، ولم يكن أسامة من أجمل الناس: "لو كنت جارية لنحلناك وحليناك حتى يرغب الرجال فيك". وفي بعض الحديث أنه قال: "أسامة من أحب الناس إلي". وكان صلى الله عليه وسلم أدى إلى بني قريظة مكاتبة سلمان، فكان سلمان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: سلمان منا أهل البيت. ويروى أن أمير المؤمنين المهدي نظر إليه ويد عمارة بن حمزة في يده، فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين? فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة، فلما ولى الرجل ذكر ذلك المهدي كالممازح لعمارة، فقال له عمارة: انتظرت والله أن تقول: ومولاي فأنفض والله يدك. فتبسم أمير المؤمنين المهدي. ولم يكن الإكرام للموالي في جفاة العرب؛ زعم الليثي أنه كانت بين جعفر ابن سليمان وبين مسمع بن كردين منازعة، وبين يدي مسمع مولى له، له بهاء ورواء ولسن، فوجه جعفر إلى مسمع مولى له لينازعه، ومجلس مسمع حافل، فقال: إن أنصفني والله جعفر أنصفته، وإن حضر حضرت معه، وإن عند عن الحق عندت عنه، وإن وجه إلي مولى مثل هذا - وأومأ إلى مولاه - مولى مثل هذا، عاضاً لما يكره، فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه الذي تبهى بمثله العرب. وقد قيل: الرجل من أبيه، والمولى من مواليه. وفي بعض الحديث أن المعتق من فضل طينة المعتق. ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه، فانتزعها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أبا عبد الله، إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا". ويروى أن رجلاً من موالي بني مازن، يقال له عبد الله بن سليمان، وكان من جلة الرجال، نازع عمرو بن هداب المازني، وهو في ذلك الوقت سيد بني تميم قاطبة، فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره، فأدخل الفعلة دار عمرو، فلما قلع من سطحه سافاً كف عنه، ثم قال يا عمرو! أريتك القدرة وسأريك العفو. وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة. كان نافع بن جبير، أحد بني نوفل بن عبد مناف، إذا مر عليه بالجنازة سأل عنها، فإن قيل: قرشي قال: وا قوماه! وإن قيل: عربي قال: وا مادتاه! وإن قيل: مولى أو عجمي قال: اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت! ويروى أن ناسكاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم كان يقول في قصصه: اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة، فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك. وزعم الأصمعي قال: سمعت أعرابياً يقول لآخر: أترى هذه العجم تنكح نساءنا في الجنة? قال: أرى ذلك والله بالأعمال الصالحة، قال: توطأ واله رقابنا قبل ذلك. وهذا باب لم نكن ابتدأنا ذكره، ولكن الحديث يجر بعضه بعضاً، ويحمل بعضه على لفظ بعض. ثم نعود إلى ما ابتدأناه إن شاء الله، وهو ما نختاره من مختصرات الخطب وجميل المواعظ، والزهد في الدنيا المتصل بذلك، وبالله التوفيق. بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو العابس: قد ذكرنا في صدر كتابنا هذا، أنا نذكر فيه خطباً ومواعظ: فمما نذكره في ذلك أمر التعازي والمراثي؛ فإنه باب جامع، وقد قيل إنه لم يقل في شيء قط كما قيل في هذا الباب؛ لأن الناس لا ينفكون من المصائب، ومن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، ومن لم يعدم نفيساً كان هو المعدوم دون النفيس، وحق الإنسان الصبر على النوائب، واستشعار ما صدرناه، إذ كانت الدنيا دار فراق ودار بوار، لا استواء. وعلى فراق المألوف حرقة لا تدفع، ولوعة لا ترد، وإنما يفاضل الناس بصحة الفكر، وحسن العزاء، والرغبة في الآخرة، وجميل الذكر. من مراثي الآباء والإخوة والأبناء فقد قال أبو خراش الهذلي، وهو أحد حكماء العرب، يذكر أخاه عروة بن مرة: تقول أراه بعد عروة لاهـياً وذلك رزء لو علمت جليل فلا تحسبي أني تناسيت عهده ولكن صبري يا أميم جميل وقال عمرو بن معدي كرب: كم من أخ لـي حـازم بوأته بـيدي لـحـدا أعرضت عن تذكـاره وخلقت يوم خلقت جلدا وكان يقال: من حدث نفسه بالبقاء، ولم يوطنها على المصائب فعاجز الرأي. وعزى رجل رجلاً عن ابنه فقال: أكان يغيب عنك? قال: كانت غيبته أكثر من حضوره، قال: فأنزله غائباً عنك، فإنه إن لم يقدم عليك قدمت عليه. وقال إبراهيم بن المهدي يذكر ابنه: وإني وإن قدمت قبلي لعالـم بأني وإن أبطأت عنك قريب وإن صباحاً نلتقي في مسائه صباح إلى قلبي الغداة خبيب وكفى باليأس معزياً، وبانقطاع الطمع زاجراً كما قال الشاعر: أيا عمرو لم أصبر ولي فيك حـيلة ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر تصبرت مغلوباً وإني لـمـوجـع كما صبر العطشان في البلد القفر وقال بعض المحدثين وليس بناقصه حظه من الصواب أنه محدث، يقوله لرجل رثاه قال أبو الحسن: وهو أبو تمام: عجبت لصبري بعده وهو ميت وقد كنت أبكيه دماً وهو غائب على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب وحدثت أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه عبد الملك خطب الناس فقال: الحمد لله الذي جعل الموت حتماً واجباً على عباده، فسوى فيه بين ضعيفهم وقويهم، ورفيعهم ودنيهم، فقال عز وجل: "كل نفس ذائقة الموت" آل عمران 185، فليعلم ذوو النهي منهم أنهم صائرون إلى قبورهم، مفردون بأعمالهم. واعلموا أن لله مسألة فاحصة، قال عز وجل: "فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعلمون" الحجر: 92-93، وله يقول القائل: تعز أمير المؤمـنـين فـإنـه لما قد ترى يغذي الصغير ويولد هل ابنـك إلا مـن سـلالة آدم لكل على حوض المنية مـورد وقال رجل من قريش يرثي ابنه قال أبو الحسن: هو العتبي. بأبي وأمي من عبأت حنوطـه بيدي وودعني بماء شبـابـه كيف السلو وكيف صبري بعده وإذا دعيت فإنما أكنـى بـه! وقال ابن لعمر بن عبد العزيز يرثي عاصم بن عمر: فإن يك حزن أو تجزع غـصة أماراً نجيعاً من دم الجوف منقعا تجرعته في عاصم واحتسـيتـه لأعظم منه ما احتس وتجرعـا وقال أبو سعيد إسحاق بن خلف يرثي ابنة أخته، وكان تبناها، وكان حدباً عليها كلفاً بها: أمست أميمة معموراً بها الرجم لقى صعيد عليها الترب مرتكم يا شقة النفس إن النفس والـهة حرى عليك ودمع العين منسجم قد كنت أخشى عليها أن تقدمني إلى الحمام فيبدي وجهها العدم فالآن نمت فلا هم يؤرقـنـي يهدا الغيور إذا ما أودت الحرم للموت عند أياد لست أنكـرهـا أحيا سروراً وبي مما أتى ألـم وهذا المرثية ليست مما تقع مع الجزع القراح والحزن المفرط، ولكنه باب للمراثي يجمع إفراط الجزع، وحسن الاقتصاد، والميل إلى التشكي، والركون إلى التعزي، وقول من كان له واعظ من نفسه، أو مذكر من ربه، ومن غلبت عليه الجساوة، وكان طبعه إلى القساوة، فقد اختلط كل بكل. وقال رجل من المحدثين يرثي أباه: تحل رزيات وتعرو مـصـائب ولا مثل ما أنحت علينا يد الدهر لقد عركتنا للـزمـان مـلـمة أذمت بمحمود الجلادة والصبر فهذا يحسن من قائله أن الرزء كان جليلاً بإجماع، فللقائل أن يتفسح في القول فيه. وهذا يقوله عبد العزيز بن عبد الرحيم بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان عبد الرحيم من جلة أهله لسناً ونعمة وسناً وولاية، ومات معزولاً عن اليمن في حبس الخليفة. وأم جعفر بن سليمان أم حسن بنت جعفر بن حسن بن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليهم. فلذلك يقول عبد العزيز في هذه القصيدة: بموتك يا عبد الرحيم بن جعـفـر تفاحش صدع الدين عن ألأم الكسر فيا ابن النبي المصطفى وابن بنتـه ويا ابن علي والفواطم والحـبـر ويا ابن اختيار الـلـه مـن آل آدم أباً فأباً طهراً يؤدي إلى طـهـر ويا ابن سليمان الذي كان ملـجـأ لمن ضاقت الدنيا به من بني فهر ومن ملأ الدنيا سـمـاحـاً ونـائلاً وروى حجيجاً بالملمعة القـفـر لعز بما قد نـالـنـا مـن رزيئة بموتك محبوساً على صاحب القبر فإن تضح في حبس الخليفة ثـاوياً أبياً لما يعطي الذليل على القشـر لكم من عدو للخلـيفة قـد هـوى بكفك أو أعطى المقادة عن صغر فوا حزناً! لو في الوغى كان موته بكينا عليه بالردينـية الـسـمـر وكنا وقيناه القـنـا بـنـحـورنـا وفات كذا في غير هيج ولا نفـر وحدثت أن عمر بن الخطاب لما ولى كعب بن سور الأزدي قضاء البصرة، أقام عاملاً له عليها إلى أن استشهد، على أنه كان قد عزله ثم رده، فلما قام عثمان بن عفان أقره، فلما كان يوم الجمل خرج مع إخوة له - قالوا ثلاثة، وقالوا أربعة - وفي عنقه مصحف، فقتلوا جميعاً، فجاءت أمهم حتى وقفت عليهم، فقالت: يا عين جودي بدمع سـرب على فتية من خيار العرب وما لهم غير حين النـفـو س أي أميري قريش غلب! هذه الرواية سرب وقالوا معناه: جار في طريقه، من قولهم: انسرب في حاجته. وبيت ذي الرمة يختار فيه الفتح: كأنه من كلى مفرية سرب لأنه اسم، والأول المكسور نعت، ويقبح وضع النعت موضع المنعوت غير المخصوص. قال أبو الحسن: حق النعت أن يأتي بعد المنعوت، ولا يقع في موقعه حتى يدل عليه فيكون خاصاً له دون غيره، تقول: جاءني إنسان طويل، فإن قلت: جاءني طويل لم يجز؛ لأن طويلاً أعم من قولك: إنسان، فلا بدل عليه. فإن قلت: جاءني إنسان متكلم، ثم قلت بعد: جاءني متكلم جاز؛ لأنك تدل به على الإنسان، فهذا شرح قوله: المخصوص. وقولها: غير حين النفوس نصب على الاستثناء الخارج من أول الكلام، وقد ذكرناه مشروحاً. والمراثي كثيرة كما وصفنا، وإنما نكتب منها المختار والنادر والمتمثل به السائر. فمن مليح ما قيل قول رجل يرثي أباه: قال أبو الحسن: يقال إنه لأبي العتاهية: قلب يا قلب أوجعـك ما تعدى فضعضعـك يا أبي ضمك الثـرى وطوى الموت أجمعك ليتني يوم مـت صـر ت إلى حفرة معـك رحم الله مصـرعـك برد الله مضجـعـك وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابنه، وكان مات بالبصرة: نأى آخـر الأيام عـنـك حـبــيب فلـلـعـين سـح دائم وغــروب دعته نـوى لا يرتـجـي أوبة لـهـا فقلبـك مـسـلـوب وأنـت كـئيب يؤوب إلـى أوطـانـه كـل غـائب وأحمد فـي الـغـياب لـيس يؤوب تبـدل داراً غـير داري وجـــيرة سواي، وأحداث الـزمـان تـنـوب أقام بها مسـتـوطـنـاً غـير أنـه على طول أيام الـمـقـام غـريب كأن لم يكن كالغصن في ميعة الضحى سقاه الندى فاهتـز وهـو رطـيب كأن لم يكن كـالـدر يلـمـع نـوره بأصدافه لـمـا تـشـنـه ثـقـوب كأن لم يكن زين الفناء ومعقـل الـن ساء إذا يوم يكـون عــصـــيب وريحان صدري كان حـين أشـمـه ومؤنس قصري كـان حـين أغـيب وكانت يدي ملأى به ثم أصـبـحـت بحمد إلهي وهـي مـنـه سـلـيب قليلاً مـن الأيام لـم يرو نـاظـري بها منه حتى أغلـقـتـه شـعـوب كظل سحاب لـم يقـم غـير سـاعة إلى أن أطاحته فـطـاح جـنـوب أو الشمس لما من غمام تـحـسـرت مساء وقـد ولـت وحـان غـروب سأبكيك ما أبقت دموعـي والـبـكـا بعـينـي مـاء يا بـنـي يجــيب وما غار نجم أو تغـنـت حـمـامة أو اخضر في فرع الأراك قضـيب حياتي ما دامت حياتي فإن أمت ثويت وفي قلبي عليك نـدوب وأضمر إن أنفدت دمعي لـوعة عليك لها تحت الضلوع وجيب دعوت أطباء العراق فلم يصب دواءك منهم في البلاد طبـيب ولم يملك الآسون دفعأً لمهـجة عليها لأشراك المنـون رقـيب قصمت جناحي بعد ما هد منكبي أخوك، فرأسي قد علاه مشيب فأصبحت في الهلاك إلا حشاشة تذاب بنار الحزن فهي تـذوب توليتما في حقبة فتـركـتـمـا صدى يتولـى تـارة ويثـوب فلا مـيت إلا دون رزئك رزؤه ولو فتتت حزناً عليه قـلـوب وإني وإن قدمت قبلي لـعـالـم بأني وإن أبطأت منـك قـريب وإن صباحاً نلتقي في مـسـائه صباح إلى قلبي الغداة حبـيب وقال أبو عبد الرحمن العتبي، وتتابع له بنون: كل لساني عن وصف ما أجـد وذقت ثكـلا مـا ذاقـه أحـد وأوطنت حرقة حشـاي فـقـد ذاب عليها الفـؤاد والـكـبـد ما عالج الحزن والحرارة في ال أحشاء من لم يمـت لـه ولـد فجعت باثنين ليس بـينـهـمـا إلا ليال لـيسـت لـهـا عـدد فكل حزن يبلى على قـدم الـد هر وحـزنـي يجـده الأبـد وذكر بعض الرواة أن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان عاملاً لعلي بن أبي طالب على اليمن، فشخص إلى علي، واستخلف على اليمن عمرو بن أركة الثقفي، فوجه معاوية إلى اليمن ونواحيها بسر بن أرطاة، أحد بني عامر ابن لؤي، فقتل عمرو بن أراكة، فجزع عليه عبد الله أخوه جزعاً شديداً، فقال أبوه: لعمري لئن أتبعت عينيك ما مضى به الدهر أو ساق الحمام إلى القبر لتستنفدن ماء الـشـؤون بـأسـره ولو كنت تمهرين من ثبج البحـر لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارساً بصنعاء كالليث الهزبر أبي أجـر وقلت لعبد الـلـه إذ حـن بـاكـياً تعز، وماء العين منهمـر يجـري تبين فإن كان البكار رد هـالـكـا على أهله فاشدد بكابك على عمرو ولاتبك ميتاً بـعـد مـيت أجـنـه علي وعبـاس وآل أبـي بـكـر قوله: من ثبج البحر فثبج كل شيء وسطه، ويروى في الحديث: كنت إذا ُفاتحت الزهري فتحت منه ثبج البحر. وقوله: تمريهن هو مثل، يقال: "مريت الناقة" إذا مسحت ضرعها لتدر، فإنما هو استخراج اللبن، ويقال: "مريت برجلي الأرض"، إذا مسحتها، والأصل ذلك، فإنما أراد: ولو كنت تستخرج الدموع من ثبج البحر. وكان بسر بن أرطاة ي تلك الحروب أرشد على ابنين لعبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب، هما، طفلان أمهما من بني الحارث بن كعب، فوارتهما الحارثية، فيقال إنه أخذهما من تحت ذيلها فقتلهما، ففي ذلك تقول الحارثية: ألا من بين الأخـوي ن أمهما هي الثكلى تسائل من رأى ابنيها وتستبغي فما تبغى وفي ذلك تقول أيضاً: يا من أحسن بنـيي الـلـذين هـمـا كالدرتين تشظى عنهمـا الـصـدف يا من أحس بـنـيي الـلـذين هـمـا سمعي وطرفي فطرفي اليوم مختطف يا من أحس بـنـيي الـلـذين هـمـا مخ العظام فمخي الـيوم مـزدهـف نبئت بسراً، وما صدقت ما زعـمـوا من قولهم ومن الإفك الذي اقتـرفـوا أنحى على ودجي طفلـي مـرهـفة مشحوذة، وعظـيم الإفـك يقـتـرف من دل والـهة حـرى مـفـجــعة على صبيين غابا إذ مضى السـلـف ويرى أن معاوية لما أتاه موت عتبة تمثل: إذا سار من خلف امرئ وأمامه وأوحش من أصحابه فهو سائر فلما أتاه موت زياد تمثل: وأفردت سهماً في الكنانة واحـداً سيرمي به أو يكسر السهم كاسر وماتت امرأة للفرزدق بِجُمع ومعنى جمع ولدها في بطنها وإن شئت قلت: جِمعٌ يا فتى، فقال الفرزدق: وجفن سلاح قد رزئت فلم أنح عليه ولم أبعث عليه البواكـيا وفي جوفه من دارم ذو حفيظة لو أن المنايا أنسأته لـيالـيا! وهذا من البغي في الحكم والتقدم. وقال رجل من المحدثين في ابنين لعبد الله بن طاهر أصيبا في يوم واحد وهما طفلان شبيهاً بهذا، ولكنه اعتذر فحسن قوله وصح معناه باعتذاره، وهو الطائي: لهفي على تلك الشواهد فيهما لو أمهلت حتى تكون شمائلا إن الهلال إذا رأيت نـمـوه أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً للفرزدق يرثي حدراء الشيبانية وقال الفرزدق يرثي حدراء الشيبانية: يقول ابن صفوان بكيت ولم تكـن على امرأة عيني إخال لتدمـعـا يقولون زر حدراء، والترب دونها وكيف بشيء عهده قد تقطـعـا ولست وإن عزت علـي بـزائر تراباً على مرموسة قد تضعضعا وأهون مفقود إذا الموت نـالـه على المرء من أصحابه من تقنعا وما مات عند ابن المراغة مثلهـا ولا تبعته ظـاعـنـاً يوم ودعـا لجرير يرثي