العولمة والثقافة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الأول:العولمة والثقافة
صفحة (1)
تقع العولمة في القلب من الثقافة الحديثة؛ وتقع الممارسات الثقافية في قلب العولمة. وهذه هي العلاقة المتبادلة التي سأحاول ترسيخها في هذا الفصل واستكشافها في الفصول التالية. ليس هذا بالادّعاء المبالغ فيه: فلست أقصد القول بأن العولمة هي المحدِّد الوحيد للتجربة الثقافية الحديثة، ولا أن الثقافة بمفردها هي المفتاح المفاهيمي الذي يفك مغالق القوة الدينامية الداخلية للعولمة. ولذلك، فهو ليس ادّعاء بأن سياسات واقتصاديات العولمة ينتج عنها تقرير ثقافي يتخذ أولوية مفاهيمية. لكنّه يتمثل في إثبات أنّ العمليات التحويلية transformative الهائلة لعصرنا الحديث، والتي تصفها العولمة، لا يمكن أن تُفهم على نحو صحيح حتى تُدرك من خلال المفردات المفاهيمية للثقافة؛ وبالمثل، فإن هذه التحولات تغيّر نسيج التجربة الثقافية ذاته. كما أنها، في الحقيقة، تؤثّر على إحساسنا بالهوية الحقيقية للثقافة في العالم الحديث. إن العولمة والثقافة كلاهما مفهومان يتسمان بأعلى مراتب العمومية، وهناك خلاف سيء السمعة حول معنى كل منهما. لا يهدّف هذا الكتاب بالتأكيد لإجراء تحليل شامل لأيهما: بل إنه، بتواضع أكثر، يحاول إدراك العناصر الرئيسية للعولمة ضمن ما يمكن تسميته بالسجلّ الثقافي cultural register. وفي هذا الفصل الأول، أقدم فهما موجّها لمفهوم العولمة ضمن هذا السجلّ، وبعد ذلك أحاول إظهار سبب كون الثقافة والعولمة مهمّان جوهريا لبعضهما البعض.
العولمة كمرتبطية معقّدة
ولبناء هذه الحجّة، سأبدأ بفهم أساسي بسيط وغير مثير للجدل نسبيا للعولمة كحالة تجريبية
صفحة (2)
للعالم الحديث: وما سأطلق عليه اسم المرتبطية المعقّدة complex connectivity.
وبهذا أعني أنّ العولمة تشير إلى تلك الشبكة المتطورة بسرعة والمتزايدة الكثافة دوما من الترابطات interconnections والعلاقات المتبادلة interdependences التي تميّز الحياة الاجتماعية الحديثة. إنّ فكرة المرتبطية توجد بصورة أو بأخرى في معظم التقارير المعاصرة عن العولمة. إن ماغرو McGrew، إذا أردنا ضرب مثال نمطي، يتحدث عن العولمة باعتبارها "ببساطة، تقوية أواصر الترابط العالمي" ويشدّد على تعدّد الروابط التي ينطوي عليها ذلك: " في الوقت الحاضر، نجد أن السلع، ورأس المال، والبشر، والمعرفة، والصور، والجريمة، والملوثات، والمخدّرات، والأزياء، والمعتقدات تتدفق جميعها بسهولة عبر الحدود الإقليمية. إن الشبكات، والحركات، والعلاقات الاجتماعية العالمية واسعة الانتشار في جميع المجالات تقريبا، من الأكاديمية إلى تلك الجنسية" (1992: 65/47). هناك نقطة مهمة يجدر بنا استنباطها هنا، وهي أن الارتباطات المقترحة توجد في عدد من الأشكال modalities المختلفة، التي تتراوح بين العلاقات الاجتماعية- المؤسساتية المتنامية بين الأفراد والجماعات في جميع أنحاء العالم، إلى فكرة "التدفق" المتزايد للسلع والمعلومات والبشر والممارسات عبر الحدود الوطنية، إلى الأشكال "الملموسة" أكثر للاتصال، والمزوّدة من قبل التطورات التقنية مثل النظام الدولي للنقل الجوي السريع و"الغرابة" الأكثر حَرْفيّة لأنظمة الاتصالات الإلكترونية.
يكتب ماغرو من منظور السياسة الدولية، لكن بوسعنا أن نجد صياغات مماثلة- مثل "الترابطات" و"الشبكات"، و"التدفق" – في الدراسات الاجتماعية (Lash and Urry 1994; Castells 1996, 1997, 1998)، والدراسات الثقافية (Hall 1992)، أو التقارير الأنثروبولوجية (Friedman 1995). وما يوثقه هذا يمثل على الأقل درجة أساسية من الإجماع على الحقيقة التجريبية التي تحيلنا إليها العولمة. وهذه الارتباطات المتعددة القيم هي ما يربط الآن ممارساتنا، وتجاربنا ومصائرنا البيئية والاقتصادية والسياسية معا عبر العالم الحديث. وبالتالي، فإن المهمّة العريضة لنظرية العولمة تتمثل في كل من فهم مصادر هذه الحالة من المرتبطية المعقّدة، وترجمة نتائجها عبر المجالات المختلفة للوجود الاجتماعي.
ومن بين أهم الخصائص المميّزة لفكرة العولمة نجد كيف يبدو أن كافة أنواع التضمينات تتدفّق منها بسهولة وبغزارة. وهي مفهوم خصب بصورة استثنائية من حيث قدرته على توليد التخمينات ، والفرضيات والصور والمجازات metaphors الاجتماعية القويّة التي تصل لأبعد بكثير من الحقائق الاجتماعية المجردة. بمعنى ما، يمكن أن يحسب هذا لصالحها، بطبيعة الحال، باعتبار أن الحقيقة البسيطة لزيادة المرتبطية تتسم بمحدودية اهتماماتها، والتي، بدون تفسير وإسهاب، يمكن أن تبقى مجرد ملاحظة شبه مبتذلة. وبالتالي، فإن المرتبطية تمثل حالة تحتاج بصورة مباشرة
صفحة (3)
إلى إسهاب elaboration وتفسير. وعلى أية حال، هناك أيضا خطر الالتباس الذي ينشأ عن الميل نحو الانحراف slippage المفاهيمي الذي يبدو ملازما للفكرة. ولهذا السبب، نحتاج لممارسة درجة ما من الحيطة في الطريقة التي نتعمق من خلالها في الفكرة المحورية للمرتبطية. ولتصوير كل من الحاجة للإسهاب ومخاطره، أود إلقاء نظرة على الطريقتين التي ترخي بهما الفكرة البسيطة للمرتبطية بظلالها على الموضوعات themes الأخرى.
المرتبطية والتقارب
أولا، يمكن أن تؤخذ فكرة المرتبطية للدلالة على تزايد التقارب proximity العالمي-المكاني: والذي تحدّث عنه ماركس في كتابه المعنون " معالم نقد الاقتصاد السياسي " Grundrisse" على أنه "إفناء المكان بالزمان" ، والذي أشار إليه ديفيد هارفي Harvey (1989) على أنه" انضغاط الزمان-المكان". والأمر المتضمن هنا هو إحساس بانكماش المسافات من خلال الانخفاض الدراماتيكي في الوقت المستغرق، إمّا بصورة مادية (على سبيل المثال، عن طريق النقل الجوي) أو تمثيلية (عن طريق النقل المتواسط إلكترونيا للمعلومات والصور)، لاجتيازها. وعند مستوى آخر من التحليل، تلقي المرتبطية بظلالها على فكرة التقارب المكاني عن طريق فكرة "تمديد" stretching العلاقات الاجتماعية عبر المسافة (Giddens 1990, 1994 a, b). إنّ الحديث عن العولمة مفعم بالمجازات المتعلقة بالتقارب العالمي، و"بعالم منكمش": من "القرية العالمية" الشهيرة لمارشال ماك لوهان McLuhan إلى صياغة الأمم المتّحدة مؤخرا لتعبير " جوارنا العالمي" لوصف ذلك السياق السياسي العالمي المتنامي. يستمد كلّ من هذه الاستعارات المجازية والصور إحساسه بالتقارب المتزايد ، على وجه التحديد، من توسيع وتفصيل الأشكال المختلفة من المرتبطية. لكن التقارب/ الحميمية ليس هو نفس الشيء الذي تمثله المرتبطية: فهو في أحسن الأحوال إسهاب، وفي أسوأها خطأ.
يمتلك التقارب حقيقته الخاصة كوصف لحالة الحداثة العالمية، ولهذا عموما إما نظام فينومينولوجي أو مجازي. ففي الحالة الأولى، يصف مظهرا واعيا شائعا للعالم باعتباره أكثر حميمية، وأكثر انضغاطا، وأقرب لكونه جزءا من الحسابات اليومية- على سبيل المثال في تجربتنا المتعلقة بالنقل السريع أو استعمالنا العادي للتقنيات الإعلامية لجلب الصور البعيدة إلى أكثر أمكنتنا المحليّة حميمية. وفي الثانية، يقوم بنقل البداهة immediacy والعقلانية consequentiality المتزايدة للعلاقات المتماسفة الحقيقية مجازيا. وهنا نجد أن الارتباطات التي تؤثّر على حياتنا (على سبيل المثال، الشبكات المالية التي تربط حساباتنا المصرفية بالسوق الرأسمالية العالمية، أو التهديدات البيئية العالمية المشتركة مثل "الاحترار العالمي " الذي نواجهه) تُدرك
صفحة (4)
كما لو أنها تقرّبنا بصورة أوثق. فالتقارب، إذن، يأخذنا إلى أبعد من الحالة "التجريبية" للمرتبطية. ليس الأمر أنّ هذه اللغة مضلّلة أو عاجزة invalid، بل إنها على الرغم من ذلك مهمة للمحافظة على التفريق بين هذه الفكرة وفكرة المرتبطية .
ولأن حالة المرتبطية لا تؤيد فكرة التقارب فحسب، لكنها تضفي طابعها الخاص على الطّريقة التي نفهم بها "التقارب" العالمي. أن تكون مرتبطا يعني أن تكون قريبا بطرق بالغة التحديد: فتجربة التقارب الناتجة عن هذه الارتباطات تتعايش في وجود مسافة مادية physical distance يستحيل نكرانها، وتتسم بثبات عنيد، بين الأمكنة والناس في العالم، والتي لم تتمكن التحولات التقنية والاجتماعية للعولمة من طردها. في ظل عالم معولم، يظل الناس في إسبانيا يعيشون بالفعل على بعد 5,500 ميلا من الناس في المكسيك، تفصل بينهم، كما كان الحال مع الغزاة الإسبان في القرن السادس عشر، رقعة خطرة وقاسية وهائلة من المحيط. يتمثل ما تعنيه المرتبطية في أنّنا نختبر تلك المسافة الآن بطرق مختلفة. نحن ننظر إلى مثل هذه الأماكن البعيدة روتينيا على اعتبار أن الوصول إليها سهل ميسور، إمّا تمثيليا من خلال تقنيات الاتصالات أو وسائل الإعلام، أو جسديا، من خلال إنفاق كمية قليلة نسبيا من الوقت (ومن المال، بطبيعة الحال) على الطيران عبر الأطلسي. ولذلك لم تعد المكسيك تبعد بشكل ذي مغزى مسافة 5,500 ميل من مدريد: فهي تبعد عنها بزمن طيران قدره إحدى عشرة ساعة.
في الحقيقة، هناك طريقة للتفكير بشأن ذلك الإحساس المعيّن للتقارب الناتج عن ثمة شكل "تقني" من المرتبطية – والمتمثلة في تحويل التجربة المكانية إلى تجربة زمانية ، والمميّزة لرحلات الطيران. تمثل الطائرات بالفعل كبسولات للزمن، فعندما نستقلّها ندلف إلى نظام زمني ذاتي الاحتواء، ومستقل، والذي يبدو مصمّما لفصل تجربتنا بصورة شبه كليّة عن موضوع الحركة الفائقة السرعة عبر الهواء. إن السلسلة المألوفة لروتين الإقلاع، وتوزيع الصحف، والمشروبات المجّانية، ووجبات الطعام، وبيع السلع المعفاة من الرسوم الجمركية، وعرض الأفلام خلال الطيران، تعمل جميعها على تركيز انتباهنا على الإطار الزمني الداخلي لمقصورة الطائرة. ولذلك، ومن الناحية الفينومينولوجية ، فإن "رحلتنا" ما هي إلا رحلة عبر هذه المتوالية الزمنية المألوفة وليس عبر الفضاء. فالذهاب من لندن إلى مدريد يمثل وقت تناول وجبة واحدة mealtime ؛ ومن مدريد إلى المكسيك وقت تناول وجبتين، ومشاهدة فيلم، وفترة من النوم. وهلم جرا بالنسبة للرحلات الأبعد. ولا يحدث سوى عندما ننظر من حين لآخر عبر النافذة، ربما لتتبّع شريط ساحلي، أنّنا قد نستشعر بصورة مؤقتة إحساسا بمدى عِظَم المسافات التي نمر فوقها في الحقيقة. والإحساس بضخامة هذا الفضاء، والذي سرعان ما يرتبط بأفكار مزعجة حول مدى ضعفنا ، من المرجح أن يثبط همتنا عن
صفحة (5)
الانشغال بهذه الحقيقة الخارجية (1). والمريح أكثر من ذلك بكثير هو أن نركّز على شاشة عرض بيانات الرحلة داخل مقصورة الطائرة، والتي تترجم باستمرار آلاف الكيلومترات إلى "الساعات المتبقية حتى محطة الوصول": وهي الحقيقة التي نعيشها في الواقع. ومن النادر جدا في الحقيقة أن تتطفّل الأرض التي نطير فوقها على تجربة السفر بالطائرات. قد يلفت طاقم الطيران انتباهنا إلى بعض الخصائص الطبيعية بعينها - " على يسارنا، يمكنكم أن تروا كيب كود "- لكن الأمثلة على أيّ إحساس أعمق بالإقليم الإنساني human territory هي نادرة لدرجة أنها تبدو شاذة : " عندما تمر رحلة طيران دولية فوق المملكة العربية السعودية، تعلن المضيّفة أنّه خلال الطيران، سيكون تعاطي الكحول محظورا في الطائرة.
يبيّن هذا تعدي الأرض على الفضاء. أرض = مجتمع = أمة = ثقافة = دين: أي معادلة المكان الأنثروبولوجي، والمكتوبة على عجل في الفضاء " (Augé 1995:116) . يفسر مارك أوجيه هذا باعتباره التدخل القصير لكثافة الثقافة إلى "اللا مكان" non- place الذي يمثله فضاء شركة الطيران، لكن بوسعنا أن نراه على حد سواء باعتباره رمزا للاختراق الفضولي لرحلة معزولة عبر الزمن بفعل المظاهر الخارجية externalities للفضاء (الإقليم) التي تبدو بعيدة كليّا عن هذه التجربة، بل في الحقيقة غير ذات صلة بها. بعد قضاء بضع ساعات في هذه الرحلة الزمنية المعزولة ، نصل إلى وجهتنا، وننهي الإجراءات الجمركية، ونخرج من مبنى المغادرة في المطار، وبطريقة سحرية "ها نحن قد وصلنا" ، ونحن نرتدي نفس الملابس التي كنا نرتديها عندما استقللنا الطائرة (وهي الارتباطات الملموسة بموطننا الذي لا يبعد كثيرا) إلى بيئة غريبة، ومناخ مختلف، وربما لغة مختلفة، ومن المؤكد إيقاع ثقافي مختلف. ما نوع "القرب" الذي تنطوي عليه عملية كهذه؟ كيف، بالتحديد، تعمل المرتبطية الناتجة عن السفر بالطائرة على تقريبنا؟ مما لا سبيل إلى إنكاره أنها تجعل من السهل الوصول إلى الأماكن البعيدة دون إنفاق كلفة هائلة من الوقت، أو الطاقة أو المال (نسبيا). وهي تجعل الانتقال الجسدي مسألة روتينية- إلى شيء يمكن الوصول إليه في كثير من الأحيان خلال بضع ساعات، أو يوم أو نحوه على أقصى تقدير. لكن من المؤكد أيضا أن هذا التقارب ينطوي على مشاكل، فقد ولد كما هو من رحم الانضغاط المتحقق تقنيا للمسافة بفعل الزمن. ولأن الفضاء الذي نقطعه في هذه الرحلات من خلال المتوالية الروتينية "لزمن المقصورة" 'cabin time' ليس مجرد مسافة طبيعية، بل هو المسافة الاجتماعية والثقافية (المملكة العربية السعودية = الإسلام = لا مشروبات كحولية) التي يحفظها ذلك الفضاء المادي "الحقيقي". وبالتالي، فإن مرتبطية النقل الجوي تطرح علينا، وبحدّة، ذاك السؤال المتعلق بتجاوز المسافة الاجتماعية- الثقافية.
من حالة الحياة المعلقة التي تتمثل في الطيران، علينا إذن أن نواجه التلاؤم الثقافي للوصول. إن الرحلة التي نختبرها عبر الزمن عوضا عن المسافة لا تُعدنا للحقيقة الجديدة لهذا المكان. فنحن لم نواجه الإحساس بعبور المسافة "الحقيقية": التغيرات التدريجية للمشهد، والتدرج في المناخ، وسلسلة التفاعلات الاجتماعية، والملل longueurs، وفترات التعطل
صفحة (6)
والتوقف ، واللحظات الرمزية لعبور الحدود والمادياتية المطلقة التي يمنحها السفر عبر "الزمن الحقيقي"، مثل رحلة بالسكك الحديدية. يتركنا انضغاط المسافة هذا مشوشين بصورة مؤقتة، وبالتالي نصبح بحاجة للتكيف مع حقيقة تتسم بكونها فورية ومتحدية في اختلافها otherness، ويرجع ذلك تحديدا لأنه يسهل الوصول إليها تماما. وبالتالي، فمن بين الإجراءات اللازمة لتحقيق العولمة، نجد مدى توافق قهر المسافة المادية مع مثيله في المسافة الثقافية.
هناك طرق مختلفة يمكننا أن نفكّر من خلالها في هذا الموضوع. والأكثر وضوحا من بينها هو أن نسأل عن "مدى" اختلاف مكان الوصول في الحقيقة، أي في العالم الحديث، من مكان ركوب ]الطائرة[. ويعني هذا أن ننتقل إلى الحديث عن المجانسة homogenization الثقافية. تطرح فرضية المجانسة العولمة باعتبارها متزامنة مع متطلبات ثقافة استهلاكية موحّدة ، مما يجعل جميع الأمكنة تبدو متشابهة تقريبا. ولذلك فإن التشديد على المجانسة الثقافية باعتبارها نتيجة للعولمة يعني الانتقال من المرتبطية ، عن طريق التقارب ، إلى فرضية الاتساق العالمي وكلية الوجود ubiquity. وكما سأجادل في الفصل الثالث، فهذا أمر مفاجئ، ويمثل، بطرق متعددة، حركة غير مبرّرة. وعلى أية حال، فبوسعنا أن نرى كيف أنه يمتلك قدرا من المقبولية، وخصوصا عند التفكير به من حيث علاقته بمثال النقل الجوي. ولأنه ليس هناك سبيل لإنكار التشابه بين المطارات في جميع أنحاء العالم، فإن مخارج ومداخل الفضاءات الثقافية المختلفة، كما أشير إليها في كثير من الأحيان، تتسم بكونها متماثلة وموحّدة بدرجة مثيرة للفضول. وعلى أية حال، فقد تكون لهذه الملاحظة أهمية محدودة، إذ أنه من الواضح تماما أن المطارات تمثال أنواعا خاصّة من الأماكن المحددة بفعل المتطلبات الوظيفية لعملها، والذي يتمثل تحديدا في تقليل الاختلاف ثقافي لمصلحة مشتركية commonality وظيفية، بتيسير مرور المسافرين الدوليين. ولتحديد ما إن كانت فرضية المجانسة ستسود حقا، عليك أن تخاطر بالخروج من أمان المطار وتتوغل تدريجيا إلى عمق المنطقة النائية hinterland الثقافية المحفوفة بالمخاطر. قد يكون هذا أمرا يكره المنظّرون عمله. لأن الالتقاء بفوضى وخصوصيّة الممارسات الثقافية الفعلية يمثل بطبيعة الحال خطورة على النظريات- مثل فرضية المجانسة- التي تأسّست على مبعدة من التجريد الواسع. لدى ملاحظة النزعات الانضباطية المختلفة تجاه المستويات المتدرجة من التجريد النظري، لاحظ نيستور غارسيا كانكليني باستهزاء أنّ "عالم الأنثروبولوجيا يصل إلى المدينة سيرا على الأقدام، ويصل عالم الاجتماع بالسيارة عبر الطريق السريع الرئيسي، في حين يصل اختصاصي الاتصالات بالطائرة " (1995: 4Canclini ). إنّ التشديد على المجانسة العالمية للثقافة يشبه قليلا الوصول بالطائرة ولكن مع عدم مغادرة المطار مطلقا، مع قضاء المرء لكلّ وقته وهو يتجول بين الماركات العالمية للمنتجات التي تباع في محلات السوق الحرة.
صفحة (7)
ولذلك، إذا تركنا جانبا الافتراضات المتعلقة بالمجانسة الثقافية الواسعة في الوقت الحاضر، دعونا نتتبع فكرة العلاقة بين المرتبطية والتقارب الثقافي من خلال التفكير في عملية التعديل التي تحدث خارج مبنى الوصول في المطار. يظهر تحقيق العولمة هنا كدالة على السهولة التي يمكن بها إنجاز هذا التعديل. وهذا يكشف بعض "التباين" المتأصل في العولمة. عند إحدى نهايتي متصل continuum من التجربة، يمكننا أن نجد المسافر البارع على درجة رجال الأعمال، والذي يعرض أوراق الاعتماد الخاصة به ("الخاصة به"، في الغالب) بعدم المبالاة الذي يفعّل به التعديلات الاجتماعية-الثقافية للوصول: التحديد السريع لموقع سيارة الأجرة، الانتقال السهل إلى الفندق الدولي المحجوز مسبقا، في حين يستغرق تدريجيا، وبارتياح، في ذلك المشهد المتغيّر، مع التطمين الذي يمثله وجود كافة التسهيلات- مثل أجهزة الفاكس، وأخبار الأعمال على محطة CNN، وقائمة الطعام الدولية- التي ستسمح له بالعمل بشكل مستقل عن السياق المحيط به. ولأن اهتمام السفر من أجل العمل ينصب في الحقيقة على تقليل الاختلاف الثقافي بحيث يسمح للممارسات "العالمية" لثقافة الأعمال الدولية بالاشتغال بسلاسة. وهذه هي المرتبطية وهي تشتغل بصورة عملية لتحقيق ضرب مختلق من "القرب" الذي يتم اختباره كحالة كونيّة universality. تكون الأماكن البعيدة قريبة ثقافيا بالنسبة للمديرين التنفيذيين لأنه قد تم التداول بشأنها بعناية وفقا للعمل المعني: أي التوحيد الدولي في الفندق وغرفة الاجتماعات، والتي يتم تحسينها، ربما، ببعض الملامح المحلية فيما يتعلق بالأنشطة الترفيهية لفترة المساء.
من وجهة النظر الوسائلية للرأسمالية، إذن، تعمل المرتبطية على زيادة القرب الوظيفي. لا يجعل هذا جميع الأماكن متشابهة، لكنّه يخلق فضاءات معولمة، كما أن الأروقة الموصلة تسهل من تدفق رأس المال (بما في ذلك سلعه وموظفيه ) بصورة متوافقة مع انضغاط الزمان- المكان الخاص بالمرتبطية مع درجة ما من "الانضغاط" الثقافي. وهذا بالتأكيد بُعد مهم للعولمة. لكنّه لا يدرك الصورة الكاملة، ويخاطر بالمبالغة في حجب المرتبطية بالتقارب الثقافي. يتمثل الأمر الذي لا يختبره المسافر على درجة رجال الأعمال نمطيا في تلك اللمحة المميزة للممارسات الثقافية اليومية المحدّدة بفعل العوامل المحلية بدلا من تلك العالمية، والتي تحافظ على التباين الثقافي في مواجهة المرتبطية المتعدية. لا تكشف هذه الثقافة عن نفسها في الفنادق الدولية ذات الخمسة نجوم، ولكن في الشوارع، وفي البيوت، ودور العبادة، ومواقع العمل، والحانات والمتاجر الواقعة بعيدا عن مراكز الأعمال أو المزارات السياحية.
إن هذه "النواحي المحلية" localities هي ببساطة تلك الأماكن حيث يعيش الناس حياتهم اليومية: أي البيئات اليومية لما يسمى "بالديار". وبالنسبة للبعض، قد توجد هذه منضغطة بشدّة إلى السياج المحيط بمدرج المطار، برغم أنها تمثل جزءا من "عالم" ثقافي مختلف كليّا
صفحة (8)
عن ذلك الخاص بالمرتبطية التي يمثلها النقل الجوي. ومن الواضح أنهما ليسا محكومين بنفس المتطلبات الآنية للمرتبطية والتوحيد الوسائليين، واللذين ينظّمان ثقافة الأعمال الدولية. إن دخول مثل هذه البيئات يعني دخول نظام الحياة الاجتماعية الذي يستشعر تأرجح الشؤون المحليّة أكثر من متطلبات العالمية ، والذي يُظهر خصوصية – أي الاختلاف الثقافي – لـ "الناحية". عندما تثير المناقشات حول العولمة مسألة العلاقة "العالمية- المحليّة"(كما تفعل معظمها)، فما تستحضره هو ذلك النظام الفسيح للحياة اليومية.
يضل قليل من مسافري الأعمال في هذه البيئات (حتى يعودون، بطبيعة الحال، إلى النواحي المريحة الخاصة بهم). ولذا فإن هذا المستوى من التباين الثقافي يكون خفيا في كثير من الأحيان عند رؤيته من منظور عولمة رأس المال التي تعمل على نحو متناغم. وهو أقرب احتمالا لأن يُصادف من قبل المسافرين الأقل تنظيما أو ذوي الموارد المحدودة : أي من قبل العمال المهاجرين أو ربما من قبل السيّاح المستقلين ذوي الميزانية المحدودة. في الفضاء العالمي لمبنى الوصول في المطار ، قد يبدو أولئك الأشخاص أقل براعة في طقوس الوصول، لكن محدودية مواردهم تعني أنّهم يخترقون بسرعة إلى العمق من ثقافة الناحية: إذ يستقلون الحافلة بدلا من سيارة الأجرة؛ وينزلون في فندق أساسي في أحد أحياء الطبقة العاملة، والذي يفتقر إلى "العزل" insulation الثقافي الذي تزوّده منزلة الخمسة نجوم؛ والحاجة للتسوّق في المتاجر المحليّة الرخيصة. سرعان ما يصبح أولئك المسافرون مفسرين أكثر براعة، يختبرون المجالات الحقيقية للتقارب الثقافي خارج جيوب enclaves ثقافة الأعمال العالمية. وبالتالي، فإن الرحلة إلى النواحي تمثل رحلة إلى الحقيقة المتحدية للتباين الثقافي، مما يطرح سؤالا عن مدى ترسيخ المرتبطية "للتقارب" فيما وراء الشكل التكنولوجي لزيادة الوصول access .
عند هذه النقطة، علينا أن ننتقل إلى ما وراء مثال النقل الجوي. إن تتبع فينومينولوجية هذا الشكل الذي تمثله المرتبطية يدفعنا نحو فهم "بارز" للعولمة الذي يتسم بكونه ساحرا لكنه محدود في تطبيقه. يمثل السفر بالطائرات النفّاثة جزءا جوهريا من المرتبطية ، ويستوجب الاهتمام - من خلال اندماجه العادي المتزايد في الحياة اليومية- باعتباره تجربة ثقافية. لكن من الواضح أنه لا يكشف سوى جانب واحد مما تنطوي عليه المرتبطية. أولا لأنه، وبرغم كلية وجوده المتزايدة (2)، فهو ما زال مقتصرا على أعداد قليلة "نسبيا" من الناس، وعلى كادر، ضمن هذه المجموعة، أقل عددا وأكثر استثنائية، من المستخدمين المتكرّرين. كثير من الناس الذين يعيشون في البلدان الأكثر تقدما من العالم لم يسبق أن استقلوا طائرة، ومن الواضح أن هذا ينطبق على ملايين عديدة من سكان البلدان الأقلّ تقدما. وبالتالي فإن النقل الجوي، مثله في ذلك مثل استخدام الإنترنت، يمكن أن يُرى كمجرّد عولمة متوفرة للأغنياء دون غيرهم. وإذا كان الأمر كذلك، فسيفقد معظم ادّعائه بكونه حالة عامّة
صفحة (9)
لعصرنا الحالي. لكن، الأمر الأكثر أهمية، فالإحساس بالمرتبطية العالمية الذي يدلّ عليه هذا النوع من التكنولوجيا المعولمة الشهيرة يدفع، كما رأينا، نحو إحساس استثنائي ومبالغ فيه بالتقارب.
وإذا كانت المرتبطية تدلّ حقا على التقارب كحالة اجتماعية- ثقافية عامّة، يجب أن يُفهم هذا باعتباره تحوّلا في الممارسة والخبرة، والذي يُحسّ في الحقيقة داخل النواحي المحلية بقدر ما يستشعر في الوسائل التكنولوجية المتزايدة للوصول إليها أو الخروج منها. يشير لاش وأوري Lash and Urry (1994: 252) إلى أنّ "المجتمع الحديث هو مجتمع متنقّل" ، وأنه " لا يمكن تصور العالم الحديث بدون.. . الأنماط الجديدة من النقل والسفر عبر المسافات البعيدة". لا أريد أن أختلف مع ذلك، لكني أعتقد أنه من المهم أيضا ألا نبالغ في تقدير أهمية السفر عبر المسافات البعيدة سواء في حياة معظم الناس الذين يعيشون في العالم اليوم أو بالنسبة لعملية العولمة ككل. إن "الحياة المحليّة" – التي تتم المقارنة هنا بينها وبين "الحياة العالمية" العابرة التي يمثلها الفضاء ومبنى المطار (أو في الحقيقة الوحدة الطرفية لجهاز الكمبيوتر computer terminal) – هي النظام الهائل للوجود الاجتماعي الإنساني الذي يستمرّ، بسبب قيود التجسيد المادي physical embodiment ، في الهيمنة، حتى في ظل عالم معولم. تشغل الحياة المحليّة معظم الزمان والمكان. وبرغم أن القدرة المتزايدة على الانتقال- ماديا وتمثيليا - بين الأماكن تمثل نمطا بالغ الأهمية من المرتبطية ، إلا أنها في النهاية تخضع – أو بالأحرى تُشتق من - ترتيب الموقع في الزمان والمكان الذي ندركه باعتباره "الوطن". تعمل العولمة على تحويل هذا النظام المحليّ، لكن أهمية هذا التحويل تتخطى نطاق الإنجازات التكنولوجية للاتصالات والنقل. وعند صياغة الأمر ببساطة، تعني المرتبطية تغيير طبيعة النواحي وليس مجرد نقل بعض الناس منها من حين لآخر. ولذلك أعتقد أن تصريحا مثل القول بأنّ " التجربة الحديثة النموذجية تتمثل في قابلية الحركة السريعة عبر المسافات الطويلة" (Lash and Urry 1994: 253) من الضّروري أن يُعامل ببعض الحذر. قد يكون من الأقرب للصواب أن نقول بأن التجربة النموذجية للحداثة العالمية بالنسبة لمعظم الناس- وهذا ليس غير ذي صلة ، بطبيعة الحال، بالارتباط بين الدخل وقابلية الحركة – تتمثل في البقاء في مكان ما، مع تجربة "الإزاحة" displacement التي تجلبها إليهم الحداثة العالمية.
يتمثل فهم العولمة بهذه الطريقة في الانتباه للأشكال الأخرى التي ذكرناها للمرتبطية. ويتمثل الأمر بصفة خاصة في إدراك "التقارب" الذي يتأتى من شبكة العلاقات الاجتماعية عبر قطاعات كبيرة من الزمان-المكان ، مما يجعل الأحداث والقوى البعيدة تخترق تجربتنا المحليّة. وهو يعني فهم الكيفية التي يمكن أن يتعرض بها شخص ما للبطالة كنتيجة لقرارات "تقليص العمالة" التي تُتخذ في المقرّ الرئيسي للشركة والموجود في قارة أخرى، أو
صفحة (10)
كيف يختلف اليوم الطعام الذي نجده في أسواقنا المركزية بصورة جذرية عما كان عليه قبل عشرين سنة بسبب التفاعل المعقّد بين الذوق taste الكوزموبوليتاني وبين الاقتصاديات العالمية لصناعة المواد الغذائية، أو كيف أن إحساسنا نفسه بالانتماء الثقافي- للوجود "في الوطن" - قد يتبدّل بصورة خفية بفعل اختراق أجهزة الإعلام المعولِمة globalizing إلى حياتنا اليومية. إن هذه الأنماط من التحول هي التي سأركز عليها بصوة أساسية في الفصول التالية.
المرتبطية والأحدية العالمية
لكني أريد الآن أن أنتقل، بصورة موجزة، إلى إسهاب/انحراف مُهم آخر عن الفكرة الرئيسية للمرتبطية. وتتمثل هذه الفكرة في أن المرتبطية محيطة encompassing عالميا، وبالتالي فهي تدلّ ضمنا على ثمة "أحدية" Unicity معينة: وهو إحساس بأن العالم يصبح، لأول مرّة في التاريخ، مكانا وزمانا اجتماعيا وثقافيا واحدا. وفي حين كان من الممكن في الماضي فهم العمليات والممارسات الاجتماعية والثقافية كمجموعة من الظواهر المحليّة، "المستقلة" نسبيا، تحوّل العولمة العالم إلى "مكان واحد". ومن الأمثلة الواضحة على هذا، نجد الطريقة التي تتشابك بها الشؤون الاقتصادية للدول القومية مع الاقتصاد الرأسمالي العالمي، أو كيف يمكن للتأثيرات البيئية للعمليات الصناعية المحليّة أن تتحول بسرعة إلى مشكلات عالمية.
وعلى أية حال، فمن منظور ضيق ، نجد أن فكرة كون العالم يصبح مكانا واحدا لا تتعلّق سوى بصورة احتمالية بفكرة تزايد المرتبطية. وبرغم أنّه من المعقول الاعتقاد بأن التطور السريع لشبكات التواصل سيحيط في النهاية بكافة جوانب المجتمع الإنساني، فهذا لا يمثل على الإطلاق نتيجة حتمية منطقيّة للفكرة. وبرغم اتساعها، لن يتجاسر سوى قليلون على الادّعاء بأن المرتبطية المعقّدة للعولمة تتوسع حاليا بأيّ طريقة يصعب فهمها لتشمل كلّ شخص منفرد أو مكان على سطح كوكبنا الأرضي، كما أن التخمينات المتعلقة بانتشارها لابد وأنها تزداد صلابة بفعل النزعات المتعارضة العديدة المسببة للانقسام الاجتماعي والثقافي، والتي نراها من حولنا.
وبرغم هذا، علينا أيضا أن نقر بوجود ثمة جذب في اتجاه "الوحدوية" unitary في كل من مفهوم العولمة وفي العمليات التجريبية التي تصفها. يمتلك تعبير "عالمي" نفسه دلالات قوية على الكمال والشمولية المستمدة من كل من استخدامه المجازي (العالمي باعتباره "كليا") ومن الدلالات المحضة للشكل الهندسي: على سبيل المثال، في ارتباط مصطلحات مثل "محيط" بالشكل الكروي للأرض. وبالتالي، فمن المؤكد أن العولمة، كمفهوم، تمتلك القوة الدلالية "للميل نحو الأحدية"، وإذا لم تكن الحالة التجريبية للمرتبطية، والتي تعرفنا عليها، تمتلك مثل هذه التضمينات ، يبدو الأمر ببساطة كما لو أننا،
صفحة (11)
باستخدام "العولمة"، قد عثرنا جميعا، بطريقة ما، على الكلمة الخاطئة! إن ما نحتاج إليه هو طريقة للتفكير المتعمق في تضمينات الأحدية، والتي لا تتسبب في مزيد من الانحرافات المثيرة للجدل: أي أن تلقي الأحدية بظلالها إمّا على "الاتساق" uniformity أو "الوحدة" unity.
تمحورت أبحاث رولاند روبرتسون المتعمقة حول العولمة على هذه المشكلات، ويقدم لنا صياغة محنكة لفكرة "انضغاط العالم إلى "مكان واحد" " (Robertson 1992: 6). وفي حين يزعم أنّ "الاتجاهات نحو أحدية العالم، عند أخذ جميع العوامل ذات الصلة في الاعتبار، تبدو صلبة لا تلين" (1992: 26)، يزوّدنا روبرتسون بنموذج يُضعف بعض الانتقادات الآنية التي قد تستقطبها مثل وجهة النظر هذه. يتمثل إحساس روبرتسون بالأحدية العالمية، جوهريا، في سياق يحدّد العلاقات الاجتماعية على نحو متزايد ، وفي الوقت نفسه في إطار مرجعي تقوم القوى الاجتماعية في داخله، وعلى نحو متزايد، بتقرير وجودها وهويّاتها وأفعالها. بالنسبة لروبرتسون، إذن، لا تدل الأحدية العالمية على اتساق بسيط- أي على شيء يشبه ثمة "ثقافة عالمية"، فهي بالأحرى حالة اجتماعية وفينومينولوجية معقّدة - أي" الحالة الإنسانية العالمية" التي تستحضر فيها الرتب المختلفة للحياة الإنسانية للتفاعل مع بعضها البعض. وهو يحدد أربعة من هذه الرتب : الأفراد من البشر، والمجتمعات الوطنية، و"النظام العالمي للمجتمعات"، والجماعية collectivity المهيمنة "للجنس البشري" . إن العولمة، بالنسبة له، هي التفاعل المتزايد بين هذه الطبقات المكونة للحياة الإنسانية، ولذلك فإن " العالم كمكان واحد" يشير ضمنا إلى تحول هذه الأنماط من الحياة، أثناء قيامها على نحو متزايد باتخاذ مواقف متعارضة، واضطرارها لأخذ بعضها البعض في الاعتبار. وليس هذا أحدية المجانسة ولا هو إحساس ساذج بوحدة المجتمع (comm)unity العالمي الملحة. وفي الحقيقة، ولكونه بعيدا كل البعد من اقتراح عملية من الاندماج السلس، فإن نموذج روبرتسون للأحدية هو نموذج يمكن فيه للاختلاف الاجتماعي والثقافي أن يتم إبرازه بكل دقة، إذ يتم التعرف عليه من حيث علاقته ب" العالم ككل".
على سبيل المثال، يمكننا تدبّر كيف تتعامل مقاربة روبرتسون مع الاعتراض الواضح على الفكرة العريضة للأحدية العالمية: أي الحالات المتعارضة العديدة من التشظي fragmentation التي تظهر في العداوات العرقية والإثنية الدائرة في العالم المعاصر، والحمائية الاقتصادية ، والأصوليّة الدينية، وما إليها. يتمثل ردّ روبرتسون في الإشارة إلى إحدى السمات الهامّة لهذه الحالات المضادة: وهي حقيقة أنّها "مراقَبة بشكل انعكاسي". وبأخذه لمثال الحمائية الاقتصادية المعاصرة، يجادل بأنه
مقارنة بالأنماط الأقدم من الحمائية والاكتفاء الذاتي التي سادت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. . فإنّ تلك الجديدة موجودة بوعي ذاتي أكبر ضمن منظومة عالمية الانتشار من القواعد والتنظيمات العالمية
صفحة (12)
المتعلّقة بالتجارة الاقتصادية وإدراك الاقتصاد العالمي ككل متكامل. ولا يعني هذا بالتأكيد أنّه سيتم التغلّب على الحمائية بمثل هذه العوامل، لكنّه يعني أنّ الأطراف ذات العلاقة، بمن فيهم "المواطنين العاديين" ، مجبرون على نحو متزايد على التفكير في العالم ككل متكامل، وهي ليست بالظروف الملائمة بالضرورة. (Robertson 1992:26)
بالنسبة لروبرتسون، إذن، فإن بنى المرتبطية العالمية تتحد مع وعي متغلغل بهذا الموقف لرفع أيّ أحداث محليّة بصورة حتمية إلى أفق عالم واحد. ويمكن إيجاد حجة مماثلة "للحمائية الثقافية" المتضمنة في الأصوليّة الدينية، والتي قد يتم تأويلها كدفاع خجول عن المعتقدات والقيم والممارسات "التقليدية" المحددة بدقة بفعل إضعاف التقاليد المهدّدة بالانضغاط العالمي.
تتمثل إحدى نقاط القوة الكبرى لمقاربة روبرتسون في تزويدنا بإطار مفاهيمي يحافظ على الإحساس المهم للعولمة باعتبارها منطوية على الكمال والشمولية - كسياق – في حين تسمح لها بالتعامل مع التعقيدات التجريبية empirical لعالم يبدو أنه يتكشف عن عمليات متزامنة من التكامل والتمايز. إن ذلك النوع من العالم الذي يمكن فيه أن يستخدم المرتبطية التكنولوجية للإنترنت- كما يتمثل في الانتشار الحالي لمواقع الويب "الطائفية"- للتأكيد العدواني على الاختلافات الإثنية، أو الدينية أو العرقية. ولذلك أعتقد أن روبرتسون محق جوهريا في النظر إلى العولمة من حيث وجود ثمة أحدية مستبطنة. وليس هذا بسبب تعقيد نموذجه فحسب، بل لأن هناك أيضا حاجة سياسية ملحة لاستبقاء تلك الفكرة. فمع وصول المرتبطية إلى النواحي، فهي تحوّل التجربة المُعاشة محليّا لكنّها تجابه الناس أيضا بعالم ترتبط فيه مصائرهم معا دون ريب ضمن إطار عالمي واحد. وهذا واضح من حيث أوجه التكامل الاقتصادي للسوق العالمية، أو من حيث الخطر البيئي العالمي الذي، كما صاغها أولريخ بيك (Ulrich Beck 1992:47)، " يجعل المدينة الفاضلة (اليوطوبيا) للمجتمع العالمي أكثر واقعية قليلا، أو أكثر إلحاحا على الأقل". وبالتالي، فإن المرتبطية تفترض الأحدية كمبدأ ثقافي-سياسي. يجب أن تُرفع التجربة المحليّة إلى أفق "العالم الواحد" إذا أردنا أن نفهمها، وتحتاج الممارسات وأنماط الحياة المحليّة، على نحو متزايد، لأن تُفحص وتقيّم من حيث نتائجها العالمية.
الثقافة كأحد أبعاد العولمة
جرى معظم المناقشة السابقة ضمن "سجلّ" ثقافي عريض، يتميّز في مفرداته وتشديده عن مثيلاتها
صفحة (13)
في الاقتصاد أو السياسة، على سبيل المثال. لكن كيف بالتحديد يتوجب علينا أن نفكّر في الثقافة كمفهوم وككيان متعلق بالعولمة؟ من بين الأجوبة الشائعة أن ننظر إليها كأحد "أبعاد" العولمة. كثيرا ما ينظر الآن إلى العولمة كظاهرة "متعددة الأبعاد"- وهو وصف يسير في الظاهر لكنه، إذا أخذ بما يكفي من الجدية، وصف ذي تضمينات قاسية بالنسبة للتحليل (الثقافي، على الأقل).
تعدد أبعاد العولمة
إن تعدد الأبعاد Multidimensionality وثيق الصلة بفكرة المرتبطية المعقّدة. فلأن تعقيد الارتباطات التي تنشئها العولمة يمتد إلى الظواهر التي اجتهد علماء الاجتماع في فصلها إلى المقولات التي نقوم من خلالها الآن، بشكل مألوف، بتفكيك الحياة الإنسانية: الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وبين الأشخاص، والتقنية، والبيئية، والثقافية، وهلم جرا. تدحض العولمة مثل هذا التصنيف بشكل يمكن إثباته .
لنأخذ، على سبيل المثال، قضية بيئية مثل نفاد طبقة الأوزون بسبب استخدام الكلوروفلوروكربونات (CFCs) في المرشّات البخّاخة أو الثلاجات. أدى اكتشاف تأثيرات هذه المركبات الكيميائية على طبقة الأوزون الواقية للأرض إلى ترسيخ مثال أساسي على مشكلة عالمية، أي واحدة تتضمن، كما يقول ستيفن ييرلي Yearley، " انضغاط الكرة الأرضية". ويعنى هذا أن بعض المتهمين الرئيسيين (ولو كانوا غير مدركين لذلك) – أي مستخدمي مزيلات رائحة العرق ومرشات تلميع الأثاث في المراكز الكثيفة السكان في العالم المتقدم- كانوا يحدثون تلوثا يمكن أن "يسلب بيئة جيرانهم، الذين يبعدون عنهم بآلاف الكيلومترات على سطح الكوكب" - وبحدّة تبلغ أقصاها في المناطق القطبية (Yearley 1996:27). من المؤكد أنّ مشكلة الكلوروفلوروكربونات هي واحدة متعلقة بالمرتبطية في هذا السياق الجغرافي المباشر. لكنّها أيضا مشكلة تقوم، من خلال تشعباتها المعقّدة، بالمرتبطية بين عدد من الخطابات التفسيرية. ومن الواضح أنها مسألة تقنية، تم من أجلها تطوير "حلّ" تقني على وجه السرعة، والذي تمثل في إيجاد دواسر propellants كيميائية بديلة. لكن تبني هذا الحلّ التقني أثار مجموعة كبيرة من القضايا السياسية الدولية خلال محاولة التوصل إلى معاهدة حول تنظيم استخدام الكلوروفلوروكربونات: وهي "بروتوكول مونتريال" لعام 1987. أثناء هذه المفاوضات، ظهرت اختلافات بين المصالح الاقتصادية للبلدان المنتجة للكلوروفلوروكربونات، وتلك التي كانت مجرد مستهلكة لهذه المنتجات. تضخّمت هذه المشاكل في حالة مصالح "العالم الأول" مقابل مثيلاتها في "العالم الثالث"، حيث أثار الالتزام العالمي القضية التي قُتلت بحثا للمساعدات الاقتصادية المقدمة من العالم المتقدم كحافز للبلدان الفقيرة مثل الهند، من أجل
صفحة (14)
التحول إلى تقنيات غير الكلوروفلوروكربونات (Yearley 1996: 107 ff). وبالتالي، فقد ربطت قضية الكلوروفلوروكربونات بين الخطابات الاقتصادية، والبيئية، والأخلاقية، والعلمية، والقانونية، والسياسية وبين بعضها البعض. وهناك العديد من المنظورات التي يمكن النظر من خلالها إليها كقضية ثقافية في العمق: على سبيل المثال، التغير في الوعي الثقافي ("التفكير الأخضر") الذي انطوت عليه عندما بدأ الناس يربطون بين الملامح العادية لنمط حياتهم وبين النتائج العالمية، أو التغير الذي تسببت فيه في ما يتعلق بالممارسات الثقافية، إذ أصبح أخذ حمام شمس فجأة مسألة محفوفة بالمخاطر، إذ يرتبط بخطر الإصابة بالسرطان، وهو أحد المخاوف الرمزية الكبرى للعالم المتقدم.
تُظهر أمثلة مثل هذه أن الظواهر المعولِمة، في جوهرها، معقّد ومتعدّدة الأبعاد، مما يفرض ضغوطا على الإطار المفاهيمي الذي كنا ندرك من خلاله العالم الاجتماعي تقليديا. وعلى أية حال، وبالنظر إلى كل من صعوبة وضع تفسير متزامن لكافة ملامح هذه الظواهر، وقوّة الحقول الأكاديمية في إدارة وتنظيم المعرفة، فليس من المفاجئ أن تتواصل محاولات تفسير العولمة بتعبيرات "أحادية البعد". يتعرض الناس للقضية وقد أتوا من تقاليد فكرية مختلفة ولديهم أولويات ومبادئ مختلفة للحصول على المعلومات. وتُسجب هذه، بشكل مفهوم، عائدة من التعقيد إلى "البساطة" النسبية للمفاهيم الرئيسية مثل الرأسمالية، والدولة القومية، وما إليهما. لكننا إذا أخذنا تعدد الأبعاد بجدية، فمن المحتم أن تحرّف مثل هذه التفسيرات حقيقة العولمة: فإذا فقدت التعقيد فستفقد الظاهرة نفسها.
ولتوضيح هذا، يمكننا أن نتدبر بصورة موجزة مقاربتين اثنتين، مختلفتان تماما في تحليلهما وسياساتهما ، لكنهما متطابقتين من حيث مفهومهما للعولمة ضمن المجال المنفرد للاقتصاد- كأحد ظواهر السوق الرأسمالية.
إن أولى هاتين المقاربتين مستقاة من أدبيات استراتيجية الأعمال المتعلّقة بالشركات. وباعتباره واحدا من أغزر الكتّاب إنتاجا في هذا المضمار، يجادل خبير إستراتيجيات الأعمال الياباني كينيشي أوماي Ohmae بأنّ الدول القومية تصبح غير ذات صلة بالموضوع عند النظر إليها من وجهة نظر السوق الرأسمالية. ويدّعي أنّ "الدول القومية التقليدية تحولت إلى وحدات عمل غير طبيعية، وحتى مستحيلة، ضمن اقتصاد عالمي. " ويجادل، عوضا عن ذلك، بأن علينا أن نفكّر بعالم من الاقتصاديات الإقليمية "حيث يُنجز العمل الحقيقي وتزدهر الأسواق الحقيقية": " إن ما يحدد [هذه] ليس موقع حدودها السياسية، لكن حقيقة أنها تمتلك الحجم والمقياس اللازمين لأن تمثّل وحدات العمل الطبيعية الحقيقية في اقتصاد اليوم العالمي. إن ما تمتلكه هو الحدود- والارتباطات - المهمة في عالم بلا حدود(Ohmae 1905:5).
إن الميل للنظر إلى العالم كمجرد فرصة عمل يمثل أمرا غير مفاجئ ضمن هذا الخطاب. ومن خلال هذا التفسير، لا يفهم أناس مثل أوماي فكرة العولمة سوى ضمن كونهم
صفحة (15)
الاستطرادي discursive الخاص - متماسك، برغم أنه ضعيف ووسائلي. لكنّه ليس محتوى ذاتيا تماما كما يبدو عليه، لأن هذا الخطاب سيفيض حتما على المجالات الأخرى. من الواضح أن أوماي لا يكتفي بطرح الادعاءات المتعلقة بالمحيط السياسي لنظام الدولة القومية الذي يثير جدلا واسعا (Anderson 1995; McGrew and Lewis 1992; Cerny 1996)، بل إنه يتدخّل أيضا في ثمة خطاب ثقافي. وعلى سبيل المثال، فهو يجادل بأنّ السوق العالمية تنتج "حضارة عابرة للحدود". ويستند هذا إلى الادّعاء (المتوقّع) حول " تقارب أذواق وتفضيلات المستهلكين ": " الماركات العالمية من الجينز الأزرق، والكولا، والأحذية الرياضية الأنيقة" (1995: 29). لكنّه يذهب إلى أبعد من هذه الفرضية البسيطة للاستهلاك- التقارب، ليجادل بأن ثمة انقسامات ثقافية/ جيلية generational أكثر عمقا تحدث حاليا، في المجتمع الياباني على سبيل المثال، إذ أن "أطفال النينتدو" – وهم المراهقين اليابانيين لعقد التسعينيات- تعلّموا مجموعة من التصوّرات والقيم الاجتماعية تختلف عن تلك التي تعلمها آباؤهم وأجدادهم. ويجادل بأن هذا الجيل أقل تقبلا بكثير للأفكار اليابانية التقليدية عن السلطة والالتزام، كونهم أكثر انفتاحا، واستفسارا، وإبداعا، من الناحية الثقافية: " كلّ شيء يمكن استكشافه، وإعادة برمجته، وإعادة ترتيبه... وكلّ شيء، في النهاية، مفتوح أمام الاختيار، والمبادرة، والإبداع –والجرأة المدروسة " (ص. 36). ويشتقّ هذا التغيير، كما يدّعي أوماي، من الشكل التكنولوجي للمرتبطية : استخدام أجهزة الكمبيوتر، وألعاب الكمبيوتر، والوسائط المتعددة التفاعلية: "مراقبة كيفية إظهار طفل من ثقافة أخرى، والذي لم تراه من قبل أبدا، لملامح شخصيته وعقليته من خلال نمط البرمجة " (ص.37).
إنّ نمط الاستدلالات الثقافية الذي يستشهد به أوماي مصبوغ بعمق بأحادية بُعد unidimensionality هذا الإطار. إنّ القيم الناشئة التي يتعرف عليها في الأطفال اليابانيين هي بوضوح تام تلك الخاصة برأسمالية الشركات، وهو يرسم بشكل متوقع صورة دائمة التفاؤل " للبوتقة الجديدة لحضارة اليوم العابرة للحدود" (ص.39). لكن العيب هنا ليس أيديولوجيا فحسب: فهو يتضمّن اختزالية reductionism اجتماعية وتعليلات منطقية أحادية السبب تميّز بدقة ثمة مقاربة أحادية البعد.
أتى بعض أكثر الانتقادات حدة لأوماي والموقف الذي يمثّله، في تحليل هيرست وتومسون المتشكك في فرضية العولمة الاقتصادية، في كتابهما المعنون "التشكيك في العولمة" (1996) يتحدّى هيرست وتومسون على وجه التخصيص تلك الأفكار المرتبطة بالمفهوم العابر للحدود الوطنية transnationalization للاقتصاد وانتفاء الحاجة إلى الدولة القومية، كما يفهم من استخدامهما لعبارة " منظري العولمة المتطرّفين مثل أوماي"( Hirst and Thompson 1996: 185). وبدون تمحيص تفاصيل مقالتهم النقدية تلك، يمكننا أن نلاحظ الشروط الضيّقة بصورة خجولة التي بنيت ضمنها. إن هيرست وتومسون، وهما محللان ذوا مبادئ وأحاديا البعد،
صفحة (16)
يعرفان العولمة عن عمد كدالة للاقتصاد.
ومن خلال المجادلة بأنّ العولمة الاقتصادية التي يطرحها مفكّرين مثل أوماي هي" في معظمها محض خرافة " (1996: 2Hirst and Thompson, ) (4)، كان هيرست وتومسون حريصان للغاية على تعيين حدود مقالتهما النقدية، فهما يعترفان بوجود أدبيات "واسعة ومتنوّعة" حول العولمة، وبأنماط الفهم المتباينة لتلك العملية ضمن السياقات الموضوعية المختلفة. ولكنهما، على الرغم من ذلك، يدّعيان بأنّ نقد البُعد الاقتصادي قاتل أيضا لكلّ أنماط الفهم الأخرى: " نحن نعتقد بأنّه بدون فكرة وجود اقتصاد معولم بحق، فإن العديد من النتائج الأخرى المطروحة كأدلة في مجالات الثقافة والسياسة إمّا تتوقّف عن أن تكون مستدامة أو تصبح أقل تهديدا" (ص.3) لكن هذا يعني بوضوح أننا نميل نحو اختزالية يسوق فيها الاقتصاد أمامه كلّ ما عداه. يدعم هيرست وتومسون ظاهريا الفكرة القائلة بأن العولمة متعددة الأشكال multiform، لكنهما يتجاهلان أيّا من تضمينات ذلك، على افتراض أن كامل صرح نظرية العولمة مبني على " فرضيات واهية"، من نمط الحالة الاقتصادية التي ينتقدانها.
وفي الواقع أن الفشل في متابعة الطبيعة المتعددة الأبعاد للعولمة له نتائج مباشرة بالنسبة لبعض ادّعاءاتهما حول طبيعتها "الخرافية". لأنهما يستمرّان في المجادلة، بشكل صحيح تماما، بأن قبول الادّعاءات المبالغ فيها حول قوّة الرأسمالية العالمية قد يكون معوِّقا من الناحية السياسية: "لا يمكن للمرء سوى أن يدعو التأثير السياسي" للعولمة" باسم باثولوجية التوقّعات المفرطة التضاؤل... لدينا خرافة تضخّم من درجة عجزنا في مواجهة القوى الاقتصادية المعاصرة" (1996: 6). تمتلك الآن مثل هذه الحجج قوة كبيرة عندما توجّه نحو اللغة المنمقة للعولمة، والتي ينظر إليها ببساطة باعتبارها القوّة غير المقيّدة للرأسمالية العابرة للحدود القومية. لكن القبول بتعريف العولمة ضمن هذه السياقات الاقتصادية الضيّقة يعني اشتراك المواقف التي ينتقدانها في أحادية البُعد one-dimensionality. ولأنه إذا تم فهم العولمة من حيث كونها مجموعة من العمليات المتزامنة، المرتبطة ببعضها بصورة معقّدة في مجالات الاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والتكنولوجيا وما إليها، يمكننا أن نرى أنّها تتضمّن جميع أنواع التناقضات، والمقاومات ، والقوى المتعارضة. وبالفعل، فإن فهم العولمة باعتبارها تتضمن "ديالكتيكا " من المبادئ والنزعات المتعارضة - المحليّة والعالمية ؛ والكونية والتخصيصية - هو أمر شائع الآن، خصوصا في التقارير التي تتصدر القضايا الثقافية (Axford 1995; Featherstone 1995; Giddens 1990; Hall 1992; Lash and Urry 1994; Robertson 1995; Sreberny-Mohammadi 1991). ولا يعني ذلك التقليل من أهمية البعد الاقتصادي في عملية العولمة. إن القوى المحركة للرأسمالية في كلّ من لحظاتها المتعلقة
صفحة (17)
بإنتاج وتوزيع واستهلاك السلع، مثقلة بالتضمينات حول ترابطنا المتزايد. ولا يعني هذا، على أية حال، أنّ التحليل الاقتصادي للرأسمالية العالمية هو الطريق الميسرة لفهم العولمة.
لكن إذا أصررنا على تعدد الأبعاد المرتبط بصورة معقّدة والخاص بالعولمة، علام يدلّ ذلك بالنسبة لثمة "مقاربة ثقافية"؟
البُعد الثقافي
إن أخذ تعدد الأبعاد بصورة جدية قد يكون، في حقيقة الأمر، متطلبا للغاية. إنّ الحجم والتعقيد المطلقين للحقيقة التجريبية للمرتبطية العالمية هما أمر يتحدّى محاولات الإحاطة به: فهو أمر لا يمكننا إدراكه سوى بالنفاذ إليه بطرق مختلفة. وما يشير إليه هذا هو أنّه من شبه المحتم علينا أن نفقد بعض تعقيد العولمة في أيّ تفسير معقول لها، لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أن تفسير أحد أبعادها- وهو أحد طرق النفاذ إلى العولمة- يجب أن يكون تفسيراً "أحادي البعد". لأن هناك طرقا أفضل وأسوأ لفعل ذلك.
من بين الطرق السيئة لذلك أن نبدأ من فرضية أن البُعد قيد النّظر يمثل الحوار الرئيسي، أي المجال "الذي تتلخص فيه جميع الأشياء حقا"، وهو المنطق الذي يفك مغاليق كلّ ما عداه. وهناك طريقة أفضل لذلك، والتي تتمثل في تعيين الطريقة المحددة لوصف العالم المُحتوى ضمن ثمة خطاب اقتصادي، أو سياسي، أو ثقافي، ومن ثم محاولة التوصل إلى فهم للعولمة ضمن هذه الشروط ، فيما نحرمها دائما من امتلاك أولوية مفاهيمية: أي متابعة أحد الأبعاد في التعرف الخجول على تعدد الأبعاد. وهذا النوع من التحليل المضاد للنظرة الاختزالية بصورة متعمدة يجب أن يجعلنا حسّاسين أيضا للنقاط التي ترتبط وتتفاعل عندها الأبعاد المختلفة.
ولذلك يجب أن تُمنح الأولوية للتحليل الثقافي. ويرجع ذلك على وجه الخصوص لأن مفهوم الثقافة "محيط" للغاية ، لدرجة أنّه يمكن النظر إليه بسهولة باعتباره المستوى الأمثل للتحليل- أليس كلّ شيء "ثقافيا" في النهاية؟ حسنا، لا. أو، على الأقل أنه لا يفيدنا على الإطلاق أن نفكر بالثقافة بهذه الطريقة، باعتبارها مجرد وصف لثمة "نمط كليّ للحياة". لأن هذا، كما وصفه كليفورد جيرتز ذات مرّة بصورة لا تُنسى (Geertz 1973: 4)، يؤدّي إلى تنظير "حسائي" - أي رمي أيّ شيء وكلّ شيء في اليخنة stew المفاهيمية التي يمثلها ذلك "الكلّ المعقّد" للوجود الإنساني.
يجب أن يتم تحديد معالم البُعد الثقافي بصورة أكثر دقة، وقد ثبت حتى الآن أن هذا أمر صعب التحقيق، باعتبار أن الثقافة، على أية حال، تمثل فكرة معقّدة ومحيّرة (Williams 1981; Clifford 1988; Thompson 1990; Tomlinson 1991; McGuigan 1992). ولا أنتوي، على أية حال، أن
صفحة (18)
أسهب هنا في الحديث حول مشاكل التعريف. هناك بعض الملامح المقبولة على نطاق واسع لما هو " ثقافي"، والتي يمكننا أن نبني عليها لنحصل على إدراك معقول لما ينتمي بحق إلى البُعد الثقافي للعولمة.
من الممكن أن تُفهم الثقافة في المقام الأول كنظام للحياة يقوم فيه البشر ببناء المعنى من خلال ممارسات التمثيل الرمزي symbolic representation. وإذا كان هذا يبدو أقرب لأن يكون تعميما جافا، فهو يسمح لنا على الرغم من ذلك بالقيام ببعض التفريقات المفيدة. وبصورة عمومية تماما، إذا كنا نتحدّث عن البُعد الاقتصادي، فنحن مهتمّون بالممارسات التي يقوم البشر من خلالها بإنتاج، وتبادل، واستهلاك السلع المادية؛ وإذا كنا نناقش البُعد السياسي، فنحن نعني الممارسات التي من خلالها تتوزّع، وتتركّز، وتنتشر القوّة في المجتمعات؛ وإذا كنا بصدد مناقشة البعد الثقافي، فنحن نعني الطرق التي يجعل الناس من خلالها حياتهم ذات مغزى، بشكل منفرد وبصورة جماعية، عن طريق التواصل مع بعضهم البعض.
إنّ الأمر المهم هو أن إدراك هذه باعتبارها "أبعادا" للحياة الاجتماعية لا يعني النظر إليها كمجالات منفصلة كليّا من النشاط: فالناس لا يتحولون من "ممارسة البُعد الاقتصادي" إلى "ممارسة البعد الثقافي" بالطريقة التي قد نتخيّلهم فيها وهم يُنهون عمل اليوم ومن ثم يتحولون إلى الأنشطة الترويحية. وإذا كان الأمر كذلك، لتوجب علينا أن نفترض أنّ أحدا لم يستقِ أيّ مغزى أبدا من الأنشطة التي يكسبون بها قوت يومهم. ومع ذلك فطريقة التفكير هذه راسخة بعمق في وجهات النظر الشائعة للثقافة ، والتي تشير إلى ممارسات ومنتجات الفنّ، والأدب، والموسيقى، والسينما، وما إليها (5). وهذه كلها أنماط مهمة يتم من خلالها توليد معان محددة، لكنّها لا تكفي، على وجه الحصر، لتعريف البُعد الثقافي.
وعوضا عن ذلك، علينا أن نستخلص من الممارسات المتشابكة بصورة معقّدة لكل من الأبعاد الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، إحساسا بالغرض من البعد الثقافي- والذي يتمثل في جعل الحياة ذات مغزى. والآن، فإن كلّ شيء قابل للترامز symbolizable، بالمعنى الواسع للكلمة، يكون ذا مغزى. هناك، على سبيل المثال، كميات هائلة من الترامزات symbolizations المرتبطة بالممارسات الاقتصادية، مثل اللغة التقنية لعملية الإنتاج (مثل مواصفات محرّك السيارة)، أو السوق (مثل الإعلان اليومي عن أسعار الأسهم). لكن مثل هذه الترامزات، بالنسبة لي، لا تضغط حتى تصل إلى قلب البعد "الثقافي"، وأنا سعيد بالتخلي عن معظم منطقة الترامز الوسائلي هذه للمجالات الاقتصادية، والتقنية، وهكذا.
ومن الناحية الأخرى، فإن العديد من التمثيلات الرمزية التي توجد في التسويق، برغم أن لديها في النهاية غاية وسائلية (اقتصادية)، فهي – بالنسبة لأغراضي- ثقافية بصورة ملائمة تماما. فالنصوص الإعلانية، على سبيل المثال، برغم كونها جزءا مما أشار إليه بازدراء كل من هوركهايمر وأدورنو(Horkheimer and Adorno, 1979) باعتباره "صناعة الثقافة" المرتبطة
صفحة (19)
بالأغراض الوسائلية للرأسمالية، فهي تظل نصوصا ثقافية مهمة. إن الطريقة التي يستخدم بها الناس نصوص الإعلانات قد تكون مشابهة في كثير من الأحيان للطريقة يستخدمون بها الروايات أو الأفلام. ويرجع هذا لأنها تعرض روايات (مهما كان مشتبها بها من الناحية الأيديولوجية) عن كيف يمكن أن تُعاش الحياة، مع العديد من الإشارات إلى الأفكار المشتركة للهوية، وإغراءات للصورة الذاتية، وصورا للعلاقات الإنسانية "المثالية"، وضروبا مختلفة من الرضا البشري، والسعادة، وهكذا.
هذا هو الإحساس بالبعد الثقافي الذي أريد التشديد عليه، مع التأكيد على المعاني كغايات في حد ذاتها، كما تتميّز ببساطة عن المعاني الوسائلية. وإذا أردنا استخدام صياغة أكثر فخامة بقليل، يمكننا أن نفكّر بالثقافة في هذا السياق كمجال للمعنى "المعتد وجوديا". ولا أقصد بهذا إبراز "مشكلة الوجود" كما تتم صياغتها سواء في أوجه القلق الأنطولوجية للفلسفة الوجودية، أو حتى في ذلك المدى من ردود الفعل الدينية الرسمية للحالة الإنسانية. ومهما كانت درجة أهمية هذه بالنسبة للطريقة التي يفسر بها كثير من الناس حياتهم- وعلى الرغم من أهمية العولمة بالنسبة للمؤسسات الدينية (Beyer 1994) - فهذه، إذا جاز التعبير، خطابات وجودية شديدة التخصّص لإدراك ما أرمي إليه من فكرة المعنى المعتد وجوديا. علينا أن نضيف إلى هذا قول رايموند وليامز المأثور المشهور بأنّ "الثقافة أمر عادي" (Williams 1989; McGuigan 1992). استعمل وليامز هذه العبارة أولا، بطبيعة الحال، لمعارضة الإحساس النخبوي للثقافة كشكل حصري "خاصّ" من الحياة المتوفرة فقط إلى القلة من خلال "غرس" مدركات بعينها. والثقافة عادية، إذن، بالمعنى "الديموقراطي الأنثروبولوجي"، بحيث أنها تصف " نمطا كاملا للحياة": فهي ليست ملكية حصرية للمميّزين، بل إنها تتضمن كافة سبل الممارسات اليومية. لكن بالنسبة لوليامز، فقد تعايش هذا الإحساس، بأهمية، مع ثمة معنى sense للثقافة باعتبارها مزودة "للمعاني الشخصية": " إن الأسئلة التي أطرحها حول ثقافتنا هي أسئلة تتعلق بأغراضنا العامة والمشتركة، ومع ذلك فهي أيضا أسئلة حول المعاني الشخصية العميقة. إن الثقافة أمر عادي، في كلّ مجتمع وفي كلّ عقل." (Williams 1989: 4).
