الغزو البرتغالي للجنوب العربي والخليج في الفترة ما بين 1507 - 1525م
الغزو البرتغالي للجنوب العربي والخليج في الفترة ما بين 1507 - 1525م، هو كتاب من تأليف محمد حميد السلمان، نشره مركز زايد للنشر والتوزيع عام 2000.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الأول: الاستعمار البرتغالي في بحار الشرق ودوافعه
الكشوف الجغرافية وطرق التجارة الدولية في العصور الوسطى
عندما يتعرض الباحث لموضوع الكشوف الجغرافية البرتغالية البحرية ومارافقها من رحلات كشفية برية أيضا، لابد وأن يقف عند أهم حافز جعل هذه الكشوف تسير حثيثا نحو أهدافها، ألا وهو الرغبة في السيطرة على الطرق التجارية العالمية في العصور الوسطى وتحويلها هي وتجارتها لتصب في الأراضي البرتغالية ومنها إلى أوروبا. ولذا لابد من استعراض تلك الطرق القديمة للتجارة العالمية.
لقد كانت التجارة العالمية بين الشرق والغرب تسلك عدة طرق برية وبحرية بين مصادرها الأصلية في بلاد الشرق، والتي يطل معظمها على المحيطين الهندي والهادي، وبين أسواقها في العالم العربي وأوروبا، حيث كان الحجم الأكبر من هذه التجارة يسير عبر الطرق التالية:
1- طريق الخليج العربي - بلاد الشام:
تأتي السلع الشرقية عبر السفن إلى هذا الطريق بحرا حتى تصل إلى الخليج العربي ثم البصرة على رأس الخليج حيث تحملها القوافل برا إلى بغداد أو عبر نهر الفرات ثم إلى حلب ومنها إلى ثغور الشام غرباً، وهناك تكون سفن تجار البندقية وجنوة في انتظارها لتحملها إلى الأسواق الأوروبية. وكان هذا الطريق يطلق عليه الطريق الأوسط وهو الأوفر حظا في بلوغ البضائع الهندية وغيرها من البضائع الشرقية إلى المستهلك الأوروبي، بسبب الموقع الجغرافي المتميز لهذا الطريق والمقابل لمسار السفن القادمة من الهند مباشرة، من هذا الطريق استفادت المدن الايطالية أثناء الحروب الصليبية في المشرق العربي.
2- طريق البحر الأحمر - مصر:
يبدأ هذا الطريق من مركز تجميع السلع الشرقية وغيرها في عدن جنوبا ثم تنقل السلع بعدئذ بحرا حتى السويس أو عيذاب والقصير على الساحل الغربي للبحر الأحمر ثم على ظهور القوافل إلى القاهرة ثم الإسكندرية وأحيانا دمياط، ومن هنا تنقلها سفن البندقية وجنوة إلى أوروبا حيث المستهلكين بعد أن تمر تلك السلع في أيدي تجار التجزئة الأوروبيين.
ولما كان سلاطين المماليك يحكمون مصر والشام والحجاز وبعض أجزاء من اليمن في نهاية العصور الوسطى وحتى مطلع العصور الحديثة بين 1250 - 1517م، فقد كان هذان الطريقان في قبضة هؤلاء المماليك وبذلك جنوا فوائد وأرباح مادية عظيمة بسبب الضرائب الكثيرة والمتنوعة التي كانت تفرض على مرور هذه التجارة في أراضيهم.
وقد حرص هؤلاء السلاطين المماليك على أن يبقى سر تجارة التوابل المربحة وقفا عليهم وحدهم فقط، ولذا فقد اتخذوا عدة احتياطات منها أنهم حرموا على أي مراكب غير إسلامية أن تمخر غباب البحر الأحمر بحجة أن هذا البحر يؤدي للأماكن الإسلامية المقدسة في الحجاز وأوقعوا أشد العقوبات على من يحاول كسر هذا الحصار أو الافصاح عن أي شيء يتعلق بمصادر التجارة الشرقية وطرقها. وبخلاف الطريقين اللتين ذكرناهعما واللتين كانتا الأساس في تجارة التوابل الشرقية وغيرها من السلع، فقد كان هناك طريق ثالث ولكنه بري، وتشوبه بعض المخاطر، لأنه ينطلق من المليبار عبر جبال الهند الداخلية ويصعد شمالا في طرق وعرة ملتوية قاصدا نهر جيحون ليبلغ الطريق القادم من الصين ثم بخارى ثم يتفرع إلى فرعين:
أ- فرع يتجه نحو بحر قزوين ثم نهر الفولجا الروسي
ب- فرع يتجه نحو البحر الأسود ليبلغ طرابزون ثم القسطنطينية
وقد حدثت عراقيل عديدة في هذا الطريق مع ظهور الدولة العثمانية وحروبها التوسعية في نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر الميلادي.
وقد كانت الخلافات والمشكلات السياسية التي غالبا ما تنشب بين الأطراف المتنازعة تؤدي إلى إغلاق أحد الطريقين الرئيسيين اللذين يمران في الأراضي العربية الإسلامية، أو كليهما معا، مما كان يتسبب في نقص أو انقطاع مدد البضائع الشرقية عبر أوروبا، وذلك الأمر يضطر التجار إلى سلوك الطريق البري الثالث، رغم أنه غير مأمون العواقب بامتداده الواسع عبر آسيا الوسطى.
وقد شهد الجزء الاخير من القرون الوسطى تطورا مهما، وهو أن جميع مراكز انتاج التوابل وطرقها قد وقعت في أيدي المسلمين خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، حيث ارتبطت ارتباطا وثيقا بمناطق الدول الإسلامية كالأفغانية والمغولية في الهند، والممالك الإسلامية في ملقا والخليج العربي، ودولة المماليك في مصر والشام والحجاز، والإمارات الإسلامية في شرق أفريقيا، وعلى ذلك فإن أوروبا صارت بكاملها تتطلع لتحقيق وسيلة ما تخرج بها من طوق الهيمنة التجارية الإسلامية وخاصة بعد اكتساح العثمانيين المسلمين للأناضول واحتلال عاصمة أوروبا الشرقية "القسطنطينية" عام 1453م.
ولا شك ان امتداد العثمانيين إلى أوروبا الشرقية قد دفع البابوية في روما لإطلاق نداء إثر النداء من جديد لملوك أوروبا للقيام بحرب صليبية ثانية ضد المسلمين. وقد ذهب بعض المؤرخين إلى القول بأن السبب الأول للاكتشافات الجغرافية في بداية العصور الحديثة هو تقدم الأتراك العثمانيين في آسيا الصغرى والحوض الشرقي للبحر المتوسط وقطعهم طرق التجارة القديمة التي تصل بين الهند والغرب ، وظهور صعوبات في الحصول على التوابل من الشرق، ومن هنا ظهرت الحاجة الماسة للبحث عن طريق جديد ومباشر للوصول إلى موطن تلك السلع . إلا أن المؤرخ الفرنسي "رولان موسينيه" يدحض هذا الرأي ويرد عليه بقوله "لا شك أن حروب الأتراك قد شوشت التجارة أحيانا، ولكن الأتراك أنفسهم لم يقفوا موقفا عدائيا من التجارة مع الغربيين، فقد جددوا تكرارا وبكامل رضاهم، المعاهدات التجارية مع حكومتي البندقية وجنوة، وتقيدوا بما كانت تنص عليه وحافظوا على حرية طرق القوافل المارة في بلاد فارس والطرق البحرية في الخليج العربي والبحر الأحمر، وما أن فتح سليم الأول مصر عام 1517 م، حتى بادر إلى تجديد المعاهدات التي كان المماليك قد عقدوها مع البندقية، وقام بتخفيض الرسوم التي فرضها المماليك على تجارة الأفاوية أيضا".
إلا أننا نستطيع القول بأن غزوات الأتراك العثمانيين لأوروبا قد لعبت - ربما دورا سيكولوجيا معينا - عندما نجح الإسلام مرة أخرى في هجومه على أوروبا الشرقية بالذات، بعد أن كان ينتهي قبل عام 1453 م، من جهات أوروبا الغربية في الأندلس. ومما زاد ذلك الوضع السيكولوجي تأكيدا، اتخاذ السلطان العثماني محمد الفاتح من القسطنطينية - مقر الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية - عاصمة للدولة العثمانية وسماها دار الإسلام (إسلامبول).
كان هذا ولد في كافة العالم النصراني خوفا وذعرا جماعيا من المد الإسلامي الجديد، وقد استغلتت كنيسة روما الكاثوليكية هذا الذعر في فرض زعامتها الروحية على العالم النصراني (الغربي والشرقي* بعد سقوط القسطنطينية والكنيسة الشرقية فيها، خصوصا وأن العداء الذي كان يتأجج تحت الرماد بين الكنيستين النصرانيتين الشرقية والغربية في أوروبا لم ينته منذ عام 1054 م حين وصل للقطيعة الشاملة بينهما. ومن هنا برزت علاقة كنيسة روما الحميمة بالممالك النصرانية في الأندلس التي أخذت على عاتقها شن الحروب الصليبية الثانية - إن صح التعبير - على الوجود والكيان الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية ، وتشجيع الكنيسة وبابواتها - لتلك الممالك - على دحر الإسلام ودولته من الغرب الاوروبي، لتظفر الكنيسة بالزعامة الروحية والسياسية في العالم النصراني كله. ولهذا شجعت الكنيسة الرومانية وبابواتها البحث الدؤوب الذي قامت به البرتغال واسبانيا للوصول إلى طريق تجارية أخرى جديدة لضرب المسلمين في معاقلهم، وذلك بالالتفاف عليهم من خلف بلادهم وسحقهم بشكل نهائي واستلاب الثروة التجارية منهم، وبذلك امتزجت العوامل الاقتصادية (البحث عن موطن التوابل مباشرة للتهرب من ضرائبها المرتفعة، بالعوامل الدينية (محاولة ضرب المسلمين من الخلف وتدمير العالم الإسلامي) في حركة الكشوف الجغرافية الأوروبية.
أسباب الكشوف الجغرافية الأوروبية
بناء على ما سبق، وبحثا عن أسباب الكشوف الجغرافية التي قامت بها أوروبا لارتياد مناطق كانت مكتشفة ومعروفة أساسا في الشرق، ومناطق لم تكن معروفة في العالم الجديد، فانه يمكن القول بأنه يستحيل على الباحث في تاريخ أوروبا العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة ، أن يفصل الدين عن السياسة في كل توجهاتها، ذلك أن الدين كان الموجه والملون لكل الفعاليات والتحركات السياسية آنذاك. فقد كانت الكنيسة تتدخل في كل شيء، حتى مظاهر الحياة اليومية كانت مشبعة بالدين وعليه فقد قامت الكشوف الجغرافية الأوروبية في عصر كانت فيه السلطة السياسية والسلطة الدينية تشكل وجهين لعملة واحدة في أوروبا. ويمكن بيان أسبابها على النحو التالي:
أولا: الإنجيل أم الذهب: يذكر رولان موسينيه أن بواعث الكشوف البرتغالية والاسبانية هي (الإنجيل - المجد - الذهب). وقد وضع موسينهي الإنجلي في بداية الأهداف، لأن الحرب الصليبية - كما يقول - قد عودت النصارى الأوروبيين على تصور نشر الدين النصراني عن طريق الحرب وإفناء غير المؤمنين أو اخضاعهم.
ولكن الاحتمال الأرجح أن يكون رولان قد قلب المثلث فوضع الذهب في القاعدة أو أسفل المثلث بدلا من القمة، بدليل أننا نجد هذا الكاتب يرد على نفسه مرة أخرى ويضع البحث عن الثروة والذهب بالذات في المقدمة والقمة حين يقول متحدثا عن روايات الفروسية والمخيلات الأسطورية في أوروبا التي ألهبت خيال المغامرين للبحث عن الثروة والمجد في ذلك العصر، وأن هذا السعي وراء الثروة كان من الدوافع الرئيسية للاكتشافات الكبرى ولتأسيس امبراطوريات شاسعة جدا توسعت توسعا مطردا بالسيف، وأن الذهب هو شغل الأوروبيين الشاغل، حتى أطفأ التكالب على الذهب عند بعض الأوروبيين كل عاطفة أخرى".
ثانيا: شن الحرب ضد المسلمين لهزيمتهم في أفريقيا وآسيا:
وكان هذا السبب تعبيرا عن الروح الصليبية العميقة ضد الإسلام الت يصورتها أبدع تصوير الحروب الصليبية إبان العصور الوطسى وحروب اخراج المسلمين من اسبانيا بزعامة (قشتالة وأرجون) ثم البرتغال بعد قيام دولتها، وبدء طرد المسلمين من شبه جزيرة إيبريا.
واتخذت حروب اخراج المسلمين من اسبانيا هذه 0 التي انتقلت لمطاردة المسلمين في أفريقيا بعد ذلك - صفة الحرب المقدسة، حيث وجدت فيها البابوية فرصة ذهبية تحقق بها سياستها الهادفة لبسط نفوذها دينيا، ودنيويا على العالم النصراني، والتخلص من مناوأة رجال الاقطاع للكنيسة والبابوية باشراكهم في تلك الحروب المقدسة ووعدهم بغرفان خطايا من يقتل أثناء القتال، وغير ذلك من المميزات الروحية والمادية التي منحتها الكنيسة لهم، خصوصا عندما بدأت الكشوف الجغرافية تصل إلى آسيا ومجاهل العالم الجديد.
ثالثا: الأزمات الاقتصادية الخانقة في أوروبا: خلق القرن الرابع عشر الدوافع الأولى للكشوف الجغرافية الأوروبية باعتباره قرن الأزمات الخانقة بحق، تلك الازمات التي فرضت على أوروبا رفع راية التحدي والبحث عن حلول للمشكلات القائمة وكانت تتجلى في أزمتين حادتين هما:
أ- وباء الطاعون الأسود (1249-48) الذي حصد خلال ثلاث سنوات فقط نصف سكان أوروبا، ولم تكن تلك القارة في مطلع القرن الخامس عشر تضم إلا 60% من أعداد السكان الذين كانت تتوافر عليهم عام 1330م، وبذلك أصبحت دول أوروبا - وبالذات ممالك شبه جزيرة إيبريا التي اتسعت أراضيها مع تزايد عمليات حروب اخراج المسلمين - في أمس الحاجة إلى الأيدي العاملة، ومن هنا بدأ غزو شمال وغرب أفريقيا وجلب العبيد من هناك ولم يصل عدد سكان البرتغال إلى مليون نسمة من بعد الطاعون الأسود إلا بعد عام 1450م.
ب- الأزمة النقدية: كانت أوروبا القرن الرابع عشر منقسمة في ميدان العملة إلى قسمين: قسم أوسط وشمالي يعتمد على الفضة لتوفرها بمناجم أوروبا الوسطى ، وقسم جنوبي يعتمد على ذهب السودان الذي يتم الحصول عليه من سواحل المغرب العربي. وكان المغرب العربي آنذاك يلعب دور الوسيط الأساسي بين بلاد السودان الغربي وممالك الغابات جنوب السودان، حيث كان الذهب يعتبر "المعدن المقدس" وبين أوروبا في قسمها الجنوبي المتعطش للذهب. وللحصول على ذلك الذهب الأفريقي تزايد إقبال التجار الإيطاليين والفرنسيين والبرتغاليين على السواحل المغربية منذ مطلع القرن الثالث عشر الميلادي. إلا أن المغرب العربي صار عاجزا خلال القرن التالي عن تغطية كل الطلب الأوروبي من هذه السلعة لأنه كان يعاني من مشكلات اقتصادية وسياسية عديدة. ولهاذ عانى أيضا القسم الجنوبي من أوروبا في القرن الرابع عشر ما يمكن تسميته "مجاعة نقدية" لم يسبق أن عرفتها أوروبا، مما دفعه إلى ارتياد مناطق إنتاج الذهب - المجهولة بالنسبة له - في أفريقيا، بهدف الحصول عليه مباشرة دون وسطاء. ومن هنا ظل حديث المكتشفين البرتغاليين الأوائل عن وجود نهر للذهب في غرب أفريقيا، وعندما وصلوا إلى مناطق انتاج الذهب وتصديره في غرب القارة، سموها "ساحل الذهب".
رابعا: الرغبة في التخلص من الرسوم الجمركية والوسطاء التجاريين:
أضحى التخلص من دفع الرسوم الجمركية العالية والضرائب المتنوعة التي تفرض على السلع الشرقية في كل الموانئ، وخصوصا الإسلامية منها، هدف الحكومات والرأسمالية الصناعية الأوروبية مع مطلع العصور الحديثة وبدايات النهضة الأوروبية الشمالة، وهذا مما شجع بعض التجار وأصحاب رؤوس الأموال من غير أهالي جنوة والبندقية للنزول إلى الميدان والبحث عن التجارة الشرقية من مصادرها الأصلية والحصول على أرباحها الوفيرة مباشرة، لدرجة أن بعض البنوك الأوروبية من جنوة دخلت مرحلة الكشوف الجغرافية الاقتصادية بشكل مبكر عم 1447 م، بهدف فتح طريق بري نحو مصدر التوابل الآسيوية عن طريق آسيا عبر الأراضي الروسية.
وقد استغلت البابوية هذا الجانب أيضا بتشجيع من حكام اسبانيا والبرتغال، وأعلنت بشكل صريح أنه كي يتم اضعاف العالم الإسلامي وهزيمته نهائيا، يجب انتزاع طريق التجارة الشرقية من بين يديه وحرمانه من أرباحها الكبيرة. وهذا ما نلمسه في سياسات وخطابات القادة العسكريين البرتغاليين حين غزوهم للمشرق الإسلامي، أثمال "البوكريك" الذي صاح برجاله ليحرضهم على غزو المملكة الإسلامية في ملقا قائلا: "ان إبعاد العرب عن تجارة الأفاوية، هو الوسيلة التي يرجو بها البرتغاليين اضعاف قوة الإسلام".
خامسا - نشر العقيدة النصرانية:
أفرزت كنيسة بيزنطة العديد من الأفكار المعادية للإسلام خاصة فيما يتصل بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا تعرفت أوروبا الشرقية والغربية على حد سواء على المؤلفات الدينية والكلامية المعادية للإسلام في نموذجها البيزنطي بالدرجة الأولى. ولذلك هيمن على الادراك والوعي الأوروبي في القرون الوسطى ذك الموقف الصريح من العداء ضد الإسلام، ومن هنا ظل رجال الدين الأوروبيون يبثون في مخيلة الناس أن من واجبهم - إذا رغبوا في التقرب إلى الله - أن يوسعوا من دائرة اخوانهم في الدين، وأن عليهم القيام بعبء التنصير في المناطق الإسلامية لزيادة أعداد المنضوين تحت النصرانية باستمرار وخصوصا في أوساط المسلمين العرب الذين كانوا ينعتون بالكفرة والهراطقة اعتمادا على نظريات النصرانية الشرقية.
أضف إلى ذلك أنه قد شاعت في أوروبا منذ عصر الحروب الصليبية فكرة أسطورية عن وجود مملكة نصرانية كبيرة في قلب العالم الإسلامي تقع بين الصين وأفريقيا!! وقد حاول البرتغاليون جاهدين منذ بداية الكشوف الجغرافية الوصول إلى هذه المملكة واقامة تحالف معها لضرب العالم الإسلامي ونشر العقيدة النصرانية في أرجائه، واعتقدوا أن هذه المملكة يحكمها نصراني يدعي "القديس أو القس جون .
سادسا: الرغبة في اكتشاف المجهول وزيادة المعرفة الجغرافية:
ويقصد بالمجهول هنا، ذلك العالم الشرقي الساحر بأساطيره وثرائه وحياته، وقد وصلت أخباره عبر تلك الرحلات الطويلة التي قام بها بعض المغامرين الأوربيين في القرن الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين إلى بلاد الشرق وما نقوله شفاهة أو من خلال كتبهم عن تلك المناطق. وقد أثار هذا الوصف مخيلة وشهوة الناس في أوروبا لحب الاستطلاع ومعرفة بلاد الشرق وخصوصا ما بعد الاطلاع عن كتب الرحالة الإيطالي ماركو بولو عام 1299 م وما كتبه عن رحلاته إلى الصين وبلاد الشرق في آسيا عبر سبعة عشر عاما من التجوال. وقد أحدثت كتابات ماركو بولو ثورة فكرية في أوروبا - كما يقول فيشر - لا تقل أهميتها وأثرها عن الدهشة التي أثارها اكتشاف كولومبس للقارة الأمريكية أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.
إلا أن السؤال الأهم في الكشوف الجغرافية هو، لماذا ورثت البرتغال، تلك الدولة الصغيرة حجما وسكانا والقابعة على شاطئ المحيط الأطلنطي، جهود غيرها في هذا المجال وبخاصة جنوة، حتى تمكنت أخيرا في فترة الكشوف الجغرافية من الوصول إلى أهدافها بسرعة غير متوقعة وبشكل أذهل كل أوروبا.