امرأته وقال جرير يرثي امرأته: لولا الحياء لهاجني استعبـار ولزرت قبرك والحبيب يزار نعم الخيل وكنت علق مضنة ولدي منك سكـينة ووقـار لن يلبث القرناء أن يتفرقـوا ليل يكر علـيهـم ونـهـار صلى الملائكة الذين تخـيروا والصالحون عليك والأبـرار أفأم حزرة يا فرزدق عبتـم غضب المليك عليكم الجبار لرجل من خزاعة يرثي عمر بن عبد العزيز وقال رجل من خزاعة - وينحله كثير - يرثي عمر بن عبد العزيز بن مروان: قال أبو الحسن: الشعر لقطرب النحوي؛ وهو الذي صح عنه: أما القبور فإنهـن أوانـس بجوار قبرك والديار قبور جلت رزيئته فعم مصابـه فالناس فيه كلهم مأجـور والناس مأتمهم عليه واحـد في كل دار رنة وزفـير ردت صنائعه إليه حياتـه فكأنه من نشرها منشـور يثني عليك لسان من لم توله خيراً لأنك بالثنـاء جـدير ومثله قول عمارة يمدح خالد بن يزيد بن مزيد: أرى الناس طراً حامدين لـخـالـد وما كلهم أفضت إليه صـنـائعـه ولن يترك الأقوام أن يمدحوا الفتـى إذا كرمت أخلاقـه وطـبـائعـه فتى أمعنت ضـراؤه فـي عـدوه وخصت وعمت في الصديق منافعه ومن قوله: والناس مأتمهم عليه واحد أخذ الطائي في مرثيته: لئن أبغض الدهر الخؤون لفقده لعهدي به حياً يحب به الدهر لئن عظمت فيه مصيبة طـيئ لما عريت منها تميم ولا بكر وقال القرشي: قد كنت أبكي على من سلفي=وأهل ودي جميع غير أشتات فاليوم إذ فرقت بيني وبينـهـم نوى بكيت على أهل المروءات وما بقاء امرئ كانت مدامعـه مقسومة بين أحياء وأمـوات! ما تمثل به علي بن أبي طالب عند قبر فاطمة ويروى أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه تمثل عند قبر فاطمة رحمها الله: الكل اجتماع من خليلين فرقة وإن الذي دون الفراق قليل وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على ألا يدوم خـلـيل لعقيل بن علفة يرثي ابنه وقال عقيل بن علفة المري، من غطفان: لعمري لقد جاءت قوافل خبرت بأمر من الدنيا علـي ثـقـيل وقالوا ألا تبكي لمصرع هالـك أصاب سبيل الله خير سبـيل! كأن المنايا تبتغي في خـيارنـا لها ترة أو تهـتـدي بـدلـيل لتأت المنايا حيث شاءت فإنهـا محللة بعد الفتى ابن عـقـيل فتى كان مولاه يحل بنـجـوة فحل الموالي بعده بـمـسـيل ما تمثلت به عائشة على قبر أخيها وتمثلت عائشة رحمها الله عند قبر عبد الرحمن بن أبي بكر بقول متمم بن نويرة: وكنا كندمانـي جـذيمة حـقـبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا وعشنا بخير في الحياة وقبلـنـا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا فلما تفرقنا كأني ومـالـكـاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ومات صديق لسلميان بن عبد الملك، يقال له شراحيل، فتمثل عند قبره: وهون وجدي عن شراحيل أننـي إذا شئت لاقيت امرأ مات صاحبه لأعرابي وقال أعرابي: ألا لهف الأزامل واليتامـى ولهف الباكيات على قصي! لعمرك ما خشيت على قصي متالف بين حجر والسـلـي ولكني خشيت على قـصـي جريرة رمحه في كل حـي فتى الفتيان محلول مـمـر وأمـار بـإرشـاد وغـي فهذا من أجفى أشعار العرب، ينبئ صاحبه أن تقديره في المرثي أن تكن منيته قتلاً، ويتأسف من موته حتف أنفه، ويقول في مدحه: وأمار بإرشاد وغي خبر عامر بن الطفيل وأربد أخي لبيد وشبيه بهذا قول لبيد في أخيه أربد، لما أصابته الصاعقة وأصابت عامراً الغدة بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر قد قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أربد، فقال لأربد: أنا أشغله لك واضربه أنت بالسيف من ورائه، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام على أن يجعل له أعنة الخيل، فقال عامر: ومن يمنعها مني اليوم! ولكن إن شئت ذلك المدر ولي الوبر، أو لي المدر ولك الوبر. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فاجعل لي هذا الأمر بعدك، فأعلمه النبي أن ذلك ليس بكائن، قال: فأبشر بخيل أولها عندك وآخرها عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأبى الله ذلك وابنا قيلة" يعني الأوس والخزرج. ويروى أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، علام يسحب هذا الأعرابي لسانه عليك! دعني أقتله. ويروى أن عامراً قال للنبي عليه السلام: لأغزونك على ألف أشقر وألف شقراء، فلما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اكفنيهما". وتروي قيس أنه قال: "اللهم إن لم تهد عامراً فاكفنيه". وقال عامر لأربد: قد شغلته عنك مراراً فألا ضربته! قال: أربد: أردت ذلك مرتين فاعترض لي في إحداهما حائط من حديد، ثم رأيتك الثانية بيني وبينه، أفأقتلك! فلم يصل واحد منهما إلى منزله، أما عامر فغد في ديار بني سلول بن صعصة، فجعل يقول: أغدة كغدة البعير وموتاً في بيت سلولية! وأما أربد فارتفعت له سحابة فرمته بصاعقة فأحرقته، وكان أخا لبيد لأمه، فقال يرثيه: أحشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسـد ما إن تعري المنون من أحـد لا والد مـشـفـق ولا ولـد فجعني الرعد والصواعق بالق ارس يوم الكريهة الـنـجـد يا عين هلا بكـيت أربـد إذ قمنا وقام العدو فـي كـبـد وقال أيضاً: ذهب الذين يعاش في أكنافهـم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتحدثـون مـخـانة ومـلاذة ويعاب قائلهم وإن لم يشغـب يا أربد الخير الكـريم جـدوده غادرتني أمشي بقرن أعضب إن الرزيئة لا رزيئة مثلـهـا فقدان كل أخ كضوء الكوكب قوله: في خلف يقال: هو خلف فلان لمن يخلفه من رهطه، وهؤلاء خلف فلان؛ إذا قاموا مقامه من غير أهله، وقلما يستعمل خلف إلا في الشر، وأصله ما ذكرنا. والمخانة: مصدر من الخيانة. والملوذ: الذي لا يصدق في مودته، يقال: رجل ملوذ وملذان، وملاذة مصدره. والأعضب: المقطوع. وفي الحديث: لا يضحى بعضباء. ويروى أن رجلاً قال لمعن بن زائدة في مرضه: لولا ما من الله به من بقائك، لكنا كما قال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجر فقال له معن: إنما تذكر أني سدت حين ذهب الناس؛ هلا قلت كما قال نهار بن توسعة: قلدته عرى الأمـور نـزار قبل أن تهلك السراة البحور ثم نرجع إلى ذكر المراثي: لأعرابي وقال أعرابي: لعمري لقـد نـادى بـأرفـع صـوتـه نعـي حـيي أن سـيدكــم هـــوى أجل صادقاً والقـائل الـفـاعـل الـذي إذا قال قولاً أنبط المـاء فـي الـثـرى فتى قبل لم تعـنـس الـسـن وجـهـه سوى وضح في الرأس كالبرق في الدجى أشارت له الحرب العوان فجاءها يقعقع بالأقراب أول مـن أتـى ولم يجنها لكن جـنـاهـا ولـيه فآس وآداه فكان كمـن جـنـى صدار الخنساء ويروى أن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى الخنساء وعليها صدر من شعر، فقالت: يا خنساء، أتلبسين الصدار وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه! فقالت: زوجي رجلاً متلافاً فأخفق، فأراد أن يسافر، فقلت له: أقم وأنا آتي أخي صخراً فأسأله. فأتيته فشاطرني ماله، فأتلفه زوجي، فعدت له فعاد لي بمثل ذلك، فأتلفه زوجي، فعدت له. فلما كان في الثالثة أو الرابعة، قالت له امرأة: إن هذا المال متلف، فامنحها شرارها، فقال صخر: والله لاأمنحهـا شـرارهـا ولو هلكت خرقت خمارها واتخذت من شعر صدارها فلما هلك اتخذت هذا الصدار؛ وكان صخر أخا الخنساء لأبيها فقط. ويروى عن بعض نساء بني سليم أنها نظرت إليها في صدر وهي تصنع طيباً لابنتها لتنقلها إلى زوجها، فقاولتها في شيء كرهته الخنساء، فقالت لها: اسكتني، فوالله لقد كنت أبسط منك عرفاً، وأطيب منك ورساً، وأحسن منك عرساً، وأرق منك نعلاً، وأكرم منك بعلاً. وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعراً قط إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء! فقال: تلك كان لها أربع حصى. لبعض القرشيين يرثي أخاه وقال القرشي وتتابعه له بنون: أسكان بطن الأرض لو يقبل الفـدا فديتم وأعطينا بكم ساكني الظهـر فيا ليت من فيها عليها وليت مـن عليها ثوى فيها مقيماً إلى الحشـر فماتوا كأن لم يعرف الموت غيرهم فثكل على ثكل وقبر على قـبـر قد شمت الأعداء بـي وتـغـيرت عيون أراها بعد موت أبي عمرو تجري علي الدهر لما فـقـدتـه ولو كان حياً لاجترأت على الدهر وقاسمني دهري بني مـشـاطـراً فلما توفى شطره مال في شطري لآخر يرثي أبناءه أيضاً وحدثني العباس بن الفرج الرياشي قال: قدم رجل من البادية، فلما صار بجبل سنام مات له بنون، فدفنهم هناك، وقال: دفنت الدافعين الضيم عني برابية مجاورة سنـامـا أقول إذا ذكرت العهد منهم بنفسي تلك أصداء وهاما فلم أر مثلهم ماتوا جميعـاً ولم أر مثل هذا العام عاما قال أبو الحسن الأخفش: وفيها عن غير أبي العباس: فليت حمامهم إذ فارقوني تلقانا فكان لنا حمـامـا للحارث بن عبد الله الباهلي يرثي أبناءه قال أبو العباس: ويورى أن رجلاً كان له بنون سبعة - يروي ذلك أبو الحسن المدائني - قال أبو العباس: فاختلف علي فيهم، فقال قوم: كانوا تحت حائط، وقال قوم آخرون: بل حلب لهم في علبة فمج فيها أفعى فبعث بها إليهم فشربوها فماتوا جميعاً. والرجل يقال له الحارث بن عبد الله الباهلي، وهلكت لجار له شاة فجعل يعلن بالبكاء علهيا، فقال قائل: يا أيها الباكي على شاتـه يبكي جهاراً غير إسرار إن الرزيئات وأمثالـهـا ما بقي الحارث في الدار دعا بني معن وإخوانهـم فكلهم يعدو بمـحـفـار قال أبو العباس: والمصائب، ما عظم منها وما صغر، تقع على ضربين؛ فالحزم التسلي عما لا يغني فيه، والاحتيال لدفع ما يدفع بالحيلة. ومن أحسن القول في هذا المعنى في الإسلام، قول علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، حين مات ابنه فلم ير منه جزع، فسئل عن ذلك، فقال: أمر كنا نتوقعه، فلما وقع لم ننكره. وفي هذا زيادة تنتظر، وفضل تسليم لقضاء الله عز وجل. والعرب تقول: الحذر أشد من الوقيعة. وقال رجل من الحكماء: إنما الجزع والإشفاق قبل وقوع الأمر، فإذا وقع فالرضا والتسليم. ومن هذا قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إذا استأثر الله بشيء فاله عنه. يقال: لهيت عن الأمر ألهى؛ إذا أضربت عنه، ولهوت ألهو، من اللعب. الأوس بن حجر يرثي فضالة بن شريك ومن أقدم ما قيل في هذا المعنى قول أوس بن حجر الأسيدي، من بني أسيد بن عمرو بن تميم، يرثي فضالة بن كلدة، أحد بني أسد بن خزيمة: أيتها النفس أجملي جـزعـا إن الذي تحذرين قد وقعـا إن الذي جمع السماحة وال نجدة والحزم والقوى جمعا أودى فما تنفع الإشاحة مـن شيء لمن قد يحاول البدعا الألمعي الذي يظن بك الـظ ن كأن قد رأى وقد سمعـا المخلف المتلف المرزأ لـم يمتع بضعف ولم يمت طبعا والحافظ الناس في تحوط إذا لم يرسلوا خلف عاتئذ ربعا وعزت الشمأل الرياح وقـد أمس كميع الفتاة ملتفـعـا وشبه الهيدب العبام مـن ال أقوام سقباً ملبسـاً فـرعـا وكانت الكاعب الممنـعة ال حسناء في زاد أهلها سبعـا ليبكك الشرب والمدامة وال فتيان طراً وطامع طمعـا وذات هدم عار نواشـرهـا تصمت بالماء تولباً جدعـا وفيها زيادة. لكنا اخترنا. قوله: الألمعي: الحديد اللسان والقلب، وقد أبانه بقوله: الذي يظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمعا. وقوله المخلف المتلف أراد أنه يتلف ماله كرماً ويخلفه نجدة، كما قال: ناقته ترقل في النقال متلف مال ومفيد مال وقال آخر: فاتلف ذاك متلاف كسوب والمرزأ: الذي تناله الرزيئات في ماله لما يعطي ويسأل. والإمتاع: الإقامة، فيقول: لم يقم وهو ضعيف. والطبع: أسوأ الطمع، وأصله أن القلب يعتاد الخلة الدنيئة فتركبه كالحائل بينه وبين الفهم لقبح ما يظهر منه، وهذا مثل وأصله في السيف وما أشبه، يقال: طبع السيف، إذا ركبه صدأ يستر حديده و"طبع الله على قلوبهم" النحل 108 من ذا. وتحوط وقحوط: اسمان للسنة الجدبة، كما يقال: حجرة وكحل. وقوله: لم يرسلوا خلف عائذ ربعا فالعائذ الحديثة النتاج، والربع: الذي ينتج في الربيع، ومن شأنهم في سنة الجدب أن ينحروا الفصال، لئلا ترضع فتضر بالأمهات. وقوله: وعزت الشمأل الرياح يقول: غلبتها، وتلك علامة الجدب وذهاب الأمطار، ومن ذلك قولهم: من عز بز أي من غلب استلب، وفي القرآن: "وعزني في الخطاب" ص:33، أي غلبني في المخاطبة. وقوله: وقد أمسى كميع الفتاة فالكميع الضجيع، وهو الكمع، قال الشاعر: ومشحوذ الغرار يبيت كمعي يعني السيف، أي يبيت مضاجعي. ملتفعاً، يقال: تلفع في مطرفه وفي كسائه، إذا تلفف وتزمل فيه، فيقول: من شدة الصر يلتفع به دون ضجيعه. والكاعب: التي كعب ثديها، يقول: تصير كالسبع في زاد أهلها بعد أن كانت تعاف طيب الطعام. وقوله: وذات هدم، يعني امرأة ضعيفة، والهدم: الكساء الخلق الرث. وقوله: عار نواشرها، النواشر: عروق الساعد. والتولب: الصغير. والجدع: السيئ الغذاء، وهو الجحن والقتين. لأعرابي وقال أعرابي: خليلي عوجا بارك الله فيكمـا على قبر أهبان سقته الرواعد فذاك الفتى كل الفتى كان بينه وبين المزجى نفنف متباعـد إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن عيياً ولا عبئاً على من يقاعـد لليلى الأخيلية في رثاء توبة وقالت ليلى الأخيلية: دعا قابضاً والمرهفات ينشنه فقبحت مدعواً ولبيك داعيا! فليت عبيد الله كان مكانه=صريعأً ولم أسمع لتوبة ناعيا وكان سبب هذا الشعر أن توبة بن حمير العقيلي ثم الخفاجي، غزا فغنم، ثم انصترف فعرس في طريقه فأمن فقال، فندت فرسه، فأحاط به عدوه، ومعه عبيد الله أخوه وقابض مولاه، فدعاهما، فذبب عبيد الله شئياً وانهزما وقتل توبة، ففي ذلك تقول ليلى الأخيلية: أعيني ألا فابكي على ابن حـمـير بدمع كفيض الجدول المتـفـجـر لتبك عليه من خـفـاجة نـسـوة بماء شؤون العبرة الـمـتـحـدر سمعن بهيجا أزحفت فـذكـرنـه وقد يبعث الأحزان طول التذكـر كأن فتى الفتـيان تـوبة لـم ينـخ بنجد ولم يطلع مع الـمـتـغـور ولم يرد المـاء الـسـادام إذا بـدا سنا الصبح في أعقاب أخضر مدبر ولم يقدع الخصم الألـد ويمـلإ ال جفان سديفاً يوم نكباء صـرصـر ألا رب مكروب أجبـت وخـائف أجرت ومعروف لديك ومنـكـر