إن المبدأ القائل بأن "الثقافة أمر عادي" يجعل ما أدعوه أسئلة حول الأهمية الوجودية مُهما لأن كلّ إنسان يتناولها بصورة روتينية في ممارساته وتجاربه اليومية. وهو ليس سؤالا حول كون بعض الممارسات الرمزية أكثر "تنويرا" edifying من غيرها، لاقترابها أكثر من صميم الحالة الإنسانية، وكونها أكثر اهتماما بالأسئلة الكبرى حول الحياة. كما إنه ليس سؤالا حول القيمة الثقافية أو الجمالية فيما يتعلق بثمة "نصوص" ثقافية معيّنة. إن الطاو-تشي-تشنغ ، والرباعيات المتأخّرة لبيتهوفن، و لوحة الجيرنيكا Guerinca لبيكاسو ، أو صور روبرت مابلثورب الفوتوغرافية لا تزيد ولا تقل، في كونها "نصوصا ثقافية"، عن مسلسل NYPD Blue ، أو ألبوم فريق سبايس غيرلز Spice Girls، أو التغطية الإعلامية
صفحة (20)
لموت الأميرة ديانا، و"مجلات مشجعي" fanzines كرة القدم، وأحدث إعلانات سراويل ليفايز Levi's. فجميعها تتأهّل إلى حدّ أنّ الناس يعتمدون عليها في فهم وجودهم. وعلينا، في الحقيقة، أن نضيف إلى ذلك التفسير للثقافة كافة أنواع الممارسات التي لا تتوقّف بصورة مباشرة على ثمة علاقة بين "قارئ" و"نص": الرحلة حول ممرات السوق المركزي المحليّة، أو إلى المطعم، أو قاعة الألعاب الرياضية، أو المرقص، أو محل بيع لوازم الحدائق، أو المحادثة في المقهى أو على زاوية الشارع. تشير الثقافة، بالنسبة لي، إلى جميع هذه الممارسات الدنيوية التي تسهم بصورة مباشرة في "قصص الحياة" المستمرة للناس: أي القصص التي نقوم من خلالها، بصورة مزمنة، بتفسير وجودنا فيما يدعوه هيدجر بارتماء " thrownnessالحالة الإنسانية.
عندما نشق طريقنا إلى المرتبطية المعقّدة من هذا المنظور، فإن ما يهمنا هو الكيفية التي تقوم العولمة من خلالها بتغيير سياق بناء المعنى: كيف تؤثّر على شعور الناس بالهوية، وتجربة المكان والذات فيما يتعلق بالمكان، وكيف تؤثّر على المفاهيم، والقيم، والرغبات، والخرافات، والآمال، والمخاوف المشتركة التي تطوّرت حول حياة كائنة محليا. ولذلك فإن البعد الثقافي يغطّي ما أسماه أنتوني جيدنز كلا من "البعد الخارجي" 'out-thereness و"البعد الداخلي" 'in-thereness' للعولمة: أي العلاقة بين التحولات المنهجية الهائلة، والتحولات في أكثر "عوالم" تجربتنا اليومية محليّة وحميمية (Giddens 1994b: 95).
تمييز الثقافة عن تقنياتها
هناك سبب خاص للتشديد على هذا الفهم للبعد الثقافي، والمتمثل في أن المناقشات حول العولمة كثيرا ما تنظر إلى "الثقافة" على أنها تعني شيئا مختلفا إلى حد ما، فترخّم eliding بينها وبين الاتصالات المعولِمة والتقنيات الإعلامية التي تُنقل بواسطتها التمثيلات الثقافية. وربما كانت هذه النزعة أكثر وضوحا في الخطاب "الصحفي" الواسع الانتشار حول العولمة، والذي يبدو مهووسا في كثير من الأحيان "بالأعاجيب المدهشة" Gee-Whizzery لتقنيات الاتصالات الحديثة: الإنترنت، والطريق العالمي السريع للمعلومات، وما إليهما. أما الآن، فبرغم أن لتقنيات الاتصال أهمية محورية بالنسبة لعملية العولمة، فمن الواضح أن تطورها ليس متطابقا مع العولمة الثقافية. وفي الحقيقة أن لتأثيرها تضمينات أوسع وأضيق في الوقت نفسه. أوسع لأنها تلعب دورا مهما- باعتبارها تقنية في حد ذاتها، وبالتالي، من وجهة نظري، كناقلات للترامزات الوسائلية- في جميع الأبعاد التي تمضي فيها العولمة قدما. ونجد مثالا على هذا في الدمج المتزايد
صفحة (21)
للممارسات العالمية المتعلقة بتجميع الأخبار وتزويد الاستخبارات السوقية market intelligence في مجال التجارة الاقتصادية العالمية. لكنّها أضيق لأن النمط الإعلامي ليس سوى جزء من العملية الكليّة التي يتقدم فيها بناء المعنى الرمزي، كما أنه واحد فقط من الأنماط التي تعاش فيها العولمة ثقافيا. إنّ لوسائل الإعلام والأنماط الأخرى من التواصل المتواسط mediated communication أهمية بالغة في حياتنا اليومية، لكنّها ليست المصدر الوحيد للتجربة الثقافية المعولمة. وعلى حد سواء، فليس كلّ ما يمكن أن يقال حول عولمة أجهزة الإعلام وأنظمة الاتصالات له صلة مباشرة بالمناقشات المتعلقة بالثقافة.
من المثير للدهشة نسبيا أن نجد مثالا على المزج بين الثقافة وتقنياتها، في التقرير البالغ الدقة فيما عدا ذلك عن العولمة، والذي طرحه أنتوني جيدنز. فقرب نهاية مناقشة طويلة حول الأبعاد المؤسساتية للعولمة، ذكر جيدنز أنه "... من بين الملامح الأخرى والأساسية إلى حد بعيد للعولمة، والتي تكمن خلف كلّ من الأبعاد المؤسساتية المختلفة... والتي يمكن الإشارة إليها باسم العولمة الثقافية " (Giddens. 1990: 77). لكن القارئ الباحث عن تقرير عن الثقافة كبناء للمعنى سيصاب بالإحباط: فما يناقشه جيدنز هو كيف "تمكنت تقنيات الاتصال الممكننة mechanized من إحداث تأثير هائل على كافة جوانب العولمة". وهو يؤكّد على أهمية المعلومات المتراكمة في التوسع العالمي لمؤسسات الحداثة، وبشكل ملحوظ، يتخذ من السياق "الوسائلي" لأسواق المال العالمية مثاله الأساسي. وهذا، بالإضافة إلى حقيقة أنّ مناقشته "للثقافة" (التي تستغرق صفحة واحدة بالكاد) ، والتي لا تكاد تبين عند نهاية مناقشة طويلة حول النظام الاقتصادي الصناعي industrialism، تشير إلى اهتمام بالخصائص "اللا تضمينية" disembedding لتقنيات الاتصال بدلا من الثقافة، في إحساسنا بالنتاج الاجتماعي للمعنى المعتد وجوديا.
من المنصف القول بأن جيدنز لم يخصص كثيرا من الاهتمام لمفهوم الثقافة في أبحاثه حول العولمة، وهذا قد يفسّر ذلك المزج المرتجل إلى حد ما بين الثقافة وتقنيات الاتصال. ولكي نكون منصفين، هناك العديد من النقاط الأخرى في مناقشته، والتي سنتطرق إليها في الفصل التالي، والتي تشير، ولو بشكل غير مباشر، إلى وجهة نظر أكثر تباينا للبُعد الثقافي. لكن ما يصوّره هذا المثال هو أهمية الربط بإحكام شديد بين المفهوم المرن والمطواع نسبيا "للثقافة" من حيث علاقتها بالعولمة. وأنا أتفق مع جيدنز بالتأكيد على أنّ البعد الثقافي "أساسي" بالنسبة للعولمة، لكنّي أريد أن أفهم هذا في ظل ظروف أوسع بكثير من تلك المتوفرة من مجرد تحليل تأثير تقنيات الاتصالات- مهما بلغت أهمية هذه بالنسبة للمرتبطية المؤسساتية والنظامية
صفحة (22)
لعالمنا. وسأحاول الآن اقتراح كيف يمكن عمل ذلك.
لماذا الثقافة مهمة بالنسبة للعولمة
إن الثقافة مهمة للعولمة من حيث المعنى الواضح لكونها سمة جوهرية لكامل عملية المرتبطية المعقّدة. لكننا نستطيع التوجه إلى أبعد من هذا، فبوسعنا أن نحاول فهم المعنى الذي تكون فيه الثقافة مكونّة constitutive بالفعل للمرتبطية المعقّدة. ومرة ثانية، هناك طرق أفضل وأسوأ للاستمرار في ذلك.
ثمة خطر واضح يتمثل في الانزلاق إلى المناقشات التي تشدد على وجود درجة معينة من الأولوية السببية للثقافة، مما يمنح امتيازا لهذا البعد تماما بنفس الطريقة التي رأينا هيرست وتومسون يمنحانها للاقتصاد. هناك مثال على ذلك في تقرير مالكولم ووترز Waters الذي يقوم فيه، بعد أن أعد التفريق القياسي بين الاقتصاد/ الحكومة /الثقافة من حيث أطقم العلاقات المتبادلة - المادية، والسياسية، والرمزية، على الترتيب، ويستطرد في حديثه ليدّعي، بصورة مستفزة بعض الشّيء، بأن
التبادلات المادية تجعل الأمر محليا localize ؛ والتبادلات السياسية تدوّله internationalize ؛ والتبادلات الرمزية تعولمه globalize. ويترتب على ذلك أن عولمة المجتمع الإنساني تتوقف على مدى كون العلاقات الثقافية فعّالة بالنسبة للترتيبات الاقتصادية والسياسية. يمكننا أن نتوقّع أن يكون الاقتصاد والحكومة معولَمين globalized إلى حدّ كونهما متثاقفين culturalized، أي إلى المدى الذي يتم فيه إتمام التبادلات التي تحدث ضمنهما، رمزيا. ويمكننا أن نتوقّع أيضا أنّ تكون درجة العولمة في الساحة الثقافية أكبر من مثيلاتها في الساحتين الأخرتين. (Waters1905:9-10 - التشديد موجود في الأصل)
ولذلك فإن تبرير ووترز لتمييز البعد الثقافي يتمثل، باختصار، في أن طبيعة التبادلات الرمزية تعني أنّها في جوهرها أقل تقيدا بقيود المكان من أي من التبادلات الماديّة (الاقتصادية) أو السياسية. وهو يجادل، على سبيل المثال، بأن التبادلات المادية "متجذّرة في الأسواق، والمصانع، والمكاتب، والمتاجر المحلية"، ويرجع ذلك ببساطة إلى الضرورة العملية أو أفضلية التكلفة cost advantage للتقارب المادي في إنتاج وتبادل السلع والخدمات. بالمقارنة مع هذه القيود التي " تنزع إلى ربط التبادلات الاقتصادية بالنواحي المحلية "، فإن الرموز الثقافية "يمكن أن تُنتج في أي مكان وفي أي وقت كان، وهناك قدر قليل نسبيا من القيود المصدرية على إنتاجها ونسخها " (Waters 1995: 9). وبالتالي فإن الثقافة في حد ذاتها معولِمة أكثر بسبب سهولة "توسيع" العلاقات المعقّدة وسهولة الحركة المتأصّلة في النماذج والمنتجات الثقافية.
صفحة (23)
وهذه حجّة مقنعة بالكاد. لأنه من الواضح أن هناك جميع أنواع الأمثلة- تأثير الشركات المتعددة الجنسيات، وتقسيم العمل الدولي (والمتضمّن، على سبيل المثال، في إنتاج السيارات أو في صناعة الملابس)، والظاهرة المتزايدة لهجرة العمالة، والاتجار في الأموال والسلع، وأهمية الاتفاقيات والهيئات التنظيمية للتجارة الدولية مثل الاتفاقية الدولية للتجارة والتعرفة الجمركية (الغات) ، والآن منظمة التجارة العالمية- التي تُثبت عولمة "التبادلات المادّية" المتضمنة في العلاقات الاقتصادية. من الواضح هناك الكثير من الحالات التي يظل فيها الإنتاج وتبادل واستهلاك السلع أنشطة محليّة نسبيا، لكن جولة في أنحاء مركز التسوّق في الجوار ستكشف بسرعة كم ما هو ليس بمنتج محليّ. صحيح بالطبع أن جميع عمليات الإنتاج يجب أن تتم في موقع محدد في مكان ما من العالم. لكن، كأمثلة مشهورة مثل الإنتاج المركّز لبازلاء مانج-توت mange-tout peas في بلدان مثل زيمبابوي وتخصيصها بشكل حصري للسوق الأوروبية، أو رحلة الجزر الأبيض الأسترالي التي يبلغ طولها 17,000 ميل إلى المملكة المتحدة لتزويد معرض التوافر availability show طوال العام، ليست هذه بساكن حقيقي لعملية العولمة. وبالمثل فإن فكرة أن التبادلات الرمزية تتحرك بخفة، متحررة من القيود المادية، قد توحي بوجهة نظر "مثالية" على نحو غريب- لأنه أليست الترامزات في النهاية بحاجة لأن تتخذ شكلا ماديا- مثل الكتب، أو الأقراص المدمجة CDs، أو السيليلويد ، أو تدفّقات الإلكترونات على شاشة التلفاز ووحدات العرض البصري VDUs ،وهلم جرا؟ وبرغم أنه، من الواضح، أن "المنتجات" المتواسطة إلكترونيا سهلة الحركة بصورة أكثر بكثير من الناحية التقنية، فكلّ عمليات الإنتاج المادي المتعلّقة بهذه الأنماط الثقافية المختلفة تفترض تقييدات مماثلة بالتأكيد لتلك المكتنفة في أيّ من نمط آخر من إنتاج السلع.
تثير مثل هذه الاعتراضات شكوكا حول معقولية تعميم ووترز الأقرب للعنجهية حول الخصائص المحوّلة إلى المحلية localizing والمعولِمة للمجالات الاجتماعية المختلفة(6). لكن عند الفحص المتأني، فإن ما يجادل بشأنه يتضح أنه، على أية حال، شيء أكثر تواضعا، فيتمثل ببساطة في أنّ القطاعات الاقتصادية الأكثر تواسطا من الناحية الرمزية، أو "المرمّزة" tokenized ،على حد تعبيره - مثل الأسواق المالية- هي تلك الأكثر تجاوبا مع العولمة. وهذا ادّعاء أكثر معقولية بكثير، لأنه من الواضح أن حركة العلامات الرمزية مثل المال عن طريق الوسائل الإلكترونية هو أمر أسهل بكثير من حركة الكميات الكبيرة من الخضروات ذات الجذور.
لكن هل يدعم ذلك بأية صورة ادّعاء الثقافة بالهيمنة في عملية العولمة؟ لا أعتقد ذلك. ليس، على الأقل، بالمعنى المفضّل لدينا. لأن ووترز يستخدم الثقافة هنا بالتشديد بحزم على الترامز الوسائلي بدلا من التشديد على بناء المعنى المعتد وجوديا ، وبالتالي فهو يستغل الترخيم الذي حذّرت منه في وقت سابق. يمكننا أن نتفق تماما على أنّ بعض الإجراءات الاقتصادية
صفحة (24)
تصبح "مرمّزة" أكثر، لكن هذا يعني ببساطة أنّها مُمَعلمة informtionalized أكثر - فالترامزات المستخدمة متأصلة في العملية الاقتصادية- ولا يعني أنّها "مثاقفة" culturalized. فأن تكون أكثر مثاقفة يعني أن العمليات والممارسات التي يزود من خلالها الناس أنفسهم بتفسيرات ذات مغزى لوجودهم الاجتماعي تصبح، بطريقة ما، مترابطة بصورة وثيقة أكثر بالمحيط الاقتصادي. قد يكون الأمر كذلك في الحقيقة، لكن من الضروري أن ترتكز الحجّة على شيء غير الادّعاءات غير المؤكدة حول الطبيعة "اللا متجسدة" de-materialized للسلع الرمزية. قد يتضح ،إذن، أن ووترز محق فيما يتعلق بالأهمية الإجمالية للثقافة في العولمة، لكن للأسباب الخطأ.
إن مشكلة فهم الثقافة باعتبارها مكوّنا أساسيا للعولمة تفتح الطريقة التي ندرك بها الثقافة على اعتبار أنها تنطوي على عواقب. " الثقافة ليست قوّة، أي شيء يمكن أن تعزى إليه المناسبات الاجتماعية من الناحية السببيّة "، كما يقول كليفورد جيرتز، ومن المؤكد أن هذا صحيح إلى حدّ أنّنا يجب أن نفكر في العمليات الثقافية باعتبارها بناء للمعاني، إذا استعرنا تعبير جيرتز، " كسياق يمكن من خلاله ... وصف [الأحداث] بصورة مفهومة... " (Geertz 1973: 14). إن التفكير بلغة "سببية" مباشرة يدفعنا باتجاه الارتباك الذي تمثله الثقافة بتقنياتها. لكن هذا لا يعني، على أية حال، أنّ الثقافة ليست مهمّة. فهي بالتأكيد كذلك من حيث أن بناء المعنى يرشد الأعمال الفردية والجماعية التي هي في حد ذاتها مهمّة. فالناس لا ينتجون المعاني ضمن ثمة قناة تأويلية منفصلة كليّا، والتي - إذا جاز التعبير- تسير بالتوازي مع الممارسات الاجتماعية الأخرى لكنها لا تؤثر عليها. يعمل المغزى والتفسير الثقافيان على توجيه الناس بصورة مستمرة، فرديا وجماعيا، نحو أفعال بعينها. في كثير من الأحيان، قد تكون أفعالنا وسائلية إلى حد ما، إذ تتبع منطق الضرورة العملية أو الاقتصادية، لكن حتى هنا يتم تنفيذها ضمن "سياق" فهم ثقافي أوسع. وحتى الأعمال الذرائعية الأكثر أساسة لتلبية الاحتياجات الجسمانية لا تعد، بهذا المعنى، خارج إطار الثقافة: ففي بعض الظروف (مثل التنحيف، والصوم الديني، والإضراب عن الطّعام)، يكون القرار بتناول الطعام أو الموت جوعا قرارا ثقافيا.
من بين طرق التفكير بشأن أهمية الثقافة بالنسبة للعولمة، إذن، هي أن ندرك كيف يمكن للأفعال "المحليّة" حسنة الاطلاع ثقافيا أن تكون لها نتائج معولِمة. ليست المرتبطية المعقّدة مجرد تكامل أوثق للمؤسسات الاجتماعية، لكنه يتضمّن دمج الأفعال الفردية والجماعية في الطريقة التي تعمل بها تلك المؤسسات في الحقيقة. وهكذا، فإن المرتبطية الثقافية تطرح فكرة انعكاسية reflexivity الحياة العصرية -العالمية. تتمثل البصيرة الرئيسية لنظريات الانعكاسية (Beck 1997; Beck, Giddens and Lash 1994; Giddens 1990) في الطبيعة التكرارية
صفحة (25)
للنشاط الاجتماعي: أي الطرق المختلفة التي يمكن القول من خلالها بأن الكيانات الاجتماعية تتصرّف "راجعة" 'back upon' على أنفسها، للتكيف مع المعلومات الواردة incoming حول سلوكها أو طرق عملها. تنبني هذه الفكرة على الانعكاسية المتأصّلة في بني البشر: أي القدرة التي نمتلكها جميعا على أن نكون مدركين باستمرار لأنفسنا باعتبار أننا نتصرّف ضمن عملية الفعل، من أجل أن "نبقى على اتصال" بصفة روتينية مع دوافع ما نقوم [نحن] بعمله كعنصر متمم لفعله" (Giddens 1990: 36). تحاول النظريات الاجتماعية للانعكاسية التعبير عن الكيفية التي يعبر بها هذا النوع من المراقبة الذاتية عن نفسه على مستوى المؤسسات الاجتماعية، أو بالأحرى السطح البيني بين الأفراد من البشر والمؤسسات الاجتماعية. في تقرير جيدنز، يحدث هذا في ظاهرة " الانعكاسية المؤسساتية: فالمؤسسات الحديثة هي كيانات يتم فيها تفحّص الممارسات الاجتماعية بصفة مستمرة، ومن ثم إعادة صياغتها في ضوء المعلومات الواردة حول تلك الممارسات، وبالتالي تعدّل خصائصها جوهريا" (Giddens 1990: 36). وبالتالي فإن المؤسسات الحديثة، وعلى نحو متزايد، مثلها في ذلك مثل البشر، تتحول إلى "كيانات للتعلّم". وهذه الحسّاسية الانعكاسية للمؤسسات فيما يتعلق بالمدخلات inputs من بني البشر هي ما يميز الدينامية dynamism الخاصة للحياة الاجتماعية العصرية، وما يعرّف المرتبطية بين عدد هائل من الأفعال المحليّة الفردية الصغيرة وبين البنى والعمليات العالمية على أعلى المستويات. لتصوير هذا، يمكننا تدبر ادّعاء يطلقه جيدنز فيما يتعلق بما أسماه "الديالكتيك المحليّ العالمي". وفي هذا السياق، يكتب قائلا أن "العادات المتعلقة بنمط الحياة المحليّ أصبحت مهمّة عالميا. وعليه فإن قراري بخصوص شراء صنف معين من الملابس له تضمينات ليس فقط فيما يتعلق بالتقسيم العالمي للعمل، بل وللأنظمة الإيكولوجية للأرض" (Giddens 1994a: 5). كيف يمكن أن يكون هذا صحيحا؟ حسنا، أولا، من حيث أن صناعة الملابس العالمية تمثل مؤسسة شديدة الانعكاسية ، متوافقة مع اختيارات العديد من اللاعبين الذين يعبرون عن أنفسهم في السوق من خلال الرموز codes الثقافية للأزياء. تتبع آثار الاختيارات الثقافية المتخذة من قبل مجموعة من المراهقين في أحد مراكز التسوّق الأوروبية بعد ظهر أحد أيام السّبت مع تركيزهم على الهيئة التي سيبدون عليها في تلك الأمسية في النادي المحليّ: يكشف هذا مستوى المرتبطية الذي يؤدّي إلى فرص توظيف عامل في أحد المصانع الاستغلالية في الفلبين. وثانيا، فإن المرتبطية المتضمنة في حقيقة أنّ الخيارات المتعلقة بالملابس، مثل جميع الخيارات الاستهلاكية، لها نتائج بيئيّة عالمية من حيث الموارد الطبيعية التي تستهلكها وطرق الإنتاج الصناعية التي تستلزمها.
وبالتالي، فإن عالما من المرتبطية المعقّدة (سوق عالمية، ورموز الأزياء العالمية، والتقسيم الدولي للعمل، ونظام بيئي مشترك) يربط عددا هائلا من الأفعال اليومية الصغيرة لملايين البشر بمصير أناس آخرين، بعيدين، وغير معروفين، وحتى بالمصير المحتمل
صفحة (26)
لكوكبنا الأرضي. تباشَر جميع هذه الأفعال الفردية ضمن السياق ذي المغزى ثقافيا للعوالم الحياتية lifeworlds المحليّة العادية التي فيها طرق اللباس dress codes والاختلافات الطفيفة بين الأزياء بترسيخ الهوية الشخصية والثقافية. إن الطريقة التي تصبح بها هذه "الأفعال الثقافية" مهمة عالميا هي المعنى الأساسي الذي تكون فيه الثقافة مهمّة بالنسبة للعولمة. ومن دون شك، يستلزم تعقيد هذه السلسلة من النتائج الأبعاد السياسية، والاقتصادية، والتقنية للعولمة في الوقت نفسه. لكن المقصود هنا هو أنّ "لحظة [البعد] الثقافية" لا غنى عنها في تفسير المرتبطية المعقّدة.
إن التفكير بالعولمة في بعدها الثقافي يكشف أيضا طبيعتها الديالكتيكية في الأساس على نحو بالغ الوضوح. إن حقيقة كون الأفعال الفردية ترتبط بصورة وثيقة بالخصائص الهيكلية-المؤسساتية الكبيرة للعالم الاجتماعي عن طريق الانعكاسية يعني أن العولمة ليست عملية "أحادية الاتجاه" من صياغة الأحداث بفعل بنى عالمية هائلة، لكنها تتضمّن على الأقل إمكانية التدخّل المحليّ في العمليات العالمية. هناك سياسة politics ثقافية للبعد العالمي، والتي يمكننا إدراجها بتوسيع نطاق المثال المتعلق بالعواقب الإيكولوجية للأفعال المحليّة.
وبرغم أن أهمية الخيارات الروتينية المتعلقة بأسلوب الحياة قد لا يعترف بها دائما – فمن المؤكد أن معظمنا لا يتسوّقون عادة كمستهلكين "واعين بيئيا" ecoaware - فهناك على الرغم من هذا توجها في قطاعات معينة من جميع المجتمعات نحو الممارسات الاستهلاكية المتعمّدة الصديقة للبيئة eco-friendly ، والتي هي نفسها من ملامح المرتبطية. إن شعار حركة الخضر الشهير " فكر عالميا، تصرّف محليا " يقترح استراتيجية سياسية تحفزها ثمة رواية narrative ثقافية جمعية واضحة للغاية عما تستلزمه "الحياة المرفّهة". تتضمّن هذه الاستراتيجية استنفار العملاء – والذي يتم على نحو متزايد عن طريق الحملات الإعلامية المدروسة - لتحقيق تغيرات مؤسساتية على مستوى عالمي (Lash 1994: 211). وإذا كانت مثل هذا الاستراتيجية ناجحة (أحيانا)، فذلك لأنها تستلهم، وتلتمس مساعدة، نزعات ثقافية شديدة العمومية أكثر من كونها ارتباطا بحجج علمية- تقنية حول المشاكل البيئية.
وعلى سبيل المثال، فإن هزيمة حركة السلام الأخضر Greenpeace المدهشة لشركة شل بالمملكة المتحدة حول عملية الإغراق العميق في البحر للشمندورة النفطية المعروفة باسم سارية برينت في يونيو 1995، قد تحققت بتعبئة الرأي العام - وخصوصا في ألمانيا، والدانمرك وهولندا- مما هدّد بصورة مباشرة "علاقات عملاء" شركة شل في محطات البنزين. من منظور حركة الخضر، من الممكن أن يرى هذا كقصة نجاح واضحة للانعكاسية الاجتماعية. لكن إذا سألنا عما يكمن وراء استنفار الرأي العام، يبدو على الأرجح أنّه كان شيئا مختلفا عن القضايا المحددة للحملة نفسها – والتي كان هناك
صفحة (27)
قدر كبير من الالتباس حولها. على سبيل المثال، فإن كثيرا ممن قاطعوا محطات البنزين التابعة لشركة شِل ظنوا على ما يبدو أنّ الخطة كانت تتمثل في التخلّص من الشمندورة في بحر الشمال- أي "ناحيتهم" - وليس في المحيط الأطلسي. وبالإضافة إلى ذلك، اعترف أعضاء منظمة السلام الأخضر لاحقا بأنهم تلقوا معلومات مضللة حول التركيب الفعلي للمواد الكيميائية الموجودة على متن الشمندورة. كانت هناك في الحقيقة ادّعاءات بعد انتهاء الحملة بأن أجهزة الإعلام قد "وثبت" إلى تزويد التغطية المناسبة لمنظمة السلام الأخضر، سويّة مع المشهد المؤثر للنشطاء الواقعين تحت الحصار من قبل موظّفي الأمن لدى شركة شِل، على حساب كامل الحجّة العلمية المعقّدة. ادعى كبير محرّري التكليف للقناة الرابعة بالمملكة المتحدة أن "الصور التي زوّدنا بها [من قبل منظمة السلام الأخضر] أظهرت مروحيات شجاعة تحلق في مواجهة وابل من قذائف الماء (التي تستخدم في تفريق المتظاهرين). حاول أن تكتب التفسير العلمي التحليلي لذلك" (7).
وعلى أية حال، يمكننا أن نفهم كلّ هذا بشكل مختلف إذا نظرنا إلى حملة سارية برينت باعتبارها تستحضر قصص حياة الناس المستمرة، وليس حججا بيئية معيّنة لا يمكن سوى لقلة أن تفهم تفاصيلها التقنية، على أية حال. وبالتالي فإن الأمر الأكثر أهمية، ربما، كان القيمة الرمزية لاحتلال الشمندورة : أي مَسْرَحَة dramatization خاصة لثمة "معركة" ضدّ تهديد معمّم من التدهور البيئي الذي يعايشه الناس كجزء من "عالمهم الحياتي" اليومي.وعند فهمها بهذه الطريقة، فإن استراتيجية السلام الأخضر تعد استراتيجية ثقافية (على الأقل جزئيا). وحتى موضوع الدقة العلمية يمكن أن ينظر إليه على أن له أهمية ثقافية في المحافظة على علاقات الثقة العامّة بين منظمة السلام الأخضر (أو شركة شِل)، وأجهزة الإعلام والجمهور- بقدر أهميتها من حيث المعلومات أو المعلومات المغلوطة. وكما صاغها سكوت لاش، تتضمّن السياسة البيئية الآن " البناء الاجتماعي للحقيقة "- "وهو صراع يدور في أجهزة الإعلام بين ناشطي الاحتجاج البيئي وممثلي الأعمال وصنّاع السياسات حول مجموعة من المعاني التي سيتم نشرها بين عموم الجمهور [والتي تشكّل ] واقعهم "(Lash 1994: 206). وبالتالي فإن السياسة البيئية هي سياسة ثقافية، تعتمد في نجاحها على الدرجة التي يمكنها بها الارتباط بقوة بأفق المناسبة horizon of relevance الخاص بالعوالم الحياتية المحليّة. وبالتالي فإن الثقافة مهمة كذلك بالنسبة للعولمة بهذا المعنى: أي أنّها تحدّد المحيط الرمزي لبناء المعنى باعتباره حلبة التدخّلات السياسية العالمية.
لماذا العولمة مهمة بالنسبة للثقافة
تُربك العولمة الطريقة التي ندرك بها "الثقافة"، لأن الثقافة كانت تمتلك دوما دلالات تربطها بفكرة وجود ناحية ثابتة . إن فكرة "الثقافة" تربط ضمنيا بين بناء المعنى وبين
صفحة (28)
الخصوصية والموقع. وكما لاحظ إيد (Eade 1997: 25)، فإن "التشديد على المحدودية boundedness والتماسك سيطر تقليديا على المعالجة الاجتماعية لفكرة الثقافة "، وخصوصا في التقليد الوظائفي حيث يتم التعامل مع بناء المعنى الجمعي في الأغلب باعتباره يخدم أغراض التكامل الاجتماعي. وبالتالي فإن "الثقافة" توازي الفكرة العويصة "للمجتمع " ككيان محدود (Mann 1986) يحتل أرضا طبيعية مخطّطة كإقليم سياسي(الدولة القومية بالدرجة الأولى) ويربط التركيبات المنفردة للمعنى بهذا الفضاء الاجتماعي- السياسي المتحدّد circumscribed. من الواضح أنّ مرتبطية العولمة تمثل تهديدا لمثل هذه المفاهيم ، ليس فقط لأن الاختراق المتعدّد الأشكال للنواحي المحلية يقتحم هذه المرتبطية لمعاني المكان، بل لأنه يقوّض التفكير الذي تم من خلاله اقتران الثقافة بثبات الموقع في المقام الأول .
في علم الأنثروبولوجيا ، ركّزت أبحاث جيمس كليفورد على "الثقافات الرحالة " (Clifford 1992, 1997) على اقتحام الثقافة فضلا عن الموقع. وفي معرض الكتابة عن "ممارسات العبور والتفاعل التي أفسدت النزعة المحلية localism للعديد من الفرضيات الشائعة حول الثقافة"، يجادل بقوله: " في هذه الفرضيات، يكون الوجود الاجتماعي الأصيل، أو يجب أن يكون، متركزا في أماكن متحدّدة -مثل الحدائق، حيث اشتقّت كلمة "ثقافة" culture معانيها الأوروبية. كان المسكن dwelling يُفهم على أنه الأساس المحلي للحياة الجماعية، في حين أن السفر جزء إضافي؛ فالجذور تسبق الطرق دائما(Clifford 1997:3). يظهر كليفورد كيف ساهمت ممارسات الأبحاث الأنثروبولوجية الميدانية في إضفاء الصبغة المحلية على مفهوم الثقافة: " بمَرْكَزة centering الثقافة حول موقع locus معيّن، القرية، وحول ممارسة مكانية معينة، عن المسكن/ البحث، والتي تعتمد هي نفسها على سبل إضافية لإضفاء الصبغة المحلية- هي تلك الخاصة بالحقل " (Clifford 1997: 20). ولذلك فإن طرق البحث التقليدية لعلم الأنثروبولوجيا – حيث تؤخذ القرية باعتبارها "وحدة طيّعة" للتحليل الثقافي، وممارسة الإثنوغرافيا باعتبارها "إقامة" ضمن المجتمع- ساهم في إيجاد مجاز مرسل synecdoche يعتبر فيه الموقع (القرية) على أنه الثقافة. كما يجادل كليفورد بأن هذا استمر حتى ممارسات الأبحاث الميدانية الإنثوغرافية المعاصرة حيث من الممكن أن تكون المواقع، "مستشفيات، أو مختبرات، أو أحياء حضرية، أو فنادق سياحية عوضا عن أن تكون قرى نائية، لكن الفرضية المنوِّرة للباحث والموضوع تتعلق بثمة " مسكن محلي".
ويعارض كليفورد هذا الإرث الطبيعي ليفكر بالثقافة باعتبارها متحركة، وليست ساكنة، جوهريا، وليعامل " ممارسات تغيير المكان...باعتبارها مكونة للمعاني الثقافية". وفي هذا، فهو يطرح شيئا قريبا للغاية من التحدي المفاهيمي الذي تمثله العولمة للثقافة. لا يمكن التفكير في الثقافة باعتبارها تمتلك هذه الروابط المفاهيمية الحتمية بالموضع location، إذ أن المعاني تتولد على حد سواء
صفحة (29)
من قبل أناس "متجولين" ، وكذلك في التدفقات والارتباطات بين "الثقافات". وبرغم ذلك، ففكرة "الثقافة الجوّالة" يمكن أيضا أن تكون مُغرضة. وليس الأمر أنّه يتوجب علينا أن نعكس الأولويات بين "الجذور والطرق"، والإصرار على جوهر الثقافة كحركة هائمة nomadic لا تهدأ. نحن بحاجة، عوضا عن ذلك، لأن نرى "الجذور والطرق" باعتبارها متعايشة دائما ضمن الثقافة، وأن كلاهما يخضع للتحول في سياق الحداثة العالمية. وللعودة إلى المناقشة السابقة عن السفر، علينا أن نتذكّر أنّ نسبة هائلة من التجربة الثقافية ما زالت بالنسبة للأغلبية، تمثل التجربة اليومية للموقع المادي، عوضا عن الحركة المستمرة. في الواقع، فقد اعترف كليفورد بهذه النقطة في وصفه لاعتراض على مجاز trope "السفر"، الذي طرحته عالمة أخرى في الأنثروبولوجيا، هي كريستينا تيرنر Turner.أشارت تيرنر إلى التقييدات الواضحة على الحركة التي تخضع لها أعداد هائلة -والذين "يُبقون في مكانهم" بفعل منزلة الطبقة والجنس الذي ينتمون إليه. إن أبحاثها الإنثوغرافية على عاملات المصانع اليابانيات، أي "النساء اللواتي لم "يسافرن" وفقا لأيّ تعريف قياسي"، قادتها للتشكك في تشديد كليفورد على "السفر الحرفي" 'literal travel'. لكن التجربة والممارسة الثقافية "المحليّة" لأولائك النسوة تعيق الارتباط بين الناحية المحلية والثقافة أيضا: "إنهن يشاهدن التلفاز؛ ويمتلكن إحساسا عالميا/ محليّا؛ ويناقضن typifications علماء الأنثروبولوجيا؛ ولا يقتصر دورهن على مجرد تمثيل ثقافة ما" (Clifford 1997: 28). وبقبوله لهذا، يعترف كليفورد بأنّ فكرة الثقافة الجوّالة "يمكن أن تتضمّن قوى عابرة بقوة - التلفاز، والإذاعة، والسيّاح، والسلع، والجيوش" (المرجع السابق).
وهذه بالتحديد هي النقطة التي أريد التشديد عليها: فالعولمة تعزز قابلية الحركة المادية أكثر بكثير من أي وقت مضى، لكن مفتاح تأثيرها الثقافي يكمن في تحويل النواحي المحلية ذاتها. من المهم إبراز الشروط المادية للتجسيد المادي والضرورات السياسية-الاقتصادية التي "تحفظ الناس في أماكنهم"، ولذلك، فبالنسبة لي، فإن تحويل الثقافة لا يفهم ضمن مجاز trope السفر، ولكن من خلال فكرة اللاتوطين deterritorialization. يتمثل ما سأفهمه بهذا- كما سأستكشفه في الفصل الرابع- في أن المرتبطية المعقّدة يضعف الروابط بين الثقافة والمكان. وتمثل هذه، من جوانب عدة، ظاهرة مزعجة ، تتضمّن الاختراق المتزامن للعوالم المحليّة من قبل قوى آتية من بعيد، وزحزحة المعاني اليومية عن "مراسيها" الموجودة في البيئة المحليّة. إن التجسيد embodiment وقوى الظروف المادية تُبقي معظمنا، لمعظم الوقت، موجودين في مكان ما ، لكن في أماكن تتغيّر من حولنا والتي تفقد تدريجيا، وبصورة مخاتلة، قوّتها على تحديد شروط وجودنا. وهذا بلا شك عمل شاذ ومتناقض في كثير من الأحيان، يستشعر في بعض الأماكن بقوّة أكبر مما يحس في غيرها، ويواجَه أحيانا بنزعات متعارضة لإعادة ترسيخ قوّة
صفحة (30) الناحية المحلية. وعلى الرغم من هذا، فإن اللاتوطين ، في اعتقادي، هو التأثير الثقافي الرئيسي للمرتبطية العالمية. وهو ليس كلّ الأخبار السيئة. والنقطة الأخيرة التي أود توضيحها هي أن المرتبطية تزود الناس أيضا بمصدر ثقافي كانوا يفتقرون إليه قبل توسّعها: وهو وعي ثقافي يمكن اعتباره، من نواح مختلفة، "عالميا". ظل رولاند روبرتسون يشدّد دائما على أنّ العولمة تتضمّن بطبيعتها: " تقوية الوعي بالعالم ككل متكامل" (Robertson 1992: 8). ويجادل جيدنز (Giddens 1991: 187) أيضا بأنّ الناس هم "عوالم استثنائية" phenomenal، وبرغم أنهم موجودون محليا، " فهم، على وجه العموم، عالميون بحق". وهذا لا يعني أنّنا جميعا نُعايش العالم باعتبارنا كوزموبوليتانيين ثقافيين، ناهيك عن أن هناك " ثقافة عالمية" في طور التشكل. لكنّ ذلك يشير ضمنا إلى أنّ "البُعد العالمي" موجود على نحو متزايد كأفق ثقافي نقوم ضمنه (وبدرجات متفاوتة) بتأطير وجودنا. وبالتالي، فإنّ اختراق النواحي المحلية الذي تجلبه المرتبطية يمثل سلاحا ذي حدّين: ففي حين أنه يبدد عوامل الأمان التي تضمنها الناحية ، فهو يقدم سبلا جديدة لفهم التجربة ضمن سياقات أوسع – تكون عالمية في النهاية.
إن فهم طبيعة وأهمية هذا الوعي العالمي يمثل جدول أعمال مهما في التحليل الثقافي للعولمة. من المؤكد أن النسوة اليابانيات اللاتي تصفهن كريستينا تيرنر لسن منفردات في امتلاك "حس عالمي/ محليّ" كجزء من حياتهن العادية، ومن بين المصادر الواضحة لهذا، نجد الصور والمعلومات التي تتدفّق إليهن – كما هو الحال مع الملايين منّا- من خلال الاستخدام الروتيني للتقنيات الإعلامية المعولِمة مثل التلفاز. وبالتالي، فإن واحدة من مهام التحليل الثقافي تتمثل في فهم "فينومينولوجية" هذا الوعي العالمي، وخصوصا في النمط المتواسط الذي يظهر به أمامنا في معظم الأحيان. وليس من الصّعب رؤية أن أفق المغزى the horizon of significance الذي توفر من خلال التقنيات الإعلامية للمرتبطية يشير إلى احتمالات ليس فقط لإعادة صياغة المعاني والهويّات الثقافية التي يستنفدها اللاتوطين ، ولكن أيضا للأنماط ذات الصلة من السياسات politics الثقافية العالمية. إن الإحساس باعتمادنا المتبادل، مقرونا بوسائل الاتصال عبر المسافات البعيدة ينتج أنماطا جديدة من التحالف والتضامن الثقافي/ السياسي. ومما لا شك فيه أن هذه تتسم بكونها ضعيفة التطور في الوقت الحاضر بالمقارنة بتركّزات القوّة ضمن الرأسمالية العالمية، على سبيل المثال. ولكن، كما يجادل البعض (Castells 1997)، فالمنظور العالمي "للحركات الاجتماعية الجديدة" قد يثبت كونه أنماطا جنينية embryonic forms من نظام أوسع، وأقوى، من المقاومة الاجتماعية للجوانب القمعية للعولمة.ومهما كانت حقيقة الأمر، فمن الواضح أنّ إعادة تشكيل التجربة الثقافية التي تنتجها المرتبطية ستكون حاسمة بالنسبة للاحتمالات المتعلقة بثمة سياسة كوزموبوليتانية . وعليه، فإن العولمة مهمة بالنسبة للثقافة من حيث أنها تجلب التفاوض حول التجربة الثقافية إلى
صفحة (31)
مركز استراتيجيات التدخّل في المجالات الأخرى للمرتبطية : السياسية، والبيئية، والاقتصادية. وهذا يختتم المناقشة الواسعة النطاق حول العولمة الثقافية. تستكشف الفصول التالية التضمينات الثقافية للمرتبطية المعقّدة على طول عدد من المسارات المختلفة: متابعة موضوع الأحدية وصولا إلى الأفكار المتعلقة بالثقافة العالمية (الفصل الثالث)؛ وتفحص "انطلاق" التجربة الثقافية من الناحية locality(الفصل الرابع)؛ استقصاء أهمية التجربة المتواسطة في الثقافة المعولمة (الفصل الخامس) وأخيرا مناقشة دور الثقافة في السياسة "الكوزموبوليتانية" الناشئة (الفصل السادس). لكن قبل هذا، سنعرّج في الفصل التالي على الحجج التي تحدّد موقع العولمة ضمن السياق التاريخي والنظري للحداثة الاجتماعية، وسنحاول استنباط التضمينات الثقافية لطريقة التفكير هذه حول المرتبطية المعقّدة التي تعرّف عصرنا الحالي.
الفصل الثاني:الحداثة العالمية
صفحة (32)
الفصل الثاني
الحداثة العالمية
تحيلنا العولمة إلى حالة تجريبية: المرتبطية المعقدة الواضحة في كل مكان من العالم اليوم. لكن هذه الحالة لا تتبدى لنا في المعنى الفطري pristine للملاحظة الساذجة والمباشرة، لكن دائما من خلال المقولات categories والنظريات المتواسطة التي نفهم من خلالها العالم الثقافي والاجتماعي. ربما كانت الأقوى من بين هذه مقولة الحداثة، وهي فكرة شاملة ومتضمّنة بعمق في فهمنا الذاتي الثقافي فيما يتعلق بتزويد السياق الضمني الذي يجب أن تتحدّد مقابله الأوصاف التحليلية الأخرى موقعها ظاهريا :"الحداثة الغربية"،"الحداثة الرأسمالية"،"ما بعد الحداثة" - ومن ثم"الحداثة العالمية". من أجل مناقشة العولمة، إذن، فمن المحتم المشاركة في حديث discourse الحداثة، حتى بالنسبة لأولئك الذين يحاولون الهروب من سحره النظري.
"انسوا الحداثة"، يحثّنا مارتن ألبراو Albrow."اهربوا من القبضة الخانقة لما هو حديث في خيالنا. نحن نعيش في زماننا نحن، والعصر العالمي يفتح لنا العوالم بطرق لم يسبق لها مثيل" (Albrow 1997: 6) يريدنا ألبراو أن نفكّر بالعولمة حسب شروطها هي، وفي الزمن الخاص بها- أي "العصر العالمي" Global Age- الذي يجادل بأنه حل محل العصر الحديث . لكنه ليس من اليسير تماما اتخاذ مثل هذه القفزات البطولية للخيال الثقافي. نحن بحاجة للسؤال عن ماهية" العالم الفكري thoughtworld للحداثة" (Albrow 1997: 2) وهو أمر جذّاب للغاية في صياغة استقبالنا للحقائق التجريبية للمرتبطية المعقّدة.
يستكشف هذا الفصل عوامل الجذب هذه، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بدرجة من الشكّ نحو"القصة الكبرى" الحداثة، والتي يريد ألبراو الإطاحة بها. لكن شكّي لا يقترب من رفض ألبراو الجريء لمقولة الحداثة:
صفحة (33)
فبدلا من ذلك، سأسأل عن مدى فائدة عنقود cluster الأفكار الذي يشكّل"الحداثة" بالنسبة لفهم التجربة الثقافية في عالم معولِم ؛ أو ما إن كانت، وعلى العكس من ذلك، تجعل هذه التجربة مُبهمة. وسأتناول ذلك بثلاث طرق.
أولا، سأتناول العولمة في السياق التاريخي للحداثة، مستكشفا حجة أن المرتبطية المعقدة مميّزة "بالعصر الحديث": أن الظروف الاجتماعية-المؤسساتية، وموارد الخيال الثقافي الممكّنة للمرتبطية لم تكن، ببساطة، في موضعها الصحيح قبل هذه الفترة. وهنا أيضا سأنهمك بصورة أكثر عمقا في محاولة ألبراو للهروب، مقيّما حجّته التي تجاوزناها بالفعل في عصر الحداثة، بأنّ زمننا الثقافي هو زمن "ما هو عالمي".
ثانيا، سأستكشف الحجّة الاجتماعية لأن العولمة لا تقع ببساطة ضمن الفترة التاريخية للحداثة، لكنها في الحقيقة "نتيجة للحداثة"، وسأتابع هذه الحجّة وصولا إلى عالم التجربة الثقافية. وسينصب تركيزنا هنا على كتابات أنتوني جيدنز Giddens، الذي زوّدنا بواحد من أكثر التحليلات حنكة للحداثة والادّعاء الأشد قوة فيما يتعلق بخصائصها "المعولمة بفطرتها".
وفي النهاية سأتناول بعض الاعتراضات الأيديولوجية التي أثيرت حول"هيمنة" hegemony الحداثة كمقولة تحليلية. ولن ينصب التركيز هنا كثيرا على الجاذبية الثقافية الواسعة للحداثة (ألبراو)، بل على الشكوك المتعلقة بدورها الاستراتيجي في المحافظة على الهيمنة الثقافية الغربية، وميولها التعميمية universalizing، أو نشرها كحديث محوّل للانتباه يخفي التقدّم الاستفزازي للرأسمالية العالمية. أما الجزء الأخير من الفصل، فيقيّم الدرجة التي تقوض بها هذه الشكوك إمكانية فكرة الحداثة لتوضيح الحالة الثقافية للمرتبطية المعقّدة.
الحداثة العالمية باعتبارها فترة تاريخية
إن الحجّة الأكثر أساسة التي تربط المرتبطية المعقدة بالحداثة هي حجة تضع هذه الظواهر ببساطة في سياق الفترة التاريخية الحديثة. تركّز هذه الحجّة عموما على الظهور التاريخي للمؤسسات الحديثة الرئيسية: فتدعي أنّه فقط ضمن مؤسسات الرأسمالية، والاتجاه نحو الصناعة ، والمدينية ، ونظام متطوّر للدولة القومية، ووسائل الإعلام، وما إليها، يمكن للشبكة المعقّدة من العلاقات الاجتماعية المميزة للعولمة أن تنشأ. على سبيل المثال، قد يجادل المرء بأن الاتصالات المتبادلة للاقتصاد العالمي تنشأ عن الطبيعة التوسّعية على نحو مميز
صفحة (34)
للنظام الرأسمالي الحديث، والتي تقوده إلى ما وراء حدود أيّ ناحية محلية في البحث المستمر عن أسواق أوسع. لكن، على حد سواء، ففقط ضمن سياق الإنتاج الصناعي الحديث يمكن للتطور التكنولوجي الذي يسمح للمسافة بأن"تُبتلع" - وسائل النقل الآلية، والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات- أن يصبح ممكنا. في معنى بسيط، لكنه مهم برغم ذلك، تكون الحداثة، كما تفهم باعتبارها مركز هذه المؤسسات، هي"السياق" التاريخي الأساسي للعولمة.
لكن لطريقة الاستدلال هذه مشاكلها. في المقام الأول، فإن تعريف الحداثة ببساطة من حيث كونها مجموعة من المؤسسات التي تعتبر "حديثة" قد ينظر إليه باعتباره تكرارا للمعنى: فهناك حاجة لمزيد من الحجج لتفسير سبب كون هذه المؤسسات بالتحديد تصف الحالة الاجتماعية الحديثة وكيف يتأهّل كلّ منها للوصف. يكشف هذا الاعتراض الالتباس الأساسي للحداثة - وهي مقولة تشير في الزمن نفسه إلى نوع مميّز من التشكل الاجتماعي (والذي يتحدد في جزء منه بمؤسساته)، إلى ضرب من الخيال الثقافي (يتضمّن أنماطا متميّزة من العقلانية، والكوزمولوجيا ،والقيم والمعتقدات، والمفاهيم المتعلقة بالزمن والفضاء، وما إليهما)، إلى فترة تاريخية محدّدة، وإلى الأفكار المتعلقة بالجدة novelty، والمعاصَرة، والحاضر، و"حتى الوقت الحاضر". وبالنظر إلى هذا الغموض، ليس من المفاجئ أن يكون الحديث النظري الذي يحيط بالحداثة معقّدا للغاية ومشوّشا في كثير من الأحيان، وهذا يضيف بالطبع إلى الصعوبات التي تكتنف تقييم العلاقة بين العولمة والحداثة. لكننا نستطيع الاستمرار حتى الزمن الحاضر بانتهاج المقاربة البسيطة نسبيا عبر المؤسسات، لطرح السؤال الجلي حول متى سيظهر تاريخ هذه المؤسسات بالفعل.
هناك خلاف حول ظهور العصر الحديث: فقد يعود لأي نقطة تاريخية من أوائل القرن السادس عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، اعتمادا على كيفية فهمها. يشير واغنر Wagner، على سبيل المثال، إلى أن العمليات الاجتماعية "الحديثة" نموذجيا ، مثل التمدّن، والتصنيع ودقرطة democratization العملية السياسية ،"تمتد جميعها عبر فترات زمنية طويلة... ولا تحدث دائما في الزمن نفسه، ويمكن تتبع بعضها إلى مناطق وأزمنة بعيدة جدا عما يسمّى بالعالم والعصر الحديث" (Wagner 1994: 3).
تكمن الصعوبة الحاسمة للتأريخ للحداثة عن طريق مؤسساتها النمطية، إذن، في أنّها تمتلك جميعها "أزمنتها" المتميّزة الخاصة. لنأخذ الرأسمالية كمثال واضح، وعندها قد يقتنع المرء بسهولة بادّعاءات إيمانويل فالرشتاين بأن"نظام العالم العصري" قد"ظهر نحو عام 1500" (Wallerstein 1987: 318). إن تأريخ فالرشتاين للحداثة يصبح معقولا إذا نظرنا إليه باعتباره مهتما في المقام الأول بردود الفعل الاقتصادية " للأزمة في النظام الإقطاعي " - باعتباره زمن ظهور الحداثة الرأسمالية. لكن كيف السبيل، إذن، إلى التوفيق بين هذا وبين منظور
صفحة (35)
يأخذ مؤسسة أخرى باعتبارها نموذجية paradigmatic؟ إن ظهور درجات من الديموقراطية السياسية- الحداثة السياسية - قد يوجهنا نحو أحداث بعينها وقعت في القرن السابع عشر (الحرب الأهلية الإنجليزية) أو القرن الثامن عشر (الثورتين الفرنسية والأمريكية). ومن الناحية الأخرى، فإن التصنيع يحرّك استهلال الحداثة إلى الأمام أكثر فأكثر، دافعا، من خلال الثورة الصناعية، من القرن الثامن عشر إلى التاسع عشر.
ولذلك، فإذا كان لدى كل من مؤسسات الحداثة"تواريخها" المختلفة الخاصة، وشروط ظهورها، وشروطها المسبقة، وما إليها، كما يجادل ستيوارت هول Hall ،"فليس من المعقول تماما القول بأن المجتمعات الحديثة بدأت في نفس اللحظة وتطورت على وتيرة واحدة ضمن"زمن" تاريخي واحد (Hall 1992: 9).
وعلى أية حال، وكما ألمح إليه زيغمونت بومان Bauman، فإن صعوبة التأريخ للحداثة ليست في حد ذاتها القضية الرئيسية، لكنها تشير إلى مشكلة أعمق: "فتحديد عمر الحداثة يمثل سؤالا عويصا. ليس هناك اتفاق على التأريخ، وليس هناك إجماع على ما سيؤرّخ له. وبمجرد أن تبدأ جهود التأريخ بصورة جديّة، سيبدأ الموضوع نفسه في الاختفاء" (Bauman 1991: 3). وما يعنيه بومان هو أنه في محاولة تطبيق تفتير دقيق، فسرعان ما نواجه الالتباس الأساسي للحداثة. ولا يكتفي هذا بمجرد إحباط جهود التأريخ التاريخي، بل إنه يخبرنا بشيء عن طبيعة الحداثة: وهو أنّها ليست شيئا يمكننا بسهولة أن"نستخلص من التدفق المستمر للوجود" بطريقة متقنة، وأنه لتناولها بهذه الطريقة يعني أن نكتشف أنّ"مدلولها مبهم في الصميم ومضطرب من الخارج" (Bauman 1991: 4). كيف يمكننا ،إذن، أن نتناول الحداثة من المنظور التاريخي؟ يعترف بومان باختيار براغماتي للتأريخ، والذي"يبدو أنه لا مفر منه من أجل اجتناب جدال عقيم جوهريا" ويفضّل، مثل جيدنز، أن تكون البدايات في أوروبا القرن السابع عشر (Bauman 1991: 4; Giddens 1990: 1). قد يكون هذا بنفس الدقة التي نحتاج لأن نكون عليها من وجهة نظر التحليل الثقافي المعاصر. يمكننا ببساطة أن نستنتج أنّ تتبّع العمليات لما قبل القرن السابع عشر لا يفيد كثيرا في فهم"زماننا" من الحداثة المعولِمة المعاصرة. وبالتالي يصبح التفتير قضية براغماتية لرسم الخطّ التاريخي الجدير بالتصديق الذي يحدد معالم العصر الحديث من حيث أهمينه بالنسبة لنا.
الانقطاعات والحقب
وعلى أية حال، فهذه المقاربة للعصر الحديث قد تمنح نطقا أكثر اتساقا. يجادل جيدنز، على سبيل المثال، بأن الحداثة
صفحة (36)
تشير إلى وجود انقطاع تاريخي. وبعبارة أخرى، فبرغم أن المجتمعات الحديثة تطوّرت من مجتمعات قبل حديثة pre-modern ، وأنها تحتوي على بقايا وآثار مختلفة لهذه الأنماط السابقة، فهي، برغم ذلك، تمثل أنواعا من المجتمعات تختلف تماما عن المجتمعات" قبل الحديثة":
بدلا من رؤية العالم الحديث كاشتداد إضافي للظروف التي وجدت في ... المجتمعات [قبل الحديثة]، فمن المنوّر أكثر بكثير أن ننظر إليه باعتباره يمثل وقفة للعالم التقليدي، والذي يبدو أنه يتآكل ويتحطم بصورة يتعذر إصلاحها. ولد العالم الحديث من رحم الانقطاع عما حدث من قبل وليس من الاستمرارية معه. (Giddens 1984:239)
إن التشديد على انقطاعات الحداثة يعني الإصرار على فهمها وفق الشروط المميّزة الخاصة بها، وليس كجزء من عملية طويلة وثابتة من"التطور" الاجتماعي- أي"قصّة للنمو العالمي" (Gellner 1964) . إن مبدأ جيدنز للانقطاع التاريخي يتعارض بالتحديد مع النظريات التطوّرية التي تبني"قصة شاملة" –أي "حبكة الرواية" التي " "يبدأ" فيها "التاريخ بثقافات صغيرة ومعزولة من الصيّادين وجامعي الثمار ، ويمر بتطور المجتمعات التي تعتمد على زراعة المحاصيل وتلك الرعوية، ومن هناك إلى تشكّل الدول الزراعية، ويبلغ ذروته بظهور المجتمعات الحديثة في الغرب" (Giddens 1990: 5). وهذه القصة- التي تقترح ثمة اتّجاه موحّد وحتمي أو حتى "هدّف" للتاريخ الإنساني- مضلّلة للغاية كنظرية اجتماعية عامّة (1) لكن مقصد جيدنز المهم هنا هو أنّ طريقة التفكير هذه تحجب فهم الحداثة. وعلى سبيل المثال، فهي ترحب بوجود ارتباطات خادعة بين الظواهر الحديثة مثل المدينية والمدن قبل الحديثة التي ضمتها المواقع الحضرية. من الواضح أن المدن كانت موجودة قبل العصر الحديث، لكن جيدنز يجادل بأنّ المدينية الحديثة تأسست حول مبادئ اجتماعية مختلفة تماما عن تلك التي حكمت العلاقة بين المدينة والريف لفترة ما قبل الحداثة (Giddens 1990: 6). ولهذا فإن البحث عن استمراريات continuities هنا يعني فقدان الاختلافات المهمة التي تلعب دورا مهما بالفعل في فهم النوع الخاص بنا من المجتمعات. من الممكن بناء حجة مماثلة للانقطاعات المتأصّلة في العولمة. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نشكّك في ادّعاء رولاند روبرتسون بأنّ العولمة "تتساوي في القدم على الأقل مع ظهور ما يسمّى بالأديان العالمية قبل ألفي سنة" (Robertson 1992: 6). وفي حين يلمّح روبرتسون إلى مجرّد وجهة نظر "استمرارية" continuist في هذه الفترة الزمنية الممتدة، فإن منظور ستيفن مينيل Mennell للعولمة باعتبارها"عملية اجتماعية طويلة الأمد للغاية" يبدو بشكل واضح أنه يقع في التفكير التطوّري. يستخدم مينيل كتابات نوربرت إلياس Elias للدفاع عن العولمة باعتبارها" اتجاها شاملا في التاريخ العالمي نحو وحدات بقاء أكبر
صفحة (37)
تدمج بين أناس أكثر وأراض أكثر" (Mennell1990: 362). وباستخدام مفهوم إلياس عن"وحدة البقاء"، تمكن من رسم امتداد تاريخي-تطوّري بين المجموعات الاجتماعية الأسبق وتلك الأكثر بدائية ، حتى ظهور الدولة القومية في أوروبا ، وبين التخمينات المستقبلية المتعلقة "بإقرار السلام في المجتمع العالمي".
لكن الربط بين العولمة وبين ثمة حداثة منقطعة discontinuous يستبعد مثل هذا الفكر التطوّري. وأيا كانت أشكال "التواصل العالمي" التي حدثت قبل الحداثة، فقد عملت ذلك ضمن سياق يجعلها، بمعنى ما، لا تقارن بالعولمة. هناك العديد من الأمثلة البارزة للأنظمة المنتشرة مكانيا للسيادة الاقتصادية-السياسية في العالم قبل المعاصر: الإمبراطوريات القديمة للصينيين، أو الفرس، أو الإسكندر أو الرومان؛ أو" الإمبراطورية الرومانية المقدّسة" التي أسسها شارلمان Charlemagne في أوروبا في القرن التاسع، والإمبراطوريات المغولية التي أسسها في القرون الوسطى جنكيزخان(Genghis Khan"حاكم الكلّ") وحفيده قوبلاي خان Kublai. لكن هذه الأشكال من السيادة - ما يشير إليها فالرشتاين Wallerstein باعتبارها "إمبراطوريات عالمية" لتمييزها عن ثمة"نظام عالمي"- لم تكن تمتلك في الحقيقة أيا من الخصائص التي تميّز المرتبطية العالمية المعقّدة لعالم اليوم، فهي تفتقر إلى الخصائص الواقعية extensional للمجتمعات الحديثة، نظرا أنها لا تمتلك المقدرة على التكامل السياسي والثقافي عبر المسافات، ولا قدرات المراقبة اللازمة لترسيخ، ومراقبة، وحراسة الحدود السياسية- الإقليمية بالطريقة الروتينية التي نربط بينها وبين نظام الدولة القومية الحديث.
ليست القضية متعلقة فقط بمستوى التطور التكنولوجي، فالمقصود بالأحرى هو أنّ تلك تمثل أنواعا مختلفة من المجتمعات، التي تفتقر، كما قد يجادل جيدنز، إلى الخصائص الديناميكية المميزة للحداثة، والتي تسمح بتحقيق ليس التطورات التكنولوجية فحسب، ولكن أيضا القدرة الاجتماعية على معالجة الزمان والمكان كما نفعل بصورة روتينية في العالم الحديث. وهكذا، كما سنرى في القسم التالي، علينا أن نفهم الفجوة بين الحداثة وما قبل الحداثة من حيث طرقهما البالغة الاختلاف في معالجة المقولات الوجودية الأساسية.
إن التشديد على الطبيعة المنقطعة للحداثة مهم لتفادي أخطاء التفكير التطوّري. وعلى أية حال، فلحجّة الانقطاع مشاكلها الخاصة، وأهمها أنّها قد تكون مبالغا فيها ببساطة، بحيث تعرض منظورا للتاريخ مقسّما بشكل جامد للغاية. وكما يعترف جيدنز نفسه (Giddens 1990: 4-5)، فمما لا يمكن تصديقه ببساطة أن نجادل بأنه ليس هناك استمراريات مطلقا بين ما هو قبل حديث وما هو حديث . يمكننا أن نرى الكثير من"الباقيات" survivals الثقافية في المجتمعات الحديثة، وخصوصا في الممارسات الدينية: على سبيل المثال، النفوذ الثقافي للكاثوليكية في بلدان جنوب أوروبا مثل إسبانيا أو إيطاليا، وللإسلام في إيران أو
صفحة (38)
ماليزيا، أو للبوذية في سريلانكا أو كوريا الجنوبية. إن الإجابة "الانقطاعية" عن هذا قد تكون أن إسبانيا، وإيطاليا، وإيران، وماليزيا، وسريلانكا، وكوريا الجنوبية قد تكون، برغم ذلك، مجتمعات حديثة بشكل يتعذر اجتنابه ، تختلف في طبيعتها عن المجتمعات"التقليدية" التي لعبت فيها الشعائر الدينية دور أكثر تنظيما من الناحية الجوهرية. قد يجادل المرء ببساطة بأنّه لا توجد دول قومية في العالم اليوم تتسم بكونها "تقليدية"، بمعنى أنها تفتقر إلى الخصائص المؤسساتية للحداثة، وللتأثير العميق على التجربة الاجتماعية والثقافية الذي يقتضيه ذلك.
لكن هذا ليس مُرض بكامله، فتعبير "انقطاعي" discontinuist يحاول إدراك تغيير بالغ الأهمية بالنسبة للتنظيم الاجتماعي والخيال الثقافي- والذي يجعل جميع "باقيات" الممارسات السابقة- أي الاستمراريات الظاهرة عبر الفترات الزمنية – غير ذات مغزى تقريبا. ولكن برغم أنها تميّز على نحو صحيح ذلك المجموع الكلي المتغيّر الذي يتوجب علينا أن نفهم"الاستمراريات" من خلاله، فهي تشير إلى فجوة تامة ومطلقة لدرجة يتعذر معها إدراك العملية الأقل تنظيما بكثير والتي يمثلها التغير التاريخي، على الأقل في مجال الثقافة. لأن استمراريات الإيمان الديني "التقليدي"، على سبيل المثال، قد تكون لها أهمية ثقافية أكثر مما يمكن إدراكه بالنظر إليها كمجرّد باقيات. ومن الواضح تماما أن التأكيد القوي للثقافة الإسلامية اليوم، على سبيل المثال، يتعايش- مع درجات مختلفة من التوتّر- مع القيم"المعاصرة" المستمدة من عصر التنوير الأوروبي . ويتضح هذا في بلدان مثل إيران، والتي يعترف فيها الدستور"بسيادة الدولة" لكنها تؤمن بأن الملك لله ، وليس للدولة أو الناس، وتحترم الحقوق الديموقراطية لكنها برغم ذلك تضعها في مرتبة أدنى من نشر الثقافة الإسلامية (Mowlana 1996). من المؤكد أنه يتوجب على الدول الإسلامية أن تواكب السياق العالمي للمؤسسات الحديثة، لكن سيكون من الخطأ أن ننظر إليها باعتبارها إما مهمشة بفعل ، أو ممتصّة ضمن ، ثمة مجموع كلي ثقافي حديث. إن"التوقف" يبدو ببساطة أنه الكلمة الخطأ لفهم هذا النوع من التعايش المعقّد. نحن بحاجة إلى مفهوم يمكنه تسجيل التحولات الهامّة للحداثة بطريقة أكثر سلاسة، وأقل إطلاقا categorical.
من بين الاحتمالات المطروحة نجد إحياء فكرة "الحقبة" التاريخية، كما استخدمت في مناقشة ألبراو حول"العصر العالمي" أو في تحليل ثيربورن للحداثة الأوروبية (Therborn 1995a). ونظرا لأنها تستخدم في كثير من الأحيان على نحو غير مُحكم نسبيا، وبصورة تبادلية مع مصطلحات التفتير الأخرى - مثل "عهد" أو"عصر"- فإن فكرة الحقبة تتعلق بفترة تتميز بحدوث تحوّل رئيسي في التنظيم الاجتماعي أو التخيّل الثقافي، والذي يظهر نفسه في صورة أحداث تشكيلية متميّزة. ولذلك، على سبيل المثال، فقد استخدم هذا المصطلح في الغرب فيما يتعلق بالفترة التي يعود تاريخها إلى مولد السيد المسيح"الحقبة المسيحية". لكن الربط بين الأحداث الهامّة وبين
صفحة (39)
التحولات الاجتماعية الثقافية الكبرى ينطبق أيضا على نتائج الاكتشافات العلمية-"عصر البخار"،"عصر الذرّة"،"عصر الحاسوب"- أو على التحولات في الأفكار والمنظور الثقافي -"عصر التنوير"، أو في الحقيقة على خلائط amalgams من الإثنين:"العصر الرقمي".
