الفقع سيد الموائد العربية

الفقع سيد الموائد العربية بقلم : محمد همام فكري mhammamf@gmail.com

يقدر أبناء الجزيرة العربية قيمة الفقع « الكمأة » كغذاء له منزلة خاصة في نفوسهم ، ويعتبرونه سيد موائدهم العامرة بدون منافس ، وينتظر عدد كبير منهم فصل الشتاء الذي ارتبط في أذهانهم بموسم حصاد الفقع ليبحثون عنه في البر ويتتبعونه في رحلاتهم الخلوية ، ويدربون صغارهم على استكشافه وتعقبه في التشققات التي تحدثها ثماره المكتملة في التربة البكر ، عندما تنبثق من مخابئها محدثة «تفقع» للقشرة الرقيقة من التربة معلنة عن نفسها فتتلقفها الأيدي المتلهفة للفوز بفرحة لا يقدرها إلاّ من تقطعت به الأسباب في البيداء الشاسعة أو من شابههم ، ولأن «الفقع» له منزلة أصيلة في ذاكرة أبناء المنطقة ، خاصة ذلك الجيل الذي تعايش مع بيئته الفطرية في سلام فلم تضن عليه ، لأنه عندما عرف أسرارها أحبها وعندما راودها استجابت له وأغدقت عليه من خيراتها فأكل وتداوى وعاش في سلام مع الآف الأنواع النباتية والحيوانية ، لكنه عندما تحول عنها تحولت عنه ولم يبق إلاّ الذكرى ، تداعبه بين الحين والآخر ، ويحتل «الفقع» مكانة خاصة في تراثه الشعبي ، ونحن هنا نحاول أن نقترب من «الفقع» إقتراباً خاصاً ، نقدم خلال ذلك معلومات أساسية حول هذا الفطر الذي نأكله ونتذكر معه أياماً كانت لنا في البر .ولأن الفقع ينتمي إلى مملكة الفطريات التي استقلت مؤخراً عن عالم النبات وفقاً لتقسيم حديث لتحتل مكانة متميزة وتشغل في مجموعها مملكة قائمة بذاتها ضمن ممالك الكائنات الحية . فالفطريات Fungi كائنات حية تشاركنا الحياة على هذا الكوكب ولطالما جذبت اهتمام الإنسان منذ قديم الزمان ، لأنها كثيراً ما هاجمته وكثيراً ما أعتدت علىه وعلى غذائه ، فهي من أكثر الكائنات الحية انتشاراً لاينافسها في ذلك إلاّ البكتريا ، تعيش كمستعمرات فطرية Fungal Colonies تزاحمنا الهواء الذي نستنشقه والماء الذي نشربه والتربة التي تتغذى عليها النباتات التي نأكلها ، تهاجم الحيوانات الحية والميتة والنباتات الحية والميتة أيضاً تتطفل (Parasitic) على بعضها وتتكافل (Symbiotic) مع بعض الكائنات الحية الأخرى ومنها ما يترمم (Saprophytic) على المادة العضوية . ولولا قانون التوازن الحيوي الذي جعله اللّه حاكماً عادلاً بين الكائنات لتحول كوكبنا إلى مستعمرة فطرية . وكما أنها كائنات ضارة فلها أيضاً فوائد كثيرة ، يكفي أنها تشترك مع البكتريا في تحليل المواد العضوية التي توجد على سطح الأرض فتخلصها من هذه المواد التي لو تراكمت حولنا لحولت أرضنا إلى كوكب للنفايات ، ولقد أماط العلم اللثام عن العديد من الأنواع التي لها خاصية إفراز مواد تستعمل كمضدات حيوية وعقاقير طبية . بالإضافة إلى تلك الأنواع التي يأكلها الإنسان بشكل مباشر وعددها يزيد عن الألف نوع كما هو الحال في الفقع (الكمأة) Truffles وعيش الغراب Agaricus . ومورشيلا Morchella esculenta ، الغوشنات Morels جميعها فطريات لحمية يأكلها الإنسان وهذه الفطريات منها ما يُكوّن الجسم الثمري تحت التربة ، ومنها ما يظهر جسمه الثمري فوق سطح التربة . «فالفطريات عالم قائم بذاته وينضوي تحت لوائه حوالي مائة ألف نوع من الفطر، والأنواع تتجمع تحت أجناس والأجناس تضمها عائلات والعائلات لها رتب ، والرتب تقع في أربعة أقسام كبيرة»(1) . والفطريات كائنات حية دنيئة لاتتمايز عضوياً (ليس لها جذر أو ساق أو أوراق ) كما هو