فيا توب للمولى ويا توب للندى ويا توب للمستنبح المتـنـور قولها: لتبك عليه من خفاجة نسوة تعني، خفاجة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. والهيجاء تمد وتقصر، وقد مر هذا. وقولها: بنجد ولم يطلع مع المتغور فالنجد كل ما أشرف من الأرض، والغور كل ما انخفض، ويقال: ماء سدام ومياه سدم، وهي القديمة المندفقة، قال الشاعر: وعلمي بأسدام المياه فلـم تـزل قلائص تحدى في طريق طلائح وسنا الصبح: ضوؤه، وهو مقصور، فإذا أردت الحسب مددت. والأخضر: الذي ذكرت: الليل، والعرب تسمي الأسود أخضر، وقولها: ولم يقدع الخصم الألد، فالألد الشديد الخصام. والسديف: شقق السنام. والنكباء: الريح بين الريحين الشديدة الهبوب. والصرصر: الشديدة الصوت. والمستنبح: الذي يسري فلا يعرف مقصداً فينبح لتجيبه الكلاب فيقصدها. والمتنور: الذي يلتمس ما يلوح له من النار فيقصده. قال الأخطل يعير جريراً. قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار فيقال إن جريراً توجع من هذا البيت، وقال: جمع بهذه الكلمة ضروباً من الهجاء والشتم؛ منها البخل الفاحش، ومنها عقوق الأم في ابتذالها دون غيرها، ومنها تقذير الفناء، ومنها السوءة التي ذكرها من الوالدة. وقال آخر: وإني لأطوي البطن من دون ملئه=لمختبط في آخر الليل نابح وإن امتلاء البطن في حسب الفتى قليل الغناء وهو الجسم صـالـح وقالت ليلى الأخيلية: نظرت وركن من بـوانة دونـنـا وأركان حسمى أي نظرة ناظـر! إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيرة لعاقرها فيها عـقـيرة عـاقـر كأن فتى الفتـيان تـوبة لـم ينـخ قلائص يفحصن الحصى بالكراكر ولم يبن أبراداً رقـاقـاً لـفـتـية كرام ويرحل قبل فيء الهواجـر فتى لا تخطاه الـرفـاق ولا يرى لقدر عيالاً دون جـار مـجـاور وكنت إذا مولاك خـاف ظـلامة دعاك ولم يقنع سواك بـنـاصـر قولها: أي نظرة ناظر؛ يصلح فيه الرفع، والنصب على قوله: نظرت أي وتأويله مررت برجل كامل، فأيما في موضع كامل، وتقول: مررت بزيد أيما مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة ناظر فعلى القطع والابتداء، والمخرج مخرج استفهام، وتقديره: أي نظرة هي! كما تقول: سبحان الله، أي رجل زيد! وهذا البيت ينشد على وجهين: فأومأت إيماء خفيا لحبتر وللله عينا حبتر أيما فتى وأيما إن شئت على ما فسرنا. وقولها: إلى الخيل أجلى شأوها عن عقيره شأوها: طلقهتا: وقولها: لعاقرها فيها عقيرة عاقر أي قد أصابوا عقيرة نفيسة؛ كقول القائل: نعم غنيمة المغتنم، وكقولهم: عقيرة وكما تكون. وهذا نظير قوله: ولما أصابوا نفس عمرو بن عامر أصابوا به وتراً ينيم ذوي الوتـر يقال: ثأر منيم، إذا أصابه المثئر هدأ واستقر، لأنه أصاب كفؤاً، وهذا خلاف قول الآخر: قوم إذا جر جاني قومهم أمنوا للؤم أحسابهم أن يقتلوا قـودا وخلاف قول الحارث بن عباد: لا بجير أغنى قتـيلاً ولا ره ط كليب تزاجروا عن ضلال ولكن كما قال دريد بن الصمة: قتلت بعبد الله خير لـداتـه ذؤاباً فلم أفخر بذاك وأجزعا وكما قال عبيد الله بن زياد بن ظبيان التيمي، من بني تيم اللات بن ثعلبة، حيث قتل مصعب بن الزبير بأخيه النابي بن زياد: أن عبيد الله ما دام سـالـمـاً لسار على رغم العدو وغادي ونحن قتلنا ابن الزبير ورأسه حززنا برأس النابي بن زياد كسر الياء على الأصل، كما قال ابن قيس الرقيات: لا بارك الله في الغواني هل يصبحن إلا لهن مطـلـب ومن أخذه من نبأت على القوم، أي طلعت عليهم، فلا علة فيه ولا ضرورة. قال الأخفش: المعروف فيه الهمز، والمبرد لم يهمزه، فإنما أخذه من نبا ينبو، فصار مثل رام وقاض وما أشبههما. وقال أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري، لما قتلوا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بخالد بن عبد الله: فإن تقتلوا منا كريماً فـإنـنـا قتلنا أمير المؤمنين بخـالـد وإن تشغلونا عن ندانا فإنـنـا شغلنا وليداً عن بناء الـولائد تركنا أمير المؤمنين بخـالـد مكباً على خيشومه غير ساجد وقال الخزاعي بعد: قتلنا بالفتى القسري منهم=وليدهم أمير المؤمنينا ومرواناً قتلنـا عـن يزيد كذاك قضاؤنا في المعتدينا وبابن السمط منا قد قتلنـا محمداً بن هارون الأمينا فمن يك قتله سوقاً فـإنـا جعلنا مقتل الخلفاء دينـا وقولها: ويرحل قبل فيء الهواجر تريد أنه متيقظ ظعان والمولى في قولها: إذا مولاك خاف ظلامة يحتمل ضروباً، فالمولى ابن العم، وقوله عز وجل: "وإني خفت الموالي من ورآءي" مريم 5؛ يريد بني العم؛ قال الفضل بن العباس: مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا ويكون المولى المعتق؛ ويكون المولى من قوله جل ثناؤه: "وأن الكافرين لا مولى لهم" محمد11. ويكون المولى الذي هو أحق وأولى منه قوله: "مأواكم النار هي مولاكم" الحديد15، أي أولى بكم. والمولى: المالك. وقولها: ولم يبن أبراداً تريد الخيام. قال أبو العباس: وكانت الخنساء وليلى بائنتين في أشعارهما، متقدمتين لأكثر الفحول، ورب امرأة تتقدم في صناعة، وقلما يكون ذلك، والجملة ما قال الله عز وجل: "أومن ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين" الزخرف18. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة خلقت من ضلع عوجاء، وإنك إن ترد إقامتها، تكسرها، فدارها تعش بها". فممن ندر من النساء في باب من الأبواب: أم أيوب الأنصارية، أم الدرداء، ورابعة القيسية ومعاذة العدوية، فإن هؤلاء النسوة تقدمن في الفضل والصلاح، على تقدم بعضهن بعضاً. حدثني الجاحظ عن إبراهيم بن السندي، قال: وكانت تصير إلي هاشمية جارية حمدونة في حاجات صاحبتها، فأجمع نفسي لها، وأطرد الخواطر عن فكري، وأحضر ذهني جهدي، خوفاً من أن تورد علي ما لا أفهمه، لبعد غورها، واقتدارها على أن تجري على لسانها ما في قلبها. وكذلك ما يؤثر عن خالصة وعتبة جاريتي ربطة بنت أبي العباس. فأما النساء الأشراف فإن القول فيهن كثير متسع. من مراثي الخنساء فمما ندر من شعر الخنساء قولها ترثي صخراً: يا صخر وراد ماء قد تـنـاذره أهل المياه وما في ورده عـار مشى السبنتى إلى هيجاء معضلة له سلاحان: أنياب وأظـفـار وما عجول على بو تحـن لـه لها حنينان: إغـلان وإسـرار ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت فإنمـا هـي إقـبـال وإدبـار يوماً بأوجع مني يوم فارقـنـي صخر، وللعيش إخلاء وإمرار وإن صخراً لوالـينـا وسـيدنـا وإن صخراً إذا نشتو لنـحـار وإن صخراً لتأتم الـهـداة بـه كأنه علـم فـي رأسـه نـار لم تره جارة يمشي بساحتـهـا لريبة حين يخلي بيته الـجـار قولها: يا صخر وراد ماء قد تنـاذره أهل المياه وما في ورده عار تعني الموت، أي لإقدامه على الحرب. والسبنتي والسبندي واحد، وهو الجريء الصدر، وأصله في النمر. والعجول: التي فارقها ولدها. والبو، قد مضى تفسيره، وكذلك فإنما هي إقبال وإدبار، وقد شرحنا كيف مذهبه في النحو. وقولها: إلى هيجاء معضلة تعني الحرب. وقولها: بأنه علم في رأسه نار فالعلم الجبل، قال الله جل وعز: "وله الجوار المنشئآت في البحر كالأعلام" الرحمن 24، وقال جرير. إذا قطعن علماً بدا علم ومن حسن شعرها قولها: أعيني جوداً ولا تجمـدا ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجريء الجميل=ألا تبكيان الفتى السيدا طويل النجاد رفيع الـعـمـا د ساد عـشـيرتـه أمـردا إذا القـوم مـدوا بـأيديهـم إلى المـجـد مـد إلـيه يدا فنـال الـذي فـوق أيديهـم من المجد ثم مضى مصعدا يكلفه القوم مـا عـالـهـم وإن كان أصغرهم مـولـدا ترى الحمد يهوي إلى بـيتـه يرى أفضل الكسب أن يحمدا
قولها: طويل النجاد، النجاد: حمائل السيف، تريد بطول نجاده طول قامته، وهذا مما يمدح به الشريف، قال جرير:
فإني لأرضي عبد شمس وما قضـت وأرضى الطوال البيض من آل هاشم
وقال مروان لأمير المؤمنين المهدي:
قصرت حمائله عليه فقلصت ولقد تألق قينها فأطالـهـا
وقال رجل من طيئ:
جدير أني يقل السيف حتى ينوس إذا تمطى فقي النجاد
وقال الكمي أبو نواس:
سبط البنان إذا احتبى بنجاده غمر الجماجم والسماط قيام
وقال عنترة:
بطل كأن ثيابه في سـرحة يحذي نعال السبت ليس بتوأم
وقولها: رفيع العماد إنما تريد ذاك، يقال: رجل معمد، أي طويل، ومنه قوله عز وجل: "إرم ذات العماد" الفجر 7، أي الطوال.
وقولها: ما عالهم أي ما نابهم ونزل بهم، تقول العرب: ما عالك فهو عائلي، أي ما نابك فهو نائبي، ومن ذا قول كثير:
يا عين بكي للذي عالني منك بدمع مسبل هامل
ومن جيد قولها:
أبعد ابن عهمرو من آل الشري د حلت به الأرض أثقالـهـا
لعمر أبيه لنـعـم الـفـتـى إذا النفس أعجبها مـا لـهـا
فإن تـك مـرة أودت بــه فقد كان يكثر تـقـتـالـهـا
فخر الشوامـخ مـن فـقـده وزلزلت الأرض زلزالـهـا
هممت بنفسي كل الـهـمـوم فأولى لنفسي أولـى لـهـا!
لأحمل نفـسـي عـلـى آلة فإما علـيهـا وإمـا لـهـا
قولها: حلت به الأرض أثقالها حلت من الحلي، تقول: زينت به الأرض الموتى. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: "وأخرجت الأرض أثقالها" الزلزلة 2، قالوا الموتى.
وقولها: لنعم الفتى إذا النفس أعجبها ما لها؛ تقول: يجود بما هو له في الوقت الذي يؤثره أهله على الحمد.
والشوامخ: الجبال، والشامخ: العالي، ويقال للمتكبر: شمخ بأنفه.
وقولها: على آلة أي على حالة وعلى خطة، هي الفصيل، فإما ظفرت وإما هلكت.
وقولها: فأولى لنفسي أولى لها، يقول الرجل إذا حاول شيئاً فأفلته من بعد ما كاد يصيبه: أولى له! وإذا أفلت من عظيمة قال: أولى لي! ويروى عن ابن الحنفية أنه كان يقول إذا مات ميت في جواره أو في داره: أولى لي! كدت والله أكون السواد المخترم، وقد مضى هذا مفسراً.
وأنشد لرجل يقتنص، فإذا أفلته الصيد، قال: أولى لك! فكثر ذلك منه فقال:
فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ولكن أولى يترك القوم جوعـا
وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية بن عمرو - وكان معاوية أخاها لأبيها وأمها، وكان صخر أخاها لأبيها، وكان أحبهما إليها بعيداً، وكان صخر يستحق ذلك منها بأمور: منها أنه كان موصوفاً بالحلم، ومشهوراً بالجود، ومعروفاً بالتقدم في الشجاعة، ومحظوظاً في العشيرة -:
أريقي من دموعك واستفيقـي وصبراً إن أطقت، ولن تطيقي
وقولي إن خير بنـي سـلـيم وفارسها بصحراء العـقـيق
ألا هل ترجعن لنا الـلـيالـي وأيام لنا بلـوى الـشـقـيق
وإذ نن الـفـوارس كـل يوم إذا حضروا وفتيان الحقـوق
وإذ فينا معاوية بـن عـمـرو على أدماء كالجمل الفـنـيق
فبكـيه فـقـد أودى حـمـيداً أمين الرأي محمود الصـديق
فلا واله لا تسلاك نـفـسـي لفاحشة أتـيت ولا عـقـوق
ولكني رأيت الصـبـر خـيراً من النعلين والرأس الحـلـيق
قولها:
أريقي من دموعك واستفيقي
معناه أن الدمعة تذهب الوعة.
ويروى عن سليمان بن عبد الملك أنه قال عند موت ابنه أيوب، لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إني لأجد في كبدي جمرة لا تطفئها إلا عبرة، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك الصبر. فنظر إلى رجاء بن حيوة كالمستريح إلى مشورته، فقال له رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وقال "العين تدمع، والقلب يوجع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا يا إبراهيم لمحزونون" فأرسل سليمان عينه فبكى حتى قضى أرباً، ثم أقبل عليهما فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي. ثم لم يبك بعدها، ولكنه تمثل عند قبره لما دفنه وحثا على قبره التراب، وقال: يا غلام، دابتي، ثم التفت إلى قبره، فقال:
وقفت على قبر مقيم بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق
رجعنا إلى تفسير قولها: وقولها:
وصبراً إن أطقت ولن تطيقي
كقول القائل: إن قدرت على هذا فافعل، ثم أبانت عن نفسها فقالت: ولن تطيقي.
وقولها:
فلا والله لا تسلاك نفسي
تريد: لا أجد فيك ما تسلو نفسي عنك له، ثم اعتذرت من إقصارها بفضل الصبر، فقالت:
ولكني رأيت الصبر خـيراً من النعلين والرأس الحليق
تأويل النعلين أن المرأة كانت إذا أصيبت بحميم جعلت في يديها نعلين تصفق بهما وجهها وصدرها.
قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهمـا لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا
كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصبـاً من بطن حلية لا رطباً ولا نقدا
إذا تأوب نوح قامـتـا مـعـه ضرباً أليماً بسبت يلعج الجلـدا
قوله:
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما
يعني أختيه، يقول: ماذا يرد عليهما العويل والسهر! وقوله:
كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً
أراد لترديد النائحة صوتاً كأنه زمير، وإنما يعني بالقصب المزامير، ومقنعة، أراد: وصوت مقنعة، يعني ناقة، ثم حذف الصوت وأقام مقنعة مقامه.
وقال عنترة:
بركت على ماء الرداع كأنـمـا بركت على قصب أجش مهضم
قال الأصمعي: نرمناي.
وقوله: لا رطباً ولا نقداً يقول: ليس برطب لا يبين فيه الصوت ولا بمؤتكل، يقال: نقدت السن، إذا مسها ائتكال، وكذلك القرن، قال الشاعر:
يألم قرناً أرومه نقد
وقوله: بسبت يعني النعل المنجردة.
ويلعج: يؤثر، واحتاج إلى تحريك الجلد فأتبع آخره أوله، وكذلك يجوز في الضرورة في كل شيء ساكن. وأما قول الفرزدق:
خلعن حليهن فهن عطل وبعن به المقابلة التؤاما
يعني اشترين النعال، فليس هذا من هذا الباب، وإنما سبين فاشترين نعالاً للخدمة.
وكذلك قوله:
أجذن حريرات وأبدين مجلـداً ودارت عليهن المنقشة الصفر
يعني القداح، يقول: سبين فاقتسمن بالقداح.
وإنما قالت الخنساء هذا الشعر في معاوية أخيها قبل أن يصاب صخر أخوها، فلما أصيب صخر نسيت به من كان قبله.
وكان معاوية فارساً شجاعاً، فأغار في جمع من بني سليم على غطفان، وكان صميم خليهم فنذر به القوم فاحتربوا، فلم يزل يطعن فيهم ويضرب، فلما رأوا ذلك تهيأ له ابنا حرملة: دريد، وهاشم، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية فطعنه، وخرج عليه الآخر وهو لا يشعر فقتله، فتنادى القوم: قتل معاوية! فقال خفاف بن ندبة: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به! فحمل على مالك بن حمار، وهو سيد بني شمخ بن فزارة، فطعنه فقتله، وقال:
فإن تك خليلي قد أصيب صميمها فعمداً على عيني تيممت مالكـا
وقفت له علوي وقد خام صحبتي لأبني مجداً أو لأثأر هـالـكـا
أقول له والرمح يأطر مـتـنـه تأمل خفافاً إننـي أنـا ذلـكـا
فلما دخلت الأشهر الحرم ورد عليهم صخر، فقال: أيكم قاتل أخي? فقال أحد ابني حرملة للآخر: خبره. فقال: استطردت له فطعنني هذه الطعنة، وحمل عليه أخي فقتله، فأينا قتلت فهو ثأرك، أما إنا لم نسلب أخاك. قال: فما فعلت فرسه السمى? قالوا: ها هي تلك فخذها، فانصرف بها، فقيل لصخر: ألا تهجوهم? قال: ما بيني وبينهم أقذع من الهجاء، ولو لم أمسك عن سبهم إلا صيانة للساني عن الخنا لفعلت، ثم خاف أن يظن به عي فقال:
وعاذلة هبت بليل تـلـومـنـي ألا لا تلوميني كفى اللوم ما بيا
تقول ألا تهجو فوارس هـاشـم ومالي إذ أهجوهم ثم مـالـيا!
أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي وأن ليس إهداء الخنا من شماليا
إذا ما امرؤ أهدى لميت تحـية فحياك رب الناس عني معـاويا
وهون وجدي أنني لم أقـل لـه كذبت، ولم أبخل عليه بمـالـيا
قال أبو عبيدة: فلما أصاب دريداً زاد فيها:
وذي رحم قطعت أرحام بينهم كما تركوني واحداً لا أخا ليا
قال أبو الحسن الأخفش: وزادني الأحول بعد قوله: معاويا:
لنعم الفتى أدنى ابن صرمة بـزه إذا راح فحل الشول أجدب عاريا
قال أبو العباس: فلما انقضت الأشهر الحرم جمع لهم ليغير عليهم، فنظرت غطفان إلى خليه بموضعها، فقال بعضهم لبعض: هذا صخر بن الشريد على فرسه السمى، فقيل: كلا! السمى غراءء، وهذه بهيمة، وكان قد حمم غرتهم، فأصاب فيهم، وقتل دريد بن حرملة. وأما هاشم، فإن قيس بن الأسوار الجشمي - من بني جشم بن بكر بن هوازن بن خصفة بن منصور، والخنساء من بني سليم بن منصور - لقيهم منصرفين؛ كل واحد منهم من وجهه، فرآه، وقد انفرد لحاجته، فقال: لا أطلب بمعاوية بعد اليوم، فأرسل عليه سهماً ففلق قحقحه فقتله، فقالت الخنساء:
فدى للفارس الجشمي نفسي وأفديه بمن لي من حمـيم
فداك الحي حي بني سلـيم بظاعنهم وبالأنس المقـيم
كما من هاشم أقررت عيني وكانت لا تنام ولا تـنـيم
فأما صخر فسندرك مقتله مع انقضاء ما نذكر من مراثي الخنساء إياه، قالت الخنساء:
ألا يا صخر إن أبكيت عينـي لقد أضحكتني دهراً طـويلا
بكيتك في نسـاء مـعـولات وكنت أق من أبدى العـويلا
دفعت بك الجليل وأنت حـي فمن ذا يدفع الخطب الجليلا!