وبالنزوع نحو العموميات، فإن الحقب الانطباعية impressionistic تصبح مفاهيم يائسة لتزويد الدقّة التحليلية. فتركيزها على"الأحداث الهامّة" أو الأسس الثقافية يترك فسحة أكثر مما ينبغي للخلاف حول معايير الأهمية. ولذلك فإن ثيربورن (Therborn 1995a: 4) يصف الحداثة، من الناحية الثقافية، باعتبارها حقبة "متّجهة نحو" المستقبل"؛ كما وصفها ألبراو (Albrow 1997:26) كحقبة "يرتبط فيه الجديد، والأحدث ، بالعقلانية". وكلاهما تمثيل معقول، لكن كلا منهما يعيّن مبدأ مركزيا مختلفا، كما لا يمكن لأيهما الادعاء بأنه شامل من الناحية التحليلية. وعلى أية حال، فمما يصب في مصلحة فكرة الحقبة، نجد بالتحديد انعدام دقتها- أي مرونتها- فيما يتعلق بالبدايات والنهايات. وهذا الحديث عن الحقب لا يسوده "ابتذال التأريخ" ولا يصرّ على تلك النقاط المعزولة والمتحجرة التي تبدو متوافقة مع أفكار الانقطاع. وكما جادل ثيربورن، فإن الحقب تصنّف الزمن بحدود يمكن النفاذ منها:" ليست الحقب قلاعا زمنية يمكن للناس أن يُحبسوا فيها، فهي امتدادات مفتوحة من جميع نهاياتها. لكن حتى عند التجول في أحد المروج، فسيمكنك أن تلاحظ الزمن المتغير لكل من الفجر والغسق. تمثل المفاهيم الحقبية epochal أدوات استكشافية ، مثل مناطق التوقيت" (Therborn 1995a: 3).أعتقد أن ثيربورن محق تماما في إبراز الطبيعة الاستكشافية heuristic للتفكير الحقبي: فالهدف هنا ليس إجراء تحليلي شامل لكلّ شيء يمكن اعتباره وصفا"لما هو حديث"، ولا تثبيت كلّ هذا إلى نقاط محددة من النشوء. فهي تتمثل، بالأحرى، في اكتشاف أمور تتعلق بطبيعة زمننا للحداثة العالمية من خلال فهم كل من احتمالاته التاريخية، والطريقة التي يختلف بها عن العصور السابقة فيما يتعلق بمبادئه الاجتماعية-الثقافية المُخبرة. قد تظل هذه المبادئ أمورا متعلقة بالخلاف النظري، لكن هذا لا يمنعنا من القيام بثمة مقارنة استكشافية .
التخيل الثقافي "لتعولم" ما قبل الحداثة
ولذلك، هناك طريقة بديلة لإدراك الطبيعة المتميّزة للمرتبطية المعاصرة، والتي تتمثل في مقارنة "التخيّل الثقافي" الذي تنطوي عليه، مع مثيله في"المجتمعات" المنتشرة مكانيا فيما قبل الحداثة. ويعني هذا أن نبحث عن ثمة "تحول حقبي" في المنظور الثقافي، والذي يميّز الحديث- العالمي من أيّ شكل سابق من التماسف الاجتماعي-الثقافي.
إن ما يصفه بنيديكت أندرسون "بالجمعيات" sodalities العظيمة العابرة للقارات للعالم المسيحي، والأمة الإسلامية وبقية الأمم" (Anderson 1991: 36)
صفحة (40)
يزوّدنا بأمثلة جيدة عن"المجتمعات" الإيمانية الموجودة عبر مسافات شاسعة، والتي كانت تضم أعدادا هائلة في العالم قبل الحديث. كيف تتشابه هذه"المجتمعات التخيلية" مع المعنى الذي قد نمتلكه عن الارتباط العالمي اليوم؟
حسنا، برغم أن هذه كانت أمثلة رائعة على ضرب من العلاقة المتماسفة، فقد كانت مختلفة تماما عن تلك التي باتت ممكنة الحدوث في الحداثة. وكما يقول أندرسون، كانت المجتمعات قبل الحديثة في المسيحية والإسلام تتسم بكون الانتماء العالمي فيها يتم تصوّره دائما ضمن سياقات محليّة، محددة:
الكاهن الأبرشي parish المتواضع، الذي يعلم كلّ شخص سمع قداساته بأسلافه وزلاته. ما زال الوسيط المباشر بين رعايا أبرشيته وبين الرب. وهذا التجاور بين الكونية- العالمية والعادي- المتميز يعني أنّه مهما كان العالم المسيحي شاسعا، واستُشعر أنه كذلك، فقد أظهر نفسه على وجوه مختلفة للمجتمعات السوابية أو الأندلسية المحددة كنسخ طبق الأصل من أنفسها. (-Anderson 1991: 23 التأكيد من قبل المؤلف)
يتمثل أحد تفسيرات هذه الحجّة، ببساطة، في العزلة النسبية والجمود الذي اتسمت به الحياة الاجتماعية قبل العصر الحديث. على سبيل المثال، كانت الأغلبية الساحقة من المجتمعات في أوروبا العصور الوسطى عبارة عن مجتمعات ريفية محليّة صغيرة- قرى، وأبرشيات - التي كان سكانها لا متحركين immobile ومعزولين نسبيا عن المجتمعات الأخرى (Sumption 1975: 11; Manchester 1992: 11). وبرغم أن السفر البعيد المسافة وحركة السكان لم تكن أمورا غير شائعة على الإطلاق، إلا أن التوقّع الطبيعي من الفلاح العادي لابدّ وأنه كان أن يولد، ويعيش ويموت ضمن نفس الأميال المربّعة القليلة، وأن"يعرف" فقط من كانوا على اتصال مادي معه من يوم لآخر. ولذلك فإن الإحساس بالانتماء إلى ثمة طائفة دينية communion أوسع على الجانب الآخر من القارة لابد وأنه كان، كما يقترح أندرسون، محليّا على نحو غريب ، إضافة لكونه إحساسا مميزا لأغلبية المؤمنين. من المحتمل أن الناس فكّروا بغيرهم من المسيحيين أو المسلمين أو البوذيين الموجودين على مبعدة منهم- هذا إذا فكّروا بهم أصلا- باعتبارهم" نسخا متطابقة من أنفسهم". وبدون كثير من التوقّع لأن يصادفوا أبدا - سواء مباشرة أو بصورة تمثيلية- أي شخص من بلاد أجنبية، فإن اعتقاد معظم أفراد الطائفة بوجود طائفة أوسع لابد وأن يكون مشابها تقريبا لنفس ملتهم، كالاعتقاد في الثالوث المقدّس، أو في السنة النبوية، أو في تناسخ الأرواح.
وبالفعل، فإن الشعائر الدينية - باعتبارها ممارسات محليّة مألوفة ومتكرّرة- عملت على الأرجح لمؤازرة الناس في الأمن الذي يزوده ثمة عالم حياتي محليّ، عوضا عن تقديم إحساس كبير بعالم أوسع. يبدو من غير المحتمل أنّ "الانتماء" لهذه المجتمعات الدينية منح
صفحة (41)
أيّ إحساس مشابه" بالبعد العالمي" الذي يمكن للناس اليوم أن يستمدوه بصورة روتينية من تشغيل التلفاز. وفي الحقيقة أن ما يبدو أكثر إثارة للاهتمام حول الانتشار الثقافي للمسيحية قبل الحديثة هو كيف" اكتسبت شكلها العالمي من خلال عدد هائل من الخصائص والمميزات (Anderson 1991: 23).
لكن هذه الحجّة حول اللا حركية الاجتماعية وعزلة المجتمعات النسبية ، على أية حال، خلافية من الناحية التاريخية. فمقابل صور أغلبية من أهل الأبرشية الريفيين الأمّيين المقيدين في موقعهم ، علينا أن نتعرف على وجود نخبة من أهل الفكر المثقّفين، والتي برغم كونها أصغر حجما فهي أكثر حركة بكثير، والتي توحدت بفعل"اللغات الرمزية المقدّسة" مثل اللغة اللاتينية أو العربية. ومقابل العدد الكبير من القرى المعزولة، علينا أن نضع المدن والمراكز العالمية للحجّ - روما، ومكة المكرمة، والقدس، ووالسنجهام ، وبيناريس ، وسانتياغو دي كومبوستيلا . بالمقارنة مع اللاحركية النسبية لطبقة الفلاحين (2)، علينا أن نضع في حسباننا reckon، اعتبارا من القرن التاسع على الأقل، أنظمة التجارة البعيدة المسافة التي ربطت العالم المسيحي بالإسلامي ورسخت الازدهار العالمي للمدن التجارية الكبرى مثل فينيسيا، أو جنوة أو القسطنطينية (Morris 1988). وأخيرا، علينا أن نقارن خواص العبادة الأبرشية المحليّة بظواهر مثل التوسّع الذي شمل كافة أرجاء أوروبا في الهندسة المعمارية الكنسية ecclesiastical في أواخر العصور الوسطى- أي الانتشار الاستثنائي للأسلوب القوطي منذ اختراعه في فرنسا في القرن الثاني عشر إلى كلّ جزء من أوروبا تقريبا (Holmes 1988).
ولذلك سيكون من الحماقة أن نبخس تقدير درجة قابلية الحركة(على الأقل بالنسبة لطبقات اجتماعية معينة) أو التأثير الثقافي عبر المسافات الذي يحدث في المجتمعات قبل الحديثة. لكن، وبعد التسليم بكلّ هذا، سيكون من غير المعقول أن نصف المجتمعات قبل الحديثة، كما يقوم لاش وأوري (Lash and Urry 1994: 252) بوصف المجتمعات الحديثة، كمجتمعات "رحالة" . كان السفر لأيّ مسافة شاقا، وصعبا، ومحفوفا بالمخاطر في كثير من الأحيان. فالمسافر في أوروبا القرون الوسطى كان عليه أن يستخدم الطرق التي كانت في أحسن الأحوال مثل الأزقة والطرق الريفية المستخدمة من قبل المزارعين أو المتسكعين اليوم. وكثيرا ما كان يستحيل عبور تلك الطرق في الشتاء، كما أن الأمور البسيطة مثل عبور الأنهار كانت تمثل عقبات رئيسية، إذ أن الجسور والطرق كانت تتحطم بصورة دورية أو حتى تنجرف بفعل الفيضانات الشتوية (Bennett 1990: 18ff). أضف إلى هذا الخطر الدائم الحضور للتعرض لهجوم من قبل اللصوص في الأماكن البرّية الواقعة بين البلدات والقرى، والمخاطر والمضايقات التي تنطوي عليها المساكن المخصصة للمبيت (Manchester 1992: 63ff))، ومن الواضح أنّ السفر لم يكن شيئا يمكن أن يباشر المرء فعله بلا مبالاة . فبالنسبة للناس الذين عاشوا في عصور ما قبل الحداثة، لابد أن الارتباط الاشتقاقي بين لفظتي السفر travel و"الكدح" travail - وهو جهد مؤلم أو مرهق- كان واضحا للغاية.
بجميع هذه الطرق، تظهر الاختلافات بين أي نوع من قابلية الحركة
صفحة (42)
وبين المرتبطية الناشئة عنها كان موجودا في الأزمنة قبل الحديثة، وبين التكامل المستهان به بين السفر المنظّم وبين الحياة اليومية للناس في الحداثة. إن"التغير الحقبي" الذي نحتاج لفهمه يكمن في المبادئ المحورية التي تضع التواصل، وقابلية الحركة، والمرتبطية في مركز حياتنا.
ويمكننا أن نلمح في السجل التاريخي شيئا يوحي بهذا التحول الثقافي- شيء أكثر أهمّية من تغلّب التطورات التقنية على المعوقات المادية لقابلية الحركة. لنأخذ، على سبيل المثال، مناقشة بينيت للتقليد الشائع على ما يبدو في إنجلترا في القرن الخامس عشر، والمتمثل في حَفْر الطرق السريعة:" في إيلزبوري، تم حفر حفرة في الطريق السريع، وكان حجمها من الكبر لدرجة أن بائع قفازات متجوّلا سيء الحظ سقط فيها وغرق. بيد أن هيئة المحلفين برّأت الطحان المحليّ الذي حفر الحفرة، بحجة أنه لم يكن هناك مكان آخر يمكنه أن يحصل منه على الطين الذي كان يحتاج إليه." (Bennett 1990: 134) والمثير للاهتمام حول هذه النقطة ليس مجرد أخطار السفر التي تصوّرها، لكن كيف توحي بوجود مجموعة من الأولويات الاجتماعية ومنظورا مشتركا تختلف تماما عن مثيلاتها في زماننا الحالي . يصبح المثال مقبولا عند النظر إليه ضمن سياق زمن كان فيه "الحقل أكثر أهمية من الطريق"، كما صاغها بروك في معرض تعليقه على انحرافات ومنحنيات طرق القرون الوسطى حول حدود ضيعة ما (Brooke 1975: 74). اتخذت المخاوف الآنية للناحية أسبقية عامّة على تلك المتعلقة بالمرتبطية . إذا لم نستطع تخيّل هيئة محلفين حديثة تفكّر بنفس طريقة مثيلتها في أواخر القرون الوسطى، فسيكشف هذا إحدى رتب التغير الحقبي: من زمن لم تكن فيه مقتضيات الاتصال - أي الحاجة قبل كل شيء للبقاء على اتصال - قد أصبحت حاكمة لجميع المخاوف الأخرى.
وبالإضافة إلى ذلك، فمن الواضح أن المبدأ المحوري الحديث للمرتبطية ينطبق على أكثر من مجرد قابلية الحركة المادية. وبالفعل، فإن حقيقة كون"المرتبطية" بالنسبة للعالم قبل الحديث تركّزت حتما على قابلية الحركة المادية للناس - المسافرين المنفردين (التجار، والصنّاع المهرة، والحجاج، والقساوسة المتسولين) باعتبارهم الحملة المتجسّدين للتجارة، والمعلومات والتأثير الثقافي- مثلت بالتأكيد تقييدا رئيسيا لدرجة وتعقيد تلك المرتبطية. من المؤكد أن الحركة البسيطة للناس من مكان لآخر كان لها تأثير محدود على التركيبة الثقافية لتلك الأماكن، عند مقارنتها بالاختراق العميق للمكان، والذي تحققه أجهزة الإعلام وتقنيات الاتصالات الحديثة.
وهكذا، فحتى عندما تمكن الناس، بأعداد كبيرة نسبيا، من القيام برحلات محفوفة بالمخاطر إلى مواقع الحجّ التي كانت مراكز الملامح الجغرافية التخيلية للمسيحية أو الإسلام، فقد تجمّعوا، كما يقول أندرسون، كأرقام متجاورة على نحو غريب:" من نواح محلية بعيدة وغير ذات صلة فيما عدا ذلك... حيث يتوجب على البربري الذي يلتقي
صفحة (43)
الملاوي أمام الكعبة أن يسأل نفسه، إذا جاز التعبير:"لماذا يفعل هذا الرجل ما أعمله، متلفظا بنفس الكلمات التي أنطق بها، برغم أنّه ليس بإمكاننا أن نتحدث مع أحدنا الآخر؟"" (Anderson 1991: 54 – التشديد من قبل المؤلف ).
إن ما يفصل حجاج ما قبل الحداثة عن حجاج اليوم- باستثناء جميع الطرق التي تتم الآن من خلالها التسوية بين الإيمان الديني الراسخ وبين العقلانية العلمانية- هو حقيقة أنّ حجاج القرن العشرين، بطرق ما ،"يعرفون" بعضهم البعض قبل أن يصلون. وبالتالي، فإن المرتبطية المعقدة تتضمّن تغلّبا (أساسيا على الأقل) على المسافة الثقافية من خلال الاندماج الروتيني في الحياة اليومية "المحليّة" لجميع التجارب المخترقة للنواحي المحلية والمتعلقة بالتباين الثقافي المقدم من خلال التعليم، والتوظيف، والثقافة الاستهلاكية، ووسائل الإعلام المعولِمة.
الخلاصة: يمكننا أن نتحدث على نحو معقول عن ثمة تغيير محوري بين مرتبطية ما قبل الحداثة وتلك الحديثة. ولا يشير هذا إلى "انقطاع" تاريخي جامد، وهناك بالتأكيد كثير من الأمثلة على وجود استمراريات عبر الحدود غير المحكمة لهذه الحقب. وبرغم ذلك فهذا التحول حاسم في فهم حالتنا من"الحداثة العالمية"، ويدعم زعم جيدنز بأننا يجب ألا نعتمد على الاستمرارية التاريخية الطويلة للحصول على تلميحات تتعلق بزماننا الحالي وحالتنا الثقافية الخاصة. وبرغم التشابهات السطحية، فالعولمة لا تمتلك جذورا عميقة في العالم قبل الحديث. وعلى العكس من ذلك، فالمقارنة بالأنماط السابقة من"المرتبطية العالمية" المزعومة تفيد بصورة أكبر في تأكيد الطبيعة المتميّزة ، والتي يستهان بها، لتجربتنا المعولَمة الدنيوية الخاصة.
العصر العالمي" : نهاية الحداثة؟
لكن هناك صعوبة أخرى يتوجب تناولها قبل أن نستخدم مصطلح "الحداثة العالمية" بثقة، والتي تنشأ عن انفتاح الحقبة الحديثة، إذا جاز التعبير، على النهاية الخاصة بنا من التاريخ. ولأن منطق التفكير الحقبي يشير ضمنا إلى أنّ الحداثة بدورها سيخلفها زمن جديد بمبادئه المحورية الخاصة وخياله الثقافي المحدد. وبالتالي، ألا يتوجب علينا أن نأخذ على محمل الجد فكرة أن العولمة، وهي أبعد ما يكون عن التوصل إلى تسوية مع المبادئ المحورية للحداثة، هل في الحقيقة الإشارة الرئيسية على موتها؟
وهذا، كما ألمحنا إليه في بداية هذا الفصل، هو في جوهره ادّعاء مارتن ألبراو: لقد حل"العصر العالمي"، في الحقيقة، محل العصر الحديث . وحجّة ألبراو مبنية على بصيرة مهمة حول أوجه غموض مفهوم الحداثة: وهي حقيقة
صفحة (44)
كونه وصفا يبدو أنه ينتحل لنفسه خاصية أن يكون "متجددا دوما" وبالتالي، فهو يتجاوز الكبت التاريخي (3):
هل يمكن أن يكون هناك عهد آخر تكون الادّعاءات الحديثة فيه هي الجديدة دائما؟ هل من المعقول أن نعتبر أنفسنا أيّ شيء ما عدا الحديث؟ بحسب ظاهر الأمور، يجب أن يكون ذلك سهلا. فإذا كان العصر الحديث فترة في التاريخ، فمن المؤكد أنه مثل أي فترة أخرى يمكن أن تنتهي. لكن من أجل"التغلب" على ذلك، إذا كان الحديث هو الجديد، يبدو أن ذلك يحمل في طياته سرّ التجديد الذاتي الدائم. (Albrow 1997: 13)
يمثل هذا أكثر من وجهة نظر دلالية semantic رسمية ، لأن ألبراو يجادل بأنّ هذه الفرضية المتضمّنة للحداثة باعتبارها كل من"زمننا"، وإذا جاز التعبير، في"نهاية الزمن"، استحوذت على العلماء النظريين إلى حدّ أنّهم باتوا غير قادرين على التعرف على إشارات عصر جديد يكافح من أجل جعل نفسه ملحوظا. ومن المثير للسخرية ،إذن، أن"تحرر العالم من الأوهام" disenchantment ، الذي اعتبر ماكس فيبر أنه خاصية مميزة للحداثة (Weber 1977)، تحوّل إلى شكله الخاص من"السحر" enchantment، والذي يجري تحليلا اجتماعيا وثقافيا وهو واقع تحت تأثير سحر ما هو حديث. لدى هذه القراءة، حتى تلك الخطابات النظرية التي تقترح تجاوز الحداثة تبقى واقعة تحت تأثير سحرها: فما بعد الحداثة لا ينظر إليه باعتباره أكثر من "تعبير عن الحداثة، مهما كان ذلك مدمرا للذات"؛ وترقى إدّعاءات فرانسيس فوكوياما (Fukuyama 1992) حول "نهاية التاريخ"، حقا، إلى اعتبارها رضا بالحالة الأبدية للحداثة. وبالتالي، فإن "الحداثة لا يمكنها تخيّل المستقبل إلا باعتباره استمراريتها الخاصة وإلاّ فهي فوضى" (Albrow 1997: 9).
تسجّل حجّة ألبراو شكوكنا حول وقتنا المحدد: العقد (العقود) الأخيرة من القرن العشرين. لم يبد "العصر الحديث" كافيا لفهم هذا الزمن بدون ثمة نوع من الأهلية. يتسم الحديث المراوغ للغاية من الناحية التاريخية لما بعد الحداثة بكونه رمزيا لهذه الشكوك- لكن الأمر كذلك بالنسبة لفكرة "الحداثة المتأخرة" المفضّلة من قبل مفكّري الحداثة أمثال جيدنز . كيف يمكننا استخدام اصطلاح "الحداثة المتأخرة" بدون ثمة إحساس بالنهاية الوشيكة- من أن نكون في الجزء النهائي من فترة ما؟ ويرتبط هذا القلق بصورة وثيقة بكيفية فهمنا لحالة العولمة، باعتبار أنه، برغم وجود جذورها في المراحل السابقة من الحقبة الحديثة، قليلون هم من ينكرون أنّ المرتبطية المعقدة تمثل خاصية أكثر وضوحا للتاريخ القريب جدا- والتي فرضت الاهتمام بها علينا خلال العقود القليلة الأخيرة من القرن العشرين.
على ضوء هذا، يتخذ ألبراو ما يمكن اعتباره الخطوة المنطقيّة التالية - بالتخلي عن المبدأ المحوري للحداثة كلية لمصلحة "التعولم" globality:" من الناحية الجوهرية، يتضمّن العصر العالمي استبدال الحداثة بالتعولم، وهذا يعني
صفحة (45)
تغييرا شاملا في قاعدة العمل والتنظيم الاجتماعي (Albrow 1997: 4).
إنه ادّعاء جريء، ومن الصعب الفكاك منه. لأن الكشف، كما فعل ألبراو بلباقة، عن الإدراك المفاهيمي الذي لا تزال الحداثة تواصل ممارسته، هو شيء؛ وأن تزود أسبابا مقنعة للتخلي عن طريقة التفكير هذه أمر آخر. فما يتوجب إظهاره ليس مجرد كون الحداثة، مثل كلّ الأشياء، يجب أن تفنى، بل إن نُذر العصر العالمي الذي يكتشفه تمتلك القوة الكافية لإزاحته من موقعه المفاهيمي- الاستطرادي المهيمن.
يجادل ألبراو بمحاذاة خطين أساسيين: أولا نجده يوجز عددا من الخصائص التجريبية لزماننا الحاضر، والتي "أخذتنا لما وراء فرضيات الحداثة" :" العواقب البيئية العالمية للأنشطة البشرية الإجمالية ؛ وفقدان الأمن حيث تمتلك الأسلحة القدرة على إحداث دمار عالمي؛ وتعولم أنظمة الاتصال؛ وصعود نجم الاقتصاد العالمي؛ وانعكاسية الأممية globalism، حيث تشير الشعوب والجماعات من شتى الأنواع إلى الكرة الأرضية باعتبارها إطارا لمعتقداتهم" (Albrow 1997:4). يعود ألبراو إلى هذه المواضيع في نقاط مختلفة من كتابه (على سبيل المثال صفحتي 114 و115). وبرغم أنه يجادل بصورة معقولة تماما بأنّه ربما كان من المبكّر للغاية في العهد الجديد أن نحدد ما سيصبح أهمّ خصائصه على الإطلاق (ص 114)، فهو يعدد هذه المواضيع بوضوح باعتبارها تمثل إشارة على التحول إلى العصر العالمي. وهذا معقول بما فيه الكفاية- فهو يرقى إلى القول،"فكّروا بهذه الظواهر على نحو جديد، باعتبارها ترمز لعصر جديد". لكن هذا لا يزوّدنا بسبب مُقنع للتخلي عن الحداثة- مما يعني القول بأنه" لا يمكن التفكير بهذه الأشياء وفق المعاني المفاهيمية للحداثة." وهذا هو الادّعاء الأقوى الذي يريد إقناعنا به.
لكن عمل هذا يتطلّب حججا إضافية، لأن جميع ظواهر العولمة التي استشهد بها يمكن استيعابها بسهولة ضمن"العالم الفكري" للحداثة، وذلك ببساطة بالربط بينها وبين المؤسسات "الحديثة" التقليدية: أي ربط التهديدات البيئية بالتصنيع والاستهلاك الجماعي؛ والتهديد العالمي للأسلحة بالمركب العسكري-العلمي-الصناعي الحديث؛ والاقتصاد العالمي بالرأسمالية الحديثة، وهلم جرا. يميل ألبراو في الحقيقة إلى قراءة هذه الخصائص بصورة في الأساس تماما كتحديات تواجه الدولة القومية (ص 4 و5) والتي يعتبر قبل كل شيء أنها رمزية للحداثة نفسها. هذه التحديات معروفة جيدا، وتناقش على نطاق واسع وبضراوة ضمن الحديث السياسي للعولمة (McGrew 1992; Horsman and Marshall 1994; Axford 1995; Held 1995). لكن حتى إذا كان التعولم يهدّد الدولة القومية، فمن المؤكد أن هذا التهديد ليس شيئا يتعذر فهمه أو غير قابل للتعليل ضمن خطاب الحداثة. هناك شيء مفقود هنا، ولاكتشافه علينا أن ننتقل إلى خطّ ألبراو الثاني من المجادلة.
صفحة (46)
وهذا يحوّل التحدي الذي تمثله الظواهر المعولِمة من التهديدات التي تواجه قابلية نجاح المؤسسات الحديثة إلى التهديدات التي تكتنف المعنى المستبطن لنظام وعملية المنظور الفكري الحديث. تضاعف المخاطر البيئية، والتهديدات التي تمثلها المعركة النهائية النووية، وفوضوية السوق الرأسمالية العالمية، والتوسّعية الجامحة المطلقة للممارسات الثقافية عبر "الحدود" الثقافية الوطنية التي يطرحها التواصل العالمي- كلّ هذه تفلت من ذلك النوع من الخطط الكبرى الذي قد يتم ربطه بالحداثة باعتبارها "مشروعا". وبالتالي، فإن المبادئ المحورية للنظام ، والتخطيط، والتصميم ، والسيطرة، والتنمية، وما إليها تواجه تحديا من قبل التعولم الذي هو بالتحديد مشوش، وغير منهجي، و"غير موجّه" :" ليس للعولمة... نقطة انتهاء متأصّلة أو ضرورية... تتحقق نقطة انتهاء الحداثة عندما تصل إلى استنزاف المشروع الحديث؛ لكن التعولم ليس مشروعا. إنّ الاختلاف هنا عميق، ليس فقط لأن العولمة ليست مجرد استمرار للتحديث modernization : بل لأنها ليست عملية شبيهة بالقانون أيضا" (Albrow 1997: 95). يرقى هذا إلى القول بأنّ العولمة تمثل تحولا حقبيا يتحدد بفعل "مجموع التغيرات التاريخية" لكنه غير موجه بفعل ثمة منطق تطوري، وهذا أمر جيد. هناك أسباب وجيهة لتجنّب الحديث عن المرتبطية العالمية من حيث كونها ثمة منطق داخلي تاريخي كاشف. وعلى أية حال، فهي تمتلك تأثيرا على قولبة الحداثة، سواء كفترة أو كخطاب، كما يسيطر عليها بشكل يتعذر اجتنابه ذلك النوع من "القصة الكبرى" (Lyotard 1984) للغائية ، والتطور المحكوم بالقانون، وما إليهما. يبدو أن ألبراو، في الحقيقة، يعتقد أن التفسيرات التي تربط العولمة بالحداثة تقع بالضرورة في شرك القصة الكبرى (Albrow 1997: 101).
لكن الأمر ليس كذلك. فالحداثة، كمقولة عامة، لديها مجال واسع للنماذج غير المعيارية الأقل ترابطا من التغيير، وللتنكير indeterminacy، ونقد الغائية وعقلانية التنوير المتضمنة فيه. وبالإضافة إلى ذلك، فمن أجل المجادلة بصورة مقنعة لمصلحة استنزاف التفسير التحليلي الحديث، يجب أن يتناول ألبراو الحجج التي تربط بين العولمة والحداثة عند مستوى تحليلي مختلف تماما. ومثل هذه الحجج تحدّد موقع مصادر العولمة في التحولات البنيوية العميقة التي تستهلها الحداثة - أي التغيّرات الحادثة في التنظيم الاجتماعي للزمان والمكان- والتي يمكن أن تفسّر المرتبطية المتوسّعة التي نشهدها في عالم اليوم. ليست هذه ادّعاءات غائية أو تطوّرية، ولا يمكن رفضها سويّة مع نسخة القصة الكبرى من التاريخ.
وعند الانتقال إلى تدبّرها الآن، لا أريد أن تغيب عن بصري إشكال problematizing ألبراو المهم للهيمنة العامّة"لما هو حديث" في التحليل الاجتماعي والثقافي. لا شك أن للحداثة مشاكلها باعتبارها مقولة تحليلية- بالإضافة إلى كونها أيديولوجية. لكن، ومن الناحية الأخرى، فبوسعها أن تزوّدنا بطريقة قوية لتنوير
صفحة (47)
وضعنا الحالي للمرتبطية العالمية. وقبل أن نسارع إلى رفضه، نحتاج للاهتمام بهذا المستوى من التحليل.
العولمة باعتبارها "نتيجة للحداثة"
يمكننا العثور على بعض أقوى الحجج للخصائص المعولمة للحداثة في كتابات أنتوني جيدنز، بداية من مقاله المؤثر بعنوان"نتائج الحداثة" (1990). يُدخل جيدنز هنا مفهوم العولمة إلى نظريته الاجتماعية معرّفا إياها باعتبارها "تشديد العلاقات الاجتماعية العالمية الذي يربط النواحي المتباعدة بطريقة تتشكل من خلالها الوقائع المحلية بالأحداث الجارية على مبعدة أميال عديدة، والعكس صحيح (Giddens 1990: 64) .يطرح هذا التعريف - والواضح أنه ضرب من مفهوم المرتبطية المعقّدة- بصورة متزامنة مع الادّعاء بأن الحداثة "معولِمة بفطرتها" (Giddens 1990: 63). وفي أحد أعماله التالية، عمل على توسيع التعريف بحيث يربط العولمة بدرجة أكبر بتوسّع الحداثة:" تتعلّق العولمة بتقاطع الحضور والغياب، وتشابك المناسبات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية "البعيدة" مع السياقات المحليّة". علينا أن نفهم الانتشار العالمي للحداثة من حيث كونه علاقة مستمرة بين التماسف والتغيرية المزمنة للظروف المحليّة والارتباطات المحليّة"(Giddens 1991: 21-2). لكن بأي معنى تكون الحداثة "معولِمة بفطرتها"؟ هناك نسخة ضعيفة وأخرى قوية من ذلك الادّعاء يمكن اكتشافها في تحليل جيدنز الشامل.
تستمد النسخة الضعيفة من مناقشة جيدنز لأربعة أبعاد مؤسساتية رئيسية للحداثة: الرأسمالية، والاتجاه نحو الصناعة، والترصّد (وخصوصا السيطرة السياسية للدولة القومية) والقوّة العسكرية (Giddens 1990: 55-78). يربط جيدنز على التعاقب بين هذه وبين أربعة "أبعاد للعولمة": الاقتصاد الرأسمالي العالمي، والتقسيم الدولي للعمل، ونظام الدولة القومية، والنظام العسكري العالمي. من منظور سطحي، تمثل هذه مجرد نسخ من الأبعاد الأربعة للحداثة بعد إبرازها - بصورة عالمية. يناقش جيدنز طبيعة هذه الأبعاد المؤسساتية بصورة موجزة، مشدّدا على اعتمادها المتبادل المعقّد ولكن أيضا على خصائصها المستقلة وعدم إمكانية اختزال كلّ منها إلى أيّ مبدأ معولم منفرد- على سبيل المثال إلى قصّة فالرشتاين عن ثمة نظام عالمي من التوسّع الرأسمالي. لكنّه لا يزوّدنا عند هذه النقطة بأيّ تقرير حقيقي عن الآلية التي توجه توسّع هذه المؤسسات. وبالتالي، فإنّ النسخة الضعيفة تمثل ببساطة الادّعاء الضمني بأن الانتشار العالمي لهذه المؤسسات الحديثة، منذ نشأتها في أوروبا في القرن السابع عشر، يمكن تفسيره من حيث
صفحة (48)
خصائصه التوسّعية بفطرته: الرأسمالية التي تبحث دون هوادة عن مجالات جديدة للعمل وعن أسواق جديدة؛ الدولة القومية المتوسّعة بسرعة إلى نظام سياسي منظم بشكل انعكاسي، والذي يحتلّ كافة مناطق سطح الأرض تقريبا ؛ النظام الصناعي الذي يتبع منطق تقسيم العمل، مما يؤدّي إلى" تخصص إقليمي من حيث نوع الصناعة، والمهارة، وإنتاج المواد الأولية في كافة أنحاء الكرة الأرضية (1990: 76)؛ القوّة العسكرية غير المقيدة بالدول القومية المنفردة، بحيث تصبح منظّمة عالميا عن طريق التحالفات الدولية، وتدفق الأسلحة، وما إليها.
هذا التقرير الضعيف غير حصين في مواجهة الاتهام القائل بأنه يشكّل العولمة ببساطة باعتبارها، إذا استعرنا كلمات روبرتسون،" تضخيم للحداثة، من المجتمع إلى العالم. فهي الحداثة على نطاق عالمي" (Robertson 1992: 142). وبدون إظهار أيّ منطق متأصّل، يجادل روبرتسون بأن الحداثة و"التعولم" ، مندمجان ببساطة. لكن من الناحية الأخرى، يهاجم مارتن ألبراو جيدنز بالتحديد لافتراضه وجود ثمة منطق داخلي:" إن الفكرة القائلة بأن"الحداثة معولمة بفطرتها" تعامل النتيجة باعتبارها منتج ضروري لعملية ما، كما لو كانت تنطوي على قوانين داخلية للتطور. وهذا يقترح حالة انتهائية باعتبارها النقطة التي تتوجه إليها جميع الأحداث السابقة. وبالتالي، فإنّ هذا التحليل يعد غائيا" (Albrow 1997: 99). وبالنظر إلى نقد جيدنز نفسه للنظريات الغائية والتطوّرية، تنطوي هذه التهمة على سخرية حادّة. لكن في غياب تفسيرات أخرى، بوسع المرء أن يرى كيف يمكن لهذه النسخة الضعيفة للخاصية التوسّعية بفطرتها للمؤسسات الحديثة أن تؤخذ على أنها تفترض وجود ثمة منطق تطوري متأصل.
وعلى أية حال، هناك قصّة أخرى في كتابات جيدنز، والتي فشل ألبراو في التعامل معها. وهي حجة أكثر إقناعا بكثير، تتتبّع المظاهر المؤسساتية للحداثة إلى التحولات الأعمق في الطريقة التي يتم بها إدراك وتنظيم المقولات الوجودية الاجتماعية الأساسية- الزمان، والفضاء ، والمكان، والمسافة، والقُرب. هذه النسخة القوية للخصائص المعولمة للحداثة لا تتفادى الغائية فحسب، بل تزوّدنا أيضا بإطار نظري أغنى لتفسير تجربة المرتبطية المعقّدة.
الحداثة كتحوّل زماني-مكاني
من بين الأمور المثيرة للاهتمام حول تعاريف جيدنز للعولمة، نجد طبيعتها "المجرّدة". إن أفكارا مثل "تقاطع الحضور والغياب" أو فكرة "العمل عن بعد" الأكثر تحفظا (1994a: 4)، يبدو أنها تتعمد تفادي المصطلحات التقليدية لعلم الاجتماع: (المجتمعات، الدولة القومية، الرأسمالية المتعددة الجنسيات) لترسيخ خطاب "يركّز على تحليل كيفية تنظيم الحياة الاجتماعية
صفحة (49)
عبر الزمان والمكان- أي مُشكل problematic التماسف الزماني-المكاني" (1990: 64).
وضمن هذا المشكل، ستوجد الآلية المعولِمة للحداثة. يدّعي جيدنز أنّ المؤسسات الاجتماعية الحديثة تمتلك خصائص دينامية مميزة غير موجودة لدى مثيلاتها في العالم قبل الحديث، وهذه مشتقّة في معظمها من تحول في العلاقة بين المقولات الوجودية الأساسية للزمان والمكان.
يجادل جيدنز بأنه في المجتمعات قبل الحديثة، كان حساب الزمن محدودا، بالنسبة للأغلبية، بفعل اعتماده على ثمة اتصال بالمكان. بطبيعة الحال، كانت جميع المجتمعات قبل الحديثة تمتلك تصوّراتها الخاصة المتواسطة ثقافيا عن الزمن وبعض طرق احتساب الوقت. لكن قبل اختراع الساعة الميكانيكية وانتشارها الواسع: كان من المستحيل معرفة الوقت من اليوم بدون بالإشارة إلى سياق الناحية المحلية، وخصوصا العلامات الطبيعية للزمان- المكان. وبالتالي، على سبيل المثال، فإن"الفجر" و"الغسق" و"الظهر" أو العلامات الموجودة على الساعة الشمسية، لم تكن علامات غير دقيقة على الوقت فحسب، بل إنها كانت مرتبطة جوهريا بالناحية المحلية التي كانت تستخدم فيها.
ومن الممكن أن يقال الشيء نفسه عن مقولة مثل"عندما ننتهي من العمل في الحقول ونعود إلى القرية." وبرغم أنه مقياس اجتماعي عوضا عن كونه"طبيعيا" للزمن، فلا يزال هذا معتمدا في معناه على "توافر الحضور" للمجتمعات المحليّة. وبالتالي فإن أوجه القصور المتعلقة بحساب الزمن في العصور قبل الحديثة يمكن أن ترى في صعوبة القول بعبارات مثل"في السّاعة الثّالثة" أو" خلال نصف ساعة" - ليست مجرّد صعوبات متعلقة بالدقة قبل التسجيل الميكانيكي للزمن، بل- وهو أمر أكثر أهمية- من حيث التجريد - أي الاستقلال عن المكان. وفي هذا السياق، يقدم لنا ثريفت (Thrift 1990: 113-14) مثالا أدبيا لطيفا:" توماس هاردي Hardy ، في روايته المعنونة "عمدة كاستربريدج" .... يجعل أحد العمال الزراعيين يوضّح أنّ موت هينشارد حدث "قبل نحو نصف الساعة، حسب الشمس؛ لأنني لا أمتلك ساعة خاصة بي." يعطينا هذا لمحة عن التقاطع التاريخي - في إنجلترا في أوائل القرن التاسع عشر- بين عالمين مختلفين تماما، يقوم الحديث منهما بابتلاع "البُعد التقليدي" في متطلباته الاجتماعية للدقة والتجريد من السياق الذي يمثّله الزمن المُقاس.
وبالتالي، فقد حرّرت الطبيعة المتسقة - و"الفارغة" - للزمن المسجّل ميكانيكيا عملية حساب الوقت، وبالتالي تنسيق النشاط الاجتماعي، من خصائص المكان. وبطبيعة الحال فإن تضمينات هذا التغيير كانت مرتبطة، كما يبين مثال ثريفت، بالانتقال من اقتصاد زراعي إلى آخر صناعي (رأسمالي). على سبيل المثال، تناقش باربرة آدم Adam تسليع commodification الزمن (قارن مع: Thompson 1967; Giddens 1981) الذي أمكن تحقيقه بقياس الزمن في المجتمعات الصناعية الحديثة. وهي تقارن (Adam 1990: 112) بين الحساب الحديث "لساعات العمل"
صفحة (50)
اللازمة لإكمال مهمة ما وبين مفهوم سابق كان يستخدم في الربط بين الزمن والعمل وبين خصائص المكان:
في المجتمعات الصناعية، أصبح الزمن مقياس العمل، في حين كان العمل مقياس الزمن في الفترات السابقة. كان المقياس الألماني tagwerk، بمعنى"عمل اليوم(الأيام)"، واحدا من هذه المقاييس: فكان متباينا ومعتمدا على السياق. وهو يستلزم معرفة أن العمل في قطعة أرض بكر أسهل من العمل في هضبة صخرية.... أما احتساب"ساعات العمل، ومن الناحية الأخرى، مثل وحدات الزمن المكونة للساعة، والتي هي مبنية عليها، فهو مقياس لا متغير، وقياسي، والذي يمكن تطبيقه بغير استثناء وبغض النظر عن السياق.
وتلمح آدم إلى أن تحويل التوجه الاجتماعي من"المهمة إلى الزمن" يعني فقدان بعض المعرفة التي أفادت العصور السابقة جيدا، والتي تمتلك مميزات من حيث نوعية الخبرة واستقلالية العمل. إن"تفريغ" المحتويات الخاصة للزمن، إذن، لا يمثل بأي حال من الأحوال مكسبا اجتماعيا وثقافيا جليا. ومن ناحية أخرى، فلا يمكن إنكار أن الزمن المُقاس ميكانيكيا هو، من نواح معينة، محرر بحق من حيث نتائجه. والقول بأنه"حرر الزمن من خصائص المكان" لا يشير ضمنا إلى مكانه ضمن ثمة نمط حميد من التحرر البشري التدريجي ("التطوري"). وعلى أية حال، فعلينا أن نقر بالمكاسب من حيث قابلية الحركة وما تلاها من رفع الأفق الثقافية للناس، والتي تحققت بفعل الزمن المنسق، المُقاس ميكانيكيا. يشير ثريفت (Thrift 1990: 115ff) إلى الوجود الكلي للساعات وجداول المواعيد الزمنية في المصانع، والمكاتب، والمدارس بحلول أواخر القرن التاسع عشر، مشيرا إلى دورها في فرض الانضباط الزمني على العمالة الصناعية. لكنه يناقش أيضا ضرورة تنسيق التواقيت المحلية المتعددة من أجل التطوير الناجح لخطوط السكك الحديدية. تم اعتماد توقيت جرينتش من قبل جميع شركات السكك الحديدية البريطانية بحلول عام 1848، قبل ثلاثين سنة من اعتماده كتوقيت رسمي في بريطانيا العظمي. وكانت السكك الحديدية أيضا- باعتبارها مؤسسات لتنسيق الزمان-المكان من خلال جداول مواعيدها الزمنية timetables، بقدر كونها تقنية للمواصلات- هي أول ما جعل السفر الجماعي الحديث أمرا ممكنا. من الممكن أن ننظر بحق إلى رحلة توماس كوك Cook الأولى الشهيرة بالسكك الحديدية من ليسيتر إلى لوبورة في عام 1841- وكما رآها كوك نفسه- كبداية لدقرطة السفر :"إن السفر بالسكك الحديدة هو وسيلة سفر الملايين؛ فالحقير يمكنه السفر، والغني يستطيع السفر..." (مذكورة في Lash and Urry 1994:261). وعلى ذلك، فمثل حالة الحداثة نفسها، فإن فصل الزمان عن المكان يمثل تطورا مبهما، يجلب مزيجا من التحررات وأنماطا جديدة من الهيمنة. وعلى أية حال، فإن تضمينات التماسف الزماني- المكاني، بالنسبة لجيدنز على الأقل، تتخطى بكثير مسائل التسليع.
صفحة (51)
من بين التضمينات المباشرة لذلك، نجد توسيع تقييس الزمن المقاس بالساعات من السياق الوطني إلى العالمي. فالمؤتمر العالمي لخطوط الطول الذي انعقد في واشنطن عام 1884 اعتمد توقيت جرينتش باعتباره التوقيت المعتمد للنظام العالمي للمناطق الزمنية العالمية. وبالتالي،" فإن النظام الزمني الخاص بالغرب تحديدا، والذي ظهر مع اختراع الساعة في أوروبا خلال العصور الوسطى، أصبح المعيار العالمي لقياس الزمن. وبالفعل، فقد عنى تطوره المهيمن القضاء النهائي الذي لا رجعة فيه على جميع الأنظمة الزمنية الأخرى في العالم..." ( Nguyen 1992:33 مذكورة في Lash and Urry 1994:229 ). ويمكننا أن نضيف إلى ذلك التقييس الدولي للروزنامات :" يتبع الجميع الآن نفس نظام التأريخ : فاقتراب"العام 2000" ،على سبيل المثال، يمثل حدثا عالميا (Giddens 1990:18) (5). وبالتالي، فبثمة طرق واضحة تماما، أدى الفصل بين الزمان وبين الخصائص المحلية إلى ظهور أنماط من التنسيق سرعان ما أصبحت عالمية: أصبح توقيت جرينتش التوقيت القانوني المعتمد في بريطانيا في عام 1880، وبعد ذلك التاريخ بأربعة سنوات فقط تم اعتماده كتوقيت عالمي معتمد. وبرغم ذلك، يحذر جيدنز من تفسير كل ذلك بصورة سطحية للغاية، فهو لا يريد أن يقترح أن الزمن المقاس بالساعات هو، بثمة طريقة حتمية من الناحية التكنولوجية، مصدر للحداثة. وعوضا عن ذلك، فما يهم هو العملية الاجتماعية الأوسع المكتنفة في فصل الزمان عن المكان:" أدى الاستخدام الواسع الانتشار لأجهزة القياس الميكانيكية للزمن إلى تسهيل، لكنه أيضا يفترض، حدوث تغيرات بالغة العمق في مسألة الحياة اليومية" (Giddens 1991:17). وعلى سبيل المثال، فإن عام 2000 كحدث عالمي يعني أكثر من الاعتماد العالمي لروزنامة موحدة، فهو يقترح سياقا يرتبط فيه كل واحد (تقريبا) "بالتاريخ" بطريقة خاصة، مما يعمم ما أسماه جيدنز "التاريخية" historicity - وهو استخدام التاريخ لصنع التاريخ (Giddens 1991:243). وتعني التاريخية ضمنا القدرة على استغلال المعرفة بالماضي من أجل صياغة المستقبل- وهو شيء لا يمكن أن يظهر سوى في مجتمعات تمتلك القدرة المنهجية على تخزين واسترداد المعرفة بالماضي. ولذلك فإن حقيقة كون جميع المجتمعات قادرة على الارتباط بفكرة "عام 2000" تستلزم أيضا تحولا جذريا في مفاهيمها واستخدامها الاجتماعي للزمن التاريخي- مما يستلزم بدوره تحولات في تسجيل و"تخزين" المعلومات، وفي مجال الاتصالات. وهذا النوع من التحولات العريضة هو ما يريد جيدنز إدراكه من فكرة كون التماسف الزماني-المكاني تشير إلى"انقطاع" مع العالم قبل الحديث، ويعولم التحول الحقبي بصورة متزامنة. يطور جيدنز مناقشته بتدبر التضمينات التي يمتلكها "تفريغ الزمن" بالنسبة "لتفريغ المكان"، وهنا تكون قوة حجته فيما يتعلق بالعولمة في أقوى مستوى لها.
صفحة (52)
ويشير مصطلح "الفضاء الفارغ" إلى فصل الفضاء عن المكان، وهو ما يصير مُمكناً بفضل الحساب المجرد للوقت. ويلاحِظ أنه غالباً ما يتم استخدام "الفضاء" و"المكان" كمترادفين في اللغة الدارجة. ولكن يمكننا التمييز بينهما عن طريق النظر إلى "المكان" باعتباره "ناحية" locale، وهو تعبير صاغه جيدنز في أولى كتاباته عن الزمان والمكان(1979: 206ff) "والذي يشير إلى الإطار المادي للنشاط الاجتماعي كما هو محدد جغرافياً" (1990:18)وقد يكون الموقع أي شيء بدءاً من "غرفة في منزل، أو ناصية شارع، أو ورشة بأحد المصانع، أو بلدات ومدن، إلى المناطق المحددة إقليمياً التي تشغلها الدول القومية" (1984: 118). والمقصود هو أن تلك المواقع ليست فقط مجرد بيئات أو نقاط جغرافية مادية لكنها تُشكِّل، وبصورة حاسمة، سياقات مادية للتفاعل. ويقول جيدنز أن مفهومي الفضاء والمكان (الناحية) كانا متطابقين بشكل كبير في مجتمعات ما قبل الحداثة. وذلك لأن علاقات الحضور - أي التعاملات المحلية التي تتم وجهاً لوجه- كانت تُسيطِر على الحياة الاجتماعية لغالبية الناس. ومن هنا نجد أن مواقع ما قبل الحداثة - الحقل، والمنزل الريفي، وحقول القرية، والكنيسة، والسوق، والعِزبة- هي السياقات "المحلية" المُحدَّدة جغرافياً لجميع التعاملات الاجتماعية تقريباً. ومن الواضح أن سيطرة علاقات الحضور في مثل هذه السياقات تكون نابعة إلى حد كبير من القيود المفروضة على التنسيق الاجتماعي عبر المسافة من خلال حساب الوقت في أزمنة ما قبل الحداثة.
ويجادل جيدنز بأن الحداثة "تنتزع الفضاء من المكان" وذلك لأنها أتاحت، بل في الواقع "عزَّزت"، العلاقات عن بُعد بين أناس لا يُوحِّد بينهم الحضور وجهاً لوجه في ناحية ما. وهذا هو، قبل كل شيء، ما يجعل الحداثة مُعولِمة بفطرتها. ولفهم ذلك بشكل أفضل، يمكننا تأمل وصف جيدنز المُلفِت للنظر إلى حد ما (1990: 19) للنواحي في الحداثة على أنها تخيلاتية Phantasmagoric بصورة متزايدة: أي أن النواحي يتم اختراقها تماماً وتشكيلها في ضوء تأثيرات اجتماعية بعيدة عنها نوعاً ما. فما يشكِّل الناحية ليس ببساطة ذلك الموجود على الساحة، "فالشكل المرئي" للناحية يُخفِي وراءه العلاقات المتماسفة التي تحدد طبيعته."لماذا" "تخيلاتي"؟ يستمد المصطلح معناه الأكثر عمومية من كلمة Phantasm، التي تعني وهم أو مظهر خادع. ولكن لهذه الكلمة استخدام فرعي مثير للاهتمام، وهو "رؤية افتراضية لشخص غائب (حي أو ميت)" (Hawkins and Allen 1991: 1087). ويبدو أن استخدام جيدنز لهذا المصطلح يستغلّ بشكل أكبر هذا المعنى الفرعي من خلال اقتراح موقف لا تكون فيه النواحي "وهمية" illusory إلى هذه الدرجة، وكأنها مسكونة من قِبَل كل من "الغائب" و"الحاضر". ويسترجع ذلك إلى الأذهان وصف وولتر بنجامين للجزء الداخلي من بيت في القرن التاسع عشر على أنها تخيلات Phantasmagoria ، والتي قام فيها المواطن البرجوازي "بجمع المتباعد في الزمان والمكان. وقد كانت الغرفة التي يَرسُم فيها صُندوقاً في مسرح العالم" (Benjamin 1973: 168). ولكن بالنسبة لجيدنز، على أية حال، فإن المعنى أوسع من ذلك الخاص بجماليات السلع commodity aesthetics: وهو أن التأثيرات الخاصة بالعمليات
صفحة (53)
والقوى الاجتماعية البعيدة ما هي إلا تخيلات -"صور من الحضور الطيفي"- في النواحي المحلية.
ويمكننا فهم ذلك عن طريق عقد مقارنة بين ناحية معاصرة عادية وبين نظيرتها في مجتمعات ما قبل الحداثة. حيث أن منازل عصر ما قبل الحداثة كانت بصورة شبه حصْرية سياقات للتعاملات الحميمة للوجود. ويؤكد لوروا لادوري (Le Roy Ladurie 1978: 24)، في وصفه للحياة في قرية مونتايُّو Montaillou الفرنسية خلال القرن الرابع عشر، على التطابق المفاهيمي الوثيق بين"المنزل" والأسرة التي كانت تَسكُنه:
هذه الخلية الأساسية [من مجتمع القرية] لم تكن سوى الأسرة الريفية "مُتجسِّدة في استمرارية أحد المنازل وفي الحياة اليومية لمجموعة تعيش مع بعضها البعض تحت سقف واحد. وقد كانت هذه الوحدة تُسمَّى في اللغة المحلية باسم Ostal، كما كان يتمّ تسميتها في اللغة اللاتينية المُستخدمة في كتابة ملفات محاكم التفتيش باسم hospicium أو، بصورة أكثر شيوعاً، باسم domus. ويجب أن نذكر أن هذه الكلمات تعني جميعها، وبصورة متداخلة، كلاً من الأسرة والمنزل. ولم يستخدم مصطلح Familia عملياً على الإطلاق ... حيث لم يحدث مطلقاً أن انبست به شفاه سكان قرية مونتايُّو أنفسم، والذين بالنسبة لهم كانت الأسرة المكوَّنة من لحم ودم والمنزل المُشيَّد من الخشب، أوالحجر، أو الجصّ يشيران إلى الشيء نفسه.
ويعرض لو روي لادوري منازل مونتايُّو على أنها، وكما كانت تبدو، مواقع "تشمل" على علاقات اجتماعية بقدر اشتمالها على فضاء مادي."وهكذا فقد تمَّ حِفظ الهرطقات الدينية التي كانت رائجة في هذه القرية إلى أقصى درجة عندما كان يتم الهمس بها خلف باب المنزل domus ... أو عندما يوصد عليها الجدران الأربعة الهواء الفاسد الرطِب الذي يتَّسم به جو البيت Ostal "(1978:27). وقد كانت هذه ناحية "ناظرة نحو الداخل" من الناحية الاجتماعية، ويعود ذلك بنفس الدرجة إلى المستوى المُتدنِّي من تقنيات الاتصال.
ولا يزال منزل الأسرة (الغربية) الحالي، بطبيعة الحال، ناحية تكون فيها العلاقات الحميمة التي تتمُّ وجهاً لوجه هي المعيار. ولكن، وفي تناقض حاد من مثيله في عصور ما قبل الحداثة، هناك العديد من الطرق التي يكون فيها أيضاً محلا لتفاعل متماسف، وبالتالي "مُنفتِح على العالم" من قبل الأسرة. فعلى سبيل المثال، نجد أنه وبشكل نمطي مُزوَّد بعدد من تقنيات الاتصال التي تمَّ تبنيها دون الكثير من التساؤل: مثل صندوق بريد لتلقي كل من الخطابات والصحف اليومية(6)، والهاتف (والذي غالباً ما يكون متصلاً الآن بجهاز رد آلي يُتيح الاتصال في زمان ومكان متماسفين)، ونجد الراديو، والتلفاز (الذي صار وبصورة متزايدة متصلاً بطبق لالتقاط إشارات الأقمار الصناعية، ونظام الكيبل أو مسجل الفيديو (VCR)). وقد نجد أيضاً في المنازل الأكثر ثراء أجهزة الفاكس، وأجهزة الكمبيوتر المتصلة عن طريق المودم modems بمكان عمل بعيد، والإنترنت، وشبكة الويب العالمية، أو الهواتف الخليوية، وأجهزة الاستدعاء paging machines الموضوعة في جيوب المعاطف أو حقائب اليد. وتقنيات الاتصال هذه هي الطرق الأكثر بروزاً التي تصبح من خلالها المنازل الحديثة
صفحة (54)
سياقات للعلاقات المتماسفة. وبرغم أن علاقات الحضور قد تكون لا تزال هي السائدة هنا، إلا أن المنازل قد أصبحت منفتحة على العالم بصورة متزايدة: حيث صارت غرف الجلوس الخاصة بنا أماكن "يلتقي فيها العالمي مع المحلي" (Morley: 1992).
وبالإضافة إلى ذلك، فإن تأثيرات تقنيات وسائل الإعلام والاتصالات ليست الطريقة الوحيدة التي تقوم بها العلاقات المتماسفة بتعيين هوية النواحي المنزلية. وتقوم الأشياء النافعة المُلحقة بمنازلنا – مثل التجهيزات الخاصة بالتزوُّد بالكهرباء-"بربطنا" بشبكات وأنظمة بصورة أكبر من مجرّد المعني المادي: حيث ترتبط حياتنا الروتينية بعلاقة من الاعتمادية على "الأنظمة الخبيرة" التي تديرها. وكما يوضِّح جيدنز (1991:135) فقد قامت الكهرباء في المنزل بتغيير تجربة الحياة المنزلية بشكل عميق – جاعلةً من الممكن "استعمار الليل" (7). لكن توقُّعاتنا الروتينية بأن نظلّ نشطين بصورة كاملة خلال ساعات الظلام تكشف أيضاً عن اعتمادنا على الأنظمة الخبيرة الحديثة الخاصة بتوليد وتوزيع الكهرباء، كما يتضح بسرعة في العجز غير العادي الذي تسبِّبُه حالات انقطاع التيار الكهربي، وخاصة بالنسبة لمستخدمي أجهزة معالجة الكلمات.
وفي النهاية، فالطريقة نفسها التي "نمتلك" بها منازلنا- عن طريق القروض والرهون العقارية- تربطنا بنظام مالي عالمي يمكن الشعور بتأثيراته في حياتنا اليومية، كما هو الحال على سبيل المثال، في التقلُّبات - التي أحياناً ما تكون درامية- التي تحدث في بعض الأحيان في أسعار الفائدة على العقارات المرهونة. ويمكننا أن نقدّر الطبيعة "التخيلاتية" للنواحي الحديثة في هذه النماذج الاقتصادية الخاصة بالعلاقات المُتماسفة: لأن علاقتنا بنظام السوق العالمي -عبر فرع البنك "المحلي" الذي يقوم بتنظيم عملية حصولنا على قرض مضمون برهن عقاري - هي بالتأكيد غير مرئية في السياق المحلي الحميم الخاص بالمنزل. ومع ذلك فإن تأثيرها يتم بالتأكيد استشعاره هناك. وعلى سبيل المثال في المملكة المتحدة خلال عِقد الثمانينيات من القرن العشرين، عندما أدَّت التحوُّلات الدرامية في سوق الإسكان إلى النظر إلى المنازل بصورة أكثر حدة على أنها أصول تجارية مُرْبِحة من قِبَل البعض –أو "كشِراك" traps من حقوق الملكية السلبية التي تحول دون حرية التحرك بالنسبة للآخرين- وأكثر من مجرد كونها مساكن.
إن المعنى الذي تكون به منازلنا عبارة عن سياقات تُعبِّر فيها العولمة عن نفسها هو معنى هام. ولكن هناك بالطبع أمثلة أخرى على النواحي الحديثة التي لا يوجد لها نظير محدد في عصور ما قبل الحداثة: لننظر إلى المطارات التي تناولناها في الفصل الأول، أو في الاستوديوهات التلفزيونية، أو محطات الوقود، أو مراكز الاستجمام، أو مراكز التسوق التجارية. فقد تمَّ اختراق كل هذه النواحي الحديثة بصورة كاملة، نتيجة للفصل بين الفضاء والمكان، بفعل العلاقات المتماسفة. وبرغم كونها أجزاء محددة من البيئة التي نعيش فيها، وأحياناً أجزاء من ناحيتنا التي نختبرها، إلا أنها لم تعد محلية بشكل لا لبس فيه. ما تُعبِّر عنه هذه النواحي المحلية الحديثة هو لا تضمين disembedding للنشاط الاجتماعي من سياقات الحضور.
صفحة (55)
اللا تضمين
يصف جيدنز "اللا تضمين" على أنه "اقتلاع" العلاقات الاجتماعية من السياقات المحلّية للتفاعل وإعادة تشكيلها في نطاقات غير محددة من الزمان-المكان" (1990:21). وتُعدّ هذه فكرة هامة لفهم الطبيعة المُعولِمة بصورة متأصلة للحداثة وبشكل أوسع لفهم الخبرة الثقافية للعولمة. ويناقش جيدنز نوعين من"الآليات" التي تقوم باقتلاع العلاقات الاجتماعية من انطمارها (تضمينها (embeddedness في النواحي المحلية :"العملات الرمزية" و"الأنظمة الخبيرة". سأقوم بتلخيص هاتين الآليتين بصورة موجزة، ثُمَّ سأمضي بعد ذلك لمناقشة كيف أنه بالنظر إليهما معاً "كأنظمة مُجرَّدة" على حد تسميته، نجد أنهما تقترحان طريقة مُميَّزة لفهم الحالة الثقافية ووصف الظواهر المصاحبة للحداثة العالمية.
تُعدُّ "العملات الرمزية""وسائط للتبادل ذات قيمة قياسية، وبذلك يمكن تبادلها بصورة بينية عبر مجموعة مُتعدِّدة من السياقات" (1991:18). والمال هو المثال الواضح الذي قدَّمه جيدنز: فالمال يُعتبر وسيلة "لاقتلاع" العلاقات الاجتماعية (والاقتصادية) من التحديد الزماني-المكاني للنواحي المحلية المادية. حيث إنه- وكما لاحظ فاجنر (1994:26)-"الوسيلة النموذجية لإطالة سلاسل التفاعل": كنظام مجرَّد لتبادل القيمة المعيارية، يسمح لتبادل العلاقات بالحدوث فيما وراء الخصوصيات الخاصة بالموقع، وكوسيلة للائتمان، يُمثِّل نمطاً من التأجيل الزمني، وبالتالي فإنه يسمح للعلاقات المتبادلة بأن تمتد عبر الزمن. وبطبيعة الحال، يُقرّ جيدنز بأن المال كان موجوداً في مجتمعات ما قبل الحداثة، ولكن في الشكل غير المتطوِّر نسبياً الخاص بالسك المادي للعملات material coinage(8) ، وأنه لم يُصبِح على صورة تلك العملات الرمزية المجرَّدة الحقيقية، الموجودة في اقتصادياتنا المعاصرة، سوى مع تطوُّر"المال الحقيقي" Money proper، "حيث أصبح مستقلاً عن الوسيلة التي يتم تمثيله بها، واتخذ شكل معلومات خالصة مخزَّنة في صورة أرقام على أوراق مطبوعة بالحاسوب" (1990: 25).
من الممكن أن نشعر بالفرق بين اقتصاديات المال الخاصة بالعصر الحديث وتلك الخاصة بفترة ما قبل الحداثة من الروايات المُتعلِّقة بالمشاكل التي كان يواجهها المسافرون في صرف العملات المحلية خلال العصور الوسطى. فبرغم أن الكمبيالات كانت موجودة على الأقل اعتبارا من القرن الثالث عشر في أوروبا، إلا أنه لم يكن هناك ضمان بأنه سيتم قبولها في أي مدينة بعينها حتى في نفس الدولة. وحتى في وقت متأخر كعام 1458، عمد وليام واي Wey - والذي كان أحد الحجاج المُتوجِّهين إلى القدس- إلى نصح الآخرين بأن يأخذوا معهم "كمية من" عملات كل من "مدن تور، وكاندي، ومودينا"، بالإضافة إلى عملات مدينة البندقية الموجودة في كل مكان، والتي كادت أن تصبح عملة دولية في أرجاء منطقة البحر المتوسط" (Sumption 1975: 206). والبساطة والبداهة النسبيتين اللتين يتَّسم بهما صرف العملات المعاصرة بالنسبة للسفر الدولي - وخاصة استخدام بطاقات الصرف charge cards المقبولة دولياً-
صفحة (56)
هو أمر مُذْهِل. ويمكن عزو هذا ليس فقط إلى تطور السوق الرأسمالية الدولية، ولكن - وكما يذكر جيدنز (1990:24)- وبشكل حاسم إلى دور الدولة في الصناعة المصرفية، حيث تعمل كضامن للقيمة. وهكذا فإن "المال الحقيقي" ينشأ مع النظام الحديث الخاص بالدولة القومية، ويصبح هذا المال في الوقت نفسه "دوليا". وتضمينات ذلك بالنسبة للحجة القائلة بأن الحداثة مُعولِمة بفطرتها واضحة.
وتقوم"الأنظمة الخبيرة" Expert systems هي الأخرى بالربط بين الزمان والمكان،"من خلال نشر أنماط من المعرفة التقنية التي تتمتع بصلاحية مستقلة عن الممارسين والعملاء الذين يقومون باستخدامها" (Giddens1991:18). ويتم هنا تحقيق هذا "الاقتلاع" lifting out للعلاقات الاجتماعية من السياقات المحلية بواسطة التواسط المنتظم للحياة اليومية من خلال الخبرة الرسمية. ويقول جيدنز بأن الأنشطة الروتينية مثل قيادة أحد السيارات تتضمن على علاقة متماسفة من"الثقة" في مجموعة من الأنظمة الخبيرة- مثل تقنيات تصنيع وتصميم السيارات، وأنظمة مراقبة المرور، إلخ. ويُمثِّل التفاعل الروتيني للأشخاص المعاصرين مع هذه الأنظمة الخبيرة "تمديداً" للعلاقات الاجتماعية، حيث أننا نتصل بنظام مُجرَّد يُجسِّد المعرفة التقنية، وليس بالعاملين المُحدَّدين الذين قد يكونوا هم من قاموا بتصنيع سيارتنا، والذين قاموا ببرمجة برنامج التدفق المروري المحوسب.
"وتتغلغل الأنظمة الخبيرة في الغالبية الساحقة من جوانب الحياة الاجتماعية في ظروف الحداثة - فيما يتعلق بالطعام الذي نأكله، والأدوية التي نتناولها، والمساكن التي نسكن فيها ...." (1991: 18). وفي الواقع إنها لحالة من الحداثة ألا يتمتع أي منَّا بمعرفة متخصصة عبر المدى الكامل من السياقات التي تنظِّم حياتنا اليومية:"حيث أن جميع الخبراء هم أنفسهم أشخاص عاديون [غير متخصصين] معظم الوقت" (1991: 138). وهذه الحاجة الروتينية للثقة في الخبرة المؤسسية هي طريقة أخرى لفهم اللا تضمين الخاص بالحداثة. لأن جيدنز يجادل أيضاً (1991: 137-8) بأن الأنظمة الخبيرة تعتبر "مزيلة للمهارات" deskilling ، مقارنة مع أنماط ما قبل الحداثة الخاصة بالحياة اليومية المحلية:
في الحياة المحلية بدرجة أكبر بكثير والخاصة بمجتمعات ما قبل الحداثة، قام جميع الأفراد بتطوير العديد من مهارات وأنماط "المعرفة المحلية" ، حسب مفهوم جيرتز، ذات الصلة بحياتهم اليومية .... لكن ومع توسُّع الأنظمة المُجرَّدة، تبدَّلت أنظمة الحياة اليومية وأعيد تجميعها عبر مسارات زمانية-مكانية أكبر بكثير؛ وتعدُّ مثل هذه العمليات اللا تضمينية عمليات تنطوي على الخسارة.
لكن جيدنز، على أية حال، لا يريدنا أن ننظر إلى هذه "الخسارة" بالمعنى المألوف الخاص بالنقد الثقافي "اليساري" للحداثة(9). ويُقرّ بأن إزالة المهارات هي "ظاهرة منفّرة ومُجزِّئة بقدر ما يتعلق هذا بالذات". ولكنه يصرُّ على أن هذا ليس راجعاً في الأساس إلى انتقال للسلطة من مجموعة اجتماعية إلى أخرى، ولكن وبدلاً من ذلك فإنه
صفحة (57)
ينظَر إلى فقدان السيطرة على أنه "غربلة" للمعرفة والمهارات التي كانت في وقت من الأوقات متوزِّعة على نطاق واسع فيما بين الأشخاص غير المهنيين وغير المتخصصين، وذلك لتحويلها إلى "أنظمة مُجرَّدة" لا يتحكُّم أحد فيها بصورة مباشرة".(10)
وسيكون من الواضح أن لا تضمين "الأنظمة المُجرَّدة" هو بالنسبة لجيدنز وسيلة رئيسية يحدث من خلالها التوسيع (العالمي) للعلاقات الاجتماعية عبر الزمان-المكان. وإذا أردنا بناء مبدأ محوري للحقبة العالمية-الحديثة بناء على هذا، فقد يكون من المُغري اختيار مبدأ التجريد ذاته، ونعني بذلك التجريد من خصوصيات السياق. وسيدعم هذا قيام جيدنز بالربط بين آليات اللا تضمين وتشكيل المنظَّمات المبررة rationalized - والذي يعدُّ بالنسبة له التعبير الجوهري عن ديناميكية الحداثة-"والتي بمقدورها ربط البعدين المحلي والعالمي بطرق كانت ستبدو غير معقولة في المجتمعات الأكثر تقليدية" (1990: 20). ويُقدِّم هذا الحداثة العالمية على أنها الهيكلة المتزايدة للوجود الاجتماعي فيما يتعلق بشبكات المنظَّمات المبررة، والتي تقوم حتما بفتح عوالمنا الحياتية المحلية أمام التأثيرات البعيدة – التي ستكون في النهاية عالمية.