مملكة البرتغال
كانت البرتغال - كمساحة جغرافية من الأرض - جزءا لا يتجزأ من الدولة الإسلامية في الأندلس حتى بداية القرن الحادي عشر الميلادي، وقد سجل لنا التاريخ شهادة ميلاد البرتغال كولاية صغيرة في عهد فرديناند الأول ملك قتشالة وليون 1035-1065م، وأطلق عليها آنذاك كونتية البرتغال، وذلك عندما نجح هذا الملك في استرداد أراضي اقليم لوزيتانا من المسلمين، التي كانت تقع بين نهري دويرو ومنديجو، وجعل من هذه المنطقة ولاية مستقلة تحت اسم البرتغال، إلا أنها ظلت في الوقت نفسه تابعة لقشتالة.
وقد ساعد على قيام مملكة البرتغال سريعا تفاعل مجموعة من العوامل السياسية والجغرافية معا، كان في مقدمتها الوضع السيئ لملوك الطوائف المسلمين في الأندلس، حيث بلغ التنافس والنزاع الحربي بينهما أشده خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الملاديين، وطغت الخلافات المستمرة بين أولئك الملوك على فترات السلم القصيرة، مما كان سببا مهما ومشجعا للقوى النصرانية لبدء حلقة جديدة في تاريخ حركة طرد المسلمين وكذلك لتطورات سياسية كبيرة جاءت لصالح القوى العسكرية الاسبانية والبرتغالية على حد سواء.
وفي عام 1095م، وضمن حلقة الصراع النصراني الإسلامي في الأندلس، استطاع أحد الفرسان الصليبيين ويدعى هنري البورجاندي استرداد احدى المقاطعات جنوب نهر منديجو في الشمال الغربي من شبه جزيرة إيبريا، وطرد المسلمين منها نهائيا وضمها للأراضي التي أطلق عليها اسم البرتغال.
وجاء بعده ابنه ألفونسو الأول هريكوس 1128-1185م، حيث بدأ من المناطق البرتغالية حروبه الشرسة ضد المسلمين في قلب الأندلس بكل ما ورثه من حقد والده ضد الإسلام، ولذا يعتبره المؤرخون الأوروبيون المؤسس الحقيقي لمملكة البرتغال الكبرى، فقد حولها من مجرد إمارة إلى مملكة مستقلة بذاتها في شبه جزيرة إيبريا، خاصة بعد ان احتل مدينة لشبونة وانتزعها من يد المسلمين وجعلها عاصمة لمملكته منذ عام 1147م.
وبدت الأجواء السياسية تماما لهنريكوس، فكلما ازدادت الصراعات بين ملوك الطوائف وضعفت امكانياتهم العسكرية ، كلما ازداد اتساع المملكة البرتغالية، حتى لم يبق في منطقة البرتغال إلا جيوب إسلامية صغيرة في لموانئ الجنوبية، تم القضاء عليها بعدئذ نهائيا.
وبدأت عملية ملاحقة المسلمين إلى الساحل الغربي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر فيما عرف "بالحروب الصليبية الثانية" في المغرب الأقصى والتي استمرت من عم 1415 حتى عام 1515م وشاركت فيها اسبانيا، لاسيما بعد زواج ملكي أرجون وقشتالة عام 1469م وظهور المملكة الاسبانية واسقاط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس في عام 1493م.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الكشوف البرتغالية وأهدافها
تعتبر حركة الكشوف البرتغالية فاتحة الاستعمار الأوروبي لقارتي أفريقيا وآسيا تحديدا خلال القرن الخامس عشر الميلادي، وقد بدأتها البرتغال لأسباب عديدة منها:
- الظروف الطبيعية الجغرافية هي التي حددت تاريخ البرتغال الكشفي في البحار القريبة منها بعد تكوينها. فموقع البرتغال الجغرافي المميز على المحيط الأطلنطي ، قد أكسبها أهمية استراتيجية ووفر لها مؤهلات الريادة البحرية . فهي تقع في الطرف الجنوبي الغربي في أوروبا، وتواجه أفريقيا مبشارة، ولها سواحل طويلة على المحيط الأطلنطي وتواجه أفريقيا مباشرة، ولها سواحل طويلة على المحيط الأطلنطي أضف إلى ذلك أن لشبونة صارت منذ القرن الرابع عشر مخزنا للتجارة الأفريقية المنقولة إلى أوروبا ومنها الذهب والعبيد، مما وفر لها خبرة أكثر من غيرها بأفريقيا والمحيط الأطلنطي.
- لقد نتج عن انعدام الذهب في البرتغال ، توقف سك العملة الذهبية منذ عام 1385م، واستمر الوضع كذلك لمدة 50 سنة تقريبا حتى 1435م، مما أدى إلى حدوث أزمة اقتصادية واجتماعية حادة أضرت بالتجار والدولة والطبقات العالية كالنبلاء والكنيسة. كذلك، الأمر لذي جعل تلك الفئات الاجتماعية البرتغالية تتتبنى ملية الغزو وركوب البحر بحثا عن سند لعملة البلاد المتدهورة، وجاء استغلال شعار الحرب الصليبية ضد المغاربة المسلمين ليضفي بعدا آخر عن هذا الوضع.
- ورثت البرتغال جراء حروب طرد المسلمين من الأندلس سلطة مركزية قوية استطاعت توحيد البلاد، كما ورثت عنها عداء مميزا للإسلام يغلقه خوف من فتح إسلامي جديد لأراضيها، مما وفر لها محركا ضروريا دفع شعبها للمساهمة في الغزو والتوسع وتحمل جزء من تكاليفه. ولذا يمكن تفسير غزو سبتة عام 1415م، وبقية مناطق المغرب بعد ذلك، بانه استمر لحروب النصرانية ضد الإسلام، في حين يفسر النزول على طول سواحل أفريقيا بأنه ضمن المحاولات الدؤوبة لضرب الإسلام من الخلف.
- شكل وصول أسرة أفيز إلى الحكم في البرتغال بداية التخطيط والتنظيم والتأسيس لبداية الكشوف والتوسع في ضم الأراضي بالقوة. وقد ارتبطت هذه الأسرة وحكامها بالمال. وبما أن الرأسمالية الخاصة كانت ضعيفة آنذاك، فإن الوضع ألزم الدولة بالتدخل، ونظرا لفقر البلاد فقد عمل حكامها من هذه الأسرة على رفع مواردها بالاهتمام بالتجارة والتخطيط للسيطرة على طرقها ومواردها في افريقيا أولا ثم في مناطق الشرق الإسلامية. وبما أن التجارة كانت تتطلب عددا كبيرا من السفن ذات الحمولات الكبيرة، فقد ارتبط بناء السفن بالتوسع الاقتصادي مباشرة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
- استفادت الملاحة البرتغالية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر من علوم العرب الفلكية والبحرية والخرائط والأدوات الملاحية، مما كان له أثر كبير في السبق الذي حققه البحارة البرتغاليون في مجال الكشوف الجغرافية. وتؤكد المصادر والمراجع التاريخية ، عربية كانت أو أوروبية فضل البحارة والفلكيين العرب في تطور فن البحرية البرتغالية. فقد ساهم بها الملاحون العرب أيضا من سكان الممالك العربية في الأندلس وشمال أفريقيا. وقد أورد المستشرق الفرنسي نمابريل فران والمؤرخ الهندي بانيكار هذا التأكيد، حيث ذكر الأخير بأن تزويد السفن بالأشرعة المثلثة كان في الواقع من المستحدثات العربية التي نقلها عنهم البرتغاليون، ذلك أن العرب قد أدخلوا التعديل على الأشرعة المستخدمة في السفن قبل ذلك. ويضاف إلى ذلك افادة البرتغاليين ملاحيا باتصالهم بالمدينتين التجاريتين في إيطاليا (البندقية وجنوة) وخصوصا وأن أهل جنوة، الخبراء بشئون البحر، قدموا العمالة الماهرة في مجال صناعة السفن والمهن البحرية عامة للبرتغال. بالإضافة إلى اكتساب البحارة البرتغاليين الخبرة من تعاملهم مع بعض موانئ المحيط الأطلنطي وبحر الشمال. وقد أدى هذا بدوره لتعودهم على الرياح والتيارات البحرية والإبحار في ظروف ملاحية صعبة بعيدا عن الساحل الإيبيري في وقت مبكر من القرن الخامس عشر خصوصا بعد اكتشاف جزر الآزور وماديرا وكناري، مما فتح المجال لهم للتغلب فيما بعد على أهوال بحر الظلمات.
- سادت الروح الصليبية الشعب البرتغال بعد طرد المسلمين من منطقة الجرف نهائيا قبل غيرها من مناطق شبه جزيرة إيبيريا ، مما أعطى المملكة البرتغالية الناشئة زعامة العالم النصراني سياسيا في غرب أوروبا. ومن هنا بدأت هذه الدولة التعاون الصريح مع الكنيسة الكاثوليكية، وكانت تلك الكنيسة بدورها في أمس الحاجة مع بداية القرن الخامس عشر لمن يأخذ بيدها ويدعم موقفها المتدهور إزاء نجاحات العثمانيين الإسلامية في شرق أوروبا. ومن هنا أيضا أسلمت الكنيسة القيادة إلى الزعامة الجديدة من أسرة أفيز البرتغالية ذات الطابع النصراني المتشدد والمخلص من وجهة نظرها للصليب والعقيدة النصرانية، ويذكر أحد المؤرخين، إنه بينما لم يكن الإسلام في نظر دول الغرب الأوروبي إلا شبحا بيعدا لتهديد شاسع، فإنه كان بالنسبة لشعوب شبه الجزيرة الإيبرية، وبالذات قشتالة وأرجون والبرتغال، يمثل قوة على الأبواب تهدد بالثبور. ولذا صار الإيبري محاربا صليبيا بحكم الضرورة الملحة بشكل يومي، ويعد القتال ضد المسلمين ضرورة ماسة، ويراه خليطا يجمع على حد سواء بين الواجب الديني والضرورات الوطنية.
وقد تلاقت مصالح البرتغال مع تصورات البابا نيقولا الخامس في روما 1437-1455م، الذي أرسل ما سمي وقتها خطة الهند إلى ملك البرتغال. وقد هدفت هذه الخطة إلى ضرب المسلمين ضربة أخيرة - كما تصورها البابا - والقضاء على الإسلام قضاءا تاما بالتعاون مع الملوك النصارى في أفريقيا وآسيا. وهنا نجح البلاط البرتغالي في تسخير العامل الديني لتحقيق الأهداف الاقتصادية بالدرجة الأولى.
كذلك تلاقت هذه المصالح مرة أخرى في تلك القرارات الدينية التي أصدرتها الكنيسة في صالح الكشوف الجغرافية البرتغالية بالذات.
وأخيرا، إذا كانت العوامل الاقتصادية والتجارية بالذات هي السبب الرئيسي في ركوب البرتغاليين البحر والسيطرة على السواحل الأفريقية والآسيوية فيما بعد وعلى مضائق التجارة وطرقها، فإن التبريرات الدينية التي تغلفت بها قد وجدت آذانا صاغية لدى الرأي العام البرتغالي بشكل خاص والأوروبي بشكل عام ، حيث أن الأمر كان يتعلق بالدرجة الأولى بصراح إسلامي نصراني، وفي وقت كانت ما تزال فيه العقلية النصرانية للعصور الوسطى مسيطرة على تفكير الناس في أوروبا.
الكشوف البرتغالية في القرن الخامس عشر
يعتبر الأمير هنري الملاح (1394-1469م) ابن الملك جون الأول البرتغالي أشهر اسم في بداية الكشوف الجغرافية البرتغالية البحرية. وقد ارتبط لقب الملاح به بسبب تشجيعه ودفعه للمحاولات البرتغالية الأولى لاستكشاف سواحل أفريقيا الشمالية والغربية وجزر المحيط الأطلنطي القريبة من شبه جزيرة إيبريا.
وتعتبر اكتشافات ربابنة وسفن هنري الملاح أعظم انجازات الملاحة البرتغالية وهي التي سهلت الدوران حول القارة الأفريقية بعد ذلك بقيادة بارثلميون دياز وفاسكو داجما حتى صار بذلك شق الطريق إلى الهند أمرا ممكنا وحقيقيا.
وبسبب حركة الكشوف اتلك وخصوصا بعد وصول المكتشف البرتغالي دياز عام 1487م إلى رأس الرجاء الصالح لأول مرة، واكتشاف كولومبس لأمريكا الشمالية (العالم الجديد) عام 1492م، شبت المنافسة الحادة بين اسبانيا والبرتغال وكادت أن تؤدي إلى حرب ضروس بينهما على استعمار العالم المكتشف لولا تدخل البابوية وعقد معاهدة تروديسيلاس المعروفة عام 1494م. وتعتبر هذه المعاهدة بحق أغرب معاهدة في التاريخ الحديث، اذ أكدت ورسخت فكرة الاستعمار وامتلاك أراضي الغير بالقوة تحت نظر وتأييد الكنيسة في أوروبا. فقد تم بموجبها تحديد نقطة تقع إلى الغرب من جزر الرأس الأخضر بحوالي 1500 ميل، وعند هذه النقطة تم رسم خط من الشمال إلى الجنوب بموجبه يصبح كل ما هو غرب الخط لاسبانيا، وكل ما هو شرقه للبرتغال.
الكشوف البرتغالية السرية وأهدافها
ساندت حركة الكشوف البرتغالية البحرية على سواحل أفريقيا الغربية حركة أخرى لا تقل عنها أهمية اتسمت بالسرية فيما أطلق عليها (بعثات التجسس البرتغالية)، وكانت تهدف بشكل أساسي إلى جمع كافة المعلومات عن مصادر ثروة الشرق من التوابل وغيرها. وقد حدثت هذه الرحلات التجسسية في عهد الملك جون الثاني (1481-1495م)، الذي حصل على خريطة لأفريقيا تم رسم مملكة القس يوحنا في شرقها. ومن هنا بدأت تراود هذا الملك الطموح فكرة آمال التوسع في أفريقيا للوصول إلى الهند، والتحالف مع القس يوحنا ضد المسلمين.
وبينما كان بارثليمو دياز يستعد لرحلته البحرية نحو الجنوب الأفريقي، قام الملك بإرسال رجلين يجيدان العربية وهما من يهود لشبونة للقيام برحلة تجسسية سرية هدفها الوصول إلى موطن التوابل ومملكة برسترجون، فأرسل كن من جون بيدرو داكوفيلهام ومساعده ألفوسنو دي بايفا عام 1487م في مهمة سرية إلى الشرق.
أبحر هذان الجاسوسان في مايو 1487م من البرتغال إلى فلسطين ثم إلى رودس، وتخفيا في زي تجار مسلمين وانطلقا إلى القاهرة واندسا بين جماعة من التجار المغاربة المتوجهين إلى ميناء الطور على البحر الأحمر وأبحرا نحو سواكن وعدن.
وفي عدن انفصل كوفيلهام عن بافيا واتفقا على أن يقوم الأول بالبحث عن التوابل ومصدرها في مناطق الهند، والثاني عليه مهمة البحث عن مملكة القديس يوحنا في أفريقيا، لكن بافيا مات بعد مدة في أفريقيا.
وقد وصل كوفيلهام إلى كاليكوت بالهند، حيث شاهد - كما يقول - حوالي ألف سفينة راسية بمينائها، كما عرف أن تجارة كاليكوت الخارجية في أيدي التجار المسلمين. وجمع كوفيلهام معلومات عديدة عن التوابل ومصادرها الأساسية وأنواعها. وفي الوقت نفسه اتضح لكوفيلهام أن البحث عن مملكة القديس يوحنا في آسيا مضيعة للوقت فهي ليست إلا وهو زائف.
ووصل كوفيلهام إلى هرمز وكانت آنذاك مركز مستودعات تجارة الشرق القادمة من ملقا وإندونسيا وكاليكوت والمليبار وشرق أفريقيا، ومركز تجارة الخيول العربية أيضا. وبعد أن جمع كل المعلومات عن التجارة الشرقية وموانئها المهمة زار موانئ شرق أفريقيا الإسلامية وحصل على معلومات مهمة عن مناجم الذهب في سفالة وتجارتها وطرقها، وكانت تلك المنطقة من شرق أفريقيا في أوج ازدهارها في نهاية القرن الخامس عشر على يد العرب المسلمين.
وبعد أن استوعب الرحالة البرتغالي تماما طبيعة النشاط التجري في مياه الشرق وأنواعه، وثبت المواقع التي زارها على الخريطة التي معه، كتب تقريره الخاص للملك وعاد إلى الاقهرة عام 1490م، وأرسله من هناك مع أحد اليهود البرتغاليين إلى لشبونة، ثم أكمل هو رحلته في شقها الثاني - بحسب الأوامر الملكية الجديدة - إلى أفريقيا في إصرار عجيب للبحث عن مملكة القديس يوحنا والتحالف معها ضد المسلمين. وعندما توغل كوفيلهام في أراضي الحبشة وقابل ملكها النجاشي أبقاه عنده وحكم عليه أن يظل هناك طيلة حياته، بل وزوجه من احدى النصرانيات وأعطاه أرضا يعيش منها ولم يسمح له بالمغادرة ، وذلك طبقا لخطة الحذر الحبشية تجاه من يزورها من الأجانب. ولم يعد يعلم عنه شيء بعد ذلك حتى عثرت عليه بعثة التنصير البرتغالية بعد قيام الكشوف الجغرافية البحرية في شرق أفريقيا فيما بين أعوام 1520 - 1526م، وكانت تلك البعثة بقيدة ردريجو دي ليما ، وهو أول سفير برتغالي إلى بلاط الحبشة.
وتأتي أهمية هذه الرحلات التجسسية المصاحبة للكشوف الجغرافية في أنها مهدت للسيطرة البرتغالية في بحار الشرق وبالذات شرق أفريقيا والهند والخليج والجنوب العربي، حيث كان كوفيلهام أول برتغالي تطأ قدماه أرض الهند قبل داجاما، وأول من شاهد مملكة القديس يوحنا في الحبشة كان كان يعتقد آنذاك.
في الطريق إلى الهند
في عهد أحد ملوك البرتغال ويدعى أمانويل الأول الذي عرف بلقب السعيد أو المحظوظ، والذي حكم ما بين 1495 - 1520م، قام المكتشف البرتغالي فاسكو داجاما عام 1497 برحلة من لشبونة إلى كاليكوت وعاد عام 1499م يحمل معه ما يزيد عن ستين طنا من التوابل الشرقية وبعض الأسرى الهنود والأفارقة المسلمين. واستقبل هذا القائد استقبال الفاتحين العظام، فكيف حدث ذلك؟
تعتبر الفترة التي خرج فيها داجاما في أول رحلة برتغالية نحو المياه الشرقية، وهي الفترة التي وقعت بين نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، عصر السيادة البحرية والاستعمار الأوروبي الحديث، كما أطلق عليه في العلاقات الدولية. ولذا اعتبرت رحلة داجاما في عام 1497م هي بداية عهد الاستعمار البرتغالي في المحيط الهندي وشرق أفريقيا.
وقد خرج فاسكو داجاما وبحارته وربابنته على ظهر أسطول مكون من أربع سفن على أكثر التقديرات، تحمل حوالي عشرين مدفعا ضخما لم يسبق أن رأت مثلها تلك البلاد التي وطأها داجاما لأول مرة أيضا في المشرق الإسلامي. كما رفعت السفن على صواريخا أعلام نقشت عليها شارة الصليب تنفيذا لرغبة البابا إسكندر السادس، بالاضافة لوصيته برسم الصلبان على ملابس المشاركين في الحملة، مع اطلاق اسم جنود المسيح على البحارة لتشجيعهم على المشاركة في تلك الحملة الكشفية وابعاد الخوف والرهبة من قلوبهم، وقد وعدهم البابا - شخصيا- بدخولهم الجنة ثوابا على حسن أعمالهم وخدمتهم في سبيل المسيح.
وحين انطلقت سفن داجاما من لشبونة اتخذت من نفس مسار سلفه دياز طريقا لها في المحيط الأطلنطي حتى جنوب أفريقيا حيث استطاعت حملة داجاما عبور رأس الرجاء الصالح بعد عدة صعوبات، وكان ذلك في نوفمبر عام 1497م. واعتبر داجاما بهذا أول ملاح برتغالي يعبر رأس الرجاء الصالح ويصل إلى المياه الشرقية.
وبعد رحلة استمرت ثمانية أشهر منذ انطلق داجاما من لشبونة، وصل إلى مدينة سفالة أول المدن الإسلامية التي شاهدها داجاما وآخر المدن الإسلامية - موقعا - في ساحل شرق أفريقيا. وفي تلك المدينة انبهر البرتغاليون بما شاهدوه من معالم حضارة راقية تفوق حضارتهم في الكثير من المظاهر، واسترعى انتباه داجاما ما رآه من وفرة التوابل بجميع أنواعه في هذه المدينة التي كانت عامرة أيضا بتجارة الذهب.