إذا قبح البكاء علـى قـتـيل رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقالت أيضاً:
تعرفني الدهر نهـسـاً وحـزا وأوجعني الدهر قرعاً وغمزا
وأفنى رجالي فبـادوا مـعـاً فأصبح قلبي بهم مسـتـفـزا
كأن لم يكونوا حمـى يتـقـى إذ الناس إذ ذاك من عز بـزا
وكانوا سراة بـنـي مـالـك فخر العشيرة مجـداً وعـزا
وهم في القـديم سـراة الأدي م والكائنون من الخوف حرزا
وهم منعوا جارهم والـنـسـا ء يحفز أحشاءها الخوف حفزا
عداة لـقـوهـم بـمـلـومة رداح تغادر للأرض ركـزا
وخيل تكـدس بـالـدارعـي ن تحت العجاجة يجمزن جمزا
ببيض الصفاح وسمر الرمـاح فبالبيض ضرباً وبالسمر وخزا
جزرنا نواصي فـرسـانـهـم وكانوا يظـنـون ألا تـجـزا
ومن ظن ممن يلاقي الحروب بألا يصاب فقد ظن عـجـزا
نعف ونعرف حـق الـقـرى ونتخذ الحمد ذخـراً وكـنـزا
ونلبس طوراً ثـياب الـوغـى وطوراً بياضاً وعصباً وخـزا
وكان سبب قتل صخر بن عمرو بن الشريد، أنه جمع جمعاً وأغار على بني أسد بن خزيمة، فنذروا به فالتقوا، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فارفض أصحاب صخر عنه. وطعن طعنة في جنبه استقل بها، فلما صار إلى أهله تعالج منها، فنتأ من الجرح كمثل اليد فأضناه ذلك حولا، فسمع سائلاً يسأل امرأته وهو يقول: كيف صخر اليوم? فقالت: لا ميت فينعى، ولا صحيح فيرجى! فعلم أنها قد برمت به، ورأى تحرق أمه عليه، فقال:
أرى أم صخر ما تجف دموعها وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنارة عليك، ومن يغتر بالحـدثـان!
أهم بأمر الحزم لو أستطـيعـه وقد حيل بين العير والنـزوان
لعمري لقد أنبهت من كان نائماً وأسمعت من كانت لـه أذنـان
فأي امرئ ساوى بأم حليلة=فلا عاش إلا في شقي وهوان ثم عزم على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه، فبكاها فقال:
أيا جارتا إن الخطـوب قـريب من الناس، كل المخطئين تصيب
أيا جارتا إنا غريبان هـا هـنـا وكل غريب للغريب نـسـيب
كأني وقد أدنوا إلي شفـارهـم من الأدم مصقول السراة نكيب
مرثية ابن مناذر لعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي
قال أبو العباس: ومن حلو المراثي وحسن التأبين شعر ابن مناذر، فإنه كان رجلاً عالماً مقدماً وشاعراً مفلقاً، وخطيباً مصقعاً، وفي دهر قريب، فله في شعره شدة كلام العرب بروايته وأدبه، وحلاوة كلام المحدثين بعصره ومشاهدته ولا يزال، وقد رمى في شعره بالمثل السائر، والمعنى اللطيف، واللفظ الفخم الجليل، والقول المتسق النبيل، وقصيدته لها امتداد وطول، وإنما نملي ما اخترنا من نحو ما وصفنا.
قال يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي - وكان به صباً، واعتبط عبد المجيد لعشرين سنة من غير ما علة، وكان من أجمل الفتيان وآدبهم وأظرفهم، فذلك حيث يقول ابن مناذر:
حين تـمـت آدابـه وتــردى برداء مـن الـشـبـاب جـديد
وسقاه ماء الشـبـيبة فـاهـت ز اهتزاز الغصن الندي الأملود
وسمت نحوه العـيون ومـا كـا ن عـلـيه لـزائد مـن مـزيد
وكأنـي أدعـوه وهـو قـريب حين أدعوه من مكـان بـعـيد
فلئن صار لا يجيب لـقـد كـا ن سميعاً هشا إذا هـو نـودي
يا فتى كان للمـقـامـات زينـاً لا أراه في المحفل المشـهـود
لهف نفسي أما أراك، وما عـن دك لي إن دعوت من مـردود!
كان عبد المجـيد سـم الأعـادي ملء عين الصديق رغم الحسود
عاد عبد المجيد رزءاً وقـد كـا ن رجاء لريب دهـر كـنـود
خنتك الود لم أمت كـمـداً بـع دك إني علـيك حـق جـلـيد
لو فدى الحي ميتاً لفـدت نـف سك نفسي بطارفـي وتـلـيدي
ولئن كنت لم أمت من جوى الحز ن عليه لأبلغـن مـجـهـودي
لأقيمن مأتماً كنـجـوم الـلـي ل زهراً يلطمن حر الـخـدود
موجعات يبكين للـكـبـد الـح رى عليه وللفـؤاد الـسـعـيد
ولعـين مـطـروفة أبـداً قـا ل لها الدهر: لا تقري وجـودي
كلما عزك البـكـاء فـأنـفـذ ت لعبد المجيد سجلا فـعـودي
لفتى يحسن الـبـكـاء عـلـيه وفتى كان لامتداح الـقـصـيد
وأول هذا الشعر:
كل حي لاقي الحمام فـمـودي ما لحي مؤمـل مـن خـلـود
لا تهاب المنون شيئاً ولا ترعـي علـى والـد ولا مـولـــود
يقدح الدهر في شماريخ رضوى ويحط الصخور مـن هـبـود
ولقد تـتـرك الـحـوادث وال أيام وهياً في الصخرة الصيخود
وفي هذا الشعر مما استحسنته:
أين رب الحصن الحصين بسورا ء ورب القصر المنيف المشـيد
شاد أركـانـه وبـوبـه بـــا بي حـديد وحـفـه بـجـنـود
كان يجبى إليه ما بين صـنـعـا ء فمصر إلـى قـرى بـيرود
وترى خلـفـه زرافـات خـيل جافلات تعدو بمـثـل الأسـود
فرمى شخصه فأقصده الـدهـر ر بسهم من الـمـنـايا سـديد
ثم لم ينجه من الموت حـصـن دونه خـنـدق وبـابـا حـديد
وملوك من قبله عـمـروا الأر ض أعينوا بالنصـر والـتـأييد
فلـو أن الأيام أخـلـدن حــياً لعلاء أخلدن عبـد الـمـجـيد
ما درى نعشـه ولا حـامـلـوه ما على النعش من عفاف وجود!
ويح أيد حـثـت عـلــيه وأيد دفنته، ما غيبت في الصـعـيد!
إن عبد الـمـجـيد يوم تـولـى هد ركناً ما كان بـالـمـهـدود
وأرانا كالزرع يحـصـده الـده ر فمن بـين قـائم وحـصـيد
وكأنا للموت ركـب مـخـبـو ن سراعاً لمـنـهـل مـورود
هد ركني عبد المجيد وقد كن ت بركن أنوء مـنـه شـديد
فبعبد المجيد تأمور نـفـسـي عثرت بي بعد انتعاش جدودي
وبعبد المجيد شلـت يدي الـيم نى وشلت به يمين الـجـود
وفي هذا الشعر:
فبرغمي كنت المقدم قـبـلـي وبكرهي دليت في الملـحـود
كنت لي عصمة وكنت سمـاء بك تحيا أرضي ويخضر عودي
مرثية أعشى باهلة للمنتشر بن وهب
قال أبو العباس: وكانت العرب تقدم مراثي وتفضلها، وترى قائلها بها فوق كل مؤبن، وكأنهم يرون ما بعدها من المراثي منها أخذت، وفي كنفها تصلح. فمنها قصيدة أعشى باهلة، ويكنى أبا قحافة، التي يرثي بها المنتشر بن وهب الباهلي، وكان أحد رجليي العرب. قال الأخفش: هو منسوب إلى الرجل، وهم السعاة السابقون في سعيهم.
وكان من خبره أنه أسر صلاءة بن العنبر الحارثي، فقال: افتد نفسك. فأبى، فقال: لأقطعنك أنملة أنملة، وعضواً عضواً ما لم تفتد نفسك؛ فجعل يفعل ذلك به حتى قتله، ثم حج من بعد ذلك المنتشر ذا الخلصة - وهو بيت كانت خثعم تحجه، زعم أبو عبيدة أنه بالعبلات، وأنه مسجد جامعها، فدلت عليه بنو نفيل بن عمرو بن كلاب الحارثيين؛ فقبضوا عليه، فقالوا: لنفعلن بك كما فعلت بصلاءة. ففعلوا ذلك به، فلقي راكب أعشى باهلة، فقال له أعشى باهلة: هل من جائبة خبر? قال: نعم، أسرت بنو الحارث المنتشر، وكانت بنو الحارث تسمي المنتشر مجدعا، فلما صار في أيديهم قالوا: لنقطعنك كما فعلت بصلاءة، فقال أعشى باهلة يرثي المنتشر:
إني أتتني لـسـان لا أسـر بـهـا من عل لا عجب منها ولا سخـر
فبت مرتفقاً لـلـنـجـم أرقـبـه حيران ذا حذر لو ينفع الـحـذر!
فجاشت النفس لما جاء جمـعـهـم وراكب جاء من تثليث معتـمـر
يأتي على الناس لا يلوي على أحـد حتى التقينا وكانت دوننا مـضـر
ينعى امرأ لا تغب الحي جفنـتـه إذا الكواكب أخطا نوءها المطـر
من ليس في خـيره شـر يكـدره على الصديق ولا في صفوة كـدر
طاوي المصير على العزاء منصلت بالقوم لـيلة لا مـاء ولا شـجـر
لا تنكر البازل الكوماء ضربـتـه بالمشرفي إذا ما اجلوذ الـسـفـر
وتفزع الشؤل منه حين تبـصـره حتى تقطع في أعناقها الـجـرر
لا يصعب الأمر إلا ريث يركـبـه وكل أمر سوى الفحشاء يأتـمـر
تكفيه فلـذة كـبـد إن ألـم بـهـا من الشواء ويكفي شربه الغـمـر
لا يتأرى لما في القـدر يرقـبـه ولا تراه أمام الـقـوم يقـتـفـر
لا يغمز الساق من أين ولا وصـب ولا يعض على شرسوفه الصفـر
مهفهف أهضم الكشحين منخـرق عنه القميص، لسير الليل محتقـر
عشنا بذلك دهـراً ثـم فـارقـنـا كذلك الرمح ذو النصلين ينكـسـر
فإن جزعنا فقد هدت مصيبـتـنـا وإن صبرنا فإنا معشـر صـبـر
إني أشد حزيمـي ثـم يدركـنـي منك البلاء ومـن آلائك الـذكـر
لا يأمن الناس ممساه ومصبـحـه من كل أوب وإن لم يأت ينتـظـر
إما يصبـك عـدو فـي مـبـاوأة يوماً فقد كنت تستعلي وتنتـصـر
لو لم تخنه نـفـيل وهـي خـائنة ألم بالقوم ورد مـنـه أو صـدر
وراد حزب شهاب يستـضـاء بـه كما يضيء سواد الطخية القـمـر
إما سلكت سبيلاً كنت سالـكـهـا فاذهب فلا يبعدنك الله منـتـشـر
من ليس فيه إذا قاولـتـه رهـق وليس فيه إذا عاسرتـه عـسـر
قوله: إني أتتني لسان يقال: هو اللسان وهي اللسان. فمن ذكر فجمعه ألسنة، ونظيره حمار وأحمرة، وفراش وأفرشة، وإزار وآزرة؛ ومن أنث قال: لسان وألسن، كما تقول: ذراع وأذرع، وكراع وأكرع؛ لا تبالي أمضموم الأول كان أو مفتوحاً أو مكسوراً إذا كان مؤنثاً، ألا ترى أنك تقول: شمال وأشمل قال أبو النجم:
يأتي لها من أيمن وأشمل
وقال آخر، أنشدنيه المازني:
فظلت تكوس على أكرع ثلاث وكان لها أربـع
وأراد باللسان ها هنا الرسالة: وقوله: من عل يقول: من فوق. فإذا كان معرفة مفرداً بني على الضم. كقبل وبعد. وإذا جعلته نكرة نونته وصرفته، كما قال جرير:
إني انصببت من السماء علـيكـم حتى اختطفتك يا فرزدق من عل
والقوافي مجرورة. وإن شئت رددت ما ذهب منه. وهي ألف منقلبة منن واو، لأن بناءه فعل من علا يا فتى، قال الراجز:
وهي تنوش الحوض نوشاً من علا نوشاً به تقطع أجـواز الـفـلا
وقوله: فبت مرتفقاً وهو المتكئ على مرفقه، وإنما أراد السهر، كما قال أبو ذؤيب:
إني أرقت فبت الليل مرتفقـاً كأن عيني فيها الصاب مذبوح
وقوله: جاشت النفس يقول: خبثت، يكون ذلك من تذكرها للتهوع ومن جزعها منه.
ويورى عن معاوية أنه قال: اجعلوا الشعر أكثر همكم وأكثر آدابكم؛ فإن فيه مآثر أسلافكم ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير وقد عزمت على الفرار، فما يردني إلا قول ابن الإطنابة الأنصاري:
أبت لي عفتي وأبـي بـلائي وأخذي الحمد بالثمن الربـيح
وإجشامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشـت مكانك تحمدي أو تستريحـي
يقال: جشأت مهموز، وجاشت غير مهموز وتثليث موضع بعينه.
وقوله: لا يلوي على أحد يقال: استقام فلان فما لوى على أحد، ويقال: ألوى بالشيء إذا ذهب به.
وقوله:
إذا الكواكب أخطا نوءها المطر
فالنوء عندهم طلوع نجم وسقوط آخر، وليس كل الكواكب لها نوء، وإنما كانوا يتقولون هذا في أشياء بعينها؛ ويورى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا ذكرت النجوم فأمسكوا" يعني أمر الأنواء، لم يختلف في ذلك المفسرون، وعنه عليه السلام في غب سماء: "أتدرون ما قال ربكم تبارك وتعالى? قال: اصبح عبادي مؤمناً بي وكافراً بالكواكب، وكافراً بي ومؤمناً بالكواكب وأما المؤمن بي الكافر بالكواكب فهو الذي يقول: مطرنا بنوء الرحمة، والمؤمن بالكواكب الكافر بي الذي يقول: مطرنا بنوء كذا".
والنوء، مهموز، و هو من قولك: ناء بجمله، أي استقل به في ثقل، فالنوء مهموز، وهو في الحقيقة الطالع من الكواكب لا الغائر، وكان الأصمعي لا يفسر من الشعر ما فيه ذكر الأنواء، بل كان لا يسمع ما كان فيه هجاء أو كان فيه ذكر النجوم، ولا يفسر ما وافق تفسيره بعض ما في القرآن إلا ساهياً. فيما يذكر أصحابه عنه. ويروى أنه سئل عن غير شيء من ذلك فأباه وزجر السائل.
وقوله: طاوي المصير يقال لواحد المصران مصير. وتقديره: قضيب وقضبان، وكثيب وكثبان.
والعزاء: الأمر الشديد، يقال: فلان صابر على العزاء. وكذلك اللأواء، وكذلك الجلى مقصور. فأما العزاء واللأواء فممدودان.
وقوله: منصلت، يقال: سيف منصلت، وصلت: إذا جرد من غمده.
وقوله: ليلة لا ماء ولا شجر يريد: القفر، ووقت الصعوبة.
وقوله: لا تنكر البازل الكوماء ضربته بالمشرفي.
يقول: قد عود الإبل أن ينحرها، ومن شأنهم أن يعرقبوها قبل النحر. والمشرفي: السيف. وهو منسوب إلى المشارف.
وقوله: اجلوذ، امتد، وأنشدني الزيادي لرجل من أهل الحجاز، أحسبه ابن أبي ربيعة:
ألا حبذا حبـذا حـبـذا حبيب تحملت منه الأذى
ويا حبذا بـرد أنـيابـه إذا أظلم الليل واجلـوذا
وقوله:
حتى تقطع في أعناقها الجرر
يقول: حتى اعتادت أن ينحرها، فهي تفزع منه حتى تقطع حرتها، ومثل هذا قول الخنوت:
سأبكي خليلي عنتراً بعد هجعة وسيفي مرداساً قتيل قـنـان
قتيلان لا تبكي اللقاح عليهمـا إذا شبعت من قرمل وأفـان
يقول: كانا ينحران الإبل، فهي لا تجزع لفقدهما، وقرمل وأفان: ضربان من النبت. وشبيه بهذا قوله حيث يقول:
فلو كان سيفي باليمين تباشرت ضباب الملا من جمعهم بقتيل
يقول: هؤلاء قوم كانوا يحترشون الضباب، فكلما قتل منهم واحد سرت بذلك الضباب واستبشرت.
وقوله:
لا يتأرى لما في القدر يرقبه
يقول: لا يتحبس له، ومن ذا سمي الآري؛ لأنه محبس الدابة.
وقوله:
ولا تراه أمام القوم يقتفر
يقول: لا يسبقهم إلى شيء من الزاد.