ويطرح موضوع التجريد موضوعاً هاماً آخراً من موضوعات جيدنز: أهمية "الثقة" في الحداثة. وتتعلق الثقة هنا بصورة مفهومية بالتماسف الزماني-المكاني واللا تضمين، حيث أنه، وكما يجادل جيدنز،"لن تكون هناك حاجة إلى الثقة في أي إنسان تكون أنشطته مرئية بصورة مستمرة ...أو الثقة في أنظمة التي تمَّت معرفة وفهم طريقة عملها بصورة كاملة" (1990: 33). فالثقة هي "وسط للتفاعل مع الأنظمة المُجرَّدة، والذي يقوم بإفراغ الحياة اليومية من محتواها التقليدي، وإحداث تأثيرات مُعولِمة" 1991: 3)]) - التوكيد من قبل المؤلف]. وما يقصده جيدنز هو أن الأشخاص المعاصرين، وبرغم أنهم قد لا تكون لديهم ثقة في جميع جوانب الأنظمة التي يعيشون ضمن سياقها (كما قد يكونوا في الواقع مُتشكِّكين للغاية في الخبرات العلمية من حيث تطبيقها على بعض المشكلات الإنسانية)، يتوجب عليهم على الرغم من ذلك تبنِّي موقف روتيني تجاه الثقة - "كموقف افتراضي" تقريباً - في حياتهم اليومية. ويعبِّر عن هذا بصورة لطيفة نوعاً ما(1990: 90) من خلال القول بأن العديد من الأشخاص يقومون"بعقد صفقة مع الحداثة" فيما يتعلق بمسألة وثوقهم بالأنظمة المجردة. وتعدُّ هذه "الصفقة" -"التي يحكُمها مزيج محدد من التأجيل والتشكُّك، وراحة البال والخوف"- طريقا للتكيف مع اعتمادنا الإلزامي للأنظمة المجرَّدة. فلا يمكننا سوى العمل بصورة اجتماعية، وأن "نتقبل الأمور على عِلاتها" دون فهم للأنشطة الأكثر روتينية - مثل قيادتنا لسياراتنا، وتسديد قيمة شيك في البنك، وتناول الطعام المجلوب من السوق المركزي، وإرسال خطاب بالبريد- من خلال القيام بتلك "القفزة إلى الإيمان" ، والمُتضمَّنة في الوثوق المستمر والروتيني بالأنظمة المُجرَّدة. وهكذا فإن الأنظمة المجرَّدة تعمل من خلال تقديم "ضمانات" للتوقعات عبر زمان-مكان متماسفين" (1990: 28).
صفحة (58)
حيث أنها تؤكد لنا على أنه - باستثناء الإخفاق الكارثي للأنظمة أنفسها، وهي الخطورة الملازمة للحداثة- سوف يظل الطعام هناك في المتجر، كما لن يختفي المال الموجود في حسابتنا المصرفية، أو يفقد قيمته، أو اتصاله بنا بينما يطفو حول العالم السِّبراني cyber-world المحوسب الخاص بأنظمة المعلومات، كما لن تسقط الطائرة من السماء- أو على الأقل أن هذا لن يحدث بشكل معتاد.
وبهذه المبادئ الخاصة بالتجريد والثقة، يمكننا أن نرى الارتباط الوثيق بين مزاعم جيدنز حول الخصائص المُعولِمة للحداثة وبين سياقه الأوسع للتحليل الاجتماعي. ومن الصعب القيام بفصل هذه التضمينات المُعولِمة المُحدَّدة دون فقدان بعض التعقيد النظري الذي تتَّسم به كتابات جيدنز. لكنه سيكون من المفيد، على أية حال، أن نركّز على ما يمكننا النظُر إليه على أنه المغزى الأساسي للا تضمين، وذلك لفهم المرتبطية المعقَّدة. وهذه هي الفكرة الخاصة بتحوُّل transformation النواحي المحلية.
اللا تضمين الثقافي: عولمة التجربة المحلية
كما ذكرت في الفصل الأول، لا يمكن فهم المرتبطية المعقَّدة ببساطة على أنها زيادة في قابلية الحركة (التحرّكية: mobility) أو حتى في "القدرة الظاهرية على الحركة" quasi-mobility الخاصة بالشبكات الإلكترونية (تحرّكية الفضاء السبّراني ). وبغض النظر عن مدى قوة هذه التطوُّرات، إلا أنها مازالت غير متعلقة سوى ببُعد ضئيل نسبياً من التجربة الثقافية: حيث أن "الحياة المحلية" ، مقارنة مع "الحياة العالمية" المنتشرة عبر خطوط من المطارات أو أجهزة الكمبيوتر الطرفية computer terminals ، تشغل مُعظم الزمان-المكان. ويبدو بصورة واضحة أن تضمينات مقاربة جيدنز تتسم بالجاذبية بالنسبة لهذا المنظور.
وإنه لمن المثير للاهتمام أن نلاحظ ، أولاً، أن مناقشة جيدنز تقودنا بعيداً عن المعنى الأكثر وضوحاً للا تضمين باعتباره إزالة للأشخاص بالمعنى الحرفي من النواحي المحلية التي يقطنون بها. وهذا هو المعنى الذي نحصل عليه، على سبيل المثال، من استخدام فاجنر لهذا المصطلح (1994:56) للإشارة ضمنياً إلى العمليات التي يتم خلالها طرد الناس من السياقات الاجتماعية التي تمنحهم الهوية .... كما يحدث خلال الهجرات القسرية بعد الحروب ...." وبالطبع فإن الحداثة تقوم "بتهجير" displace الأشخاص بهذه الطريقة مُحدثة، كما في وصف مارشال بيرمان Berman المفعم بالحيوية، اختلالات ديموغرافية هائلة، تفصل ملايين الأشخاص عن مواطن أسلافهم، وتقذف بهم إلى حياة جديدة في النصف الآخر من العالم" (1983: 16). لكن جيدنز، وبرغم تسليمه بنظام التشريد هذا، عندما يقول بأن الحداثة "تقوم بالتهجير" (1990:140)، فإنه يشير بذلك إلى العملية التي يصبح بها المكان "تخيلاتيا"، تنفذ إليه صور الحضور الطيفي ghostly presences الخاصة بالتأثيرات البعيدة. وبرغم التحركات السكانية الهائلة في العالم المعاصر، إلا أننا جميعاً،
صفحة (59)
وكما يقول جيدنز (1991:187)، لا زلنا نعيش حياة محلية - بمعنى أن "المقيِّدات المتعلقة بالجسد تضمن أن جميع الأفراد، وفي جميع الأوقات، يوجدون ضمن سياق من الزمان والمكان".
ويبدو بالنسبة لي أن هذه خاصية مُميَّزة لمفهوم جيدنز حول العولمة، حيث تتعرض هذه "الناحية المحلية" ، في العصر الحديث، لتحول جوهري انطلاقا من النواحي المحلية المحتواة ذاتيا في عصور ما قبل الحداثة، حيث تُصبح التجربة السائدة للحياة اليومية في العالم الحديث-العالمي متعلَّقة بتعرُّض عوالمنا الحياتية التي تقع في سياق محليّ للاختراق من قِبَل أحداث، وعلاقات، وعمليات بعيدة.
لكن من الإنصاف، على أية حال، القول بأن صياغات جيدنز تبقى في المقام الأول ضمن مجال التحليل الثقافي وليس الاجتماعي. وكما أوضحت في الفصل الأول، فإن إشارته إلى "البعد الثقافي" للعولمة هي في الواقع مجرد إشارة للتقنيات الثقافية. ويعدّ هذا الإهمال والتجاهل الواضح - أو على الأقل عدم التأكيد بشكل كاف- على أهمية الثقافة هو أحد الأشياء التي تمَّ انتقاد جيدنز بسببها على نطاق واسع (Featherstone 1995: 145; Robertson 1992: 145; Thrift 1996: 55). وهذا أمر غريب، لأن جيدنز، وكما يقرّ نايجل ثريفت Thrift ،"يشير مع ذلك وباستمرار إلى الموارد ، والنصوص، والذوات الرمزية، وما شابهها، والتي تُمثِّل المادة الرئيسية للثقافة". وبرغم هذا فإن ثريفت يزعُم بأن جيدنز "لا يمتلك سوى حس ضئيل بالثقافة" وأن ما لديه من حسّ "يفتقر إلى الحيوية على نحو غريب" (1996:55). ويبدو أن ما يحاول ثريفت إثباته هو تردده وعدم رغبته في متابعة تحليلاته للسياقات الاجتماعية- المؤسسية الخاصة بالتجربة الثقافية إلى عمق بعيد للغاية من الفهم القائم على التأويل أو التحليل النفسي لتلك التجربة، وهي الفكرة التي أكَّد عليها أيضاً إيان كريب (Craib 1992: 178ff).
ومهما كان ذلك صحيحاً، فمن الواضح أنه يمكن استخدام مفهوم مثل "اللا تضمين" في المجال الثقافي بطرق لم يقم جيدنز باستغلالها بصورة كاملة. فعلى سبيل المثال، وكما يوضِّح جراهام مِردوك (Murdock 1993:529)، فإن وسائل الاعلام وأنظمة الاتصالات تبدو أمثلة واضحة على آليات اللا تضمين، وعلى الرغم من ذلك فإن جيدنز لم يقم بمناقشتها في هذا السياق على الإطلاق. وفي الحقيقة، فإنه من الصعب إلى حد ما وضع شيء مثل التلفاز في المكان الملائم ضمن تحليله الشكلي - فهل سيتمَّ النظر إليه كعلامة رمزية بسبب "الرواج" currency القابل للتعميم لتمثيلاته الشكلية، أم كنظام خبير بسبب التكنولوجيا الخاصة به وتنظيمه المؤسسي؟ في الحقيقة لا يبدو أن أيا منهما قد أدرك جوهر التلفاز كنمط ثقافي مُعولِم. ومع ذلك فإن الفكرة الأكثر عمومية التي تقول بأن التلفاز يقوم باقتلاع التجربة من السياقات المحلية هي فكرة واضحة ومقنعة إلى حد ما.
ليس الأمر أن جيدنز فشل في الإقرار بأهمية التجربة المتواسطة من حيث علاقتها بالعولمة: حيث أنه في الحقيقة وصل عند نقطة معينة إلى حد الزعم (ربما بصورة تتَّسِم بالتهور) بأن مصدر العولمة المعاصرة هو "أول بث إذاعي ناجح تم القيام به عبر
صفحة (60)
الأقمار الصناعية" (1994a: 80). وبالإضافة إلى ذلك، وكما سنرى في الفصل الخامس، فإنه يُقدِّم بعض التحليل القاطع والواضح لطبيعة التجربة المتواسطة في العصر الحديث. ولكن، وعلى الرغم من كل هذا، فإن تحليله ككل يبقى تصويريا programmatic إلى حد ما (Silverstone 1994: 7) ولا يتعهد "بالوصف الواضح" تلك الطرق المُعقَّدة التي تصل بها مثل هذه التجربة المتواسطة إلى الحياة المحلية اليومية وتقوم بتحويلها.
ولكن بالنظر إلى مدى مشروع جيدنز التحليلي، على أية حال، يمكن بالكاد الحُكم على هذا بأنه نقد لاذع. فما يُقدِّمه في تحليله للبِنَى العميقة المتعلقة بالحداثة المُعولِمة ليس تحليلاً ثقافياً مباشرا (11) ، بل هو إطار مفاهيمي يتَّسِم بالتأكيد بأنه "مشجّع للثقافة" culture-friendly وأنه يمكن البناء عليه وتعديله ليتماشى مع تفسير التجربة الثقافية.
الشك في الحداثة العالمية
قد يكون جيدنز على الأرجح أحد أقوى المدافعين عن تلك الرؤية للعولمة باعتبارها امتدادا عالميا للحداثة، وهو ما يفسر الاهتمام الذي أوليته إياه. وتُظهِر كتاباته أنه، برغم أي تردد قد يكون لدى المرء تجاه تقسيم التاريخ إلى فترات (التفتير: periodization)، فالملامح المُميَّزة للأشكال الاجتماعية والثقافية للحداثة - أي دينامية التماسف واللا تضمين الزماني-المكاني- تُقدِّم تفسيرات مقنعة للظواهر المعاصرة المتعلقة بالمرتبطية المُعقَّدة. ولكن تبقى برغم ذلك مصادر عميقة للشك في مقولة الحداثة العالمية، وأودّ تناول بعضها في هذا الجزء الأخير من الفصل، بداية من تلك التي تبرز كنقد مباشر للصورة التي عبَّر عنها جيدنز.
قد تمَّ بالفِعل ذِكر بعض المشاكل ومواطن الضعف في تصوُّر جيدنز الكليّ للحداثة: مثل ميله إلى عرض الانتقال من فترة ما قبل الحداثة إلى الحداثة على أنه تمزُّق حاد للغاية؛ ومعالجته السطحية و"الضعيفة" - برغم الإقرار بمركزيتها- للثقافة. ويمكن أن نُضيف إلى هذا نقد مقاربته التصويرية إلى حد ما والثغرات النظرية التي يُخلِّفها هذا في تقريره: والأكثر أهمية هو إخفاقه في تفصيل الروابط المحددة بين تحليله الفوقي (meta-analysis) للتماسف الزماني-المكاني ("الظروف المُيسرة" للحداثة (1990:63)) وتحليله التقليدي إلى حد ما للمؤسسات الاجتماعية المتعلقة بالحداثة (Robertson 1992: 144). وعلى أية حال، فبوسعنا التمييز بين هذه الانتقادات المحدَّدة لمقاربة جيدنز وبين المشاكل الأكثر عمومية فيما يتعلق بالحداثة، والتي يمكننا القول بطرق معينة أنه قام بتجسيد خصائصها الأساسية .
والمغزى الواسع لهذا النقد هو أن مقولة الحداثة
صفحة (61)
هي بشكل أو بآخر مثيرة للشكوك أيديولوجياً/سياسياً بسبب: (أ) جهلها بعلاقات الهيمنة العالمية، و"التقلب" unevenness المتأصل الذي تتَّسم به عملية العولمة؛ (ب) تحيُّزها المُتمركِز حول الغرب، أو (ج) توجهاتها المُكونِنة universalizing. وكل هذه الانتقادات مرتبطة ببعضها البعض بصورة وثيقة، وتحتوي جميعها على عناصر مهمة من الحقيقة. وعلى أية حال، وكما يبدو لي، فإن أيا منها لا يثير من المشاكل ما لا يمكن الرد عليه من داخل "العالم الفكري" العام الخاص بالحداثة- ولذلك فإن أيا منها لا يُعدّ كارثياً بالنسبة لفهم المرتبطية المُعقَّدة على أنها حداثة عالمية.
الديالكتيك غير المتوازن للحداثة
يمكن توضيح المجموعة الأولى من القضايا من حيث علاقتها المباشرة بتصوُّر جيدنز. ولا يمكننا سوى بالكاد أن نتَّهِم جيدنز بتجاهل علاقات القوة في كتاباته ككل. ومع ذلك، وبرغم الإشارات العديدة إلى التقلب الذي تتَّسِم به عملية العولمة (1990: 175; 1994a: 81)، يظلّ هناك شك في أن جيدنز كانت لديه نظرة غير متطوِّرة نسبياً لذلك باعتباره يُمثِّل مشكلة. وهذه ليست مسألة متعلقة بالاتهام الفجّ نسبيا، والذي كان من المعتاد توجيهه في بعض الانتقادات الماركسية، أي أن التحدث عن الحداثة يعني حتماً حجب الحقيقة الأكثر أهمية حول العلاقات بين الطبقات (أو ما يقابل هذه الحجة من حيث علاقات العالم الأول بالعالم الثالث). وبدلاً من ذلك، فإن التساؤل هو كيف يتمّ بشكل عام صياغة ديناميات القوة "العالمية" مقارنة بالقوة "المحلية" من حيث علاقتها بالحداثة العالمية. ويُصرُّ جيدنز على أنه يجب النظر إلى هذا على أنه عملية ديالكتيكية والتي يتضمن فيها "الانتشار العالمي للحداثة علاقة مستمرة بين التغيريّة المزمنة للظروف المحلية والارتباطات المحلية" (1991:21-22). ولذلك فإنه دائماً ما يكون هناك "شد وجذب" بين "القوى اللا تضمينية" الخاصة بالعولمة وبين "قوى إعادة التضمين" re- embedding الموازِنة الآتية من النواحي المحلية.
وهناك مبدأين في موقف جيدنز هنا. حيث يقول أولاً، كما تمَّ ذكره سابقاً، وعلى العكس مما ينادي به"مُنظِّري الإغتراب" الماركسيين الجدد أو نقاد"المجتمع الضخم"، بأن الحداثة لا تؤدي بصورة حتمية إلى زيادة العجز الحقيقي أو المُتصوَّر. حيث يقول في الحقيقة بأنه، وبرغم ظواهر مثل"إزالة المهارات" deskilling، توجد لدينا سلطة وسيطرة كلية أكبر بكثير على حيواتنا بشكل عام من تلك الخاصة بالأشخاص الذين كانوا يعيشون في مجتمعات ما قبل الحداثة (1991:192). وثانياً، تتوجه صياغته الديالكتيكية لعلاقات القوة إلى أصل فهمه لإنعكاسية العلاقة بين"التركيب-الوكالة"، وهو ما يسميه بصورة أكثر عمومية "ديالكتيك (الجدل الخاص بـ) السيطرة في الأنظمة الاجتماعية" (1984:16). وهكذا فإنه يؤكد بشكل مستمر على اعادة التأكيد على الوكالة المحلية بالنظر إلى
صفحة (62)
الطبيعة المُجرِّدة للحداثة العالمية. فأينما توجد إزالة للمهارات deskilling نجد عملية من إعادة إكساب المهارات reskilling، وأينما يكون هناك لا تضمين disembedding نجد أيضاً عملية من إعادة التضمين re-embedding. ويعرض جيدنز مثالاً على ذلك من البيئة المُشيَّدة:
غالباً ما تسمح العمليات ذاتها التي أدت إلى تدمير أحياء المدينة القديمة واستبدالها بالمباني المكتبية وناطحات السحاب الشاهقة بترقية المناطق الأخرى وإعادة تجديد وتنشيط الناحية المحلية. وبرغم أنه كثيراً ما يتم عرض تجمعات المباني الشاهقة والجامدة الموجودة في مركز المدينة على أنه نموذج مُجسِّد للمشهد الحضاري، إلا أن ذلك أمر خاطئ. حيث أن الخلق الجديد للأماكن التي تتَّسم بعدم الرسمية والصغر النسبي مُميِّزة للحضارة بنفس الدرجة من الأهمية. (1990:142)
ويبدو لي أن جوهر مشكلة القوة في تصور جيدنز يكمُن في التوفيق بين هذا المبدأ الديالكتيكي وما يمكن النظر إليه على أنه ميزان القوى غير المتكافئ المتضمن في ذلك.
فمن ناحية، وبالنظر إليه من الناحية الثقافية، فإن جيدنز مُحقّ بالتأكيد في معارضة النظر إلى الحداثة على أنها مجرد قوة من التعميم massification وإضفاء الصِبغة اللاشخصية. لأن الفكرة ذاتها التي تقول بأن الممارسات الثقافية تتضمن القدرة على التخصيص النشط للمعنى والهوية ضمن سياق ظروف تتَّسم بأنها، في إعادة صياغة لما ذكره ماركس Marx ،"ليست من اختيارنا". وبهذا فإن جيدنز يقف في صف الديالكتيك الثقافي الخاص بالحداثة الذي طرحه مارشال بيرمان، والذي تمثِّل عملية إعادة التضمين فيه محاولة دائمة من قِبَل البشر "للشعور بالألفة والراحة في ظل العالم الحديث" (Berman 1983). كما أن هذا أيضاً لا يُعَدّ إشارة على مرونة resilience الروح البشرية، لكنه بصورة أكثر أساسة بكثير، إقرار بأن القوة البشرية المنعكسة متأصلة فيما توجد عليه الحالة الثقافية المعاصرة في الواقع. ولأن الناس في العالم الحديث يقومون بالتشديد بصورة مستمرة على مزاعمهم المتضمنة في سيرة حياتهم الشخصية - واضعين نُصب أعينهِم "السيطرة على" المستقبل- ينشأ توتر فعال ومستمر بين الظروف التي يجد الناس أنفسهم فيها، وتلك التي يرغبون فيها ويرون فيها فرصا مستقبلية.
ولكن ، ومن الناحية الأخرى، يمكن المجادلة بأنه يوجد قدر كبير من التباين في ميزان القوى الديالكتيكية عما تمكن جيدنز من التلميح إليه. ففي حين أنه يجد مصادر لتلك النزعة المحلية لإعادة التوكيد والجزم - كما في مثاله الخاص "بترقية" المناطق الداخلية من المدن (الذي ربما كان غير ملائم إلى حد ما من حيث مدلولاته الطبقية)- يجد آخرون مُصادرة expropriation أكثر شمولا من قِبَل القوى المُعولِمة. وقد قدَّم كل من لاش وأوري على سبيل المثال (Lash and Urry 1994: 18) المثال الخاص"بإفراغ محتويات الغيتو الخاص بالسود" في المدن الكبرى بالولايات المتحدة: تتم إزالة المؤسسات من ذلك الغَيْتو، وتقوم العديد من مؤسسات الإدارة الاقتصادية بالارتحال بعيداً. وتختفي الأسواق بجميع أنواعها، بما في ذلك أسواق العمالة، ومتاجر البقالة الصغيرة، ومطاعم البيتزا، ومحال الأدوات الرياضية،
صفحة (63)
وفرع البنك. وكذلك يفعل التسلسل الهرمي للمجتمع، مع قيام المصانع الكبرى بالانتقال إلى أماكن أخرى بعيدا عن الضواحي. وتتدهور الإدارة الحكومية ويختفي وجودها المادي من العيادات الخاصة بمعالجة إدمان المخدرات، والمكتبات، والمدارس المموَّلة، والباحثين الاجتماعيين الذين يقومون بتوزيع الفوائد الإضافية.
ويمكن القول هنا بأن كل من جيدنز ولاش وأوري ينظرون ببساطة في اتجاهات مختلفة. فقد تَحدُث كلا العمليتين معاً ، ومن ثم تكون كل من الصورة القاتمة للرأسمالية غير المنظَّمة التي تُفرِغ الأحياء الداخلية من المدينة، أو تلك الأكثر تفاؤلاً المُتعلِّقة بالتجديد العمراني مجرد أمثلة منفصلة استُحضرت بالنفاذ إلى العملية الكلية من نقاط مختلفة في الزمان - المكان. ولكن حتى في تلك الحالة، فسيكون من الصعب تفادي الحصول على الانطباع بأن جيدنز يرسُم صورة وردية أكثر من اللازم. فالحداثة العالمية قد تكون ديالكتيكية في جوهرها، لكنها تقوم بتوزيع كل من حسناتها و"سيئاتها" عبر بعض الطرق المألوفة إلى حد ما، والمتعلقة بالتقسيم الاجتماعي المُترسِّخ (Massey 1994) ولا يمكن ببساطة استحضار الموارد اللازمة للمقاومة على المستوى المحليّ في مواجهة هذه القوى من خلال أحكام الاعتقاد النظري .
ويعدّ التسليم بالطبيعة غير المتكافئة للعولمة أمراً أساسياً لأي نوع من المقاربات النقدية. ولكن هل يؤدي هذا الإقرار إلى تقويض نظرية الحداثة العالمية بصورة شديدة؟ على ما أرى ليس لحد الآن. ويتوجب علينا بالتأكيد فهم ديناميات التماسف الزماني-المكاني ضمن سياق علاقات القوة المعقَّدة والتي يتم تعزيزها أحياناً ، وأحياناً ما يعاد صياغتها خلال عملية العولمة (Robins 1997; Tomlinson 1997a)- وهذا في الحقيقة هو جزء مما نعنيه "بالمرتبطية المُعقَّدة". ولكن لا يوجد في هذا الإقرار ما يُقوِّض الحُجَّة المحورية القائلة بأن المرتبطية المعقَّدة هي نتيجة للحداثة. وعلى الأرجح أن الإصرار على الشك في هذه مقولة الحداثة يقع عندما يلقي هذا النوع من النقد بظلاله على النوع الذي يليه.
التَحيُّز الغربي، والثنويات النظرية، والحداثات المتعددة
إن الاتهام الأكثر تواتراً للحداثة هو أنها تنطبق على التجربة الثقافية والاجتماعية الغربية، وبالتالي فإنها تزعم بأن لها أهمية عالمية فقط من خلال تأكيدها الذي يتَّسم بالوقاحة على هذه القصة بعينها كمرحلة عامة في التاريخ الإنساني. يتسم هذا الانتقاد بالتعقيد إلى حد ما، ويشتمل على الزعم القائل بأن الجذور التاريخية للحداثة تكمن في الغرب، وأن هذا المنشأ يُفسِّر ارتقاء الغرب إلى مراتب الهيمنة السياسية-الاقتصادية، وأن تلك الهيمنة قد قامت بدورها بترسيخ مكانة منطقية، والتي زعم من خلالها الغرب بأن تطوُّره الثقافي الخاص ونمط معيشته الحالي صالحَين عالمياً. وإحدى الطرق المفضَّلة للتعبير عن ذلك هي أن
صفحة (64)
نظرية العولمة ترقى إلى كونها "نظرية للتغريب تحت مسمى آخر"(Nederveen Pieterse 1995: 47) . وسوف أقوم بمناقشة تلك "النزعة إلى إضفاء الصبغة الغربية" westernization كضرب من الإمبريالية الثقافية بشيء من التفصيل في الفصل التالي. لكنني أود الآن القيام بإثارة نقطتين واسعتين تربطان مفهوم "الغرب" بمقولة الحداثة.
تتمثَّل الأولى في فكرة أنه يتم تفضيل التجربة الغربية استطراديا من خلال إنشاء ثنوية بسيطة بين الحداثة و"التقليد"tradition . حيث يُقال أن الحداثة قد حلَّت تاريخياً محل التقليد، وأنها حدثت أولاً في أوروبا وعند نقاط هامة من التوسع الاستعماري الأوروبي، والتي تتجلى في أوضح صورها في الولايات المتحدة. وهكذا فإن هذه الثنوية dualism بين الحداثة والتقليد تُصبِح القصة الكونية المفردة للتطور الإنساني، والتي بواسطتها تم وضع الغرب في طليعة التاريخ. وهذه الثنوية لا تقوم فقط بمحو التواريخ غير الغربية المختلفة، ولكن أيضاً يمكن تغييرها بصورة مخاتلة من وصف تاريخي إلى وصف متعلق بالفوارق الثقافية: النظر إلى الحداثة على أنها ملكية ثقافية للغرب، وإلى التقليد على أنه ذلك العجز في الرصيد الثقافي المُميِّز "لبقية" العالم. ويتمثَّل الشاهد الكلاسيكي لهذا النوع من المسرحيات الأيديولوجية في "نظرية التحديث" modernization theory التي تمّ تطويرها في دراسة سوسيولوجية التطوُّر الشمال أمريكية خلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، والتي عرضت "مشكلة" المجتمعات الأقل تطورا على أنها مشكلة داخلية المنشأ: سواء كنقص فطريّ (McClelland 1961) أو كعقبات تكتنف "مراحل النمو" نحو "حِقبة الاستهلاك الجماعي المرتفع" (Rostow 1960). وبرغم أنه قد تمّ انتقاده إلى حد بعيد (Frank 1969; Webster 1984)، إلا أنه ثمة شك في أن المضمون الأيديولوجي لنظرية التحديث آخذ في الظهور من جديد في نظرية العولمة (Nederveen Pieterse 1995).
وهناك طريقة أخرى لصياغة هذا تتمثَّل في المقارنة بين ثنائية التقليد-الحداثة مع الثنوية الخاصة بكل من "الشرقي-الغربي" في نقد إدوارد سعيد الشهير للاستشراق (Said 1985)، حيث أن نفس الشك الذي يُثار حول مقولة "الشرقي" - أي الزوج السلبيّ، و"الآخر السيء" بالنسبة للغرب- تتم إثارته أيضاً حول "التقليد". حيث تجمع مقولة "المجتمعات التقليدية" بين مجموعة كاملة من الاختلافات الثقافية التي تكونت على مرّ التاريخ في ثنائية بسيطة، والتي تقوم في الوقت ذاتها بالمجانسة فيما بينها، وتشويه صورتها، وإسكاتها بوضعها في مقابلة المقولة الرئيسية والمفردة، التي تتمتع بنفس الدرجة من التجانس، والمتعلقة بالحداثة (الغربية).
تقوم هذه الانتقادات على أساس سليم. وهذه القابلية التي تتميز بها الفكرة البسيطة الخاصة "بالمجتمع التقليدي" للتلاعب الاستطرادي تجعل من هذا أفضل مصطلح يمكن تجنُّبه، كما أنها تجعل من المفضَّل أيضاً استخدام المقولة المحايدة الخاصة "بما قبل الحداثة" - وهو ما حاولت أن أوضِّحُه هنا- للإشارة إلى تلك المجموعة المتنوعة من الأنماط الثقافية والاجتماعية التي كانت موجودة قبل قدوم الحقبة الحديثة. ولكن خلف هذا الانتقاد لثنوية الحداثة-التقليد، ثمة شعور نظري أكثر عمومية من الارتياب في التفكير الثنوي dualistic thinking. صفحة (65)
وقد قامت باربرا آدم، على سبيل المثال، بالتعبير عن هذا قائلة:"لا يمكننا التعامل مع التعقيد، والتضمُّن implication ، والتزامن، والمؤقتية من خلال الثنويات. فالثنويات ثابتة وخطية؛ حيث أنها تترسخ وتتعمّم متحولة إلى نمط، وعمليات، وعلاقات غير مقيدة بزمان atemporal أو بسياق محدد decontextualized ، وتتَّسم بأنها مميزة، ومُجسَّدة وتضمينية" (Adam 1996: 141). وتجادل آدم تحديداً بأن "النظريات الواقعة ضمن الشفرة المزدوجة" "تُعتبر غير مناسبة جوهريا لفهم ثمة واقع مُعولَم تكون فيه جميع الأشياء مرتبطة ببعضها البعض .... عالم واقع في شرك شبكات المعلومات، والمواصلات، ورؤوس الأموال التمويلية، والتكنولوجيا الصناعية" - أي أنها باختصار غير مناسبة لفهم المرتبطية المُعقَّدة. ولن تجد سوى القليل ممن يعارضون هذا كملاحظة نظرية عامة، ومع ذلك فإنه يتوجَّب علينا أن نتعمق أكثر من أجل فهم كيف يهاجم ويُقوِّض هذا النقد مقولة الحداثة.
في الواقع، يهاجم هذا النقد مقولة الحداثة فقط في الأجزاء التي تمّ بناؤها على ثمة مقابلة opposition ثنائية مع "آخر" مفرد مُحدِّد. ومن الواضح أن هذا هو الحال مع "التقليد-الحداثة"، ولكن هل تنطبق على ذلك النوع من التحول الحقبي الذي وصفناه في هذا الفصل؟ حسناً، ليس بالضرورة. لأن المباديء المحورية الخاصة بالتماسف الزماني-المكاني وما إليها، وحتى مع التسليم بمصدرها الغربي، لا تشتمل بالضرورة على تضمينات خاصة بالثنائية binarism. ومن الممكن تماماً النظر إلى التحول التاريخي المركزي دون محو قبل التواريخ pre-histories المختلفة، و"الطرق المختلفة إلى وعبر الحداثة"(Therborn 1995a, b; Garcia Canclini 1995) التي تسلكها الثقافات المختلفة، بالإضافة إلى، وبناء على ذلك، أشكال الحداثة المختلفة والمتعدِّدة التي توجد حالياً.
ويتضمن هذا أن تكون هناك دائماً، إذا استعرنا تعبير مايك فيذرستون ،"حداثات عالمية". ويقول فيذرستون بذلك في نقد مُفْحِم لنظريات الحداثة المتمركزة حول الغرب (Featherstone 1995: 145ff)، مؤكداً على الحاجة إلى فهم الحداثة على أنها مقولة مكانية بقدر كونها مقولة زمانية. وينتقد جيدنز (وهابرماس) لإخفاقهما في التسليم بذلك، وبالتعددية pluralism الضرورية التي يقتضيها، مشيراً ليس فقط إلى المشاكل الأيديولوجية التي تمت مناقشتها أعلاه، ولكن إلى الأشكال المميَّزة من الحداثة غير الغربية والتي توجد في بلدان مثل اليابان. ومرة أخرى، يعتبر هذا نقداً مبرراً للتحيُّز الغربي الذي تتَّسم به غالبية صور الحداثة. ولكن هل يهدد هذا مقولة الحداثة العالمية ذاتها؟ هل تؤدي تلك الصور العديدة من الحداثة إلى تقويض فكرة حدوث تحول حِقبي مركزي؟ لا أعتقد ذلك، لأن الحفاظ على جذر "الحديث" في صيغة الجمع -أي الحداثات- يتضمن بالتأكيد أن التواريخ المحددة جميعها، على الرغم من ذلك ، تشير إلى ثمة سياق مشترك. وإذا لم يكن هذا صحيحاً فلماذا نحتفظ بمصطلح "الحديث" أصلا؟ لم لا نتبنى اقتراح ميوشي وهاروتونيان الأكثر تطرفا، والقائل بأنه "يتوجب النظر إلى صفة "حديث" على أنها مصطلح إقليمي خاص بالغرب فقط"؟ (Miyoshi and Harootunian 1989, quoted in Featherstone 1995: 147)
صفحة (66)
والإجابة في اعتقادي هي ببساطة أن وزن الأدلة السوسيولوجية sociological والتاريخية ينافي هذا النوع من الحماسة القالبة للطاولة table-turning. والتغير البنيوي الرئيسي العميق الذي يصفه جيدنز على أنه حدث أولاً في أوروبا قد تمَّ استشعاره بوضوح في جميع المجتمعات الأخرى اليوم. إن التسليم بالتواريخ، والسياقات، والاستجابات المختلفة لهذا التحول يختلف تماما عن إنكار حدوثها المشترك. وبالتالي، فإن المصطلح (المُفضَّل) المتمثِّل في"الحداثات العالمية" يحتفظ على نحو صحيح بأحد عناصر المقولة "الشاملة" الخاصة "بكل ماهو حديث".
الحداثة العالمية والارتياب في النزعة الكونية
يُحضرني هذا إلى الجانب الأخير من جوانب الشك في الحداثة، وهو ارتباطها العام بالخطاب المُكونِن universalizing discourse. فقد تم النظر إلى المقولات الكونية على نطاق واسع بعين الشكك -وخاصة في أعقاب النزعة إلى ما بعد الحداثة - وذلك نظراً لانحيازها المُفترَض نحو ذلك من النوع من "القصص الكبيرة" التاريخية الذي رأينا مارتن ألبراو يعترض عليه. وهذه مناظرة معقَّدة، وأنتوي أن أُبسِّطها بعض الشيء من خلال التركيز على تدخل حاسم واحد بعينه.
يُعدّ الفيلسوف السياسي جون غراي Gray أحد الذين ينتقدون العولمة بصورة شديدة، وذلك إلى حد كبير بسبب الطريقة التي يربط بها بينها وبين الخصائص المُكونِنة للحداثة. وينظر غراي إلى العولمة من منظور ضيق بشكل خاص، حيث يُعرِّفها بصورة شبه حصرية على أنها ظاهرة اقتصادية: " هي شكل مُنحرِف ورجعي من الحداثة - وهو على وجه التقريب ذلك الخاص بالنزعة الفردية الاقتصادية التي سادت في إنجلترا خلال القرن التاسع عشر ونظيرتها الأمريكية خلال القرن العشرين- والذي انتشر في جميع أرجاء العالم" (Gray 1997:163). ولكن الأمر الغريب حيال هذا الموقف هو أن غراي لا يُعبِّر عن نقد يساري معياري للرأسمالية العالمية، حيث أنه في الحقيقة ينحدر من تقليد محافظ في الفكر السياسي، برغم كونه يعارض التحول الليبرالي الجديد neo-liberal في السياسة المحافظة. وبالتالي فإن الدافع وراء انتقاد غراي للعولمة ليس مجرد معارضة بسيطة للانتشار العالمي للرأسمالية، لكنه نقد واسع النطاق للقوة المُكونِنة الخاصة بحداثة عصر التنوير. ويجمع هذا النقد بين رأسمالية السوق الحرة العالمية والليبرالية الجديدة مع مدى كامل من المبادئ التنويرية: الحركة الإنسانية ، والاعتقاد في التقدم اللا محدود، وغزو العالم الطبيعي والسيطرة عليه، وفي الواقع،"المشروع اليساري للتحرّر الكونيّ ضمن حضارة كوزموبوليتانية" (Gray 1997: 160). وهكذا، فإن إحدى النتائج اللافتة النظر لهذا النقد الواسع هي أن غراي تمكن من انتقاد كل من الرأسمالية الليبرالية الجديدة والتقليد الماركسيّ - أي التقليد الرئيسي المقابل للرأسمالية- في الوقت ذاته. ويعتقد غراي أن "التفكير السياسي المعاصر بجميع أشكاله هو أحد صور
صفحة (67)
المشروع التنويري"، وأن جميع المشروعات المشابهة "باتت الآن طرقاً مسدودة" (ص. 161).
وهكذا، فبالنسبة لغراي، فإن التعبير الضيق عن العولمة على أنها انتشار المبادئ الاقتصادية الليبرالية الجديدة يُعدّ في الحقيقة جزءاً من نقد ضمني أكثر اتساعاً للحداثة العالمية، والذي ينصبّ على مبادئها التنويرية المُكونِنة. ويصف النزعة الكونية universalism على أنها " أحد الجوانب الأقل نفعاً، والأكثر خطورة في الحقيقة، للتقليد الفكري الغربي .... ذلك الإيمان الميتافيزيقي بأن القيم الغربية المحلية تُعد جديرة بالاعتماد والقبول من قِبَل جميع الثقافات والشعوب". ويجادل بأن هذا المبدأ الثقافي "القاعديّ" foundational الخاص بالنزعة الكونية موجود في المشروع السُقراطي الخاص بالحياة المفحوصة، وفي الالتزام المسيحي بخلاص الجنس البشري ككل، وفي مشروع عصر التنوير الخاص بالتقدم نحو حضارة إنسانية كونية" (ص.158).
يمتلك غراي سببين للاعتراض على النزعة الكونية. السبب الأول- والذي يكمن في تعريفه لها- هو أنه يرى النزعة الكونية على أنها الإسقاط غير المبرر للقيم الغربية على جميع الثاقفات العالمية الأخرى. والنزعة الكونية التي يعترض عليها هنا هي في الحقيقة حالة من الخاص الذي يتنكَّر masquerading في صورة الكوني. وتعدّ هذه استراتيجية نقدية مألوفة لكنها قوية. حيث نراها ليس فقط في الانتقادات المُوجَّهة للإمبريالية الثقافية وعملية التغريب، ولكن على سبيل المثال في نقد الأيديولوجية الماركسية، حيث يفضح التعتيم المُتضمَّن في المصالح الخاصة بالطبقة البرجوازية التي تزعم أنها مصالح كونية. ويوضِّح غراي في الصورة الخاصة به، على سبيل المثال، أن السوق الرأسمالية الحرة ، مقارنة بالفكرة العامة الواسعة الانتشار حول التبادل السوقي، هي نتاج التاريخ الحديث للغرب وبالتالي فإن انتشارها العالمي هو حالة من تظاهر الخاص بأنه كوني. وهذا يذِّكرنا بأن نظام السوق الحرة ليس مصيراً حتمياً لجميع الاقتصادات، ولكنه تطور تاريخي محتمل الوقوع contingent. حيث أن الأمور -وعلى العكس من التوجُّه الهيجيلي الجديد neo-Hegelianism الذي تميَّز به فرانسيس فوكوياما- قد تكون خلاف ذلك.
يعد هذا الاعتراض على النزعة الكونية -كتنكُّر- صالحا تماماً، لكنه لا يثير أية مشاكل حقيقية لنظرية الحداثة العالمية ، والتي لا يمكن معالجتها من قبل الصياغات التعددية التي تمت مناقشتها في الجزء السابق. ولكن غراي، على أية حال، يمتلك سببا آخر أكثر عمقا يدفعه للاعتراض على النزعة الكونية. حيث أنه ينظر إلى "الفكرة المعاصرة المتعلقة بوجود حضارة كونية" على أنها في حالة توتر متأصل مع مساندة sustenance الحياة الثقافية الإنسانية. وهذه هي الكيفية التي عبَّر بها عن ذلك:
يبدو أن الميل لإنشاء ثقافات وطرق حياة مختلفة لنفسه أمر كوني وبدائي بالنسبة للحيوان البشري. لكن الفكرة القائلة بوجود حضارة بشرية كونية، كما نجدها في كتابات كوندورسيه Condorcet، وجون ستيوارت ميل، وماركس، ورورتي، مجبرة على التعامل مع الاختلاف الثقافي
صفحة (68)
على أنه مرحلة انتقالية، أو ظاهرة عارضة epiphenomenal في تاريخ الجنس البشري. (Gray, 1997: 177)
وهكذا فإنه يتم استهجان النزعة الكونية كمشروع ثقافي-سياسي واسع النطاق بسبب معارضته المفترضة "للثقافة" نفسها، والتي تُفهم هنا على أنها تتمحور حول الاختلاف. وهكذا فإن الثقافة "كطريقة للحياة" يتم فهمها - بشكل أساسي في صيغة الجمع- على أنها محلية، ومحدَّدة، ومُقيَّدة بالمكان ومُعبِّرة عنه، إلخ. وتعدّ النزعة العالمية سيئة بالقدر الذي تهدّد به بتقويض هذه التعددية "الطبيعية" لطرق الحياة المختلفة.
حسناً، هناك بعض المشاكل الواضحة التي تكتنف هذه الطريقة من النقاش - ليس أقلها التعارض الظاهري المُتضمَّن في استحضار"نزعة كونية" لتشكيل اختلاف ثقافي في معرض الهجوم على الفكر المُكونِن. لكني أود التركيز على الادعاء الرئيسي لغراي ضد كونية الحداثة، والقائل بأنها مبدأ في حالة من التوتر مع مساندة الثقافة. وهذا صحيح فقط في حالة ما إن كانت الثقافة تدور بشكل أساسي وجوهري حول الاختلاف.
ولكن هل هي كذلك؟ لا أعتقد ذلك. ففي الواقع، تشير النقاشات التي عرضناها في الفصل السابق إلى أن الثقافة مرتبطة بالاختلاف بصورة عَرَضية وليس بالضرورة. حيث أن مهمة الثقافة لا تتمثل في المقام الأول في ترسيخ الاختلاف والمحافظة عليه ، لكنها تتمثَّل بدلاً من ذلك في تكوين المعنى الذي يُعبِّر عن الحالة الوجودية للبشر. وهذا هو ما يمتلك جميع البشر ميلا طبيعيا تجاهه: حيث تُزودنا الممارسات الثقافية بمصادر للمعنى من خلال الترامز الجمعي collective symbolization المندمج في مجموعة من الممارسات المادية التي تُدعِّم طريقة صالحة للحياة. فكيف، إذن، ترتبط فكرة الثقافة هذه مع فكرة الاختلاف؟ حسناً، بتنحية الأفكار الأنثروبولوجية البنيوية الخاصة بالمقابلة الثنائية في الوقت الحالي، يبدو لي في الغالب أن الارتباط هو ببساطة متضمن في عمل التاريخ. أي أن كل الجماعيات (الشعوب) collectivities تسعى وراء الممارسات الثقافية بهدف جعل حياتها ذات مغزى، وتؤدي الظروف المحلية المختلفة، بالإضافة إلى ترسّب ممارسات معينة "كتقاليد" (وليس "كتقليد"!) بمرور الوقت، إلى خلق ذلك المدى الثري من التباين الثقافي الذي نراه في العالم .لكن النقطة الهامة هي أن هذا الاختلاف لا ينشأ كنهاية telos للممارسات الثقافية، ولكن ببساطة كنتيجة لها. وقد يؤدي العمل الثقافي إلى إنتاج الاختلاف، لكن هذا لا يساوي القول بأن الثقافة مؤسسة على الاختلاف.
كما أن هذا لا يعني إنكار أن الفوارق الثقافية ذاتها، بمجرد أن يتم إنشاؤها وإضفاء الصبغة المؤسسية عليها، قد تلعب دورا هاما كمصدر لبناء المعني الجماعي والفردي - كما في الحالة الواضحة في ثنائية "نحن-هم" المتعلقة بالهويَّة القومية. لكنني
صفحة (69)
أعتقد أنه من الخطأ أخذ الحالة الخاصة بتحديد هويّة الفرد على أنه داخل المجموعة/خارج المجموعة على أنها حالة نموذجية typical للممارسات والتجارب الثقافية ككل. ينخرط الأشخاص بشكل مستمر ومُزمِن في الثقافة، لكنهم لا ينشغلون بالاختلاف الثقافي سوى على نحو دوري، أو في ظل ظروف معيَّنة تتعلَّق بالاضطهاد الثقافي cultural oppression .(12)
وهكذا، فإذا كانت الثقافة غير مقترنة جوهريا بالاختلاف، يصح بالضرورة أيضاً أنها غير متناقضة مع الكونيات universals بهذه الطريقة. ويسمح لنا التسليم بهذا أن نقوم بالتفريق بين"النزعة الكونية السيئة" الخاصة بالإمبريالية الثقافية، وعملية التغريب المفروضة، والمجانسة الثقافية، وما إليها، وبين الأشكال الحميدة بدرجة أكبر من النزعة الكونية. وأقصد بالنزعة الكونية الحميدة benign universalism التسليم بأنه قد يكون هناك بعض حالات الوجود المستبطنة المشتركة، والتي تنطبق على جميع البشر الذين يعيشون على سطح هذا الكوكب، بغضّ النظر عن خصوصياتهم الثقافية، وأنه قد تكون هناك قيم اتفاقية يمكن بناؤها فيما يتعلق بهذه العمومية commonality. إن السعي وراء مثل هذه القيم الاتفاقية consensual values - على سبيل المثال في الخطاب القانوني-السياسي حول حقوق الإنسان العالمية أو في السياسة العالمية المتعلقة بالمشاكل البيئية الشائعة- هو بالتأكيد أمر محمود (13) ولا يُشترَط بالضرورة - وفقاً لما يتراءى لي- أن ينطوي على قمع للاختلاف. حتى أن الحالة قد تكون أن ثمة ضرب من المصلحة الإنسانية الكونية يُعدّ جوهرياً بالنسبة لإعادة تضمين الهوية المحلية في الحداثة العالمية. ويحضرني هنا، على سبيل المثال، ما يسميه رولاند روبرتسون (Robertson 1995:37) "التنظيم "الدولي" وتعزيز الناحية المحلية". وما يشير إليه هنا - تحت المقولة العامة حول "العولمة"- هو الميل إلى تعزيز الحقوق القانونية والهويّات الثقافية للشعوب الأصلية indigenous peoples ليتم تنسيقها في الحركات السياسية على مستوى عالمي.
ولتلخيص ذلك: تنطوي الحداثة العالمية بالفعل على أشكال عديدة من النزعة الكونية. لكن هذه النزعة الكونية ليست أمراً سيئاً من حيث المبدأ. ومن خلال التعرف على أشكالها الضارة، علينا أن نتجنب أخذ الصالح مع الطالح. لأنه، وكما سأناقش ذلك بمزيد من التفصيل في الفصل السادس، فإن المرتبطية المُعقَّدة للعولمة تجعل إلى حد ما من المنظور المُكونِن الحميد – والمتمثل في صورة سياسة ثقافية كوزموبوليتانية- وثيق الصلة بالموضوع على نحو متزايد.
الخاتمة
يقول نيديرفن بياتريس (Pieterse 1995:46) "تُشكِّل كل من العولمة والحداثة وصفة جاهزة"، وهو يرى هذا على أنه انجذاب يحتاج إلى فصله عنوة. ومن المؤكد أن الحداثة العالمية تنبثق عن تمحيص هذه النقاشات التي تناولناها في هذا الفصل كمقولة مبهمة، وعُرضة
صفحة (70)
للعديد من طرق التعبير العويصة. وبالإضافة لذلك فإنه من المهم دائماً تجنُّب التقديس الأعمي fetishizing للمقولات النظرية – وبصفة خاصةً، وكما يُحذِّرنا ألبراو، لا يجب أن ينصبَّ جُل تركيزنا على الحداثة وألا نستبعد أو نتناسى طرق التفكير الأخرى في عالمنا وهو يمضي قدماً نحو المستقبل. ولكن برغم كل هذا، فإن الفكرة الجوهرية للحداثة العالمية، باعتبارها الحالة الثقافية والاجتماعية التي تنبثق من تحوُّل حِقبي في التنظيم الاجتماعي الخاص بالزمان-المكان، تظلُّ طريقة مقنعة للغاية لفهم مرتبطيتنا المعقَّدة الحالية ، وهذا بالتأكيد يُبرِّر الإبقاء عليها، ولو كخلفية نظرية على الأقل ، فيما يتعلق بالمناقشة حول العلاقة بين العولمة والثقافة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثالث: الثقافة العالمية: الأحلام، والكوابيس، والشكوكية
صفحة (71) الفصل الثالث الثقافة العالمية: الأحلام، والكوابيس، والشكوكية
هل تَعِدُ الحداثة العالمية بتقديم "ثقافة عالمية"؟ يمكننا المجادلة، بمعنى ما، بأن ثمة ثقافة عالمية قد وصلت الآن بالفعل. وكما يعبر عن ذلك أولف هانرز Hannerz بقوله:
هناك الآن ثقافة عالمية، لكنه من الأفضل لنا أن نعرف ما يعنيه ذلك .... ولم تحدث مجانسة homogenization كاملة بين أنظمة المعانى والتعبير، كما أنه من غير المرجح حدوث مثل هذه المجانسة في المستقبل القريب. لكن العالم قد أصبح شبكة واحدة من العلاقات الاجتماعية، وهناك تدفق للمعاني بالإضافة إلى الأشخاص والسلع بين أقاليمه المختلفة (Hannerz 1990: 237) .
وبطبيعة الحال، فإن ما يعنيه هانرز هو أن هناك حاليا عولمة للثقافة بمعنانا المُفضَّل الخاص بالمرتبطية المعقدة. ويمكن فهم سياق هذا الدمج – أي التشبيك networking- للممارسات والخبرات الثقافية عبر العالم بصورة واسعة على أنه "ثقافة عالمية". وقد رأينا صورة معقدة نظرياً من هذا النوع من السياق العالمي الضمني "للأحدية" unicity في مناقشتنا لأفكار رونالد روبرتسون حول "العالم كمكان واحد" في الفصل الأول. لكن هانرز قد ألمح، وهو مُحِقّ في ذلك، إلى أنه يتوجب التمييز بين هذا المعنى وبين الفهم الأقوى، والأوسع انتشاراً، للثقافة العالمية على أنها نظام "متجانس" وواحد للمعنى. وسوف تعني ثقافة عالمية، بهذا المعنى الأقوى، ظهور ثقافة واحدة منفردة تشمل جميع من هم على وجه الأرض وتحل محل تنوع diversity الأنظمة الثقافية الذي ازدهر حتى الآن.
حسناً، من الواضح تماما أن مثل هذه الثقافة لم تصل بعد. ولكن برغم أن هانرز مُتشكِّك بصورة مفهومة حول ظهورها في المستقبل القريب، إلا أنه من المثير للاهتمام ملاحظة أنه - وبصورة تتسم بالحكمة- لم يستبعد هذه الاحتمالية كليةً.
صفحة (72)
لأننا بمناقشتنا لظهور ثقافة عالمية بهذا المعنى الأشد قوة، فإننا ندخل في خطاب تخميني في جوهره. فالمسائل التي نتناولها هي تساؤلات تتعلق بالإمكانية، والأرجحية، وتأويل الاتجاهات والمؤشرات. ولكنها أيضاً تساؤلات كانت مدفوعة، من ناحية، بالأمال والتطلعات نحو عالم أفضل، والذي يمكن فيه توحيد جميع صور الوجود البشري، وتحسينها، وإحلال السلام والسكينة عليها، أو من الناحية، بمخاوف من اللايوطوبيا ، والتي سيتم فيها ضغط واختزال تنوع الثقافة العالمية إلى صورة واحدة مهيمنة متجانسة تتسم بالضعف. وهكذا، فقد كان هذا الخطاب عن ثمة ثقافة عالمية آخذة في الظهور، تاريخياً وإلى حد كبير، متمحورا حول التهديد والوعد، وحول الحلم والكابوس.
وسوف نقوم في هذا الفصل باستكشاف هذا الخطاب التأملي speculative ليس من خلال موازنة الاحتمالات، ولكن كمحاولة لفهم الآمال، والمخاوف، والافتراضات التى أتت بمثل هذه التأملات، والتضمينات الخاصة إلى هذا الموقف النقدي تجاه المُرتبطية المُعقَّدة التي تتسم بها الحداثة العالمية. وسوف نبحث أولاً في بعض جوانب التقليد التاريخي الخاص بالتفكير حول ثمة ثقافة عالمية في العصر الحديث، كما سننظر إلى الطرح اليوطوبي لهذه التأملات. ثم سنقوم بعد ذلك، وبدرجة أكبر قليلاً من التفصيل، بتأمل الطرق التي تم النظر بها إلى الثقافة العالمية كتهديد بدلاً من اعتبارها وعدا - مثل تلك الرؤى اللايوطوبية حول الإمبرالية الثقافية والمجانسة. ثم سنقوم أخيراً بمراجعة بعض المصادر المعاصرة التي تدعو للتشكك في كامل الفكرة القائلة بوجود ثمة ثقافة عالمية ناشئة. وسوف نحاول، على وجه الخصوص، فهم كيف يغذِّي التشديد على مرونة الهويات الوطنية هذا النوع من الموقف المتشكك. ولكن، وبرغم موافقتنا على بعض جوانب هذه النزعة المتشكِّكة، إلا أننا سنقوم في الجزء الأخير من هذا الفصل بطرح بعض النقد لهذا المنظور "المتمحور حول الدولة القومية". وسيقودنا هذا إلى الآراء الأكثر اختلافاً التي سنستمر في تطويرها خلال الجزء المتبقي من الكتاب، والتي تتعلق بالكيفية التي قد تكون عليها الملامح الناشئة للثقافة المُعَولَمة globalized إن لم تكن ثقافة عالمية global.
الأحلام: التصورات التاريخية للثقافة العالمية
إن الفكرة المتعلقة بثمة ثقافة عالمية ليست، بطبيعة الحال، أمراً بات من الممكن تخيله فقط في المرحلة الحالية المتسارعة من الحداثة العالمية. فقد كانت هناك أنواع متعددة من الأحلام والتأملات المتعلقة بظهور ثمة "ثقافة عالمية" على مدار الحقبة الحديثة، وأعتقد أنه من الممكن تفسير كليهما من حيث علاقتهما بنشوء عملية العولمة، كما يمكنها أيضاً أن تُلْقِي بعض الضوء على هذه القضية كما تبدو لنا اليوم.
صفحة (73)
وإذا قمنا بإلقاء نظرة واسعة للغاية، فسيتوجب علينا أن نُدرج ضمن هذه جميع التصورات الثقافية cultural imaginings التي قامت من خلالها ثمة ثقافة معينة، ببساطة، بوضع نفسها في قلب الأحداث وأعلنت أنها هي "العالم" بالنسبة لكافة النوايا والأغراض. وهناك صور متعددة من هذا النوع من التمركُّز العرقي ethnocentrism، بداية من الحالة البسيطة الخاصة بانعزال بعض ثقافات ما قبل الحداثة في أجزاء نائية من العالم - مثل شعب الإنويت الذي يعيش في المنطقة القطبية أو المجتمعات القبلية العديدة التي تقطن منطقة نهر الأمازون أو غينيا الجديدة- حتى وقت قريب نسبياً. وبالنسبة لهذه الشعوب، كان عالمهم، بطبيعة الحال، هو العالم الذي لا يعرفون سواه، كما أنه من المفترض أن هويتهم الوطنية آمنة من إزعاج الخصوم. وما يمكن أن نطلقه على هذا "التمركز العرقي الساذج" يظل قائما أيضاً، وعلى سبيل المثال، على الاتصالات الأولى بين الأوروبيين والسكان الأصليين "للعالم الجديد". وقد كان السكان الأصليون لأمريكا يشيرون إلى أنفسهم عادة على أنهم "كائنات بشرية" (الترجمة الحرفية لأسماء العديد من قبائل السكان الأمريكيين الأصليين)، وذلك ليميزوا أنفسهم عن الأجانب (الغرباء). وهكذا، فقد قال خطيب الأونانداجا ساديكانكتي Sadekanaktie في عام 1694: "نحن البشر نعد الأوائل، كما أننا الأقدم سناً، والأعظم. لقد كانت هذه الأجزاء والبلاد مسكونة من قِبَل، وتطأها أقدام البشر قبل أن يكون هناك أيٍ من صانعي الفئوس [الأوروبيين]"(quoted in Calloway 1994: 20).
لكن الحالات الأكثر تشويقاً هي تلك الحالات التي يتواجد فيها هذا التمركز العرقي كأيديولوجية أكثر تطوراً في وجه أدلة على وجود ثقافات أخرى ذات مزاعم معادية. ويمكن ملاحظة ما يشبه نقطة التحول بين تلك الحالات في المثال المتعلق بالمحاولة المبكرة التي قام بها ملك بريطانيا العظمى جورج الثالث لإجراء اتصال دبلوماسي وتجاري مع الإمبراطور الصيني شين لونغ Lung في عام 1793. فبالنسبة لإمبراطور المملكة المتوسطة و "ابن السماء" هذا، كان من غير المعقول السماح لمبعوث الملك جورج، اللورد مكارتني McCartney، بالدخول إلى البلاط السماوي باعتبار:
أن طقوسنا وقوانينا تختلف بصورة كاملة عن تلك الخاصة بك لدرجة أنه، حتى إذا تمكَّن مبعوثك من اكتساب مبادئ حضارتنا، فإنه من غير المحتمل أن تتمكن من زرع أخلاقنا وعاداتنا في تربتكم الأجنبية .... ونظراً لأنني أحكم العالم الواسع، فلا يوجد أمامي سوى هدف واحد، وهو المحافظة على حكم مثالي وتأدية واجبات الدولة .... وأنا لا أمنح أية قيمة للأشياء الغريبة أو البارعة وليس لي حاجة بصناعات بلدك. (مذكورة في Toynbee 1948:72. التشديد من قبل المؤلف)
يمكننا القول بأن موقف شين يحتل نوعا من المكانة الانتقالية بين نزعة التمركز العرقي الواثقة من نفسها، والتي اتسمت بها "إمبراطوريات العالم" خلال عصور ما قبل الحداثة، والتي كانت قائمة في عزلة نسبية وجهل ببعضها البعض، وبين عالم من الحداثة العالمية والذي يتخذ فيه التأكيد
صفحة (74)
على مزاعم التفوق الثقافي شكلا أيديولوجيا مختلفا وأكثر وعياً بالذات وأكثر ترويّاً. وبطبيعة الحال، فإن شين قد أخطأ في الحكم على القوة العسكرية والتكنولوجية للبريطانيين (والذين كان ينظر إليهم على أنهم "برابرة البحر الجنوبي") وقدرتهم على فرض وجودهم - وهو ما فعلوه بعد ذلك بخمسين عام في حروب الأفيون . لكن موقفه الثقافي كوريث لحضارة "ذاتية الاكتفاء" يبلغ عمرها ألفين عاما أمر مفهوم تماماً. وقد انعكس ذلك، بطبيعة الحال، في افتراضات التفوق الثقافي للأوروبيين في الوقت نفسه. فكتابات هيغيل، على سبيل المثال، والتي تلت خطاب شين بوقت ليس بالطويل، نظرت إلى الحضارة الصينية على أنها تتمتع "بوجود طبيعي خامل"، واعتقد أن "المصير الحتميّ للإمبراطوريات الآسيوية هو أن يتم إخضاغها لسلطة الأوروبيين" (Hegel, The Philosophy of History, quoted in Shohat and Stam 1994: 90)
وبالتالي، فليس الأمر كما لو أن التمركز العرقي يختفي مع حركة التنوير الأوروبية(1)، ولكنه بدلاً من ذلك يصبح أكثر وعياً بالذات وأكثر اعتماداً على "الآخر" الثقافي لتدعيم خرافات التفوق الثقافي. ويتضح، على سبيل المثال، من تحليل إدوارد سعيد للخطاب الاستشراقي القائل بأن خرافات الشرق التي دعَّمت الإمبريالية الأوروبية خلال القرن التاسع عشر كانت قائمة ليس على مجرد الثقة الثقافية بالذات والجهل الشديد بالآخر غير الأوروبي، ولكن على البناء الاستطرادي المتعمَّد - ضمن ثمة "جغرافية تخيلية"- للشرق على أنه المقابل الشَطْرِي binary للقيم والممارسات الثقافية الأوروبية الجوهرية (Said 1985). كما أنه يمكن وصف التمركز العرقي ذاته، وبصورة تدعو للتناقض، على أنه مُنعكس في العصر الحديث. وهذا لأن الخيال المتمركز عرقياً - ومشروعات الهيمنة الثقافية التي أجازها ذلك- لا يمكن أن تتحقق سوى من خلال بناء مدروس بالنظر إلى الثقافات الأخرى التي يُنْظَر إليها على أنها المرآة المُعزِّزة للثقافة المهيمنة. وبهذا الخصوص، فمن الممكن النظر إلى خرافات الحضارة الأوروبية المعاصرة "والإمبريالية الثقافية" الغربية المرتبطة بها من القرن الثامن عشراً فصاعداً على أنها ملامح مصاحبة لثمة حداثة عالمية انعكاسية وناشئة. وهذه الإسقاطات الثقافية المحددة على شاشة كونية ليست، في معظمها، إسقاطات متخلِّفة عن عصور ما قبل الحداثة. كما أنه لا يمكن النظر إليها ببساطة على أنها ردود أفعال لعملية العولمة الناشئة - أي كتأكيدات متصلبة أو قانعة على تفوق ثقافتنا كوقاية ضد التعددية الثقافية المُهدِّدة. ولكن بدلاً من ذلك، فإنه يتوجب النظر إليها على أنها متجانسة مع ظهور نظام للدولة القومية مُرتَّب بصورة انعكاسية (الوعي الانعكاسي المتضمن في عمليات الصياغة المفاهيمية السياسية "للحدود"، وسيادة الدولة sovereignty، وما إليها)، ومتقارب حتى مع أفكار التعددية وعدم تكافؤ الثقافات التي أخذت في الظهور على نطاق أكثر اتساعاً في كتابات منتقدي التمركز العرقي الذين عاشوا في أواخر القرن الثامن عشر، أمثال يوهان غوتفريد هيردر Herder (2).
وهكذا، فقد ظهرت تلك التأملات اليوطوبية العديدة الخاصة بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر حول ثقافة عالمية ضمن نفس السياق الواسع الخاص بالوعي الثقافي الآخذ في الظهور بالأحدية والتقارب.
صفحة (75)
وبرغم أنه لا يمكن بالطبع فصل هذه التأملات بشكل كامل عن الخيوط الأيديولوجية للتواريخ الثقافية المكوِننة universalizing التي تمَّت روايتها من وجهة نظر الغرب، إلا أنها تنبع من موقف مختلف إلى حد ما: وهو التطلع نحو دنيا realm موحَّدة، وبصورة مهمة، تتسم بالسلام والمبنية على الموضوع التنويري المتعلِّق "بالوحدة العليا للجنس البشرى". كما أن "النزعة الكوزموبوليتانية" cosmopolitanism في التفكير السياسي التي تنشأ في القرن الثامن عشر، على سبيل المثال في فكر كانط Kant (3)، وهيوم Hume، وفولتير Voltaire، ولايبنز Leibniz، أو بنجامين فرانكلين Franklin نتيجة لكل ذلك، هي على العموم إضفاء أوروبي لصبغة العالم "worlding"، إلا أنها تُعبِّر بوضوح عن الإحساس باعتمادية عالمية متبادلة وعن وجود مصالح مشتركة حقيقية. وكما يقول توماس شليريث (Schlereth 1977: xii-xiii)، فإن هؤلاء المفكرين "حافظوا في العادة على الإيمان بالتضامن والتماثل uniformity البشري في جميع أرجاء العالم. وبهذه الطريقة، فقد تحالف المثال ideal [الكوزموبوليتاني] عادة مع المذهب الإنساني Humanism ، والمسالمة ، ومع حس متنام (ولو أنه متناقض) بالمساواة الإنسانية الكلية التي قدمت الأساس المنطقي لانخراط هذا الفيلسوف في العديد من حركات الإصلاح الإنسانية humanitarian التي ظهرت في القرن الثامن عشر." والآن، وكما يقول شليريث، غالباً ما تم التعبير عن هذه المثل العليا ضمن علاقة مبهمة إلى حد ما أو حتى متناقضة مع الأفكار الأخرى الأقل تقدمية - "في شكل تسوية مع القومية nationalism، والوعي العرقي"، وما إليها. لكن المقصود هنا هو أنهم يعبِّرون عن حس واضح بكل من الإمكانية المتصوَّرة والمرغوبية في ثقافة ومجتمع عالميين ومشتركين. وربما تم التعبير عن هذا في أوضح صوره في كتابات مفكر مثل لايبنز، الذي كان متحمساً لظهور مجتمع، ونظام حكم، ودين، ولغة، وثقافة عالمية واحدة: "أنا لا أبالي بما يُشكِّل شخصا ألمانيا أو فرنسيا، لأني فقط أريد الخير للجنس البشري بأكمله" (مذكورة في Schlereth 1977:xxv ).
ويمكننا النظر إلى الأممية globalism اليوطوبية الخاصة بالمفكرين الراديكاليين الذين ظهروا خلال القرن التاسع عشر، أمثال كارل ماركس، ضمن إطار هذا المزيج المُعقَّد والذي غالباً ما يتسم بالتناقض من الإسقاط الثقافي عرقي التمركز، والوعي المتزايد بالثقافات الأخرى، والتبادل البيني معها، بالإضافة إلى النزعة الإنسانية الكوزموبوليتانية، وبصورة مهمة، الوعد الذي يمثله التأثير الاجتماعي للتطورات التكنولوجية. وبالوقوف عند تقليد من النزعة الدولية الاشتراكية socialist internationalism يعود إلى سان-سيمون، يُقدِّم ماركس صورة جرئية بشكل خاص للثقافة العالمية في تصويره للمجتمع الشيوعي المستقبلي. وهذا عالم اختفى فيه تقسيم الأمم، بالإضافة إلى جميع الارتباطات "المحلية" الأخرى، بما فيها المعتقدات الدينية؛ إنه عالم ذو لغة كونية، وأدب عالمي، وأذواق ثقافية كوزموبوليتانية(4). وهناك عدد من الملامح المثيرة للاهتمام في رؤية ماركس تلك، أولها هو ذلك الحس الحديث بصورة مدهشة بالتأثير الاقتصادي للعولمة - أو الرأسمالية العابرة للحدود القومية- على الثقافة.