ثم أبحر البرتغاليون شمالا حتى وصلوا إلى موزمبيق في مارس عام 1489م. وقبل أن تدخل سفن داجاما ميناء هذه المدينة، شاهد بحارته مركبا يطلق عليه سبموك، رماه حظه العاثر أمام سفن البرتغاليين وعلى ظهره تاجرا يتحدث العربية ويدعى تابيو أو دافانا، فأحضوره إلى ظهر السفينة ، ولما حادثه المترجم اليهودي الذي كان مع سفن البرتغاليين، وجده يتحدث الأفريقية السواحيلية والهندية، فرغبوا في أن يكون دليلهم في مياه شرق أفريقيا والهند، فوافق على ذلك. وفي موزمبيق علم داجاما أنها مجرد مقاطعة تابعة لسلطنة كلوة وهي أشهر موانئ ساحل شرق أفريقيا، وأن السفن المختلفة تأتيها من بلاد الهند محملة بالبضائع العديدة. يصف كاتب تاريخ "السلوة في أخبار كلوة" اقتراب فاسكو داجاما من بلاده بهذه الكلمات أثناء دولة الفضيل الذي تولى في عام 901هـ، وصل خبر يقول بأنه ظهر قوم من بلاد الفرنج وهم في ثلاثة مراكب، واسم نواخذهم المرتي (الميرانتي)، ثم بعد أيام بلغهم أنهم مروا على كلوة ولم يدخلوها، فقصدوا منفسه (ممباسا)، ففرح صاحبها بهم ظانين أنهم من أهل الخير والصلاح، وحقق لهم بعض السكان ممن يعرفهم أنهم أهل فساد، وما وصلوا إلى لينظروا البلاد متجسسين حتى يخربوها، فعند ذلك احتالوا عليهم في قطع أناجرهم، ليأتوا إلى البر كي يهلكوا أو يكونوا غنيمة للمسلمين فعرفوا ذلك وسافروا جهة ملندي".
ولابد من الاشارة إلى أن الصورة التي كانت في ذهن البرتغاليين قبل وصولهم إلى شرق أفريقيا أنهم كانوا سيجدون هناك أقواما عراة يخصفون عليهم من ورق الشجر ما يكاد يستر عوراتهم، ومن هنا ظهرت علامات الدهشة والاستغراب على وجوه بحارة حملة داجاما ومعهم قائدهم نفسه من مشاهد الحضارة الزاهرة التي أقامها العرب المسلمين في تلك النواحي من شرق أفريقيا. وزاد استغراب داجاما وبحارته عندما وجدوا سفنا عربية كبيرة شمال موزمبيق في بداية دخولهم المياه الشرقية، وقد كان ربابنتها يحملون "بوصلات لتوجيه السفن وآلات للرصد وخرائط بحرية متطورة"، كما ذكر داجاما في يومياته.
ويصف الرحالة البرتغالي باربوسا مدن الساحل الشرقي لأفريقيا وحضارتها قائلا: "منذ بداية القرن الرابع عشر كانت قلاع الإسلام تمتد بطول الساحل الشرقي للقارة على شكل خيط طويل من اللآلئ، وكان هذا الساحل يعج بالتجار ورجال البحر والقوافل التي تتجار في العج والتوابل والصمغ والرقيق والذهب".
وقد كانت الإمارات الإسلامية في شرق أفريقيا عند وصول داجاما في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي هي (ماليندي، كلوة، بات، ممباسا)، بالإضافة إلى بعض المراكز التجارية الصغرى في زنجبار، وبمبا، وكليجي وجزيرة موزمبيق وسفالة وجزر القمر وغيرها.
وتبين لداجاما من محاولاته المتكررة للرسو في موانئ شرق أفريقيا، أن إمارات هذا الساحل الإسلامي يدين معظمها بالولاء للحكام العرب في جنوب شبه الجزيرة العربية أو لحكام مصر من المماليك في ذلك الوقت.
وأخيرا في 15 مارس 1498م وصلت سفن داجاما الثلاثة إلى ميناء ماليندي، حيث رحب بهم حاكم المدينة العجوز، اعتقادا منه بأنه إذا فعل ذلك وأظهر للبرتغاليين حسن الضيافة وقدم لهم كل الخدمات التي يطلبونها، سوف يجعل من هؤلاء الأقوام الغرباء الوافدين أصدقااء له وسيساعدونه في التخلص من سيطرة حاكم ممباسا. وهذا شجع البرتغاليين بدورهم على استغلال هذا الاعتقاد لدى حاكم ماليدني وانتهاز فرصة الخلاف الذي كان ناشبا آنذاك بين ماليندي وممباسا ليؤيدوا حاكم الأولى ضد منافسه شيخ ممباسا. ولهذا قبل حاكم ماليندي أن يزود سفن داجاما بمرشد بحري يعرف جيدا منطقة ساحل المليبار غرب الهند وكيفية الوصول إلى مدينة كاليكوت وهي أهم مناطق تجارة الفلفل وبقية السلع الشرقية في الهند.
وكان ذلك المرشد البحري الكفؤ الذي دار حوله لغط ونقاش كثير لم يهدأ حتى الآن، يدعى ماليمو كانا الكجراتي Cana of Guzarat Melemo، بينما يذكر دانفرز في كتابه أن الذي أرشد داجاما في الهند كانا اثنان من خيرة البحارة في معرفة الطرق البحرية بالمنطقة أحدهما يدعى ماليمو كانا.
إلا أننا نقرأ في سجلات رحلة فاسكو داجاما هذه العبارة التي يقول كاتبها بالحرف "لقد تركنا ماليدني في الثلاثاء من الشهر - يقصد ابريل - قاصدين مدينة اسمها فاليكيت - كاليكوت - مع المرشد الذي أعطاه لنا الملك"، ولكنه لا يذكر اسم ذلك المرشد.
ولا نريد أن نتوقف طويلا هنا عند المناقشات التي ما زالت دائرة في كتب التاريخ حول من الذي أرشد فاسكو داجاما إلى الهند صراحة، وكأنها جريمة العصر التي لا تغتفر، مع أن واقع الأحداث والكشوف يقول بأن فاسكو داجاما أو غيره كان سيكتشف طريق الهند إن عاجلا أم أجلا طالما وصلت سفنه المياه الشرقية حتى ولو بالصدفة، كما حدث لكولومبس في اكتشافه لأمريكا ثم ماجلان للفلبين وغيرهم.
إلا أنه لابد من ذكر أن المصادر البرتغالية المعاصرة والتي كتبها لكل من جويز وباروس وكاستنهيدا، على الرغم من أنها أشارت إلى أن ملاحا عربيا قاد سفينة داجاما إلى الهند، إلا أنها لا تذكر الاسم صراحة وإنما تردد أسماء غير واضحة لهذا الملاح مثل ماليمو كاناكا أو كانا أو عربي من الكجرات. وبالرجوع أيضا إلى مؤلفات سليمان المهري، وهو ملاح عربي عاش بعد ابن ماجد بسبعين سنة، لا نجد في كتاباته أية اشارة إلى هذا الحادث، وأيضا الملاح والقائد العثماني "سيدي علي ريس" والذي أتى بعد هؤلاء واعتمد اعتمادا كبيرا على مصنفات ابن ماجد في صياغة مؤلفه محيط لم يتطرق إلى أن ابن ماجد قاد سفن البرتغاليين إلى الهند. وهذا ما دفع بكاتب مثل علي التاجر من سكان الإمارات العربية المتحدة والتي ينتسب ملاحنا ابن ماجد إلى إحدى إماراتها (جلفار - رأس الخيمة) أن يورد بحثا ضمن ندوة مناقشات حول ابن ماجد "يذكر فيه أن المؤرخين من أمثال باروس وجويز وكاستنهيدا، يصوغون اسم ذلك الملاح صيغة برتغالية، فيسمونه على التوالي، معلموا كانا، أو معلموا كاناكا، بدون أية تفاصيل مفسرة أخرى سوى إنه كان مسلما من كجرات".
ومن المعروف تاريخيا أن فاسكو داجاما لم يكتب مذكرات رحلته الأولى عام 1497م بخط يده، كما إنه من المعلوم أيضا - وهنا بيت القصيد - أن زلزالا عظيما ضرب البرتغال عام 1755م، دمر جانبا كبيرا من قصر الهند في لشبونة. وكان ذلك المبنى يحوي كل وثائق الشرق، وتسبب في حريق هائل فقدت بسببه الكثير من الوثائق الأصلية والخرائط التي كانت محفوظة في أرشيف المستعمرات البرتغالية، ومن هنا بالتأكيد وقع اللبس والخلط في اختلاف الروايات حول تفاصيل رحلة داجاما الأولى إلى الهند، ليس فقط في اسم الربان المسلم الذي قادها من ماليندي إلى كاليكوت بالهند، بل وحول عدد السفن والبحارة وأيام وأشهر وسنوات الوصول إلى مناطق شرق أفريقيا والهند وكذلك في عدد من عاد من بحارته أحياء وأعداد من توفى منهم في الطريق.
ولختام هذه القضية نذكر هنا رواية المؤرخ البرتغالي باروس التي كتبها في القرن السادس عشر، حول ظروف وصول داجاما إلى الهند وهي على حال تتشابه مع بقية الروايات البرتغالية الأخرى عدا بعض التفاصيل الجانبية التي لا تؤثر على صلب الحكاية ذاتها مثار النقاش.
يقول باروس "أثناء وجود فاسكو داجاما في ماليندي كان معه جماعة من الهنود توجهوا إلى ظهر السفينة ، وكان يوجد أحد البربر من الجوزرات يدعى ماليمو كانا ، ولإرضاء ملك ماليندي الذي كان يبحث عن ملاح للبرتغاليين، قبل المعلم المسلم أن يتوجه معهم إلى السفينة، ورضى داجاما كل الرضا عن معلوماته بعد التحدث معه وخصوصا بعد أن عرض عليه خريطة لكل الشواطئ الهندية مرسومة كما هي عند العرب عامة بخطوط الطول والعرض وفي غاية الوضوح. وقد اتضح أن تلك الخريطة في منتهى الدقة. وعندما اطلع داجاما مرشده المسلم على اسطرلاب من الخشب كان قد أحضره معه من البرتغال وبعض الاسطرلابات المدنية لقياس ارتفاع الشمس والنجوم لم يبد المرشد أي اندهاش أو استغراب بل قال أن الملاحين العرب في البحر الأ؛مر يستخدمون أجهزة مثلثة ومربعة الشكل لقياس ارتفاع النجوم وخصوصا النجم القطبي. وبعد هذا الحديث مع الملاح حصل داجاما على انطباع مفاده أنه وجد في هذا الشخص ثروة كبيرة. وحتى لا يفقده أمر رجاله على الفور بالإبحار إلى الهند. وفي يوم 24 أبريل اتجه داجاما شرقا ووصل إلى كاليكوت في 20 مايو من نفس العام، أي في أقل من شهر وأرسل ماليمو كانا إلى اليابسة ليبلغ ملك البلاد بوصول البعثة البرتغالية".
ولابد من تسجيل ملاحظة مهمة هنا، وهي أن أغلب المصادر البرتغالية تقرر أن الربان المرشد موضع الخلاف كان مسلما من منطقة الكجرات على الساحل، بينما ابن ماجد - كما هو معروف - عربي مسلم من شبه الجزيرة العربية، واسمه سهل النطق والحفظ فلو كان هو نفسه المرشد فلماذا تغفله تلك المصادر بهذا الشكل وباتفاق غريب بينهما.؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فاسكو داجاما في الهند
يصف لنا الشيخ أحمد زين الدين المليباري وصول البرتغاليين إلى الهند بقوله: "ابتدأ وصول البرتغال إلى مليبار كان سنة أربع وتسعمائة من الهجرة النوبية، وصلوا إلى فندرينه في ثلاث مسماريات، وسبب وصولهم على ما يحكى عنهم، هو طلب بلاد الفلفل لتختص تجارته بهم".
وعند وصول البرتغاليين في مايو 1498م إلى كاليكوت شاهد داجاما العديد من العرب وكانوا من تجار القاهرة وشبه الجزيرة واليمن ومعهم بضائع من مكة جاءوا ليقايضوها بالفلفل والحبوب ثم يحولوا هذه التوابل إلى مصر والشام ومنها إلى العالم النصراني الأوروبي.
كان يحكم كاليكوت وقتذاك أهم زعيم في ساحل غرب الهند وهو الزامورين أو الساموري، وكان يعرف بأنه ملك عظيم يلقب بسيد الجبال والبحر. ومع أن رقعة مملكته كانت صغيرة إلا أنه كان هو المسيطر على ممالك هذا الساحل من واقع قوته الاقتصادية النابعة من أهمية ميناء مملكته ، حيث امتدت سلطته من كاليكوت إلى كوشين وكنانور. وتقع تحت سيطرته المباشرة مركز تجارة التوابل في الهند وتلك المنقولة من جزر المحيط الهندي مثل ملقا، والتي تمر ببلاد في طريقها إلى أوروبا. ولذا فقد كان لتجار السلع في الخليج والبحر الأحمر ومصر مراكز تجارية ووكلاء في كاليكوت بشكل خاص. وبما أن غالبية هؤلاء التجار كانوا العرب المسلمون الذين كانوا يتعاملون وفقا لأصول وثوابت تجارية قديمة العهد مع الزامورنيات تعود إلى حوالي 600 سنة قبل مجئ البرتغاليين، فإن المجتمعات التجارية العربية وبيوتاتها المالية كانت تتحكم في تجارة ساحل المليبار وكاليكوت بصفة خاصة. ومن هنا كان للتجار العرب نفوذ مؤثر وفعال في هذه المدينة مقارنة بغيرهم بل وحتى بالنسبة للتجار الهنود، وهذا ما شجع على نمو علاقات خاصة جدا بين حاكم كاليكوت "الزامورين الهندوكي" والعرب المسلمين الذين لم يكونوا بشكلون أية خطر على السلطان الهندوكية في هذا الميدان وفي ساحل المليبار اذ لم تكن لهم أية سلطة سياسية في تلك المنطقة. وعندما تلاقت مصالح الطرفين الهندوسي والمسلم في التجارة قام الزامورين بتشجيع التجار العرب المسلمين على التجارة في بلادهم. وبفضلهم صارت كاليكوت غنية ومزدهرة. كما اشتهرت كوشين بأنها أعظم ميناء لتجارة الفلفل. ومن أصبح الزامورين عظيما وغنيا وهذا ما دعاه لاحترام وتقدير هؤلاء التجار العرب في مملكته.
بالإضافة إلى السلطة الاقتصادية الرئيسية في كاليكوت، فقد كان ساحل المليبار الهندي يعج بالممالك الإسلامية التجارية، ولكنها كانت كممالك الطوائف في الأندلس. فعند وصول البرتغاليين، كانت تلك الممالك في صراع دائم بين بعضها البعض أو ضد الممالك الهندوسية المجاورة لها. ويجدر الإشارة إلى أن تلك الممالك أو السلطان كانت في الأصل منفصلة عن المملكة الأم، وهي مملكة الدكن البهمنية الإسلامية عندما بدأت في الضعف والانهيار منذ عام 1482م في عهد السلطان محمود بن محمد شاه البهمني.
وعندما تم اللقاء مع البرتغاليين في قصر الزامورين في كاليكوت، دهش داجاما مرة أخرى مما شاهده في لباس حاكم كاليكوت المطعم بالجواهر والآلئ، في الوقت الذي وجده لم يحفل بهداياه التي جلها له، بل ,أصابته خيبة أمل فيها. وحين سأل الزامورين داجاما عن سبب مجيئه للهند، أجاب الأخير باختصار شديد ومثر (النصرانية ثم البهارات)، ثم أردف ذلك بقصة كاذبة - خوفا على نفسه ورجاله - مدعيا بانه أضاع سفنه الأخرى التي كانت معه وأنها انفصلت عنه وتاهت وجاء إلى هنا للبحث عنها، وذلك كي يوهم الزامورين ويزرع في قلبه الرعب من وصول أسطول كبير يهدد مملكته ، ثم اتبع داجاما مع الزامورين أسلوبا وسياسة شبه مسالمة ولم يستخدم العنف مع لمدن الهندية في ساحل المليبار حتى أنه لم يعارض الزامورين حين باعه أنواعا ردئية من التوابل وبالأسعار العالية التي حددها له الزامورين، حتى ينفي ما أشاع عنه كعدو أو جاسوس أجنبي. ثم سلم داجاما الزامورين رسالة من الملك أمانويل الأول حول الرغبة في التجارة مع بلاده، وقد رد عليها الزامورين قبل سفر داجاما إلى بلاده وكان بها شبه موافقة على التبادل التجاري بين البرتغال وكاليكوت.
وعندما سمع التجار المسلمون في كاليكوت بما حدث بين داجاما والزامورين، وهو أول لقاء برتغالي هندي يكون محوره النواحي الاقتصادية التجارية، توجسوا خيفة من موافقة الحاكم على تزويد البرتغاليين بالتوابل، وضع هؤلاء التجار في اعتبارهم أن هؤلاء الأوروبيين الطارئين إذا دخلوا منذ البداية كتجار فلن يقيدوا أنفسهم بميناء كاليكوت فقط، بل سيوسعون تجارتهم لتشمل كل المناطق الهندية، وهذا ما سيسبب بالطبع خسارة التجار المسلمين في كل سواحل الهند الغربية، وسيظل الخطر ماثلا - ما دام هؤلاء في المياه الشرقية - على حركة تصدير التوابل الهندية إلى أوروبا عبر بلاد المشرق العربي أوصلوا توجساتهم هذه إلى الزامورين. ولهذا أخفق داجاما بعد ثلاث أشهر في كاليكوت في عقد معاهدة تجارية مع حاكم المدينة، كما رفض الزامورين طلبه في انشاء مركز تجاري للبرتغاليين في المدينة. وبدأ داجاما في البحث عن مدن تجارية هندية أخرى أكثر ترحيبا في الساحل فوصل إلى كنانور وهناك لاقى ترحيبا كبيرا من حاكمها الهندوسي وكذلك فعل حاكم جوا - نكاية بالزامورين في كاليكوت.
وفي طريق عودة داجاما من الهند إلى شرق أفريقيا توقف في ماليندي مرة أخرى حيث زوده حاكمها ببعض المرشدين البحريين كما أرسل معه سفيرا من قبله إلى ملك البرتغال حاملا معه عروض الصداقة اللامحدودة والولاء التام للتاج البرتغالي. ومنذ تلك اللحظة صارت هذه الإمارة الإسلامية في شرق أفريقيا الحليف الوحيد والدائم للبرتغاليين.
وصل داجاما أخيرا في سبتمبر عام 1499م إلى لشبونة. وقد فقد من بحارته حوالي الثلثين وسفينتين أيضا وقد قضى في رحلته 36 شهرا ، إلا أنه عاد بأرباح بلغت 60 مرة ضعف تكاليف الرحلة الأولى إلى الهند.
وكم كان فرح واغتباط الملك أمانويل بعودة داجاما وفتح الطريق إلى الهند لأول مرة أمام البرتغاليين عظيما فقد حقق أهدافه في التخلص من السيطرة العربية الإسلامية على التجارة الشرقية. ولذا أقام الملك الاحتفالات الرسمية والشعبية كما حدث في اسبانيا عند عودة كولومبس من أمريكا.
وقد أحدثت أخبار كشف البرتغاليين لطريق جديد يؤدي إلى الهند وتوابل الشرق مباشرة، ثورة في التجارة الأوروبية ، كان لها دوي عظيم في أوساط المجتمعات الأوروبية. وقد بدأ نجم السياسة البرتغالية وبلاط لشبونة يرتفع عالياً، مما جعل الملك يطلق على نفسه بكل ثقة وفخر لقب "سيد الفتح والملاحة وتجارة الحبشة وجزيرة العرب وفارس والهند". وقبل أن تتلاشى أصداء هذا الاكتشاف والاحتفالات بعودة فاسكو داجاما ظافرا من الهند، وتحت شعار "اطرق الحديد وهو ساخن" عقد الملك أمانويل العزم على استثمار نتائج الرحلة الأولى بأقصى سرعة ممكنة. فتم اعداد الحملة البرتغالية الثانية إلى بحار الشرق في أقل من ستة أشهر، وذلك كي لا يترك مجالا ومتنفسا لأهالي البلاد المكتشفة لتنظيم أنفسهم والدفاع عن بلادهم. وحددت هذه الحملة أهدافها بضرب القوى العربية الإسلامية في المحيط الهندي وانتزاع التجارة العالمية منها، وإنشاء مراكز تجارية في ساحل المليبار حتى تضخ منها ثروات الشرق إلى موانئ البرتغال ومخازنها، وإقامة قاعدة حربية للسفن البرتغالية. وقد طلب الملك ضرورة أن يتم ذلك الأمر سواء بالمفاوضات أم بالقوة المسلحة لتثبيت النفوذ البرتغالي في تلك المناطق ، خصوصا المناطق الإسلامية منها.
وصل كابرال إلى الهند في سبتمبر من عام 1500م ورسا بسفنه أمام ميناء كاليكوت. وعندما شاهد التجار المسلمون أسطولا برتغالية ثانيا أمام كاليكوت شعروا بقلق كبير وتيقنوا من جدية خطورة المنافسة القادمة إليهم من وراء البحار من هؤلاء البرتغاليين بالذات. وبمجرد أن وصل كابرال إلى قبالة مدينة كاليكوت الساحلية أخذت تصرفاته تتسم بالعجرفة وقبل أن تطأ أقدامه اليابسة أخذ يقوم بأساليب استفزازية وعدائية للمدينة وضد سفن التجار المسلمين في الميناء.