وقوله: ولا يعض على شرسوفه الصفر الشراسيف: أطراف الضلوع، ولاصفر: ها هنا: حية البطن، وله مواضع. وقوله: مهفهف يعني ضامراً، وأهضم الكشحين توكيد له. وقوله: إما يصبك عدو في مباوأة يقول: في وتر، يقال: باء فلان بكذا، كما قال مهلهل: بؤ بشسع كليب. أي هو ثأر بالشسع. والطُّخيةُ، والطَّخيةُ، والطِّخية، ثلاث لغات: شدة الظلمة، وكان الذي أصابه هند بن أسماء الحارثي، ففي ذلك يقول: أصبت في حرم منـا أخـا ثـقة هند بن أسماء لا يهنئ لك الظفر يقال: هنأ له، كما تقول هنياً له، قال الأخطل: إلى إمام تغادينا فواضـلـه أظفره الله فليهنئ له الظفر وقوله: وليس فيه إذا غامرته عسر مدح شريف، مثل قولهم: "إذا عز أخوك فهن"؛ وإنما هذا فيمن لا يخاف استذلاله، بأن يخرج صاحبه عند مساهلته إلى باب الذل، فأما من كان كذلك فمعاسرته أحمد. ومدافعته أمدح، كما قال جرير: بشر أبو مروان إن عاسرته عسر، وعند يساره ميسور مراثي متمم بن النويرة في أخيه مالك قال أبو العباس: ومن أشعار العرب المشهورة المتخيرة في المراثي قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، وسنذكر منها أبياتاً نختارها، من ذلك قوله: أقول وقد طتار السنـا فـي ربـابـه وغيث يسح المـاء حـتـى تـريعـا سقى الله أرضاً حلها قـبـر مـالـك ذهاب الغوادي المدجنات فـأمـرعـا وأثـر سـيل الــواديين بـــديمة ترشح وسمياً من النـبـت خـروعـا تحـيتـه مـنـي وإن كـان نــائياً وأضحى تراباً فوقه الأرض ومصرعا يذكرن ذا البـث الـحـزين بـبـثـه إذا حنت الأولى سجعن لهـا مـعـا بأوجع مني يوم فـارقـت مـالـكـاً ونادى به الناعي الرفيع فأسـمـعـا وفيها: وكنا كندمانـي جـذيمة حـقـبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كـأنـي ومـالـكـاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معـا وعشنا بخير في الحياة وقبلـنـا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا فإن تكن الأيام فرقـن بـينـنـا فقد بان محموداً أخي يوم ودعـا قتول ابنة العمري مالك بعـدمـا أراك حديثاً ناعم البال أفـرعـا فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ولوعة حزن تترك الوجه أسفعا وفقد بني أم تفانوا فـلـم أكـن خلافهم أن أستكين وأضـرعـا ولست إذا ما الدهر أحدث نكـبة ورزاء بزوار القرائب أخضعـا ولا فرح إن كنت يوماً بغـبـطة ولا جزع إن ناب دهر فأوجعـا ولكنني أمضي على ذاك مقدماً=إذا بعض من لاقى الخطوب تكعكعا فعمرك ألا تسمعـينـي مـلامة ولا تنكثي قرح الفؤاد فييجـعـا وقصرك إني قد شهدت فلم أجـد بكفي عنه للمـنـية مـدفـعـا فلو أن ما ألقى أصاب متالـعـاً أو الركن من سلمى إذاً لتضعضا وفي هذه القصيدة: لقد كفن المنـهـال تـحـت ردائه فتى غير مبطان العشيات أروعـا ولا برم تهدي النسـاء لـعـرسـه إذا القشع من برد الشتاء تقعقـعـا لبيباً أعان اللب مـنـه سـمـاحة خصيباً إذا ما زائد الجدب أوضعـا تراه كنصل السيف يهتز لـلـنـدى إذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا إذا ابتدر القوم الـقـداح وأوقـدت لهم نار أيسار كفي من تضجـعـا بمثنى الأيادي ثم لم تلف مـالـكـاً على الفرث يحمي اللحم أن يتمزعا قوله: وقد طار السنا في ربابه، السنا: الضوء، وهو مقصور، قال جل وعز: "يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار" النور 43. والسناء، من الحسب ممدود. والرباب: سحاب دون السحاب كالمتعلق بما فوق. قال المازني: كأن الرباب دوين السحاب نعام تعلـق بـالأرجـل وقوله: يسح معناه يصب، فإذا قلت: يسحو، أو يسحى، فمعناه يقشر، ومن ذا سميت سحاءة القرطاس وسحابته، ومنه قيل للحديدة التي يقشر بها وجه الأرض مسحاة، قال عنترة: سحاً وساحية فكـل قـرارة يجري عليها الماء لم يتصرم وقوله: تريع أي كثر حتى جاء وذهب، يقال: راع يريع إذا رجع، ومنه سمي ريع الطعام؛ لأنه يرجع بفضل. قال مزرد: خلطت بصاعي عجوة صاع حنطة إلى صاع سمن فـوقـه يتـريع والذهاب: الأمطار اللينة. والمدجنات من السحاب: السود، وهو مأخوذ من الدجن والدجنة. ومعناه إلباس الغيم وظلمته، قال طرفة: وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الطراف المـمـدد ويقال: أمرع الوادي، إذا أخصب، من ذلك قول مولاة بن الأجيد عن أوفى بن دلهم. قال أبو العباس: حدثني به ابن المهدي أحمد بن محمد النجوي، يحدث به عن الأصمعي عن أبيه، عن مولاة بن الأجيد عن أوفى، قال: في النساء أربع، فمنهن الصدع، تفرق ولا تجمع، ومنهن من لها شيئها أجمع، ومنهن عيث وقع في بلد فأمرع، ومنهن التبع، ترى ولا تسمع. قال: فذكرت ذلك لرجل فقال: ومنهن القرثع، قلت: وما هي? قال: التي تكحل عيناً وتدع الأخرى، وتلبس ثوبها مقلوباً. قال الأخفش: حدثني بذلك أبو العيناء عن الأصمعي، وذكر نحو ذلك. وقوله: وآثر سيل الواديين بديمة زعم الأمعي وغيره من أهل العمل أن الديمة المطر الدائم أياماً برفق. وقوله: ترشح وسمياً أي تهيئه لذلك، يقال: فلان يرشح للخلافة، والوسمي: أول مطر يسم الأرض، والولي: كل مطرة بعد مطرة، فالثانية ولي للأخرى؛ لأنها تليها. والخروع: كل عود ضعيف. وقوله: فما وجد أظآر ثلاث روائم أظآر: جمع ظئر، وهي النوق تعطف على الحوار فتألفه. وروائم، واحدتها رؤوم، ومعنى ترأمه: تشمه. والحوار: ولد الناقة، ويقال له حيث يسقط من أمه سليل، قبل أن تقع عليه الأسماء، فإن كان ذكراً فهو سقب، وإن كانت أنثى فهي حائل، وهو في ذلك كله حوار سنة. وقوله: ندماني جذيمة يعني جذيمة الأبرش الأزدي، وكان ملكاً، وهو الذي قتلته الزباء، وهو أول من أوقد بالشمع ونصب المجانيق للحرب، وله قصص تطول، وقد شرحنا ذلك في كتاب الاختيار. ونديماه يقال لهما مالك وعقيل، ففي ذلك يقول أبو خراش الهذلي: ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا خليلا صفاء مالك وعقيل والمثل يضرب بهما لطول ما نادماه، كما يضرب باجتماع الفرقدين، قال عمرو بن معدي كرب: وكل أخ مفتارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان قال هذا من قبل أن يسلم. وقال إسماعيل بن القاسم: ولم أر ما يدوم له اجتماع سيفترق اجتماع الفرقدين وقوله: أراك حديثاً ناعم البال أفرعا الأفرع: التام شعر الرأس وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: الفرعان خير أم الصلعان? فقال: بل الفرعان، وكان أبو بكر أفرع، وكان عمر أصلع، فوقع في نفسه أنه يسأل عنه وعن أبي بكر. والأسفع: الأسود، يقال: سفعته النار، أي غيرت وجهه إلى السواد. وقوله: فعمرك يقسم عليها، ويقال: عمرك الله أي أذكرك الله؛ قال: عمرتك الله إلا ما ذكرت لنـا هل كنت جارتنا أيام ذي سلم! وقوله: غير مبطان العشيات، يقول: كان لا يأكل في آخر نهاره انتظاراً للضيف. ويروى أن عمر بن الخطاب سأله فقال: أكذبت في شيء مما قلته في أخيك? فقال: نعم، في قولي: غير مبطان، وكان ذا بطن، ويقال في غير هذا الحديث: إن من سيما الرئيس السيد أن يكون عظيم البطن ضخم الرأس، فيه طرش. وقال رجل لفتى: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح فتكون فارساً. وقال رجل لرجل: والله ما فتقت فتق السادة، ولا مطلت مطل الفرسان. والأروع: ذو الروعة والهيئة. والبرم: الذي لا ينزل مع الناس ولا يأخذ في الميسر؛ ولا ينزع إلا نكداً، قال النابغة: هلا سألت بني ذبيان ما حسبـي إذا الدخان تغشى الأسمط البرما وقوله: إذا القشع وهو الجلد اليابس، ويقال لكناسة الحمام القشع، قال أبو هريرة: وكذبت حتى رميت بالقشع. وحدثني العباس بن الفرج الرياشي، عن محمد بن عبد الله الأنصاري القاضي، في إسناد ذكره، قال: صلى متمم مع أبي بكر الصديق الفجر في عقب قتل أخيه؛ وكان أخوه خرج مع خالد مرجعه من اليمامة، يظهر الإسلام، فظن به خالد غير ذلك، فأمر ضرار بن الأزور الأسدي فقتله، وكتان مالك من أرداف الملوك، ومن متقدمي فرسان بني يربوع، قال: فلما صلى أبو بكر قام متمم بحذائه، واتكأ على سية قوسه، ثم قال: نعم القتيل إذا الريح تـنـاوحـت خلف البيوت، قتلت يا بن الأزور ولنعم حشو الدرع كنت وخاسـراً ولنعم مأوى الطارق المتـنـور أدعوته بـالـلـه ثـم غـررتـه لو هو دعاك بـذمة لـم يغـدر وأومأ إلى أبي بكر، فقال: والله ما دعوته ولا غررته، ثم أتم شعره، فقال: لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه حلو شمائله عفيف المئزر ثم بكى وانحط على سية قوسه - وكان أعور دميماً - فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: لوددت أني رثيت أخي زيداً بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك! فقال يا أبا حفص! والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك. وكان زيد بن الخطاب قتل شهيداً يوم اليمامة، وكان عمر بثول: إني لأهش للصبا؛ لأنها تأتينا من ناحية زيد. ويروى عن عمر أنه قال: لو كنت أقول الشعر كما تقول؛ لرثيت أخي كما رثيت أخاك. ويروى أن متمماً رثى زيداً فلم يجد، فقال له عمر: لم ترث زيداً كما رثيت أخاك مالكاً! فقال: لأنه والله يحركني لمالك ما لا يحركني لزيد. ومن طريف شعره: لعمري وما دهري بتأبين هالـك ولا جزع والموت يذهب بالفتـى لئن مالك خلى علـي مـكـانـه لفي إسوة إن كنت باغية الأسـا كهول ومرد من بني عم مـالـك وأيفاع صدق قد تمليتهـم رضـا سقوا بالعقار الصرف حتى تتابعوا كدأب ثمود إذ رغا سقيهم ضحى إذا القوم قالوا: من فتى لمـلـمة فما كلهم يدعى، ولكنه الفـتـى ومثل هذا الشعر قول النهشلي: لو كان في الألف منا واحد فدعوا من فارس? خالهم إياه يعنـونـا وأول هذا المعنى لطرفة: إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتـبـلـد وقال متمم أيضاً في كلمة له يرثي بها مالكاً: جميل المحيا ضاحك عند ضـيفـه أغر جميع الرأي مشترك الرحـل وقوراً إذا القوم الكرام تـقـاولـوا فحلت حباهم واستطيروا من الجهل وكنت إلى نفـسـي أشـد حـلاوة من الماء بالماذي من عسل النحـل وكل فتى في الناس بعد ابـن أمـه كساقطة إحدى يديه من الخـبـل وبعض الرجال نخلة لا جنى لـهـا ولا ظل إلا أن تعد من الـنـخـل وقال له عمر بن الخطاب: إنك لجزل؛ فأين كان أخوك منك? فقال: كان والله في الليلة المظلمة ذات الأزير والصراد، يركب الجمل الثفال، ويجنب الفرس الجرور، وفي يده الرمح الثقيل، وعليه الشملة الفلوت، وهو بين المزادتين حتى يصبح، فيصبح أهله متبسماً. الجمل الثفال: البطيء الذي لا يكاد ينبعث. والفرس الجرور: الذي لا يكاد ينقاد مع من يجنبه، إنما يجر الحبل، والشملة الفلوت: التي لا تكاد تثبت على لابسها. وذكر لنا أن مالكاً كان من أرداف الملوك، وفي تصداق ذلك يقول جرير يفخر ببني يربوع: منهم عتيبة والمحل وقعنب والحنتفان ومنهم الردفان فأحد الردفين مالك بن نويرة اليربوعي، والردف الآخر من بني رياح بن يربوع. وللردافة موضعان: أحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو تريف أو ما أشبه ذلك من مواضع الأنس، والوجه الآخر أنبل، وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر بين الناس بعده. باب من أخبار من جزعوا عند الموت قال أبو العباس: لما احتضر إبراهيم النخعي رحمه الله، جزع جزعاً شديداً، فقيل له في ذلك، فقال: وأي خطر أعظم من هذا! إنما أتوقع رسولاً يرد على من ربي، إما بالجنة وإما بالنار. ولما احتضر بان سيرين، جعل يقول: نفسي واله أعز الأنفس علي. ولما احتضر حجر بن عدي ليقتل، سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، وظهر منه جزع شديد،، فقال له قائل: أتجزع! فقال: وكيف لا أجزع! سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، ولست أدري أيؤديني إلى جنة، أم إلى نار. قال أبو الحسن: ما يقوم بقتل حجر بن عدي شيء! وإني لأعجب من قوله هذا: ولست أدري أيدنيني إلى جنة أو إلى نار، وهو شهيد الشهداء، رحمه الله!. وقد ذكرنا موت عمرو بن العاص وكلامه عند الموت. ممن ظهرت عليهم القسوة عند الموت ومن ظهرت منه عند الموت قسوة حلحلة الفزاري، وسعيد بن أبان بن عيينة بن حصن الفزاري، فإن عبد الملك لما أحضرهما ليقيد منهما قال لحلحة: صبراً حلحل! فقال إي والله: أصبر من ذي ضاغط عركرك ألقى بواني زوره للمـبـرك ثم قال لابن الأسود الكلبي: أجد الضربة، فإني والله ضربت أباك ضربة أسلحته، فعددت النجوم في سلحته. ثم قال عبد الملك لسعيد بن أبان: صبراً سعيد! فقال: إي والله!. أصبر من عود بجنبيه الجلب قد أثر البطان فيه والحقب ومنهم وكيع بن أبي سود، أحد بني غدانة بن يربوع، فإنه لما يئس منه خرج الطبيب من عنده، فقال له محمد ابنه: ما تقول? فقال: لا يصلي الظهر، وكان محمد ناسكاً، فدخل إلى أبيه، فقال له أبوه وكيع: ما قال لك المعلوج? قال: وعد أنك تبرأ، قال: أسألك بحقي عليك! قال: ذكر أنك لا تصلي الظهر، قال: ويلي على ابن الخبيثة! والله لو كانت في شدقي للكتها إلى العصر. ويروى أن إبراهيم النخعي قال في الحديث الذي ذكرناه: والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة. وفي وكيع بن أبي سود يقول الفرزدق: لقد رزئت بأساً وحزماً وسودداً تميم بن مر يوم مات وكـيع وما كان وقافاً وكيع إذا دنـت سحائب موت وبلهن نـجـيع إذا التقت الأبطال أبصرت لونه مضيئاً وأعناق الكماة خضوع فصبراً تميم إنما الموت منهـل يصير إليه صابـر وجـزوع وقال أيضاً: لتبك وكيعاً خيل لـيل مـغـيرة تساقي المنايا بالردينية السمـر لقوا مثلهم فاستهزموهم بدعـوة دعوها وكيعاً والجياد بهم تجري ومن الجفاة عند الموت هدبة نب خشرم العذري، وكان قتل زيادة بن زيد العذري، فلما حمل إلى معاوية، تقدم معه عبد الرحمن أخو زيادة بن زيد، فادعى عليه، فقال له معاوية: ما تقول? قال: أتحب أن يكون الجواب شعراً أم نثراً? قال: بل شعراً فإنه أمتع، فقال هدبة: فلـمـا رأيت أنـمـا هـي ضـربة من السيف أو إغضاء عين على وتر عمـدت لأمـر لا تـعـير والـدي خزايتـه ولا يسـب بـه قـبـري رمينا فرامينا فـصـاد سـهـمـنـا منية نفس في كـتـاب وفـي قـدر وأنت أمير المؤمنـين فـمـا لـنـا وراءك من معدى ولا عنك من قصر فإن تك في أموالنا لا نضـق بـهـا ذراعاً، وإن صبر فنصبر للصـبـر فقال له معاوية: أراك قد أقررت يا هدبة! قال: هو ذاك، فقال عبد الرحمن: أقدني، فكره ذاك معاوية وضن بهدبة عن القتل - وكان ابن زيادة صغيراً - فقال له معاوية: أوما عليك أن تشفي صدرك وتحرم غيرك! ثم وجه به إلى المدينة فقال: يحبس إلى أن يبلغ ابن زيادة، فبلغ. وكان والي المدينة سعيد بن العاصي، فمما وقف عليه من قسوته قوله: ولما دخلت السجن يا أم مـالـك ذكرتك والأطراف في حلق سمر وعند سعيد غير أن لـم أبـح بـه ذكرتك إن الأمر يذكر بـالأمـر فسئل عن هذا القول، فقال: لما رأيت ثغر سعيد - وكان سعيد حسن الثغر جداً - وذكرت به ثغرها. ويقال إنه عرض على ابن زيادة عشر ديات فأبى إلا القود، وكان ممن عرض الديات عليه ممن ذكر لنا، الحسين بن علي وعبيد الله بن جعفر، عليهما السلام، وسعيد بن العاصي، ومروان بن الحكم، وسائر القوم من قريش والأنصار، فلما خرج به ليقاد بالحرة جعل ينشد الأشعار، فقالت له حبى المدينية: ما رأيت أقسى قلباً منك! أتنشد الأشعار وأنت يمضى بك لتقتل، وهذه خلفك كأنه ظبي عطشان تولول! تعني امرأته، فوقف ووقف الناس معه، فأقبل على حبى فقال: ما وجدت وجدي بها أم واحد ولا وجد حبي بابن أم كلاب رأته طويل الساعدين شمردلا كما انتعتت من قوة وشباب فأغلقت حبى الباب في وجهه وسبته. وعرض له عبد الرحمن بن حسان، فقال: أنشدني، فقال له: أعلى هذه الحال! قال: نعم، فأنشده: ولست بمفراح إذا الدهر سـرنـي ولا جازع من صرفه المتقـلـب ولا أتبغى الشر والشـر تـاركـي ولكن متى أحمل على الشر أركب وحربني مولاي حتى غـشـيتـه متى ما يحربك ابن عمك تحـرب فلما قدم نظر إلى امرأته، فدخلته غيرة، وقد كان جدع في حربهم، فقال: فإن يك أنفي بان منه جمـالـه فما