صفحة (76)
وهكذا، وعلى سبيل المثال، فإنه يُسلِّط الضوء في البيان الشيوعي على تأثير الطبقة البرجوازية على إحداث "طبيعة كوزموبوليتانية لعمليتي الإنتاج والاستهلاك في كل دولة من الدول":
بدلا من الحاجات القديمة التي يتم إشباعها من خلال عمليات الإنتاج الخاصة بالدولة، نجد حاجات جديدة تحتاج لكي يتم إشباعها إلى المنتجات الآتية من أراض وأقاليم مناخية بعيدة. وبدلا من الوضع القديم من الانعزال الوطني والمحلي والاكتفاء الذاتي، لدينا علاقات في جميع الاتجاهات، واعتماد كوني متبادل بين الأمم. وكما هو الوضع في حالة الإنتاج المادي، فإن هذا ينطبق أيضاً على الإنتاج الفكري، حيث الإبداعات الفكرية الخاصة بالدول المنفردة تصبح ملكية مشتركة. وتصبح أحادية الجانب وضيق الأفق الوطنيين أمورا مستحيلة بشكل متزايد، ومن الآداب الوطنية والمحلية العديدة ينشأ أدب عالمي. (Marx and Engels 1969: 52-3)
لكن ماركس - الذي يعد هنا مُنَظِّر العولمة قبل حتى أن تتم صياغة هذه الكلمة avant la lettre- يجمع بين التحليل اللاذع لقوة الرأسمالية العابرة للحدود القومية، والتي يجب أن "تقبع في كل مكان، وتستقر في كل مكان، وتنشئ ارتباطاتها في كل مكان"، وبين تناقض واضح تجاه آثارها الثقافية. وبطبيعة الحال، فقد كان مدركا لكل ذلك البؤس immiseration الذي تسببت فيه الرأسمالية في أعقاب ظهورها (والتي، في نهاية الأمر، كانت الصرخة الحاشدة للقوى الرئيسية التي أطلقها البيان)، ومظاهر الإشباع الزائفة والضحلة للنمط السلعي. لكنه، وعلى الرغم من ذلك، يُرحِّب بالطريقة التي قامت فيها الحقبة البرجوازية بمحو "حضارات" ما قبل الحداثة في الطريق نحو الثورة القادمة والعصر الشيوعي، والتي- كما يُلح في التأكيد عليه- "هي لا يمكن سوى أن يكون لها وجود "عالمي-تاريخي" world-historical" (Marx and Engels 1970: 56). ومن أجل تحقيق هذه الغاية، فإن ماركس سعيد تماما برؤية دمار الثقافات غير الأوروبية. حيث يستمر البيان قائلاً:
تقوم الطبقة البرجوازية، من خلال التحسين السريع لجميع أدوات الإنتاج، وبواسطة وسائل الاتصال المُيسرة للغاية، باجتذاب جميع الأمم، حتى تلك الأكثر بربرية، إلى الحضارة. حيث تمثِّل الأسعار الزهيدة لسلعها المدفعية الثقيلة التي تدمر بها جميع الأسوار الصينية، والتي تُجبِر بها "الكراهية المعندة للغاية" التي يبديها البرابرة تجاه الأجانب على الاستسلام. (1969: 53)
وتتَّخذ الطريقة التي يظهر بها هذا لنا اليوم شكل نزعة شبه كاملة من التمركز الأوروبي Eurocentrism، والذي يعكس موقف هيغيل تجاه آسيا. وفي الواقع، وبرغم أن ماركس يشجب القسوة والغباء اللذان اتسمت بهما التصرفات الاستعمارية البريطانية في الهند والصين، إلا أنه يعتقد بأنه "مهما كانت الجرائم التي ارتكبتها إنجلترا هناك، فإنها كانت الأداة غير الواعية للتاريخ في إحداث ... ثورة أساسية في الحالة الاجتماعية في آسيا"(5)-
صفحة (77)
أي بإنقاذ المجتمعات الآسيوية من "طغيانها القديم"، و"اكتفائها الذاتي"، و"ركودها"، بحيث يمكنها التقدم نحو الثورة الشيوعية التاريخية العالمية.
وحقيقة الأمر أن ماركس هو فيلسوف إنساني كوزموبوليتاني باقتناع، والذي يحتقر القومية والوطنية patriotism وينظر إليهما باعتبارهما قوى رجعية في كافة المجتمعات، مقارنة بالمصالح الكوزموبوليتانية الحقيقية للبروليتاريا – أي "عمال العالم". وعند قراءة كتاباته، يصل إليك أيضاً إحساس بنفاد صبر معمّم تجاه خصوصية وضيق جميع "الثقافات المحلية"، والتي يبدو أنه يربطها بما يشير إليه باسم "بلاهة الحياة الريفية" (1969:53)، التي "تقيد العقل البشري في أضيق نطاق ممكن، وجعله الأداة الطيِّعة للخرافات، واستعباد عقله بموجب القواعد التقليدية، وحرمانه من كافة صور العظمة ...." (Marx 1973b: 306). وهذا ليس فقط نفاد صبر تجاه "تخلُّف" آسيا، ولكنه تجاه جميع مظاهر ماهو تقليدي، وما هو قبل حديث، بقدر ما تمثل الجانب المحلي المُقيِّد.
ومن منظورنا في نهاية القرن العشرين، من السهل التعرف على القالب الأوروبي التمركز لفكر ماركس، بالإضافة إلى الأخطاء التي ينطوي عليها تفكيره التاريخي والثوري، والتي دفعت به إلى التقليل من شأن القوة الراسخة للارتباطات العرقية والدينية (أو تحولها إلى القومية nationalism) في العصر الحديث. وهكذا، فقد ننظر بعين الشك لكل من "الإمبريالية الثقافية" المتضمنة في رؤيته العالمية وفي فرص تحقيقها. ولكن بوسعنا أيضاً ، على أية حال، أن نتعرف على كل من المُثُل الإنسانية الأصيلة التي ترشد موقفه المُكونِن universalizing وذلك الإحساس بالاحتمالية الوشيكة لظهور نظام عالمي متجانس من التغير الثوري الذي تتضمن دلائله، بالنسبة إليه، اضطراب الحداثة العالمية الذي شهده في الحِقبة البرجوازية (Berman 1983).
وهكذا، فإن موقف ماركس من الثقافة العالمية يُمثِّل ما يشبه التباس الفكرة. وكما هو الحال مع فكرة القومية، فإن مفهوم التعولم globality يصل إلينا اليوم وكأنه "يحمل وبشكل مميز وجه يانوس ". فمن ناحية، هناك مواطن الجذب الواضحة المتعلقة بإنشاء "عالم واحد" لمصلحة السلام، والعمل المتسق فيما يتعلق بالمشاكل البيئية العالمية، وإدراك "إنسانيتنا المشتركة" وحتى، ربما، التحرر الذي رغب فيه ماركس من ضيق الأفق الثقافي الذي يميز الإطار المحلي. ولكن ، ومن الناحية الأخرى، هناك الخوف من "تجانس" الثقافة، والشك في أن أي نوع من التخصيص specification لثمة ثقافة عالمية سيكون من المؤكد أن يولِّد صورة سائدة محددة واحدة باعتبارها الصورة الخاصة بالكيفية التي يجب أن تُعاش بها الحياة.
وإلى حد ما، فإن الرؤى المعاصرة حول الثقافة العالمية توجد ببساطة ضمن سياق خطابات أيديولوجية مختلفة، والتي تمتلك درجة أكبر أو أقل من الحساسية تجاه القضايا المتعلقة بالتمركز العرقي والهيمنة الثقافية. وبالتالي، فمن الممكن بسهولة تمييز النزعة نحو عالم واحد one-worldism الخاصة بحركة السلام (e.g.Boulding1988)
صفحة (78)
من اللغة المنمَّقة العالمية الخاصة بشبكة CNN الإخبارية، "ومنادي البلدة ، المدّعي دون وجه حق، المطالب بالقرية العالمية"(6). ولكن بوسعنا أن نرى شيئاً من الالتباس الأيديولوجي الجوهري الذي يتسم به المفهوم الخاص بالثقافة العالمية إذا تناولنا إحدى القضايا التي يمكن اعتبارها محورية بالنسبة لفكرة الثقافة العالمية - وهي تلك الخاصة بوجود لغة عالمية. فمن المحتمل إلى حد ما أن ماركس في تخيله لهذ الفكرة كان متأثراً بالاهتمام المتزايد ببناء لغة عالمية مصطنعة، والذي كان شائعاً خلال القرن التاسع عشر (see Crystal 1987: 354ff). وقد قام لودفيغ زامنهوف Zamenhof في عام 1887 بالترويج لأشهر الأمثلة على هذه اللغات وأكثرها بقاء، وهي لغة الإسبرانتو Esperanto، وكان ذلك بعد وفاة ماركس بأربع سنوات. وبطبيعة الحال، فقد أكَّد المتحمسون لمثل هذه اللغات المصطنعة artificial على الإمكانية الكامنة لديها للتغلب على العوائق التواصلية بما يحقق مصلحة السلام والتفاهم الدوليين. وقد تمت المصادقة الآن على تدريس الإسبرانتو من قِبَل منظمة اليونسكو ، كما تتمتع هيئتها المؤسسية - التي تُعْرَف باتحاد الإسبرانتو العالمي- بمنزلة استشارية لدى اليونسكو والوكالات الأخرى التابعة للأمم المتحدة. والمبدأ الذي تقوم عليه اللغة المصطنعة هو أنها لا يجب أن تحل محل اللغات العرقية، بل أن تعمل بدلاً من ذلك كلغة مشتركة Lingua franca ، والتي- نظراً لكونها مصطنعة- فهي غير مُتحيِّزة لأية لغة وطنية "طبيعية" بعينها. ولكن هذا لا يكون صحيحا، بطبيعة الحال، سوى ضمن إطار ضيق فقط. فالإسبرانتو، على سبيل المثال، تستمد مفرداتها وطريقة كتابتها من اللغات غرب الأوروبية الكلاسيكية والحديثة - كاللاتينية، واليونانية، واللغات الأوروبية اللاتينية الأصل(الرومنسية) والجرمانية- وبالتالي فهي بهذا المعنى أوروبية التمركز تماماً.
وبرغم أن لغة الإسبرانتو لا تزال تحظى بمُواليها وأنصارها، إلا أنه من الواضح أنها لن تصبح اللغة العالمية وأن المرشحات الحقيقيات لذلك هن اللغات الطبيعية الأكثر نجاحاً - بمعنى الأكثر من حيث عدد المتحدثين بها- مثل (بترتيب تنازلي) الصينية الفصحى Mandarin Chinese ، والإنجليزية، والإسبانية، والعربية، أو الهندوستانية. وبرغم ذلك، فمن بين هذه اللغات، هناك وبشكل واضح ترتيب هرمي آخر للهيمنة يتم بناؤه حول المنزلة الخاصة بلغات معينة باعتبارها لغات دولية – أي لغة مشتركة واقعية- أي اللغة الثانية المنطوقة الأكثر شيوعاً، واللغة الأكاديمية والعلمية، ولغة وسائل الإعلام والتجارة الدولية، إلخ. وبناء على جميع المؤشرات المتاحة تقريباً، فإن اللغة الإنجليزية تأتي على قمة هذا الترتيب الهرمي بشكل لا يقبل الجدل. فعلى سبيل المثال، "يقوم ثلثا علماء العالم بكتابة أعمالهم باللغة الإنجليزية، كما تتم كتابة ثلاثة أرباع المراسلات البريدية العالمية باللغة الإنجليزية [و] من بين جميع المعلومات المخزَّنة على أنظمة الاسترجاع الإلكترونية في العالم، تمت كتابة 80% منها بالإنجليزية" (Crystal 1987: 358). وهكذا فإن انقساماً أيديولوجياً ينشأ بين من يحتفون بهذا التركيز اللغوي باعتباره التجاوز المحتمل [لبرج] بابل وبين من يجادلون بوجود حاجة للدفاع عن اللغات الأخرى، وخاصة لغات الأقليات، ضد التهديد الذي يُشكِّله تقدُّم اللغة الإنجليزية. صفحة (79)
وهكذا، فإن الفيلسوف الأمريكي روي ويزرفورد Weatherford ،على سبيل المثال، سعيد تماماً لرؤية اللغة الإنجليزية وهي تحتل مكان جميع اللغات الأخرى كنتيجة "لهيمنة الولايات المتحدة كقوة عظمى عسكرية، واقتصادية، وترفيهية" بناء على الاعتقاد (غير الناضج ربما) بأن هذا سيؤدي إلى تأمين السلام العالمي – أي أن "أكبر مخاوف الوطنيين والشوفينيين jingoists في كل مكان على وشك التحقق: نحن نوشك أخيراً على أن نصبح عالما واحدا، وحكومة واحدة، وثقافة واحدة" (Weatherford 1993: 117). (7)
وإلى حد كبير عند الجانب الآخر من هذا الطيف الأيديولوجي المحدد، نجد مُفكِّر مثل جورج مونبيو Monbiot ، وهو أحد دعاة "النزعة المحلية" localism البيئية والثقافية. ويطالب مونبيّو بالدفاع عن لغات الأقلية المهددة (الظاهرة المعاصرة المروِّعة بعض الشيء والمتعلقة "بموت اللغات")، ليس لمجرد بسبب مركزيتها بالنسبة للهوية الثقافية واتساق المجتمعات المحلية، ولكن تحديداً لأن التعددية اللغوية ومن ثم الثقافية تدعِّم السلام: "فمع موت اللغات، فإن فقدان المعنى المصاحب لذلك يعرض للخطر قدرة جميع الناس على المحافظة على حياة مسالمة وهادفة .... فبدون التعددية لا يمكن أن يكون هناك سلام. وفي المجتمع، كما في الأنظمة البيئية ecosystems ، يمنح التنوع الاستقرار" (Monbiot 1995).(8) فما يعتبر حلماً يوطوبياً لأحد الأشخاص قد يكون كابوساً لايوطوبياً لآخر.
الكوابيس: الثقافة العالمية كإمبريالية ثقافية
تأخذنا قضية السيطرة اللغوية والتهديد الذي يواجهه التنوع الثقافي إلى القضية الأوسع، والمتعلقة بالإمبريالية الثقافية: أي الفكرة القائلة بأن الثقافة العالمية هي بشكل أو بآخر عرضة لأن تكون ثقافة مهيمنة hegemonic . كان هذا البناء المتشائم لفكرة الثقافة العالمية، في الحقيقة، هو الأكثر بروزاً في أواخر القرن العشرين. وفي الواقع، ثمة أسباب تدعونا للنظر إلى نظرية الإمبريالية الثقافية على أنها إحدى أوئل النظريات المُتعلِّقة بالعولمة الثقافية. وكما يقول جوناثان فريدمان: لقد مال خطاب الإمبريالية الثقافية منذ أواخر الستينيات تقريباً لتحضير الساحة للاستقبال النقدي الأولِّي للعولمة في المجال الثقافي، طارحاً العملية على أنها "جانب من الطبيعة الهرمية للإمبريالية، أي الهيمنة السياسية المتزايدة لثقافات مركزية معينة، وانتشار القيم ، والسلع الاستهلاكية،وأنماط الحياة الأمريكية" (Friedman 1994: 195).
وقد تم انتقاد الإمبريالية الثقافية بشدة. ونتيجة لذلك، فإنها كموقف نقديّ أقل كثيراً من حيث درجة انتشارها في الدوائر الأكاديمية
صفحة (80)
خلال التسعينيات مما كان عليه حالها خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. لكنها، على أية حال، تحتفظ بأهمية ثابتة لدرجة أنها أصبحت جزءاً من المفردات الثقافية العامة للمجتمعات الحديثة، حيث يتم استحضارها في جميع أنواع السياقات التي تتعدى تلك المتعلقة بالمناظرات الأكاديمية. فعلى سبيل المثال، تظهر هذه الفكرة بصورة متكررة في المعالجات الصحفية لقضايا العولمة. ولإعطاء مثال واحد فقط، لقد حفزت عملية الاندماج التي تمت في عام 1995 بين شركتي ديزني و إيه.بي.سي (ABC) كتابة مقال صحفي كتبه مارتن وولاكوت في صحيفة الغارديان Gurdian والذي يتناول تضمينات خلق مؤسسة إعلامية "بنفس ضخامة القطاع الإعلامي بأكمله في إحدى الدول الأوروبية الكبيرة". ولكن من هذا التساؤل، يمضي وولاكوت ليناقش هيمنة الثقافة الأمريكية على الثقافة العالمية: "كيف سيكون الحال عندما يكون العالم كله هو ديزني لاند؟" (Woolacott 1995: 12). وبرغم أنه لم يقم بمجرد عملية تكرار النقاشات المعتادة حول "الأمركة" Americanization، إلا أنه مقاله يقدم مثالاً جيداً عن مدى "جهوزية" ذلك الخطاب عن الإمبرالية الثقافية كإجابة على قضايا العولمة. لأنه وبرغم حساسيته تجاه السياقات المتغيِّرة التي أنتجتها الاتجاهات المُعولِمة الأخيرة، إلا أن المقال قد حافظ على افتراضات معينة تتعلق بهيمنة الثقافة الأمريكية كما هي دون أن يمسها - وحتى الإشارات إلى رموزها المعيارية- مثل الهامبرغر،وميكي ماوس، وكوكاكولا. ويشهد هذا النوع من النقاش، بالإضافة إلى السرعة التي تم بها استحضار تهديد العولمة الثقافية في مناظرات السياسة الثقافية التي تم اجرائها على مستوى الدولة القومية(9) ، على حساسية مُلْزِمة تجاه هذه القضايا في الخطابات الثقافية الخاصة بمجتمعات أواخر القرن العشرين ( انظر، على سبيل المثال Hall 1991: 27ff).
وبرغم أن اقتراحها الرئيسي بسيط إلى حد ما – وهو فكرة أن ثمة ثقافات معينة مهيمنة تُهدِّد بغمر تلك الأكثر عُرضة للتأذي- فإن ما صار يُعْرَف "بفرضية الإمبريالية الثقافية" يحتوي في الحقيقة على مجموعة معقدة، ومبهمة، ومتناقضة من الأفكار. وفي الحقيقة، تجمع "الإمبريالية الثقافية" عددا من خطابات الهيمنة المنفصلة إلى حد ما: هيمنة أمريكا على أوروبا، وهيمنة "الغرب على بقية" أجزاء العالم، وهيمنة القلب على المحيط، وهيمنة العالم الحديث على العالم التقليدي الآخذ في الاختفاء بسرعة، وهيمنة الرأسمالية على كل شيء وكل شخص تقريباً. وقد ناقشت هذه الخطابات بشكل مُطوَّل في كتاب آخر (Tomlinson 1991)، كما ناقشت أيضاً علاقتها بفكرة العولمة الثقافية (Tomlinson 1997a). وبدلاً من تلخيص جميع هذه النقاشات هنا، أود التركيز بدلاً من ذلك على رؤيتين لا يوطوبيتين محددتين حول الثقافة العالمية واللتان نشأتا من من هذه المجموعة من الخطابات النقدية. والفكرة الأولى هي تلك القائلة بثقافة عالمية تهيمن عليها الممارسات المسلّعة commodifying الخاصة بالرأسمالية العالمية- أو ما يصفه ماركس بشكل فطِن للغاية على أنه "المدفعية الثقيلة" الثقافية. وثانياً تلك الفكرة المتعلِّقة بالتهديد الذي تُشكِّلُه الهيمنة العالمية للثقافة الغربية، والتي كما رأينا لم تدركها الرؤية النقدية لماركس.
صفحة (81)
الثقافة الأحادية الرأسمالية العالمية
في السيناريو الأول، يتم توجيه قدرة الرأسمالية العابرة للحدود القومية على توزيع سلعها الثقافية حول العالم نحو توزيع ثقافة رأسمالية واحدة. فنتيجة "لدمج" جميع الثقافات القومية في نظام اقتصادي رأسمالي عالمي، تنشأ ثقافة جامعة overarching من الرأسمالية. وقد كان المُنَظِّر الإعلامي الماركسي الأمريكي هربرت شيلر أحد أشد المناصرين لهذه النظرة وأكثرهم مثابرة. فعلى مدى السنوات عديدة، أكَّد شيلر على القضية القائلة بأن النظام الرأسمالي العالمي، من خلال وكلائه الرئيسيين- وهي الشركات العابرة للقوميات- يعمل بلا هوادة على دمج جميع المجتمعات في نطاقه. وقد مال شيلر في صياغته الأصلية إلى التأكيد على القوة المهيمنة للرأسمالية الأمريكية، لكنه أدرك لاحقاً الطبيعة الدولية بصورة متزايدة لرأس المال ووجَّه انتقاده بصورة أكثر عمومية نحو قطاع الشركات العابرة للحدود القومية. لكنه استمر، على أية حال، في اختزال الثقافة الرأسمالية في الثقافة الأمريكية- بطريقة مماثلة لتلك الخاصة بالمنظور الاستعماري الثقافي ككل- أو كما اختزله هو بأسلوب قوي نموذجي: "الثوب الفضفاض الثقافي الشمال أطلسي المتجانس" (Schiller 1985: 19). وهذا النوع من الاختزال elision ، مقترنا بقاعدة تجريبية فضفاضة بعض الشيء، والميل نحو المنطق الوظائفي وحتى إشارات إلى نظرية المؤامرة، جعلت عمل شيلر عُرْضَة لطيف واسع من الانتقادات (Boyd-Barrett 1982; Fejes 1981; Lull 1995; Thompson 1995; Tomlinson 1991). ولن أهتم هنا بهذه المشاكل المحددة التي تعاني منها كتابات شيلر، لكني أود بدلاً من ذلك استخدام مقاربته كطريقة عامة لتناول فكرة الثقافة العالمية باعتبارها ثقافة رأسمالية. لأن منظور شيلر، وبرغم مشكلاته، كما جادل جون تومسون (Thompson 1995: 173): كان مهماً للغاية في ترسيخ منظور نقدي حول تركيبة القوة الخاصة بالعولمة الثقافية - ولو فقط في رأسها العنيد- على الانخراط مع أقوى القوى المؤسسية في العالم اليوم.
ووفقاً لشيلر، فإن القوة السياسية-الاقتصادية للشركات العابرة للقوميات، وانتشارها العالمي، تصاحبها قوة أيديولوجية لتعريف الحقيقة الثقافية العالمية. وهكذا، فإنه يفسِّر المؤسسات الإعلامية العابرة للحدود القومية على أنها مندمجة تماماً في النظام العالمي الرأسمالي ولها دور وظيفي في تَوسُّعه: "حيث أنها تقدم من خلالها صورها ورسائلها المعتقدات والمنظورات التي تخلق وتُعزِّز ارتباطات جماهيرها بالوضع الذي توجد عليه الأشياء في النظام ككل" (Schiller 1979: 30). وهكذا، فإن ما نناقشه هنا هو ليس فقط أن الرأسمالية تقوم بتعريف وتشكيل
صفحة (82)
الاقتصاد السياسي العالمي، ولكن أنها -في خلال هذه العملية- تقوم بتحديد الثقافة العالمية: في توزيع المنتجات الإعلامية المتجّرة commercialized التي تحتوي على روح وقيم رأسمالية الشركات والنزعة الاستهلاكية. ويتم إدراك هذا في صورة كلية ثقافية - "أسلوب حياة" و"نهج تنمويّ" لتقوم الدول النامية باتباعه (1979:31)."
ويظل هذا النوع من المقاربات الاقتصادية-السياسية للهيمنة الثقافية عنصرا قويا في التحليل النقدي لأنظمة وسائل الإعلام الدولية. فعلى سبيل المثال، تتبع كتابات هيرمان وماكيزني في عام 1997 بشكل قوي وثابت ذلك التقليد المُتَّبع في مؤلفات شيلر، حيث يشير كتابهما المعنون وسائل الإعلام العالمية إلى ذلك في عنوانه الفرعيّ الذي يقول، المبشرون الجدد للرأسمالية العالمية. ويعرضان فيه دليلا مقنعا على التركيز والاندماج المتسارع لامتلاك والسيطرة على الأنظمة الإعلامية العالمية في أيدي عدد قليل من الشركات الرئيسية العابرة للحدود القومية: مثل تايم وورنر، وديزني، ونيوز كوربوريشن، وفياكوم، وبرتلزمان، إلخ. والشيء المثير فيما يتعلق بمؤلف هيرمان وماكيزني هو أنه قام بالجمع بين بحث تجريبي حديث يعود إلى منتصف عقد التسعينيات وبين النظرية النقدية الجامعة، والتي بالكاد تغيَّرت منذ أن قام شيلر بالتعبير عنها للمرة الأولي في أوائل السبعينيات. حيث يزعمان، على سبيل المثال، أن قوة المؤسسات الإعلامية العابرة للحدود القومية "ليست فقط اقتصادية أو سياسية، ولكنها تمتد إلى افتراضات وأنماط تفكير أساسية .... ويرتكز استقرار النظام إلى حد ليس بالقليل على القبول واسع النطاق لثمة أيديولوجية مؤسسية عالمية" (Herman and McChesney 1997:35). وقد قاما لاحقاً بتطوير أطروحة الدمج الأيديولوجي ideological incorporation هذه بطريقة تشبه تماماً أطروحة شيلر الخاصة بوضع "نهج تنموي" رأسمالي للمجتمعات النامية:
إن الغزو الحاسم [للأنظمة الإعلامية العابرة للقوميات] هو التطبيق العملي للنموذج ... و [هذا] الغزو الرئيسي يحدد النهج الذي سيتم اتباعه، كما أنه يجتذب الدولة موضع النقاش إلى فلك مصالح القوى المهيمنة. وهذا هو الشكل "الإمبريالي الجديد" الذي حلَّ محل الطرق الاستعمارية الأكثر ابتذالاً، وفظاظة، وقِدَماً. (1997:154)
وتنبع الاستمرارية التي تتَّسِم بها هذا النوع من التحليل الشمولي totalizing من الدليل المطلق والذي لا يمكن تجاهله على التقدُّم المطَّرد في قوة ونفوذ الرأسمالية العابرة للحدود القومية في العالم المعاصر. ويقوم كتّاب من أمثال شيلر، هيرمان وماكيزني وآخرون ضمن هذا التقليد الماركسي الجديد الواسع (Golding and Harris 1997) باستقراء نظرية ثقافية من الأدلة التجريبية القوية المتوفرة في الاقتصاد السياسي: فليس هناك إنكار للبنى العميقة للرأسمالية في إطار الحداثة العالمية ولا لقدرتها الاندماجية –
صفحة (83)
و"نجاحها" الواضح- كنظام اقتصادي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن شيلر محقّ – في اعتقادي- في التشديد على الطريقة التي قام بها هذا النظام الاقتصادي بتنظيم وتشكيل جزء كبير من الحياة الثقافية الحديثة في إطار معايير تجارية محددة وضيقة إلى حد ما. ومما لا شك فيه أن الميل إلى تسليع التجربة الثقافية في المجتمعات الحديثة هي نزعة بالغة الأهمية. لكن التساؤل بالنسبة لنا هو: هل يرقى هذا إلى اعتباره زَعْما معقولا بأن ثمة ثقافة عالمية واحدة "متجانسة" ومهيمنة آخذة في الظهور؟
والدليل الأكثر وضوحاً على هذا الزَّعم هو "التقارب" والتقييس standardization الواضح في السلع الثقافية حول العالم. ولتأخذ أي مؤشر، من الملابس إلى الطعام، والموسيقى، والأفلام، ومن التلفاز إلى العمارة (تتحدد القائمة فقط بما يريد المرء إدراجه على أنه "ثقافي"). ولا يمكن تجاهل حقيقة أن ثمة أساليب، وعلامات تجارية، وأذواق، وممارسات معينة صارت تتمتع الآن بذيوع عالمي ويمكن مقابلتها في أي مكان في العالم تقريباً. وكما رأينا في الفصل الأول، فإن المطارات الدولية -تلك البوابات المفترضة على التنوع الثقافي- هي أمثلة رئيسية (ولو كانت محددة إلى حد ما) على هذا النوع من "التزامن الثقافي" (Hamelink 1983): حيث أنها شبه متماثلة في جميع أرجاء العالم، وتقدِّم أنماطا مُتَّسقة من الأثاث، و"المطبخ الدولي" ومجموعة كاملة من العلامات التجارية الدولية المألوفة في متاجر الأسواق الحرة المعفاة من الرسوم الجمركية. وقد أصبحت بالفعل الأمثلة على العلامات التجارية العالمية والرموز الثقافية الجماهيرية بمثابة صيغ مبتذلة - كوكاكولا، ماكدونالدز، كالفين كلاين، مايكروسوفت، ليفايز، دالاس، آي.بي.إم IBM ، مايكل جاكسون، نايكي، سي.إن.إن CNN ، مارلبورو، أرنولد شوارتزنيجر- حتى أن بعضها قد أصبح مرادفاً للهيمنة الثقافية الغربية ذاتها: "ماك وورلد" (Barber 1995)، "الكوكلة" Coca-colonization (Howes 1996)، و"الماكدونلة" McDonaldization، (Ritzer 1993)، وحتى "الماكديّزنة" McDisneyization (Ritzer and Liska 1997).
ولكن إلام يشير في الواقع هذا التوزيع لسلع ثقافية متماثلة، غير قدرة بعض الشركات الرأسمالية (ولإضفاء مصداقية على ما قاله شيلر، فإنها غالباً ما تكون شركات أمريكية!) على السيطرة على أسواق واسعة حول العالم؟ حسناً، إذا افترضنا بأن الوجود العالمي المطلق لهذه السلع هو في حد ذاته دلالة على ثمة تقارب convergence نحو ثقافة رأسمالية واحدة، فمن المحتمل أننا نستخدم مفهوما ضعيفا بعض الشيء للثقافة - وهو ذلك المفهوم الذي يختزل الثقافة في سلعها المادية. وكما ناقشنا في الفصل الأول، فإنه يجب (على الأقل) النظر إلى الثقافة على أنها ترامز وتجربة ذواتي مغزى من الناحية الوجودية. وبموجب هذه النظرة، فإن فرضية تقارب الثقافة العالمية يجب أن تحتوي الفكرة القائلة بأن تفاعلنا (وأقصد بذلك نحن جميعاً) مع هذه السلع مُتغَلغِل بعُمق في الطريقة التي نقوم بواسطتها ببناء "عوالمنا الظاهراتية" phenomenal worlds ويُضفِي معنى على حياتنا.
والمشكلة في النقاش حول الإمبريالية الثقافية هي أنه يفترض مثل هذا التغلغل فحسب: حيث أنه يقوم بعمل قفزة استدلالية
صفحة (84)
من الوجود البسيط للسلع الاستهلاكية إلى عزو آثار ثقافية أو أيديولوجية أكثر عمقا. وهذا الميل - بما في ذلك ما أطلق عليه جون تومسون "مغالطة الداخلانية "- مغري للغاية بالنسبة للتصورات النقدية الشمولية للرأسمالية مثل تلك الخاصة بهربرت شيلر، لأنه يقوم ببناء ما يبدو أنه رابطة متينة بين المتطلبات الوظيفية لنظام رأسمالي آخذ في التوسع - أي الحاجة إلى الناس ليلعبوا دور المستهلكين الجيدين، وأن يتم "دمجهم" في النظام بصورة تامة- والتمثيلات الأيديولوجية للنصوص الثقافية مثل البرامج والإعلانات التلفازية. والسبب في أنه يجب النظر إليها بتشكك وحذر هو أنها، وكما يقول تومسون، "تتجاهل الملاءمة التفسيرية التي تمثل جزءا أساسيا من تداول الأشكال الرمزية" (Thompson 1995: 171). فالثقافة، ببساطة، لا تنتقل بهذه الصورة أحادية المسار. ودائماً ما تشتمل الحركة فيما بين المناطق الثقافية/ الجغرافية على التفسير، والترجمة، والتحوّل، والتَكيُّف، واكتساب الخصائص الثقافية للسكان الأصليين 'indigenization' حيث تقوم الثقافة المستقبلة بجلب مصادرها الثقافية الخاصة لمهاجمة "الواردات الثقافية" (Appadurai 1990; Lull 1995; Robins 1991; Tomlinson 1991). وفي الغالب يتم تقديم مثل هذا النقاش حول الملاءمة الثقافية التكيُّفية النشطة فيما يتعلق بالنصوص الإعلامية، وتصاحبه الأطروحة الأوسع الخاصة " بالجمهور النشط" (Morley 1992). لكنها، على أية حال، تمتلك نفس القوة عند تطبيقها على أي شكل سلعي، كما يُظهر ذلك هويس Howes (على خطى Prendergrast 1993) فيما يتعلق بشركة كوكا كولا:
لا يوجد منتج مستورد، بما في ذلك الكوكا كولا، محصَّن تماماً ضد "اكتساب الصفة المحلية" creolization. وفي الواقع، نجد أنه غالباً ما يتم الربط بين الكوكا كولا وبين معان واستخدامات تنتمي لثقافات معينة تختلف عن تلك التي تخيلها المُصَنِّع. ومن بين هذه المعاني والاستخدامات أنها قد تخفف التجاعيد (روسيا)، وأن بإمكنها إحياء شخص ميت (هاييتي)، وأن بوسعها تحويل النحاس إلى فضة (بربادوس) .... كما يتم أيضاً إضفاء الخصائص الثقافية الخاصة بالسكان الأصليين على مشروب الكوكا كولا من خلال مزجه مع مشروبات أخرى، مثل الرام في منطقة البحر الكاريبي لعمل مشروب كوبا ليبري Cuba Libre، أو مع مشروب أجواديينتي aguadiente في بوليفيا لتحضير مشروب بونشي نيجرو Ponche Negro. وأخيراً، فإنه يبدو أنه يتم النظر إلى مشروب الكوكا كولا على أنه "منتج محلي" في العديد من الأماكن المختلفة - وهذا يعني انك غالباً ما ستجد أشخاص يعتقدون أن هذا المشروب نشأ في بلدهم وليس في الولايات المتحدة. (Howes 1996: 6)
وقد صار الاعتراف بمثل هذا النوع من التعقيد في الملاءمة الثقافية شبه عام في الوقت الحالي بين المُنظِّرين الإعلاميين والمُنظِّرين الثقافيين، وحتى من يطرحون نقدا critique اقتصاديا-سياسيا قويا (انظر، على سبيل المثال Golding and Harris 1997: 6)، ولا يوجد الآن سوى عدد قليل نسبيا ممن يتشبثون دون تنازل بالفكرة القائلة بأن "الهيمنة تم تغليفها وتعبئتها سلفاً في لوس أنجلوس، ثم تم شحنها بعد ذلك إلى القرية العالمية، قبل أن يتم فتحها في العقول البريئة" (Liebes and Katz 1993: xi). لكننا ، خلال مناقشتنا لقضية التلقي الثقافي،
صفحة (85)
علينا أيضاً أن نلاحظ أن تقليداً من التحليل الثقافي ينشأ من تجربة العالم الثالث – وبالتحديد من أمريكا اللاتينية- والذي يصرّ على التفاعل الديناميكي بين النفوذ الثقافي الخارجي والممارسة الثقافية المحلية. ويتمثل أحد الجوانب الرئيسية لهذا التقليد (والذي يمكننا ملاحظته في كتابات المُنظِّرين الإعلاميين والمُنظِّرين الثقافيين من أمثال نيستور جارسيا كانكليني Canclini 1992,1995 وخيسوس مارتن-باربيرو Martin-Barbero 1993) في الاهتمام بطبيعة المزج والتهجين الثقافيين بدلاً من الاهتمام بفكرة الفرض imposition الثقافي المباشر من قِبَل العالم المتقدم. وكما عبَّر مارتن-باربيرو عن ذلك (1993:149)، إن الأمر المحوري في تجربة الحداثة الثقافية في أمريكا اللاتينية هو الكيفية التي تمَّ بها " إفساد الإيقاع المُطَّرد المتوقَّع للتنمية المجانسة من قِبَل الإيقاع المضاد الخاص بالاختلافات والانقطاعات الثقافية العميقة ". والفكرة القائلة بأنه قد يتبين أن الثقافة العالمية تنطوي على أشكال متحوِّلة بصورة معقدة من الهُجنة الثقافية cultural hybridity هي أمر سوف نتفحصه بمزيد من التفصيل في الفصل التالي، لكنه من الواضح أنها تشير إلى سبب آخر يدعونا للشك في مدى معقولية فرضية المجانسة.
وهكذا، فإن ما يوحي به كل هذا هو أن هناك شكوكا حول صحة النقاشات التي تستقرئ من الوجود الكلي العالمي للسلع الاستهلاكية الرأسمالية والنصوص الإعلامية نحو الرؤية الخاصة بثمة ثقافة أحادية رأسمالية متجانسة، وذلك بالتحديد لأنها تستغل مفهوما معيبا للثقافة.
لكن هذا لا يعني أن الرأسمالية بريئة من صياغة الثقافة العالمية، لأنه بالإمكان تفسير مفهوم شيلر للرأسمالية باعتبارها "طريقة حياة" بطريقة أوسع لفهم المعنى الذي يقوم به إضفاء الصبغة السلعية (التسليع:commodification) على الثقافة - وليس التأثير الدامج أيديولوجياً لسلع أو نصوص ثقافية محددة - بتشكيل وترتيب التجربة الثقافية. وهذه، في اعتقادي، نسخة أكثر قابلية للتصديق من النقاش حول الثقافة الأحادية الرأسمالية، لأنه مما لا شك فيه أنه قد تمَّ تسليع نسبة كبيرة من الممارسات الثقافية في العصر الحديث - وتحولت إلى أشياء تُبَاع وتُشتَرى. وفي الواقع أنه من المؤكد أن نشاط التسوق نفسه قد أصبح الآن أحد أكثر الممارسات الثقافية شعبية في المجتمعات الغربية و"عنصر التسوق" متواجد -ومُرَكَّب- في الغالبية الساحقة من الأنشطة الترويحية المعاصرة. وهكذا، فإن التصميمات الداخلية للمتاحف، وصالات عرض الأعمال الفنية، والمنازل الفخمة، والمواقع التراثية، وحتى المتنزهات والحدائق تقوم جميعها الآن بتوجيه الزوار إلى محطة نهائية terminus (الهدف النهائي؟) في أحد المتاجر، والذي يمكن فيه بصورة ملموسة بدرجة أكبر إعادة شراء التجربة (التي تم بالفعل تحويلها إلى سلعة) في شكل هدايا تذكارية، وألعاب، ومناشف، وملصقات إعلانية، وأفلام فيديو، وبطاقات بريدية، وما إليها. وتلعب أندية كرة القدم الآن دورا مهما في بيع الملابس بالتجزئة لمشجعيها، وتقوم بتغيير الخطوط الخاصة بفريقها بشكل مستمر للمحافظة على الطلب.
صفحة (86)
وحتى نشاط ترويحي بسيط مثل المشي قد أصبح ممارسة مسلّعة-والتي تتم تجربتها باعتبارها متصلة بشراء بعض المعدات، والكتب الإرشادية، والمجلات، وما إليها.
ويمكننا أن نجد أحد أبرز الأمثلة على هذا الدمج للممارسات الترويحية/ الثقافية الأوسع في الممارسات الاستهلاكية في قطاع السياحة. وكما يقول ريتزر وليسكا فيما يتعلق بأمريكا الشمالية وكندا، فإنه يتم إنفاق نسبة كبيرة من الوقت والمال المخصصين للعطلات على التسوق أثناء العُطْلَة ... وقد أخذ البعض هذا إلى نهايته المنطقية - فقد أصبح التسوق هو العطلة ذاتها". وبالتالي، فإن الجولات السياحية الشاملة في كندا تتوجه الآن إلى المركز التجاري في ويست إدمونتون أكثر من ذهابها إلى شلالات نياجرا" (Ritzer and Liska 1997: 103).
يمكن النظر إلى المركز التجاري في ويست إدمونتون الذي يشيرون إليه - بالإضافة إلى "مراكز التسوق العملاقة" mega-mall الأخرى مثل مول أوف أمريكا في مدينة مينيابولس- على أنه تجسيد لهذه العملية الخاصة بالتسليع الثقافي، والتي تجمع كما هو بين الملامح التقليدية لأحد مراكز التسوق والملامح الخاصة بمدن الملاهي - ومن هنا جاء الوصف الهجين الذي قدمه كل من ريتزر وليسكا لنشر الماكديزنية ('McDisneyfication'). ويصف جون أوري(Urry 1995: 123) هذا "المعبد النهائي للنزعة الاستهلاكية السطحية، والهزل، والسعي وراء الملذات":
إنه ميل واحد يكتظ بأكثر 800 متجر، وبحيرة داخلية تقع على مساحة 2.5 فدان مزودة بأربعة غواصات صغيرة مخصصة للأعماق، مع نسخة من سفينة شراعية إسبانية قديمة، ودلافين، وملعب مصغر للغولف يشتمل على 18 حفرة، بالإضافة إلى 40 مطعماً، ومتنزه مائي تبلغ مساحته 10 فدادين، بجانب نسخة مقلَّدة من جادة باريزيان Parisian التي تعود إلى القرن التاسع عشر (من المؤكد أن هاوسمان Haussman لن يكون مرتاحاً في قبره إذا شاهد ذلك)، وشارع نيو أورلينز الذي يحتوي على نواد ليلية، وفندق يعرض مجموعة متنوعة من الغرف الموضوعية theme rooms التي تتبع أنماطا مثل هوليود، والطراز الروماني، والبولينيزي!
وتطرح أمثلة مثل هذه مجموعة واسعة من القضايا للتحليل الثقافي: على سبيل المثال، الافتتان في فترة ما بعد الحداثة بالمزيج الثقافي الذي تمثله، أو الأدلة التي تقدمها على "مظاهر إضفاء الصبغة الجمالية aestheticization على الحياة اليومية" (Featherstone 1991) المُتضمَّنة في "الاستهلاك البصري" للمناظر والعلامات الخاصة بتلك الأماكن، بقدر استهلاك السلع الحقيقية فيها (Urry 1995: 148). ولكن النقاش الأهم بالنسبة لأغراضنا الحالية هو أنها تُمثِّل درجة عالية من مجانسة التجربة الثقافية من خلال التسليع. ويختلف هذا النوع من النقاش إلى حد ما عن ذلك النقاش البسيط حول كلية الوجود العالمية لسلع معينة - "الماركات العالمية"- والتي عادة ما نجدها ضمن منظور الإمبريالية الثقافية. كما أنه يدفع بفكرة الثقافة الرأسمالية لما هو أبعد من فرضية الدمج الأيديولوجي- نحو رؤية لعالم
صفحة (87)
يسيطر عليه تماماً ذلك المبدأ المنهجي المنفرد الخاص بالنزعة الاستهلاكيةconsumerism. وهكذا فإن بودريار يستقرئ من التجربة الخاصة بمراكز التسوق التغلب على جميع أشكال التفرقة الاجتماعية:
نحن هنا في قلب الاستهلاك باعتباره التنظيم الكلي للحياة اليومية، كمجانسة تامة. حيث يتم تبسيط وملاءمة كل شيء ليواكب شفافية "السعادة" المجردة ... العمل، وقت الفراغ، الطبيعة، والثقافة التي كانت جميعها فيما مضى أنشطة متفرقة، ومنفصلة، وغير قابلة للاختزال تقريباً والتي تسبب القلق والتعقيد في حياتنا الواقعية وفي مدننا "الفوضوية والعتيقة" صارت أخيراً مختلطة، ومدلّكة massaged ، ومكيفة الهواء، وتم ترويضها وتحويلها إلى ذلك النشاط البسيط من التسوق الدائم. (Baudrillard 1988:34)
وقد قام بنجامين باربر في رؤيته الخاصة بعالم ماكدونالدز "ماك وورلد" ('McWorld') بمزيد من تطوير هذه الرؤية للثقافة على أنها متواسطة بشكل كامل عبر المبدأ المحض الخاص بالتسليع ، وصولا بها إلى ثقافة عالمية شاملة لكل شيء تقريباً: إن "ماك وورلد" هو خبرة ترفيهية تسوقية تجمع بين المراكز التجارية، وصالات العرض السينمائية المتنوعة، ومدن الملاهي، والحلبات الرياضية، وسلاسل مطاعم الوجبات السريعة (بما تتمتع به من عدد لا حصر له من التذكارات المتعلقة بأفلام سينمائية) والتلفاز (بشبكاته التسوقية المزدهرة) في مشروع واحد هائل، والذي في سبيل تعظيم أرباحه، يقوم بتغيير البشر" (Barber 1995: 97). لا شك في أن مثل هذه الآراء تميل إلى المبالغة، ولهذا يسهل نقدها. فمن الواضح أنها تستقرئ حالة عالمية عامة من عينة صغيرة نسبياً للتجربة ، والتي تقتصر على القطاعات الأكثر ثراء في العالم المتقدم. وحتى في العالم المتقدِّم، يمكن القول بأن التجربة الاستهلاكية الروتينية بالنسبة للعديد من الأشخاص تظل عملاً وسائلياً، أكثر دنيوية، وأقل إغراء إلى حد كبير، وأقل جمالية، والذي ينطوي على الكفاح اليومي والأسبوعي ضد الحاجة necessity - "الاقتصاد في الإنفاق" في ظل ميزانية أسرية محدودة (Lunt and Livingstone 1992: 89ff). وإذا تحولنا إلى ذلك العدد الهائل من السكان في العالم الثالث، فسوف يكون هذا الكفاح مهيمنا مادياً وثقافياً لدرجة أننا قد نفترض أن المخاوف المتعلقة بالتسليع ليست لها أهمية تذكر.
لكنني أعتقد، برغم ذلك، أننا يجب أن نأخذ هذا النوع من النقاشات حول الثقافة الأحادية الرأسمالية العالمية على محمل الجد (مع تذكُّر الخطاب التفكّري والاستقرائي الذي يقع ضمنه كل هذا الحديث عن الثقافة العالمية). لأنه وبرغم التساؤلات الواضحة حول عدم المساواة المادية، أصبح التسليع الآن ضارباً بجذوره العميقة في الحياة الثقافية المعاصرة في العالم المتقدِّم، ويمثل هذا دون ريب ضيقا وتقاربا مميزا في التجربة الثقافية:
صفحة (88)
تنظيم "ما نفعله" في شكل معين من أشكال القيام به. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه غالباً ما يتم النظر إلى انتشار هذا التسليع باتجاه العالم الثالث على أنه تهديد لثراء وتنوع الممارسات الثقافية (Blackwell and Seabrook 1993; Classen 1996; Latouche 1996). لكنه من الواضح أن استقراء أنواع أكثر قتامة من اللايوطوبيا ينطوي على خطر المبالغة في أحادية البعد التي يتسم بها النفوذ الرأسمالي. أما القول المأثور المعروف لبودريار، والذي يقول بأنه في مجتمعات ما بعد الحداثة "لا يوجد مكان يمكن الذهاب إليه سوى المتاجر"، فلا يخبرنا سوى بجزء واحد من القصة. وما يسجِّلُه بصورة جيدة هو العلامات الدالة على وجود تحول ثقافي واسع، في الغرب، مبتعداً عن هيمنة الإنتاج على حياتنا اليومية ومتجهاً إلى هيمنة الاستهلاك: مراكز التسوق العملاقة التي تمثِّل، وكما صاغها أوري، "مدنا استهلاكية ضخمة مقارنة بالمدن الصناعية التي كانت سائدة فيما مضى" (Urry 1995: 123). لكن ما يتجاهله هو الجوانب العديدة للتجربة والممارسات الثقافية للأشخاص- أي علاقاتهم الشخصية، وانتماءاتهم السياسية والدينية، وتوجَُههم الجنسي، وإحساسهم بالهوية الوطنية أو العرقية، وارتباطاتهم بالممارسات والسياقات "المحلية"، وما إليها- والتي لم يقم ثمة منطق مسلّع باحتلالها بعد.
وفي الواقع، فإن هذه الجوانب "للثقافات المُعاشة" الفردية كما يتم تفعيلها وتجربتها ضمن إطار سياقات وتقاليد محلية مختلفة تؤدي إلى "تعقيد" thickening الثقافات (Geertz 1973)، والذي يؤدي بطرق متنوعة إلى الحفاظ على الاختلافات والاحتكاكات الثقافية ضد التقدم السلس لثمة ثقافة رأسمالية متجانسة. ومن خلال مجموعة هائلة من العادات والميول المميزة - من التقاليد الدينية إلى الارتباط بالأنواع المحلية من الخبز أو الجعة- يُظهِر الناس القوة الثقافية الموازنة للموقف المحلي. وهكذا فإننا لا نحتاج في النهاية إلى إدراك وجود مقاومة ديالكتيكية "موطّنة" localizing للّحظة "المُعولِمة" globalizing للرأسمالية هنا. ويمكن رؤية هذه المقاومة في الحركات المُتعمَّدة المضادة للثقافة - من "القبائل" البيئية الخاصة بالعصر الحديث ، إلى حركات الدفاع الأخلاقي عن حقوق المستهلكين ethical consumerism والاتجار الأدنوي التي ترتكز في الجماعات المحلية (والتي كثيراً ما تكون قائمة على الكنيسة)، إلى الأنظمة الاقتصادية البديلة مثل "مخططات الاتجار والتبادل المحلي" (LETS) التي ظهرت مؤخراً، والتي تهدف إلى التحايل على الأنماط الاستهلاكية السائدة أو تقويضها. وبرغم أن هذه الحركات لم تتطور بالقدر الكافي، إلا أنها تُمثِّل تركيزاً لما يمكن أن يُنْظَر إليه على أنه استياء أكثر عمومية، ولو أنه غير واضح، على التجربة المُسلَّعة commodified في المجتمعات المتقدمة. ويبقى التساؤل مطروحاً حول ما إن كان، وإلى أي درجة ، توازن هذا الديالكتيك المحدد سيتحول بعيداً عن التركيز الشديد الحالي باتجاه الثقافة الاستهلاكية. لكن، ومع اعترافنا بقوة المنطق الثقافي للرأسمالية العالمية، فمن المؤكد أنه سيكون من الحماقة افتراض أنه من المُرجَّح انهيار جميع صور التنوع الثقافي - مثل الأسوار الصينية Chinese walls التي تحدَّث عنها ماركس- في مواجهتها.
صفحة (89)
"تغريب العالم"
أود العودة الآن إلى الرؤية الأخرى الخاصة بالاتساق العالمي التي ذكرتها: وهي شبح عملية خبيثة تسعى "لتغريب" (إضفاء الصبغة الغربية: Westernization) الثقافة العالمية. وقد قمنا بالفعل في الفصل الثاني بتناول بعض الاعتراضات على فكرة الحداثة العالمية، والتي تُركِّز على التحيز الغربي المفترض لهذه النظرية – أي ميلها نحو التأكيد على التجربة المحددة للغرب مع تجاهل، أو حجب، أو قمع التنوع الثري الذي تتسم به الثقافات غير الغربية. وهكذا، فقد تكون إحدى الطرق للتفكير في ثقافة عالمية هي التأكيد على الحاجة للاسترجاع التاريخي لهذه التقاليد الثقافية غير الغربية. وفي الحقيقة، فإن هذا هو ما فعله أحد الكتب المرجعية الذي صدر مؤخراً وهو معجم الثقافة العالمية، حيث يقوم مؤلفاه، وهما كوامي أنتوني أبياه وهنري لويس جيتس (Appiah and Gates 1998)، ببساطة، بتزويدنا بمداخل تسوي بين كفتي الميزان في تمثيل الثقافة العالمية من هيمنة الشخصيات والموضوعات الغربية؛ فيظهر مارتن لوثر إلى جوار توسان لوفرتير، ويظهر ملك الزولو شاكا إلى جوار شكسبير. ولكن برغم مصدوقية وضرورة مثل هذا النوع من إعادة البناء، إلا أنه لم يقم بإثارة الشكوك الأكثر جذرية المتعلِّقة بالهيمنة الغربية والتي أود استكشافها هنا.
وقد تمَّ تلخيص هذه الشكوك في عنوان كتاب للباحث الاقتصادي السياسي الفرنسي سيرجي لاتوش وهو، تغريب العالم. يطرح لاتوش اتهاما قويا بشكل خاص لنزعة التغريب باعتبارها "الدافع نحو الاتساق الكوكبي planetary uniformity" و"تقييس أنماط الحياة على مستوى العالم" (Latouche 1996: xii, 3). وهكذا، فإن موقفه يُعد مثالا جيدا على هذا الأسلوب من النقد الثقافي العالمي.
ما الذي يعنيه الناس عندما يتحدثون عن التغريب؟ إنهم يقصدون بذلك مدى كاملا من الأشياء بما فيها، وبشكل واضح، انتشار اللغات الأوروبية (وخاصة الإنجليزية) والثقافة الاستهلاكية للرأسمالية "الغربية" التي ناقشناها بالفعل. لكنه يشتمل أيضاً على أساليب الملبس، وعادات تناول الطعام، والشكل المعماري والموسيقي، وتبني أسلوب حياة مديني urban يقوم على الإنتاج الصناعي، ونمط من التجربة الثقافية تهيمن عليه وسائل الإعلام، ومجموعة من الأفكار الفلسفية، ومجموعة متنوعة من القيم والاتجاهات الثقافية - حول الحرية الشخصية، والجنس gender ، والحياة الجنسية، وحقوق الإنسان، والعملية السياسية، والدين، والعقلانية العلمية والتكنولوجية، وما إليها. ويمكننا أن نرى من هذا كيف أنه من السهل الخلط بين هذه الفكرة المتعلقة بالهيمنة العالمية للثقافة الغربية ، ضمن خطاب الإمبريالية الثقافية، وبين الأفكار المتعلقة بهيمنة الثقافة الرأسمالية، أو حتى مع هيمنة الدول القومية المنفردة - وأوضحها الولايات المتحدة.
وبرغم ذلك، يمكننا التمييز بين مؤلف سيرجي لاتوش،
صفحة (90)
والذي هو عبارة عن مجموعة محددة من المزاعم حول، ومخاوف من، التغريب. وأود التركيز في الحيز المتاح هنا على ما أعتقد أنه يمثل جانبا رئيسيا، إذ أن لاتوش ينظر إلى التغريب على أنه الانتشار العالمي لثمة كيان كلي ثقافي واجتماعي. وبالتالي فهو يناقش مجموعة من الجوانب الخاصة "بالغرب" – مثل التكنولوجيا الخاصة به، وقاعدته الاقتصادية الصناعية، وميله نحو التَمدُّن urbanization، وأنظمته الدينية؛ والفلسفية؛ والأخلاقية، وعلاقته بالرأسمالية، وما إليها. ولكنه يصرّ على أن أي من هذه الجوانب لا يحتوي بمفرده على "جوهر" الغرب، والذي يجب أن يتم النظر إليه على أنه "انسجام تركيبي synthetic unity لهذه المظاهر المتنوعة ككيان "ثقافي"، وكظاهرة حضارية" (Latouche 1996:38). كما إن حجته في النظر إلى التغريب على أنه ظاهرة ثقافية في الأساس، تقوم على نظرة وجودية إلى حد كبير للثقافة والتي تشبه تلك التي قمت بالتعبير عنها في الفصل الأول، باعتبارها "إجابة على مشكلة الوجود" (1996:41). وهكذا، فإن الحديث عن "الحضارة" الغربية هو طريقة لوصف صورة قوية بشكل خاص من مثل هذه الإجابة، والتي تمكنت من إثبات وجودها في كل مكان. (يشدد لاتوش على العلاقة بين مصطلح "حضارة" civilization والأفكار الخاصة "بالمديني" civic – والمتعلقة بالعيش في المدن وبالتمدُّن)- ويأخذ هذا على أنه يرمز (جزئياً) للإجابة الغربية على التساؤل الخاص بـ "كيف يمكننا أن نعيش".) وهكذا، وبالنسبة للاتوش، فمن المؤكَّد أن "النجاح" التاريخي لهذا النموذج سيؤدي إلى ثمة اتساق ثقافي وهو الأمر الذي لا يواقف عليه، باعتبار أن نجاحه يتضمن تدمير كل "الصيغ" versions الأخرى، وهي جميع الطرق التي يمكننا أن نحيا بها حياتنا. وهكذا، فإن الحضارة الغربية بالنسبة له، وبصورة تدعو للتناقض، هي "مناهضة للثقافة" (ص.43) من حيث أنها مُتعارضة في دافعها المُكونِن universalizing مع بقاء مجموعة متنوعة من الثقافات المحلية المحددة.
وحتى الآن، تعد هذه الحجج مألوفة إلى حد ما. وعلى سبيل المثال، ستتضح الأفكار الموازية هنا لفكرة جون غراي الخاصة بالكونية التنويرية باعتبارها تهديدا "للثقافة كاختلاف" (الفصل الثاني) ، لكنني أود الآن الحديث عما أعتقد أنه نقطة حاسمة في حجة لاتوش، من أجل فهم فكرة التغريب من حيث علاقتها بالحداثة العالمية. وهذه هي الفكرة القائلة بأن الغرب قد فقد ملاذاته moorings المحددة في أي موقع جغرافي-ثقافي ، وتحول إلى ما يشبه المولِّد المجرّد للممارسات الثقافية. وكما يُعبِّر هو عن ذلك:
أنا أحلل [الغرب] كضرب من الآلات العملاقة Megamachine التي أصبحت الآن مجهولة الهوية، ولا متوطنة، ومقتلعة من جذورها التاريخية والجغرافية .... فالغرب لم يعد يعني أوروبا، لا جغرافياً ولا تاريخياً، إنه لم يعد حتى مجموعة من المعتقدات التي تتشاركها مجموعة من الأشخاص المتفرقين على سطح الأرض. وأنا أراها كآلة، لا شخصية، ولا روح فيها، وفي أيامنا هذه لا سيد لها، والتي أثّرت على الجنس البشري لكي يخدمها. (Latouche 1996: xii, 3)
صفحة (91)
ومن الواضح أن هذه الحتمية التي يتسم بها ذلك التناظر مع الآلة تصبح عويصة مع اتخاذ أي نوع من المواقف النظرية الانعكاسية، كما هو الحال مع نزعة لاتوش العامة للمبالغة في التأكيد على الطبيعة المٌنفِّرة alienating للحياة الاجتماعية المعاصرة دون الاعتراف بلحظاتها المُحرِّرة أو حتى جوانب الغموض التي تنطوي عليها. وعلى أية حال، يتراءى لي أن الفكرة الأكثر أهمية هي الطريقة التي يتم بها الفصل بين "الغرب" كثمة مبدأ ثقافي مجرد ، عن "الغرب" كوحدة جيو-ثقافية محددة، أي كمجموعة من الممارسات الثقافية المحددة التي يمكن ربطها بقاعدة إقليمية، وكمجموعة من الدول القومية، والأماكن الحقيقية مثل إسبانيا، أو سويسرا، أو كندا، أو الدانمارك، أو نيوزيلندا. وقد عبَّر لاتوش عن هذا الاختلاف في استعارة (ملتوية بعض الشيء) من سارتر Sartre عن طريق التمييز بين الغرب في حد ذاته (المبدأ الثقافي " اللا متوطِّن") وبين الغرب لأجل ذاته (الكيان الجيو-ثقافي، والأماكن الحقيقية). ويسمح له هذا بتفسير التراجع الإقليمي-الثقافي الذي حدث مع انكماش الإمبراطوريات الأوروبية وعملية التحرر من الاستعمار decolonization في القرن العشرين، مع المحافظة في الوقت نفسه على فكرة الهيمنة الثقافية الغربية.
ولكن إذا سألنا عما يُميِّز هذين المعنيين عن بعضهما البعض، فسرعان ما سيتضح أن ما يصفه لاتوش فعلاً في المبدأ الثقافي اللا متوطِّن ما هو ، في الحقيقة، إلا الحداثة الاجتماعية والثقافية ذاتها. ويتضح هذا بشكل خاص عندما يصف "المتجهات vectors الرئيسية الثلاثة في .... القوة الماحقة الغربية":
الأول هو عملية نشر التصنيع التي تتسم بالمحاكاة ، والتي يحفِّزها الانتشار العالمي للاقتصاد العابر للحدود القومية؛ ويتعلق الثاني بعملية التمدين urbanization، المتعلقة ... بتدمير المجتمعات الريفية؛ أما الثالث فيمكن أن نسميه "القوميانية" nationalitarianism ، أي تلك العملية الخاصة ببناء دول لا جذور لها، تتسم بالتقليد، ويقصد منها إنشاء دولة مصطنعة وإدارة اقتصادها.(1996: xii)
كما أن استشهاده بهذه المؤسسات الرئيسية – أي الاتجاه نحو الصناعة، وحياة المدن، ونظام الدولة القومية-يُظهِر أنه يمكن النظر إلى نقد لاتوش للغرب، وبنفس القدر، على أنه نقد للحداثة. لكنه يبدو راغبا في التعلق بالفكرة القائلة بوجود شيء غربي في جوهره فيما يتعلق بهذا المُجمَّع الثقافي-المؤسساتي، حتى عندما يتم اقتلاعها من علاقتها الإقليمية مع الدول والثقافات الغربية الحقيقية. ولست مقتنعاً على الإطلاق بأنه يمكن إظهار هذا. ويبدو لي أنه من المحيّر ببساطة أن نتحدث عن الهيمنة الغربية باعتبارها شيئا منفصلا عن الممارسات والمصالح الحقيقية للمجتمعات الغربية. ويمكننا أن نوافق بسهولة على أن إجابة ثقافية معينة على "مسألة الوجود" قد أصبحت كلية الوجود بشكل عالمي، وبمعنى ما "لا متوطنة". لكنه من الأفضل، في اعتقادي، أن ننظر إلى هذا على أنه استجابة الحداثة.
صفحة (92)
وهكذا، فالتساؤلات التي يمكن توجيها حينئذ هي عما إن كانت الحداثة الاجتماعية والثقافية هي بالضرورة "حداثة غربية" – أي عما إن كانت الحداثة تقتضي بالضرورة وبأي صورة من الصور أن تكون غربياً- أو ما يمكن أن نسميه بالتساؤل عن المستفيد من الحداثة: هل تستفيد الدولة الغربية بشكل حصري أو بصفة خاصة من انتشارها؟
ويمكننا العودة مرة أخرى إلى تصور جيدنز، من أجل الحصول على مجموعة مختلفة إلى حد ما من الإجابات على هذه التساؤلات. تقول حجته، في أبسط صورها، بأنه برغم أن عملية "الحداثة المُعولِمة" ربما تكون قد بدأت مع توسع المؤسسات الغربية، فإن حقيقة كلية الوجود العالمي الحالي لهذه المؤسسات (الرأسمالية، والنزعة الصناعية، ونظام الدولة القومية، وما إليها) ، تمثل "هيمنة الغرب الآخذة في التراجع على بقية العالم" (1990:52)، لأن مؤسسات الحداثة التي ظهرت هناك للمرة الأولى قد أصبحت الآن كلية الوجود. وبمعنى ما، فإن "نجاح" الغرب في نشر أشكاله المؤسساتية يمثل خسارة "لأفضليته" الثقافية والاجتماعية الفريدة. وكما يعبِّر هو عن تلك الفكرة:
لقد كانت المرحلة الأولى من العولمة محكومة ببساطة، وفي المقام الأول، بتوسع الغرب، وبالمؤسسات التي نشأت في الغرب. فلا توجد حضارة صنعت شيئاً كان له تأثير شامل ومنتشر على العالم مثل هذا، أو شكَّلته إلى حد كبير على غرار صورتها الخاصة .... وبرغم أن العولمة لا تزال تحت هيمنة القوى الغربية، إلا أنه لا يمكن الحديث عنها اليوم على أنها مسألة إمبريالية أحادية الاتجاه .... حيث أنه، وبشكل متزايد، لا يوجد أي "اتجاه" للعولمة على الإطلاق ، كما أن نتائجها دائمة الحضور تقريباً. وهكذا، فإنه لا يجب الخلط بين المرحلة الحالية من العولمة وبين المرحلة السابقة، والتي تعمل المرحلة الحالية بصورة متزايدة على تدمير البنى الخاصة بها. (1994b:96)
والآن، يمكننا أن نفهم جيدنز هنا على أنه يقترح ببساطة موقفا ساخرا "لرابح يخسر": فقد تسبب النجاح ذاته الذي حققه الغرب في فقدان أفضليته الاجتماعية-الثقافية. وبوسعنا، على أية حال، أن نوسِّع المناقشة قليلاً من خلال التساؤل عما إذا كان الغرب آخذا ببعض الطرق في فَقد هيمنته الثقافية-الاجتماعية بدرجة كبيرة. وهناك العديد من الطرق الممكنة التي يمكن من خلالها فهم هذا الزعم.
فعلى سبيل المثال، قد تتم الإشارة إلى أن أجزاء معينة مما اعتدنا على تسميته باسم "العالم الثالث" أصبحت في الحقيقة الآن أكثر "تقدماً" - تكنولوجياً، وصناعياً، واقتصادياً- من بعض أجزاء الغرب. ويمكننا، على سبيل المثال، إجراء مقارنة بين بعض المناطق الحضرية المزدهرة في أمريكا اللاتينية - ساوباولو، ومكسيكو سيتي- وبين المناطق التي تعاني من الكساد في أوروبا - ولنقل أجزاء من جنوب إيطاليا. وبطبيعة الحال، فقد كانت المقارنة الأكثر إغراء هنا (على الأقل حتى وقت قريب) هي تلك المقارنة التي يتم إجرائها بين ما يُعرف باقتصادات "النمور الآسيوية" –
صفحة (93)
أي كوريا الجنوبية، وتايوان، وهونغ كونغ، وسنغافورة، وماليزيا- وبعض المناطق المتخصصة في الصناعات الثقيلة في أوروبا أو الولايات المتحدة التي تعاني من كساد اقتصادي. فخلال منتصف التسعينيات، على سبيل المثال، كان معدل إنتاجية الفرد في سنغافورة "يوازي ذلك الموجود في أفقر مناطق الدول المتقدمة (مثل ويست غلامورغان في المملكة المتحدة)" (Hirst and Thompson 1996: 114). ويقترح جيدنز (1990: 65; 1994a: 65) أنه قد تكون هناك علاقة سببية معقَّدة بين صعود وتراجع مثل هذه المناطق التي ترتبط بسوق رأس مالي مُعولََم. وعلى الأقل، فقد مثَّلت هذه التطورات السريعة تحدياً للحكمة التقليدية المتعلقة بالهيمنة السياسية-الاقتصادية للغرب. وفي معرض تلخيصه لتحليل ثاقب ومُفصَّل حول صعود النمور الآسيوية ضمن إطار البلدان الآسيوية الواقعة على المحيط الهادي، يستنتج مانويل كاستلز Castells ما يلي:
لقد تم دمجها على قدم المساواة مع بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ، وهي تعمل على زيادة أفضليتها التنافسية بشكل كبير بالمقارنة مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. وللمرة الأولى خلال قرنين من التوجه نحو التصنيع الذي يهيمن عليه الغرب، أصبحت هناك جوانب اتصال وترابط عميقة بين الشرق والغرب في نمط لا يعكس الهيمنة الغربية الساحقة.(Castells 1998: 309)
حسناً، فمن الواضح أن دلائل عدم الاستقرار الاقتصادي للنمور الآسيوية - مثل الأزمة التي عصفت باقتصاد كوريا الجنوبية في عام 1997- تعتبر مزعجة للتصورات العالمية الأكثر تحمساً والبعيدة المدى التي تقوم على هذا النمط المركز من النمو الإقليمي. ومن المحتمل أن مبررات الحذر الذي أبداه كل من هيرست وتومسون (Hirst and Thompson 1996: 99ff) في الاستقراء من هذه الحالات إلى نمط أكثر عمومية من مساواة العلاقات الاقتصادية بين الدولة النامية والدولة المتقدمة، تكمن في هذه الأحداث الأخيرة. ولكن وعلى الجانب الآخر فإنه يمكن القول بأن أطروحة العلاقة البينية العميقة بين اقتصاديات النمور الآسيوية والاقتصادات الغربية التي يؤكد عليها كاستلز لم تتعرض في الحقيقة للخطر نتيجة لأي توقفات مفاجئة في تقدم اقتصادات النمور الآسيوية. وتشهد السرعة التي تمت بها مواجهة الأزمة الكورية، من خلال تقديم صندوق النقد الدولي لقروض من أجل إعادة الإعمار، على حميمية العلاقة البينية التي تربط هذه الاقتصادات بالاقتصادات الغربية. ويبدو الآن ذلك التهديد الخاص بالانهيار الاقتصادي في جميع أجزاء منطقة المحيط الهادي- والممتد إلى الأسواق ومراكز الإنتاج المحتملة الهائلة في الصين، وإلى اليابان (والتي تعتبر اقتصادياً، وليس ثقافياً، جزءا من الغرب) وما وراءها، متسبباً في إحداث ركود في الاقتصاد الأمريكي واقتصادات أوروبا الغربية - أحد الهواجس الرئيسية في نهاية الألفية الثانية. ولا يمكن النظر إلى هذا على أنه عودة إلى الوضع السائد الخاص بالهيمنة الاقتصادية الغربية المؤكدة.