ويصف الشيخ المليباري ذلك الوضع قائلا: "دخلوا كاليكوت على هيئة التجار، واشتغلوا بالتجارة وقالوا للسامري ينبغي منع المسلمين من تجارتهم، ومن السفر إلى بر العرب والفوائد الحاصلة منهم يحصل منه أضعافها، ثم تعدوا على المسلمين في المعاملات، فأمر السامري بقتالهم فقتل منهم نحو سبعين أو ستين رجلا وهرب الباقون وركبوا في مراكبهم ورموا بالمدافع على أهل البر وأهل كاليكوت ردوا عليهم".
ولم يبق كابرال طويلا في الهند، فقد عاد إلى لشبونة في يوليو عام 1501م، وقد فشل في تحقيق أهدافه السياسية من الحملة وهي اقامة مركز تجاري او قلعة حربية في كاليكوت للسيطرة على تجارة التوابل في المنطقة.
ولمواصلة سياسة طرق الحديد وهو ساخن وقبل أن يفق الشرق من صدمة الحملات البرتغالية الأولى، سارع الملك أمانويل بارسال داجاما مرة أخرى باعتباره فاتح الهند، ومعه أسطول ضخم ضم ما بين عشرين إلى ثلاثة وعشرين مركبا كبيرا، وذلك عام 1502م، وزوده الملك بتعليمات شديدة وصارمة أساسها العمل على احتكار تجارة الشرق وكل منتجاته للبرتغال فقط ولهذا اعطى الملك قائده داجاما هذه المرة كافة الصلاحيات بأن يفعل "كل شيء" من أجل هذا الهدف الكبير، وتحويل التجارة تلك بعد ذلك إلى طريق واحد فقط تحت سيطرة الأساطيل البرتغالية دون غيرها وهو طريق رأس الرجاء الصالح وأضيف إلى ذلك الهدف أيضا، رغبة الملك في سد المنافذ التجارية البحرية أمام التجارة العربية الإسلامية في الخليج العربي والبحر الأحمر، ومنع أية سفينة من دخول البحر الأحمر بالذات أو الخروج منه، وتدميرها إن لزم الأمر لاضعاف القوى الإسلامية في كل مناطق الشرق.
وقد نفذ داجاما تعليمات سيده بدقة تامة متبعا أسلوبا مختلفا عما اتبعه في رحلته الأولى. تميز هذا الأسلوب بالبشاعة والقسوة والتمثيل بالبشر بصلبهم أو جدع أنوفهم وتقطيع أعضائهم، وسرقة البضائع من السفن والموانئ، وتدميرها، بالإضافة لسرقة الأطفال العرب والمسلمين من أسرهم وتنصيرهم، وما قصة السفينة مريم إلا شاهد واحد فقط من عدة شهود على هذه القضية.
وبعد أن وضع داجاما أسس السيطرة العسكرية الاستعمارية البرتغالية في سواحل المحيط الهندي بين شرق أفريقيا وساحل المليبار الهندي بالعنف والتدمير والارهاب المتعمد، وقبل عودته إلى بلاده، ترك حوالي خمس أو ست سفن من أسطوله تحت قيادة أحد ضباطه ويدعى "فسنت سودري" لتجوب المحيط الهندي للقيام بأعمال القرصنة البحرية ومهاجمة السفن العربية الإسلامية وكافة السفن التي تمخر مياه تلك المنطقة ما عدا سفن كناثور وكوشين وكويليون التي كانت تحمل إذنا من ممثل البرتغال في كناثور. كذلك أمره داجاما بإغلاق مدخل البحر الأحمر أمام السفن العربية الداخلة والخارجة منه.
ويذكر موريس، أن الضابط سودري كان يقوم بالقرصنة قبالة ساحل عمان في بحر العرب منذ عام 1503م حيث قام باصياد السفن الإسلامية وسرقتها، وبذلك اعتبر أول القراصنة الذين حيكت عنهم القصص في هذه المنطقة. إلا أن ذلك القائد قتل بعد ذلك في ظروف غامضة عند رأس الغضروفي، ولم تعرف أخبار سفنه أيضا.
ثم مضت حكومة الملك السعيد أمانويل، في تنفيذ سياستها الاستعمارية الجديدة بعد اكتشاف طريق الهند، وذلك بهدف السيطرة النهائية عليه وإقفاله أمام أية منافسة أوروبية أخرى. وصدرت عدة قوانين وقرارات في هذا المجال ظنت حكومة البرتغال أنها بإصدارها قد حرمت استخدام طريق رأس الرجاء الصالح على الآخرين وزيادة في الحرص لإبعاد المنافسة حتى من قبل المماليك بمصر، فقد قام إمانويل بإرسال رسالة للبابا يوليوس الثاني عام 1505 م قال فيها "إنه ليس عازما على المضي في قتل التجارة المملوكية فقط، بل إنه سيجاهد في سبيل النصرانية حتى يجعل من مكة هدفا لمدافعه وجنوده".
ولتثبيت الوجود البرتغالي الاستعماري في الشرق سياسيا، جرى استحداث منصب "نائب الملك البرتغالي في الهند" وكان أول قائد تولاه هو فرانسيسكو دي ألميدا عام 1505م. وبذلك تكون البرتغال أول دولة استعمارية أوروبية أنشأت مثل هذا المنصب في الهند لحماية مصالحها التجارية. وقد تمثل أهم أهداف مهمة المبدأ فيما يلي:
- إغلاق كل الطرق المؤدية إلى الهند وأسواقها في وجه العرب والمسلمين بشكل خاص.
- العمل على استئصال شأفة الوجود العربي الإسلامي التجاري من جذوره في المحيط الهندي والحرص على التحالف مع أي ملك من ملوك الهند شريطة ألا يكون مسلماً.
وقد كان وصول ألميدا إلى الهند كنائب عن ملك البرتغال، إيذانا بتحول الصراع بين البرتغاليين والقوى العربية والهندية إلى طور جديد تمثل في بناء القلاع والحصون الحربية البرتغالية لقمع ثورات وتمرد القوى الإسلامية في المنطقة، بالإضافة لاستحداث قوانين واجراءات اقتصادية برتغالية عديدة للحد من النشاط العربي الإسلامي أو ايقافه نهائيا. وقد تمثلت تلك الاجراءات في إصدار قانون كارتازس الذي ألزم فيه ألميدا كل المراكب والسفن التي تقوم بالتجارة للحصول على تصاريح خاصة مقابل أداء مبالغ معينة. وكان لهذا القانون التزامات حقوق وواجبات لم تصان أبدا من قبل البرتغاليين أنفسهم خصوصا فيما يخص السفن العربية الإسلامية.
تم تضييق الخناق على الملاحة العربية الإسلامية في سواحل الماليبار بإصدار هذه التصاريح وتنفيذها مما جعل التجار المسلمين يتحايلون عليه باللجوء إلى كل من ملقا وسومطرة، والهروب بعيدا عن مراقبة السفن الحربية البرتغالية حتى قام البوكريك عام 1511م باحتلال ملقا ليضع حدا للتجارة الإسلامية مع موانئ الشرق الأقصى حيث كان يتم استبدال البضائع العربية بالسلع الصينية في هذا الميناء والحصول على التوابل للأسواق العالمية.
ودعمت حركة الكشوف الجغرافية البرتغالية بقوة مالية ضخمة، عندما صار ملك البرتغال هو السيد الأول في التجارة الشرقية وأصبح كل شيء باسمه وشاركته بعض البيوتات الرأسمالية الأوروبية والبرتغالية التي وقفت وراء الكشوف في أهدافها الاقتصادية منذ البداية، خصوصا بيت أنتورب المالي وغيره.
واستمر الاعصار الاستعماري البرتغالي يعصف بالسفن التجارية العربية وبمراكز الحضارة الشرقية في سواحل المحيط الهندي حيث كانت لمسة البرتغاليين لأي من تلك المراكز تعني الموت والدمار في ذلك الوقت. وبما أن عدن وهرمز كنتا المنفذين الإسلاميين الوحيدين اللذين تتسرب منهما السلع الشرقية إلى أوروبا عن طريق الأسواق في منطقة المشرق العربي، فقد وصل ذلك الإعصار البرتغالي إلى مشارف البحر الأحمر والجنوب والخليج العربي عندما جاءت عام 1506 م إلى المنطقة عمارة بحرية برتغالية مكونة من أربع عشرة سفينة بقيادة تريستان دي كونها tristan de cunhaa وكان بقيادة القائد البرتغالي الذي روع سكان الجنوب العربي وسواحل عمان والخليج ألا وهو أفونسو دا البوكريك.
وكان أول ظهور لألبوكريك في البحار الشرقية عام 1503م ، عندما أرسله الملك أمانويل الأول مع فرانسيسكو البوكريك لبناء قلعة في كوشين على ساحل المليبار بالهند. وبعد عدة مواجهات مع مسلمي الهند وغيرهم استطاع هذان القائدان من عائلة البوكريك بناء القلعة، وكانت أول قلعة للبرتغاليين تقام في سواحل بحار الشرق.
وفي عام 1509م عندما تولى أفونسو البوكريك منصب نائب الملك في الهند، زاد من تركيز سيطرته على سواحل الهند والشرق الأقصى والخليج والجنوب العربي. وقام البوكريك بتعقب السفن التجارية العربية أينما وجدها في مياه المحيط الهندي وبحر العرب وسواحل الخليج العربي، وأسرها وإحراقها أو إغراقها مع بحارتها بكل قسوة، ونهب بضاعتها وقتل ربابنتها، وعمل البوكريك على أن يؤمن لنفسه وللأسطول البرتغالي قاعدة منيعة في ساحل المليبار بالهند تكون قريبة لمخططاته في الخليج والجنوب العربي والبحر الأحمر. ولما كانت قلعة كوشين بالنسبة له قد أصبحت غير صالحة لمأربه، فقد وجه اهتمامه لاستبدالها بمدينة كلكيوت العظيمة لبناء قاعدة حربية ضخمة بها، إلا أنه فشل في احتلالها، بل وكاد يقتل عندما اقتحمها بجنوده. فقرر البوكريك احتلال مدينة جوا وكانت تابعة للمملكة بيجابور الإسلامية الضعيفة آنذاك، ونجح بعد محاولات في احتلالها في نوفمبر من عام 1510م بمساعدة الهندوس في تلك المنطقة.
وبعد تنفيذ خططه تلك في الهند وجعل جوا عاصمة البرتغاليين الرئيسية ومركزهم التجاري والحربي والسياسي والديني، بدأ البوكريك في تطبيق سياسة أخرى تقوم على احتلال المضائق البحرية الرئيسية الي تتصل بتجارة الهند وأهمها (ملقا، عدن، وباب المندب، هرمز) كما عمل على الاستمرار في بناء القلاع والحصون على السواحل في مناطق المحيط الهندي. وفي نفس الوقت أيضاً، عمل البوكريك بشكل حثيث للحصول على حلفاء محليين لتحقيق أغراضه العدوانية على البلاد العربية الإسلامية، وذلك من خلال اقامة علاقات مع البلاط الحبشي في إثيوبيا، وأيضا مع البلاط الفارسي في عهد الشاه إسماعيل الصفوي بعد إخضاع هرمز بشكل نهائي عام 1515م.
وعندما جاء دي سكويرا في منصب نائب الملك في الهند بعد وفاة البوكريك عام 1515م قام بتأمين الحماية للسفن البرتغالية لتجارية ضد القوى المناهضة لها في المحيط الهندي. وقد زاد هذا القائد في أعداد السفن وجعلها تتمادى في أعمالها الحربية ضد السفن الإسلامية، فتحولت من سفن تجارية إلى سفن قرصنة بحرية وضاعت قيم ومبادئ التجارة العربية الإسلامية التي طالما حافظت عليها تلك الدول في المحيط الهندي لسنين طويلة.
الفصل الثاني:الأوضاع السياسية في مشرق العالم الإسلامي عند مجي البرتغاليين
الفصل الثاني: الأوضاع السياسية في مشرق العالم الإسلامي عند مجي البرتغاليين
كانت الدول الإسلامية التي تتحكم في مجرى الأحداث في مشرق العالم الإسلامي عند مطلع القرن السادس عشر الميلادي هي ثلاث دول رئيسية حكامها من غير العرب، وتحتل هذه الدول المساحة الأعظم في وسط المنطقة التي تسمى اليوم في الاصطلاح الأوروبي (الشرق الأوسط) وهذه الدول هي:
- الدولة الصفوية في معظم بلاد فارس (إيران) وأجزاء كبيرة من العراق.
- الدولة العثمانية في آسيا الصغرى (الأناضول) وأجزاء كبيرة من شرق أوروبا.
- الدولة المملوكية في مصر والشام والحجاز وبعض النفوذ في اليمن.
وكانت هناك دولة إسلامية رابعة تعيش في الجزء الجنوبي من الهند وهي مملكة الدكن البهمنية التي تأسست عام 1347 م ، إلا أنها بدأت تحتضر في أواخر القرن الخامس عشر وتقوم على أشلائها خمس ممالك مستقلة، حتى جاء "بابرشاه" المغولي وأسس الدولة المغولية التيمورية في الهند منذ عام 1526م تلك الدولة التي استمرت حتى عام 1857م.
وسنركز على الدول الإسلامية الثلاث الكبرى لارتباطها بمجرى الأحداث التي وقعت عند مجئ الغزو البرتغالي للمنطقة ضمن حدود المساحة الجغرافية التي قصدها البرتغاليون في حروبهم الاقتصادية الصليبية بعد الكشوف الجغرافية.
محاولات الدولة المملوكية التصدي للغزو البرتغالي في مطلع القرن السادس عشر
بينما لم تكن للعثمانيين علاقة مباشرة بالتجارة بين المحيط الهندي والبحر المتوسط وعندما كان همهم الشاغل انتهاز الفرص للتوسع شرقا وغربا وجنوبا حتى على حساب جيرانهم المسلمين، كان للمماليك اهتمام خاص بما يجري في المحيط الهندي والبحر الأحمر، وخصوصا بخطوط التجارة العالمية في تلك المناطق ، حيث ارتبطت بها الدولة المملوكية ارتباطا تاما بعد أن قل الاهتمام بالزراعة وتصدير منتجاتها من مصر بسبب الفوضى وعدم الاستقرار السياسي في النصف الثاني من فترة دولة المماليك الجراكسة. ولذا كانت دولة المماليك أكثر الدول الإسلامية الثلاث في المشرق ادراكا لخطورة نجاح البرتغاليين في الوصول إلى الهند بحرا وضررهم البالغ بالمصالح الاقتصادية للدولة. ومن هنا جاءت أسبقية هذه الدولة في البدء بمشاريع التصدي للبرتغاليين عسكريا في المحيط الهندي. إلا أنه تصادف أن تعرضت دولة المماليك لفترة عصيبة من الاضطرابات الداخلية الدامية عشية وصول البرتغاليين للمياه الهندية عام 1498م، ونتيجة للتناحر المتواصل على الحكم الذي اتسم به تاريخ المماليك منذ استولوا على السلطة، وذلك بسبب ضعف شخصية السلاطين والتنافس بين الأمراء وتمرد المماليك (الجلبان) ونزوعهم إلى الاستبداد والنهب. وقد انعكست هذه الاضطرابات على عرش السلطنة وتعرض بعض السلاطين للقتل ، واهتز مركز الدولة اهتزازا شديدا، حتى أنه تعاقب على عرش السلطنة خلال ثلاث سنوات من 1498 إلى 1501م، أي منذ وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي حتى تولي السلطان قانصوه الغوري العرش أربعة سلاطين هم على التوالي:
- الناصر محمد بن قايتباي (في سلطنته الثانية) 1497 - 1498م.
- الظاهر قانصوه الأشرفي (1498 - 1500م).
- جانبلاط (1500 - 1501م).
- العادل طومان باي (1501م).
لم يكن المماليك في صراعاتهم تلك وفي غمار الفوضى التي عمت البلاد يتابعون تطورات العالم الخارجي وخصوصا الأوروبي في محاولته البحث عن طريق تجاري آخر لبضائع الشرق الهندية وغيرها وبالتالي لم يعلموا بقيام حركة الكشوف الجغرافية البرتغالية ولم يجد سلاطين المماليك الضعاف متسعا من الوقت لتوجيه جهود الدولة للتصدي للوجود البرتغالي في المحيط الهندي وسواحله . وكيف كان يمكن لذلك أن يتم ومعظم السلاطين الذين تولوا السلطنة في تلك السنوات انتهى أمرهم إما بالقتل أو بالسجن أو بالخنق، مما جعل كبار أمراء المماليك لا يرغبون في اعتلاء عرش السلطنة الذي صار ملطخا بالدماء. ولهذا تمنع الغوري - رغم كونه أقوى المماليك - عن قبول المنصب، بل أنه أخذ يبكي - كما يقول إبن إياس - إلا أنه قبل تولي المنصب أخيرا بعد أن "سحبوه وأجلسوه بالقوة"، ولكنه اشترط على أمراء المماليك الجراكسة ألا يقتلوه وقال "أقبل بشرط ألا تقتلوني، بل إذا أردتم خلعي وافقتكم".
ولكن الغوري الذي تولى السلطنة عام 906 هـ (1501م)، والعدو البرتغالي على أبواب الهند التي كان يدكها - كابرال - بمدافعه ويهدد الوجود العربي الإسلامي هناك، واجهته منذ اليوم الأول لتوليته نفس الأزمات السابقة فقد طالبه الجنود بنفقة البيعة كما تعودوا عند تنصيب كل سلطان، وأحدثوا الشغب وهاجموا بيوت القادة وكبار المسئولين وأحرقوها ونهبوا ما فيها من أموال. وحاول الغوري تهدئتهم بالوعود، ولكن شغبهم ظل يتجدد مرة تلو الأخرى لفراغ الخزانة ولشح الغوري نفسه وسوء تدبيره. ولذا فرض ضرائب جديدة على الناس والتجار ولم يفته أحد من أعيان التجار، كما يذكر ابن إياس، حتى صادره وأخذ أمواله، ,صادر حتى أمير المؤمنين الخليفة العباسي وأخذ منه مالا.
في هذه الأجواء العاصفة من أزمات الدولة المملوكية طرقت أبواب القاهرة أنباء الغزو البرتغالي للمياه العربية في المحيط الهندي بعد خمس سنوات من رحلة فاسكوا داجاما. ورغم مشكلات الدولة والسلطان الجديد، إلا أن حكومة الغوري حاولت أولا معالجة الموقف الخطير هذا بالوسائل السلمية الدبلوماسية من جهة بينما كانت تشرع في إعداد الوسائل الحربية لمواجهة الغزو من جهة أخرى.
ولا أدل على الضرر الذي أصاب المماليك والبنادقة جراء تحويل طرق التجارة إلى رأس الرجاء الصالح واحتكارها من قبل لشبونة، أنه في نفس العام 1502م عادت سفن البندقية المرسلة إلى بيروت بأربع بالات من الفلفل فقط، وفي الإسكندرية لم تزد الكميات التي أفلتت من البرتغاليين، بالإضافة إلى المخزون منها والمتبقى من العام السابق عن حمولة سفينتين أو ثلاث من خمس سفن، بينما في عام 1504م عادت سفن البندقية من مصر خالية تماما، وهو أمر لم يحدث من قبل.
ورغم مساعدة البندقية للمماليك ببعض الأخشاب والخبراء الفنيين لبناء أسطول مصري يصلح للقتال في البحار العالية والمحيطات، ورغم تفكير البنقدية في مشروع لشق قناة بين السويس والبحر الأحمر، إلا أنها في النهاية وتحت ضغط تدفق الثروات الشرقية على مخازن لشبونة، اضطرت للانسياق وراء التيار العام، وراحت - كبقية بلاد الغرب - تشتري التوابل من أسواق لشبونة، مما جعل الغوري يعتمد على إمكاناته الذاتية أولا ومساعدة الدولة العثمانية أيام السلطان بايزيد الثاني والحكام المسلمين بالهند ثانيا.
ولجأ الغوري بالإضافة إلى ذلك لبعض الأساليب السياسية والتهديد، فوجه نداء
)))))حتى هنا______ إلى البابوية في روما يطلب منها منع البرتغاليين والاسبان من التعرض بسوء للمسلمين في المشرق والمغرب، وهدد بحرمانهم من زيارة كنيسة القيامة في القدس واغلاقها في وجوههم والقبض على رجالها وبعض النصارى في مصر والشام. ولكن يبدو أن القوى الأوروبية والبابوية لم تتأثر بذلك التهديد الأجوف آنذاك، لأنهم كانوا يعرفون قوة السلطان وضعف بلاده اقتصاديا. وقد كان هذا الواقع فعلا هو ما أخر الغوري في بدء الاستعدادات العسكرية لطرد البرتغاليين من البحار الشرقية وحماية طرق التجارة عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر.