حسبي في الصالحين بأجدعا فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننـا أغم القفا والوجه ليس بأنزعـا فقالت: قفوا عنه ساعة، ثم مضت ورجعت وقد اصطلمت أنفها! فقالت: أهذا فعل من له في الرجال حاجة! فقال: الآن طاب الموت، ثم أقبل على أبويه فقال: أبلياني اليوم صبراً منكمـا إن حزناً منكما اليوم لشـر ما أظن الموت إلا هـينـاً إن بعد الموت دار المستقر ثم قال: أ ذا العرش إني عائذ بك مؤمن مقر بزلاتـي إلـيك فـقـير وإني وإن قالوا أمير مسـلـط وحجاب أبواب لهن صـرير لأعلم أن الأمر أمرك إن تـدن فرب وإن تغفر فأنت غفـور ثم قال لابن زيادة: أثبت قدميك، وأجد الضربة، فإني أيتمتك صغيراً، وأرملت أمك شابة. وبزعم بعض أصحاب الأخبار أنه قال: ما أجزع من الموت، وآية ذلك أني أضرب برجيل اليسرى بعد القتل ثلاثاً؛ وهو باطل موضوع، ولكن سأل فك قيوده، ففكت، فذلك حيث يقول: فإن تقتلوني في الحديد فإنني قتلت أخاكم مطلقاً لم يقـيد من أخبار من وقفوا على القبور قال أبو العباس: ووقف حبار بن سلمى على قبر عامر بن الطفيل، ولم يكن حضره، فقال: أنعم صباحاً أبا علي! فوالله لقد كنت سريعاً إلى المولى بوعدك، بطيئاً عنه بإيعادك، ولقد كنت أهدى من النجم، وأجرى من السيل. ثم التفت إليهم فقال: كان ينبغي أن تجعلوا قبر أبي علي ميلاً في ميل! وذكر الحرمازي أن الأحنف بن قيس لما مات، وكان موته بالكوفة، مشى المصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء، وقال: اليوم مات سيد العرب، فلما دفن قامت امرأة على قبره - أحسبها من بني منقر - فقالت: لله درك من مجن في جنن، ومدرج في كفن! فنسأل الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الخير دليلك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك، وفوالله لقد كنت في المحافل شريفاً، وعلى الأرامل عطوفاً، ولقد كنت في الحي مسوداً، وإلى الخليفة موفداً، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين. قال: فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة أبلغ ولا أصدق معنى منها. ووقف رجل على قبر النجاشي فترحم وقال: لولا أن القول لا يحيط بما فيك، والوصف يقصر دونك لأطنبت، بل لأسهبت. ثم عقر ناقته على قبره، وقال: عقرت على قبر النجاشي ناقتي بأبيض عضب أخلصته صياقله على قبر من لو أنني مت قبله لهانت عليه عند قبري رواحله وروى ابن دأب أن حسان بن ثابت الأنصاري اجتاز بقبر ربيعة بن مكدم فأنشد: لا يبعدن ربـيعة بـن مـكـدم وسقى الغوادي قبره بـذنـوب نفرت قلوصي من حجارة حرة نصبت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق مـنـه فـإنـه شريب خمر مسعر لحـروب لولا السفار وطول قفر مهمـه لتركتها تحبو على العرقـوب نعم الفتى أدى نبـيشة رحـلـه يوم الكديد نبيشة بـن حـبـيب وربيعة بن مكدم - رجل من بني كنانة، وكان قتله أهبان بن غادية الخزاعي، وقيس تقول: قتله نبيشة بن حبيب السلمي، وكان أهبان أخا نبيشة لأمه، وكان أتاه زائراً. وأغار ربيعة بن مكدم على بني سليم، فخرج أهبان مع أخيه، فحمل عليه فقتله، وحمل أخو ربيعة على أهبان فقتله، فلأنه في بني سليم، قال حسان: نفرت قلوصي من حجارة حرة لأن الحرة هناك لبني سليم، وفي تصداق ما تدعيه خزاعة يقول أهبان: ولقد طعنت ربيعة بن مكـدم يوم الكديد فخر غير موسـد في عارض شرق بنات فؤاده منه بأحمر كالنقيع المجسـد ولقد وهبت سلاحه وجـواده لأخي نبيشة قبل لوم الحسـد وقال أخو ربيعة يجيبه: فات ابن غادية المنية بعد ما رفعت أسفل ذيله بالمطرد قل لابن غادية المتاح لقتلنا ما كان يقتلنا الوحيد المفرد يريد أن أهبان مفرد من قومه في أخواله. وقال أيضاً: فإن تذهب سليم بوتر قومي فأسلم من منازلنا قـريب لليلى الأخيلية ترثي توبة وقالت ليلى الأخيلية: آليت أبكي بعد تـوبة هـالـكـاً وأحفل من دارت عليه الـدوائر لعمرك ما بالموت عار على الفتى إذا لم تصبه في الحياة المعـاير فلا يبعدنك اللـه يا تـوب إنـمـا لقاء المنايا دارعاً مثل حـاسـر ويورى: فلا يبعدنك الله يا توب هـالـكـاً أخا الحرب إن دارت عليه الدوائر فكل جديد أو شباب إلـى بـلـى وكل امرئ يوماً إلى الله صـائر وذكر المدائني أن رجلاً عزى رجلاً أفرط عليه الجزع على ابنه فقال: يا هذا، سررت به وهو حزن وفتنة، وجزعت عليه وهو صلاة ورحمة، فسري عنه. ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعزوا عن مصائبكم بي". وقال رجل لابن عمر: أعظم الله أجرك، فقال: نسأل الله العافية! معناه: أنه لما قال له: "أعظم الله أجرك"، إنما دعا بأن يكثر ما يؤجر عليه، ودل على أنه من باب المصائب تعزيته إياه. وهذا باب طريف من أشعار المحدثين لمطيع بن إياس في يحيى بن زياد قال مطيع بن إياس الليثي يرثي يحيى بن زياد الحارثي وكان صديقه، وكانا مرميين جميعاً بالخروج عن الملة: يا أهل بكوا لقلبـي الـقـرح ولدموع الهوامل الـسـفـح راحوا بيحيى إلى مـغـيبـه في القبر بين التراب والصفح راحوا بيحيى ولو تطاوعني ال أقدار لم يبتـكـر ولـم يرح يل خير من يحسن البكاء له ال يوم ومن كان أمس للـمـدح وفي يحيى يقول مطيع لنبوة كانت بينهما: كنـت ويحـيى كـيدي واحـد نرمي جميعاً ونرامي مـعـا إن سره الدهر فقـد سـرنـي أو حادث ناب فقد أفـظـعـا أو نام نـامـت أعـين أربـع منا، وإن هب فلن أهجـعـا حتى إذا ما الشيب في عارضي لاح وفي مفرقـه أسـرعـا سعى وشاة طـبـن بـينـنـا فكاد حبل الوصل أن يقطعـا فلم ألم يحيى عـلـى حـادث ولم أقل خـان ولا ضـيعـا لأبي عبد الرحمن العتبي يرثي على بن سهل وقال أبو عبد الرحمن العتبي يرثي علي بن سهل بن الصباح وكان له صديقاً: يا خير إخوانه وأعطـفـهـم عليهم راضياً وغضـبـانـا أمسيت حزناً وصار قربك لي بعداً وصار اللقاء هجرانـا إنا إلى الله راجعـون لـقـد أصبح حزني عليك ألـوانـا حزن اشتياق وحزن مـرزئة إذا انقضى عاد كالذي كانـا قوله: يا خير إخوانه محال وباطل، وذلك أنه لا يضاف أفعل إلى شيء إلا وهو جزء منه. وقال أيضاً: دعوتك يا أخي فلم تجبـنـي فردت دعوتي حزناً عـلـيا بموتك ماتت اللذات مـنـي وكانت حية إذ كنـت حـيا فيا أسفي عليك وطول شوقي إليك لـو أن ذاك يرد شـيا وقوف رجل على قبر عدوه وحدثني رجل من أصحابنا، قال: شهدت رجلاً في طريق مكة معتكفاً على قبر، وهو يردد شيئاً ودموعه تكف من لحيته، فدنوت إليه لأسمع ما يقول، فجعلت العبرة تحول بينه وبين الإبانة، فقلت له: يا هذا! فرفع رأسه إلي، وكأنما هب من رقدة، فقال: ما تشاء? فقلت: أعلى ابنك تبكي? قال: لا، قلت: فعلى أبيك? قال: لا، ولا على نسيب ولا صديق، ولكن على من هو أخص منهما، قلت: أو يكون أحد أخص من ذكرت? قال: نعم، من أخبرك عنه، إن هذا المدفون كان عدواً لي من كل باب، يسعى علي في نفسي وفي مالي وفي ولدي فخرج إلى الصيد أيأس ما كنت من عطبه، وأكمل ما كان من صحته، فرمى ظبياً فأقصده، فذهب ليأخذه، فإذا هو قد أنفذه حتى نجم سهمه من صفحة الظبي، فعثر فتلقى بفؤاده ظبة السهم، فلحقه أولياؤه فانتزعوا السهم وهو والظبي ميتان، فنمى إلي خبره، فأسرعت إلى قبره معتبطاً بفقده، فإني لضاحك السن؛ إذ وقعت عيني على صخرة، فرأيت عليها كتاباً، فهلم فاقرأه، وأومأ إلى الصخرة، فإذا عليها: وما نحن إلا مثلهم غير أننا أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا قلت: أشهد أنك تبكي على من بكاؤك عليه أحق من النسيب. مراثي يعقوب بن الربيع في جارية له ومما استطرفنا من شعر المحدثين قول يعقوب بن الربيع في جارية طالبها سبع سنين، بيذل فيها جاهه وماله وإخوانه حتى ملكها، فأقامت عنده ستة أشهر ثم ماتت، فقال فيها أشعاراً كثيرة، اخترنا منها بعضها، من ذلك قوله: لله آنسة فـجـعـت بـهـا ما كان أبعدها من الدنـس! أتت البشارة والنعـي مـعـاً يا قرب مأتمها من العرس! يا ملك نال الدهر فرصـتـه فرمى فؤاداً غير محتـرس كم من دموع لا تجف ومـن نفس عليك طويلة النـفـس أبكيك ما ناحـت مـطـوقة تحت الظلام تنوح في الغلس يا ملك في وفيك معـتـبـر ومواعظ يوحشن ذا الأنـس ما بعد فرقة بـينـنـا أبـداً في لذة درك لمـلـتـمـس وأخذ ما في صدر هذا الكلام من قول القائل: رب مغروس يعاش بـه فقدته كف مغتـرسـه وكذاك الدهر مـأتـمـه أقرب الأشياء من عرسه وقريب من هذا قول امرأة شريفة ترثي زوجها ولم يكن دخل بها: أبكيك لا للنـعـيم والأنـس بل للمعالي والرمح والفرس أبكي على فارس فجعت بـه أرملني قبل ليلة الـعـرس يا فارساً بالعراء مطـرحـاً خانته قواده مع الـحـرس من لليتامى إذا هم سغـبـوا وكل عان وكل محتـبـس! أم من لبر أم مـن لـفـائدة أم من لذكر الإله في الغلس! ومما استطرفه من شعر يعقوب قوله: ليت شعري بأي ذنب لـمـلـك كان هجري لقبرها واجتنابـي! ألذنب حقدتـه كـان مـنـهـا أم لعلمي بشغلها عن عتابـي! أم لامني لسخطهـا رضـاهـا حين واريت وجهها في التراب! ما وفى في العباد حي لـمـيت بعد يأس منه لـه فـي الإياب وفي هذا الشعر: إنما حسرتي إذا مـا تـذكـر ت عنائي بها وطول طلابـي لم أزل في الطلا سبع سنينـي أتأتى لذاك مـن كـل بـاب فاجتمعنا على اتفـاق وقـدر وغنينا عن فرقة باصطحـاب أشهراً ستة صحبتـك فـيهـا كن كالحلم أو كلمع السـراب وأتاني النعي منك مع البـش رى فيا قرب أوبة من ذهاب! ومن مليح شعره قوله يرثيها: حتى إذا فتر اللسان وأصبحت للموت قد ذبلت ذبول النرجس وتسللت منها محاسن وجههـا وعلا الأنين تحثه بتـنـفـس رجع اليقين مطامعي يأساً كما=رجع اليقين مطامع المتلمس ومن مليح شعره أيضاً قوله: فجعت بملك وقـد أينـعـت وتمت فأعظم بها من مصيبه! فأصبحت مغترباً بـعـدهـا وأمست بحلوان ملك غـريبة أراني غريباً وإن أصبـحـت منازل أهلي منـي قـريبـه فأقبلت أبكي وتبكي ومـعـي بكاء كئيب بحـزن كـئيبـه وحدثني رجل من أصحابنا، قال: شهدت رجلاً في طريق مكة معتكفاً على قبر، وهو يردد شيئاً ودموعه تكف من لحيته، فدنوت إليه لأسمع ما يقول، فجعلت العبرة تحول بينه وبين الإبانة، فقلت له: يا هذا! فرفع رأسه إلي، وكأنما هب من رقدة، فقال: ما تشاء? فقلت: أعلى ابنك تبكي? قال: لا، قلت: فعلى أبيك? قال: لا، ولا على نسيب ولا صديق، ولكن على من هو أخص منهما، قلت: أو يكون أحد أخص من ذكرت? قال: نعم، من أخبرك عنه، إن هذا المدفون كان عدواً لي من كل باب، يسعى علي في نفسي وفي مالي وفي ولدي فخرج إلى الصيد أيأس ما كنت من عطبه، وأكمل ما كان من صحته، فرمى ظبياً فأقصده، فذهب ليأخذه، فإذا هو قد أنفذه حتى نجم سهمه من صفحة الظبي، فعثر فتلقى بفؤاده ظبة السهم، فلحقه أولياؤه فانتزعوا السهم وهو والظبي ميتان، فنمى إلي خبره، فأسرعت إلى قبره معتبطاً بفقده، فإني لضاحك السن؛ إذ وقعت عيني على صخرة، فرأيت عليها كتاباً، فهلم فاقرأه، وأومأ إلى الصخرة، فإذا عليها: وما نحن إلا مثلهم غير أننا أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا قلت: أشهد أنك تبكي على من بكاؤك عليه أحق من النسيب. مراثي يعقوب بن الربيع في جارية له ومما استطرفنا من شعر المحدثين قول يعقوب بن الربيع في جارية طالبها سبع سنين، بيذل فيها جاهه وماله وإخوانه حتى ملكها، فأقامت عنده ستة أشهر ثم ماتت، فقال فيها أشعاراً كثيرة، اخترنا منها بعضها، من ذلك قوله: لله آنسة فـجـعـت بـهـا ما كان أبعدها من الدنـس! أتت البشارة والنعـي مـعـاً يا قرب مأتمها من العرس! يا ملك نال الدهر فرصـتـه فرمى فؤاداً غير محتـرس كم من دموع لا تجف ومـن نفس عليك طويلة النـفـس أبكيك ما ناحـت مـطـوقة تحت الظلام تنوح في الغلس يا ملك في وفيك معـتـبـر ومواعظ يوحشن ذا الأنـس ما بعد فرقة بـينـنـا أبـداً في لذة درك لمـلـتـمـس وأخذ ما في صدر هذا الكلام من قول القائل: رب مغروس يعاش بـه فقدته كف مغتـرسـه وكذاك الدهر مـأتـمـه أقرب الأشياء من عرسه وقريب من هذا قول امرأة شريفة ترثي زوجها ولم يكن دخل بها: أبكيك لا للنـعـيم والأنـس بل للمعالي والرمح والفرس أبكي على فارس فجعت بـه أرملني قبل ليلة الـعـرس يا فارساً بالعراء مطـرحـاً خانته قواده مع الـحـرس من لليتامى إذا هم سغـبـوا وكل عان وكل محتـبـس! أم من لبر أم مـن لـفـائدة أم من لذكر الإله في الغلس! ومما استطرفه من شعر يعقوب قوله: ليت شعري بأي ذنب لـمـلـك كان هجري لقبرها واجتنابـي! ألذنب حقدتـه كـان مـنـهـا أم لعلمي بشغلها عن عتابـي! أم لامني لسخطهـا رضـاهـا حين واريت وجهها في التراب! ما وفى في العباد حي لـمـيت بعد يأس منه لـه فـي الإياب وفي هذا الشعر: إنما حسرتي إذا مـا تـذكـر ت عنائي بها وطول طلابـي لم أزل في الطلا سبع سنينـي أتأتى لذاك مـن كـل بـاب فاجتمعنا على اتفـاق وقـدر وغنينا عن فرقة باصطحـاب أشهراً ستة صحبتـك فـيهـا كن كالحلم أو كلمع السـراب وأتاني النعي منك مع البـش رى فيا قرب أوبة من ذهاب! ومن مليح شعره قوله يرثيها: حتى إذا فتر اللسان وأصبحت للموت قد ذبلت ذبول النرجس وتسللت منها محاسن وجههـا وعلا الأنين تحثه بتـنـفـس رجع اليقين مطامعي يأساً كما=رجع اليقين مطامع المتلمس ومن مليح شعره أيضاً قوله: فجعت بملك وقـد أينـعـت وتمت فأعظم بها من مصيبه! فأصبحت مغترباً بـعـدهـا وأمست بحلوان ملك غـريبة أراني غريباً وإن أصبـحـت منازل أهلي منـي قـريبـه فأقبلت أبكي وتبكي ومـعـي بكاء كئيب بحـزن كـئيبـه
وقلت لها مرحباً مـرحـبـاً بوجه الحبيبة أخت الحـبـيبة سأصفيك ودي حفاظاً لـهـا فذاك الوفاء بظهر المغـيبة أراك كملك وإن كمل تـكـن لملك من الناس عندي ضريبه مرثية يزيد المهلبي في المتوكل ومما اخترنا من مرثية يزيد المهلبي للمتوكل على الله قوله: لا حـزن إلا أراه دون مـا أجــد وهل كمن فقدت عيناي مفتـقـد! لا يبعدن هالك كـانـت مـنـيتـه كما هوى عن عطاء الزبية الأسـد لا يدفع الناس ضيماً بعد ليلـتـهـم إذ لا تمد إلى الجانـي عـلـيك يد لو أن سيفي وعقلي حاضـران لـه أبليته الجهـد إذ لـم يبـلـه أحـد جاءت منيتـه الـعـين هـاجـعة هلا أتته المنايا والقـنـا قـصـد! هلا أتـتـه أعـاديه مـجـاهـرة والحرب تسعر والأبطال تجتـلـد فخر فوق سرير الملك مـنـجـدلاً لم يحمه ملكه لما انقضـى الأمـد قد كان أنصاره يحمـون حـوزتـه وللردى دون أرصاد الفتى رصـد وأصبح الناس فوضى يعجبون لـه ليثاً صريعاً تنزى حوله الـنـقـد علتك أسياف مـن لا دونـه أحـد وليس فوقك إلا الواحد الـصـمـد جاؤوا عظيماً لدنيا يسعـدون بـهـا فقد شقوا بالذي جاؤوا وما سعـدوا ضجت نساؤك بعد العز حـين رأت خداً كريماً علـيه قـارت جـسـد أضحى شهيد بني العباس موعـظة لكل ذي عزة فـي رأسـه صـيد حليفة لـم ينـل مـا نـالـه أحـد ولم يضع مثلـه روح ولا جـسـد كم في أديمك من فوهـاء هـادرة من الجوائف يغلي فوقها الـزبـد إذا بكيت فإن الدمـع مـنـهـمـل وإن رثيت فإن القـول مـطـرد قد كنت أسرف في مالي وتخلف لي فعلمتني الليالي كـيف أقـتـصـد لما اعتقدتم أناساً لا حـلـوم لـهـم ضعتم وضيعتم من كان يعـتـقـد ولو جعلتم على الأحرار نعمتـكـم حمتكم السادة المذكورة الـحـشـد قوم هم الجذم والأنساب تجمعـهـم والمجد والدين والأرحام والـبـلـد إذا قريش أرادوا شد مـلـكـهـم بغير قحطان لـم يبـرح بـه أود قد وتر الناس طراً ثم قد صمـتـوا حتى كأن الذي نيلـوا بـه رشـد من الألى وهبوا للمجد أنفـسـهـم فما يبالون ما نالـوا إذا حـمـدوا قال أبو الحسن، قوله: قارت، يقال: قرت الدم يقرت قروتاً. ودم قارت. قد يبس بين الجلد واللحم، ومسك قارت، وهو أخفه وأجوده، قال: يعل بقرات من المسك قاتن وقرات، فعال، وقاتن، مسك قاتن قد قتن قتوناً، أي يابس لا ندوة فيه. باب ذكر الأذواء من اليمن فأما في الجاهلية، فيكثرون نحو ذي يزن، وذي كلاع وذي نواس وذي رعين وذي أصبح وذي المناور وذي القرنين: فأما في الإسلام، فمنهم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أنصاري. ومنهم قتادة بن النعمان الأنصاري ذو العين. كانت عينه أصيبت فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أحسن عينيه. وكانت تعتل عينه الصحيحة فلا تعتل المردودة معها. ومنهم أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ذو السيفين؛ كان يتقلد سيفين في الحرب. ومنهم حباب بن المنذر بن الجموح ذو الرأي، وهو صاحب المشورة يوم بدر، أخذ برأيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له آراء في الجاهلية مشهورة. ومنهم سعد بن صفيح ذو السيال، ومنهم ذو المشهرة، وهو أبو دجانة سماك بن خرشة، وكانت له مشهرة إذا لبسها وخرج يختال بين الصفين لم يبق ولم يذر وكل هؤلاء من الأنصار. ومن اليمن من غيرهم عبد الله بن الطفيل الأزدي ثم الدوسي ذو النور، أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نوراً في جبينه ليدعو به قومه، فقال: يا رسول الله، هذه مثلة، فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوطه، فلما ورد على قومه بالسراة جعلوا يقولون: إن الجبل ليلتهب، وكان أبو هريرة ممن اهتدى بتلك العلامة. ومنهم، ثم من خزاعة، ذو اليدين، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، وكان قبل يدعى ذا الشمالين: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فسلم في الركعة الثانية، فقال ذو اليدين: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت? فقال: ما كان ذاك، فقال: بلى يا رسول الله، فالتفت إلى أصحابه فقال: ما يقول ذو اليدين? فقالوا: صدق يا رسول الله، فنهض فأتم، ثم قال: إني لأنسى أو أنسى لأستن. وهذه تسمية من كان بينه وبين الملائكة سبب من اليمانية منهم سعد بن معاذ الأنصاري، وهبط لموته سبعون ألف ملك لم يهبطوا إلى الأرض قبلها. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجليه في المشي لئلا يطأ على جناح ملك، واهتز لموته عرش الله جل وعز. وفي ذلك، يقول حسان: وما اهتز عرش اله من موت هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عـمـرو وكبر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعاً؛ كما كبر على حمزة بن عبد المطلب، وشم من تراب قبره رائحة المسك. ومنهم حسان بن ثابت الأنصاري. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهجهم وروح القدس معك". وقال في حديث آخر: "إن الله مؤيد حساناً بروح القدس ما نافح عن نبيه". وقالت عائشة: كان يوضع لحسان منبر في مؤخر المسجد فينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم حنظلة بن أبي عامر الأنصاري. غسلته الملائكة، وذاك أنه خرج يوم أحد فأصيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صاحبكم هذا قد غسلته الملائكة". فسئل عن ذلك، فقالت امرأته: كان معي على ما يكون الرجل مع امرأته. فأعجلته حطمة بلغته في المسلمين فخرج فأصيب، ففي ذلك يقول الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح حمي الدبر، وكان خال أبيه: غسلت خالي الـمـلائكة الأب رار ميتاً أكرم به من صريع! وأنا ابن الذي حمت ظهره الدب ر قتيل اللحيان يوم الرجـيع! ومنه حارثة بن النعمان، رأى جبريل صلى الله عليه وسلم مرتين، وأقرأه جبريل السلام. ومنهم، ثم من خزاعة عمران بن حصين، كانت تصافحه الملائكة وتعوده، ثم افتقدها. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ إن رجالاً كانوا يأتونني لم أر أحسن مهم وجوهاً، ولا أطيب أرواحاً، ثم قد انقطعوا عني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصابك جرح فكنت تكتمه? فقال: أجل، قال: ثم أظهرته? قال: قد كان ذلك. قال: أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت. ومنهم جرير بن عبد الله البجلي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن، عليه مسحة ملك". ومنهم دحية بن خليفة الكلبي، كان جبريل صلى الله عليه وسلم يهبط في صورته، فمن ذلك يوم بني قريظة. لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وهبط عليه جبيل عليه السلام فقال: يا محمد أقد وضعتم سلاحكم! ما وضعت الملائكة أسلحتها بعد، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، وهأنذا سائر إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فجعل يمر بالناس فيقول: أمر بكم أحد? فيقولون: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة عليها قطيفة خز نحو بني قريظة، فيقول: ذلك جبرائيل، ثم مر دحية بعد ذلك، وكان لا يزال عليه السلام في غير هذا اليوم ينزل في صورته، كما ظهر إبليس في صورة الشيخ النجدي. وهذا باب قد تقدم ذكرنا إياه ووعدنا استقصاءه الفرق بين تعريف الحيوان وتنكيره وبين تذكيره وتأنيثه قال أبو العباس: اعلم أن كل شيء من الحيوان؛ كان مما يخبر الناس عنه كما يخبرون عن أنفسهم ومما يقتنونه ويتخذونه، فبهم حاجة إلى الفصل بين معرفته ونكرته ومذكره ومؤنثه، تقول: جاءني رجل إذا لم تدر من هو بعينه، أو دريت فلم ترد أن تبين. ثم تعرفه لصاحبك إذا أردت ذلك إما بألف ولام، وإما باسم معروف، أو إضافة أو غير ذلك. وكذلك يفصل الناس بين الخيل بأسماء أو نعوت يعرفون بها بعضها من بعض، وكذلك الشاء والكلاب والإبل، ولولا تمييز بعضها من بعض لم يستقم الإخبار عنها والاختصاص بما أريد منها؛ فإذا كان الشيء لي مما يتخذونه لم يحتاجوا إلى التمييز بين بعضه وبعض، يقول الرجل: رأيت الأسد؛ فليس يعني أسداً بعينه، ولكن يريد الواحد من الجنس الذي قد عرفت، وكذلك الذئب والعقرب والحية وما أشبه ذلك، ألا ترى أن ابن عرس وسام أبرص وأم حبين وأبا الحارث وأبا الحصين معارف لا على أن تميز بعضها من بعض ولكن تعريف الجنس. وقولك: ابن مخاض وابن لبون، وابن ماء، نكرات، لأن هذا مما يتخذه الناس، وابن ماء إنما هو مضاف إلى الماء الذي يعرف. فإذا أردت التعريف من هذا لهذه النكرات أدخلت فيما أضيفت إليه الألف واللام، أو لقبتها ألقاباً تعرف بها، كزيد وعمرو. واعلم أن كل جمع مؤنث؛ لأنك تريد معنى جماعة. ولا تذكر من ذلك إلا ما كان فعله يجري بالواو والنون في الجمع، وذلك كل ما يعقل، تقول: مسلم ومسلمون؛ كما تقول: قوم يسلمون، وتقول للجمال: هي تسير وهن يسرن. كما تقول للمؤنث، لأن أفعالها على ذلك، وكذلك الموات، قال الله عز وجل في الأصنام: "رب إنهن أضللن كثيراً من الناس" إبراهيم 36، والواحد مذكر. وقال المفسرون في قوله: "إن يدعون من دونه إلا إناثاً" النساء 117، قالوا: الموات، فكل ما خرج عما يعقل فجمعه بالتانيث وفعله عليه، لا يكون إلا ذلك، إلا ما كان من باب المنقوص. نحو سنين وعزين وليس هذا موضعه. وجملته أنه لا يكون إلا مؤنثاً، فلهذا كان يقع على بعض هذا الضرب الاسم المؤنث، فيجمع الذكر والأنثى، فمن ذلك قولهم: عقرب، فهن اسم مؤنث، إلا أنك إن عرفت الذكر قلت: هذا عقرب، وكذلك الحية، تقول للأنثى: هذه حية، وللذكر هذا حية، قال جرير: إن الحفافيث منكم يا بني لـجـإ يطرقن حيث يصول الحية الذكر قال الأخفش: الحفافيث: ضرب من الحيات يكون صغير الجرم ينتفخ ويعظم وينفخ نفخاً شديداً، لا غائلة له. وتقول: هذا بطة للذكر، وهذه بطة للأنثى، وهذا دجاجة، وهذه دجاجة. قال جرير: لما تذكرت بالديرين أرقـنـي صوت الدجاج وقرع بالنواقيس يريد زقاء الديوك، فالاسم الذي يجمعهما دجاجة للذكر والأنثى. ثم يخص الذكر بأن يقال: ديك. وكذلك تقول: هذا بقرة وهذه بقرة لهما جميعاً. وهذا حباري، ثم يخص الذكر فتقول: ثور. وتقول للذكر من الحباري: خرب، فعلى هذا يجري هذا الباب، وكل ما لم نذكره فهذا سبيله. قال أبو العباس: وقد كنا أرجأنا أشياء ذكرنا أنا سنذكرها في آخر هذا الكتاب، منها خطب ومواعظ ورسائل، ونحن ذاكرون ما تهيأ من ذلك إن شاء الله. خطبة لأعرابي بالبادية قال الأصمعي فيما بلغني: خطبنا أعرابي بالبادية؛ فحمد الله واستغفره ووحده وصلى على نبيه. فبلغ في إيجاز، ثم قال: أيها الناس، إن الدنيا دار بلاغ، وإن الآخرة دار قرار، فخذوا من مفركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، في الدنيا كنتم، ولغيرها خلقتم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والمصلى عليه رسول الله والمدعو له الخليفة، والأمير جعفر بن سليمان. خطبة لعمر بن عبد العزيز وحدثت في بعض الأسانيد أن عمر بن عبد العزيز قال: في خطبة له: أيها الناس، إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتقص، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه، ونور قلبه! أيها الناس، قد علمتم أن أباكم قد أخرج من الجنة بذنب واحد، وأن ربكم وعد على التوبة، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل. ويروى أن رجلاً معروفاً، ذهب اسمه عني، قال: أتيت ابن عمر فقلت: أتجب الجنة لعامل بكل الخيرات وهو مشرك? فقال: لا، فقلت له: أتجب النار لعامل بالشر كله وهو موحد? قال: عش ولا تغتر. قال: وأتيت ابن عباس، فسألته فأجابني بمثل جوابه سواء، وقال: عش ولا تغتر. قال: وحدثني بهذا الحديث القاضي يعني إسماعيل بن إسحاق. خطبة لعتبة بن أبي سفيان بالموسم وذكر العتبي أحسبه عن أبيه عن هشام بن صالح عن سعد القصر قال: خطب الناس بالموسم عتبة في سنة إحدى وأربعين، وعهد الناس حديث بالفتنة. فاستفتح ثم قال: أيها الناس، إنا قد ولينا هذا الموضع الذي يضاعف الله فيه للمحسن الأجر وعلى المسيء الوزر. فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا، فإنها تنقطع دوننا، ورب متمن حتفه في أمنيته، اقبلوا العافية ما قبلناها منكم وفيكم. وإياكم ولو فقد أتعبت من كان قبلكم ولن تريح من بعدكم. فأسأل الله أن يعين كلا على كل. فنعق به أعرابي من مؤخر المسجد فقال: أيها الخليفة! فقال: لست به ولم تبعد، قال: فيا أخاه! قال: قد أسمعت فقل، فقال: واله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير لكم من أن تسيئوا وقد أحسنا، فإن كان الإحسان لكم فما أحقكم باستتمامه، وإن كان لنا فما أحقكم بمكافأتنا! رجل من بني عامر يمت إليكم بالعمومة، ويختص إليكم بالخؤولة، وقد وطئه زمان وكثرة عيال، وفيه أجر، وعنده شكر. فقال عتبة: أستعيذ بالله منك، وأستعينه عليك، قد أمرت لك بغناك، فليت إسراعنا إليك، يقوم بإبطائنا عنك!. خطبة لعتبة أيضاً بمصر وذكر العتبي أن عتبة خطب الناس بمصر عن موجدة، فقال: يا حاملي ألأم آنف ركبت بين أعين، إني إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي لكم. وسألتكم صلاحكم إذ كان فسادكم باقياً عليكم. فأما إذ أبيتم إلا الطعن على السلطان، والتنقص للسلف، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت أدواءكم، وإلا فإن السيف من ورائكم. فكم من حكمة منا لم تعها قلوبكم، ومن موعظة منا صمت عنها آذانكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذ جدتم بالمعصية، ولا أويسكم من مراجعة الحسنى أن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى. ثم نزل. خطبة لداود بن علي العباسي وذكر العتبي أو غيره أن داود بن علي بن عبد الله بن العباس خطب الناس في أول موسم ملكه بنو العباس، بمكة. فقال: شكراً شكراً، إنا والله ما خرجنا لنحفر فيكم نهراً، ولا لنبني فيكم قصراً، أظن عدو الله أن لن نقدر عليه أن روخي له من خطامه، حتى عثر في فضل زمامه! فالآن حيث أخذ القوس باريها، وعادت النبل إلى النزعة، ورجع الملك في نصابه في أهل بيت النبوة والرحمة. والله لقد كنا نتوجع لكم ونحن في فرشنا. أمن الأسود والأحمر، لكم ذمة الله، لكم ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكم ذمة العباس، لا ورب هذه البنية - وأومأ بيده إلى الكعبة - لا نهيج منكم أحداً. خطبة لمعاوية بن أبي سفيان قال: وخطب الناس معاوية بن أبي سفيان، فحمد الله وصلى على نبيه ثم قال: يا أيها الناس! إني من زرع قد استحصد. ولن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه، كما لم يكن قبلي إلا من هو خير مني. ما قاله معاوية عند موته وتعزية الناس ليزيد من بعده وفي غير هذا الخبر أنه قال لبناته عند وفاته: قلبنني، ففعلن. فقال: إنكن لتقلبنه حولاً قلباً إن وقي كبة النار. ثم قال متمثلاً: لا يبعدن ربيعة بن مـكـدم وسقى الغوادي قبره بذنوب وقال لابنة قرظة: ابكيني، فقالت: ألا أبكيه ألا أبكيه ألا كل الفتى فيه فلما مات دخل الناس على يزيد يعزونه بأبيه ويهنئونه بالخلافة، فجعلوا يقولون، حتى دخل رجل من ثقيف فقال: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. إنك قد فجعت بخير الآباء، وأعطيت جميع الأشياء، فاصبر على الرزية، واحمد الله على حسن العطية، فلا أعطي أحد كما أعطيت، ولا رزيء كما رزيت، فقام ابن همام السلولي فأنشده شعراً كأنما فاوضه الثقفي، فقال: اصبر يزيد فقد فـارقـت ذائقة واشكر بلاء الذي بالملك أصفاكا أصبحت تملك هذا الخلق كلهـم فأنت ترعاهم والـه يرعـاكـا ما إن رزي أحد في الناس نعلمه كما رزئت ولا عقبى كعقباكـا وفي معاوية الباقي لنا خـلـف إذا نعيت ولا نسمع بمنعـاكـا الحول، معناه ذو الحيلة. والقلب: الذي يقلب الأمور ظهراً لبطن. وقوله: إن وقي كبة النار فكبة النار معظمها، وكذلك كبة الحرب، ويقال: لقيته في كبه القوم، ويروى عن بعض الفرسان أنه طعن رجلاً في حرب فقال: طعنته في الكبة، فوضعت رمحي في اللبة، وأخرجته من السبة. والسبة: الدبر. حديث خالد بن صفوان عن الطعام ويروى أن خالد بن صفوان دخل على يزيد بن المهلب وهو يتغدى، فقال: ادن فكل يا أبا صفوان. فقال: أصلح الله الأمير! لقد أكلت أكلة لست ناسيها، قال: وما أكلت? قال: أتيت ضيعتي لإبان الغراس وأوان العمارة، فجلت فيها جولة، حتى إذا صخدت الشمس وأزمعت بالركود، ملت إلى غرفة لي هفافة، في حديقة قد فتحت أبوابها، ونضح بالماء جوانبها، وفرشت أرضها بألوان الرياحين، من بين ضيمران نافح وسمسق فائح، وأقحوان زاهر، وورد ناضر، ثم أتيت بخبز أرز كأنه قطع العقيق، وسمك بناني بيض البطون، زرق العيون، سود المتون، عراض السرر، غلاظ القصر، ودقة وخلول، ومري وبقول، ثم أتيت برطب أصفر، صاف غير أكدر، لم تبتذله الأيدي، ولم يهشمه كيل المكاييل، فأكلت هذا ثم هذا؛ فقال يزيد: يا ابن صفوان؛ لألف جريب من كلامك مزروع خير من ألف جريب مذروع. الرسائل التي دارت بين المنصور وبين محمد بن عبد الله بن الحسن ونحن ذاكرون الرسائل بين أمير المؤمنين المنصور، وبين محمد بن عبد الله بن حسن العلوي كما وعدنا في أول الكتاب، ونختصر ما يجوز ذكره منه، ونمسك عن الباقي، فقد قيل: الراوية أجد الشاتمين، قال: لما خرج محمد بن عبد الله على المنصور كتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله، أما بعد: "إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم فلي الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" المائدة 33-34، ولك عهد الله وذمته وميثاقه وحق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ إن تبت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك على نفسك وولدك وإخوتك ومن بايعك وتابعك وجميع شيعتك، وأن أعطيك ألف ألف درهم، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأقضي لك ما شئت من الحاجات، وأن أطلق من في سجني من أهل بيتك وشيعتك وأنصارك، ثم لا أتتبع أحداً منكم بمكروه، فإن شئت أن تتوثق لنفسك، فوجه إلي من يأخذ لك من المثاق والعهد والأمان ما أحببت، والسلام. فكتب إليه محمد بن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد: أما بعد: "طسم تلك أيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نسآءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهمان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون" القصص 1-6، وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني وقد تعلم أن الحق