وإذا أردنا التعبير عن هذه الحالة من عدم الاستقرار الاقتصادي بصورة مختلفة بعض الشيء،
صفحة (94)
فإنه يمكن المجادلة بأنه كما تعبِّر الرأسمالية المعولَمة عن صلاتها المتقلبة في حالة الدول التي تحولت حديثاً إلى تبني النظام الصناعي، فبالمثل يمكن القول بأنه لا يوجد لديها أي "ولاء" لمسقط رأسها في الغرب، وبالتالي فهي لا تقدم أية ضمانات على استمرارية الأنماط الجغرافية للهيمنة التي تمَّ إنشاؤها في فترات الحداثة المبكِّرة - ونقصد بذلك تلك الألفة الانتخابية elective affinity بين مصالح الرأسمالية والغرب. وهناك علامات على هذا، على سبيل المثال، في العلاقة المتزايدة التوتر بين الأسواق الرأسمالية الدولية وبين حكومات الدول القومية الغربية: الأزمات الدورية المتعلقة بالعملات التي تُزعِج الدول الصناعية الغربية – أو ما يُعرَف باسم "الأيام السوداء" في أسواق العملات الدولية. ويمكن مشاهدة أحد الأمثلة المثيرة إلى حد ما على موقف النظام الرأسمالي العالمي غير العاطفي تجاه المؤسسات الغربية في انهيار أقدم البنوك التجارية في بريطانيا وهو بنك بارِينغ برازرز Baring Brothers في فبراير من عام 1995. وقد تعرض كل من بنك بارينغ الذي تأسس في عام 1762 وبانكرز آند كوين Bankers and Queen للانهيار خلال تداولات استغرقت أياما قليلة، نتيجة للمضاربات المُعولِمة عالية المخاطر في سوق "المشتقات" derivatives ، والتي قام بها أحد موظفيها صغيري المنزلة نسبياً، وهو نيك ليسون Leeson ، عبر تعاملات (متماسفة) فائقة السرعة تمت عبر الوسائط الإلكترونية. وبشكل ملائم بصورة كافية، حدث هذا في سنغافورة في واحدة من أسواق العالم "الأصغر سنا" - وهو ذلك الخاص بجنوب شرقي آسيا. ومن الصعب مقاومة النظر إلى هذا على أنه يرمز لتعرُّض العالم القديم (الذي يتسم بالرضا عن ذاته؟) والخاص بالقوة الاستعمارية الأوروبية (الغربية) للهزيمة على يد العالم الجديد الخاص بالرأسمالية العالمية اللامتمركزة decentered ، والتي قد تكون الأحداث فيها غير متوقعة، وغير مُميِّزة، وفورية، وكارثية.
وبطبيعة الحال، فمن المهم ألا نبالغ في في تقدير دلالات هذا "اللاتمركز" decentring الاقتصادي-السياسي للغرب. فبرغم أنه يشير بوضوح إلى أن المرتبطية الاقتصادية المعقدة لا تعني توسعا سلسا، وغير مضطرب للقوة الغربية في حقبة ما بعد الاستعمار، إلا أنه لا يحاول أن يثبت عدم صحة "اللامساواة" الواضحة التي تتسم بها عملية العولمة على الصعيدين الاقتصادي أو الثقافي. سنعود إلى مظاهر عدم المساواة هذه في الفصل التالي. ولكن في الوقت الراهن، يمكننا الربط بين علاقات القوة المُتحوِّلة، والمتقلبة، والأكثر تعقيداً التي تجلبها العولمة ، وبين ما يمكننا تسميته بشكل غير مُحكَم بالتجربة المُعاشة "للهوية الثقافية الغربية". والقضية بالنسبة لنا هي ما إن كانت الهيمنة الثقافية الغربية التي اقترحها المُنظِّرون من أمثال لاتوش يتم اختبارها بهذه الصورة ضمن المجتمعات الغربية الحقيقية.
وقد قام زيغمونت باومان بعمل تمييز مثير للاهتمام بهذا الخصوص بين الحُجَج "المُكونِنة" universalizing الخاصة بالحداثة الغربية (كالمشروع التحريري لحركة التنوير) في ذروة ثقتها الثقافية في الذات، وبين ما يسميه "بالتعَولُم" المجرد الذي تتسم به الحالة الثقافية المعاصرة في الغرب.
صفحة (95)
فعلى العكس من "الكونية" universality، وهي "حكم العقل" – أي نظام الأشياء الذي سيستبدل العبودية للعواطف باستقلالية العقلانية": يعني "التعولُم" Globality أنه بوسع كل شخص موجود في كل مكان أن يتناول ساندويتشات الهامبورغر التي تقدمها مطاعم ماكدونالدز وأن يشاهد أحدث الدراما الوثائقية المنتجة من أجل التلفاز. وقد كانت الكونية مشروعا باعثا على الفخر، إذ كان مهمة جبارة يتوجب تنفيذها. في حين أن التعولم، وعلى العكس، من ذلك كان بمثابة إذعان وقبول خانع بما يحدث "هناك في الخارج". (Bauman 1995: 24)
والآن، فإن تمييز باومان بين المشروع "الثقافي السامي" الخاص بعقلانية التنوير وبعض الممارسات الثقافية الشعبية المحددة نوعا ما قد يكون مبالغاً فيه بعض الشيء، ولكنه يدرك شيئاً عن الروح التي يحتمل أن الأشخاص العاديين في الغرب يختبرون بها الانتشار العالمي لثقافتهم "الخاصة". وفي الواقع أن الكثير يتوقف على المدى الذي لا يزال الغربيون يشعرون به "بملكية" ownership هذه الأنواع من الممارسات الثقافية، والتي تتم عولمتها بشكل نموذجي. وبرغم أن هذه تعد قضية معقدة: إلا أن حدسي هو أنه يوجد فقط مستوى متدن للغاية من التوافق بين التفاعل الروتيني بين الناس وبين "صناعة الثقافة" العالمية المعاصرة وشعورهم بأنهم يمتلكون هوية ثقافية غربية متميزة، ناهيك عن الشعور بالفخر تجاهها أو بامتلاكها. ويبدو من الأقرب احتمالا الآن أنه تتم معايشة أشياء مثل مطاعم ماكدونالدز أو مجمعات دور السينما التي تعرض الأفلام السينمائية الأمريكية الرائجة، ببساطة، على أنها "هناك" في بيئاتنا الثقافية: أشياء نستخدمها والتي أصبحت مألوفة وربما مريحة، ولكننا لا "نملكها" - سواء حرفياً أو ثقافياً.
وبهذا المعنى، فمن الممكن أن يتحالف التراجع في الثقة الذاتية الثقافية الغربية مع الخصائص التركيبية للحداثة المُعولِمة – أي "لا تضمين" الممارسات والمؤسسات من سياقات الهيمنة المحلية إلى العالمية. وفي عالم تكون فيه خبرتنا "المحلية" الدنيوية محكومة بصورة متزايدة بأحداث وعمليات تتم عن بُعد، فقد يصبح من الصعب المحافظة على إحساس واضح بالثقافة اليومية على أنها، وبشكل متميز، هي "الطريقة التي نقوم بها بعمل الأشياء" في الغرب - لفهم هذه الممارسات على أنها مرتبطة بأي صورة معينة بتواريخنا وتقاليدنا المحددة. وهكذا فبعيداً عن فهم المُعولَمة بهذه الطريقة الإمتلاكية، والثابتة، و"المتمركزة" التي من المحتمل أنه قد تم الربط بينها وبين فترة السلام البريطاني Pax Britannica التي اتسم بها القرن التاسع عشر، وقد يختبرها الغربيون المعاصرون كحداثة "غير متمركزة"، و"لا مكان لها"، وأكثر التباساً، والتي يرتبطون بها دون عناء، ولكن دون أن يكون هناك شعور كبير بالهيمنة الثقافية "المحلية". وسوف يكون هذا المعنى العام للاتوطين الثقافي(10) cultural deterritorialization مصب اهتمامنا في الفصل التالي.
ولكن الآن، بوسعنا تقديم ملاحظتين عامتين لتلخيص هذه الإجابات على فرضية
صفحة (96)
"تغريب العالم" التي اقترحها لاتوش.
الملاحظة الأولى هي أن إقرار الحداثة العالمية لا يُمثِّل بالضرورة هيمنة ثقافية متواصلة "للغرب" - كمجموعة من الدول القومية الحقيقية وليس كمبدأ ثقافي مجرَّد- على باقي العالم. ومن الواضح أن الدول القومية الغربية تتمتع في الوقت الحالي بهيمنة عالمية اقتصادية-سياسية كبيرة في العالم – لكن، وكما لاحظنا، فليس ثمة ما يدعونا للنظر إلى هذا على أنه أمر مضمون إلى ما لا نهاية. لكن المقصود هو أن التجربة الثقافية للغرب المصاحبة لهذا لا تمثل بصورة لا لبس فيها إيمانا مطلقا، وصارما بتفوقها، أو مصيرها، أو مهمتها الثقافية. وفي الواقع إنه لمن المُرجَّح بدرجة أكبر نسبيا أن هذه التجربة تنطوي على التشكيك في القيم الثقافية التي كانت مقبولة دون مناقشة فيما مضى، ويتصل هذا بصورة مباشرة بالخصائص الثقافية المُعدِّدة pularizing للعولمة – أي الوعي المتزايد (من خلال السفر أو التمثيل الثقافي الشعبي) بالعادات، والمعتقدات، وأنماط الحياة المختلفة. وهذا التقويض لليقينيات هو عرضة أيضاً لأن يصاحبه توجس من المستقبل - على سبيل المثال فيما يتعلق بديمومة واستمرارية أنماط الحياة الغربية التي تتسم بالاستهلاك المرتفع (على الصعيدين البيئي والاقتصادي). وبالنظر إلى هذا، فإنه يبدو من غير المُقنِع الحديث عن الحالة الثقافية العالمية الحالية أو المستقبلية على أنها "انتصار للغرب" (Latouche 1996: 2)(11).
والملاحظة الثانية التي أود عرضها هي أن الاعتراف بهذا الموقف الثقافي الأكثر التباساً للمجتمعات الغربية الحقيقية يشير أيضاً إلى بعض الأسباب التي تدعونا للشك في هذا الزخم المجانس لحجة لاتوش – أي افتراضه القائل بانسحاق جميع الثقافات المحددة الأخرى في ظل تقدم الغرب. ويمكننا الموافقة على أن الحداثة لا تنطوي على إنشاء مجموعة من المؤسسات التي هي بمعنى واسع للغاية "متماثلة" عبر أجزاء العالم، والتي تقر نوعا من جدول الأعمال الثقافي العام. وعلى أية حال، وكما اقترحنا في الفصل الثاني، فقد يكون هناك مدى واسع من الإجابات الثقافية على جدول الأعمال هذا – في صورة مجموعة من "الطرق إلى وعبر" أو "استراتيجيات لدخول أو مغادرة الحداثة" (Garcia Canclini 1995) - التي يمكن أن تتبناها، وتتبناها بالفعل، الثقافات غير الغربية. وإذا أردنا تقديم مثال واحد واضح على هذا، فإن قبول الثقافة العلمية التكنولوجية للغرب، وعقلانيته الاقتصادية، وحتى بعض جوانب نزعته الاستهلاكية، قد يتواجد جنباً إلى جنب مع رفض قوي لنظرته العلمانية، بالإضافة إلى إباحيته الجنسية، ومواقفه تجاه علاقات الأسرة والنوع، واستخدامه الاجتماعي للكحول، وما إلى ذلك - كما هو شائع في صور المزج المختلفة في العديد من المجتمعات الإسلامية (Sreberny-Mohammadi and Mohammadi 1994; Mowlana 1996). وقد تم التعبير عن هذا "الطريق المحدد عبر" الحداثة بشكل جيد في تصريح أدلى به المفكِّر الإسلامي التونسي راشد الغنوشي،
صفحة (97)
والذي استشهد به مانويل كاستلز: الطريق الوحيد للوصول إلى الحداثة هو اتباع سبيلنا، وأقصد بهذا ذلك السبيل الذي رسمه لنا ديننا، وتاريخنا، وحضارتنا" (Castells 1997: 13). وهكذا، فإن الإسلام المعاصر، الذي يعيشه مليار شخص تقريباً في مجموعة واسعة من التعبيرات الاجتماعية كأحد الملامح المحورية للهوية الثقافية، لا يعتبر بأي شكل من الأشكال إذعاناً للمنطق المتصلِّب الخاص بالتغريب . لكنه لا يعتبر أيضاً، في معظم الحالات، مجرد رفض "أصولي" لجميع الأشياء الحديثة. وبالإضافة إلى ذلك، فمن المرجَّح أن تتسبب مثل هذه الاستجابات الثقافية المتباينة، بالنظر إلى أنه يتم ضغطها مع بعضها البعض بشكل متزايد عبر عملية العولمة، في جميع أنواع عمليات الامتزاج المعقدة – وتكون هذه عرضة لأن تنقلب على الصور الغربية من الحداثة، وربما تتسبب في المزيد من زعزعة سلطانها.
لكن قد قيل الآن ما يكفى للإشارة إلى أنه يجب أن تكون هناك شكوك جدية تطرحها العولمة ضمن ثقافة غربية واحدة متسقة. ومن الجدير بالتكرار أن هذا الاستنتاج، بالإضافة إلى التشكك في ظهور ثقافة رأسمالية عالمية أحادية، لا يعني أن العولمة تمضى بطريقة إيجابية، وأنها تُظهر حساسية تجاه المحافظة على الاختلافات الثقافية، وأنها متحررة بصورة كاملة من الهيمنة. وبطبيعة الحال، فإن هذا ليس هو ما عليه الحال. فالعولمة هي عملية غير متكافئة والتي يوجد فيها، على ما يبدو، فائزون وخاسرون. لكن المقصود هو أنها عملية معقدة بدرجة أكبر بكثير من أن يتم فهمها من خلال القصة البسيطة الخاصة بالتقدم أحادي المسار للغرب. والأهم من ذلك، وفيما يتعلق باهتمامات هذا الفصل المحدد، وبالنسبة لجميع العلامات السطحية على التقارب الثقافي التي يمكن التعرف عليها، فلا يمكن الاستدلال على التهديد الخاص بعملية مجانسة ثقافية أكثر عمقاً، عن طريق تجاهل التعقيد، والانعكاسية والتمرد المطلق، والاستجابات الثقافية الواقعية والمحددة للحداثة.
الثقافة العالمية: وجهة النظر المتشكِّكة
وعلى العكس من كل من الرؤيتين اليوطوبية واللايوطوبية للثقافة العالمية، هناك قدر ملحوظ من التشكك في العديد من الدوائر حول أي نوع من الثقافات العالمية الناشئة. ويمكن التمييز بين هذا التشكك وبين الانتقادات الأكثر تحديداً التي طرحتها لسيناريو المجانسة. ويكمن أحد مصادرها، ببساطة، في التقييم "الواقعي" الهادئ للعالم المُقسَّم بصورة واضحة إلى حد ما الذي نراه حولنا في نهاية القرن العشرين. وفي النهاية، فإن أي من متحمسي القرن التاسع عشر لم يقترب بأي شكل من الأشكال من مشاهدة رؤيتهم للوحدة العالمية وقد تحققت، كما أن السجل التاريخي للقرن العشرين ككل لم يكن مُشجِّعاً. وإذا أسقطنا من حساباتنا الاحتمالات الخاصة بذلك النوع من الثورة "التاريخية-العالمية" التي تطلّع إليها ماركس،
صفحة (98)
والتحول المفاجئ والفوري لجميع الأشياء، فقد نكون مضطرين للعودة إلى التأمل المتزن في ، والاستقراء من، هذا العالم البعيد للغاية عن أن يكون موحداً والذي نراه حولنا. ويعتبر ذلك الوعد الذي اختفى على الفور والخاص "بالنظام العالمي الجديد" في أعقاب انتهاء الحرب الباردة ، مصدرا هاما للتشكك الثقافي- العالمي الحالي. وليس الأمر أننا نرى انتشاراً في العداءات القومية، والدينية، والعرقية في العديد من أجزاء العالم فحسب، بل يبدو أن مواصلة كل من فرنسا والصين لإجراء التجارب على الأسلحة النووية في عام 1995 يرمز لإدراك واسع يقول بأننا لم نقترب بشكل كبير من عالم أكثر أماناً، ناهيك عن كونه عالما موحَّدا. وقد احتفلت الأمم المتحدة بالذكرى السنوية الخمسين لإنشائها في سبتمبر من عام 1995 على خلفية من الانتقادات لافتقارها للتأثير في تدخلاتها في الحروب، كما حدث على سبيل المثال في الصومال أو البوسنة، بالإضافة إلى الحديث عن وجود أزمة في إدارتها المالية والمؤسساتية. ولا يشجع أي من هذا على التفاؤل الثقافي أو السياسي.
لكن، ومن الناحية الأخرى، فقد اتسم العالم خلال عقد التسعينيات أيضاً بمجموعة من "الثورات" التكنولوجية والتي تضاهي تلك التي ألهمت الرؤى الخاصة بمفكري القرن التاسع عشر. وفي الواقع فإن التوقع الشعبي للعجائب التكنولوجية دائمة التجدد، وخاصة في مجالات الاتصالات، والحوسبة وتكنولوجيا المعلومات، يبدو الآن أحد الجوانب الهامة لنسيج الثقافة الحديثة. وتتواجد مثل هذه "النزعة اليوطوبية التكنولوجية" الحديثة في أوضح صورها في الخطاب الذي يحيط " بالطريق العالمي السريع للمعلومات" الذي وعد به سياسيون مثل نائب الرئيس الأمريكي [الأسبق] آل غور: "تتوافر لدينا الآن الإنجازات التكنولوجية والوسائل الاقتصادية التي يمكنها التقريب بين كافة المجتمعات في العالم "(تم الاستشهاد بها في Schiller 1995: 17). وليست هذه ببساطة هي "الرؤية" المألوفة التي يتم توجيه أصوات السياسيين نحوها، ولا توقع المستقبل دائم التفاؤل الذي تتسم به إعلانات الشركات: "المستقبل مشرق، المستقبل برتقالي اللون". من الواضح أن هناك شيئاً آخر يجري هنا، حيث يقوم رجال الأعمال المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات من أمثال بيل غيتس Gates رئيس شركة مايكروسوفت، والذين أصبح يتم نشر مقالات يومية لهم في العديد من الصحف اليومية، بتأليف كتب "تنظيرية" حول الإمكانية التحويلية التي تتمتع بها تقنياتهم (Gates 1995) ويقومون بشراء كافة الحقوق "الافتراضية" للمجموعات الفنية القومية الكاملة. ومهما كانت درجة تشككنا في هذا كله، إلا أنه لا يمكن فهمه كلية على أنه مجرد هوس العظمة المألوف الذي تتسم به رأسمالية الشركات. كما أنه من غير الممكن أيضاً في حالة المجلات شبه المهووسة بالتحمس للتكنولوجيا ، مثل مجلة وايرد Wired المشهورة بأنها دشنت طبعتها الأولى في المملكة المتحدة بمقتطف لتوماس باين Paine والذي يقول: "بإمكاننا الآن أن نبدأ العالم من جديد". والشيء المثير للاهتمام فيما يتعلق بمثل هذه النصوص هو الحس الاستثنائي بالتفاؤل الثقافي "الافتراضي" الذي تتمكن من توليده في وجه بعض "الحقائق" العالمية القاتمة. فقد ذكرت المقالة الافتتاحية الأولي للنسخة البريطانية من مجلة وايرد:
صفحة (99)
لقد حان الوقت أخيراً لاحتضان المستقبل بتفاؤل مرة أخرى مدركين لأن هذه الثورة الحتمية والسلمية ليست مشكلة، بل إنها فرصة لبناء حضارة جديدة أفضل لأنفسنا ولأبنائنا. والتوجيه الأول الذي نوجهه لكتّابنا هو: أبهرونا؛ وتوجيهنا الثاني هو: قدموا تقارير من المستقبل عما هو آت - عن العمل خارج أماكن العمل، وعن أسواق بدون أرباب عمل أو ملاك، وعن ترفيه يتخطى حدود وسائل الإعلام، وعن عقلية مدنية تتجاوز الحكومة، وعن مجتمع يتجاوز حدود المناطق المجاورة، وعن وعي يمتد ليشمل العالم بأسره. (Wired, 1 January 1995: 13)
وبطبيعة الحال، فإنه من المغري القيام برفض هذا الحماس باعتباره ساذجا وغير نقدي - وهذا هو حاله فعلاً ببعض المعاني. ومن المرجح أيضاً أنه من الصحيح أن مركز ثقل الطموح الثقافي الشعبي – أي التوقعات التي يمتلكها معظم الأشخاص العاديين فيما يتعلق بالتأثير المحوّل لمثل هذه التقنيات- يقع بعيداً جداً عما هو تخيلي أو يوطوبي، حيث ينظر إليها على أنها مصادر للملاءمة الاجتماعية المتزايدة أو أشكال جديدة من الترفيه. وعلى أية حال، فمن الواضح بنفس القدر أننا لا نستطيع تجاهل الإمكانية التحويلية الهائلة لهذه التقنيات المُعولِمة – أي الطريقة التي تقوم الآن بتغيير حياتنا بها بشكل درامي.
كيف يمكننا فهم هذه النزعات المتناقضة؟ وقد تكون إحدى الطرق المُغرِية لتأطير مسألة الثقافة العالمية في نهاية القرن العشرين هي القول بأنها قضية ذات توقيت سيء للغاية: تقاطع الإمكانية التقنية الظاهرة مع تراجع في الثقة الثقافية-السياسية. لكن من الواضح أن هذه الإجابة مرتجلة للغاية. وبدلاً من ذلك، فإننا نحتاج إلى النظر إلى مثل هذه التناقضات على أنها تصل إلى قلب الحداثة العالمية. وقد جادل مارشال بيرمان، على سبيل المثال، بأننا ببساطة لم نكن جيدين للغاية خلال القرن العشرين في التعامل مع مثل هذه التناقضات وأوجه الالتباس. ومقارنة بمفكِّري القرن التاسع عشر - الذين " كانوا متحمسين ومعادين للحياة الحديثة في آن واحد، وكانوا يتصارعون مع أوجه الالتباس والتناقضات التي تكتنفها" (Berman 1983:24)- فإن إجابتنا تميل نحو التقاطبات التامة لكل من الاحتفائي celebratory أو الرؤيوي . وبموجب على هذا التفسير، فإن المسافة بين كارل ماركس وبيل غيتس هي (من بين أشياء أخرى!) قدرتهما الشخصية على فهم الديالكتيك الذي تنطوي عليه التضمينات الثقافية والاجتماعية للتكنولوجيا. وعلى أية حال، فمثل النقاشات ليست مقنعة بصورة كاملة. ويبدو لي أن العالم أكثر تعقيداً بصدق في نهاية القرن العشرين عما كان عليه الحال في نهاية القرن الذي سبقه ، كما يواجهنا ببعض المعضلات السياسية والثقافية والأخلاقية الأكثر صعوبة من تلك التي اضطر ماركس (أو حتى نيتشه) للتعامل معها. ولكنهذه المُعضِلات ، وهو الأمر الأهم ، ليست مقتصرة على المفكرين: حيث أنه مع الانعكاسية المتزايدة دوما للحياة الاجتماعية الحديثة، أصبحت هذه المعضلات تشكل الآن جزءاً من الحياة اليومية لعدد من الأشخاص العاديين أكبر بكثير من أي وقت مضى.
صفحة (100)
ومن خلال العيش مع أوجه الالتباس المتضمَّنة، على سبيل المثال، في الاستخدام الروتيني لتقنيات الاتصال المُعولِمة الجديدة، يخامرني شعور بأننا جميعاً نقوم بتطوير استجابات معقدة ومُميَّزة حتى إذا لم يكن يتم التعبير عنها دائماً بهذه الطريقة.
وهكذا، فإن التعقيد ذاته الخاص بالتجربة الثقافية المباشرة والمتواسطة، المتماسفة والمحلية في هذه الحقبة العالية الحداثة- والشكوك المتعلقة بالهوية والقيم التي ينتجها ذلك- هو أحد الطرق العامة لتفسير الميول المتقابلة نحو الأحدية unicity والتفتت fragmentation. لكننا نستطيع أن نمضي بهذه المناظرة لما هو أبعد من ذلك من خلال التدبّر المتعمق لأحد المصادر الرئيسية للتشكك المعاصر في إمكانية ثمة ثقافة عالمية ناشئة: والذي يتمثل في الهيمنة التي تمتلكها الهوية القومية على تصوّرنا الثقافي.
البُعد العالمي من منظور البُعد القومي
يتمثل أحد المواقف الشكوكية التي تم التعبير عنها بشكل مميز للغاية في المناقشات الحالية لاحتمالات نشوء ثقافة عالمية ، في ذلك الخاص بأنتوني سميث (Smith 1990, 1991, 1995)، وهو عالم اجتماع حظي بشهرة واسعة بسبب كتاباته التي تدور حول النزعة العرقية ethnicity والثقافات القومية. ويضع سميث في القلب من مناقشته صورة لذلك النوع من الثقافة "الكوزموبوليتانية" العالمية التي يقول أنه بوسعنا استقراءها من تنامي التقنيات الجديدة المتعلقة بالكمبيوتر، والمعلومات، والاتصالات ، من ناحية، ومن "التجربة الغربية الخاصة بثقافات ما بعد الحداثة" ، من الناحية الأخرى:
إن الثقافة العالمية ..... ستتكون من عدد من العناصر المنفصلة تحليلياً: والتي تتمثل في سلع يتم إنتاجها على نطاق واسع ويتم الإعلان عنها بشكل فعال، ومزيج من الأنماط العرقية أو الشعبية وموضوعات motifs مجردة من سياقها، وبعض الخطابات الأيديولوجية العامة المعنية "بالحقوق والقيم الإنسانية"، ولغة كمية و"علمية" مقيّسة للتواصل والتقدير، تدعمها جميعا أنظمة الاتصالات اللاسلكية ونظم المعلومات الجديدة وتقنياتها المحوسبة.(Smith 1931: 157)
من الواضح أن سميث لا يمهد جيدا للصورة التي يرسمها، فيمضي لوصف هذه الثقافة العالمية المحتملة بأنها "مصطنعة جوهريا"، وأنها "ضحلة"، وأنها "نزوية وتهكمية"، وأنها "مائعة ولا شكل لها"، وأنها "تفتقر إلى أية التزامات عاطفية تجاه ما ترمز إليه". ويبدو أن أحد الأسباب وراء هذه النظرة السلبية يتمثل في قيام سميث بالدمج بين مقولة "ما بعد الحديث" مع تلك الخاصة بأية ثقافة عالمية محتملة متواسطة من خلال الاتصالات. ولكن إذا قمنا بفصل كراهيته للمعارضة pastiche واللهوجة bricolage اللذين ارتبطت بهما ثقافة ما بعد الحداثة، وتشككه في العقلانية التكنولوجية - "الكمِّية والمقيّسة"- المصاحبة،
صفحة (101)
فستتبقى لنا شكوكية أكثر تركيزاً حول الاحتمالات العامة لظهور ثقافة عالمية. ويمكن تلخيص هذا في التهم ذات الصلة والتي تقول بأن الثقافة العالمية هي بالضرورة ثقافة "مشيّدة" constructed وهذا يعني أنها غير تاريخية، وسرمدية ، و "لا ذاكرة" لها.
ويمكن ملاحظة شيء مما يعنيه بنعت هذه الثقافة "بالمشيدة" في الوصف الذي يقدمه لمحتوياتها. فلا يوجد في الحقيقة ما يربط الملامح التي يصفها - مثل الترويج العالمي للسلع الاستهلاكية والخطاب المُتعلِّق بالحقوق والقيم العامة- سوى أنها قضايا عالمية يبدو أنها تتواجد بصورة متزامنة. وبالتالي فهناك ثمة معنى هنا يقول بأن الثقافة العالمية يجب أن تكون مُشيّدة عن قصد من الملامح المنفصلة المتنوعة لعملية العولمة ومن نتائجها، ومع هذا فلا يوجد في الواقع ما يربط بينها كتجربة ثقافية متكاملة مشتركة. وتتعلق الشكوكية التي يمكن تفهُّمها هنا باحتمالية تصنيع "ثقافة" تتزامن مع المظاهر المتنوعة لعملية العولمة.
ولكن، وكما استدرك سميث بسرعة، فهناك معنى هام تعتبر الثقافات القومية وفقاً له مصطنعة هي الأخرى- أي "مجتمعات متخيَّلة": "لقد تم "بناء" الدول و"صياغتها" من قِبَل طبقات النخبة أو أهل الفكر أو الرأسماليين في الدولة، وكما هو الحال في الكِلْتية (التنورة: kilt) الاسكتلندية أو مراسم التتويج البريطانية، فإنها مُركَّبة من العديد من "التقاليد المفتعلة" ..." (Smith 1990: 177). وفي ضوء هذا، فإنه يُسلِّم بأن الحاجة إلى تشييد ثقافة عالمية، "مع الحاجة إلى المؤسسات السياسية والاقتصادية العالمية"، لا يجب أن تكون مفاجئة. وهناك، على الرغم من ذلك، اختلاف جوهري بالنسبة له بين البنى الثقافية المكتنفة في مشروعات بناء الأمم وبين تلك التي يربط بينها وبين الفكرة المتعلقة بوجود ثقافة عالمية. وبالنسبة لكل تلك الأشياء المصطنعة، يجادل سميث بأن الثقافات القومية تظل بعناد "محددة، ومقيدة بالزمن، ومُعبِّرة". وهو يعني بهذا أن البناء المتعمَّد للهوية القومية كان بالضرورة متطفلاً على المعاني الأعمق للهوية الجماعية، والتي يتشاركها الناس الذين يتواجدون في موقع بعينه، والتي تتضمن "المشاعر والقيم المتعلقة بثمة مفهوم للاستمرارية، والذكريات المشتركة، وبمعني متعلق بالمصير المشترك" (1990:179). وهذه الارتباطات -التي يربطها سميث بالهوية العرقية لفترة ما قبل الحداثة، أي "التاريخ العرقي للمجتمع"- هي "الجوهر" الذاتي الذي يعتقد أن البناء الهادف purposive للهويات القومية الحديثة يمكنه التوسع فيه.
وبالنظر إلى هذه النظرة لطبيعة الهوية الجمعية collective identity ، فإن شكوك سميث فيما يتعلق باحتمالات تواجد هوية ثقافية عالمية ناشئة تتبلور في الحجة القائلة بأن الثقافة العالمية تفتقر بالضرورة إلى المكونات الحيوية للتجربة التاريخية المشتركة،
صفحة (102)
وإلى الإحساس بالتواصل الزمني، وبشكل حاسم إلى الذكريات المشتركة. ويجادل بأنه لا توجد "ذكريات عالمية" world memories ، أو على الأقل أن تلك المتبقية -من الاستعمار والحروب العالمية- من غير المرجح أن تؤدي إلى خلق مشاعر من الوحدة العالمية. ويستنتج من ذلك أن "مشروع الثقافة العالمية، على العكس من الاتصالات العالمية، يجب أن يظهر على أنه أتى قبل أوانه premature " (1990:180). وباعتبار أنه يتبنى مثل هذه النظرة المبهمة للطبيعة الصنعية للإنتاج الثقافي "لما بعد الحداثة"، فقد يبدو هذا كما لو كان أمراً لا سوء فيه. لكنه لا يُقرّ بأنه، من منظور الأمن العالمي والمُثل العليا الخاصة بالتعايش الثقافي والتبادلية mutuality، يُعدّ التأكيد المتواصل- والذي غالباً ما يتسم بالعدوانية- على الانقسام الثقافي القومي-العرقي الذي يتضمنه هذا هو "نتيجة مُحزنة".
تتسم حجج سميث بكونها مقنعة إلى حد ما. حيث أنه محقّ على وجه الخصوص في التأكيد على الجانب الضروري الخاص بالمشاركة الشعبية في أي هوية ثقافية، والتي تُفلِت عناصرها من المشاريع المصطنعة الرسمية (التي تقوم الدولة بها)، وعلى حقيقة أن الصور والتقاليد الثقافية "لا تتنزل على الشعوب السلبية والخرساء، ومن ثم تقوم بنقش نفسها على صفحات عقولهم البيضاء tabula rasa " (1990:179). وهذا الإقرار بالقوة الثقافية الانعكاسية، كما رأينا، يمثل أيضاً منظورا نقديا هاما، والذي يمكن من خلاله رؤية المزاعم المتشائمة حول الهيمنة الثقافية العالمية. ومن الصعب أيضاً أن نتمادى في الانشقاق عن المقارنة التي يرسمها بين الفترة الطويلة التي يستغرقها تأسيس الهويات الوطنية وبين فكرة الهوية العالمية كبناء مباشر ولحظي. وبالنظر إلى كل هذا، فإن الأشكال الرمزية للثقافة القومية كانت بصورة جزئية عبارة عن مشروعات متعمَّدة، ومن المؤكد أنه مصيب في التأكيد على الدور الذي لعبه الزمن والذاكرة الشعبية في "ترسيخها".
لكن هناك، على أية حال، شكوكية أكثر عمومية متضمنة في رؤيته هذه، والمتعلقة بالطريقة التي قد يعمل بها وجود الثقافات القومية ذاته على منع نشوء ثقافة عالمية. وكما يُقرّ سميث، فإنه لا يوجد ما هو حصري بالضرورة فيما يتعلق بعمليات تحديد الهوية الثقافية، حيث أنه من المألوف في الواقع بالنسبة للناس أن يكونوا، على سبيل المثال، "من اليوربا، نيجيريين، وأفارقة في دوائر متحدة المركز للانتماء والهوية" (1991: 175, cf. Tomlinson 1991: 78). وبالتالي، فربما لا يوجد ما يمنع مجموعة الهويات الخاصة بالمرء من أن تقوم أيضاً، وبصورة مريحة، باعتناق الهوية العالمية. لكنه يزعم، على الرغم من ذلك، بأن الهوية القومية تتمتع بقوة خاصة مقارنة بصور الهوية الأخرى، "حيث أنها توفر الرؤية الواحدة والأساس المنطقي للتضامن السياسي اليوم، وهي هوية تحظى بالدعم الشعبيّ وتستثير الحماس الجماهيري. بينما تبدو جميع الرؤي والأسس المنطقية الأخرى باهتة ومبهمة بالمقارنة مع تلك الرؤية. حيث أنها لا تقدم أي حسّ بالاختيار election ، أو أي تاريخ فريد، أو أي مصير خاص" (Smith 1991: 176) . وقد تم إعداد هذه المناقشة لدعم الحجة الخاصة بمرونة وأهمية الهويات الثقافية القومية في ظل عالم مُعولَم،
صفحة (103)
وهي الفكرة التي سيكون من الحماقة، بصفة عامة، أن نعارضها. لكن النتيجة الطبيعية ستتمثل في أن الفكرة القائلة بأن الوجود المستمر للهويات القومية يمنع ظهور هوية كوزموبوليتانية عالمية، ولو اقتصر ذلك على الطريقة التي تستحوذ بها على المُخيِّلة الثقافية للناس إلى حد تعريف آفاقها. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يمكن القول بأن جميع المؤلفات الأيديولوجية-الثقافية التي تقوم بوضعها الدول القومية في خلال إنشائها ومحافظتها على عمليات تحديد الهوية القومية، والتي لا يمكن مقارنتها بأية بنى رمزية مقصودة حول وجود وطن عالمي للجنس البشري. وإذا كانت رؤى التضامن العالمي تبدو "باهتة ومبهمة"، فمن الممكن القول بأن السبب الرئيسي وراء ذلك يكمن في أنها لم تقطع سوى شوطا ضئيلا في سبيلها لتصبح راعيا مؤسسيا institutional sponsor. وبطبيعة الحال، فإن الأمم المتحدة وجميع الهيئات الفرعية التابعة لها التي تتوارد إلى الذهن بهذا الخصوص هي بشكل أساسي منظمات دولية لتمييزها عن الهيئات العالمية، والتي تعتمد في وجودها على البنية المستمرة لنظام الدولة القومية. وبالتالي، فبرغم أن اللغة المنمَّقة الخاصة بالوحدة العالمية هي ما يوجِّه خطاب الأمم المتحدة، إلا أن هذا دائماً ما يكون متوازناً بصورة غير مستقرة في مقابل الحاجة للتأكيد على المبادئ الخاصة بالسيادة القومية والاختلاف الثقافي (Schlesinger 1991; Tomlinson 1991). وهكذا، فمن الممكن تفسير أوجه الاهتمام بثمة هوية ثقافية قومية مقابل تلك العالمية، على أنها لعبة محتملة "لا ربح فيها ولا خسارة". وعند النظر إليها بهذه الطريقة، يبدو من غير المرجَّح أن كثيرا من الجهد الجاد لبناء هوية عالمية سيأتي قريبا من القواعد المؤسسية الدولية الموجودة حالياً. وهكذا، فعند النظر عليها على مستوى المؤسسات السياسية وتنسيقها الماهر للارتباط الثقافي (وكذلك من وجهة النظر التاريخية العرقية)، فإن احتمالات ظهور ثقافة عالمية ستبدو مظلمة مرة أخرى. ولذلك، فإنه يبدو أن شكوكية سميث لها ما يبررها.
وهناك، على أية حال، بعض التعديلات qualifications المهمة التي يجب القيام بها، ويتصل أهمها باستراتيجيته النقدية المحورية. لأن ما يلهم شكوكية سميث بأكملها هو، بطبيعة الحال، المقارنة التي يعقدها بين خبرتنا الحالية بالثقافات القومية وبين احتمالات نشوء ثقافة عالمية. ويبدو ذلك الآن، عند مستوى معين، كاستراتيجية من المعقول تماماً أن نتبناها، لكنها تقوم بتحويل النقاش نحو نموذج محدد من الهوية الجمعية، وهو أحد أنماط التصوّر الثقافي. وقد نوافق على أن الثقافات القومية تقع ضمن إطار تاريخي، وأنها مقيدة زمنيا، ومحددة، وما إلى ذلك. لكن هذه الحقيقة ليست كافية في حد ذاتها لتقويض احتمالية ظهور أي نوع من تحديد الهوية الثقافية العالمية، ولكن فقط ذلك الذي يتبع نمط الدولة القومية. وما تتعلق به شكوكية سميث في الحقيقة هو ظهور ثقافة عالمية باعتبارها "ثقافة الدولة القومية على نطاق أوسع"، إذا استعرنا تعبير مايك فيذرستون (Featherstone 1993: 173). وهذا شيء يمكننا أن نتفق معه بسهولة. ولا يبدو أن العولمة مهيأة للإيذان بظهور ثقافة عالمية واحدة على غرار الثقافات القومية المُعيَّنة،
صفحة (104)
والمُحددة تاريخياً. ولكن بمجرد أن نُسلِّم بهذه الخصوصية specificity ، فقد تبدأ في الظهور طرق أخرى للتفكير في فكرة الهوية الثقافية العالمية.
ما وراء "الدَّولانيّة التضمينية"
هناك في الحقيقة مبرر جيد للنظر فيما وراء هذا الجذب التوحيدي centripetal الذي تمارسه الدولة القومية وثقافتها. وعلى العكس من جميع النقاشات التي تتخذ مرونة الهويات القومية كنقطة مرجعية لها، هناك نقاشات وحجج أخرى تشير إلى أننا لا يجب أن نسمح لظل الدولة القومية بأن يحجب كل شيء.
ويمكننا، في المقام الأول، أن نضع النفوذ الذي تمارسه الدولة القومية على التصورات الثقافية في إطار حدود المناظرة الأوسع حول الصياغات المفاهيمية "المتمركزة حول الدولة" state-centric في العلوم الاجتماعية بصورة أكثر عمومية. وعلى سبيل المثال، فقد انتقد الجغرافي بيتر تايلور مؤخراً ما أسماه "الدولانية التضمينية" التي يزعم أنها تميّز العلوم الاجتماعية السائدة، وأنها نتيجة ذلك تسببت في "إضفاء الصفة القومية على المعرفة الاجتماعية". أي أنه: "من منظور علم الوجود ontology الذي انبنت عليه العلوم الاجتماعية ، فإن المكانية spatiality الرئيسية كانت تتمثل في الأقاليم الخاضعة لسيادة الأمم، والتي تعرِّف بصورة جماعية الفسيفساء الذي يشكل الخريطة السياسية للعالم" (Taylor 1996: 1919). ويجادل تايلور بأن مجالات مثل علم الاجتماع، والعلوم السياسية، وعلم الاقتصاد، كانت عاجزة حتى وقت قريب عن إدراك (وبصورة أقل كثيراً، التشكيك في) المدى الذي تعد فيه بالفعل "مخلوقات للدول"، لكونها تدين بمفاهيمها لكل من الأبعاد "الاجتماعية" و"السياسية" و"الاقتصادية" إلى تركيبة تاريخية معينة والتي صاحبت ظهورها قرب نهاية القرن التاسع عشر.
والنتيجة المحورية "للدولانية التضمينية" في العلوم الاجتماعية التي يتعرف عليها تايلور هي الطريقة التي أدي بها تقبُّلها دون تساؤل لشكل ما من المكانية إلى تهميش المفاهيم المكانية البديلة المتعلقة بالعالم الاجتماعي. وهذه هي النقطة التي تكتسب حجته عندها أهمية خاصة بالنسبة لمناقشتنا، حيث أنه يطرح الفكرة القائلة بأن العلاقة التكافلية بين الدولة "كوعاء سياسي للسلطة" وبين الأمة كمصدر للهوية الثقافية (نظرا لامتلاكها لجوهر عرقي أصلي مفترض) يكون من نتيجتها "تطبيع" 'naturalizing' الدولة القومية بحيث يتم النظر إليها بنفس الطريقة تقريباً التي يتم النظر بها إلى الملامح المكانية "الطبيعية" مثل "الأنهار، وسلاسل الجبال، والخطوط الساحلية". وهكذا، فبالنظر إلى كون الدول "طبيعية"، فإنها تقوم بمنع جميع العوالم الاجتماعية الأخرى، وكذلك مكانية spatiality السيادة القومية المفتتة، من ترسيخ جذورها في المجتمع الحديث" (1996: 1920). وتضمينات هذا بالنسبة للتصورات الثقافية المقيدة للهوية الإقليمية فيما وراء الدولة القومية واضحة.
لكن تايلور يجادل، على أية حال، بأن تأثير العولمة آخذ الآن
صفحة (105)
في تقويض مصداقية هذه المعتقدات التقليدية العلمية-الاجتماعية وأن هناك "بدعة جديدة" آخذة في الظهور في جميع أنواع البحث العابرة للمجالات المعرفية - بما فيها الدراسات الثقافية- والتي "بدأت تنفتح على مساحات جديدة" (1996:1928).
ويمكننا تناول الطرق البديلة للتفكير في الثقافة المُعولَمة، والتي لا تبقينا بصورة مستمرة في الظل الذي تلقي به الثقافات القومية، ضمن هذا السياق الواسع. ونحتاج إلى التفكير في تلك العوامل ذات الصلة بعملية العولمة، والتي تقلل أو بدلاً من ذلك تهدد الهيمنة التي يمكن أن تمارسها الدولة على المخيلة الثقافية لشعبها. وتتضمن هذه العوامل تأثير ما يمكن أن نطلق عليه اسم "صناعة الثقافة" العالمية -أي "السلع المتجّرة التي يتم إنتاجها على نطاق واسع" commercialized mass commodities والتي يستخف بها سميث كثيراً- ولكن بطريقة أكثر تعقيداً إلى حد ما من ذلك الذي أقرّ به. فبدلاً من النظر إلى السلع الثقافية على أنها مجرد صور لمجانسة وتقييس عالمي مؤسف، يمكننا أن ندرك الطريقة التي يُسهِم بها استخدامها في التجربة العامة "للا تضمين الثقافي" cultural disembedding - أو، كما سأصفه في الفصل التالي، "اللاتوطين"- والمميّز للمجتمعات الحديثة. ويشتمل هذا المعنى للاتوطين deterritorialization على العديد من الجوانب الأخرى للتجربة الدنيوية – أي استخدامنا اليومي لتقنيات الإعلام والاتصال المُعولِمة، والاعتماديات "العابرة للحدود القومية" التي قد تكون لدى الناس فيما يتعلق بتوظيفهم (العمل لحساب شركة متعددة الجنسيات يقع مقرها في الخارج)، والإحساس المتزايد بأن الدول القومية ، بسبب العمليات المُعولِمة، لم تعد قادرة على أن "تفعل ما يتوقع منها" لمواطينها بالمفهوم الاقتصادي (توظيف الجميع، وجعل أسعار الفائدة وقيمة العملة مستقرَّة) أو من منظور التحكم في جودة البيئة المادية.
وبرغم الخطورة التي ينطوي عليها هذا، والمُتمثِّلة في المعالجة التي تتسم بالتفصيل المُفرِط للفكرة، فإنه لا يوجد هنا سوى القليل مما يساند الفكرة القائلة بأن ثمة ثقافة عالمية مُوحَّدة بأي معنى تقليدي توشك على الظهور. وفيما يتعلق بهذه الفكرة على الأقل، يتوافق التحليل الحالي بشكل كبير مع موقف سميث المُتشكِك. وكذلك فإنه لا توجد لديّ رغبة أيضاً في إنكار أنه من المرجَّح أن تبقى الثقافات القومية أقطابا بالغة الأهمية في تحديد الهوية الثقافية في المستقبل المنظور. لكنني أعتقد، على أية حال، بأنه من المؤكد أن نمط تحديد الهوية والتجربة الثقافيين سيتأثر بالعلاقات المتبادلة المتعددة الأشكال والمُعقَّدة وبالاختراقات، والتحولات الثقافية المفاجئة التي تُميِّز العولمة في مرحلتنا الحالية من الحداثة. وما ينشأ في خِضَّم هذه العملية لا يقتصر على مجرد مواقف مختلفة وأكثر تعقيداً للهويَّة، ولكنه يشتمل أيضاً على أنماط مختلفة من تحديد الهوية الثقافية. وما سننتقل إليه الآن هو تلك المكونات المعقَّدة لما يمكن أن نسمِّيه بثقافة مُعولَمة غير مُتوطِّنة، وليس لتلك الصورة التَخيُّلية المتناغمة لثمة ثقافة عالمية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الرابع: اللاتوطين: الحالة الثقافية للعولمة
صفحة (106) الفصل الرابع اللاتوطين: الحالة الثقافية للعولمة
تناولنا في الفصل السابق المعنى الضمني الأكثر "وضوحاً" لكنه، كما تبين، الأقل معقولية في الظاهر للعولمة بالنسبة للتغير الثقافي – أي المسألة، التي يتم النظر إليها إما بانتظار وترقب أو بتوجس وحذر، الخاصة باحتمالات ظهور ثمة ثقافة عالمية واحدة موحدة. ويتبنى هذا الفصل منظور أقل مباشرة إلى حد ما. وسنستكشف هنا مقولة مفاهيمية عريضة، والتي قد نفكر من خلالها في التضمينات الثقافية للعولمة. وتشتمل هذه المقولة على عدد من الجوانب المميّزة لثمة ثقافة مُعَوْلَمة globalized (لتمييزها عن تلك العالمية global) كما نعيشها في التجربة اليومية، لكنها تربط بينها وبين افتراض رئيسي هو أن العولمة تقوم بشكل أساسي بتحويل العلاقة بين الأماكن التي نسكن فيها وهوياتنا، وتجاربنا، وممارساتنا الثقافية. و"الأماكن"، كما يزعم مورلي وروبنز بصورة مستفزة ، "لم تعد تمثّل الدعامات الواضحة لهوياتنا" (Morley and Robins 1995: 87). ومن خلال استخدام مفهوم "اللاتوطين"، سنحاول فهم لماذا قد يكون هذا كذلك.
مفهوم اللاتوطين
لقد استخدم العديد من المُنَظِّرين مصطلح اللاتوطين deterritorialization فيما يتعلق بالعمليات المُعَوْلِمة (e.g. Appadurai 1990; Garcia Canclini 1995; Mlinar 1992; Lull 1995; Featherstone 1995; Mattelart 1994; Morley and Robins 1995; Latouche 1996) في حين فَضَّل آخرون مصطلحات ذات صلة مثل "delocalization" (Thompson 1995) أو "displacement" (Giddens 1990) لفهم جوانب هذه العملية. وبرغم وجود العديد من الاختلافات التأكيدية بين هذه الاستخدامات(1)، إلا أنني أعتقد أنه من الممكن تحديد معنى عاما لهذا المعنى للمصطلح، والذي يمكن أن يساعدنا في فهم التحولات الواسعة التي حدثت في العلاقة بين الثقافة والمكان في سياق الحداثة العالمية.
صفحة (107)
ولذلك أرغب في استخدام مصطلح "اللاتوطين" بهذه الطريقة البالغة العمومية، والشمولية، لفهم ما يطلق عليه جارسيا كانكليني اسم ' فقدان العلاقة "الطبيعية" بين الثقافة والأقاليم الجغرافية والاجتماعية' (Canclini 1995: 229). ولتناول هذا أريد العودة، بشكل موجز، إلى وصف جيدنز لتضمينات التماسف واللاتضمين disembedding المكاني- الزماني بالنسبة لتجربتنا المكانية.
وكما رأينا في الفصل الثاني، فإن أحد الجوانب الرئيسية لحجة جيدنز هو أن الحداثة تُحرر العلاقات الاجتماعية من تقييدات التفاعلات المباشرة (وجهاً لوجه) التي كانت موجودة في النواحي المحلية لمجتمعات ما قبل الحداثة، مما يسمح بتمديد stretching العلاقات عبر الزمان والمكان وهو ما يمثل، بالنسبة له، جوهر العولمة. لكن اللاتضمين المكتنف هنا لا يعني ، بطبيعة الحال، أن الأشخاص لم يعودوا يعيشوا حياتهم في نواح محلية "حقيقية". ولذلك فمن منظور التجربة الثقافية، فإن ما يصبح مهما هو الطريقة التي يؤثر بها هذا التمديد للعلاقات الاجتماعية على طبيعة النواحي المحلية التي نسكن فيها نموذجيا. وكما سنستذكر من المناقشة السابقة، فإن جيدنز يدرك هذا التحول من خلال وصف الأماكن الحديثة بأنها "تخيلاتية" بصورة متزايدة. كما أن الطبيعة المألوفة والمريحة للإطار الثقافي الذي نتحرك بشكل روتيني عبره تُخفِي التأثيرات الخاصة بالقوى والعمليات الاجتماعية البعيدة.
لكنه، على أية حال، يعارض الزعم المألوف بأن الحداثة تعني فقدان عوامل الطمأنة والراحة الوجودية الخاصة بالتجربة الجماعية المحلية في مواجهة القوى الاجتماعية "المجردة" بشكل متزايد التي تشكّل حياتنا. وبدلاً من ذلك، فهو يقول بأننا نحتفظ في حياتنا اليومية بشعور من الألفة familiarity مع الأطر المحلية، لكن هذه الألفة لم تعد تنبع من "خصوصيات المكان الذي تحوّل إلى محلي". فقد يكون الناس لا يزالون "في الديار" في نواحيهم المحلية، لكنهم عند مستوى ما يدركون أن هذه هي أماكن "تخيلاتية" phantasmagoric ، والتي غالباً ما تكون الملامح المألوفة فيها غير مقتصرة على هذه الناحية المحلية وحدها، ولا تمثل جزءا من "تطوره العضوي" ولكنها، بدلاً من ذلك، ملامح تم "وضعها في" الناحية المحلية من قِبَل القوى المتماسفة:
إن مركز التسوق المحلي هو محيط milieu يتم فيه تعزيز ثمة شعور بالارتياح والأمن بفعل تصميم المباني والتخطيط المعتني للأماكن العامة. لكن جميع من يتسوقون هناك يدركون أن معظم المتاجر تابعة لمؤسسات متعددة الفروع، والتي يمكن أن يجدها الواحد منا في أي مدينة، وأن هناك بالفعل عدد لا حصر له من مراكز التسوق ذات التصميم المشابه في أماكن أخرى. (1990:141)
ولهذا فإن تجربة "التهجير" displacement في العصر الحديث ليست تجربة متعلقة بالاغتراب alienation، بل بالتناقض. فالناس "يمتلكون" أماكنهم المحلية فينومينولوجياً بنوع من المعنى الشَرطي provisional ، مدركين عند مستوى ما،
صفحة (108)
للقوى الغائبة التي تشكل هذه الملكية. وبطبيعة الحال، يتعلق هذا الإدراك بحقيقة الانحسار المتزايد للملكية المحلية من المساحات العامة بمعنى مادي مباشر يرتبط بعولمة رأس المال. وخلال العقود الأربعة الأخيرة ، اختفت إلى حد كبير متاجر التجزئة الصغيرة - المعروفة باسم "متاجر الناصية" corner shops - المُدَارة من قبل الأُسَر المحلية، والتي كانت في وقت من الأوقات منتشرة في كل مكان بالمملكة المتحدة، وكذلك في العديد من الدول الأوروبية ، وحلت محلها الأسواق المركزية (السوبر ماركت) (2) بالإضافة إلى سلاسل متاجر "الشارع الرئيسي" high street التي تشتمل تسميتها على مفارقة تاريخية، والتي تقع في المناطق التجارية. وتظهر وتختفي تلك المحلات الموجودة في "المركز التجاري" mall - والذي هو نفسه عبارة عن حيز عام / خاص متسم بالتناقض لم يكن معروفاً في المملكة المتحدة قبل الستينيات- بناء على أوامر قُوَى السوق العالمية، وليس في المقام الأول كتعبير عن الرغبة المحلية، باستثناء ما يتعلق بالإجراءات الشكلية لأحكام التخطيط.
لكن هذا ليس مجرد نقاش حول التحول الذي طرأ على الأماكن المشتركة العامة. فكما رأينا في الفصل الثاني، يمكن المقارنة بين نواحي locales الحداثة الأكثر قرباً إلينا – أي أماكن معيشتنا الخاصة- وبين المساكن الخاصة بمجتمعات ما قبل الحداثة من حيث الدرجة النسبية "لانفتاحها على العالم"، وبصفة خاصة كنتيجة للاستخدام الروتيني لتقنيات الاتصال المنزلية. ولذلك فقد تعرضت الصلة بين تجربتنا الحياتية الدنيوية وبين موقعنا للتغيير على كافة الأصعدة. وكما عبر جيدنز عن ذلك: "إن نسيج التجربة المكانية ذاته هو في حالة تغير، حيث يُوَحِّد بين القُربْ والبُعدْ بطرق لا يوجد لها سوى عدد قليل جداً من النظائر في العصور السابقة" (Giddens 1990: 140).
وهذه هي التجربة التي سأحاول فهمها هنا عبر مقولة اللاتوطين. وهذه التجربة أساسية بالنسبة للطريقة التي نحيا بها حياتنا اليومية في المجتمعات الحديثة: حيث أنها تَمسُّ جميع جوانب ممارساتنا الدنيوية تقريباً، فقد تم إضفاء "الصبغة الطبيعية" naturalized عليها، ولم نعد نلقي لها بالاً في التدفق الروتيني للتجربة ولكنها حالة ثقافية متناقضة ومعقدة. من المهم التأكيد على هذا التناقض، ولذلك فلابد من التمييز بين حالة اللاتوطين وبين الزعم القائل بأن الحداثة العالمية، في وقتها الحالي الذي يتسم بالتعميم massifying وإضفاء النزعة المركزية centralizing، تعتبر مدمرة للنواحي المحلية الحقيقية. لكني لا أعتقد أن هذا هو الحال، برغم أن ثمة مصطلحات مشابهة لحد كبير - مثل "التهجير" displacement ، و "إزالة الصفات المحلية"de-localization - قد يبدو للوهلة الأولى أنها تشير إلى ذلك. ولعمل هذا التفريق الهام يمكننا تدبّر الفكرة القائلة بأن الحداثة تستبدل النواحي المحلية الحقيقية بما يمكن تسميته "لا- أماكن" non- places.
اللا- أماكن
قام عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه Augé بوصف "اللا- أماكن" كما يلي:
صفحة (109)
إذا أمكن تعريف مكان ما على أنه علائقي relational ، وأنه تاريخي، وأنه معني بالهوية، فإن الحيز الذي لا يمكن تعريفه على أنه علائقي ، أو تاريخي، أو معني بالهوية سيكون "لا- مكان". والعالم الذي يولد فيه الناس في العيادة ويموتون في المستشفى، والذي تنتشر فيه نقاط العبور (الترانزيت) والمساكن المؤقتة في ظل الظروف المترفة أو البائسة (سلاسل الفنادق والأراضي المغتصبة، وأندية العطلات ومخيمات اللاجئين، ومدن الأكواخ ...) والتي تنمو فيها شبكة كثيفة من وسائل المواصلات التي هي أيضاً أماكن مأهولة، وحيث يتواصل مُرْتَاد متاجر السوبرماركت، والماكينات الشَّقْبية، والبطاقات الائتمانية دون النطق بكلمة واحدة، ومن خلال الحركات، مع تجارة مجردة لا تشتمل على وسطاء، وهكذا فإن العَالَم الذي استسلم إلى فردية منعزلة، وإلى ما هو زائل ومؤقت، يقدم لعَالِمْ الأنثروبولوجيا (وللآخرين) موضوعا جديدا. (Augé 1995:78)
ويجادل أوجيه بأن الحداثة الرأسمالية المعاصرة تخلق نمطاً متميزاً من التجربة المكانية الدنيوية، والذي يصفه باسم "الحداثة الفائقة" supermodernity، التي تُعَرِّف تفاعلاتنا المتزايدة مع هذه "اللا-أماكن". وتتضمن الأمثلة التي عرضها قاعات المُغَادَرَة في المطارات، ومتاجر السوبر ماركت، والطُرُق السريعة، ومحطات خدمة السيارات، ومَاكِينات صَرفْ النقود الموجودة في نواصي الشوارع، والقطارات فائقة السرعة. وهذه النواحي المحلية الفائقة الحداثة هي، بالنسبة له، "لا- أماكن" – تفريقا لها عن تلك "الأماكن الأنثروبولوجية" التي "تخلق البُعد الاجتماعي عضويا" (Augé 1995: 94) .
وكمثال على "المكان الأنثروبولوجيّ" - وهو المكان الذي يوفر الهوية الثقافية والذاكرة، والذي يَرْبِطْ سُكْانه بتاريخ الناحية المحلية من خلال عمليات التكرار اليومية للتفاعل الاجتماعي "العضوي"- يقدم أوجيه الوصف العام التالي للأحياء المركزية في المدن الريفية الفرنسية النموذجية الصغيرة، "كما كانت تبدو أيام الجمهورية الثالثة ... المقاهي الرئيسية، والفنادق والشركات التجارية ... المتركزة في قلب المدينة، على غير مبعدة من المكان الذي يعقد فيه السوق":
على فترات منتظمة، في يوم الأحد أو يوم السوق، "يأتي المركز إلى الحياة". [إنه المكان] الذي تتقاطع فيه المسارات الفردية وتمتزج، وحيث يتم تبادل بضع كلمات قليلة ويتم نسيان حالات العزلة للحظات، على عتبات الكنيسة، وأمام دار البلدية، على طاولة المقهى أو في مدخل متجر الخبّاز: وهذا هو الإيقاع البطيء إلى حد ما والمزاج المُتَّسِم بكثرة الكلام الذي لا يزال يُمَيِّزْ صباح يوم الأحد في ريف فرنسا المعاصر (Augé 1995: 66- 7).
لا ريب في أن هذا الوصف الذي قدمه أوجيه لتلك الأماكن "الحقيقة" يشتمل على بعض مشاعر الحنين إلى الماضي، لكن الشيء المثير للاهتمام هو أنه لا يفكر فيها كجزء من عالم "الحياة التقليدية" الآخذ في الاختفاء، ولكن كَسِمَة مُمَيِّزة لفترة سابقة من الحداثة ذاتها - أو ما يسميه
صفحة (110)
الحداثة "البودليرية"Baudelairean modernity (ص. 92)، والتي لا يزال يمكننا فيها ملاحظة الصلة بين الحاضر والماضي، وبين القديم والجديد، ويتم الحفاظ على الارتباط بين المكان والذكرى والهوية من خلال التعاملات الروتينية. ولا تزال الحداثة البودليرية، كما يقول، حيَّة في فرنسا الحالية، لكنها مهددة بفعل غارات "الحداثة الفائقة". وفي هذه "اللا- أماكن"، يتم استبدال التفاعلات العضوية المتسمة "بالثرثرة" بعلامات صامتة: مثل العلامات الموجودة على وحدات العرض البصري الخاصة بماكينات الصراف الآلي- "يرجى سحب بطاقتك، شكراً لك على استخدام خدماتنا"- أو العلامات المضاءة الموجودة على الطرق السريعة - مثل "رتل من السيارات بطول كيلومترين على الطريق رقم A3".
وعلى العكس من البهجة التي يتسم بها ميدان السوق، فإن المتسوق في السوبر ماركت ينخرط في لقاء صامت ومتوحِّد مع العلامات التجارية، والتعليمات، وآلات قياس الوزن الذاتي. وحتى "الأماكن الأنثروبولوجية" الحقيقية يمكن أن تتحول إلى لا-أماكن بالنسبة للغرباء، لأن تاريخها المُعاش فعلياً يصبح "نصيا". وكمثال على هذا، نجده يصف تجربة القيادة على الطرق السريعة التي تلتف حول البلدات الريفية التي تعلن برغم ذلك عن معالمها كمواقع تراثية على اللافتات: "يُنصَح السائقون الذين يسيرون على طريق الجنوب السريع بالانتباه إلى القرية الحصينة التي تعود للقرن الثالث عشر، وحقل الكروم الشهير، و"التل الأبدي" بمدينة فيزيلاي ...." (ص. 97).
وقد تم تعريف اللا- مكان المتمثل في الطريق السريع بالنسبة لأوجيه تحديداً من خلال امتداده حول أماكن حقيقية، مع تثبيته لهذه العلامات التي تهدف إلى تسليعها commodifying. وقد تم تناول هذا الموضوع في معالجته لمحطات خدمة السيارات، التي "تتبنى دورا نشطا بشكل متزايد كمراكز للثقافة الإقليمية، من خلال بيعها لمجموعة كبيرة من السلع المحلية مع قليل من الخرائط والكتب الإرشادية". ويقصد بهذا أن ذلك اللا- مكان البديل المجهول الهوية الخاص بمحطة خدمة السيارات- والذي يرجح أنه قريب من "المكان الحقيقي" كما يدرك معظم المسافرين- هو ضرب من المحاكاة التافهة simulacrum للمكان الأنثروبولوجي. وتنطبق نفس الحجة على السفر على متن القطارات الفائقة السرعة (TGV) ، حيث الصور المطبوعة في مجلات شركة السكك الحديدية المقدمة للمسافرين تمثِّل الأماكن الحقيقية التي لم تعد تتم رؤيتها بوضوح- فحتى أسماء المحطات أصبح من المستحيل الآن قراءتها بينما تعبرها القطارات بسرعة البرق. وهكذا، فإن الأماكن صارت، وبصورة متزايدة " تتعرض لغزو النصوص".
واللا-أماكن ، كما يمكننا أن نرى، هي نواح محلية كئيبة تنتمي للحداثة المعاصِرة: أماكن تنطوي على العزلة (حتى في وجود الآخرين)، والصمت، وإغفال الهوية، والاغتراب وسرعة الزوال. إنها أماكن يكون فيها التفاعل وسائليا و"تعاقديا" contractual – بمعنى تمجيد التعاقد - منسلخاً عن أي علاقة عضوية مع مجتمع يوجد في حالة استمرارية مع الزمن. وحجة أوجيه هي أيضاً حجة تمنح "المحلي" امتياز كونه الموقع الخاص بما هو أصيل. وقد تمت المقارنة بين "المرتبطية" الفعّالة للقطار فائق السرعة والطريق السريع من ناحية، وبين خدمات [السكك الحديدية] "المحلية والطرق ذات الأهمية المحلية" من الناحية الأخرى، والتي "تستخدم لاختراق حميمية الحياة اليومية". والسكك الحديدية، على وجه الخصوص،
صفحة (111)
وأثناء مرورها ببطء حول الأفنية الخلفية للمنازل، "تلتقط مشاهد للريفيين تتسم بالتلقائية ضمن خصوصية حياتهم اليومية، خلف واجهة المنزل، أو في جانب الحديقة، أو في المطبخ أو جانب غرفة النوم" (ص. 98-99).
وقد تكون الإجابة النقدية المباشرة هي النظر إلى هذا على أنه صورة أخرى من "نظرية الاغتراب" الخاصة بما بعد الحداثة التي تستحضر مقارنة مع تراحم Gemeinschaft خرافي. ولكن هذا سوف يعني عدم إدراك الفكرة الرئيسية: أي أن اللا- أماكن، على أية حال، مهما كانت درجة صعوبة تمييزها عن "أصالة" الأماكن الأنثروبولوجية، إلا أنها برغم ذلك تعد ظواهر ثقافية- مكانية جديدة وخاصة بصورة أصيلة، تمثل ملامح مميزة لساحتنا الثقافية في أواخر القرن العشرين. وقد فحص أوجيه بعين عالم الأنثروبولوجيا هذه الملامح البارزة الجديدة، ويجادل، بصورة وجيهة على ما أعتقد، بأن "بعض تجارب اللا-أماكن (التي لا يمكن فصلها عن ثمة إدراك واضح إلى حد ما لتسارع التاريخ وانكماش الكوكب) تعد اليوم جزءاً أساسياً من من الوجود الاجتماعي ككل" (ص. 119).