ومن هنا اعتمد الغوري بداية على ثلاث مصادر للأخشاب، من الشام وجبالها وغاباتها، والبندقية وصناعاتها الخشبية، والدولة العثمانية. وبينما كان الغوري يستعد لبناء أسطوله الحربي للخروج به إلى المحيط الهندي لأول مرة، وصلته استغاثات من سلطان كجرات (محمود ببيكر مظفر شاه) الذي سبق أن طلب أيضا معونة الزامورين في كاليكوت ضد البرتغاليين، ووصلت أيضا تحذيرات من حكام اليمن الطاهريين تشير إلى اقتراب البرتغاليين من سواحل بلادهم عندما قام القائد البرتغالي فسنت سودري بعمليات القرصنة في الجنوب العربي، وقرب جزيرة سوقطرة، وقد وصلوا عم 908 هـ (1503م) إلى سواحل عدن ونهبوا سبعة مراكب وقتلوا أهلها. وفي هذا يقول ابن الديبع: "قويت شوكة المفسدين في قطع طرق المسلمين في البحر بطريق الهند وهرمز، وكان أعظمهم ضررا طائفة الأفرنج البرتغاليين فإنهم فعلوا بالمسلمين الأفاعيل وأخذوا كل سفينة غصبا واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم ونسائهم وأولادهم واستمروا في ذلك زمنا فبعث أهل مدينة عدن الخبر إلى السلطان الغوري يستطيعون على الفرنج". فبعث الغوري بدوره - كما يقول ابن إياس - في حوادث سنة 916هـ الطواشي (بشير)، موفدا من قبله إلى السلطات الإسلامية في الهند يطالبهم بوحدة الصف الإسلامي "وأن يكونوا في عونه على قتال الفرنج الذين صاروا يتعبثون بسواحل بلاد الهند، وقد كثير منهم الفساد هناك وبلغت عدة المراكب التي يتعبثون بها في السواحل نحوا من خمسين مركبا."
أراد المماليك الدخول في معركة حاسمة مع البرتغاليين لإثبات وجودهم في البحر الأحمر والمحيط الهندي ولحماية طرق التجارة الشرقية، عصب الحياة لدولتهم. وهنا أدرك المماليك أنه لابد لهم من مراكز تجارية وعسكرية لتعزيز حملاتهم العسكرية ضد خصومهم البرتغاليين، ولذا فكروا بالاهتمام بتحصين ميناء جدة التجاري والتركيز على حماية ميناء عدن الاستراتيجي في مدخل البحر الأحمر.
خرجت حملة الهند المملوكية في نوفمبر 1505 م (جمادى الآخرة 911هـ)، وكان العسكر الذي خرج في هذه التجريدة ملفقا ما بين أولاد الناس _المصريين - وبعض مماليك سلطانية والغالب منهم مغاربة وعبيد سود رماة، وتراكمة وغير ذلك. وأرسل السلطان بصحبتم جماعة كثيرة من البنائين والنجارين والعمال وذلك لحماية تلك الأبراج التي أنشأها السلطان في جدة ولانشاء السور حولها لحمايتها من الغزو الأجنبي، "فكان باش المماليك الذين توجهوا في المراكب إلى جدة والتركمان والعبيد بها حسين المشرف، توجهوا نحو السويس ونزلوا هناك. وقد جهز لهم السلطان عدة مراكب مشحونة بالزاد والسلاح وغير ذلك".
وسنذكر تفاصيل هذه الحملة المملوكية باعتبارها أول حملة بحرية إسلامية خرجت من السويس إلى الهند لمساعدة سلاطين المسلمين بها على حرب البرتغاليين ولطردهم من البحار الشرقية ، ولأنها الحملة الوحيدة التي قامت بمهمتها خير قيام من بين جميع الحملات التي تلتها - حتى العثمانية منها - ذلك على الرغم من هزيمتها في المعركة الثانية ضد البرتغاليين.
فقد وصل حسين الملقب بالكردي لأصله العرقي، ومعه مراكبه، كما يذكر نجم الدين اليمني "في ثلاث برشا، وثلاثة أغربة، من جدة إلى الجهات اليمانية ولم يعلم أحد مقصوده حتى مر بباب المندب فلما قرب من عدن ، أنزل سنبوقا فيه قاصد من قبله إلى الأمير مرجان الظافري حاكم عدن يستأذنه في الدخول إلى حقات فأذن له، فدخل في غاية ما يكون من الأدب لم يضرب نفطا (مدفع) ولا دق طبلا ولا شوش ولا غلوش، فلما استقر بالبندر، أرسل إليه الأمير مرجان يسأله قبول ضيافته، فرد عليه بأنه لولا أني مأخوذ علي من قبل السلطان قانصوه ألا أدخل عدن لدخلت إليك ومثلت بين يديك، ولكن لا يمكن مخالفة أوامر السلطان، واستأذنه في شحن ما يحتاج إليه من الماء والحطب وغير ذلك لأنه متوجه إلى الهند ، فأذن له الأمير مرجان بذلك، وتوجه حسين المصري وعساكره إلى بندر الديو بسبب قتال الأفرنج الذين ظهروا في البحر وقطعوا طريق المسلمين".
وقد كانت رحلة حسين الكردي بتلك السفن الصغيرة والقليلة العدة، تعتبر مغامرة مملوكية جرئية ضد البرتغاليين آنذاك. ومع ذلك فقد وصلت تلك الحملة المملوكية بسلام إلى الهند، وهذا يدل على أن السيطرة البرتغالية لم تكن قد اشتدت كثيرا في جنوب شبه الجزيرة العربية والطريق إلى الهند.
وعندما وصلت السفن المملوكية انضمت إليها في الحال مراكب حاكم جزيرة الديو "مالك أياز" ، وبعض القطع البحرية التابعة للممالك الإسلامية في الهند مثل سلطنة الكجرات وبعض قوارب الزامورين حاكم كاليكوت، ووصل عدد هذه القطع البحرية إلى حوالي مائة سفينة صغيرة وكبيرة. وتولى قيادة هذه المجموعة المملوكية والهندية القائد حسين الكردي ومالك أياز بهدف القضاء على الوجود البرتغالي العسكري في ساحل المليبار نهائيا. وقد قرر حسين الكردي أن يتخذ من جزيرة ديو قاعدة دائمة لهجومه ضد البرتغاليين في المياه الهندية. وتصادف في تلك الفترة وجود ابن نائب الملك البرتغالي في الهند لورانزو دالميدا في المياه الهندية القريبة من ديو ومعه أسطول برتغالي مسلح، فتحرك فورا بعد تلقيه تعليمات من والد فرانسسكو داليمدا لملاقاة هذا الخطر الإسلامي الجدي.
التقى الأسطولان البرتغالي والإسلامي المتحالف عند ميناء شيول فو جنوب سلطنة كجرات عام 913 هـ (1508م)، ودخل الطرفان في معركة كانت في جملتها كما يذكر بانيكار حرب مدفعية بين السفن. وقد حاول البرتغاليون بقيادة لورانزو، وتحت ستار من القصف المدفعي، القيام بمحاولة إنزال على ظهر الأسطول المصري بالذات، إلا أنهم فشلوا. واستمرت المعركة المتقطعة - كما يبدو - يومين أو ثلاثة، حتى عزم البرتغاليون على الفرار خوفا من الهزيمة، إلا أن قذيفة مصرية ذكية أصابت سفينة القيادة البرتغالية فقتل ابن نائب الملك لورانزو وقتل معه حوالي مائة برتغالي.
وقد انتهت معركة شيول بتدمير معظم سفن الأسطول البرتغالي ما عدا سفينتين استطاعتا الهرب تحت ستار النيران ولجأتا إلى كوشين وأخطرتا فرانسيسكو دالميدا بمقتل ولده وهزيمة الأسطول البرتغالي على يد الأمير حسين الكردي المملوكي. فغضب دالميدا وأرسل رسالة إلى الملك أمانويل يخبره ما حذق وقرر الانتقام، واعتبر حسين الكردي هو المسئول الأول عن هذه الكارثة التي حلت بالبرتغاليين في المياه الهندية لأول مرة، وذاقوا مرارة الهزيمة التي لم يتعودوها بعد في هذه المنطقة، ذلك أن عدوا مسلما يكافئهم في العتاد ويفوقهم في المهارة الحربية قد برز لهم في المياه الهندية. وعاد بعد هذه المعركة حسين الكردي والمتحالفين معه إلى بندر الديو حيث أقام فيه شهورا أثناء فصل المطر لاصلاح العطب الذي أصاب بعض سفنه من جراء قصف المدفعية البرتغالية. وأثناء ذلك وعندما سمع الزامورين بأخبار الانتصار أرسل إلى الكردي من كاليكوت أربعين غرابا صغيرا كمساعدة أخرى له ضد البرتغاليين.
وقد تملك دالميدا الغضب وشهوة الانتقام لمقتل ابنه على يد الأسطول المملوكي لدرجة أنهن رفض تسليم منصبه كنائب للملك في الهند للقائد أفونسو دا البوكريك الذي أطلعه على رسالة بهذا الخصوص من الملك أمانويل الأول ودعم هذا الكلام رسالة أخرى جاء بها أسطول برتغالي مكون من خمس عشرة إلى سبع عشرة سفينة حربية بعث بها الملك كدعم للأسطول البرتغالي في الهند بعد سماعه أنباء هزيمة الديو وخوفه من أن يتحول حلمه في البحار الشرقية إلى كابوس رهيب، رفض دالميدا تنفيذ الأمر الملكي بالعودة إلى لشبونة على ظهر أقرب سفينة تجارية برتغالية قادمة من الهند، إلا بعد الانتقام لمقتل ابنه لورانزو من الأسطول المصري.
أعد دالميدا أسطوله البرتغالي وأضاف إليه بعض القطع التي قدمت من البرتغال فحصل بذلك على مدد جديد تحت يده حوالي تسع عشرة سفينة حربية مجهزة بالمدفعية وأكثر من ألف ومائتي جندي، فخرج يريد الأسطول المصري واستولى في طريقه على الديبل وسلها، ثم هاجم سلطنة كجرا من الساحل انتقاما لمقتل ابنه ومساعدتهم للكردي.
وعندما بلغ الأمير حسين نبأ وصولهم، خرج بسفنه دونما استعداد تام ومعه بعض سفن المليباريين ومالك بن أياز واشتبك أسطول دالميدا مع الأسطول الإسلامي المتحالف عند ميناء ديو في الثالث من فبراير عام 1509م، ويذكر سرجينت أن المؤرخين البرتغاليين باروس وكاستنهيدا اتفقا على أن الحاكم العام للهند دالميدا لم يهاجم ديو، بل قام باتصالات سرية مع حاكمها مالك أياز.
وعندما بدأ القتال بين المماليك والبرتغاليين لم تكن للمعركة نتيجة فورية حاسمة، ولم يستطع أي من الطرفين ادعاء النصر لنفسه. بيد أن الأسطول المملوكي أحبطته خيانة حاكم الديو، فقرر الانسحاب، ولجأ حسين الكردي مع ما تبقى من أسطوله إلى سلطنة كجرات، واعتبر المؤرخون ذلك هزيمة له، ون هنا وصلت الأخبار إلى القاهرة في صفر عام 915 هـ (مايو 1509م)،"بهزيمة الأسطول المصري في الهند وتعرضه لكسرة فاحشة وقتل العسكر المصري عن آخره".
بهزيمة الأسطول المصري ثم رحيله عن المياه الهندية بعد عام 1509م، يمكن القول بأن البرتغاليين قد ثبتوا ادعاءهم بأنهم سادة الملاحة في البحار الشرقية، وصارت منذ ذلك لوقت تجارة المياه الهندية تحت رحمتهم مدة تربو على قرن ونصف القرن من الزمان.
والسؤال الذي يفرض نفسه عقب هذه المعركة المصرية في تاريخ الصراع الإسلامي - البرتغالي الأوروبي في بحار الشرق هو: ما هي أسباب انتصار الأسطول المملوكي في شيول 1508م، وهزيمته السريعة في ديو 1509م، في نفس المياه الهندية؟ وما يتفرع من هذا السؤال أيضا، لماذا بقى أسطول حسين الكردي أكثر من سنة في المياه الهندية بعد انتصاره في المعركة الأولى ولم يبدر بمتابعة انتصاره بمعركة أخرى ضد البرتغاليين ويعمل على تصفية وجودهم الهزيل في الهند؟ بل أتاح بذلك لهم الاستعداد التام للانتقام من المصريين بعد أكثر من عام، بينما كان مجال الانسحاب على - سبيل المثال - أمام الأسطول مفتوحا للعودة إلى عدن أو البحر الأحمر أو السويس؟ ثم كيف استطاع الأسطول الصغير المكون من عشر سفن - كما جاء في بعض المصادر - الوقوف والثبات في وجه فرانسيسكو داليمدا عندما هاجمه بعد أكثر من سنة والخروج من المعركة لا غالب ولا مغلوب كما ذكر بانيكار، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدها كل منهما والاستعدادات الجيدة التي اتخذها دالميدا قبل المعركة والامدادات التي جاءته من البرتغال، أما الجانب الآخر المملوكي فلم يتلق بالمقابل أي مدد من القاهرة بل على العكس فإن اتصالاته بالقاهرة كانت مقطوعة قبيل المعركة.
والقضية الشائكة الأخرى في هذا السياق، هي موقف مالك أياز من حسين الكردي أثناء المعركة، فما الذي حدث أثناء فترة توقف القتال لمدة عام واستراحة الأسطول المملوكي في الديو بين حاكم الجزيرة والأمير حسين مما جعله ينقلب عليه بهذا الشكل ويقف مع البرتغاليين ويسلمهم الأسرى ويمدهم بالمؤنة هل هو الخوف فعلا من انتقام هؤلاء الصليبيين الجدد فيما لو رفض مساعدتهم كما يذكر سرجينت، ثم كيف تمت المساعدة فعلا قبل المعركة وأثناءها أم بعدها؟ فاعتمادنا على معلومة المحادثات السرية بين أياز ودالميدا تعود لمصادر برتغلية أساسا!! والأرجع أنه حدث خلاف بين الرجلين - أياز والكردي - وهذا ما يتضح عندما رفض الأمير حسين الاستماع لنصيحة حاكم الديو بالبقاء في الجزيرة لحماية ظهره أثناء نشوب القتال، فتولدت كما يبدو حالة عدم ثقة بين الرجلين، وكلاهما مملوك أصلا، مع أن بعض المصادر الأوروبية تعزو خروج الأمير حسين لعرض البحر لمنازلة دالميدا ، لغروره والاعتداد بقوته والاستهانة بقوة خصومه البرتغاليين، ثم ما هي قصة ارسال لشخص يدعى سيد علي للتفاوض مع دالميدا من قبل الأمير حسين، كما يذكر المؤرخ البرتغالي سوسا وما هي نتيجة تلك المفاضوات ولماذا انسحب الأسطول المصري إلى الكجرات؟
كل تلك التساؤلات والنقاط الغامضة في هذا الحدث تحتاج إلى أجوبة دقيقة تعتمد بدورها على مصادر حقيقية لمعرفة سبب هزيمة الأسطول المصري بقيادة حسين الكردي وانسحابه إلى الكجرات وبقائه هناك مدة من الوقت حتى طلب منه سلطانها مغادرة السلطنة بطريقة دبلوماسية، حيث شحنوا له سفنه الثلاث التي بقيت من أسطوله بالتوابل والأقمشة وغيرها من البضائع لكي يستعمل ثمنها في تحصين ميناء جدة والدفاع عنه ضد البرتغاليين، ورافقته إلى الحجاز بعض السفن الكجراتية، ولعلها صحبته لتتأكد من مغادرته نهائياً.
حملة الهند الثانية
يبدو أن السلطان الغوري قد استلم رسالة من الأمير حسين، كما يذكر ابن إياس، في شعبان عام 914 هـ. وربما كانت تلك هي الرسالة الوحيدة التي بعث بها الكردي من الهند إثر انتصاره الأول على الأسطول البرتغالي بعد معركة شيول عام 1508م. وقد طلب حسين في رسالته عسكرا ثانيا حتى يتقوى به على من بقى من عسكر الفرنج كما طلب سفنا جديدة تعوضع عما فقده من سفن. ومن هنا نجد السلطان وقد شرع في اعداد حملة جديدة في السويس سميت أيضا بتجريدة الهند، ويمكن أن نعتبرها الثانية حيث يحدثنا ابن إياس عنها قائلا: "إن علاء الدني ناظر الخاص، خرج في المحرم سنة 915هـ، وتوجه إلى نحو الطور لأجل عمارة المراكب التي أنشأها السلطان هناك بسبب تجريدة الهند". والتاريخ المذكور هنا سابق على تاريخ وصول الأنباء بانكسار الأسطول المصري في الهند (26 صفر 915هـ) بما يقرب من شهر ونصف الشهر، أي أن اهتمام الغوري بانشاء أسطوله الجديد في السويس لم يأت نتيجة لانسحاب الأسطول المصري من المياه الهندية.
وقد أخذ الغوري يواصل إنشاء أسطوله لحملة الهند الثانية رغم عودة حسين الكردي مهزوماً من المياه الهندية، وذلك لازدياد هواجس السلطان من الأنباء التي وصلت لمسامعه القائلة بأن البرتغاليين عازمون على الاستيلاء على الحجاز وتدمير الأماكن الإسلامية المقدسة فيه. وكان مما أكد له هذه الهواجس، بالإضافة للحروب الكلامية التي بدأتها حكومة لشبونة آنذاك، أن الشريف بركات أمير مكة أرسل للغوري في شهر جمادى الأولى 916هـ (أغسطس - سبتمبر 1510م)، رسالة يذكر فيها أنه قبض على ثلاثة أشخاص تسللوا إلى داخل مكة متظاهرين بأنهم مسلمون، فارتاب فيهم رغم زيهم التركي، وعندما كشف من ملابسهم وجدهم بغير ختان!! وبذلك تأكد بأنهم غير مسلمين ومن النصارى "وأنهم دواسيس (جواسيس) من عند بعض ملوك الفرنج فقبض عليهم ووضعهم في الحديد وبعث بهم إلى السلطان الغوري".
ولم ييأس السلطان الغوري وسط الظروف الصعبة التي كانت تعيشها دولة المماليك آنذاك، فرغم الأزمات الحادة والخانقة التي تحيط به والتي لا حصر لها فقد قام بتوفير الأموال من جديد من أجل بناء أسطول الحملة الثانية للهند، وقد تكبد الشعب المصري الأمرين حتى تم تجهيز الحملة حيث دفع أموال الضرائب بشكل متزايد ولم يبخل على جيش المماليك الذي أعد للذهاب مع الحملة الثانية. وقد استغل الغوري أيضاً حالة الوئام التي كانت تعيشها الدولتان العثمانية والمملوكية في تلك الفترة من حكمه، فأرسل يطلب العون من جارته المسلمة الكبرى، بعد اعتذار شريكته في التجارة - البندقية - منعا للاحراج الذي كانت تشعر به أمام حكومات أوروبا وشعوبها النصرانية حين تقدم مساعداتها للمسلمين.
إلا أن الحملة المملوكية للهند تأخر خروجها حتى عام 921 هـ لأسباب عديدة مرت بها القاهرة في تلك الأثناء منها قلة الموارد الاقتصادية للدولة مع ازدياد الحصار البرتغالي لطرق التجارة الشرقية التي كانت تصب في خزينة الدولة المملوكية، ولانشغال الغوري نفسه في إخماد حركات العصيان بين صفوف جنوده في القاهرة، حيث قام المماليك الأجلاب بنهب بيوت الأمراء وأسواق القاهرة وإحراق البيوت.
ويبدو أن أخبار هذه الاستعدادات المصرية وصلت إلى نائب الملك في الهند آنذاك أفونسودي البوكريك عام 1512م، فأخذ يعد العدة لتوجيه حملة إلى البحر الأحمر. وهذا ما كتبه إلى سيده أمانويل الأول بتاريخ 1 إبريل 1512م "إن أعظم ما يتهدد جوا من الكوراث هي الأنباء الملحة المتواصلة عن مجئ الروم (المصريين)، إنها مصدر خطر عظيم على الهند، وتسبب للمواطنين والنصارى على السواء كثيرا من القلق وعدم الاستقرار، وما لم نذهب إلى البحر ونثبت لهؤلاء الناس، أنه لا يوجد من المخلوقات ما يسمى بالروم فلن يشعر رعاياكم بالسلام في هذه الأطراف".
ولم ينتظر البوكريك بعد هذه الرسالة طويلا، فقد انطلق عام 919 هـ (1513م) على رأس حملة بحرية كبيرة ليستولى على عدن ويغلق مدخل البحر الأحمر في وجه التجارة المملوكية ويوقف الحملة المزمع ارسالها إلى الهند من السويس.
وعندما علم الغوري بوصول البوكريك إلى البحر الأحمر رغم هزيمته أمام أسوار مدينة عدن، أرسل على الفور قائده البحري حسين الكردي ومعه جماعة من الجند ليتوجه إلى جدة ويستقر في نيابتها على عادته وعين أميرا آخر ليسافر أيضاً معه تكون مهمته كشف أخبار الفرنج وحماية الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأمره بالبقاء هناك إلى أن يتم تجهيز حملة الهند بكاملها، ذلك على الرغم من أن أوضاع القاهرة كانت تيسير من سيء إلى أسوأ.
ويبدو أن البوكريك قد وصلته أنباء توجه الكردي والجنود على عجل إلى جدة أثناء تواجده في البحر الأحمر فتجنب القائد البرتغالي الاصطدام بالمماليك وقفل راجعا إلى عدن مرة أخرى ثم إلى الهند.
