القرار الحاسم
القرار الحاسم
قصة قصيرة بقلم :محمد همام فكري
( نشرت في المجموعة القصصية بعنوان : الخروج من الهامش , 1993)
بعد تفكير طويل .. قرر أن يقدم استقالته بيده .. قبل أن يأتيه قرار الاحالة الي المعاش .. لا بل يضعه علي باب المدير .. أو علي باب المصلحة .. ليقرأه الجميع .. العدو قبل الصديق .. نعم .. فما بقي من الزمن .. أمسى ثقيلا .. ثقيلا .. والقرار .. يوم أو يومان .. ويصبح في متناول الايدي من مسلم الي مستلم .. حتي يأخذ التأشيرة بالعلم واجراء اللازم.. وعندها سيقع القرار بين راحتيه .. حطام .. رفات ثلاثين عاما .. فروا مع الهواء .. ولم يبق منها الا بياض الشعر وانحناء الظهر .. وبعض من نور عينيه وتوجيه نظر.... لكنه حين يحسم القضية قبل الاوان .. سوف يفوز بالقرار .. وعندما تكون المبادأة منه فان الامر يختلف كثيرا .. والراتب نفس الراتب .. نعم .. ليس الا الاستقالة .. ويكون مايكون .. فكثيرا ماسأل نفسه في شرخ الشباب ماذا تعني مرحلة المعاش .. ولماذا يخشاها الزاحفون إليها .. هاهو يعيشها مشاعر .. لا يستطيع أن يعبر عنها .. كما عجز سيد أفندي .. وعم صابر .. والحاج أبو جبل وجميعهم جمعتهم مقهى المعلم حسنين .. وطاولة الرصيف .. وجريدة الصباح .. وبعضهم ذهب الي مسقط رأسه .. وكأنه ينتظر لقاء لايأتي .. ياه .. ثلاثون عاما .. فروا .. ذهابا وايابا علي الاقدام كم مذكرة .. وكم تقريرا .. وكم خطابا .. وكم مناقصة أنجزها .. كثير وكثير .. وكم ملفا وقلما .. وورقا .. ذابوا بين أصابعه .. شيء لايحصي .. لايحصي .. والمكتب والمقعد .. والخزائن والدفاتر .. كل شيء .. كل شيء .. والوجوه والاسماء .. - نعم .. الاستقالة ..ولاشيء غيرها .. .. قالها وهو يشعل سيجارته الاخيرة .. وزوجته في فراشها نائمة .. في سبات عميق .. وشهيقها يبتلع زفيره .. والدخان المتصاعد من سيجارته .. ودوامة الافكار التي تسبح في سماء الغرفة .. فكر في أن يبيع ( شقته ) ويذهب الي أرض الوادي .. يشتري قطعة أرض صغيرة أو كبيرة .. يقوم بزراعتها ويحقق حلم حياته .. - نعم .. ولعل وعسى .. وعندها .. سوف يبدأ حياة جديدة .. في الهواء .. تحت السماء .. - نعم سأشتري قطعة الارض بنصف ثمن الشقة والنصف الاخر سأقسمه الي نصفين .. ابني بأحدهما غرفة بمنافعها .. والباقي مع المعاش نصرف به علي الزراعة .. وكم دجاجة .. وشاه .. ونفيسة .. وأنا .. وسوف يكفينا ويزيد .. ونستمتع باطعام أنفسنا .. ولو سريس ولقمة ناشفة .. وجبنة قريش .. واخذ يحلم - وهناك سوف نعيش .. المعاش طولا وعرضا .. نعم الاستقالة .. لاشيء غيرها .. غدا ولن أنام حتي يأتي الصباح .. وينتهي الامر وكأن شيئا لم يكن .. ولن أفكر في هذا الموضوع ثانية .. وبصوت يسمعه - نعم سأكتب الاستقالة .. عاد بعدها ليتحدث بصوت خفيض وهو يتابع انفاس زوجته - وأدسها في بريد العرض وأنا مغمض .. ولن أنتظر تأشيرة المدير.. وعندها ستكون فرصة سلمان أفندي .. الذي يتعجل رحيلي .. العبيط يتخيل أنه سيمضي عمره في الوظيفة .. والمقعد .. لكنها ستكون فرصة مواتية لطموحه ولو لبرهة .. من الزمن .. لكنها ستنتهي وعندها لايهم .. سلمان .. عدنان .. عتريس .. كلها أسماء .. تلمع وتخفت .. أطفأ بقايا سيجارته .. وهو ينظر الي نفيسة التي تداخل شخيرها مع أفكاره المتناثرة .. هنا وهناك .. والاشجار الوارفة .. وظلال الباسقات .. وسنابل القمح .. وتدفق المياه .. وتشقق الارض .. والتسليم .. وتنفس الصباح .. والاستقالة .. نعم الاستقالة .. وأمام مكتب المير .. تأبط ملف العرض بعد أن دس استقالته بين موضوعات العرض .. وأعاد ترتيب ملابسه .. ووقف أمام باب المدير .. ينظر الي الباب المغلق .. و .. وبعد طرقتين خفيفتين جاءه الصوت من الداخل - ادخل ياعم حسين -- بحذر شديد استدار وهو يفتح الباب .. وبظهره أعاد الباب الي حالته الاولي قائلا :- صباح الخير " يافندم " - أهلا ياعم حسين - البريد يافندم .. - تفضل ياعم حسين .. استرح .. - البريد " يافندم " - البريد مستعجل ياعم حسين .. - لا نعم .. أقصد عادي " يافندم " .. - اذن لدي الاهم .. مبروك ياعم حسين .. - خير يافندم .. - الوزارة وافقت علي مد خدمتك .. خمس سنوات ياعم حسين .. - خمس سنوات .. ربنا يحفظك يابيه .. ربنا يحفظك يابيه .. ربنا يحفظك .. يابيه ..