وهكذا، فمن المؤكد أن تجربة اللا-أماكن تمثل جانبا مما أريد فهمه من تعبير الثقافة اللا توطينية. وعلى أية حال، فمن المهم الإبقاء على أهميتها بشكل متناسب. وفي المقام الأول، فإن نوع الأماكن الذي يصفه أوجيه لا يصوّر، كما يقر هو، مجموعية totality التجربة المكانية- الثقافية الحديثة ككل: حيث تتشابك الأماكن "الحقيقية" مع اللا-أماكن وتتراكب مع بعضها البعض" في المجتمعات الحديثة (ص. 107). وكما رأينا في الفصل الأول، فإن "عالم" محطات الوصول في المطارات الدولية يتواجد مكانياً وثقافياً مع الجوار المنضغط بشدّة إلى السياج المحيط بمدرج المطار. وهكذا، فإن الخطر يكمن في أن نتحول إلى التفكير في اللاتوطين على أنه ينطبق فقط على هذا العالم الخاص بالعبور والمؤقتية impermanence. وأحد ملامح خطاب أوجيه المشجعة لهذا هي موقفه كمسافر أبدي، الذي ينظر إلى النواحي المحلية دائماً كشخص يمر بها - على متن القطارات، في السيارات، على متن الطائرات. ويبرز هذا المنظور ذلك الجانب التعاقدي، المُفَرِّد individualizing ، والتغريبي للا- أماكن.
ولننظر إلى مثال إنهاء إجراءات المسافرين عبر مطار رويسي1 الذي يمتد كفكرة مهيمنة عبر كتابه. ومن خلال التأكيد على الطبيعة التعاقدية للعلاقات هنا - مثل إجراءات التوثيق الروتينية التي تثبت "مصدوقية" validity وجود المسافر في المكان - مثل فحص التذاكر، وتصاريح ركوب الطائرة، والجوازات، والتأشيرات- قام بمقارنة هذه التعاملات مع "تواطؤات اللغة، والإشارات المرجعية المحلية، والقواعد غير المصاغة للمعرفة الفنية للمعيشة، والتي تنطبق على "المكان الأنثروبولوجي". وهكذا، فإنه يتحدى قائلاً: "حاول تخيّل تحليل على نمط دوركهايم لصالة مسافري الترانزيت في مطار رويسي!" (ص. 94). لكن ما لا يفسره هنا هو تجربة رويسي المختلفة تماماً ، والمتعلقة بساكنيه الأكثر بقاء - مثل موظفي تسجيل الدخول، والحمّالين، وعمال النظافة، ومتعهدي تقديم الطعام، وطاقم الأمن،
صفحة (112)
وغيرهم من العاملين هناك. وبالنسبة لهؤلاء الناس يعتبر اللا- مكان المتمثل في مبنى المطار مكانا "حقيقيا" - فهو مكان عملهم. ويجب أن نفترض أنهم يختبرونه بكل الثراء، وكل القواعد الضمنية "للمهارة الحياتية"، ودقائق الاتصال اليومي بين الناس، والصداقات، والخصومات، إلخ. والتي تنطبق على أي من أماكن العمل (3). وهكذا، فإن وصف الأماكن بأنها لا-أماكن هو -وبشكل واضح- ليس مطلقاً، وكنه وصف يتوقف بشكل حيوي على المنظور.
وبطبيعة الحال، فإن ما يلمح إليه هذا أيضاً هو أن اللا-أماكن ليست بالضرورة مُنفِّرة تماما بطبيعتها، لكنها قد تكون أماكن يمكن فيها إعادة تضمين العلاقات الاجتماعية. ولنقارن وصف أوجيه للتفاعل الوسائلي عند منفذ الخروج في السوبر ماركت، حيث يقوم الزبون بتقديم بطافته الائتمانية لامرأة شابة صامتة مثله – فهي ليست كثيرة الكلام على أي حال - والتي تمرر كل سلعة من السلع عبر المتحسس الخاص بآلة فك الرموز ...." (ص. 100)، مع هذا الوصف المختلف تماماً لامرأة بريطانية شاذة جنسياً لاستخدامها الاجتماعي لعملية التسوق في السوبر ماركت:
إنه لمن المسلي الذهاب إلى متاجر سانزبيري .... فأنا لا أذهب إلى هناك إلا وأرى كثيرا من السحاقيات dykes.... وهو أمر لطيف! بالإضافة إلى أناس لم تلتقيهم منذ فترة طويلة - وهكذا فإن بدلاً مما كان سيصبح عشرون دقيقة مزعجة تقريباً من التحرك بسرعة للحصول على عدد قليل من الأشياء، كما تعرف، ينتهي بك الحال وأنت تدردش مع ناس وهذا جيد بالفعل- أنا استمتع بذلك. (Bell and Valentine 1997:138)
وقد نتساءل عن مدى الاختلاف بين هذه وبين المقابلات التي تتم على درجات سلم الكنيسة، أو دار البلدية الخاص بالحداثة البودليرية؟ علينا الاعتراف بأن هناك اختلاف كبير، من حيث البناء الكلي للعلاقات الاجتماعية الخاصة "بالحداثة المتأخرة"، لكنها ليست مختلفة بفطرتها على المحور الخاص بالعلاقات العضوية مقابل العلاقات التعاقدية. والمقصود هنا أنه يمكن النظر إلى اللا-أماكن على أنها أمثلة محددة ومميزة على الأماكن "اللا موطّنة" deterritorialized، وأنها تجسّد علاقات متماسفة، لكن هذا لا يجعلها بالضرورة جدباء sterile على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. وقد طرح مايك فيذرستون فكرة مشابهة في مناقشة للأعمال الروتينية والطقوس الاجتماعية البسيطة، والدقيقة، لكن التي يتم تقبلها دون مبالاة، والتي تنتقي الشخصية الثقافية الفريدة - "حس الراحة الناتج عن كونك في الديار"'at homeness'- لأي "ناحية محلية" بالنسبة لمن يعيشون ويعملون هناك: أي تلك "الطقوس البسيطة الخاصة بشراء بعض المشروبات بطريقة معينة ...". ومن خلال الاستشهاد بتلك الملاحظة الشهيرة لغيرترود شتاين Stein حول أوكلاند، كاليفورنيا - والتي تقول "لا يوجد هناك هناك "- يوضح كيف يمكن فهم هذا على أنه تسجيل لما أسماه "الغياب الظاهري للاستقرار sedimentation الرمزي والعاطفي في البناء المادي للأبنية والبيئة والممارسات المُتجسِّدة للحياة الاجتماعية" (Featherstone 1995:94). لكن هذه، بطبيعة الحال، تمثل نظرة للناحية المحلية من الواجهة الخارجية الثقافية: وكما يقول فيذرستون، فقد كانت ملاحظة شتاين الطريفة، تشير إلى ندرة "رأس المال الثقافي المُمكن إدراكه"،
صفحة (113)
في حين كان ينظر السكان الفعليين في أوكلاند للمكان، بالتأكيد، على أنه ناحية ذات معنى وثرية عاطفياً - ولو أنها ربما ليست مفعمة بالحيوية. وبالنسبة للسكان، فإن "هناك" الخاص بأوكلاند يَكْمُن في الحقيقة المتمثلة في "أنهم موجودون هناك".
وهكذا، فإن مفهموم اللاتوطين يجب أن يكون قادراً على إدراك جدّة novelty التحول المعاصر للمكان – من حيث ملامحه الإيجابية والسلبية- دون الاستسلام لإغراء فهم هذا على أنه مجرد إجداب أو، في الواقع، فناء dissolution التفاعل الثقافي. ويمكننا أن نمضي لأبعد من ذلك قليلاً في فهم هذا التناقض الجوهري للاتوطين من خلال تدبّر حالة افتراضية "للتجربة المُعاشة" الخاصة بالحداثة العالمية.
التجربة الدنيوية للاتوطين
قدم لنا رايموند ويليامز الأساس لهذا (في الحقيقة قبل أن يبدأ معظم الناس في الحديث عن العولمة) في الصورة القلمية الموجزة التالية لنمط الحياة الغربي "الكوزموبوليتاني" للطبقة البرجوازية:
ذات مرة، كان هناك ذلك الرجل الإنجليزي الذي عمل في المكتب اللندني لإحدى الشركات المتعددة الجنسيات، والتي يقع مقرها الرئيسي في الولايات المتحدة. وقد قاد سيارته اليابانية الصنع ذات مساء عائداً إلى منزله. وكانت زوجته، التي تعمل في شركة تستورد معدات المطابخ الألمانية المستوردة، قد عادت إلى المنزل بالفعل. فكثيراً ما كانت سيارتها الإيطالية الصغيرة أسرع حركة عبر حركة المرور. وبعد تناول وجبة الطعام ، التي كانت تشتمل على لحم الحمل النيوزيلندي، وجزر كاليفورنيا، والعسل المكسيكي، والجبن الفرنسي، والنبيذ الإسباني، جلسا لمشاهدة أحد البرامج على جهاز التلفاز الخاص بهما، والمصنوع في فنلندا. كان البرنامج عبارة عن احتفاء استرجاعي بالحرب التي تم خوضها لاستعادة جزر فوكلاند. وبينما كانا يشاهدانه شعرا بتنامي الحس الوطني لديهما، فقد كانا شديدا الفخر بكونهما بريطانيين. (Williams 1983:177)
ويستخدم وليامز هذه الصورة الوصفية الأدبية لاستهلال مناقشة حول الطبيعة المتناقضة للهوية الوطنية المعاصرة، ويمكننا متابعة هذا بالتفكير في الكيفية التي قد تقوم بها عولمة التجربة الدنيوية بجعل من الصعب بصورة متزايدة الاحتفاظ بحس ثابت بالهوية الثقافية "المحلية" (بما في ذلك الهوية الوطنية) ، لأن حياتنا اليومية تصبح متشابكة أكثر فأكثر مع، ومخترقة من قِبَل، التأثيرات والتجارب التي تعود مصادرها إلى أماكن بعيدة. لكن بوسعنا أن نأخذ بنفس الدرجة تجربة هذين الزوجين (الراضين عن نفسيهما إلى حد ما) لتوضيح الجوهر الأوسع للاتوطين، دون أن ننجذب أكثر من اللازم للعودة إلى الحديث المتعلق بالقومية nationality ، والذي حاولنا الإفلات منه في الفصل السابق.
صفحة (114)
ولأن جزءا من النقاش حول العولمة يتعلق بكونها عملية متسارعة بدرجة كبيرة، فقد يكون من المثير للاهتمام تحديث هذين الزوجين الافتراضيين بسرعة وجلبهما من أوائل الثمانينيات إلى أواخر التسعينيات من القرن العشرين. بادئ ذي بدء، ثمة سياق من "الأحداث العالمية" التي تتطور بصورة سريعة، والذي يجب أن نتدبّره هنا. فمن خلال تجاوز هذه الأعوام الخمسة عشر أو نحوها للأمام بسرعة عبر شاشة تلفازهم، سيشهد الزوجان تغيرات هائلة وغير متوقعة، يرتبط العديد منها مباشرة بعملية العولمة بمفهومها الواسع: حيث تنتج بسببها وتسهم فيها. وهكذا، فعلى سبيل المثال، تشيرنوبل Chernobyl وتبعاتها (الحرفية والمجازية)، وسقوط سور برلين، وانهيار العالم الشيوعي، والتحرك نحو وحدة أوروبية أوثق، كما تمثل في معاهدة ماستريخت والعملة الأوروبية الموحدة، وإزالة القيود والقواعد المنظمة للأسواق الرأسمالية العالمية التي تجسدت في "الانفجار الكبير" الذي طال بورصة لندن، ومؤتمرات القمة العالمية حول التلوث البيئي والتغير المناخي، وبطبيعة الحال، الحروب الأخرى - بيروت، الخليج، الصومال، البوسنة، رواندا- التي انتهت جميعها بدرجة متزايدة من التعقيد التقني و"المباشرية" immediacy في غرف المعيشة الخاصة بهما.
وهناك معنيان على الأقل قد تتصل بهما مثل هذه الأحداث العالمية بالتجربة الثقافية للاتوطين. أولاً، سيكون لبعضها تأثيرات مباشرة على الظروف والبيئات المادية القريبة. فعلى سبيل المثال، قد تؤثر القواعد التنظيمية للاتحاد الأوروبي (بصورة إيجابية أو سلبية) على ممارسات العمل الخاصة بالشركات المحلية الصغيرة، أو قد تعمل منح التنمية الإقليمية الخاصة بالاتحاد الأوروبي على تحويل البيئات المحلية المشيدة للمناطق الداخلية التي يعتريها الكساد من المدن. ومن الواضح أن الطريقة التي يختبر بها السكان المحليون هذه التدخلات (سواء كتدخل غير مُبرَّر وتهديد "لنمط حياتنا البريطاني"، أو كوعد بهوية أوروبية ومشروع "كوميوني" communal جديد ولو أنه غامض بعض الشيء)، ستتوقف وبدرجة كبيرة على الدرجة التي سيستفيدوا أو يُحرموا بها من ذلك. ولكن يكمن وراء ذلك بالتأكيد وعيّ متنام بأهمية القوى "البعيدة" وراء ما أصبحنا ننظر إليها، عند مستوى أساسي إلى حد ما، وعلى مدار فترة ممتدة من التاريخ، على أنها الدولة "الطبيعية" والصالحة الخاصة بنا – أي الحدود الإقليمية لدولتنا القومية(4). وفي حالة تأثير التشريع الخاص بالاتحاد الأوروبي، يمكن ربط تجربة القرارات البعيدة بالعمليات السياسية/الاقتصادية الدولية المحددة (ولو أنها سرية) وبعوامل ومواضع القوى التي يمكن إدراكها ("الأوروقراطيين" Eurocrats الموجودين في بروكسل). لكن الأحداث الأخرى تخلق تأثيرات أكثر درامية وعشوائية في ما يبدو - مثل تأثيرات تقلبات الأسواق الرأسمالية العالمية على الاقتصادات المحلية. والأكثر إثارة بين هذه هي الأزمات الدورية التي تتعرض لها أسواق الأوراق المالية أو العملات الدولية - أي "الأيام السوداء" التي تمت الإشارة إليها في الفصل الثالث.
صفحة (115)
والناس الذين يعالجون تأثير مثل هذه الأحداث - على وظائفهم، أو على أقساط الرهن العقاري التي يدفعونها أو مدخراتهم- هم بالطبع أكثر عرضة للشعور بعدم الأمان بشكل عام في التخطيط لحياتهم، وأقل ثقة بقدرة حكومتهم الوطنية على السيطرة على الأحداث. ولكن قد تؤدي مثل هذه الأحداث، وبصورة أكثر شمولية، إلى توسيع مدى "العالم الظاهراتي" للفرد: من المرجح أن يقوم الناس بدمج العمليات والأحداث البعيدة بصور أكثر روتينية في مدركاتهم لما هو مهم بالنسبة لحياتهم الشخصية الخاصة. ويمثل هذا جانبا واحدا مما قد يكتنفه اللاتوطين: فالأفق المتزايد دوما للملاءمة relevance في التجربة الروتينية للناس لا يقوم بإزالة "الوعي الثقافي" العام فحسب، ولكن أيضاً، وبشكل حاسم، عمليات "تخطيط الحياة" الفردية من ثمة إطار ذاتي الاحتواء يتمحور حول ناحية محلية مادية أو على إقليم محدد سياسياً.
وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه التأثيرات لن تكون متساوية في تأثيراتها - فالحروب البعيدة، على سبيل المثال، قد لا يكون لها التأثير المباشر نفسه على التجربة الدنيوية كالأزمات الاقتصادية. ولكن هناك معنى آخر تكون فيه الصراعات أكثر مباشرة، وتلوح بدرجة أكبر في التجربة اليومية عن أي وقت مضى، ويتعلق هذا بطبيعة الحال بالطريقة التي يتم "تسليمها" بها إلى بيوتنا من قبل التقنيات الإعلامية المعولِمة، وخصوصاً وبواسطة التلفاز. وسنناقش في الفصل الخامس دور التلفاز في العولمة الثقافية بمزيد من التفصيل - بما في ذلك "الفينومينولوجية" phenomenology المحددة المكتنفة . لكنه من المهم هنا أن نوجز أهمية وسائل الإعلام في عملية اللاتوطين بصفة عامة. ويمكننا أن نبدأ بتأمل الوجود الهائل لتقنيات الاتصالات ووسائل الإعلام في التجربة الدنيوية - والطريقة التي تصبح بها التجربة المتواسطة mediated experience ، نتيجة لذلك، متراكبة مع التجربة "المباشرة".
وهكذا، لنعد إلى زوجينا المسافران عبر الزمن. فباعتبارهما شخصين عاملين ناجحين وميسوري الحال، فقد امتلكا الكثير من تقنيات الاتصال الجديدة منذ بداية الثمانينيات لتبقيهما "على اتصال" بالعالم: القنوات الفضائية أو (بصورة أكثر تحفظاً) قنوات الكيبل cable TV ، والهواتف النقالة، وأجهزة المناداة (البيجر paging machines)، وأجهزة الفاكس، وأجهزة الكمبيوتر ، وأجهزة الكمبيوتر المحمولة "اللابتوب" laptops ، وأجهزة المودم للاتصال بالإنترنت، وما إليها. وهما يقومان الآن باستقبال وإرسال رسائل البريد الإلكتروني بشكل روتيني وربما قد يقومان حتى بتصفح الإنترنت كبديل لمشاهدة التلفاز. وأحد الأشياء المثيرة فيما يتعلق بالطريقة التي يقومان بها باستخدام تقنيات الاتصالات هذه هي سرعة تقبلهما لها، وكيف أنها سرعان ما تفقد قدرتها على إثارة دهشتهما وتصبح أساسية بالنسبة للحياة اليومية. ولكن كيف يعايشان الطريقة التي يصبح بها منزلهما الآن أكثر "انفتاحاً" على المعلومات؟ إنهما يكونان بمعنى مباشر، بصورة محتملة على الأقل ، أفضل اطلاعا بكثير. فعلى سبيل المثال، بوسعهما الآن الاختيار بين تغطية الأحداث الإخبارية ليس فقط من خلال الإذاعات "الأرضية" الوطنية المختلفة (مثل هيئة الإذاعة البريطانية BBC أو ITN)، ولكن أيضاً عن طريق بلقنوات الفضائية التجارية
صفحة (116)
مثل BSkyB، أو القنوات المتخصصة في الأخبار الدولية مثل CNN ، أو حتى عبر المحطات الوطنية في أوروبا أو خارجها ، مع وضع المشاكل اللغوية في الاعتبار. ولا يقف الأمر عند هذا الحد ؛ حيث أنه بوسعهما الآن مقارنة هذه التغطية بالمعلومات المتوافرة على المواقع الإلكترونية المتخصصة على شبكة الإنترنت. وهكذا، على سبيل المثال، فقد يرغبان في مقارنة تغطية إذاعة BBC لبعض القضايا البيئية، بالصورة المقدمة على الموقع الإلكتروني لمنظمة السلام الأخضر الدولية Greenpeace International.
هناك معنى، إذن، يسهم به هذا الخيار ذاته الذي تقدمه التقنيات الإعلامية الحديثة في اللاتوطين. فأن تكون " أفضل اطلاعا" يعني أن تتوافر لديك مجموعة من وجهات النظر حول الأحداث تتعدى تلك الخاصة بـ "الثقافة الوطنية"، وأن تكون قادراً على التمركز في مكان بعيد عن "وجهة النظر" (المحلية، الوطنية). ومهما كان ما قد يعد به هذا بالنسبة لتطوير النزعات الثقافية الكوزموبوليتانية، فهو يمثل أيضاً فقدانا لليقين الثقافي، وحتى "للراحة" الوجودية المتضمنة في الشعور بأن العالم "هناك في الخارج" والمقدم إلينا من تلك النقطة الثابتة الخاصة بثمة منظور محلي/قومي لا اعتراض عليه. وهكذا، فإن اللاتوطين بهذا المعنى الخاص بالانفتاح على العالم وتوسيع الآفاق الثقافية من خلال وسائل الإعلام المُعولَمَة قد يمثل حالة مثيرة للالتباس.
ويتم الإيحاء بهذا النوع من الالتباس أيضاً في الطريقة التي يمكن النظر بها إلى تقنيات الاتصال على أنها تعد في آن واحد "مخارج من" و "مداخل إلى" أماكننا المعيشية الحميمة. وقد تكون النتيجة الطبيعة "للبقاء على اتصال" هي الإحساس بأن اهتمامنا بالعالم الخارجي مطلوب بشكل أكثر استمرارية لدرجة أننا "نؤدي واجبنا" بشكل متواصل كعوامل اتصالية communicational agents. وهذا ، بطبيعة الحال، هو إدراك منتشر حاليا على نطاق واسع فيما يتعلق بالهاتف: الذي هو نعمة ونقمة في الوقت ذاته، فهو وسيلة الراحة الاجتماعية كلية الوجود (والتي لا غنى عنها؟) ، وذلك الحضور الغريب المتأهب دوماً لاستدعائنا، وفرض أولويته التي لا تهدأ على أنشطتنا المختارة للوقت الحالي. لكن هناك الآن أيضا كل تلك الفاكسات ورسائل البريد الإلكتروني التي تحتاج لأن يتم الرد عليها، ورسائل المجيب الآلي التي تتطلب "العودة إليها"، والهاتف النقال أو جهاز النداء (البيجر) الذي يصاحبنا حتى عندما نتحرك، والبرامج التلفازية التي تحتاج لأن يتم تسجيلها على أشرطة فيديو ثم أن نجد الوقت لمشاهدتها. وبهذه الطرق، فإن لتقنيات الاتصال والتقنيات الإعلامية أهمية ثقافية ليس فقط من حيث الرسائل والتمثيلات التي تحملها، ولكن في قدرتها على بناء تجربتنا واستخدامنا للزمان والمكان. ونتيجة "لتوصيلها" بشبكة الاتصالات ووسائل الإعلام المحلية، فإن للارتباط التواصلي Communicational connectedness تضمينات بالنسبة لتجربتنا في التمييز بين المجال العام والخاص: قد يشعر زوجانا بأن غزارة المعلومات التي يتمتعان بها تعني أيضاً أن منزلهما لم يعد يمثل قلعتهما تماما. ويستشهد جوشوا ميروفيتز (Meyrowitz 1985) بجون روسكين Ruskin محققاً النتيجة المطلوبة هنا:
صفحة (117)
هذه هي طبيعة المنزل - إنه مكان للسكينة والسلام، والمأوى ليس فقط من كل أذى أو ضرر، ولكن من كل رعب، أو شك، أو انقسام. وبقدر ما يكون مفتقداً لهذه الصفات، لا يكون منزلا؛ وبقدر ما تتغلغل مخاوف الحياة الخارجية إليه، وبقدر ما يسمح أي من الزوجة أو الزوجة للمجتمع ذي العقلية المتنافرة، والمجهول، وغير المحبوب، أو المُعَادي الخاص بالعالم الخارجي بتجاوز عتبة الدار، لا يصبح البيت بيتاً، ويكون حينها مجرد جزء من العالم الخارجي بنيت له سقفا وأضرمت فيه النار. ('Of Queen's Gardens', quoted Meyrowitz 1985:222)
ويستخدم ميروفيتز فكرة روسكين الرومانسية حول الحيز الخاص والشديد القداسة sacrosanct للمنزل لتوضيح كيف أسهمت التقنيات الإعلامية في فضح سياسة النوع gender politics الخاصة بالمجال الخاص، وبالتالي "تسييس البُعد الشخصي" في الحياة الأسرية(5). ولكن يمكن النظر إلى هذا الاقتباس على حد سواء باعتبار أنه يعكس وجهة نظر أكثر عمومية. وإذا تركنا جانبا سياسة روسكين الجنسية الأبوية ، نجد أن مخاوفه حول التطفّل المُرْبك للعالم الخارجي على المحيط المنزلي لها صدى مميز في الثقافة المتواسطة الخاصة بأواخر القرن العشرين.
والشيء الذي على المحك هنا هو ثمة تحول في فينومينولوجية ذلك الحيز الذي يعرّف البيت على أنه المنزل. وقد اعتمد هذا، بالنسبة لروسكين، على فكرة "المأوى" كرمز للحماية المادية - باعتباره "يُظلِّل" مكان ما- وكحماية نفسية وعاطفية، وتكوين حد boundary - "العتبة"، أو الحيز الحدّي liminal space - الذي يفصل العالم الخارجي عن العالم الداخلي الخاص بالحميمية والذاتية subjectivity. ويعد هذا تفريقا مكانيا، والذي كما يوضح مارك أوجيه، يمكن تتبع سيره إلى الشخصيتين الأسطوريتين الكلاسيكيتين هستيا وهرمس: "حيث ترمز هستيا Hestia إلى الموقد المستدير الموضوع في وسط المنزل، والحيز المغلق للمجموعة المنجذبة إلى نفسها (وبالتالي يرمز ، بصورة ما، لعلاقتها مع نفسها)؛ في حين أن هرمس Hermes ، إله العتبة والباب، ولكن أيضاً إله مفارق الطرق وبوابات المدن، يمثل الحركة والعلاقات مع الآخرين" (Augé 1995: 58).
وبالتفكير عبر الإطار الخاص بهذه الازدواجية الكلاسيكية، يمكننا أن نتخيل اختراق الحيز المنزلي المعاصر على أنه انتصار لهرمس على هستيا. وفي النهاية، فقد كان هرمس هو أيضاً إله الاتصالات - والذي يمثله في النسخة الرومانية من الأُسطورة عُطارد Mercury رسول الآلهة والآن، وبصورة حتمية، شركة الهاتف. وتعزز الميثولوجيا سياسة النوع ، بطبيعة الحال، فقد كانت هستيا هي فيستا Vesta في الأسطورة الرومانية، وهي الحارسة المطوقة (العذرية) للشعلة المنزلية المقدسة. ولكن مرة أخرى هناك ما هو على المحك في صورتي الموقد والعتبة أكثر من هذا النوع من الازدواجية (النوعية gendered ). حيث تُعَدّ تدخلات العالم "الموجود هناك بالخارج" مبهمة في تضميناتها، التي أدركها يانوس- إله العتبة threshold- الذي اشتهر بأنه صادف طريقين اثنين.
صفحة (118)
ويمكننا أن نجد بعض الصور المناظرة المشوقة لوجهة نظر روسكين في كتاب جاستون باتشيلارد المعنون شاعرية المكان (Bachelard 1969). وكما أوضحت آن جيم (Game 1995)، فقد تركزت محاولات باتشيلارد لوصف الفينومينولوجية- أي التجربة الوجدانية والتخيلية- الخاصة بالمنازل على فكرة المأوى والحماية تحديداً ، وعلى "القيم الحميمة للحيز الداخلي"، وعلى الرفاهية الآنية، وعلى الساكن الذي يحتويه المسكن"(Bachelard, quoted in Game 1995: 200- 1). ولكن هذا "الإيواء" لا يتعلق فقط (كما يمكن أن نفهمه من روسكين) بمجرد العزل والإبعاد عن ثمة "مجتمع معاد" مُقَسِّم، يشكل مصدر تهديد محتمل؛ فمن وجهة نظر باتشيلارد، يُنْظَر إلى المنزل على أنه يشكِّل بصورة تخيلية جانبا من الذات الإنسانية "كساكن" dweller - وفي الحقيقة فإن البيت يصبح جزءا من الذات المجسدة- "المنزل في الجسد" (Game 1995: 202). وكما تجادل جيم، فإن "الحماية" و"المأوى" يشيران إلى المبادئ ذاتية التكوين الخاصة "بالاندماج" و"الإلزام"، وبالتالي فإن البيت يقدم الاستمرارية، ويقدم شيئا مضادا لتشتت الفرد" (ص. 201). وهكذا، فإن خصوصية حياة الأسرة البرجوازية ليست هي وحدها المهددة بتغلغل ونفاذ العالم الخارجي إلى عالمها الداخلي: فهناك أيضاً تحد ضمني "للحد" boundary الذي يشكل الذات. وعلى أية حال، فليست هناك ضرورة لتصوير هذا على أنه تهديد للهوية الذاتية، ولكن ربما كحركة في وضع الحد بين "الذات الخاصة" (الذات الخاصة بالبنية الضيقة المألوفة، على سبيل المثال) وبين الذات المُتَخيَّلة من حيث علاقتها بأفق أوسع من الانتماء الإنساني. وهكذا، فإن تحويل هذه "العتبة" الناتجة عن اختراق الحيز المُطوَّق للمنزل من قِبَل التقنيات المُعوّْلِمة - والذي لم يتم التفكير فيه إلى حد ما عند أي من روسكين أو باتشيلارد- يصبح طريقة للتفكير في التأثيرات المتناقضة للاتوطين على الهوية الذاتية.
لكن البيئة المنزلية، بطبيعة الحال، ليست بأي حال من الأحوال هي السياق الوحيد الذي يتم الشعور فيه بالتأثيرات الثقافية للاتوطين. فزوجانا لا يجلسان في المنزل كل مساء. فعلى سبيل المثال، فقد أصبحا يتوجهان إلى السينما أكثر منذ ظهور مُجَمَّع دور السينما الجديد في الثمانينيات، وهذه هي في حد ذاتها تجربة لا توطينية بصورة غريبة. يقع مجمع دور السينما في موقع "خارج المدينة" على أطراف منطقة الأعمال التجارية والحرفية ، وبالتالي فهو يكون محاطا، عندما يصلان في ضوء الشفق، بمستودعات مظلمة بدلاً من الحانات والمتاجر والمطاعم الموجودة حول سينما أوديون وجومون القديمة التي كانت تقع في وسط المدينة. لكن إيقاف السيارة هنا هو، بطبيعة الحال، أسهل وأكثر أمناً بكثير. وبمجرد الدخول، يستمر ذلك الإحساس بأن هذه هي بيئة تم "وضعها" بشكل مصطنع في هذه الناحية - فمن الواضح أن هذه هي سينما أمريكية، وهو ما يتجلى من التعليقات الصوتية عبر- الأطلسية المسموعة في العروض المسبقة trailers والمصطلحات المتنافرة مع الأذن قليلا والمستخدمة في الإعلانات المصورة (مثل 'candy', 'please deposit trash') ، وصولا إلى تلك المقادير الهائلة التي يتم استهلاكها من الفشار popcorn.
صفحة (119)
ومن غير المفاجئ أنه، من بين الأفلام المعروضة، وعددها عشرة أو نحوها، ستكون الغالبية العظمى منها هي أفلام هوليودية، حيث أن مجمع دور السينما "متكامل رأسياً" مع الشركات الأمريكية التي تنتج الأفلام. ما هي صور النواحي المحلية، ما هي المناظر الطبيعية والإيقاعات اللغوية التي سيجدوها هنا كخلفيات للروايات؟ وبالاستثناء الغريب لأفلام مثل أربع زيجات وجنازة و كامل الكمية أو تلك النسخ المعدّلة من الروايات الكلاسيكية مثل الحس والإدراك أو أجنحة اليمامة ، فمن المرجح أنها ستكون في معظمها مناظر وصور من الولايات المتحدة. هل سيؤدي ذلك إلى تنفيرهما؟ هل يشعران بأنهما ضحيتين للإمبرالية الثقافية؟ أوليست هذه المواقع البعيدة - المظاهر الطبيعية المادية الحقيقية لأمريكا، من المساحات الشاسعة لأفلام الطرق أو الغرب، إلى مشاهد المدن التي تظهر في الأفلام المثيرة والمسلسلات التلفازية الخاصة برجال الشرطة- بصورة ما، وبصورة منطوية على تناقض، مألوفة بعض الشيء؟ فكِّر كيف أننا نستطيع بسهولة أن نشعر بالارتباط بهذه البيئات دون أن يقوم معظمنا من الأوروبيين، بمعايشتها بصورة مباشرة على الإطلاق. ألا نشعر بسهولة شديدة "بالارتياح كما لو كنا في المنزل" مع ميج رايان وتوم هانكس في سياتل، بنفس درجة شعورنا به مع إلينور داشوود وإدوارد فيرارز في ديفونشاير؟ لأن هذه الأماكن لا توجد سوى في مخيلتنا الثقافية، ومخزوننا من "المواقع النصية"textual locations الذي تم بناؤه من كل تلك الملايين من الصور التي تحتوي عليها الأفلام، والبرامج التلفازية، والكتب والمجلات التي قابلناها؟ وهل نحتاج حقاً إلى أي منها حتى نتوافق وننسجم بهذه الصورة الوثيقة مع ناحيتنا المحلية "الحقيقية" ؟
هناك، إذن، جانب آخر من اللاتوطين يتمثل في اقتلاع الناحية المحلية التي تتم في الإطار بين النصيّ intertextual للتخيُّل. وإحدى الطرق للتفكير في هذا تتم بمقارنة هذا الاستهلاك الروتيني لصور الأماكن البعيدة، وتطبيعها في العالم الحياتي المتواسط للفرد مع العمليات التي يصفها مايكل بيليغ بالقومية المبتذلة (Billig 1995). وما يعنيه بيليغ بالقومية المبتذلة هو التعزيز الروتيني، من خلال الإيقاع الثابت للحياة اليومية، للصور التي تربط هوية المواطن بالدولة القومية. وهذه هي العملية التي يقارنها بما أسماه "القومية المتوقدة" hot nationalism "للأعلام التي يتم التلويح بها وتحيتها" والتي بها "تتم الإشارة يومياً إلى الأمة ، أو "التلويح بعلمها" في حياة مواطنيها" (Billig 1995: 6). أما تلك الأمثلة التي يقدمها بيليغ ، والتي تم تتبعها في تحليل الخطاب الاجتماعي- النفسي، فهي الأشكال البلاغية الروتينية لخطابات السياسيين الوطنيين، أو الإشارات deixis – بمعنى "الإشارة البلاغية"- لتقديم الأخبار في الصحف الإخبارية اليومية. ولا يقتصر هذا على تغطية الأحداث السياسية، ولكن أيضاً الأحداث المحلية، والرياضة، والثقافة الشعبية ("الحانة البريطانية الكبرى ") وحتى النشرة الجوية حتى يتم وضع القارئ (أو المشاهد) بشكل دقيق كعضو في الأمة التي هي "الوطن".
والآن، فالمقارنة التي أود أن أجريها مع فرضية القومية المبتذلة لا تهدف على الإطلاق إلى الاعتراض عليها أو تحديها. ويناقش بيليغ أيضاً تلك الفكرة،
صفحة (120)
والتي يربطها بمنظور بعد حداثي لعملية العولمة، القائلة بأنه يجري استبدال القومية المبتذلة "بعولمة مبتذلة" (Billig 1995: 129ff). وهو يرفض ذلك - وهو مصيب على ما أعتقد- على أساس الاستمرارية التي يمكن إثباتها لممارسات واستراتيجيات تعريف الهوية القومية - في كل من شكليها المتوقد والمبتذل- في العالم المعاصر. وموقفه هنا قريب من موقف أنتوني سميث الذي تمت مناقشته في الفصل الثالث، وأنا أوافقه الرأي. وعلى أية حال، فإن الفكرة التي أود عرضها هي أن المحفزات الأيديولوجية المُتعمَّدة نوعا ما للقومية المبتذلة تتنافس مع على الصعيد الفينومينولوجي ذاته مع مجموعة كاملة من التصورات اللاتوطينية الأكثر عشوائية. والألفة المتضمنة للسيناريوهات والمناظر الطبيعية السينمائية "الغريبة" والبعيدة التي وصفتها أعلاه هي مجرد جزء من العملية المتواسطة الدنيوية الخاصة بتشكيل الهوية بنفس الدرجة التي تمثلها الأشكال البلاغية للخطاب، والتي تربط الهوية بالناحية (القومية). وليس الأمر كما لو كانت هذه الصور المتماسفة تعمل كقوة موازنة مباشرة للعمليات التي يصفها بيليغ، لكنه من الواضح أنها تلعب دورا هاما في تكوين الانتماء المُتخيَّل. وإذا أردنا ضرب مثال "مبتذل" واحد، لنتأمل قواعد الملبس للشباب الذين يتدفقون على مُجَمَّع دور العرض السينمائية - الزِّي الرياضي "الأمريكي-الدولي" الذي يمثل الزِّي الموحَّد للثقافة الشبابية المُعوّْلَمَة(6). و بهذه الطريقة، يجب النظر إلى العمل الذي تمَّ القيام به لربط الهويَّة بالأمة على أنه عمل: كعملية لا تتكشف ملامحها بسهولة من رحم ثقافة شعبية ذات جذور راسخة بإحكام في المكان الجغرافي. وبدلاً من ذلك، فقد تم تحقيقها على عكس الميول الطبيعية الأعم نحو التعريف المتخيّل بدون أي مجهود تقريباً للإفلات من الحدود المشيدة للناحية المحلية.
الطعام العالمي والهوية المحلية
إن الثقافة المعاصرة ليست ، بطبيعة الحال، ثقافة متواسطة حصريّا ، فهناك طرق أخرى يمكن أن تتم بها معايشة اللاتوطين. فعلى سبيل المثال، أشار ريموند ويليامز إلى المنشأ الدوليّ للطعام الذي قام زوجاه بوضعه على مائدة عشائهما في أوائل الثمانينيات. وسيجدان اليوم مدى أوسع من الأطعمة "الأجنبية" على أرفف متاجر السوبر ماركت. ولم يعد يُنْظَرْ إلى بعض هذه المأكولات - مثل العجائن (الباستا) والبيتزا- على أنها غير مألوفة، إذ صار يتم تسويقها الآن على نطاق واسع كأطعمة عائلية يومية، في حين أنه ومن الناحية الأخرى كان هناك توسع هائل في طيف الأطعمة التي يتم تسويقها تحديداً بسب جاذبيتها كأطعمة غريبة: مثل التَّاكو tacos المكسيكي، والكَري curries التايلندي، والسياباتا ciabatta والبلنطية الإيطاليتين، والسلمون gravadlax السويدي، وهكذا. وبالإضافة إلى ذلك ، بطبيعة الحال، فإن الخضروات والفواكه المستوردة، المألوف منها والغريب، أصبحت الآن متوافرة بصورة شبه مستمرة، بغض النظر عن الموسم المناخي.
صفحة (121)
وتتمثل إحدى الطرق الواضحة التي يمكن بها تفسير هذا التحول في الثقافة الغذائية البريطانية، في عولمة صناعة الطعام ذاتها، بدءاً مما يشير إليه جاك غودي (1997) بالإنتاج العالمي "للطعام الصناعي". ويوضح غودي كيف أن التطورات التي حدثت في حفظ، وميكنة، وبيع التجزئة، ونقل الطعام خلال القرن التاسع عشر قد بدّلت النظام الغذائي لعامة السكان في الغرب من خلال توفير "مطبخ صناعي" من الأطعمة المنتجة على نطاق واسع، والذي يتم الحصول على مستلزماته من المستعمرات أو المستعمرات السابقة. وتظهر أمثلة مثل ظهور صناعة تعليب اللحم البقري في أماكن مثل فراي بينتوس في أوروغواي كيف أن عملية التصنيع هذه قد بدّلت الأنظمة الغذائية للعالم الأول واقتصادات دول العالم الثالث، حيث أنها باتت "مهيأة لتوريد تلك المكونات على نطاق واسع" - ولاحقاً كيف أصبحت دول العالم الثالث هذه نفسها تعتمد بشكل متنام على الطعام الصناعي (Goody 1997: 338).
وقد نمت العملية ، بطبيعة الحال، بصورة هائلة في كل من نطاقها وتعقيدها التقني خلال القرن العشرين، وأدت لنشوء حالات من التبعية الاقتصادية في العالم الثالث، والتي تم انتقادها على نطاق واسع ( انظر، على سبيل المثال: George 1982;Goodman and Redclift 1991; Tansey and Worsley 1995 ) ليس فقط من حيث علاقات الهيمنة الاقتصادية، ولكن أيضاً فيما يتعلق بتأثيراتها البيئية. وقد أدت مثل هذه الانتقادات الآن لتوضيح الارتباطات بين توفير خيارات متزايدة للمستهلكين في الغرب الغني، وبين الظروف التي تم فرضها على العمال في شركات الأعمال الزراعية المتعددة الجنسيات، والتي تنتج بازلاء "مانجي توت" (التي تُؤكَل بأكملها mange-tout peas) في زيمبابوي ، والبازلاء الكينية، والقرنفل الغواتيمالي، وهكذا.
ومن الناحية الثقافية، كان هناك أيضاً قدر وافر من النقاش حول "فصل" abstraction الاستهلاك في الغرب عن الإنتاج في العالم الثالث: أي الطريقة التي تؤدي بها المرتبطية المعقدة لصناعة الغذاء العالمية إلى ظهور مثل هذه السلع، مثلما قد يكون ماركس عبر عنها بقوله، "كما لو كان ذلك بفعل السحر" على أرفف متاجرنا المحلية. ويناقش ديفيد هارفي Harvey ، على سبيل المثال، ظهور ثقافة غذائية عالمية كمثال على "انضغاط الزمان- المكان": أي الطريقة التي تم بها "تجميع المطبخ العالمي بأكمله الآن في مكان واحد"، على أرفف السوبر ماركت أو في ذلك العدد المتنوع من المطاعم العرقية التي نجدها في أي مدينة غربية متوسطة الحجم. وكما يقترح، فإن هذا الحشد الثقافي مُناظِر لحشد وتجميع صور العالم المتاحة من خلال التلفاز أو في مدن الملاهي ذات الموضوعات المحددة theme parks. ومقتدياً في ذلك ببودريار Baudrillard ، نجده ينظر إلى ثقافة الغذاء العالمية باعتبارها جزءا من مجموعة من "صور المحاكاة التافهة" simulacra التي "نختبر من خلالها الآن جغرافية العالم بصورة غير مباشرة". لكنه يضيف قائلاً أن هذا يحدث "بطريقة تعمل على إخفاء أي أثر بصورة شبه كاملة لمصدرها، وعمليات التصنيع التي أنتجتها،
صفحة (122)
أو العلاقات الاجتماعية المتضمنة في إنتاجها" (Harvey 1989: 300). ومن جانبها، قامت سوزان ويليس Willis بالتوسع في موضوع فصل السلع وتعميتها mystification في تحليلها الرائع لبيئة السوبر الماركت. حيث تربط، على سبيل المثال، بين موضوعات التبريد، والتجميد، وتكييف الهواء كما تتم معايشتها أثناء السير حول ممرات السوبر ماركت، وبين التحكم في درجة الحرارة المستخدم في تقنيات الشحن التي تُحْضِر الفواكه الاستوائية إلينا:
نظراً لأنه يتم الإبقاء عليها في حمام متواصل من الهواء المُبرَّد، فإن هذه الفواكه لا تكوّن رائحة، ولا تنمو عليها الحشرات، أو تتعفن، أو تتحلل. فتكييف الهواء يمثل وسطا للفصل والتي تقوم بفصل الإنتاج الزراعي الخاص بالعالم الثالث عن حرارة العمل وحرارة السوق .... وتقوم بلفّ المنتج في النقاء المعقّم للعالم الأول وتقطع صلته بمكان الإنتاج. فالمتسوق الذي يدلف إلى السوبر الماركت المكيف الهواء ويقوم بالاختيار بين ثمار البابايا، والمانجو، والأناناس، والموز ... هو غير مدرك للعوامل وقوة العمل التي تقف وراء إنتاجها، تماماً مثل السائح الذي تقتصر خبرته بالمكسيك على الجلوس في بهو فندق مكيف الهواء هناك (Willis 1991: 51) .
لكن الشيء الذي يمتلك نفس درجة الأهمية مثل هذا النوع من الفصل هو الجانب الثقافي- السياسي، حيث أود التركيز على نظام آخر للفصل – وهو ذلك المتضمن في فصل تجربة الطعام عن التجربة الخاصة بالناحية المحلية للمستهلك. وهكذا، فالسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو كيف أن مجرد التوافر الواسع لكل هذه "الأطعمة العالمية" – أي أنواع العجائن، والبيتزا، والبرغر، والكَري، وصلصة الفلفل الأحمر، والأطعمة السريعة القلي، والكباب- كخيارات غذائية يومية، يسهم في التجربة العامة للاتوطين بالنسبة لمستهلكَيْنَا البريطانيَين الافتراضيَين؟
قد نفترض أن ذلك قد قام وبشكل واضح، وبالنسبة لمعظم الناس، بتقويض ثمة حس قوي بالارتباط بين الطعام الذي يأكلانه وموضعهما الثقافي الآني: حيث أن عدد مطاعم الوجبات السريعة الهندية يفوق الآن في بريطانيا عدد متاجر السمك وشرائح البطاطس (James 1396: 81). وعلى أية حال، فهذه قضية معقدة باعتبار أنها تقوم على افتراض وجود علاقة بسيطة إلى حد ما بين النظام الغذائي، والمطبخ، وبين الإحساس بالانتماء الثقافي في المقام الأول. لكن هذا ، على أية حال، يعد افتراضا يتسم بالتعقيد. وكما يجادل بيل وفالنتين، فإنه لا يوجد ارتباط أساسي سهل هنا، كما أن تحديد ملامح الانتماء المكاني من خلال الإشارة إلى العادات الغذائية مبني إلى حد كبير على الميثولوجيا الثقافية التي تُخْفِي أحداثا تاريخية معقدة تتسم بالتوفيق بين المعتقدات syncretic:
لا يوجد طعام وطني أساسي؛ فالطعام الذي ننظر إليه على أنه مُمَيِّز لمكان معين دائماً ما يخبرنا بقصص عن الحركة والامتزاج ... وكل ما هنالك هو قائمة من الأطعمة المُجنَّسَة ... التي تم تعديلها، وتكييفها،
صفحة (123)
وتهجينها بمرور الوقت. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تلك الأطعمة التي ننظر إليها على أنها تمثل وبصورة مُعرِّفة جزءا من حس الهوية الخاص بأمَّة معينة غالباً ما تُُخْفِي وراءها أحداثاً تاريخية معقدة من الروابط التجارية، والتبادل الثقافي، وبصورة خاصة النزعة الاستعمارية. (Bell and Valentine 1997:169)
وبغض النظر عن هذا التساؤل الكبير حول التدفق التاريخي المستمر لثقافة الطعام (مثلها مثل جميع المظاهر الثقافية الأخرى)، فمن الواضح أنه يصعب في مجتمع متعدد الثقافات، ومتعدد الأعراق مثل المجتمع البريطاني في تسعينيات القرن العشرين، أن يزعم أن النظام الغذائي الوطني "التقليدي" هو لحم البقر المشوي، وحلوى البودنغ، والسمك ورقائق البطاطس، والشاي وشطائر الخيار، لأنه عن تقاليد مَن نحن نتحدث؟ ولا ينطبق هذا التساؤل فقط على المزيج العرقيّ للسكان الوطنيين، ولكنه ينطبق أيضاً على اختلافات النظام الغذائي المتعلقة بالطبقة الاجتماعية.
وعلى أية حال، وبالنظر إلى كل هذه التحذيرات، فلا يزال هناك تحوّل هام يجب تفسيره هنا، وهو الذي يربط ثقافة الطعام بتقدم الحداثة العالمية. ويمكننا فهم هذا، في المقام الأول، على أنه استمرارية وتعجيل لعملية تصنيع وعولمة الطعام المتزامنة التي قام غودي بتسجيلها. وهذه العمليات الصناعية – من التعبئة، والتجفيف، والتجميد، والتغليف- ترمز إلى انقطاع مادي هام في الجلب الروتيني للمواد الغذائية، والذي هو بالتأكيد جزء من العملية العامة الخاصة "باللاتضمين". وقبل حدوث هذه التطورات المؤسسية -التقنية، من الواضح أنه كان هناك اعتماد أكبر بكثير على الطعام المُصنَّع محلياً. حيث أن واردات الأطعمة الغريبة كانت مقتصرة في الغالب على السلع الفخمة - والمتاحة فقط أمام طبقة النخبة القليلة العدد- التي كان من السهل حفظها أثناء عملية النقل: مثل الشاي أو التوابل، على سبيل المثال. وهكذا، فمن الواضح أن العولمة، ومنذ تأثيراتها الأولى، تعمل على تقويض العلاقة المادية الوثيقة بين بين مصدر الطعام وبين الناحية المحلية. ومن المؤكد أنه قد تم اعتبار هذا التحول المحدد للحداثة، بصفة عامة، على أنه أمر جيد: تحسين النظام الغذائي ليس فقط من حيث التنوع، ولكن من حيث التوافر المستمر.
وعلى أية حال، فقد كان لهذه التطورات أيضاً تأثير ثقافي أكثر غموضا. لأن التوافر الحالي المستمر على مدار العام للأطعمة الطازجة المستوردة (بالإضافة إلى الاستخدام المتزايد للأطعمة المصنّعة) أدى إلى تبديد ما قد يُنْظَر إليه على أنه رابطة إيجابية محددة بين النظام الغذائي والناحية المحلية، والتي تتحدد بصفة خاصة من خلال التقييد- من خلال القيود المتعلقة بتوافر الإنتاج المحلي. وتقوم حالات الإمداد المستمر وغير المتمايز بالتخلص من التوفُّر المحدود للفواكه والخضروات "في موسمها فقط" ، وبهذا تُضْعِف الرابطة الدقيقة بين المناخ، والفصل المناخي، والناحية المحلية، والممارسة الثقافية. وكما يذكِّرُنا ديلامونت، فقبل أن يتم نشر تصنيع الطعام، "كانت أوقات مثل وقت الحصاد؛ وولادة النعاج، وبداية موسم وضع الدجاج للبيض، ووصول باكورة ثمار الصيف، وما إليها، هي المحدّدات للنظام الغذائي في جميع أنحاء أوروبا" (Delamont 1995: 28ff).
صفحة (124)
وهكذا فإن إيقاعات وتوقعات anticipations وأوجه تمييز ثمة "تقويم غذائي" خاص بالوفرة الصيفية، والتدابير الاحتياطية لتعويض النقص الحادث في فصل الشتاء، وأعياد الحصاد، والأطعمة الخاصة بأعياد الميلاد والفِصح، والتي تُسْهِم في خلق حسّ حاد معين من الثقافة المحلية، تصبح مهددة بالاختفاء.
وفي المقام الثاني، يجب أن نكون قادرين على تبرير التأثير الخاص بالتسارع المذهل في تصنيع- عولمة الطعام في ثقافة السوبر ماركت التي تميزت بها العقود الثلاثة الأخيرة. وأعتقد أن بإمكاننا هنا اكتشاف شيء جديد تماما: ثمة نظام مختلف من الانتقال transition ، والذي يعمل فيه اللاتوطين على أساس الأساطير المتعلقة بثقافة الطعام، بنفس درجة عمله اعتماداً على ممارسات الاستهلاك الحقيقية. وما أعنيه بهذا هو أن الأفكار النمطية ذاتها التي تُعرِّف الطعام وتربطه، مثلاً، بالثقافة الوطنية تصبح أضعف. ولنأخذ هنا مثال لحم البقر المشوي و"الهوية البريطانية". فبرغم أنه وبشكل واضح، في بريطانيا متعددة الثقافات الخاصة في تسعينيات القرن العشرين، يُمثِّل هوية محفوظة على مستوى الأسطورة أكثر من كونها محفوظة على مستوى الممارسة الحقيقية، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك لا يزال يحتفظ بدرجة ما من قوة الارتكاز الثقافية. ويتضح هذا، على سبيل المثال، في استمرار "أزمة المخاطرة" بنقل عدوى مرض جنون البقر (BSE) إلى قطيع الأبقار البريطانية واحتمالات انتقال صورة من هذا المرض (CJDV) إلى البشر. وتبدو ردود الفعل على هذه الأزمة كما لو كانت تُظهِر شيئا أكثر من مجرد مخاوف حول المخاطر الصحية (Lupton 1996)، جالبة إلى السطح مظاهر من عدم الثقة في الهوية الوطنية. ويمكننا أن نجد الدليل على ذلك في تمثيل وسائل الإعلام الشعبية للحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبيّ على صادرات الأبقار البريطانية على أنه أكثر من مجرد تهديد اقتصادي، وكجزء من خطاب شعبي أوسع عن كون الثقافة البريطانية مُحاصَرة من قِبَل القوى العدائية المتماسفة الخاصة بالبيروقراطيين القابعين في بروكسل. وقد أدى الحظر الذي قامت الحكومة البريطانية بفرضه عام 1997 على بيع "لحم الأبقار المختلط بعظم" beef on the bone إلى تحفيز المزيد من التعبيرات عن المرونة التي تتسم بها أسطورة الهوية الغذائية هذه. وعلى سبيل المثال، فقد تم تبرير الأمثلة المنطوية على الاستهزاء المتعمَّد من جانب بعض القصابين وأصحاب المطاعم بالتشريع باعتبارها تحديا ليس فقط لتعدي الدولة على "الحريات المدنية"، ولكن أيضاً لهجومها على ثمة "تقليد" يربط بين الاستقلالية النمطية الموهومة للشخصية الإنجليزية وبين "الحقوق الثقافية" في امتلاك نظام غذائي تقليدي يعتمد على لحوم الأبقار (مثل استخدام "آكلي لحوم البقر" Beefeaters للدلالة على عناصر الحرس الملكي البريطاني، و"جون بول (الثور)" John Bull للإشارة على المواطن البريطاني التقليدي، وما إليها).
ومع ذلك، فعلينا أن نضع هذا النوع من رد الفعل ضمن سياق يعد فيه تناول "لحم البقر البريطاني" الآن مجرد جزء بسيط من ثمة ثقافة غذائية تعددية بالكامل في بريطانيا، والتي يتم التعبير عنها في أطعمة محلات السوبر ماركت، وفي ذلك المدى المتنوع من كتب الطهي الكوزموبوليتانية التي يمكن أن نجدها بالقرب من طاولات الدفع (في السوبر ماركت)، وفي الكمية المتزايدة من المطاعم العرقية أو "الهجينة". ويُعبِّر ستيفن مينيل عن التضمينات الثقافية لهذه الفكرة بشكل جيد عندما يقول بأن هذه "التعددية المطبخيّة تعد المقابل لشيء مألوف بدرجة أكبر في الفنون: وهو عدم وجود
صفحة (125)
نمط سائد منفرد" (Mennell 1985, quoted in Lunt and Livingstone 1992: 98). وتمثل هذه، على ما أعتقد، نقطة رئيسية. فالنظام الغذائي البريطاني "التقليدي" المتمثِّل في "وجبات العشاء المكوَّنة من لحم البقر المشوي"، والسمك ورقائق البطاطس، والفطائر المحشوة بالمربى لم تختف. وعلى أية حال، ففي حين أنها حتى الخمسينيات والستينيات ربما تكون قد شكلَّت "نمطاً" شبه موحد تقريباً بالنسبة لغالبية السكان، إلا أنها تتواجد اليوم كخيار استهلاكي واحد من بين نطاق واسع من الخيارات الأخرى. وقد يجادل المرء بأن العلاقة بين مثل هذه الأطعمة وبين ثمة "نمط حياة بريطاني" معيَّن تظل واهية في أضعف الإيمان- إذ تبقى فقط في صورة خيار صريح متعلق بنمط الحياة ضمن خيارات أخرى- أي "تناول الطعام البريطاني" مقارنةً بتناول الطعام الأمريكي، أو الإيطالي، أو الصيني، أو التايلندي، أو الصيني، أو الهندي؛ وتناول الطعام في مطاعم هاري رامسدين مقارنة بمطاعم ماكدونالدز أو بريه آ مونجيه .(7) وهذة ليست فقط مسألة متعلقة "بالنمط" الاجتماعي- الترفيهي لتناول الطعام، أي "تناول الطعام في المطعم" 'eating out. ويتجلى هذا أيضاً في بعض كتب الطهي العملية الأكثر مبيعاً خلال عقد التسعينيات، والمُوجَّهة نحو سوق متنامية تُسلِّم بالأطعمة الكوزموبوليتانية كخيارات يومية مناسبة. وأحد الأمثلة الجيدة على ذلك هو كتاب نايجل سلاتر تعلّم الطبخ في ثلاثين دقيقة (The Thirty Minute Cook)، والذي اتخذ كعنوان ثانوي له أفضل أنواع الطبخ السريع في العالم. وأسلوب سلاتر هو أسلوب يُظْهِر (ويستفيد من) ثمة ألفة سهلة ومُسلِّمة بمدى واسع من المكونات العِرقية والأنماط الغذائية المختلفة. فعلى سبيل المثال، ومن خلال اجتنابه للأصالة لمصلحة الجدية، أي الاختيار وفقا لمبدأ "قم بإسعاد نفسك" ، يكتب قائلا: "هل يهم حقاً إن كنت أتناول وجبة العدس المتبل الخاصة بي على خبز نانnaan الهندي باستخدام شوكة وسكين مثل تناول الفول على الخبز المحمص؟ [أو] إذا اخترت تناول المكرونة العصائبية noodles الصينية باستخدام الملعقة والشوكة، على الطريقة الإيطالية، بدلاً من ترك العصير يتقطر على ذقني ويتساقط على الطاولة في حالة ما إذا استخدمت العودين الصينيين؟" (Slater 1994: 9). والشيء المدهش فيما يتعلق بهذا هو الافتراض الضمني بوجود ذوق كوزموبوليتاني روتيني لدى قرائه، والذي يمتد إلى القلق البسيط من أن البعض قد يكون لديهم هواجس متعلقة بالحفاظ على الأصالة الثقافية لأساليب تناول الطعام الغريبة حتى في سياق مطبخهم اليومي المحلي. وهذا، بالتأكيد، بعيد تماماً عن أي افتراض بسيط بقيام الطعام بتعزيز الهوية الوطنية.
وقد يتم النظر إلى الطريقة التي تقوم بها هذه الانتقائية الكوزموبوليتانية الدنيوية "بافتراس" الأسطورة المتعلقة بالطعام الوطني ضمن إطار أوسع على أنها مثال على تحول "التقليد" في الحداثة الانعكاسية. وبالتالي، فإن معادلة equation "لحم البقر والهوية البريطانية " خلال عقد التسعينيات تواجه خطرا مزدوجا: من التهديدات المتعلقة بإصابة قطيع الأبقار البريطاني بمرض جنون البقر (BSE) - والذي يرمز إلى "تلوث" رمزي ولكنه كبير لخرافة النقاء الوطني؛ ولكن ، وهو الأمر الأكثر أهمية، من الطبيعة المتزعزعة للأساطير المتعلقة بالهوية الغذائية ذاتها. وفي إطار تعددية الأسلوب التي يحددها مينيل، فإنه من المؤكد أن صور الربط بين الطعام والدولة توجد اليوم ليس "كطبيعة ثانية" لم يتم التحقق من صحتها، ولكن "كتقاليد تتسم بالوعي الذاتي" - وكما يُعبِّر جيدنز عن ذلك (1990: 38)، تقاليد "ذات مظهر خادع".
صفحة (126)
ولابد ، بطبيعة الحال، أن يقرّ مثل هذا التعميم بمستويات مختلفة من الخصوصية ضمن السياقات الوطنية- الثقافية وحتى الإقليمية المختلفة. وقد تتم معايشة تأثير القوى اللاتوطينية المسرِّعة اليوم بدرجة أقل قوة ووضوحاً في البلدان - أو حتى في المدن- التي كانت الثقافة الغذائية فيها تاريخياً أكثر انتقائية وانفتاحاً على التأثيرات الخارجية: على سبيل المثال في المزج الهجين الطويل الأمد بين طعام الشوارع المرتبط بثمة تقليد تجاري موحِّد، وبين موجات الهجرة الاستعمارية التي يصفها هانرز (Hannerz 1996) في حالة مدينة أمستردام. وتنتاقض هذه الحالة بصورة حادة مع الاستثمار المتواصل والعميق للمضمون الثقافي/ "الروحي" في ثمة سلعة رئيسية رمزية symbolic staple ، والذي يمكن رؤيته في مركزية تناول الأرز بالنسبة للهوية الثقافية اليابانية كما وصفها أوهنوكي- تيرني(Ohnuki- Tierney 1993) (Bell and Valentine 1997: 179- 81). وعلى أية حال، فبرغم هذه السياقات التاريخية المختلفة للثقافات المُستقبِلة، يبقى واضحا أن القوى اللاتوطينية موجودة في الثقافة الغذائية لجميع الأمم الغربية، وأنها تنتشر بسرعة إلى القطاعات الأكثر ثراء من العالم الثالث (Classen 1996).
ومثل الجوانب الأخرى للاتوطين التي ذكرناها، ينطوي التحول الحادث في الثقافة الغذائية على مزيج أكثر تعقيداً من الفوائد والتكاليف المحسوسة. ومن المرجح أن عدداً قليلاً فقط قد يختار العودة إلى النظام الغذائي البريطاني الرتيب، والمُمِّل، وربما غير الصحيّ إلى حد ما- وبالتأكيد تلك الفترات الدورية من نقص الطعام- الذي اتسمت به الأزمنة السابقة (Drummond and Wilbraham 1991). وخلال عقد التسعينيات، وحدها تلك القلة القليلة ممن حاولوا أن يكونوا مكتفين ذاتياً أو أن يعتمدوا فقط على الأطعمة الطازجة المنتجة محلياً هم من عايشوا ما كان ذات مرة أحد الملامح العادية للثقافة الغذائية - ونقصد بذلك "فجوة الجوع" 'hunger gap' التي تحدث في الربيع بعد نفاد العديد من الأطعمة المُخَزَّنة، وقبل وصول محاصيل الموسم الجديد. وبالإضافة إلى هذا التوافر المتزايد والاختيار بين أنواع الطعام يحتمل أنه كان هناك أيضاً - برغم أننا نُقرّ بأن هذا تخمين مفعم بالأمل- درجة معينة من اضمحلال التقوقع الثقافي: ومع التلاشي التدريجي لصور التحيز ضد أطعمة بعينها (الروث الأجنبي!) ، قد تختفي معها أيضاً الصور الأوسع للغلو في الوطنية (الشوفينية) وربما حتى عناصر العداء تجاه الممارسات الثقافية للأقليات العرقية.
ولكن من الناحية الأخرى، فإن عولمة صناعة الغذاء، مع تحويلها لموضع السيطرة من المحلي إلى العالمي، تقوم بطرح مجالات جديدة من القلق والارتياب. فعلى سبيل المثال، فإن حس العام بالمخاطرة، والمتضمن في الاستهلاك، قد تزايد بالتأكيد - من الأزمات الدورية المتعلقة بتلوث السلسلة الغذائية ("حَمَل تشيرنوبل" Chernobyl lamb، و "لحم البقر المصاب بمرض جنون البقر"، والسلالات الجديدة من أنواع الإنفلونزا التي ارتحلت من الدجاج الصيني في هونغ كونغ، والذراري strains الجديدة التي ظهرت في اسكتلاندا من جراثيم الإشريكية القولونية E. coli ، ومنتجات الذرة الأمريكية المقاومة للمضادات الحيوية) إلى الشكوك العميقة حول الاستخدام الواسع النطاق لمبيدات الهوام pesticides
صفحة (127)
في الصناعات الزراعية، ومعالجة الطعام بالإشعاع وطرق الحفظ الأخرى. وبطبيعة الحال، فإن المفاهيم المتعلقة بمخاطر الطعام نادراً ما تكون مقتصرة على المجتمعات المُعولَمة المعاصرة. وباعتبار أن خطورة التسمم الغذائي نتيجة للجهل بالقواعد الصحية السليمة كانت متوطنة في مجتمعات ما قبل الحداثة، كما يعود تاريخ الغش المتعمد للأطعمة من قِبَل المورِّدين إلى المجتمعات الإغريقية والرومانية القديمة على الأقل (Goody 1997: 351).
لكن الشيء الجديد هنا هو كل من فقدان السيطرة المحلية على الطعام والنظام الغذائي من ناحية، والطريقة التي يصبح بها هذا الأمر بصورة دورية مُعلَّما ثقافياً على أنه "أزمة" - كتهديد لطبيعية الحياة التي نحياها فيما بين "الأنظمة الخبيرة" المتماسفة (الفصل الثاني). وأحد الأمثلة الجيدة على هذا هو خطبة أوبرا وينفري Winfrey الشهيرة في أبريل من عام 1996 والتي وجَّهتها إلى جمهور برنامجها الحواري الذي يُقدَّم بعد الظهر حول الممارسة المتمثلة في تغذية الأبقار المستخدمة لإنتاج اللحم بفضلات الماشية المذابة ، والمخاطر المترتبة على ذلك المتمثلة في إصابة القطعان الأمريكية بمرض جنون البقر: "والآن، ألا يهمُّكم كل هذا ولو قليلاً؟ لقد جعلني أتوقف تماماً عن تناول أية شريحة إضافية من الهامبرغر. لقد جعلني أتجمد في مكاني!" (quoted in Coles 1998: 3). ويمكن النظر إلى ملاحظة أوبرا وينفري هذه - التي يُعْزَى إليها بشكل شهير التعجيل بحدوث انهيار في مبيعات لحوم الأبقار بالولايات المتحدة، والتي كانت موضوعا لقضية قانونية رفيعة المستوى- على أنها شرخ في علاقات الثقة الروتينية للحداثة العالمية والذي يمكن مقارنته ، دون الكثير من المبالغة، بالأزمات المالية المفاجئة "الكارثية". لأنه إذا كان لم يعد من الآمن تناول شرائح الهامبرغر - والتي تمثل أكثر من المقابل الثقافي الأمريكي للحم البقر المشوي- فما الذي يمكننا أن نثق به إذن؟
وفي الواقع، فإن الحوادث المشابهة لهذه (والتي توضح أيضاً ، وبشكل عرضي، التشابك البيني المعقد للبُعد الثقافي مع الأبعاد الأخرى للحداثة العالمية) تحتاج إلى أن ننظر إليها باعتبارها اقتحامات مفاجئة لعملية سابقة، وأكثر إزمانا، تتعلق بالتفاوض غير القائم على أساس سليم حول علاقات الثقة مع "الأنظمة الخبيرة" المتماسفة. وأحد الأمثلة الأخرى على ذلك هي قضية استخدام المواد الغذائية المُعدَّلة جينياً - مثل الطماطم وصلصة الطماطم، والصويا- حيث يتم إدخالها بشكل تدريجي إلى متاجر السوبر ماركت في الولايات المتحدة وأوروبا. لاحظ هنا تنامي الممارسة المتمثلة في تقديم نشرات تحتوي على المعلومات الخاصة بالمنتج لمثل هذه المنتجات المثيرة للجدل في متاجر السوبر ماركت كوسيلة لطمأنة المستهلكين. وفي الواقع ، لقد أسهمت تلك المخاوف في ظهور العديد من ممارسات "إعادة التضمين" re-embedding في الثقافة الغذائية: فعلى سبيل المثال، توجَّهت حركة الزراعة العضوية إلى الإنتاج والتسليم المحلي ("برامج الصندوق المحلي")، والبحث عن بدائل للتسوق في متاجر السوبر ماركت، والجمعيات التعاونية الغذائية، وما إليها(Belasco 1993).
وبدون توسيع هذه المناقشة لما هو أبعد من هذا، أعتقد أنه يمكن القول على نحو معقول بأن هناك نمط مميز من التجربة اللا متوطنة عبر مجموعة متنوعة من الأنشطة اليومية في المجتمعات الصناعية "المتقدمة" مثل بريطانيا في أواخر القرن العشرين.
صفحة (128)
وبرغم أن اللا توطين، كما رأينا، له جوانب مختلفة، إلا أن إحدى الخصائص المميزة له تتمثل في إضعاف أو حل الرابطة بين الثقافة المُعاشة بصورة يومية وبين الموقع المكاني. وعلى أية حال، فلا يُستشعر ذلك بصورة نموذجية على أنه مجرد خسارة أو تنافر ثقافي ، بل كمزيج معقد ومبهم : من الألفة والاختلاف، ومن توسيع الآفاق الثقافية والشعور المتزايد بسرعة التأثر vulnerability، ومن الوصول إلى "العالم هناك في الخارج" مصحوباً باختراق لعوالمنا الخاصة، ومن الفرص الجديدة والمخاطر الجديدة.