وحين انتهى الغوري من اعداد الحملة التي تكونت من عشرين سفينة من نوع الغراب، زودها بالمدافع التي حصل عليها من العثمانيين وغيرها منا الأسلحة، وكان قد أشرف على بناء هذا الأسطول، كما يذكر ابن إياس، الريس سلمان العثماني، وقيل أن نفقة البناء بلغت أكثر من أربعمائة ألف دينار، أبحر الأسطور في محرم 921 هـ (فبراير 1515م)، في نفس الوقت الذي كان فيه السلطان الغوري يستعد للخروج إلى الشام لمواجهة الزحف العثماني على الحدود الشمالية للدولة المملوكية في عهد السلطان سليم الأول العثماني.
ويعتقد الدكتور مصطفى سالم في كتابه الفتح العثماني الأول لليمن، أن الغوري ربما فكر بعد نجاح البوكريك - كأول قائد برتغالي - في دخول البحر الأحمر، أنه من الضروري الاستيلاء على ميناء عدن الاستراتيجي وإغلاق البحر الأحمر في وجه البرتغاليين حتى لا يقتربوا من جدة والاماكن المقدسة والسويس، وهذا كان أحد أهداف حملة الهند الثانية كما يبدو. ولعل في هذا الأمر ما يفسر تغير موقف السلطان اليمني (عامر بن عبد الوهاب الطاهري) من الحملة المصرية خصوصا وأنه قد سبق وأن وعد في رسائل بعث بها إلى الغوري بتقديم المساعدة اللازمة للحملات التي تجهزها القاهرة لحرب الفرنج عند مرورها بالموانئ اليمنية. ولكن عندما وصلت "تجريدة الهند الثانية" بقيادة الكردي إلى جزيرة كمران وشرعت في بناء حصن بها في شهر ذي القعدة 921 هـ (1515م) رأى السلطان عامر بن عبد الوهاب أن المماليك قد أرسلوا حملتهم تلك هذه المرة للبقاء في السواحل اليمنية بحجة حمايتها من البرتغاليين وثم هذه المرة للبقاء في السواحل اليمنية بحجة حمايتها من البرتغاليين وثم احتلالها، فلم يجد السلطان عامر من وسيلة لابعاد هذه العملة عن سواحله سوى رفض مساعدتها بالمؤنة والطعام والماء، مما أثار غضب الأمير حسين الكردي ورجاله. فكانت تلك هي الشرارة التي أشعلت حرب اليمن بين المماليك والدولة الطاهرية، وهذا ما سوف نتعرض له بالتفصيل لاحقا.
ويلاحظ أنه رغم وجود قيادة مشتركة عثمانية مملوكية ومشاركة الدولتين فعلياً في تجهيز حملة الهند الثانية عام 1515، إلا أن هذه الحملة لم تطلق قذيفة واحدة في وجه البرتغاليين ولم تغادر البحر الأحمر. ومع ذلك ظل الشعور بالخطر المصري المملوكي جاثماً على صدور البرتغاليين في المحيط الهندي يقض مضاجعهم ولم يتنفسوا الصعداء إلا عندما تطوع السلطان سليم الأول بالقضاء على الدولة المملوكية في موقعة مرج دابق 1516م ثم الريدانية 1518 م. وتوقفت بذلك النصر العثماني المحاولات الإسلامية الأولى لطرد البرتغاليين من البحار الشرقية.
الصراع بين الدول الإسلامية الكبرى على زعامة العالم الإسلامي وأثره في الأوضاع السياسية أثناء الغزو البرتغالي للمنطقة
نكبت المنطقة العربية الإسلامية في شرق العالم الإسلامي في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلادي بموجة من الصراعات والخلافات الجانبية في نفس فترة ظهور الغزو البرتغالي للمنطقة. وقد كان الحماس الديني الصليبي وهو الدافع لذلك الغزو الذي حملته سفن حديثة سريعة وقلوب تهفو للوصول إلى موطن التوابل والتجارة العالمية تدفعها أشرعة الرأسمالية الأوروبية والملكية الخاصة الصاعدة والباحثة عن موطئ قدم لإدارة دفة الاقتصاد العالمي لصالحها. فهل كان الأمر مجرد مصادفة؟ والتاريخ لا تحكمه المصادفات بهذا القدر من الكثافة والتتابع. فعند مجئ الغزو البرتغالي بعنفوانه ووحشيته إلى الشرق، انفجرت بقوة ووحشية أيضاً الحروب الإسلامية في المنطقة، ولكن تلك الحروب لم تكن ضد الغزو البرتغالي، بل بين الدول الإسلامية الكبرى، فاحتدم الصراع دموياً بين العثمانيين والصفويين حتى انتهى بموقعة جاليدران 1514م وهزيمة الصفويين. ثم تتابعت الحوادث بشكل دراماتيكي بين العثمانيين والمماليك، لتدور الدائرة على المماليك هذه المرة، ولتسقط دولتهم تحت سنابك خيل ومدفعية الأتراك العثمانيين المسلمين بين عامي 1516 - 1517 ، وهي نفس سنوات قوة الغزو البرتغالي وحملاته المتعددة ضد الخليج العربي والبحر الأحمر. ثم إذا أضفنا إلى هذه الصراعات الكبرى، تلك الحروب الإقليمية الصغيرة بين الطاهريين والزيديين في اليمن، ثم بين الطاهريين والمماليك مما أدى لسقوط الدولة الطاهرية مع سقوط المملوكية، وكذلك الصراعات والخلافات المستمرة بين الإمامة الأباضية والنبهانيين في عمان، والصراع الاقتصادي العسكري بين مملكة هرمز وإمارة الجبور الطموحين لمد نفوذهم في الخليج وشرق الجزيرة العربية، لأوجعتنا الحقيقة الماثلة أمامنا في صفحات التاريخ. وكأن التدمير جاء من الداخل قبل أن يفد من الخارج بشكل متوافق ومتجانس في ضربة واحدة وجهت للكيان العربي الإسلامي في هذه المنطقة الحيوية والمتوسطة من العالم آنذاك. ومن سخريات القدر كما يقال، أنه كلما أوغل العدو البرتغالي تقدماً في الأراضي الإسلامية في البحار الشرقية، كلما ازداد الصراع بين الدول الإسلامية في مشرق العالم الإسلامي عمقاً ودموية.
الصراع العثماني الصفوي
بعد أن بزغ نجم الصفويين في إيران بدأ للصراع المذهبي - السياسي بين الدولتين العثمانية والصفوية، وتحول تدريجياً من صراع أفكار وعقائد إلى صراع دموي مدمر على الأرض في عهد السلطان العثماني سليم الأول العثماني. وبتتبع كتب ودراسات المؤرخين الأتراك والصفويين نجد أن كل طائفة منهما تلقى اللوم على الطرف الآخر في افتعاله الفتنة وقيام الحرب بين الدولتين الإسلاميتين. ولكن يمكن التأكد على حقيقة مهمة في العلاقات الصفوية العثمانية إبان حكم بايزيد الثاني (1481 - 1512م) وهي أنه لم يسمح للجيش العثماني، برغم قوته، بالهجوم على الصفويين في إيران باعتبار أنهم يشكلون دولة إسلامية أساساً. وفي نفس الوقت فقد كان بايزيد يحاول كسب ود الصفويين عن طريق الحوار والهداي للشعراء والمثقفين الإيرانيين، وبالفعل كاد أن يقوم تعاون بين الجانبين الصفوي والعثماني في مستهل القرن السادس عشر (1504م) لولا تدهور الأحوال سريعاً بعد ذلك.
ويمكننا تلخيص الأسباب التي أدت للنزاع الصفوي - العثماني وتحوله إلى حروب عنيفة على الأرض بالنقاط التالية:
1- الصراع المذهبي في الأفكار والمعتقدات.
2- خوف الدولة العثمانية من التقارب الصفوي المملوكي على وجودها كدولة إسلامية كبرى ترغب في زعامة العالم الإسلامي.
3- سعي الصفويين للتحالف مع القوى الأوروبية ضد الدولة العثمانية.
4- النزاعات الحدودية الدائمة بين الدولتين بسبب تداخل الحدود والقبائل التركمانية بين الجانبين وتنقل ولائها بحسب مصالحها.
ولا شك أن المخاوف التي سادت العثمانيين من انتشار المذهب الشيعي الذي تعتنقه الدولة الصفوية الناشئة، كانت في محلها، خصوصاً - على الأقل - بالنسبة لزعزعة حكم الدولة العثمانية وسيطرتها على شرق الأناضول، ولاسيما أن السلاطين العثمانيين كانوا يعانون الأمرين من أولئك البدو الأتراك القاطنين في شرق آسيا الصغرى الذين كانوا يمتميزون بعدم النظام والفوضوية وبعدوانهم المتكرر على الأراضي الزراعية والفلاحين في تلك المناطق المتخامة لأملاك الصفويين. ومما زاد ذلك التخوف لدى حكام الدولة العثمانية، أن تستطيع الدعوة الشيعية التغلغل بين جموع أولئك البدو الفقراء، وبالتالي تحولهم إلى أداة عسكرية في يد الصفويين ضد آل عثمان؛ أضف إلى ذلك أن المذهب الشيعي قد انتشر أساساً منذ عهد بايزيد الثاني في جبال طوروس. بل أن المذهب الشيعي قد هدد الأسرة العثمانية نفسها. فقد وقع تحت تأثير الدعاية لهذا المذهب في أرجاء الدولة العثمانية، الأميران (شاهنشاه ومراد) ابنا الأمير محمد، شقيق السلطان سليم الأول نفسه، والمقرب لوالده بايزيد الثاني، وكان هذا معناه تهديد الدولة من الداخل فضلاً عن التهديد الخارجي لها.
إلا أن الشرارة التي أشعلت الفتيل الخامد بين الصفويين والعثمانيين انطلقت في نهاية حكم بايزيد الثاني، إثر حركة تمرد ثورية شعبية قام بها بدو الأتراك الذين تخوف منهم العثمانيون في شرق الأناضول. وكانت تلك الحركة ذات مضمون وتوجه شيعي فيما يبدو. فقد اكتشف العثمانيون أن وراء تلك الثورة أيدي خفية تحركها تمت بصلة إلى الشاه إسماعيل الصفوي، كما يذكل ذلك معظم المؤرخين الأتراك. ومما أكد صلة الثورة بالصفوين، أن قائدها ويدعى حسن أوغلو لقب نفسه أثناء حركة التمرد تلك، بلقب شاه قولي ومعناه عبد الشاه وأعلن أنه من مريدي الشاه إسماعيل الصفوي ومن أتباعه.
واجهت الدولة العثمانية وبالذات فرق الانكشارية في الجيش العثماني المؤيدة لسليم الأول هذه الثورة، وبعد معارك طاحنة مع أتباعها وخسارة كبيرة لكلا الطرفين استطاع الجيش العثماني أن يهزم الثورة ويطرد شاه قولي وأصحابه خارج الأناضول تماماً حتى وصلوا إلى الأراضي الإيرانية.
وعندما استلم السلطان سليم الأول العرش في استامبول وأبعده والده عن الحكم في انقلاب عائلي عام 1511 م، بدأ يعد العدة لمهاجمة الدولة الصفوية حتى لا تظل تسبب القلاقل لملكه، خصوصاً وأن الشاه إسماعيل الصفوي كان قد احتضن أحد أخوة سليم وهو مراد بعد أن فرن من وجه أخيه الذي دبر مذبحة كبيرة لإخوته وأولادهم من أجل الحفاظ على عرشه وفقا "لقانون نامه آل عثمان"، وعندما طالب سليم الشاه بإرجاع أخيه مراد رفض الأخير تسليمه إليه.
وبعد أن تتبع السلطان الشيعة في الدولة العثمنية وفي الأناضول بالذات، وأخذ يعمل على ازاحتهم قتلا ونفيا وتهجيرا، وأصدر فتوى من قبل شيخ الإسلام في استامبول تقول بأن الشيعة خارجون عن الدين الإسلامي، ولذا فإن من الضرورة محاربتهم أينما كانوا، وأن الصفويين من أعداء الأمة الإسلامية.
وفي أغسطس من عام 1514م، وقعت المعركة العسكرية الفاصلة والحاسمة بين العثمانيين والصفويين في جالديران أو شالديران، وبسبب تطور التقنية العسكرية في العدد والجنود لدى العثمانيين فقد انهزم الصفويون شر هزيمة واندحروا، وكاد الشاه أن يقتل في المعركة. ودخل السلطان سليم الأول عاصمة الصفويين تبريز واحتلها في سبتمبر 1514م.
وقد ترتب على هزيمة الصفويين في جالديران، أن هبطت الدولة الصفوية من دولة من الدرجة الأولى في المشرق الإسلامي إلى دولة من الدرجة الثانية، فأخذت تسعى جاهدة بكل الطرق للثأر من العثمانيين والكيد لهم، وذلك بالتحالف مع القوى الأوروبية المناهضة للمسلمين في مطلع القرن السادس عشر في عصر الكشوف الجغرافية. وقد رحبت تلك القوى الصليبية بدورها بهذا التعاون والتحالف بخاصة البرتغاليون الذين سارعوا لعقد الاتفاقيات مع الشاه إسماعيل الصفوي مباشرة بعد جاليدران - كما سيأتي ذكره - في اتفاق أفونسود البوكريك والشاه في الخليج العربي بعد سقوط هرمز عام 1515م.
الصراع العثماني - المملوكي
كان الصراع العثماني الصفوي هو المسئول عن تولي سليم الأول عرش السلطنة العثمانية عام 1512م. ويبدو أيضاً وكأن هذا الصراع هو الذي جعل سليم الأول يقرر الاستيلاء على أراضي الدولة المملوكية، وذلك لأسباب استراتيجية وضحت أثناء حرب سليم ضد الشاه إسماعيل ومن وجود أملاك الدولة المملوكية المصرية بين الصفويين والعثمانيين. فلو كانت موانئ قليقيا تحت سيطرته أثناء تلك الحرب لوفرت له طريقاً بحرياً يمكنه من تموين حملته ضد الصفويين بشكل متتابع وبصورة أجدى مما كان عليه الوضع أثناء موقعة جالديران واضطره للانسحاب بعدها إلى الأناضول وعدم مقدرته على اكتساح إيران كلها. ولربما كان هذا هو السبب الذي جعل السلطان سليم يخطط للاستيلاء على أراضي الدولة المملوكية كي يستطيع السيطرة على أملاك الدولة الصفوية في الحرب التالية حيث يتحتم عليه أن يعد الأرض التي ستوصله لهدفه ذاك ويزيح من أمامه كل عقبة يمكن أن تقف في طريقه، وخاصة بعد أن تأكد سليم من وجود تعاون بين المماليك والصفويين.
وكما كان لجوء أخوة السلطان العثماني - هرباً من القتل - إلى الدولة الصفوية في إيران سبباً من أسباب الحرب الصفوية العثمانية، كذلك فإن لجزء المطالبين بالعرش العثماني من أخوة السلطان محمد الفاتح العثماني والسلطان سليم الأول في فترات مختلفة إلى مصر كانت من أسباب الصراع المملوكي العثماني، بالإضافة إلى المنافسة الشديدة على الإمارات الحدودية المجاورة لكلا الدولتين كإماراتي [ذو القادر، وقرامان]. وتكررت اعتداءات الحدود بين كر وفر خلال أعام 889هـ (1483م) و890هـ (1491م) في عهد السلطان قايتباي المملوكي والسلطان بايزيد العثماني. ولكن العلاقات المملوكية العثمانية سرعان ما تدهورت وبشكل سريع عندما تولى الحكم السلطان سليم الأول، وقد كان ميالاً لسفك الدماء - كما يذكر محمد فريد بك - فبدأ عهده بقتل جميع أخوته وأولادهم الذكور حتى لا ينافسوه في الحكم، ومنهم الأمير أحمد، وقتل بعد ذلك سبعة من وزرائه لأسباب واهية، كقتله وزيره الصدر الأعظم (يونس باشا) الذي كان فتح مصر على يديه.
وقد تجمعت عدة نذر في سماء العلاقات بين سليم الأول وقانصوه الغوري عكرت صفو الأجواء السياسية بينهما وأدت أخيراً لنشوب الحرب، ومن تلك النذر:
- إجارة السلطان قانصوه الغوري للأمير قاسم، ابن الأمير أحمد الذي قتله سليم حفاظاً على عرشه، كما أجار الشه في الوقت نفسه الأخر الثاني لقاسم وهو الأمير مراد. وقد حاول السلطان سليم قتل أخويه فلم يفلح بسبب هروبهما، وعندما طالب سليم المماليك تسليم قاسم رفض الغوري ذلك، فأضمر سليم شراً للغوري واتهمه بجعل القاهرة مأوى للعصاة والفارين من وجه الدولة العثمانية.
- تواتر المراسلات المملوكية والتودد للشاه إسماعيل الصفوي عدو العثمانيين الأول، رغم أن الأمر لم يزد عن تبادل تلك المراسلات والوعد بالتحالف سوياً في حالة الخطر. ومع أن الشاه حاول جعلها محالفة دافع وهجوم بين البلدين ،ولكن الأمر لم يتم لبعد ما بين الدولتين المملوكية والصفوية من آراء واعتقاد في المذهب. وزاد الأمر سوءاً عندما سمح الغوري للوفد الذي أرسله الشاه إسماعيل إلى جمهورية البندقية أن يمر عبر أراضيه عن طريق الشام. والمعروف أن هدف هذا الوفد كان عرض التعاون مع البندقية - المتضررة تجارياً من وجود العثمانيين في المتوسط - بهدف الوقوف معه ضد هذه الدولة وحربها.
- خوف السلطان سليم - القلق على عرشه - من أن يتحول التحالف الهش بين المماليك والصفويين إلى حلف سياسي وعسكري ضد الدولة العثمانية وضد شخصياً. ومن هنا بدأ السلطان بإعلان الحرب على الشاه إسماعيل أولاً ثم تفرغ للمماليك بعد ذلك.
وفي صباح يوم 25 رجب 922هـ (أغسطس 1516م) دارت المعركة الفاصلة بين المماليك والعثمانيين أو بين السلطانيين الغوري وسليم الأول في موقع مرج دابق، وكانت تلك هي المرة الثانية التي يحدد فيها السلطان العثماني مكان وزمان المعركة الفاصلة في حياة الدولتين الإسلاميتين المنافستين له في المشرق الإسلامي.
انتهت معركة مرج دابق لصالح العثمانيين، بسبب تفوقهم الحربي وكذلك بسبب الخيانة التي وقعت في جيش المماليك المفكك المنهار، بالإضافة لمقتل السلطان قاصنوه الغوري في المعركة وتخاذل بقية الجيش المملوكي المهزوم. ثم زحف السلطان سليم على مصر بتشجيع من أمراء المماليك الذين خانوا الغوري ووقفوا مع العثمانيين، وبعد عدة معارك مع نائب الغوري طومانباي في مصر، سقطت الدولة المملوكية نهائياً بعد موقعة الريدانية عام 1517م.
والملفت للنظر والملاحظ هنا في سقوط الدولة المملوكية في أيدي العثمانيين، أن السلطان سليم الأول وجه ضربته للمماليك منتهزاً فرصة الأزمة المالية والاقتصاد الضعيف الذي بدأت تعاني منه الدولة المملوكية منذ الغزو البرتغالي للشرق وتحول طرق التجارة إلى رأس الرجاء الصالح، مما أثر على إعداد الجيوش المملوكية للقتال في ميدانيين كبيرين في نفس الوقت، ونعني بهما ميدان مواجهة الغزو البرتغالي المتلاحق للبحار الشرقية ومحاولة الحفاظ على طريق البحر الأحمر التجاري بعيداً عن أيدي الأساطيل البرتغالية، وحماية الأماكن المقدسة على ساحله الشرقي. ويتمثل الميداني الثاني في محاولة صد أي غزو عثماني لأملاك الدولة المملوكية في الشام. والجدير بالذكر أن السلطان الغوري في نفس العام الذي خرج فيه لمواجهة العثمانيين في الشام 1516م كان قد أرسل قبل ذلك الحملة البحرية الثانية إلى الهند بقيادة حسين الكردي وسليمان الريس.
رأى السلطان سليم الأول الأرض مهيأة له والفرصة مناسبة لهزيمة المماليك المشغولين بالصراح في ميدان الغزو البرتغالي، فعاجل هؤلاء بضربة عسكرية حاسمة عام 1516م - 1517م، أدت لسقوط المماليك وتوقف المجهود الحربي الكبير والوحيد آنذاك لطرد البرتغاليين من البحار الشرقية وجنوب الوطن العربي. ولذا يقفز السؤال الحائر أمام هذه المسألة، لماذا اتجه السلطان سليم الأول ولأول مرة في تاريخ الدولة العثمانية لقتال المسلمين في دولة مسلمة سنية كبرى كدولة المماليك والتي كانت قد بدأت جهود عظيمة أن يضم جهوده لجهود المماليك لتحقيق الهدف الإسلامي بطرد الغزاة والحفاظ على التجارة الشرقية وطرقها لتكون في أيدي القوى الإسلامية، لا أن يحدث عكس ذلك تماماً، بشكل تم فيه تغليب المصلحة العثمانية الآنية عى المصلحة الإسلامية العامة والمستقبلية.