الحال في النباتات الراقية وعلى الرغم من وجود شبهة في انتمائها إلى عالم النبات إلاّ أنها تفتقر إلى الكلورفيل Chlorophyll الذي هو بمثابة هيموجلوبين الدم الذي يجري في خلايا النبات . جري الدم في خلايا وعروق الإنسان . وعلى الرغم من كونها لاتستطيع أيضاً أن تتغذى تغذية ذاتية إلاّ أنها تتماس مع عالم النبات وعالم الحيوان في بعض الخصائص . الفقع فطر ابن فطر: فالفقع ينتمي إلي الفطريات الزقية وهي فطريات أرضية تنمو في صحراء شبه الجزيرة العربية ، كما تنمو أيضاً في أوروبا لكنها في البلاد العربية لها شأن عظيم . فهو من ألذ الفطريات التي تؤكل في شبه الجزيرة العربية ، بل هو طعام ابنائها الفاخر . لأن معظم سواحل الدول العربية الأخرى التي ينمو فيها (مصر ، ،سوريا ، ليبيا ، تونس ، الجزائر، المغرب وغيره) لا ينزله أبنائها المنزلة التي يحتلها على الموائد العربية في شبه الجزيرة العربية . والخليج العربي . الذين يأكلونه مسلوقاً أو مقلياً أو مجففاً (مسحوقاً) عندما يضاف إلى بعض الأطعمة ليكسبها نكهة خاصة ورائحة خاصة . ويضع العلماء الفقع فى قسم هام من أقسام مملكة الفطريات هو قسم الفطريات الحقيقية Eumycophyta أو بالإنجليزية (True Fungi) عن طريق إنتمائه إلى الفطريات الزقية Ascomycetes أو Sac Fungi وهي طائفة Class تعتبر من أكبر طوائف الفطريات وتشمل على الأقل حوالي ..ر.3 نوعاً تتباين تبايناً كبيراً في حجمها وتركيبها وتغذيتها وتكاثرها ولعدد كبير منها أهمية اقتصادية كبيرة في الصناعة والزراعة ، كما أن لبعضها قيمة فائقة من الناحية الطبية (2)، ولهذه الطائفة ميزة هامة ورئيسية هي الزق (ascus) والذي أخذت اسمها منه ، حيث تتشكل أبواغها المنصفة بعد الالقاح النووي مباشرة ضمن كيس بوغي يدعى بالزق انظر الشكل رقم 1)، وتجتمع الجراثيم الزقية في عضو خاص يدعى الثمرة الزقية ((Ascocarpeوالثمار الزقية نماذج متعددة منها المغلفة Cleistothecium كما في الكمأة (3)انظر الشكل رقم 2) وتتخذ الثمار الزقية اشكال عديدة منها ما يتخذ شكل كروي Cleistothecium أو قرصي Discomycetes أو قاروري Pyrenomycetes. الوسمي : سـر الفقع يعرف أبناء شبه الجزيرة أن السر وراء ظهور الفقع هو . نزول المطر في الوسمي وجاء في التقويم القطري لعام 1994م ان حصته من السنة شهران (15 تشرين الأول إلى 15 كانون الثاني ) ، ومنازله أربع منازل وثلثا منزلة ، وهي : العوي ، السماك ، والغفر ، والزبانا ، وثلثا الإكليل .ويعد شهر تشرين الأول (أكتوبر ) وهو أول أشهر الخريف حيث تكون الرياح فيه خفيفة نسبياً ومتغيرة الاتجاهات «وهو موسم ينزل فيه المطر أحياناً مبكراً ، وذلك في وقت تكون الحرارة مرتفعة (في الجزء الأخير من شهر أكتوبر) وغالباً ماتكون الأمطار في هذا الموسم ناتجة عن عواصف رعدية ، وإذا ما اجتمعت ظروف وفرة الماء وارتفاع الحرارة ، نبتت الأبواغ ، لتعطي خيوطاً فطرية ، وترتبط الخيوط بأنواع نباتية معينة ، ومن أشهرها نبات الرقروق Helianthemum lippii الذي ينمو في صحراء الوطن العربي ، ومنه أنواع تنمو في بيئات مختلفة ، ما بين رملية عميقة ، أو حصوية ضحلة أو حجرية ، ونمو الكمأة «الفقع» بعد موسم العواصف الرعدية ، دعا العرب لتسميتها نبات الرّعد (4) . أما علاقته بنبات الرقروق فهي علاقة شائكة علمياً و على الرغم من ذلك أجمع عدد من (بدو) شبه الجزيرة بأن الفقع يلازم نبات الرقروق حديث السن ويدعونه (رَقَا) أي بادرة صغيرة جديدة نامية