حقنا، وأنكم إنما طلبتموه بنا، ونهضتم فيه بشيعتنا، وخبطتموه بفضلنا، وأن أبانا علياً عليه السلام كان الوصي والإمام، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء! وقد علمت أنه ليس أحد من بني هاشم يمت بمثل فضلنا، ولا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا ونسبنا وسببنا! وإنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت عمرو في الجاهلية دونكم، وبنو ابنته فاطمة في الإسلام من بينكم. فأنا أوسط بني هاشم نسباً، وخيرهم أماً وأباً، لم تلدني العجم، ولم تعرق في أمهات الأولاد، وأن اله تبارك وتعالى لم يزل يختار لنا، فولدني من النبيين، أفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أصحابه أقدمهم إسلاماً، وأوسعهم علماً، وأكثرهم جهاداً، علي بن أبي طالب، ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد، أول من آمن بالله وصلى القبلة، ومن بناته أفضلهن وسيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام الحسن والحسين سيداً شباب أهل الجنة. ثم قد علمت أن هاشماً ولد علياً مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدني مرتين، من قبل جدي الحسن والحسن، فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في النار، فولدني أرفع الناس درجة في الجنة، وأهون أهل النار عذاباً، فأنا ابن خير الأخيار وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار. ولك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته، إلا حدا من حدود الله، أو حقاً لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمك في ذلك، فأنا أوفي بالعهد منك، وأحرى لقبول الأمان. فأما أمانك الذي عرضت علي فأي الأمانات هو! أأمان ابن هبيرة? أم أمان عمك عبد الله بن علي? أم أمان أبي مسلم! والسلام. فكتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله، أما بعد: فقد أتاني كتابك، وبلغني كلامك، فإذا جل فخرك بالنساء، لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، ولقد جعل العم أباً، وبدأ به على الوالد الأدنى، فقال جل ثناؤه عن نبيه عليه السلام: "واتبعت ملة أباءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب" يوسف: 38، وقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وعمومته أربعة، فأجابه اثنان: أحدهما أبي. وكفر اثنان أحدهما أبوك. فأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن فلو أعطين على قرب الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب، ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه. فأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب، فإن الله لم يهد أحداً من ولدها للإسلام، ولو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة والأولى، وأسعدهم بدخول الجنة غداً، ولكن الله أبى ذلك فقال: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" القصص: 56. فأما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب وفاطمة أم الحسن وأن هاشماً ولد علياً مرتين، وأن عبد المطلب ولد الحسن مرتين، فخير الأولين والآخرين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة، ولم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة. وأما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله ، فإن الله عز وجل أبى ذلك فقال: "ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين" الأحزاب:40، ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، غير أنها امرأة لا تحوز الميراث، ولا يجوز أن تؤم، فكيف تورث الإمامة من قبلها? ولقد طلب بها أبوك بكل وجه، فأخرجها تخاصم، ومرضها سراً، ودفنها ليلاً، فأبى الناس إلا تقديم الشيخين، ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصلاة غيره، ثم أخذ الناس رجلاً رجلاً، فلم يأخذوا أباك فيهم، ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها. بايع عبد الرحمن عثمان وقبلها عثمان، وحارب أباك طلحة والزبير، ودعا سعداً إلى بيعته فأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده، وأفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن، فسلمه إلى معاوية بخرق ودراهم، وأسلم في يديه شيعته، وخرج إلى المدينة، فدفع الأمر إلى غير أهله، وأخذ مالاً من غير حلة، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه. فأما قولك: إن الله اختار لك في الكفر، فجعل أباك أهون أهل النار عذاباً، فليس في الشر خيار، ولا من عذاب الله هين، ولا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يفخر بالنار، وسترد فتلعم، "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" الشعراء:227. وأما قولك: إنك لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد وأنك أوسط بني هاشم نسباً وخيرهم أماً وأباً، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً، وقدمت نفسك على من هو خير من أولاً وآخراً، وأصلاً وفصلاً، فخرت على إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى والد ولده، فانظر ويحك أين تكون من الله غداً! وما ولد فيكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي بن الحسين، وهو لأم ولد، ولقد كان خيراً من جدك حسن بن حسن، ثم ابنه محمد بن علي خير من أبيك، وجدته أم ولد، ثم ابنه جعفر، وهو خير منك، ولقد علمت أن جدك علياً حكم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به، فاجتمعا على خلعه، ثم خرج عمك الحسين بن علي على ابن مرجانة، فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه، ثم أتوا بكم على الأقتاب بغير أوطية، كالسبي المجلوب، إلى الشأم.
ثم خرج منكم غير واحد فقتلتكم بنو أمية، وحرقوكم بالنار، وصلبوكم على جذوع النخل، حتى خرجنا عليهم، فأدركنا بثأركم إذ لم تدركوه، ورفعنا أقداركم، وأورثناكم أرضهم وديارهم، بعد أن كانوا يعلنون أباك في أدبار الصلاة المكتوبة كما تلعن الكفرة، فعنفناهم وكفرناهم، وبينا فضله، وأشدنا بذكره، فاتخذت ذلك علينا حجة، وظننت أنا لما ذكرنا من فضل علي أنا قدمناه على حمزة والعباس وجعفر، كل أولئك مضوا سالمين مسلماً منهم، وابتلي أبوك بالدماء، ولقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم، وكانت للعباس دون إخوته، فنازعنا فيها أبوك إلى عمر، فقضى لنا عمر عليه، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من عمومته أحد حياً إلا العباس، فكان وارثه دون بني عبد المطلب، وطلب الخلافة غير واحد من بني هاشم، فلم ينلها إلا ولده، فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وبنوه القادة الخلفاء، فقد ذهب بفضل القديم والحديث، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كرهاً لمات عماك طالب وعقيل جوعاً أو يلحسا جفان عتبة وشيبة، فأذهب عنهما العار والشنار، ولقد جاء الإسلام والعباس يمون أبا طالب للأزمة التي أصابتهم، ثم فدى عقيلاً يوم بدر. فقد مناكم في الكفر، وفديناكم من الأسر، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وحزنا شرف الآباء، وأدركنا من ثأركم ما عجزتم عنه، ووضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم. والسلام.
رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله القسري قال أبو العباس: وقد ذكرنا رسالة هشام إلى خالد بن عبد الله، وإنا سنذكرها بتمامها في غير الموضع الذي ابتدأنا وذكرها أولاً فيه، وكان سبب هذه الرسالة إفراط خالد في الدالة على هشام، وأنه أخذ ابن حشان النبطي فضربه بالسياط، وكان يقال له سهيل، قال: فبعث بقميصه إلى أبيه وفيه آثار الدم، فأدخله أبوه إلى هشام، مع ما قد أوغر صدر هشام عليه من إفراط الدالة، واحتجان الأموال، وكفر ما أسداه إليه من توليته إياه العراق، فكتب هشام إلى خالد: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛ فقد بلغ أمير المؤمنين عنك أمر لم يحتمله لك، إلا لما أحب من رب الصنيعة قبلك، واستتمام معروفه عندك. وكان أمير المؤمنين أحق من استصلح ما فسد عليه منك، فإن تعد لمثل مقالتك وما بلغ أمير المؤمنين عنك، رأى في معالجتك بالعقوبة رأيه. إن النعمة إذا طالت بالعبد ممتدة أبطرته، فأساء حمل الكرامة، واستقل العافية، ونسب ما في يديه إلى حيلته وحسبه وبيته ورهطه وعشيرته، فإذا نزلت به الغير، وانكشطت عنه عماية الغي والسلطان، ذل منقاداً، وندم حسيراً، وتمكن منه عدوه قادراً عليه قاهراً له، ولو أراد أمير المؤمنين إفسادك لجمع بينك وبين من شهد فلتات خطلك. وعظيم زللك، حيث تقول لجلسانك: والله ما زادتني ولاية العراق شرفاً، ولا ولاني أمير المؤمنين شيئاً لم يكن من قبلي ممن هو دوني يلي مثله! ولعمري لو ابتليت ببعض مقاوم الحجاج في أهل العراق، في تلك المضايق التي لقي، لعلمت أنك رجل من بجيلة، فقد خرج عليك أربعون رجلاً فغلبوك على بيت مالك وخزائنك، حتى قلت: أطعموني ماء؛ دهشاً وبعلاً وجبناً، فما استطعتهم إلا بأمان. ثم أخفرت ذمتك، منهم رزين وأصحابه. ولعمري أن لو حاول أمير المؤمنين مكافأتك بخطلك في مجلسك، وجحودك فضله إليك، وتصغير ما أنعم به عليك، فحل العقدة، ونفض الصنيعة، وردك إلى منزلة أنت أهلها، كنت لذلك مستحقاً؛ فهذا جدك يزيد بن أسد قد حشد مع معاوية في يوم صفين، وعرض له دينه ودمه، فما اصطنع إلا عنده، ولا ولاه ما اصطنع إليك أمير المؤمنين وولاك، وقبله من أهل اليمن وبيوتاتهم من قبيله أكرم من قبيلتك، من كندة وغسان وآل ذي يزن وذي كلاع وذي رعين، في نظرائهم من بيوتات قومهم، كلهم أكرم أولية، وأشرف أسلافاً، من آل عبد الله بن يزيد. ثم أثرك أمير المؤمنين بولاية العراق، بلا بيت رفيع، ولا شرف قديم، وهذه البيوتات تعلوك وتغمرك وتسكتك، وتتقدمك في المحفل والمجامع عند بدأة الأمور وأبواب الخلفاء، ولولا ما أحب أمير المؤمنين من رد غربك؛ لعاجلك بالتي كانت أهلها، وإنها منك لقريب مأخذها، سريع مكروهها. فيها، إن أبقى الله أمير المؤمنين، زوال نعمه عنك، وحلول نقمه بك، فيما ضيعت وارتكبت بالعراق، من استعانتك بالمجوس والنصارى، وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم، وتسلطهم عليهم، نزع بك إلى ذلك عرق سوء فيهم من التي قامت عنك، فبئس الجنين أنت يا عدي نفسه! وإن الله عز وجل لما رأى إحسان أمير المؤمنين إليك، وسوء قيامك بشكره، قلب قلبه فأسخطه عليك، حتى قبحت أمورك عنده، وآيسه من شكرك ما ظهر من كفرك النعمة عندك، فأصبحت تنظر سقوط النعمة، وزوال الكرامة، وحلول الخزي، فتأهب لنوازل عقوبة الله بك، فإن الله عليك أوجد، ولما عملت أكره، فقد أصبحت وذنوبك عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبكتك، إلا راتباً بين يديه، وعنده من يقررك بها ذنباً ذنباً، ويبكتك بما أتيت أمراً أمراً، فقد نسيته وأحصاه الله عليك، ولقد كان لأمير المؤمنين زاجر عنك فيما عرفك به من التسرع إلى حماقتك في غير واحدة. منها القرشي الذي تناولته بالحجاز ظالماً، فضربك الله بالسوط الذي ضربته به مفتضحاً على رؤوس رعيتك، ولعل أمير المؤمنين يعود لك بمثل ذلك، فإن يفعل فأهله أنت، وإن يصفح فأهله هو! ومن ذلك ذكرك زمزم، وهي سقيا الله وكرامته لعبد المطلب وهذا الحي من قريش تسميها أم جعار؛ فلا سقاك الله من حوض رسوله، وجعل شركما لخيركما الفداء، ووالله أن لو لم يستدلل أمير المؤمنين على صنف نحائزك وسوء تدبيرك إلا بفسالة دخائلك وبطانتك وعمالك، والغالبة عليك جاريتك الرائفة، بائعة الفهود ومستعملة الرجال، مع ما أتلفت من مال الله في المبارك، فإنك ادعيت أنك أنفقت عليه اثني عشر ألف ألف درهم. والله لو كنت من ولد عبد الملك بن مروان ما احتمل لك أمير المؤمنين ما أفسدت من مال الله، وضيعت من أمور المسلمين، وسلطت من ولاة السوء على جميع أهل كور عملك، تجمع إليك الدهاقين هدايا النيروز والمهرجان، حابساً لأكثره، رافعاً لأقله، مع مخابث مساويك التي قد أخر أمير المؤمنين تقريك بها، ومناصبتك أمير المؤمنين في مولاه حسان، ووكيله في ضياعه وأحوازه في العراق، وإقدامك على ابنه بما أقدمت به، وسيكون لأمير المؤمنين في ذلك نبأ إن لم يعف عنك، ولكنه يظن أن الله طالبك بأمور أتيتها، غير تارك لتكشيفك عنها، وحملك الأموال ناقصة عن وظائفها التي جباها عمر بن هبيرة، وتوجيهك أخاك أسداً إلى خراسان، مظهراً العصبية بها، متحاملاً على هذا الحي من مضر، قد أتت أمير المؤمنين بتصغيره بهم واحتصاره لهم وركوبه أياهم الثقات، ناسياً لحديث زرنب وقصص الهجريين كيف كانت في أسد بن كرز، فإذا خلوت أو توسطت ملأ فاعرف نفسك، وخف رواجع البغي عليك وعاجلات النقم فيك. واعلم أن ما بعد كتاب أمير المؤمنين هذا أشد عليك، وأفسد لك، وقبل أمير المؤمنين خلف منك كثير، في أحسابهم وبيوتاتهم وأديانهم، وفيهم عوض منك، والله من وراء ذلك. وكتب عبد الله بن سالم سنة تسع عشرة ومائة. وهذا باب من متنخل طريف الشعر وذكر آيات من القرآن ربما غلط في مجازها النحويون. قال أبو العباس: هذا الكتاب قد وفيناه جميع حقوقه، ووفينا بجميع شروطه، إلا ما أذهل عنه النسيان، فإنه قلما يخلى من ذلك، ونحن خاتموه بأشعار طريفة، وآخر ذلك الذي نختم به آيات من كتاب الله عز وجل، بالتوقيف على معانيها إن شاء الله. مختارات متفرقة من الشعر قال الشاعر: أذكر مجالس من بنـي أسـد بعدوا وحن إليهم الـقـلـب الشرق منزلنا، ومنـزلـهـم غرب، وأتى الشرق والغرب! من كل أبيض جـل زينـتـه مسك أحم وصارم عـضـب وقال آخر: حياة أبي العوام زين لقـومـه لكل امرئ قاس الأمور وجربا ونعتب أحياناً عليه ولو مضـى لكنا على الباقي من الناس أعتبا وقال مسلم: حياتك يا ابن سعدان بن يحيى حياة للمكارم والمعـالـي جلبت لك الثناء فجاء عفـواً ونفس الشكر مطلقة العقال وترجعني إليك، وإن نأت بي دياري عنك، تجربة الرجال وقيل في المثل: المبالغة في النصيحة تقع بك على عظيم الظنة. وأنشدني العباس بن الفرج الرياشي: وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد الظنة المتـنـصـح وأنشدني الرياشي: إذا الأمر أغنى عنك جنوبه فاجتنب معرة أمر أنت عنه بـمـعـزل وقال العتابي: لا ترج رجعة مذنب خلط احتجاجاً باعتذار وقال أيضاً: وفيت كل خليل ودني ثمناً إلا المؤمل دولاتي وأيامي وقيل للعتابي: ما أقرب البلاغة? قال: ألا يؤتى السامع من سوء إفهام القاتل، ولا يؤتى القائل من سوء فهم السامع. وقال ابن يسير: أقدر لرجلك قبل الخطو منزلها فمن علا زلقاً عن غرة زلقا وكان يقال: اصمت لتفهم، واذكر لتعلم، وقل لتذلق. آيات من القرآن الكريم وبيان ما فيها من المجاز ونذكر آيات من القرآن ربما غلط في مجازها النحويون. قال الله عز وجل: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه" آل عمران 175، مجاز الآية أن المفعول الأول محذوف، ومعناه: يخوفكم من أوليائه. وفي القرآن: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" البقرة 185، والشهر لا يغيب عنه أحد، ومجاز الآية: فمن كان منكم شاهداً بلده في الشهر فليصمه، والتقدير فمن شهد منكم أي فمن كان شاهداً في شهر رمضان فليصمه، نصب الظروف لا نصب المفعول به. وفي القرآن في مخاطبة فرعون: "فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك أية" يونس92، فليس معنى ننجيك نخلصك، لكن نلقيك على نجوة من الأرض، ببدنك: بدرعك، يدل على ذلك لتكون لمن خلفك آية. وفي القرآن: "يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم" الممتحنة 1، فالوقف "يخرجون الرسول وإياكم" الممتحنة 1، أي ويخرجونكم لأن تؤمنوا بالله ربكم. هذا آخر الكتاب الكامل، والشكر لله والحمد له، وصلى الله على رسول الله، ونستغفر الله مما قلناه من عمد وقصد وزلل.