ويقفز السؤال الثاني ملحاً، فبعد أن استولت الدولة العثمانية على مصر والشام والحجاز وأسقطت الدولة المملوكية نهائياً ، ترى ماذا فعلت هذه الدولة العثمانية تجاه الغزو البرتغالي المتدفق على المناطق الإسلامية في شرق العالم الإسلامي الذي أخذ يستولي على كافة الموارد الاقتصادية لهذه المناطق وبالذات فيما يتعلق بطريقي الخليج العربي والبحر الأحمر التجاريين؟؟
أولاَ: يجب ذكر نقطة مهمة هنا، وهي أنه ليس صحيحاً ما يذهب إليه بعض الباحثين بقولهم إن العثمانيين فتحوا الشام ومصر وبسطوا سيادتهم على الحجاز ليقوموا بدور حماة المنطقة الإسلامية من الخطر البرتغالي. لم يزد ما فعل سليم الأول في هذا الصدد أثناء اقامته في مصر التي امتدت لثمانية أشهر تقريباً، عن عقد معاهدة في محرم 923هـ (فبراير 1517م) بينه وبين جمهورية البندقية - المتدهورة آنذاك- لتشجيع رعاياها على القدوم إلى الإسكندرية بسفنهم وبضائعهم ومباشرة نشاطهم التجاري المعهود زمن المماليك في جو من الطمأنينة والأمن. أما الاجراءات التي اتخذها سليم أثناء وجوده في مصر فهي لا تخدم هدف حماية المنطقة الإسلامية العربية من الخطر البرتغالي بأي شكل من الأشكال منها:
- عودة كل قطع الأسطول العثماني، والتي يذكر - أحمد متولي من الوثائق العثمانية - أنه كان يضم 310 قطعة بحرية مختلفة، من ميناء الإسكندرية بعد أن قضى بها 57 يوماً. عاد هذا الأسطول إلى استانبول في يوليو 1517م وعليه بعض العساكر ممن قدموا للاشتراك في فتح مصر والشام. لم يعمل السلطان على إرسال هذا الأسطول ضد البرتغاليين كما أنه قدم وفوق هذا بالاستيلاء على كل المراكب المملوكية التي وجدها في ميناء الإسكندرية وسواحلها وأرسلها إلى اسطنبول.
- أصدر سليم الأول أمره وهو في مصر بإرسال سليمان الريس - قائد الأسطول المملوكي الثاني إلى البحر الأحمر والذي كان متوجه أساساً إلى الهند لحرب البرتغاليين - إلى استانبول للاستفادة منه ومن خبرته ومهارته الحربية بحجة مشاركته في مشروع إنشاء ترسانات بحرية على غرار الترسانات البيزنطية التي دمرت أثناء الفتح العثماني للقسطنطينية.
- قام السلطان سليم الأول بقطع طريق التجارة القادم من بلاد فارس إلى الشام ومصر واستولى على أموال التجار وقبض على تجار الحرير المصريين والشاميين ونفاهم إلى إسطنبول حيث زج بهم في السجن، إلا أن ابنه سليمان القانوني أعاد بعدئذ هؤلاء إلى ديارهم وأرجع إليهم أموالهم بعد أن تولى العرش إثر وفاة والده.
- لم يحرك سليم الأول ساكنا تجاه الدولة الصفوية إثر تحالفها المعلن مع البرتغاليين عبر اتفاق البوكريك والشاه إسماعيل عام 1515م، ولم يتحرك ضده كما تحرك في عام 1514م لوقف امتداد المذهب الشيعي لشرق الأناضول. وهنا تختلط الأمور وتبدو مشوشة نوعاً ما في مدى فهم السلطان سليم للخطر الصفوي عما إذا كان خطراً مذهبياً أو سياسياً عسكرياً، لتحالف الصفويين مع القوى الأجنبية وبالذات الصليبية منها ضد الدولة الإسلامية.
- معاقبة الدولة العثمانية وتأنيب كل من يقوم بأي حركة لمقاومة الغزو البرتغالي للسواحل والبلاد العربية الإسلامية في المنطقة التي تسيطر عليها دون مشورتها أولاً. وهذا ما يذكره ابن إياس - ويعتقد بجزء كبير في صحته - في حوادث شهر رمضان لعام 925هـ (1519م) وقبل وفاة سليم الأول بعاد واحد فقط، خير دليل على ذلك حيث يقول إبن إياس "أشيع بين الناس أن قاسم الشرواني الذي استقر في نيابة جدة، جمع المال الذي تحصل منه في جدة فوضع يده عليه، وأخذا المكاحل التي كانت هناك والسلاح ونزل في مراكب وتوجه إلى بلاد هرمز، فتكدر ملك الأمراء في القاهرة - المعين من قبل السلطان سليم - لهذه الأخبار الردية".
ثم يعود ابن إياس ليؤكد هذا الخبر فينقله من نطاق الإشاعة إلى خانة الخبر الموثق باليقين فيقول في حوادث شهر ذي الحجة لعام 925هـ (نوفمبر وديسمبر 1519م) أنه في هذا الشهر "حضر قاسم الشرواني الذي كان نائب جدة وجرى منه ما تقدم ذكره، فأرسل ملك الأمراء بإحضاره وهو في الحديد، فأحضره الشريف بركات أمير مكة من البحر المالح، فلما حضر سجنه في العرقانة (مكان مخصص لاعتقال كبار الشخصيات في الدولة) التي هي داخل الحوش السلطاني إلى أن يكون من أمره ما يكون". وهذا الموقف السلبي من الوجود البرتغالي في شرق الجزيرة العربية - كما يذكر الشناوي - للسلطات العثمانية في القاهرة جاء مؤيداً ومسايراً لموقف إسطنبول في عهد سليم الأول.
وفي الحقيقة فإن أهم ما قام به الأتراك العثمانيون هو اهتمامهم بالسيطرة على البحر الأحمر بعد احتلالهم لمصر، وجعله بحيرة إسلامية عثمانية مغلقة، ومساعدة القوى الإسلامية في الحبشة ضد التوغل البرتغالي هناك. وجرت أيضاً محاولات الاستيلاء على المراكز التجارية الواقعة على ساحل البحر الأحمر مثل هرر وسواكن ومصوع حتى لا يمكنوا البرتغاليين من توطيد أقدامهم في تلك المناطق.
ولكن يجب الإشارة هنا إلى أن هذا الأمر لم يتم في عهد السلطان سليم بل في عهد ابنه سليمان القانوني الذي تباطأ أيضاً في توجه القوات العثمانية ضد مراكز البرتغاليين في البحار الشرقية واهتم بدلاً من ذلك اهتماماً يكاد يكون كلياُ بالجبهات الأوروبية. وقد استطاع البرتغاليون خلال العشرين عاماً الأولى من حكم السلطان سليمان (1520 - 1540م) أن يحققوا انتصارات مهمة في دعم مراكزهم الحربية في شرق الجزيرة العربية والهند وعدن وغيرها. فلما انتبه السلطان سليمان لفداحة خطر البرتغاليين هناك وأرسل القوات العثمانية إلى الهند عام 1526م، وعام 1538م، منيت بهزائم كبيرة، ولم يبدأ بتوجيه حملة مباشرة لضرب مراكز البرتغاليين في شرق الجزيرة العربية والخليج إلا في عام 1552م (حملة بيري رئيس) أي بعد مرور إثنين وثلاثين عاماً على توليته العرش.
يقول واقع الأحداث أن الحرب ضد البرتغاليين هي التي فرضت نفسها فرضاً على العثمانيين بعد أن وصل الأخيرون إلى هذا المدى من التوسع الإقليمي في الشرق الإسلامي وتطلعوا لاحتلال أراضي إسلامية تابعة للدولة العثمانية، فكان خوض العثمانيين لتلك الحروب ضد البرتغاليين أمراً تطلبه أمن الدولة العثمانية دفاعاً عن أقاليم صارت تحت سيادتها واقعاً.
إذن نستطيع القول أن تدخل الدولة العثمانية حربياً في المنطقة الإسلامية في المشرق لم يؤد إلى زوال الوجود البرتغالي في المناطق التي احتلها قبل ظهور العثمانيين في الجزيرة العربية أو الهند أو شرق أفريقيا، بل إن حروب الدولة العثمنية ضد القوتين الإسلاميتين في المنطقة (الصفوية والمملوكية) قد أتاح الفرصة للقوة البرتغالية أن تلتقط أنفاسها إثر الضربة المملوكية الأولى لها في عام 1508م، ولتزيد من نشاطها التوسعي مستغلة الصراع الإسلامي - الإسلامي في المشرق الإسلامي في مطلع القرن السادس عشر، وكأن القدر قد رسم كل ذلك بالمسطرة والقلم.
الفصل الثالث: الكيانات السياسية المحلية في الخليج وجنوب الجزيرة ==العربية إبان الغزو البرتغالي للمنطقة==
الإمامة الأباضية وبنو نبهان وصراعهما في عمان
تحتل عمان نحو ربع الخط الساحلي لجنوب شبه الجزيرة العربية الذي يزيد طوله عن أربعة آلاف ميل، وهي تسيطر على مدخل الخليج العربي وتطل هذه السواحل على الطرق البحرية المتجهة إلى الشمال والشرق والجنوب وعلى الطريق الرئيسي للتجارة الرائجة الممتدة من الصين إلى المدن الواقعة على جانبي الخليج العربي، وقد اعتبرها الأقدمون مرسى السفن من الصين والهند وبلاد الزنج. وعمان هي ديار الأزد " وهي بلدة كثيرة النخل والفواكه، وإحدى المراكز الرئيسية للتجارة على الساحل الغربي للخليج، وقد كانت تستقبل السفن الآتية من البصرة متجهة إلى الهند والصين وشرق أفريقيا وبالعكس، وقصبتها وأهم مدنها صحار، وهي أعمر مدينة وأكثرها مالا بعمان".
وعند الحديث عن منطقة عمان منذ ظهور مذهب الأباضية بها حتى بداية العصر الحديث حين بدأ الغزو البرتغالي لها، سنجد أن هذا التاريخ ضيق الإطار لأنه اعتمد على مجموعة من علماء الدين الأباضيين الذين حافظوا على ذلك التاريخ وسطروه حسبما تمليه عليهم مواقفهم من المذهب الأباضي. ولذا فهم يرون أن تسجيل الأحداث التاريخية - حسب مفهومهم - ينبغي أن يخضع لمؤثرات بعينها. من هنا فقد سجل النشاط القبلي وصراع القبائل بكثير من التفاصيل لأنه يرتبط بشكل مباشر بوجود الجماعة الإسلامية في تلك المنطقة. أما حركة التاريخ العامة وما يحدث خارج عمان - حتى ولو كان له علاقة بما يجري بداخلها - فإن ذلك لم يكن بهم أولئك المؤرخين العمانيين في شيء لاعتقادهم أن ذلك من صنع الجبابرة ، أي السلطة غير الشرعية. ومن هنا كانت حركة المذهب الأباضي وأئمته والصراع حوله هي التي حددت حركة التاريخ في عمان. ومن هذا المنطلق لا يمكن للباحث أن يدرس تاريخ عمان الإسلامي دون أن يفهم الحركة الأباضية من حيث نشأتها ونشاطها باعتبار عمان هي الوطن الأم للأباضية في العالم الإسلامي ، فقد احتضنت هذه الأرض المذهب منذ ولادته في القرن الأول الهجري وأقامت باسمه دولة في القرن الثاني الهجري.
مذهب الأباضية
يذكر المؤرخ العماني نور الدين بن حميد السالمي أن مؤسس الدعوة الأباضية ومفكرها الأول هو أبو الشعثاء جابر بن زيد البصري العماني، وقد أخذ العلم عن ابن عباس ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم والسيدة عاشئة رضي الله عنها بنت أبي بكر الصيد، وكانت ولادته في 21 هـ ووفاته في 96 هـ. إلا أن المذهب الأباضي نسب بشكل واضح في كتب التاريخ إلى عبد الله بن أباض، لكونه الناطق به والمدافع عنه في دوائر الدولة الأموية في تلك الفترة منذ بداية ظهوره. وينبغي التأكيد على أن الأباضية في أصولها الأولى قد خرجت من عباءة حركة الخوارج التي تعتبر من أهم وأخطر الحركات الفكرية والسياسية المبكرة في التاريخ الإسلامين والتي خرجت بدورها بعد الإشكالات الدينية والسياسية التي حدثت نتيجة قبول مبدأ التحكيم بين جيوش الخليفة الشرعي للدولة الإسلامية الإمام علي بن أبي طالب ووالي الشام من قبل الدولة، معاوية بن أبي سفيان، وذلك بعد معركة صفين بين عامي 36 و37 هـ.
الأباضية في عمان
حين قام الحجاج بن يوسف الثقفي بنفي العديد من زعماء قبيلة الأزد من البصرة - مركز التنظيم الخارجي الأباضي السري - إلى منطقة عمان لم يكن ذلك عبثاً. فقد كشفت التحريات الأموية أن دعاة الأباضية يكثرون بين أفراد هذه المنطقة، ولاسيما أن من بين زعماء الأزد هؤلاء رأس الدعوة جابر بن زيد وهو من أزد عمان. ويبدو أن هذا الاجراء قد ساعد جابر على تعميق صلته بأهل عمان وبث أفكاره ومبادئه بينهم، خاصة وأن الصلة بين البصرة وعمان آنذاك كانت صلة مستمرة ووثيقة. ومن هنا فإن البذرة التي غرسها جابر بن زيد، أخذت تنمو وتكبر وتترعرع حتى استطاعت في النهاية أن تلعب دورا رئيسيا في سيادة الإمامة الأباضية على عمان وقبيلة الأزد وحلفائها أساسا. وبسبب متانة تلك الصلات بين أرض عمان وحركات الخوارج والأباضية منهم بالذات منذ الأيام الأولى لظهورها على مسرح السياسة والفكر الديني الإسلامي، فقد أصبحت عمان صعيدا ملائما لظهور الإمامة الأباضية بها علنا بعد سقوط الدولة الأموية، العدو الأول للأباضية، وذلك عام 132 هـ. وكان أن انتخب العمانيون أول إمام أباضي لهم عام 133 هـ (751م) وهو الإمام الجندي بن مسعود، في نفس العام الذي انتخب فيه أئمة آخرون في المغرب واليمن أيضا.
ولكن يبدو أن هذا الإمام الأول لم يستمر طويلا في السلطة بعد انتخابه، حيث يعتقد أن القوات العباسية في عمان قتلته عندما شعرت بنواياه الاستقلالية في عمان، كما يذكر الأزكوي أن "التقال دار عليه حتى قتل في جلفار، فكانت إمامته سنتين وشهرا. واستولت الجبابرة على عمان فأفسدوا فيها وتفاقهم جورهم وظلمهم وفسادهم".
ومما زاد الوضع سوؤا بعد ذلك أن الأمور لم تستقر في عمان للأباضيين بل كثرت الفتن والحروب الداخلية حتى قال صاحب كتاب الفتح المبين "لم تزل الفتن تتراكم بين العمانيين وتزيد فيهم الإحن، وصار أمر الإمامة بينهم لعبا ولهوا وبغيا وهوى، حتى أنهم عقدوا في عام واحد ست عشرة بيعة (16 إماما) ولم يفوا بواحدة حتى بلغ الكتاب أجله". وتجدر الإشارة هنا إلى أن معظم الصراع الذي دار بين أئمة عمان الأباضيين في بداية عهدهم بتأسيس الدولة، تركز في محيط قبائل الأزد المشهورة وبطونها مثل الهناوية والكندية واليعاربة. وكانت عواصمهم في المدن الداخلية وليس الساحلية، مثل نزوي، أزكى، بهلا، الرستاق، يبرين، وغيرها، وهذا ما شجع مملكة هرمكز عندما اشتد عودها وسيطرت على تجارة الخليج العربي، على مد نفوذها والسيطرة على المدن الساحلية المهمة في عمان.
آل نبهان والصراع الداخلي ضد الإمامة الأباضية
بدخول القرن السادس الهجري بدأت الإمامة في عمان تضعف ودبت الفوضى في البلاد من كل جانب، فصار الجو مناسباً للطامحين والطامعين في السلطة للوثوب واهتبال الفرصة للسيطرة على البلاد العمانية خصوصا في عمان الداخل، ولذا نجد في حوليات التاريخ العماني فترة تزيد على القرنين ونصف القرن لا يذكر فيها الأئمة حيث بدأت سيطرة النبهانيين على الحكم وإلغاء نظام الإمامة وإحلال الملكية بدلا منها. وقد تلقب حكام أسرة النباهنة بالملوك لأول مرة في عمان، ومن هنا قامت الثورات الأباضية ضدهم.
وانحصر الصراع العماني - العماني بين النباهنة كعائلة ملوك توارثت السلطة، والإمامة الدينية الزمنية المنتخبة، فكان صراعات بين نوعين وفلسفتين في نظام الحكم اكتوى بناره وتأثيراته العمانيون جميعهم مذجبا - ملوكا وليسوا أئمة، وتاريخ عمان المدون يعتمد على الكتاب من العلماء والفقهاء الأباضيين أو الموالين للأئمة، فبالطبع لا نتوقع منهم أن يهتموا بتدوين تاريخ تلك الفترة من حكام آل نبهان، رغم اعتراف الأزكوي بأن ملكهم "لعله كان يزيد على خمسمائة سنة"، ولذا وصفوا بالجبابرة والطغاة ولم يدون تاريخهم بل وأهمل تسجيله كما ورد. ويعترف بذلك مؤرخ عمان الكبير الشيخ نور الدين السالمي في كتابه "تحفة الأعيان" حين سجل لعصر النباهنة فلم يجد سوى نتفقا قليلا متناثرة في بطون الكتب هنا وهناك لا تغني كثيرا في البحث فوقف هذا المؤرخ حائرا أمام ذلك الحدث قائلا: "وحيث كانت دولة هؤلاء مبنية على الاستبداد بالأمر وقهر الناس بالجبرية، لم نجد لدولتهم تاريخا ولا لملوكهم ذكرا". وقد أوجد هذا المؤرخ لنفسه تعليلا يريحه من عناء البحث حين قال: "إنها إرادة الله تعالى من إنفاذ أمره في أهل عمان، فإنهم لما افترقوا فرقتين وصاروا طائفتين نزع الله دولتهم من أيديهم وسلط عليهم قوما من أنفسهم يسومونهم سوء العذاب".
حكم الملوك النباهنة أثناء صراعهم ضد الأئمة خلال فترتين، امتدت الأولى منها من عام 549 هـ إلى عام 906 هـ، وتخللها وجود بعض الأئمة ف يحكم مدن أخرى. أما الفترة الثانية فاستمرت من عام 964 هـ إلى عام 1042هـ، وانتهت بظهور الإمام ناصر بن مرشد اليعربي الذي تمكن من السيطرة على عمان وبدأ معه مشروع طرد البرتغاليين من البلاد.
ويبدو أنه خلال الصراع لذي نشب بين البراهنة والأئمة في مستهل النصف الثاني من القرن السادس الهجري، قام حلف بين بني نبهان والقبائل العربية الأخرى في عمان الداخل وما جاورها من الصحراء الجنوبية لشبه الجزيرة العربية واليمن، وهذا ما يؤكده السيابي حين يقول في عهد الإمام الخليل بن عبد الله الخليلي حيث بدأت روح الدولة النبهانية في الظهور بعمان، "وكان - هذا الإمام - قد قامت له قوة خافها بنو نبهان أن تقضي عليهم، فإستجاشوا الجبور وبني هلال، ولم يزل يقاتلهم في كل أرض، حتى صار شرق عمان ووادي سمائل كله مع النباهنة، والرستاق والباطنة مع الإمام".
وتذكر كتب التاريخ العماني أنه عندما اشتد تعسف وبطش وفساد ملوك بني نبهان في البلاد، اجتمع أهل الحل والعقد من العلماء الأباضية وأعيان عمان، وانتخبو عمر بن الخطاب الخروصي فبايعوه بالإمامة عام 885هـ.
إلا أن الحرب عادت وتجددت بين هذا الامام والملك النبهاني القوي سليمان بن سليمان، ووقعت معارك عنيفة بين الطرفين أدت إلى عزل الخروصي وأعيد مرة ثانية بعد انتصاره على الملك النبهاني الذي استعان - كما يبدو - بقوة ملوك هرمز في سواحل عمان عام 893هـ (1487م) لمواصلة حكمه ومناوءة الأئمة الأباضيين. واشتد الصراع في هذا الوقت من جديد حتى انتهى بهزيمة الملك سليمان النبهاني ومباعية الإمام محمد بن إسماعيل الحاضري إماما على عمان عام 906هـ (1500م). وكان الغزو البرتغالي في هذا الوقت على أبواب الهند والبحار الشرقية ويقترب من السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية.
وبسبب ما عانته عمان من حروب وصراعات داخلية بين الملوك النباهنة والأئمة، فقد تمزقت البلاد وضربت وحدتها، مما فتح الباب على مصراعيه أمام الطامعين من أعدائها، فشنوا عليها عدة غزوات في عهد النباهنة وكان مصدر غالبية تلك الغزوات بلاد فارس ومملكة هرمز في أعوام 1261م، 1276م، 1462م.