عـن بـذرة ، ولـيس الرقــروق الكبير الذي مـرّ عليـه حـول أوأكثر وان هذه العلاقة يعبر عنها العلماء بعلاقة التكافل Symbiotic وأن الشرط الرئيسي لنمو الفطر هو هطول أمطار الوسمي في آخر «جني الرطب في أواخر شهر أكتوبر » وهي أمطار رعدية قد تسقط عندما يظهر طالع ( الثريا ) حيث تكون درجة الحرارة لاتزال مرتفعة نسبياً ، مع توالي هطولها لمرة تالية او لمرتين حتى يتوفر لبادرات النبات النمو الكافي أي يشتد عودها ، لأن نمو الفقع مرهوناً بدرجة حرارة معينة وتساقط الأمطار الرعدية وما يتلوها .في تربة من أصل جيري (كلسية ) بها بذور نبات الرقروق فينمو «الرقا» ومعه تنمو جراثيم الفطر المختبئة في التربة ويرتبطان ارتباطاً وثيقاً عن طريق الحبل السري الذي يرسل الخيوط الفطرية إلى جذر النبات في «علاقة جذر فطرية Mycorhizal »(5) . (انظر الشكل رقم 3) . حيث يمتص الفطر الغذاء الذي يعجز عن تكوينه منفرداَ من جذور النبات عن طريق ممصات تخترق انسجة النبات ، ويتكافل مع النبات معطياً إياه بعض من العناصر المعدنية التي حصل عليها من التربة . الفقع غذاء ودواء ويعرف البدو قيمة الفقع كغذاء ودواء أيضاً ، فعندما تظهر بادرات الرقروق (رَقَا) ، يبتهج البدو ويتتبعونه ويقولون : إذا رهنت الرقا انتبه للفقع . لأنه يأكله ويتداوى به ، وينادي البدوي ابن الصحراء أبناء جلدته قائلاً: إجمع الدوا . إجمع الدواء، لكنه يفضل الجراد عليه في العلاج ، فإذا جاء الجراد قال : «عيّنْ الفقعان إجمع الدوا وإذا جاء الجراد فانثر الدوا» ولا ندري لماذا فاضل البدوي القديم بين هذين الكائنين ، فقد كشف العلم الحديث عن وجود علاقة بينهما في وجود مادة الكايتين Chitin التي يتكون منها جدار خلايا كل من الفطر والجراد . كما أن البدوي يعتقد أن الجراد الذي يأكل من كل نبت يحتوي على فوائد علاجية تفوق قدرة الفقع الذي هو من وجهة نظره نبت واحد .. فهو أنفع له كغذاء وفي الحديث النبوي له ذكر في صحيح البخاري : فقد ورد عن سعيد بن زيد (رضي اللّه عنه) قال : «سمعت رسول اللّه ص يقول « «الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين» . ويميز بدو الجزيرة العربية أنواع الفقع عديدة من الفقع : خلي الزبيدي لوليدي والخلاسي حــــق راسي والجبيــه حـــق البنيـة والهوبيــري للطويــري(6) وهو في ذلك يفاضل بين الأنواع الطبية فيبدأ بابنه ويعطيه «الزبيدي» الذي يعتبر اطيبه ويكتفي لنفسه بالخلاسي الذي يأتي في الدرجة التالية ويعطي ابنته «الجبية» ، أما الهوبيري صغير الحجم قليل الفائدة فيطعم به طيوره . ويقول أيضاً : ياما حلالي زيد شوف الجماعة وشوف لزبيدي والخبتري مصاليع(7) وجميع هذه السلالات من الفقع تنمو تحت سطح التربة وعندما يتضخم الجسم وهكذا نجد ذكر للزبيدي (الأبيض) والخلاسي (الأسمر) والجبي (الأحمر) ، والهوبيري وهو صغيرالحجم كالزيتونه مترب اللون ، والخبتري (الذي ينفجر وهو لايزال ملتصق بالأرض) .الثمري تحدث فقوع في قشرة التربة ويبدو جزء منها (مصاليع) كما وصف الشاعر البدوي ، وقد ذكر العلماء منها السلالات التالية : Terfezia claveryi وهي الكمء الأبيض ، ومن أسمائها : كمأة - الفقع (فقعة وأفْقُع وقُفُوع ، وسميت كذلك لأن كل ما تفقعت عنه الأرض من غير أصل ولا بقل ولا ثمرة فهو فقع) - كوكب الأرض - قُرْْحان (ضرب من الكمأة أبيض ، الواحدة قرحانة) . Terfezia vittad ضرب من الكمأة ، بنيت مستطيلاً كأنه عود له رأس ، فإذا يبس تطاير ، ومن أسمائه : فَسَوَات الضّبَاع - فَسْوَةَ الضبع - قَعْبَل . Terfezia magnatum ضرب من الكمأة الصغار التي تميل إلى الغبرة والسواد ، وتسمى نبات أَوْبَر، وقيل إنها رديئة الطعم . Trefezia melanosporum ضرب من الكمأة ، أسود اللون ، وهي الجباء السود والواحدة جباءة وهذه غير الجبأة . Terfezia michell ضرب من الكمأة يسمى العَسَاقل والعساقيل ، وهو أكبر من الفقع وأشد بياضاً واسترخاء ، ولونها بين البياض والحمرة ، الصغار منها تسمى (الغردة والمغرودة والمغرود والغراد) واحدته (غرادة ، والعرجون ضرب منها وهو ما كان غضاً) . الكمأة الحمراء Terfezia rufum ويصف العرب الكمأة حسب لونها وشكلها فمنها الزبيدي والخلاسي وغير ذلك (8) . وقد سجل الدكتور عبد العال مباشر نوعين في قطر هما Terfezia claveryi الفقع الخلاسي الأسمر والخلاسي كما جاء في الصحاح هو الذي يولد من والدين أحدهما أبيض والثاني أسود ، والفقع الزبيدي (الأبيض) Tirmania nivea و nivea معناها أبيض ثلجي في اللغة اللاتينية .(9). استزراع الفقع على الرغم من صعوبة إستزراع الفقع فقد حاول عدد من الباحثين استزراع الفقع من سلالة الزبيدي (الأبيض) Tirmania nivea، وذلك باختيارهم لمنطقة معروفه بنمو الفقع وتحتوي على نباتات الرقروق ، حيث قام الباحثون بمحاكاة الطبيعة وذلك باسقاط مطر صناعي في نهاية شهر اكتوبر ، وهي الفترة التي تسقط فيها امطار الوسمى .وتكرار عمليات الاسقاط الصناعي للمطر وكانت النتيجة نمو عدد من ثمار الفطر .ولكنها لم تكن من وجهة نظر اقتصادية مربحة ، ولا يزال الباحثون يجربون فقد اجريت عدة محاولات في دولة قطر (محمية الوبرة ) وفي دولة الامارات العربية المتحدة اجريت تجربة واسعة قد تعطي نتائج أفضل ، ونعتقد ان العلم لن يكف عن المحاولات حتى يصل إلى عوامل ضبط افضل وبالتالي إلى نتائج أفضل . هذا هو الفقع الذي يعتبر كباقي الفطريات اللحمية التي تؤكل ذو قيمة غذائية ، لما يحتويه على بروتينات وكربوهيدرات ففيه من البروتين بأحماضه الأمينية ما نسبته 5ر7% بروتين ، و 5ر.% دهون أما المواد الكربوهيدراتية فتصل نسبتها إلى 5ر8% والنسبة الباقية ماء (77%) .علاوة على ما يشكله من قيمة طبية لا يزال العلم الحديث يحاول التعرف على أسرارها وسوف يكشف عن اسرار جديدة تزيد من المكانة التي يحتلها في مملكة الفطريات من جهة وفي نفوس ابناء شبه الجزيرة والخليج العربي من جهة أخرى . المصادروالهوامش : 1 - صالح ، دكتور عبد المحسن: الفطريات والحياة ، المكتبة الثقافية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1977م ، ص 19 . 2 - فولار ، آخرون : عالم النبات القسم الثاني ، ترجمة : قيصر نجيب وآخرون ، قسم علوم الحياة ، كلية العلوم ، جامعة الموصل ، ب ت . ص 618 . 3-أنور الخطيب ، دكتور : التكاثر النباتي في الزمر النباتية ، مطبعة العلمية ، دمشق ط1،1972م ص 96. 4- البتانوني ،دكتور كمال الدين حسن ، نباتات في أحاديث الرسول ، إدارة إحياء التراث الإسلامي ، الدوحة ص 115 ، 116 . 5 - مباشر دكتور عبد العال حسن : المنتدى العلمي ، العدد الثاني ، يونيو 1993 ، ص 18 . (6) و(7) عبد الله بن هويمل العزبي - من بدو قطر . 8- البتانوني ، كمال الدين حسن : نباتات في أحاديث الرسول ، الطبعة الأولى ، 1986 ، ص 117 ، 118 . 9- A.H. MOBASHER (1993) :Soil Fungi in Qatar and Other Arab Countries , The Scientific And Applied Research Centre ,University Of Qatar p