وهكذا كانت الأوضاع المضطربة في عمان مع نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، أي بداية الغزو البرتغالي للمنطقة، فهل صمدت البلاد أمام هذا الغزو عام 1507م؟؟
قيام مملكة هرمز في الخليج العربي
ترتبط الحالة السياسية للكيانات العربية في الخليج خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر وبداية السادس عشر الميلادي، بوجود مملكة هرمز وفرض سلطاتها على الإمامرات الممتدة من البحرين إلى القطيف إلى ساحل عمان.
ولكن ينبغي التمييز بين مملكة هرمز القديمة التي كانت قائمة في البر الإيراني منذ القرن العاشر الميلادي حتى أوائل القرن الرابع عشر، وبين مملكة هرمز التي نشأت في جزيرة جرون عند مدخل الخليج العربي.
تذكر الروايات التاريخية ان اسم هرمز كان يطلق على ميناء يقع بالقرب من مصب نهر روداب (ميناب) يطل على الخليج العربي قرب بندر عباس، وكان يتبع ولاية موغستان ومملكة كرمان. وقد أسس مدين هرمكز تلك أردشير بابكان (بن بابك) 224 - 241م، مؤسس الدولة الساسانية، وصارت طوال العصر الساساني مركز تجاري في ساحل كرمان. وقد أحرزت تلك المدينة شهرة عالمية بعد الفتح الإسلامي للامبراطورية الفارسية حتى غدت في القرن العاشر الميلادي السوق الرئيسية لمملكة كرمان الساحلية في البر الجنوبي لفارس.
وقد تحدث ياقوت الحموي في القرن السابع الهجري (القرن الثاني عشر الميلادي) عن مدينة هرمكز تلك قائلا: "هرمز فرضة بر فارس وكرمان، وملتقى تجارها وميناؤها الرئيسي، إليها ترفأ المراكب ومنها تنقل أمتعة الهند إلى كرمان وسجستان وخراسان". وقد زارها الرحالة ماركو بولو مرتين خلال القرن الثالث عشر وذلك بين عام 1272 و1293م، ووصف نشاطها وأعمالها على ساحل الخليج وبشكل خاص تجارة الخيول العربية والفارسية التي كانت تصدر إلى الهند.
وبعد الفتح الإسلامي لبلاد فارس أخذت مدينة هرمكز تصطبغ بصبغة عربية خالصة وذلك إثر هجرة جموع غفيرة من القبائل العربية من عمان ونجد واليمن إليها لقربها من سواحل الخليج العربية واتخاذها قاعدة تجارية يوجهون منها سفنهم إلى سواحل الهند والبحر الأحمر وشرق أفريقيا وبلاد الصين. وقد علا شأن هرمز إثر تدهور ميناء سيراف الذي كان يلعب في تجارة الخليج أهمية كبرى قبل ذلك. وبسبب الاستقرار الاستيطاني العربي في هرمز، فقد بدأت تحكم المدينة سلسلة من الأمراء العرب ليس لدينا علم كامل عن أولهم سوى ما ذكره الملك الحادي والعشرون لجزيرة هرمكز (تورانشاه بن قطب الدين تهتمن) حكم عام 1516م فيما كتبه من نثر وشعر بالفارسية حول أمراء هرمز وحكومته وأسرته وجمع في كتاب سمي شاهنامه. وقد ذكر هذا الملك أن مؤسس هذه السلالة التي حكمت هرمكز هو شيخ عربي من اليمن أو الخليج جاء إلى فارس حوالي القرن الخامس الهجري مع الهجرات العربية ويدعى الشيخ محمد. وكونت أسرته هذه المملكة التجارية، واستقر هذا الشيخ في هرمز وضرب العملة باسمه فلقب محمد درهم كوب نسبة إلى نوع العملة التي سكها باسمه. كما نعرف أيضا أن الامير الثاني عشر لهذه الأسرة هو ركن الدين محمود الذي حكم في عام 644هـ ويؤيد هذا الرأي المؤرخ الإيراني عباس إقبال فيذكر أنه في عهد ملوك بني قصير كان القسم الشرقي من الخليج أي موغستان وميناب وجزيرة قيس وجرون، يحكمه أمراء اتخذوا من مدينة هرمز عاصمة لهم، ويقولون أنهم من سلالة الملوك الذين جاءوا من عمان واحتلوا موغستان ويسمى أميرهم محمد الذي استقر في المنطقة وضرب العملة باسمه. وظل حكام هرمز هؤلاء يحافظون على كرمان ثم إلى حكام المغول في بلاد فارس، إلا أنهم حاولوا أكثر من مرة الاستقلال عن تبعيتهم للقوى المحيطة بهم.
ولم تعمر هرمز طويلا بسبب تلك الحوادث الوحشية التي قام بها التتار على سواحل فارس حوالي عام 700هـ (1301م)، حيث دمروا المدينة وقتلوا سكانها، مما اضطر حاكمها آنذاك (بهاء الدين أياز السيفي) إلى تركها نهائيا والهجرة بشعبه وعائلته إلى جزيرة تقع في عنق الخليج العربي وتسمى جيرون أو جرون قبالة الساحل الفارسي قبالة مدينة هرمز القديمة، وقد أطلق على هذه الجزيرة أيضا فيما بعد اسم هرمز تيمنا بوطن هؤلاء الفارين الأوائل من الساحل الفارسية وتخليدا له.
واتخذت جزيرة جرون (هرمز) طابعا تجاريا بحتا فقد استطاعت في فترة وجيزة إلى منتصف القرن الرابع عشر فقط، أن تجتذب إليها عناصر اقتصادية وفعاليات تجارية عديدة من مسلمين - وكانوا أكثرية - وهندوس ويهود ونصارى كأقليات. أضحت هرمز أهم منطقة لتجميع السلع التجارية في الخليج وصارت ذات شهرة عالمية كمحطة رئيسية لجذب تجارة الهند الذاهبة إلى أوروبا، وبدت كأكبر منافس لميناء قيس الذي حل خلال الفترة من القرن الثاني عشر الميلادي إلى القرن الثالث عشر الميلادي محل ميناء سيراف. وعلى الرغم من عدم صلاحية الجزيرة للسكنى إذ يصفها أحد التجار قائلا: "إن حرارتها ممزوجة برطوبة عالية، وتخلو لياليها من نسمة ريح، مما يجعل مناخها أشد ما يكون تحمله في بقاع العالم". أضف إلى ذلك أنها تعتبر جزيرة قاحلة وغير مثمرة، حيث لا طعام بها ولا ماء عذب للشرب ولا خضرة، فهي نتوء صخري بارز عند مضيق الخليج العربي. ولذا كانت تلك الجزيرة تحصل على كل تجهيزاتها ومؤنتها الحياتي اليومية من البر الفارسي والجزر الأخرى القريبة منها.
وقد أكد هذا الوصف الرحالة ابن بطوطة الذي زارها في الربع الثاني من القرن الرابع عشر (1325 - 1349م) حيث ميز بوضوح ما بين هرمز على البر الأصلي وهرمز الجديدة حيث قال عن الأخيرة: "وهي جزيرة مدينتها تسمى جرون، وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة، وهي مرسى الهند والسند، ومنها تحمل سلع الهند إلى العراقيين وفارس وخراسان، وبهذه المدينة سكنى السلطان، والجزيرة أكثرها أرض سباخ وجبال ملح، والماء في الجزيرة له قيمة، وتحمل إليها المياه في قوارب ويأتون بها إلى المدينة".
وكانت حصيلة الضرائب السنوية التي ترد إلى هرمز من المناطق التابعة لها في الخليج وعمان حوالي مائة وثمانية وتسعين ألف أشرفي ذهبا. وظلت هرمكز لمدة مائتي سنة تالية لتأسيسها المركز الرئيسي للصلات التجارية بين الشرق (الهند) والشرق الأقصى وأوروبا حتى صارت مضرب الأمثال. فهناك مثل يقول :"إذا كان العالم مجرد خاتم فإن هرمز هي جوهرته". وطارت شهرة هرمز إلى شتى بقاع العالم خصوصا أوروبا، وصارت لها مكانة حتى في أدبيات وشعر القرون الوسطى الأوروبية لدرجة أن رجل الشارع الأوروبي صار يعرف طرفا من مجدها وثرائها الاقتصادي.
وبما أن هرمز لم تكن تستطيع الحفاظ على استقلالها في مواجهة القوى السياسية الكبرى في المنطقة خصوصا في البر الفارسي سو بالعمل على دفع الضرائب والأتاوات المقررة عليها سنويا لتلك القوى لتفادي الوقوع في دائرة عدائها، فقد أصبحت تدفع للدولة الصفوية الناشئة في مطلع القرن السادس عشر مبلغ ألفي أشرفي ذهبا وبالاضافة إلى هدايا عظيمة كان يدفعها في هذه الفترة خواجة عطار باسم الملك سيف الدين أبا نظر، وبذلك استطاع خواجه عطار الاحتفاظ باستقلال مملكته في الخليج العربي لفترة من الوقت.
وقد مكنت تلك الأموال الضخمة التي كانت ترد للخزينة الملكية في هرمكز/ المملكة من أن تجند الجيوش والاكثار من الأتباع والموالين واستئجار المرتزقة للسيطرة على مناطق المملكة الشاسعة في الخليج العربي وساحل عمان. وبفضل تلك القوة العسكرية والاقتصادية استطاعت حكومة هرمكز ضمان سلامة العبور الدائم في الخليج العربي الذي عرف باسم أهم جزره الاقتصادية آنذاك (هرمز)، وهو الذي يشكل عصب الحياة بالنسبة لهذه المملكة البحرية. وعلى نفس الأهمية كانت هرمز تعمل دائما لاحتلال البحرين وكذلك القطيف. فالبحرين تشكل لهرمز محطة الاتصال بشمال الخليج العربي ووسيلة لضمان سلامة السفن المحملة بالبضائع الهندية والصينية وغيرها مما يصدر بالتالي عبر البصرة وتحمله القوافل البرية إلى سواحل البحر المتوسط، وكذلك الأمر في ساحل عمان الحيوي قبالة مضيق هرمز ورأس ماسندم. ومن هنا فكثيرا ما كانت تقع الخلافات والحروب بين مملكة هرمز والقبائل العربية في شبه الجزيرة والبحرين وساحل عمان وخصوصا مع تلك القبائل الطموحة مثل الجبور والعوامر، التي كانت تكافح امتداد سيطرة مملكة هرمز على هذه المناطق والتي كانت تطمع للمشاركة في أرباح التجارة الدولية في المنطقة. وقد وجدت تلك القبائل الفرصة السانحة مع بداية القرن الخامس عشر حين بدأت الضعف يدب في كيان هرمز بسبب تفاقهم الصراع الأسري داخل العائلة المالكة، مما شجع تلك القبائل العربية المنتشرة على طول السواحل الشرقية للجزيرة العربية للتخلص من تبعيتها لهرمز. والسبب في الأساس يعود لعدم وجود سلطة مركزية قوية في هرمز مما دفع أولئك المتطلعين للاستقلال ببلادهم واقتصادياتها عن هرمز، للانتفاض والثورة، خاصة وأن هذه المناطق كانت تتأرجح في تبعيتها لهرمز بين السيطرة الاسمية والفعلية. كما أن الامتداد الكبير الذي بلغته هذه الدولة كان عاملا مهما من عوامل تقويضها، حيث كانت تشمل أجزاء واسعة من سواحل الخليج وعمان وفارس. ومن الطبيعي إذا أن تترهل هرمز، وقد ساعد هذا التفسخ تلك القوى العربية على منازعتها في السيادة. وظهر ذلك واضحا على عهد الملك سيف الدين مهار الذي شهد حكمه اضطرابا سياسيا وصراعا أسريا خطيرا مكن لبني جبر من انتزاع الاحساء والقطيف من أيدي الحكام الذين كانوا خاضعين لهرمز، والحصول على حكم جزر البحرين بموجب اتفاق سياسي اقتصادي تم عقده مع حاكم هرمز الذي كان قد ظفر بالسلطة في الجزيرة بفضل مساعدة الجبور له أثناء صراعه مع أخوته، فصارت البحرين منذ عام 1476م تحت سيطرة الجبور.
ولم تمتد سيطرة هرمز أبدا في أي وقت من الأوقات إلى داخل عمان وذلك لعدة أسباب: أولا لأن الداخل العماني كان فقيرا اقتصاديا إلا من بعض المنتوجات الزراعية وتربية الخيول، وثانيا بسبب وجود الإمامة الأباضية أو الملك النباهنة فيه وفي مدنه العديدة وصراعاتهم المستمرة التي تؤثر بالتالي على الاستقرار الاقتصادي في تلك الفترة التي كانت فيها الموانئ البحرية المهمة والصالحة لرسو السفن حياة الدول وعصب اقتصادها. ولهذا ركز الهرامزة في عمان على موانئ مسقط وصحار وخورفكان وقريات وصور وكذلك قلهات التي كانت تعتبر في فترة من الفترات عاصمة ومقرا للعائلة المالكة في هرمز على الساحل العماني. بالاضافة إلى ذلك كانت تلك البلدة مركز جباية الخراج السنوي من الموانئ والمحطات التجارية في هذا الساحل لصالح خزينة هرمز.
ومن ناحية أخرى يتضح من بعض المعلومات المتناثرة التي ذكرها جهانكير في بحثه الموسوم "مسألة هرمز" أن الأخ الثاني لفخر الدين تورانشاه وهو شهاب الدين كان قد تخلص من الأخ الأكبر مقصوط بالنفي أو القتل، وحكم بدلا منه. ولكن هذا لم يرض الأخ الثالث شاه ويس الذي نجح بدوره في إبعاد شهاب الدين فسمل عينيه - كما يحدث لملوك هرمز أثناء الصراع الاسري - وحكم بدلا منه. وقد خلت الساحة أمامه في هرمز تماما فستثأر بالملك، وهذا ما شجع الأخ الرابع سلغر على التعاون ضده مع الجبور، فقد خرج هذا الأخ من مسقط ثم دخل هرمز بمساعدتهم. ولا يتضح للأسف كيفية حدوث هذه المساعدة، التي تخلص بواسطتها من أخيه شاه ويس بعد خمسة شهور من حكمه لهرمز.
ظفر سلغر بحكم هرمز أخيرا وتم تنفيذ الاتفاق بينه وبين الجبور - كما سيأتي لاحقا - إلا أن حكمه كان طويلا جدا كما يبدو. وقد استقرت الأمور في عهده حتى كبر وشاخ فلم يحتمل ابنه تورانشاه ذلك فقد كان الرجل متوشقا للتاج والحكم - كما يذكر جهانكير - فقام بقتل والده. ولكنه لم يحكم إلا لأيام، إذ سرعان ما قتله أخوته وأفراد أسرته، ونصبوا على هرمز أخوه تورانشاه الثالث عام 910هـ (1504م) وكان ذلك قبل وصول البرتغاليين لهرمز بثلاث سنوات فقط. وازدادت الخلافات الأسرية حدة مع بداية القرن السادس عشر في هرمز، إذ أن تورانشاه الثالث لم يمكث في الحكم سوى عشرين يوما فقط حيث قتل بدوره على يد قائد جنود المملكة ويدعى محمد وهو ابن تورانشاه الطموح المقتول على يد أخوته، فازدادات الاضرابات وعمت الفوضى في أرجاء هرمز مما شجع سلطان منطقة لار على الساحل الفارسي المقابل في جنوب إيران للانقاضاض على هرمز، ولكن جنود القائد محمد صدوه عند جزيرة قشم بأسطولها البحري، فاضطر للتراجع. وهنا ظهرت شخية خواجة عطار التي صارت معروفة جيدا في الخليج العربي وعند البرتغاليين. وكان عطار من المقربين لتورانشاه الثالث المقتول غدرا، ولم تعجبه الأحوال المتردية التي وصلت إليها المملكة والصراع العائلي بها، وأراد أن يفعل شيئا. وحتى يهدئ من ثورة حاكم لار وتوثبه للانقاضاض على هرمز مرة أخرى، اتفق مع مجلس الحكم في الجزيرة على تنصيب أحد أبناء سلغر شاه الأول المقتول على يد ابنه. وكانت والدة هذا الصبي هي أخت أحد ملوك لار، فصار الملك لهذا المظفر سيف الدين أبا نضر بن سلغر شاه". وسيطر خواجه عطار على مقاليد الأمور باسم هذا الصبي الذي لم يكن قد تجاوز الثانية عشر من عمره، وصار ديوان المالية والخزانة في يد خواجة عطار الذي كان - كما يقول فلسفي - رجلا قديرا وشجاعا تولى حكم هرمز كنائب للملك الصبي. وحينما وصلت حملة أفونسو دا البوكريك إلى شواطئ هرمز عام 1507م، أعد العدة لقتاله وجمع في فترة وجيزة جيش جرار من شعوب جانبي الخليج ليقف بهم ضد البوكريك وأسطوله.
وهكذا نرى هنا حالة أخرى من الضعف والتدهور والصراع العنيف بشكل دموي في مملكة هرمز قبيل وصول البرتغاليين للخليج ولجزيرة هرمز بالذات، هذا الصراع الذي أوصل في نهاية الامر صبيا صغيرا لا يعلم من العالم المتصارع حوله شيئا ليحكم مملكة ثرية كان البرتغاليون على أبوابها.
قيام إمارة الجبور في الإحساء والبحرين وصراعهما مع مملكة هرمز
لابد أن نذكر بداية ان اسم البحرين كان يطلق قديما على مناطق الأحساء والقطيف وجزر البحرين الحالية أيضا بالإضافة لبقية شرق الجزيرة العربية، فقد كانت العرب تسمى الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية الممتدة من البصرة جنوب العراق إلى عمان باسم (الخط)، ويطلق عليه أحيانا "خط عبد القيس والبحرين"، ويذكر الحموي أن "البحرين اسم جامع لكل البلاد على ساحل بحر الهند بين البصرة وعمان وقيل هجر قصبة البحرين".
واعتبر المؤرخون والمصنفون العرب الأوائل أن منطقة البحرين بالمعنى الجغرافي المذكور، منطقة مستقلة من مناطق شهب الجزيرة العربية الخمس وهي الحجاز، نجد ، اليمن، عمان، البحرين. وهرت القطيف كعاصمة لاقليم البحرين الغني بالزراعة والمياه العذبة، واستمرت كذلك لفترات تاريخية مختلفة. ثم تقلص اسم البحرين تدريجيا حتى انحصر في ذلك الارخبيل الذي يضم أوال والجزر المحيطة بها في العصور المتأخرة. ويتكون هذا الأرخبيل من ثلاثة وثلاثين جزيرة وسط الخليج، وتبلغ مساحتها حوالي 264 ميلا مربعا، وتبعد عن الساحل الإيراني بنحو مائتين وخمسين ميلا، وعن ساحل شبه الجزيرة العربية بثمانية عشر ميلا، مربعا، وتبعد عن الساحل الإيراني بنحو مائتين وخمسين ميلا عن ساحل شبه الجزيرة العربية بثمانية عشر ميلا، وكان لها شأن تجاري كشأن سيراف وهرمز وقيس.
وقد اكتسبت البحرين أهميتها الاقتصادية منذ القدم، فقد كانت تصدر اللؤلؤ إلى الممالك المجاورة لها. وقد اشتهرت هذه الجزرة بجودة اللؤلؤ ووفرة المياه العذبة، وهذا بدوره مما جعلها محط أنظار القوى المجاورة بسبب المورد الاقتصادي المهم آنذاك، وهو اللؤلؤ الطبيعي، الذي يتميز عن سواه من اللآلئ من حيث المواصفات والوزن، ولأنه كما يقول أحد الرحالة الاجانب: "أنصع بياضا وأكثر استدارة من غيره، وهو يشكل جزءا مهما من تجارة هرمز".
وبسبب تولى تجار هرمز أمر التعامل في هذا اللؤلؤ البحريني عندما كانت تسيطر مملكتهم على واردات الخليج وصادراته في عصرها الذهبي، فقد وقع كثير من الخلاف والصدام بين حكام الأحساء والبحرين في القرن الخامس عشر الميلادي وبين مملكة هرمز.
وبسبب الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية للبحرين، فقد طمع فيها الغزاة من داخل الخليج وخارجه. وتوالت على حكم هذه الجزر عدة دول وأسر استمدت سلطتها ونفوذها من عشائرها وقبائلها في شبه الجزيرة العربية. ومن تلك الأسر التي حكمت البحري، العيونيون في القرن الثالث عشر، والعصوريون بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ثم أعقبت دولة العصفوريين هؤلاء، دولة آل جبور التي نحن بصددها.
آل جبور في البحرين والأحساء
ينتسب آل جبور قبليا إلى مجموعة البطون التي جاء منها العصافرة أيضا، وينحدرون من عقيل بن عامل بن عبد القيس بن ربيعة، وعرفوا باسم العمور أو العماير وينتسبون إلى بني خالد. وحين تدهور نفوذ أبناء عمومتهم العصافرة، صار الجبور يسيطرون على أفضل مصائد اللؤلؤ وبذلك تمكنوا من اقتصاديات البحرين. وبفضل تلك السيطرة الاقتصادية ووجود الثروات بين أيديهم فقد أصبحوا يتحكمون سياسيا بالمنطقة بعد ذلك لمدة تزيد على مائة وخمسين عاما حتى مجئ البرتغاليين.