لكن الشيء الذي حاولت التشديد عليه أيضاً هو الطبيعة الدنيوية لهذه التجربة. ويبدو لي أنه، بالنظر إلى كافة التحولات العميقة في التجربة الثقافية، أنه لا تتم تجربتها بصورة نموذجية كتغيرات هائلة ولكن، وعلى العكس من ذلك، يتم استيعابها بسرعة ضمن الحالة الطبيعية ، ومن ثم إدراكها – مهما كان ذلك مشكوكا في صحته- على أنها "الطريقة التي تسير بها الحياة" وليس كسلسلة من الانحرافات عن الطريقة التي كانت عليها الحياة أو تلك التي يجب أن تكون عليها. ولهذا السبب، فإن بعض محاولات وصف التجربة العامة للحداثة الثقافية - على سبيل المثال صور مارشال بيرمان (1982) حول انحلال- أو "ذوبان"- الصلابة الثقافية، والمأخوذة من ماركس، أو صور الاضطراب الهائل الحديث أو "الإعصار الاجتماعي" tourbillon social المأخوذ من روسو- تعد محاولات مضلِّلة بعض الشيء في إضفائها للصبغة الدرامية. وفي حين أنهم قد يصفون ظروف التجربة الاجتماعية الحديثة (العالمية)، فإنه يبدو لي أن التجربة نفسها هي وبشكل عام (في الغرب على الأقل) مشحونة أو درامية بدرجة أقل، فسرعة التحولات - وحتى "الأزمات" المتقطِّعة- شيء يمكن للناس العاديين في كثير من الأحيان تقبله خلال تقدمهم الثقافي.
أوجه الاعتراض على اللاتوطين
بعد أن قمنا برسم بعض جوانب ما يمكن اعتباره على أنه لاتوطين، أود أن أتناول بعض الاعتراضات التي قد يتم طرحها، ضد كل من الفكرة نفسها وضد تطبيقها العام الواسع على تحليل العولمة الثقافية.
خرافة النزعة المحلية لما قبل الحداثة
يتعلق الاعتراض الأول بالافتراض الرئيسي الذي يقوم عليه المفهوم ذاته: فمن الواضح أن اللاتوطين يفترض وجود رابطة وثيقة بين الثقافة والمكان، والتي تسبق عملية العولمة. لكنه من المحتمل أن يتم تفنّيد هذا الافتراض بطرق معينة.
صفحة (129)
فقد أشار مورلي وروبنز (1995) ، على سبيل المثال، إلى أحد المؤلفات النقدية في علم الأنثروبولوجيا، والذي يُفنِّد ما يمكن أن نسميه "بالانحياز المحلي النزعة" localist bias للعلم(8)، والذي ظهر إلى حد ما كنتيجة لمقتضيات طرق العمل الميداني الخاصة به. وتتكون هذه النزعة المحلية localism من مجموعة من الافتراضات حول المحدودية Boundedness، و"التجذّر" Rootedness، والتقوقع، و"النقاء" الذي تتسم به (بشكل خاص) ثقافات ما قبل الحداثة. ويستشهد مورلي وروبنز بالتحديات المطروحة لمثل هذه الافتراضات في مناقشات جيمس كليفورد، على سبيل المثال (والتي عرضناها في الفصل الأول) ، والتي تقول بأنه يتوجب النظر إلى الثقافات على أنها "ثقافات مسافرة"، والتي "تتفاوض مع نفسها في العلاقات الخارجية بنفس قدر العلاقات الداخلية" (Clifford 1992, cited in Morley and Robins 1995: 129)- وبنفس الدرجة ككليات جمعية collectivities "متركِّزة" في القرى التي يميل الباحثون الأنثروبولوجيون الميدانيون إلى دراستها. وينطوي هذا على انتقاد لدلالة المصطلح "بلدي" native الذي تصاحبه فكرة ثبات الموقع، وهو أمر يرفضه أرجون أبادوراي Appadurai على نحو قاطع: "إن السكان المحليين، وهم ناس محصورون في الأماكن التي ينتمون إليها وبفعلها، وجماعات لم يلوثها الاتصال بعالم أكبر، ربما لم يوجدوا قط" (quoted in Morley and Robins 1995: 128)
وكما يلخِّصها مورلي وروبنز، فإن التضمينات الأوسع لهذا الانتقاد للنزعة المحلية الأنثروبولوجية هي أننا يجب أن نرفض جميع صور "الثقافة [الثقافات] النقية، والمتجانسة داخلياً، والأصيلة، والمحلية"، وأن نقرّ بأن "كل ثقافة قد قامت في الحقيقة باستيعاب عناصر أجنبية من مصادر خارجية، وأن هذه العوامل المتعددة قد تم "تجنيسها" naturalized تدريجياً ضمن إطارها" (ص.129-130).
ويعد هذا نقدا صحيحا ومُهما، والذي- كما سنرى لاحقاً- له دلالته أيضاً بالنسبة للطريقة التي تتم بها صياغة التهجين الثقافي. وتتمثل قوته ضمن السياق الحالي في جعلنا حساسين تجاه التضمين المحتمل القائل بأن اللاتوطين يتضمن ارتدادا عن الطريق القويم- أي انفصام العلاقة "الطبيعية"، البريئة، والأصلية بين الثقافة والمكان. وفي الواقع، قد يبدو استخدامنا لصياغة جارسيا كانكليني - ' فقدان العلاقة "الطبيعية" بين الثقافة والأقاليم الجغرافية والاجتماعية'- مستحقا للوم بشكل خاص في هذا الصدد، لولا علامات الاقتباس التهويلية الهامة.
لكنني أعتقد، على أية حال، أن هذا تضمين يمكننا تجنُّبه. من المؤكد أن اللاتوطين الذي ذكرناه كمثال ينطوي على الابتعاد عن ثمة حالة سابقة، والتي كان يتم فيها ربط التجربة الثقافية بالمكان بصورة أوثق، لكنَّ هذا لا يُشتَرط أن يكتنف بالضرورة ذلك النوع من الأساطير المتعلقة بالبلدية indigenousness ، والتي تم انتقادها بوجه حق. وتكمن القوة الأكبر لهذا النقد في النظرة المتعمقة النظرية الاسترجاعية عبر الفاصل بين الحداثة و"التقليد". وفي حين أنه من الصحيح أن نظرية الحداثة العالمية القائمة على التماسف الزماني- المكاني تفرض قيودا مكانية أكبر على التفاعل الاجتماعي، وبالتالي تحديدات determinations أكثر محلية للتجربة الثقافية في
صفحة (130)
مجتمعات ما قبل الحداثة، كما رأينا في الفصل الثاني، وهذا لا يتعارض مع إقرار بالتحركية mobility النسبية (التي غالباً ما تكون مدهشة) لبعض أجزاء هذه المجتمعات. وهكذا، فإن الحديث عن وجود روابط وثيقة بين الثقافة والإقليم لا يعْنِي الإشارة ضمنا إلى التقوقع أو إلى إغفال التأثير الخارجي المنشأ باعتباره، بصورة أو بأخرى، من ثوابِت التجربة والممارسة الثقافية. لكن المقصود هنا، وعلى الرغم من ذلك، هو أن هذه كانت تمثل طبقات مُختلفة من المجتمع، والتي كان فيها بعض "الانفتاح على العالم" المُتَاح لنا ، لا يعدو كونه مجرد احتمالية. وقد تجلَّت "الناحية المحلية" بالمعنى الخاص بأهمية البيئات وأنماط المُنَاخ المادية المحلية، وملامح المنظر الطبيعي، والعادات والممارسات، واللهَجَات اللُغَوية، والثقافة الغذائية، والتعديلات المعينة لأنظمة المعتقدات الدينية الأوسع، إلخ. بوضوح وبشكل أكبر في مثل هذه الثقافات. وعند مقاومتنا للخرافات المتعلقة بالبلدية indigenousness، لا يجب أن ننتقل إلى النقيض الآخر فنسقط من حسابنا جميع هذه الأمثلة الواضحة على أهمية الناحية المحلية في مجتمعات ما قبل الحداثة.
ولهذا السبب، إذن، فإن اللاتوطين يبدو لي كطريقة صالحة لفهم نَمَط التجربة الثقافية الذي تَنْفَرِد به الحداثة العالمية، والمُتمايِّز عن الخواص العامة المُتمثِّلة في المرونة، والتحركية، والتفاعلية interactivity ، والتي يمكن عزوها إلى جميع الثقافات التاريخية. كما أنه يُمكِن بالإضافة إلى ذلك الاعتراض عبر القول بأن الأمثلة التي تناولناها أعلاه على اللاتوطين هي، على أية حال، أمثلة معاصرة للغاية- باعتبارها حركات تتم ضمن إطار المجتمعات الحديثة أكثر من كَونِها أمثلة تمتد عبر الفاصل بين الحداثة/ما قبل الحداثة. هل يؤدِّي هذا بأي حال من الأحوال يعرّض للخطر نظريَّة الحداثة كحِقبة مُعولِمَة بالمقارنة مع الحِقَبْ السابقة؟ حسناً، لا أعتقد ذلك. فالنظر إلى اللاتوطين على أنه أمر تنْفَرِد به المجتمعات الحديثة يعني النظر إليه على أنه حالة ثقافية تمَّ تفعيلها من خلال الانتقال إلى الحداثة الاجتماعية. لكن هذا لا يلمّح، على أية حال، إلى أن الحداثة هي عملية تم إنجازها بالفعل، كما أنه من المعقول بدرجة أكبر النظر إليها على أنها عملية مُتطوِّرة ومُستمرَّة، باتباع مفهوم ثيربورن Therborn للحِقبَة باعتبارها رُقْعَة مُمتدَّة و"مفتوحة من جميع الجهات" (الفصل الثاني). وهكذا، فبوسعنا النظر إلى التغيُّرَات التي ذكرناها كدليل على المُعدِّل المُتسارِع الذي تقوم به العَولَمَة بتغيير نزعاتنا المحلية الثقافية الحديثة. وبالتالي فإن مفهوم اللاتوطين يمثل في الوقت نفسه طريقة لتفسير "الحالات المُمكِّنَة" المستبطنة للثقافة المعاصرة العالمية، ولوصف وإدراك الظواهر الثقافية التجريبية التي تواجِهُنا في تلك التَحوُّلات السريعة بشكل مُربِكَ، والتي تتَّسِم بها تلك المرحلة من الحداثة التي نعيشها حاليا.
تباين اللاتوطين
لكن هناك مجموعة مهمة أخرى من التساؤلات التي يمكن إثارتها فيما يتعلَّق بفكرة اللاتوطين. وتتركز هذه التساؤلات حول الاستفسار عمن نقوم بوصف تجربته. من الذي يُشارِك في الثقافة المُعَولَمَة، ومن يتم
صفحة (131)
استبعاد من المشاركة فيها؟ وهل تُعدّ فكرة اللاتوطين قابلة للتعميم بأي شكل مفيد؟
وفي اتباعنا للمسار التخيُليّ لمثل هؤلاء الأشخاص الكوزموبوليتانيين الكاريكاتوريين الذين تحدَّث عنهم ويليامز - وهم أفراد أثرياء ، ومتعلمون و(بيض؟)، ومنتمون للطبقة الوسطى، وغربيون ، و"يمتلكون ثروة معلوماتية"- فإننا نكون بالكاد قد تناولنا قطاعا واسعا عبر الوضع الاقتصادي-الاجتماعي والتجربة الثقافية. وبالتالي، فهناك خطورة تتمثل في أن الحديث عن التجربة اللا مُتوطِّنة قد يكون حصرياً بعض الشيء. ولقد قامت دورين ميسي بالتعبير عن هذه الفكرة بشكل واضح للغاية، حيث تجادل بأن هناك "هندسة للقوة" power geometry تُميَّز العولمة، والتي فيها يكون "بعض الناس مسؤولين عنها بدرجة أكبر من غيرهم؛ إذ يقوم البعض باستهلال التدفقات والحركة، في حين لا يفعل آخرون ذلك؛ كما قد يكون البعض أقرب للطرف المُستقْبِل للعولمة من الآخرين؛ وقد تقوم بسَجن البعض منهم فعليا" (Massey 1994:149). وبالنسبة لميسي، يُعدّ "أفراد النخبة الذين يسافرون على متن الطائرات الخاصة jet-setters ، وأولئك الأشخاص الذين يقومون بإرسال واستقبال الفاكسات ورسائل البريد الإلكتروني، ومن يُدعون لحضور المؤتمرات الدولية ..." هم اللاعبون المحظوظون في عملية العولمة. لكن ميسي تقارن مجموعة الصفوة هذه بجميع تلك الأعداد الغفيرة التي تتأثر بالعولمة ولكنها لا تسيطر على هذه العملية، بدءاً من العمال المهاجرين وساكني الأكواخ في العالم الثالث ووصولاً إلى "ذلك الشخص المتقاعد الملازم لسريره في مدينة داخلية من هذا البلد، الذي يتناول رقائق البطاطس والسمك على طريقة أفراد الطبقة العاملة البريطانية من مطعم صيني للوجبات السريعة، ويقوم بمشاهدة فيلم أمريكي على جهاز تلفاز ياباني الصنع، والذي لا يجرؤ على الخروج من بيته بعد حلول الظلام. وعلى أي حال، فقد تم قطع وسائل المواصلات العامة" (Massey 1994:149).
تعد العولمة عملية غير متكافئة، ليس فقط لأنها تشتمل على "رابحين وخاسرين" أو لأنها تقوم بإنتاج العديد من الأشكال المألوفة للهيمنة والتبعية، لكنها غير متكافئة أيضاً من حيث أن التجربة الثقافية التي تقوم بتوزيعها مُعقَّدة ومُتنوِّعة بدرجة كبيرة. وهكذا، فمن المهم ألا نخلط بين ذلك الشريط الضيِّق من التجربة الثقافية الخاص بنا، وبين التجربة الثقافية بأكملها، وذلك عندما نُصبِح مبهورين بالتكنولوجيا وبأسلوب الحياة المُتاح أمام من "يمتلكون ثروة معلوماتية" (وهو الإغراء الذي يتعرَّض له الأكاديميون على وجه الخصوص، كما توضِّح ميسي). وقد أطلق كل من مورلي وروبنز تحذيراً مشابهاً، حيث قالا أنه بالنسبة لبعض الجماعات الاجتماعية، وبدون الحصول على التقنيات الجديدة للنقل والاتصالات، قد تنطوي الحداثة في الواقع، وبعيداً كل البعد عن أن تكون توسيعاً للآفاق، على تضييق وتقييد localizing للتجربة، "حيث يتمّ إنقاص فُرَصَهم الحياتية تدريجياً، ويظلُّون عالقين بصورة متزايدة في الأقاليم المتناهية الصِغَر micro-territories الذين ولِدُوا بها" (1995:219). وبالإضافة إلى ذلك، فإن المثال الذي في بالهم هو ليس ذلك الخاص بالمتقاعدين البريطانيين المُنعزِلين، ولكنه الخاص بالشبان الأمريكيين من الزنوج واللاتينيين- كما تم تصويرهم في أفلام مثل أولاد في الحيّ للمُخرِج جون سينغلتون، والذين بالنسبة لهم "تعتبر الناحية المحلية في الحقيقة هي المصير، وحيث يمتد الأفق - بعيداً كل البُعد عن أن يكون عالمياً- ليشمل حدود "الحي" فقط" (مرجع سابق).
وكما تؤكد دورين ميسي، فإنه ليس ثمة نقاط أخلاقية/ سياسية،
صفحة (132)
ولكنها نقاط مفاهيمية. لأنه إذا لم يكن هناك ثمة مستوى أساسي يتم عنده تعميم فكرة اللاتوطين عبر التقسيمات الجغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية؛ فإنها ستفقد الكثير من قوتها وجاذبيتها كمنظور للتضمينات الثقافية للعولمة. وإذا كان اللاتوطين هو مجرد وصف للتجارب الخاصة بالقطاعات الأكثر ثراء، وتحركية، وغنى بالمعلومات، والموسرة مادياً، من أجزاء العالم الأكثر تقدماً من الناحية الاقتصادية، فإنه بهذا يصبح وصفاً ثقافياً غير صالح، ولكنه، بأحد المعاني، يفقد الكثير من زعمه بأنه وصف لتجربة ثقافية مُعولَمة. لأنه، أليس من الواجب بالنسبة للعولمة أن تكون عالمية في نطاقها؟
حسناً، أعتقد أنه من الممكن الإجابة على هذه الاعتراضات بطريقة تحافظ بصورة ما، ولو ضمن حدود معينة، على القابلية العامة للتطبيق التي تتَّسم بها فكرة اللاتوطين. في المقام الأول، يمكننا أن نوافق بسهولة على الثغرة الرئيسية لهذا النوع من النقد- وهي أن العولمة هي في كل جوانبها عملية غير متكافئة: تميِّز البعض، وتحرم آخرين، وتستنسخ القديم وتُقدم الجديد من أنماط الهيمنة والتبعية. لكن لاحظ أننا بهذا نُقرّْ بأن العولمة تمتلك مستوى أساسيا من قابلية التطبيق على معظم الناس الذين يعيشون في العالم اليوم. ولا تتعلق مناقشة ميسي حول "هندسة القوة" الخاصة بالعولمة، على سبيل المثال، بالاستبعاد (الإعفاء؟) من هذه العملية، ولكنها تتعلق بالوصول المتمايز لسبل التحكم في الأحداث ضمن إطار تلك العملية.
وإذا كان هذا صحيحا في حالة الاقتصاد السياسي للعولمة، فإنه ينطبق أيضاً على جانبها الثقافي. ويمكننا أن نلاحظ أن اللاتوطين واسع للغاية من حيث قابليته للتطبيق، في حين أنه غير متكافئ في نتائجه. وهكذا، فلو أخذنا عوامل التمييز الاجتماعي (الخاصة بالعرق، والنوع، والعمر) في المجتمعات المتقدمة، سيتضح أن بعضها يعيش ثقافة لاتوطينية بصورة أكثر كثافة، وأكثر نشاطا، وأكثر إمتاعاً (بصورة متوازنة) من الآخرين. ونجد مثالا على هذا في المسافة بين زوج ويليامز "الشاب، المحترف، المُوسَر الحال" yuppie، وبين المتقاعد الذي تحدثت عنه ميسي. لكنه سيكون من الخطأ أن ننظر إلى تجربة اللاتوطين على أنها شيء لا يصل سوى إلى عتبة معينة من الأفضلية الاجتماعية- الاقتصادية، والتي يوجد فوقها تحول نحو "الحيز الفائق" hyper- space الخاص بنمط الحياة "الكوزموبوليتاني" ، بينما يوجد أسفلها استبعاد بسيط من عملية العولمة ككلّ وثمة طبقة مختلفة من التجربة.
ونحن نكون عُرضَة لارتكاب هذا النوع من الأخطاء عندما نبالغ في التشديد على تقنيات العولمة - وعندما ننظر إليها على أنها شيء "يمكن شراء جزء منه" bought into عن طريق ابتياع أحدث أجهزة (وبرامج) الاتصال. لكن، وكما حاولنا التأكيد على ذلك، فإن استخدام مثل هذه التقنيات هو مجرد جزء واحد مما يشتمل عليه اللاتوطين. وعلى نفس القدر من الأهمية التي قد تكون عليها تماماً ، على سبيل المثال،
صفحة (133)
نجد التجربة الخاصة بتحول البيئة الثقافية المحلية الذي يحدث نتيجة لإغلاق مصانع الصناعات الثقيلة القديمة في مناطق الطبقة العاملة، بينما تنتقل مثل هذه الصناعات إلى أماكن أخرى من العالم. أو، كجزء من العملية ذاتها، "إدخال" صناعات جديدة ذات ثقافات عمل مختلفة إلى هذه المناطق نفسها (مثل مصانع السيارات اليابانية في البلدان الأوروبية). أو مرة أخرى، تحويل منطقة غالبية قاطنيها هم من البيض أبناء الطبقة العاملة إلى منطقة متعددة الأعراق، والذي يحدث نتيجة لهجرة العمالة. ستتضمن جميع هذه الأمثلة جوانب متعلقة بنزع التجربة الثقافية من التحديدات المحلية، لكن أيا منها لا يرتبط مباشرة باستخدام تكنولوجيا الاتصالات، ومن الواضح أيضاً أن أيا منها لا يمثل تجربة "يتم شراء جزء منها" عند مستوى معين من الرخاء ويُسرْ الحال. وقد نتأمل في هذا الخصوص أن شخصاً بريطانياً أبيض في مجتمع عامل متعدد الأعراق قد يمتلك نفس القدر من الاتصال المباشر بثقافة الغذاء العالمية من خلال التسوق في المتجر الآسيوي المحلي، والذي حلَّ محلّ "متجر الناصية"، الذي قد يحصل عليه شخص من الطبقة المتوسطة يتجول عبر ممر الأطعمة العرقية في متاجر سانزبيري أو ويتروز Waitrose.
والنقطة الثانية التي يجب توضيحها فيما يتعلق بقضية الوصول إلى التكنولوجيا هي أن اللاتوطين، وبصورة قابلة للنقاش، يكون مصحوباً بمستويات منخفضة نسبياً من التقدم التكنولوجي الذي ينتشر الآن على نطاق بالغ الاتساع (في العالم المتقدم على الأقل) ، وبالتالي يمثل أيضاً جزءا من الحياة اليومية للأغلبية. وهكذا، فإن هؤلاء الذين تمَّ استبعادهم في هذا الإحصاء سيمثلون تلك القلة القليلة التي لا تستخدم الهاتف مطلقاً أو التي لا تشاهد التلفاز على الإطلاق. وهذه هي وجهة النظر التي يعرضها ديك هيبديج:
نحن نعيش في عالم تُمثل فيه "النزعة الكوزموبوليتانية الدنيوية" جزءا من التجربة "العادية". وقد بات من الممكن اليوم الوصول إلى جميع الثقافات، مهما كانت بعيدة زمنياً وجغرافياً، في صورة علامات و/أو سِلَع. وإذا لم نختر التوجه لزيارة الثقافات الأخرى فستأتي هي إلينا كصور ومعلومات تعرض على شاشة التلفاز.... ولا يحتاج أي شخص إلى أن يكون مُتعلِّما ، أو ميسور الحال، أو مغامرا ليكون مسافرا عالميا عند هذا المستوى. خلال عقد التسعينيات، أصبح الجميع تقريباً – طوعاً أو كرها، وسواء بشكل واع أم لا- كوزموبوليتانيين. (Hebdige 1990: 20)
وبدون المبالغة في تضخيم احتمالات نجاح هذه "النزعة الكوزموبوليتانية الدنيوية" ، يمكننا على الأقل الاتفاق على أنه حتى تلك الجماعات المُهَمَّشة التي "تشكِّل الناحية المحلية بالنسبة لهم مسألة مصير" ، يعايشون ناحية محلية متحوِّلة ، والتي يتطفّل فيها العالم الأوسع بصورة متزايدة. صحيح أنهم قد يكونون بشتى الصور هم "الخاسرين" في العولمة، لكن هذا لا يعني أن يتم استثنائهم من تأثيراتها، وأن يتم إرسالهم إلى مواقع خلفية ثقافية منعزلة بعيداً عن الاتجاه السائد للعولمة العالمية. وعلى العكس تماما من ذلك، يبدو لي أن الفقراء والمُهَمَّشين - على سبيل المثال
صفحة (134)
من يعيشون في المناطق الداخلية من المدن- غالباً ما يجدون أنفسهم يومياً أقرب ما يكون إلى مجموعة من أعنف التحولات، في حين أن المُوسَر هو الذي يستطيع تحمل تكاليف الانسحاب إلى المناطق الخلفية الريفية، والتي تمتلك على الأقل المظهر الخاص "بناحية" مستقرة ومصونة.
وهكذا، فمن أجل تلخيص ذلك، أعتقد أنه يمكن القول بشكل معقول بأن اللاتوطين في المجتمعات الغربية المتقدِّمة ليس تجربة مقتصرة على الجماعات الأكثر ثراء، لكنه يكتنف مستوى أساسيا بعينه من عامة الناس. وقد تتم معايشة الحرمان في ظل العولمة بالعديد من الطرق، بما فيها ذلك المتضمن في "فقر المعرفة"، ولكنه لا يتضمن الاستثناء من التحولات الثقافية المستبطنة التي تقتلع التجربة المُعَاشة من تجذرها في في النواحي المحلية. وبالإضافة إلى ذلك، وكما ذكرنا، فإن تجربة اللاتوطين تعد تجربة عميقة الإبهام، حيث تمزج بين التمكين empowerment وبين التعرضية vulnerability ، وبين الفرصة والمخاطرة، في توليفات معقدة. ولذلك فلا يجب النظر إليها باعتبارها قضية بسيطة تتمثل في الوصول access أو بتوزيع الموارد فيما يتعلق بمجموعة مسلّم بها من المنافع الاجتماعية.
ويشير كل هذا ، بطبيعة الحال، إلى تجربة "العالم الأول". لكن من الواضح أن مسألة لا تكافؤ العولمة لها دلالة قاطعة بالنسبة للتجربة الاجتماعية للناس الذين يعيشون في العالم الثالث - والذين لم تقم ملايين عديدة منهم في الواقع بإجراء مكالمة هاتفية، ولم تقم بمشاهدة التلفاز على الإطلاق. هل الأمور مختلفة تماماً هنا؟ هل يمكن أن نجادل بصورة مقنعة بأن هؤلاء الناس - والذين يشكلون غالبية سكان العالم على أي حال- يعايشون ثقافة لاتوطينية والتي تشبه بأي شكل من الأشكال تلك التي تتم معايشتها في العالم "المتقدم"؟
حسناً، هذا يثير العديد من التساؤلات المعقدة والصعبة، والتي يتعدى بعضها نطاقنا الحالي. في المقام الأول، هناك مدى كامل من القضايا التطبيقية المحيّرة المكتنفة هنا، والتي تمتد إلى تعريفات ما يشار إليه اليوم باسم "العالم الثالث". ويتسم المفهوم نفسه الآن بالتقلب في بعض المعاني كنتيجة للعولمة والأنماط المتباينة من التطور الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، كثيرا ما يُلاحَظ أن المسار التنموي لدول العالم الثالث التي اتجهت إلى التصنيع حديثاً- "النمور الآسيوية" أو دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل والمكسيك- يجعلها الآن أبعد ما تكون عن أن تشبه بعض أفقر الدول في العالم - مثل تشاد، وموريتانيا، وبنغلاديش، إلخ. وبصورة واضحة، فإن الدرجة التي قد ينظر بها المرء إلى العالم الثالث على أنه آخذ في الاندماج في الحداثة العالمية (على الأصعدة الثقافية، والاقتصادية، والسياسية) تعتمد على الموضع الذي قد نضع فيه مركز ثقله المعاصر على طول هذا المتَّصل الواسع.
ولكن مقابل الأمثلة على عمليات التنمية السريعة التي حدثت مؤخراً، والتي كثيرا ما يستشهد بها
صفحة (135)
كدليل على ثمار العولمة، سيتوجب علينا أن نضع الأزمات الاقتصادية الحالية في العديد من النمور الآسيوية التي اعتمدت التصنيع مؤخراً ، إلى جانب التقديرات الأكثر تشككاً لمُنظِّرين من أمثال هيرست وتومسون (Hirst and Thompson 1996) الذين تمت الإشارة إليهما في الفصل الثالث. وباختصار، فإن الموقف معقَّد ومتقلّب بطبيعته. ولتعزيز هذه التعقيدات (خاصة عند الانتقال من الاقتصاد السياسي إلى الثقافة)، سنحتاج إلى تأمل أن مدى التجربة المُعاشة في مجتمعات العالم الثالث - بدءاً من المزارعين في المناطق الريفية النائية الذين يعيشون على ما يزرعونه، ووصولاً إلى طبقات النخبة الموسرة- هو وبصورة واضحة أوسع بكثير من ذلك الموجود في الغرب المتقدم، لدرجة أنه يمتد عبر الحيز الفاصل بين الحداثة/"ما قبل الحداثة". ومن الواضح أن كل هذا يجعل تعميم التجربة المشتركة للاتوطين عملاً خطيراً بعض الشيء.
ولكن بتلمّس طريقنا بحذر، يمكننا على ما أعتقد أن نفترض ما يلي: أولاً، أن هناك في الوقت الحالي قطاعات كبيرة من السكان في دول العالم الثالث مستبعدة بالفعل من التجربة الواسعة الخاصة بعملية العولمة. وتظهر مؤشرات مثل مؤشر التنمية البشرية الخاص بالأمم المتحدة، والذي يجمع بين إجراءات مثل الإلمام بالقراءة والكتابة، والتحصيل العلمي، وطول العمر، والمنفعة المستفادة من الدخل (Thomas et al. 1994:22)، يُظهِر بوضوح مدى اتساع الهوَّة بين التجربة الحياتية لمن يعيشون في دول تقع على قمة هذا المقياس (مثل كندا) وتلك القابعة في أسفله (مثل غينيا). ونادرا ما نحتاج إلى الاطلاع على هذه البيانات لإدراك أنه بالنسبة للملايين العديدة من سكان البلدان الأفريقية جنوبي الصحراء الكبرى وبلدان جنوبي آسيا، لا تشتمل الحياة – ببساطة- على أي من التجارب الروتينية الخاصة باللاتوطين، والتي وصفناها في معرض حديثنا عن العالم المتقدم. وفي الواقع، فإن جميع أنواع المخاوف الثقافية التي تمَّ وصفها فيما يتعلق باللالتوطين تبدو تافهة إلى حد ما عند مقارنتها بالتعايش العالمي لملايين الحيوات التي يتم عيشها عند مستويات "الكفاف" Subsistence. وأعتقد أن الحجج المتعلقة "بالعتبة" تنطبق هنا على الأرجح.
ولكن على الجانب الآخر، علينا أن نتجنب بناء صورة غير واقعية للعالم الثالث الحالي على أنه منعزل في الغالب، ومُهمَّش، وريفي، و"قبل حداثي". لأنه حتى في الاقتصاد الريفي، سيتوجب علينا أن نضع إلى جوار المزارعين الذين يعيشون عند مستوى الكفاف تلك الأعداد الغفيرة من العمال الزراعيين في العالم الثالث، والعاملين في "شركات الأعمال الزراعية" agribusiness المتعددة الجنسيات. ومثل هؤلاء الناس هم ، بمعنى ما، مندمجون في الحداثة العالمية، ويعملون باستخدام تقنياتها الصناعية، ويرتبطون بعلاقات متماسفة مع المحددات الأساسية لرزقهم وأسباب عيشهم، وهم جزء من قاعدة الإنتاج الخاصة بالرأسمالية العالمية. وبطبيعة الحال، فإن جزءا مهما من النقد الموجَّه للرأسمالية العالمية يتمثل في إدراك أن "إشراك" أولئك الأشخاص قد لا يزيد كثيرا عن جعلهم عمال (مُستغَلِّين). إن العمال الزراعيين الذين قد يعانون من مشاكل صحية نتيجة لتأثيرات الزراعة القائمة على الاستخدام الكثيف للكيماويات
صفحة (136)
والتي يتم استخدامها لإنتاج المواد الغذائية المُبَاعة في متاجر السوبر ماركت في أوروبا وأمريكا الشمالية، لا يتسوقون على الأرجح في متاجر السوبر ماركت هذه. وبرغم ذلك، فمن المؤكد أنهم على دراية حادة بالقوى المتماسفة التي تتحكم في أرزاقهم.
ونجد أحد الأمثلة المثيرة على هذا الوعي في فيلم مارك فيليبس الرائع (إنتاج عام 1997) بعنوان مانج توت "Mange Tout"(9) ، والذي يوثق الروابط الاقتصادية- الثقافية التي يوطدها إنتاج البازلاء من نوع "مانج توت" في إحدى مزارع زيمبابوي التي تقوم بإنتاج هذا النوع من الخضروات بموجب تعاقد حصري مُكلف مع سلسلة متاجر السوبر ماركت البريطانية، تيسكو Tesco. ومن بين الجوانب التي كشف عنها هذا الفيلم، نجد المستويات النسبية للمعرفة- أو الجهل- بالآخر التي أظهرها كل من المنتجين والمستهلكين. وكما يمكن أن نتوقع، فإن متسوِّقي السوبر ماركت الذين تمت محاورتهم ليس لديهم أدنى فكره عن المكان الذي تأتي منه هذه البازلاء، أو في الواقع أين تقع زيمبابوي، كما أنه لم يكن لديهم سوى اهتمام ضئيل بالظروف المكتنفة في إنتاج هذه السلعة. وعلى العكس من ذلك، فقد أظهر عمال المزارع الذين تمت محاورتهم إحساسا قويا بعلاقة التبادل المتماسفة التي تلعب دوراً محورياً في حياتهم. وقد امتد هذا من حس مبهم بالتسلسل الهرمي للطلب الذي يجب إشباعه في تلك العملية العابرة للحدود القومية، وأهمية المحافظة على معايير الجودة الصارمة للمنتج "المطلوب" من قِبَل هذا المستهلك غير المرئي، إلى وعيّ بالغ الدقة بأهمية جلب النقد الأجنبي إلى الاقتصاد الزيمبابوي. لكنه كان واضحاً أيضاً أن هناك بناء أسطوري، تخيلي، وثري حول الشكل الذي يجب أن تكون عليه حياة السكان في "مملكة تيسكو" الواقعة إلى الشمال، والذي يتناقض بصورة حادة مع الفقر التخيلي النسبي الذي أظهره المستهلكون البريطانيون. وكما هو الحال عند الجماعات التابعة subordinate groups في العالم الأول، فإن الحرمان هنا ليس مسألة استبعاد من العولمة، لكنه يتعلق بعدم التمركز بشكل متكافئ ضمنها. ولا تعبر هذه "اللامساواة" عن نفسها بطريقة ترسم خريطة دقيقة للموارد الثقافية- التخيلية من حيث أفضليتها الاقتصادية.
وعلى أية حال، فعند هذا المستوى من "الاشتراك" في العولمة لا يزال بوسع المرء أن يجادل بأنه لا يوجد سوى تشابه ضئيل بين الخبرات الثقافية الدنيوية لكل من العالمين الأول والثالث. لكن سيتوجب علينا حينئذ أن نوسع تصورنا للحالة التي يوجد عليها العالم الثالث اليوم، وذلك لدمج النمو السريع للتوسع العمراني urbanization والتوجه إلى التصنيع، ومدى توافر واستخدام تقنيات الاتصال هناك. وتشير الاتجاهات نحو التوسع العمراني إلى أنه بحلول عام 2000 ، سيكون نصف سكان العالم يعيشون في المدن، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى الثلثين بحلول عام 2020 (Thomas et al. 1994: 70; see also Vidal (1996: 4). ومن الواضح أن التأثير الأكبر لهذا النمط سيصيب العالم الثالث، الذي توجد فيه بالفعل غالبية
صفحة (137)
أكبر المدن في العالم من حيث عدد السكان. ويرتبط هذا الاتجاه، بطبيعة الحال، مع الابتعاد عن الاقتصاديات التي تعتمد على الزراعة اعتماداً كلياً وتجاه العمل في قطاعات الصناعة والخدمات، والتي هي من الملامح المميزة لجميع دول العالم الثالث ولو بمعدلات مختلفة. ويمكننا أن نضيف إلى هذا اتجاها متزايدا نحو الوصول إلى التقنيات الإعلامية مثل التلفاز. وبرغم أنه لا تزال هناك فجوة شاسعة بين التشبُّع الافتراضي بامتلاك التلفاز من قِبَل الأسر في الدول الأكثر تقدماً وبين التوزيع الأكثر ندرة بصورة جذرية في العالم النامي (Sreberny- Mohammadi, 1991)، إلا أن المعدل الذي تنمو به ملكية تقنيات الاتصال والتقنيات الإعلامية هناك، يتسم مع ذلك بالسرعة (Winseck 1997; Abercrombie 1996: 75). ووراء كل هذا، ثمة أدلة على حدوث تحسن بطيء في مستويات التنمية كما يتم قياسها على مؤشر التنمية البشرية في جميع الدول النامية تقريباً (Thomas et al. 1994: 73).
والآن، وبطبيعة الحال، يمكن وصف كل هذا من خلال القول بأن مثل هذه الاتجاهات العامة طويلة المدى قد تُخْفِي وراءها جميع أشكال التفاوت الحالي (وربما) المستقبلي. فالعولمة لا تنطوي على المساواة. وليس الحال هو أن الفجوات القائمة بين كل من العالمين الأول والثالث تتقارب تدريجياً، وتبقى هناك جميع أشكال عدم المساواة البنيوية المتضمنة عند مستوى الاقتصاد السياسي، والوصول إلى التقنيات، "والفقر المعرفي"، وما إليها. ومن الواضح، إذن، أنه سيكون من الحُمْق محاولة القول بوجود تشابه في التجربة الثقافية إذا كان هذا يعتمد ببساطة على حجة متعلقة بالمستويات المتقاربة تدريجياً للوفرة المادية العامة أو بمستوى المعيشة. تتمتع بعض القطاعات في بعض أجزاء العالم الثالث بمستويات معيشية مشابهة لتلك المستويات التي تتمتع بها المجموعات الموسرة في دول مثل المملكة المتحدة، ولن يكون ذلك النوع من نمط الحياة الذي تم وصفه فيما يتعلق بزوجينا البريطانيين الافتراضيين غريباً تماماً بالنسبة للعديد من الأزواج الموسرين الآخرين في بومباي، وساوباولو، وسيول، أو مكسيكو سيتي. لكنه من الواضح أن هذا النوع من التشابه لن يقوم وحده بمساندة الزعم القائل بقابلية تطبيق التجربة الثقافية اللاتوطينية على نطاق عالمي عام.
وعلى أية حال، فليست هناك حاجة إلى ذلك. لأنه بعد "النقطة الحدية" threshold point التي تعرفنا عليها سابقاً، فإن الشيء الذي يكون على المحك في معايشة الثقافة اللاتوطينية هو ليس، وبصورة حاسمة، مستوى الوفرة المادية، بل هو عيش الحياة التي "يتم اقتلاعها" من ارتباطها بالناحية المحلية بفعل قوى الحداثة العالمية المتعددة. ولا يقتصر هذا الأمر على سكان العالم الأول وحدهم. وفي الواقع، يمكن القول بأن بعض سكان العالم الثالث الحالي قد تكون لديهم تجربة لاتوطينية أكثر حدة وشدة من أولئك الذين يعيشون في العالم الأول، وذلك تحديداً نتيجة لموقعهم ضمن سياق عملية العولمة غير المتكافئة.
صفحة (138)
اللاتوطين عند "الهوامش"
لتوضيح هذا، أود التركيز على بعض الحجج التي طرحها المُنَظِّر الثقافي المكسيكي نيستور جارسيا كانكليني، الذي قمنا بتبني تعريفه للاتوطين (وتعديله بصورة بسيطة) في بداية هذا الفصل.
والشيء المثير للاهتمام بشكل خاص فيما يتعلق بكتابات جارسيا كانكليني هو أنها تتناول تعقيدات الثقافات الأمريكية اللاتينية(10) ليس من خلال المنظور المألوف الخاص بنماذج التبعية dependency، ولكن في إطار الحداثة العالمية، والتي تقع هذه المجتمعات فيها بشكل مثير للالتباس: "حيث لم تختف التقاليد بعد، ولم تصل الحداثة بشكل كامل" (Garcia Canclini 1995: 1). وقد بلور جارسيا كانكليني هذا الالتباس- والذي ينظر إليه، كما سنرى لاحقاً، على أنه هُجنة ثقافية cultural Hybridity- في التساؤل التالي: "كيف يمكننا فهم وجود منتجات حرفية أهلية وكتالوغات عن الفن الطليعي على طاولة القهوة ذاتها؟ ما الذي يتطلع إليه الرسامون عندما يقومون، في نفس اللوحة، بالاستشهاد بصور تعود لفترة ما قبل كولومبس والحقبة الاستعمارية، إضافة إلى صور تنتمي إلى صناعة الثقافة، ثم يقوموا بعد ذلك بإعادة توضيحها باستخدام أجهزة الكمبيوتر والطابعات الليزرية؟" (1995:2).
ليس هذا هو العالم الثالث الذي تتم فيه، بصورة صارمة ومتصلبة، المجاورة بين ما قبل الحداثة وبين الحداثة: الجيب العمراني في مقابلة الأرض الخلفية hinterland الريفية الشاسعة وغير المتغيِّرة، وهي صورة ثقافية من النقاش الخاص "بالازدواجية البنيوية" (Cardoso 1982) التي يواجه فيها الفلاح ساكن المدينة urbanite كما لو كان ذلك يتم عبر التاريخ في حالة من عدم الفهم المتبادل. ويحاول جارسيا كانكليني فهم ذلك النوع من الثقافة الذي ينشأ تحديداً نتيجة للنمو السريع وغير المتوازن للعمران والتمدُّن، والتصنيع، ووسائل الاتصال واسعة النطاق التي تقوم بإذابة الفروق الحادة بين كل من الثقافتين الريفية والحضرية، جاعلةً هذه المجتمعات مواقع لقدر كبير جداً من الحركة واللقاء، بالمفهومين الحرفي والمجازي. وهذه هي المجتمعات التي يتعايش فيها كل من التقليد والحداثة بصورة معقَّدة وقسرية على جميع الأصعدة: بدءاً من تشكيلة الأعمال الفنية الموجودة في غرف المعيشة بمنازل أفراد الطبقة الوسطى، إلى تلك الخاصة بالباعة الجائلين المهاجرين الذين يقومون "بنصب أكشاكهم المبهرجة لبيع الحلوى الإقليمية وأجهزة الراديو ، والأعشاب الطبية، وأشرطة الفيديو المُهرَّبة" عند نواصي الشوارع - التي هي عبارة عن "تقاطعات"ثقافية بقدر ما هي جغرافية (1995:3).
وفي تفسيره لهذه التجربة الثقافية، يرفض جارسيا كانكليني ذلك النوع من التفكير الذي يقوم برسم علاقة الحداثة- التقليد على غرار نموذج المركز- المحيط ("التعبير المجرد عن نظام استعماري مثالي" (1995:232))، لصالح وجهة النظر التي ترى الحداثة على أنها "حالة تقوم بإشراكنا [جميعاً] في المدن وفي الريف،
صفحة (139)
في الحواضر metropolises وفي البلدان المتخلفة" (1995:268). وهكذا، فعندما يتحدث عن اللاتوطين، برغم أنه يصف ظواهر تتسم بأنها -في معان معينة- خاصة بالسياق الأمريكي اللاتيني، فهو يقوم بتحويلها إلى حالة مستبطنة يمكن التعرف عليها على أنها المصدر المشترك للتجربة الثقافية اللاتوطينية في كل من العالمين "المتقدم" و"النامي".
ويعد المعنى الأساسي الخاص بالإزاحة الحرفية للسكان خلال عمليات هجرة العمالة أحد الأمور المحورية لمفهوم جارسيا كانكليني حول اللاتوطين في أمريكا اللاتينية (انظر أيضا Appadurai 1990): من الريف إلى المدينة وعبر الحدود الوطنية. وهكذا ،وبالنسبة له، فإن تلك "الأماكن الواقعة على الحدود" ، والتي يتم تكوينها بفعل الهجرة، هي المواقع الأكثر بروزاً للثقافة اللاتوطينية.
ولتوضيح هذا، يناقش جارسيا كانكليني بعض بعض الأبحاث الإثنوغرافية التي أجراها في تيخوانا وهي مدينة مكسيكية حدودية شهدت نمواً هائلاً في عدد السكان منذ الخمسينيات نتيجة لتدفق العمال المهاجرين عليها من جميع مناطق المكسيك. ويسافر العديد من هؤلاء المستوطنين يومياً إلى العمل في مصانع التجميع maquiladoras أو في الأعمال الزراعية الموسمية عبر الحدود في الولايات المتحدة. بينما يجد كثيرون آخرون عملا في صناعة السياحة التي تخدم ملايين الزوار الأمريكيين الذين يعبرون الحدود إلى تيخوانا "لمشاهدة المكسيك". ولكن برغم أنها مكان تم الاستقرار فيه مؤخراً، وأنها نقطة عبور، وتقاطع ثقافي و"هامشية"، إلا أن جارسيا كانكليني يصف تيخوانا باعتبارها "مدينة حديثة، ومتناقضة، وكوزموبوليتانية لها تعريف قوي لذاتها". والأمر المثير للاهتمام هنا هو أن الهوية الذاتية للمدينة ناتجة تحديداً عن عملية لاتوطينية كثيفة. وقد تضمن بحث جارسيا كانكليني في تيخوانا إجراء مقابلات مع الناس هناك للتعرف على الأماكن والصور في المدينة التي قرروا أنها الأكثر تمثيلاً لحياتها وثقافتها الخاصة. وقد كان غالبية هؤلاء هم:
هؤلاء الذين ربطوا تيخوانا بما يقع وراءها: جادة الثورة، متاجرها ومراكزها السياحية ... هوائيات الاستقبال التي تأخذ شكل قطع مكافئ ، المعابر القانونية وغير القانونية التي تقع على الحدود، الأحياء التي يتركز فيها هؤلاء الوافدون من مختلف مناطق البلاد.... و"سيد المهاجرين" الذي يذهبون إليه ليرتب لهم "أوراقهم" أو شكره على عدم قيام شرطة الحدود la migra بالقبض عليهم. (Garcia Canclini 1995:234- 5)
ويمضي جارسيا كانكليني ليقترح أن بإمكاننا أن نجد الطبيعة اللاتوطينية لثقافة تيخوانا بطرق أخرى: في ثنائية اللغة bilingualism التي تتميز بها، وفي الطريقة التي قام بها سكانها، في مواقف ساخر بصورة متعمدة، بتبني الصور الثقافية البديلة
صفحة (140)
المبعثرة عبر أجزاء هذه المدينة السياحية، كما لو كانت خاصة بهم. إن التجاور بين الصور المأخوذة جميع أنحاء المكسيك- "البراكين، وصور حضارة الأزتيك، ونباتات الصبار، وصورة النسر والأفعى"- والتي يتم تقديمها للزوار الشمال أمريكيين، لا يمثل أي زعم بوجود أصالة محلية "متضمنة"، ومع ذلك فإنها تقدم لمحة عما تُمثِّله المدينة بالنسبة لسكانها. حتى أن جارسيا كانكليني يقوم في الواقع (وفي فكرة موازية مثيرة لفكرة جيدنز الخاصة "بإعادة التضمين" re-embedding) بالتعرف على عملية من "إعادة التوطين" reterritorialization ، والتي يؤكد بها بعض سكان تيخوانا على ملكيتهم الثقافية للمدينة: "حيث يرغب نفس الناس الذين يمتدحون المدينة لكونها منفتحة وكوزموبوليتانية في تثبيت علامات تعريفية وطقوس تميِّزُهم عن هؤلاء الذين هم مجرد عابرين، والسائحون أو .... علماء الأنثروبولوجيا الراغبين في فهم هذا المعبر بين الثقافات" (1995: 239). وهكذا، فإن المثال الذي تقدمه تيخوانا هو لمكان تمت فيه صياغة الهوية بصورة معقدة من رحم تجربة "محلية" طغت عليها علاقاتها مع أماكن أخرى: باقي أجزاء المكسيك، أمريكا الشمالية، العالم الأوسع- إنها "ناحية غير متوطنة" delocalized.
وقد طرح جارسيا كانكليني مثالا آخر للناحية اللاتوطينية، والذي يتسم بكونه لافت للنظر بدرجة أكبر من سابقه (مستشهدا بدراسة أجراها راوز R. Rouse, 1988)، وهو مدينة أجيليلا Aguililla الريفية المنعزلة الواقعة في إقليم ميشاوكان Michaocan في جنوب غربي المكسيك. وبرغم كونها بعيدة كل البعد عن أن تكون مدينة حدودية سواء ثقافياً أو مادياً، فقد تعرضت أجيليلا بصورة جذرية بفعل نمط من الهجرة، توطد للمرة الأولى خلال أربعينيات القرن العشرين، إلى كاليفورنيا وخاصة إلى مدينة ريدوود سيتي Redwood City معقل الصناعات الإلكترونية الدقيقة في وادي السيليكون. وكما تشير دراسة راوز، فإن المهاجرين من أجيليلا والذين وجدوا عملاً كعمال في صناعات الخدمات هناك لم يقطعوا صلاتهم بأجيليلا ، بل حافظوا على مجموعة متصلة من التدفقات بين موقع اغترابهم ومكان نشأتهم. وقد عمل تدفق الدولارات إلى تدعيم الاقتصاد الزراعي المتدهور الذي يعمل على مستوى الكفاف، في حين أن العمال المهاجرين أنفسهم كانوا إما يعودون بشكل متكرر بعد فترات قصيرة من العمل في الولايات المتحدة، أو أنهم كانوا يظلون على اتصال وثيق مع أسرهم عبر الهاتف. ويقترح راوز بأن هذه التدفقات قد أدت إلى خلق مجتمع وظيفي واحد، لكنه متفرق عبر المكان:
عبر الهجرة المستمرة ذهاباً وإياباً، والاستخدام المتزايد للهواتف، يميل سكان أجيليلا إلى مضاعفة روابطهم مع أناس يبعدون عنهم مسافة 2000 ميل بنفس الدرجة التي يحافظون بها على تواصلهم مع جيرانهم المباشرين. وما هو أكثر من ذلك، وبصفة أكثر عمومية، ومن خلال التدفق الدائم للناس، والنقود، والسلع، والمعلومات؛ فقد تمازجت المستوطنات المتنوعة بمثل هذه الدرجة من القوة لدرجة أنه من المحتمل أن يتم فهمها بدرجة أفضل على أنها تشكل مجتمعا واحدا فقط، لكنه متفرق عبر مجموعة متنوعة من الأماكن.(Rouse, quoted in Garcia Canclini 1995: 232)
صفحة (141)
وبرغم أنهما مختلفتان بصور شتى، إلا أن تيخوانا وأجيليلا تمثلان على الرغم من ذلك مثالين رئيسيين على الافتراض المركزي للاتوطين – وهو أن العولمة تقتلع الحياة الثقافية من ارتباطها الذي لا يزال وثيقاً حتى الآن مع الناحية المادية physical locality. كما أن كلاهما أيضاً مثال يُظهِر أن ظاهرة اللاتوطين، بعيداً عن أن تكون مقتصرة على مراكز الرخاء والوفرة في الغرب، يتم بطرق معينة اختبارها بصورة أكثر حدة على الهوامش. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الثقافات التي يصفها جارسيا كانكليني في أمريكا اللاتينية، وبرغم تبعيتها الواضحة في هندسة القوة الخاصة بالعولمة ومستويات الحرمان الجليَّة التي تتسم بها، فهي مع ذلك وببعض المعاني ثقافات مزدهرة. وقد نميل حتى إلى العكس البلاغي rhetorical reversal الذي يضع الهوامش في قلب الثقافة المُعولَمة - وهو شيء يلمح جارسيا كانكليني إليه عندما يكتب: "إن عمليات التهجين التي تمَّ وصفها في هذا الكتاب تصل بنا إلى الاستنتاج بأن جميع الثقافات اليوم هي ثقافات حدودية" (1995:261). ولنرى جوهر مثل هذا الزعم، يمكننا الانتقال الآن إلى فحص فكرة التهجين Hybridization، وعلاقتها باللاتوطين، واستخدامها كمقولة لفهم الثقافة المُعولَمة.
التهجين
تتمتع الفكرة القائلة بأن الثقافة المُعولَمة هي ثقافة هجينة بجاذبية حدسية قوية، والتي تنبع مباشرة من فكرة اللاتوطين. ويرجع هذا إلى أن الحركة traffic المتزايدة بين الثقافات، والتي أدت إليها عملية العولمة تشير إلى أن تفكك الصلة بين الثقافة والمكان يكون مصحوباً بتمازج لهذه الممارسات الثقافية اللا تضمينية، مما ينتج أشكالا هجينة، ومعقدة، وجديدة من الثقافة. وبرغم أنه لا يتم دائماً ربط هذا النوع من التعقيد الثقافي صراحة بتحليل العولمة، إلا أنه كان موضوعاً قوياً في الكتابات التي تناولت الثقافة ما بعد الاستعمارية post- colonial culture (e.g. Bhabha 1994; Young 1995) ، وفي الكتابات التي تناولت الهوية الثقافية بصورة أوسع(e.g. Hall 1992; Gilroy 1993; Dodd 1995; Hannerz 1996; Werbner and Modood 1997)). حتى أن مُنَظِّرا مثل أنتوني سميث، والذي كما رأينا في الفصل الثالث، يدافع عن الأهمية المستمرة للجوهر العرقيّ للهويات القومية، يُقر برؤية "علامات على التهجين الجزئي للثقافات القومية" (Smith 1990: 188) ، والناشئة عن ذلك المزيج متعدد الأعراق لمعظم المجموعات السكانية الوطنية.
لكن فكرة التهجين الثقافي هي واحدة من تلك الأفكار التي تبدو بسيطة على نحو خادع، والتي يتبين عند فحصها أنها تنطوي على الكثير من الدلالات الخادعة والتضمينات النظرية (Werbner 1997; Papastergiadis 1997).
صفحة (142)
ولا أريد الخوض في كل هذه الأمور هنا، لكننا سنحتاج إلى إخلاء مساحة ما حول هذا المفهوم لنرى مدى فائدته في فهم طبيعة الثقافة المُعولَمة. دعونا، إذن، نبدأ باقتباس يُكوِّن قدرا كبيرا من روح الفكرة، ويقدِّم في نفس الوقت بعض العناصر المُعضِلة، وهو مأخوذ من مقال للروائي سلمان رُشدي Rushdie ، والذي يدافع فيه عن روايته الآيات الشيطانية ضد تهم التجديف blasphemy التي وجَّهتها إليه بعض المجتمعات الإسلامية:
هؤلاء الذين يعارضون اليوم الرواية بصورة صاخبة أكثر من غيرهم يرون أن التمازج مع ثقافات مختلفة سيؤدي حتماً إلى إضغاف ثقافاتهم وتدميرها. لكنني أتبنى الرأي المعاكس، فرواية الآيات الشيطانية تحتفي بالهجنة، والرجس، والتمازج، والتحوّل الذي ينتج عن توليفات جديدة وغير متوقعة من البشر، والثقافات، والأفكار، والسياسات، والأفلام، والأغاني. إنها تحتفل بالتهجين mongrelization وتخشى من تسلط النقيّ. إن المزيج (melange)، والخليط (hotchpotch)، قطعة من هذا وأخرى من ذاك هي الكيفية التي تدخل بها صفة الجديدية (newness) إلى العالم. إنها الاحتمالية الكبرى التي تمنحها الهجرة الواسعة النطاق إلى العالم، وقد حاولت اعتناقها. والآيات الشيطانية هي من أجل التغيير من خلال المزج، والتغيير من خلال الضمّ والتوحيد. إنها أغنية حب لذواتنا الهجينة.(Rushdie 1991: 394)
وبطبيعة الحال، فقد أصبحت "قضية رُشدي" بأكملها- الرواية ذاتها،و الفتوى، والمناظرات المرتبطة بها حول حرية التعبير، والتجديف، والعنصرية، والقيم الغربية مقابل القيم الإسلامية، والنزعة التحررية والأصولية، وما إليها- بؤرة خاصة لتركيز السياسة الثقافية المتعلقة بالحداثة العالمية. ولكن دون أن نعلق في هذه القضايا المحددة، دعونا نأخذ ببساطة احتفاء رُشدي بالتهجن في حد ذاته على أنه موقف ثقافي ينبع، على حد قوله، "من تجربة الترسيخ والاجتثات، والانفصال، والانمساخ metamorphosis ذاتها ... أي الحالة المهاجرة، والتي يمكننا أن نشتق منها صورة مجازية للبشرية بأكملها" (1991:394). وبطبيعة الحال، فإن الفكرة المتضمنة في هذا، وفي ترديد لما ذكره جارسيا كانكليني، هي أن التجربة الهجينة تصبح، وبشكل متزايد، هي التجربة العالمية.
ربما كان المكون الأكثر أساسة لفكرة الهجنة هو ذلك الخاص بمجرد المزج - الخلط، والجمع، والاندماج، أو المزيج. وفي ظاهره، يبدو مباشرا وغير قابل للاستبعاد - فالهجنة هي الخلط بين الثقافات التي تنتمي إلى مواقع إقليمية مختلفة، والتي تحدث كنتيجة للحركة traffic المتزايدة فيما بين الثقافات- في رواية رُشدي، كما في رواية كانكليني، وبصفة خاصة عمليات الهجرة- التي تنتجها الحداثة العالمية. والهجنة، عند هذا المستوي التجريبي الأساسي، تمثل طريقة لوصف وتأمل الظواهر الثقافية الخاصة بتلك التشكيلة "الخليط، قطعة من هذا وأخرى من ذاك" التي يبدو أنها آخذة في الانتشار.
صفحة (143)
وبهذا المعنى، فهي محاولة لفهم ظواهر مثل قيام قتيات مغربيات بلعب الملاكمة التايلاندية في أمستردام، وفرق موسيقى الراب الآسيوية في لندن، وكعك البيغل bagels الأيرلندي، وكعك التاكو tacos الصيني...." (Nederveen Pieterse 1995: 53). وعلى أية حال، ففيما وراء هذا الاستخدام التجريبي- الوصفي البسيط، يتسم مفهوم الهِجنة، كما يقترح ريناتو روزالدو، بقطبين متمايزين:
قد تتضمن الهِجنة، من ناحية، مسافة وسطية بين منطقتين من النقاء بطريقة تتبع الاستخدام البيولوجي الذي يُفرّق بين نوعين متمايزين من الكائنات والنوع المزيَّف pseudo-species الهجين الذي ينتج من الجمع بينهما. وبالمثل، فإن المفهوم الأنثروبولوجي للتوفيق بين المعتقدات يؤكد مثلاً على أن الكاثوليكية الشعبية تحتل موضعاً هجيناً في منتصف المسافة بين نقاء الكاثوليكية وذلك الخاص بالديانات الأهلية. وعلى الجانب الآخر، فإنه يمكن النظر إلى الهِجنة على أنها حالة مستمرة لكل الثقافات البشرية، والتي لا تحتوي على مناطق للنقاء لأنها تمر بعمليات مستمرة من التثاقف البيني (عمليات الاستعارة والإقراض الثنائية الاتجاه فيما بين الثقافات). وبدلاً من الهِجنة في مقابلة النقاء، تقترح هذه النظرة أن العملية بأكملها هي عبارة عن هِجنة فحسب. (Rosaldo 1995: xv)
وكما يشير إليه روزالدو، فإن التوتر بين هاتين النقطتين يظل بصورة متكررة غير محسوم لدى الكتاب الذين، مثل رُشدي وجارسيا كانكليني، يحتفون بالهِجنة(11) ،ولكن غالباً ما يكون هناك عنصر قوي من النقطة الأولى- وهو ما يمكن أن نسميه موقف "النقاء الأصلي". وهكذا فمن الممكن النظر إلى رُشدي في استمتاعه البلاغي "بالرجس" الذي يتميز به المزيج الثقافي على أنه يشير ضمنياً إلى أنه كانت هناك ذات مرة ثقافات أصلية، ونقية، وموجودة تاريخياً، والتي انحدرت منها صور "هجينة" جامحة ولكنها تتسم بالديناميكية. وهو يعارض أيديولوجياً "حواريي النقاء... الذين... أوقعوا الدمار فيما بين الكائنات البشرية الممتزجة فحسب"، ولكن يبدو أن مفهومه من الامتزاج يتضمن هذا النوع من الجوهرية ، ولو فقط كشيء يجب أن يتم التغلب عليه. ومن المرجَّح تماماً الآن أن رُشدي، بعد أن تم الضغط عليه، سيسلم بسهولة ويقول بأنه لا توجد أية ثقافة على الإطلاق في مثل هذه الحالة النقية الأصلية، لكن طبيعة الثقافات ذاتها تقتضي أن تكون مُنفذة permeable بشكل أو بآخر، وفي حالة تدفق دائم. والمشكلة هي أن التركيبة ذاتها الخاصة بحجة الهِجنة في هذه الصورة يبدو أنها تستحضر هذه الخرافات الضمنية المتعلقة بالأصالة originary.
وتسهم في ذلك الصور البيولوجية في فكرة الهجين كما أوضح روزالدو أيضاً. فالهِجنة مشتقة، على أية حال، من أفكار الاستيلاد breeding في النباتات والحيوانات، وتنتقل إلى المجال الثقافي عبر الأفكار ذات الدلالات السلبية المتعلقة باختلاط الأعراق، مثل التزاوج بين الأعراق المختلفة miscegenation وتلك الأفكار الأكثر غموضا، برغم كونها لا تزال في الأساس مشتقة عرقياً، والمتعلقة بالتزاوج بين الأوروبيين والهنود الحمر Mestizaje أو التزاوج بين الأوروبيين والزنوج من سكان جزر الهند الغربية Creolization
(Hannerz 1987;Nedervcen Pieterse 1995;Friedman 1994,1995).
صفحة (144)
ويتم الآن، بطبيعة الحال، استخدام هذه المصطلحات بصورة شبه دائمة بطريقة احتفائية يُقصد من ورائها بشكل مُتعمَّد تقويض الحجج التي تربط المصير والقوة الثقافية بالنقاء العرقي (Papastergiadis 1997). وفي الواقع، فإنه يوجد حتى العكس الضمني لهذه الفكرة – أي النظر إلى الكائن الهجين على أنه السلالة الأكثر قوة وشدة. ولكن قد يجادل البعض بأن من يستخدمون فكرة التهجين للقيام بهذا العمل السياسي- الأيديولوجي، يقبلون بصورة ضمنية ويضاعفون بعض الإيحاءات غير الملائمة لهذا الخطاب الواعي بيولوجياً: على سبيل المثال، قبول رُشدي الساخر للقب "نغل" mongrel ، أو زعمه بأنه "ابن غير شرعي للتاريخ" (1991: 394). وقد تستفيد هذه الفكرة عن الهِجنة الثقافية من طرح ونبذ جميع هذه الأمتعة شبه البيولوجية. ويمضي جوناثان فريدمان بهذه المناقشة قدماً من خلال تعقُّب "الجوهرية المشوشة" لهذه الخطابات المتعلقة بالهِجنة أو التزاوج بين الأوروبيين وزنوج جزر الهند الغربية إلى "التجسيد الثقافي" غير الملائم (Friedman 1995: 82) التي تم طرحها في الاستعارة المجازية ذاتها الخاصة بالمزج mingling - والتي تم فيها تخيل الثقافات كما لو كانت "تتدفق" معاً (كما يحدث مع السوائل الجسدية؟).
وهكذا، فبوسعنا أن نلاحظ وجود جميع أنواع السقطات المفاهيمية والسياسية المصاحبة للموقف القائل "بالنقاء الأصلي". ولكن ماذا عن التفسير الآخر لروزالدو: " العملية بأكملها هي عبارة عن هِجنة فحسب" ؟ من الواضح أنه سيتم تفضيل وجهة النظر هذه لأنها تُنصف الفكرة التي باتت الآن مقبولة على نطاق واسع، والتي تقول بأن الثقافة هي "بطبيعتها" مُتدفِّقة، وديناميكية، ومتعددة الأشكال، ودائمة التغير - ولا تكون عند أي نقطة من التاريخ ثابتة، وراسخة(12). وهذا يعني النظر إلى الحالة "الأصلية" للثقافة كأنها ما أطلق عليها فيربنر، مقتدياً بباختن Bakhtin ، اسم "الهِجنة العضوية غير الواعية" والتي فيها، "وبرغم الوهم المتعلق بالمحدودية، تتطور الثقافات تاريخياً عبر استعارات متهورة، وانتحالات تتَّسم بالتقليد والمحاكاة، إضافة إلى التبادلات والاختراعات" (Werbner 1997:4- 5). ولكن يبرز سؤال هنا عن مدى فائدة مصطلحات مثل الهِجنة في الدلالة على شيء مُميِّز لعملية العولمة هذه. وإذا كانت جميع الثقافات التاريخية هجينة على الدوام - فما الجديد في ذلك ، إذن؟ قد يجادل البعض بأن العولمة قد سَرَّعت من عملية المزج هذه، ولكن كما يقول نيديرفين بياتريس، يبقى هنا عنصر من الحشو والإطناب tautology: "إن الحضارة المعاصرة المُتسارِعة تعني تهجين الثقافات الهجينة". وكما يمضي نيديرفين بياتريس في توضيحه ، فقد يكون الأمر أن فكرة التهجين "تظل ذات مغزى فقط كنقد للجوهرية .... كثقل مضاد للفكرة الانطوائية introverted للثقافة" (Nederveen Pieterse 1935:64).
ويرى فيربنر علامة فارقة أكثر إيجابية في الموازنة بين "الهِجنة العضوية" وفكرة باختن حول "الهِجنة المقصودة"، وهو نشر مُتعمَّد في أشكال لغوية وثقافية أخرى تتعلق بمزج يُقْصَد منه "الصدم، والتغيير، والتحدي، والتجديد، أو التعطيل من خلال عمليات دمج متعمدة ومقصودة للغات والصور الاجتماعية غير المتشابهة" (1997:5). وقد يكون الأمر أن هذا النوع من الصدمة الجمالية shock aesthetic
صفحة (145)
هو ملمح مُمَيَّز لبعض المنتجات الثقافية العالمي الحداثية، ولكنه بالكاد يصف السلسلة الكاملة للاختراق البيني الثقافي المعاصر. فهل يجب أن نستنتج، إذن، أن مفهوم الهِجنة الثقافية يظل فقط ذا قيمة "استراتيجية"، لكنه ليس ملائما حقاً لفهم الطبيعة الواسعة للثقافة اللا موطّنة؟ حسناً، دعونا لا نحزم أمرنا الآن، ولكن أن نتدبّر أولاً - وبصورة موجزة- مجموعة أخرى من المشاكل التي تكتنف هذه الفكرة.
تتركز هذه المشاكل على الإهمال الظاهري لدور علاقات القوة في تشكيل المزيج الهجين. وللتعبير عنها في أبسط صورها، فإن الاستعارات الخاصة بالمزج والالتقاء تميل إلى الإيحاء بوجود "إجراءات متكافئة" وسرنديبية serendipity معينة في التوليف – مزيج رشدي، قطعة من هذا وأخرى من ذاك". لكن الموقف المتشكك يشير تحديداً إلى التوازن غير المتكافئ في الموارد الثقافية التي يتم إشراكها، وإلى صور الهيمنة الراسخة والمألوفة (الغرب، والرأسمالية المتعددة الجنسيات) التي تعمل من أجل ضمان ألا تدخل صفة الجديدية، التي تتخذ شكل تحديات لمواقفها المهيمِنة، إلى العالم. وتساور إعجاز أحمد Ahmad على وجه الخصوص شكوك حول فكرة الهِجنة بناء على هذا التقدير. وصراع أحمد المحدد هو مع الطريقة التي حاول بها الكُتَّاب الذين تناولوا موضوع ما بعد الاستعمار مثل رشدي، وعلى وجه الخصوص، هومي بهابها (Homi Bhabha 1994)، والذين حاولوا استخدام فكرة الهِجنة الثقافية (ضمن الإطار الواسع للنظرية الثقافية لما بعد الحداثة) كنوع من قلب الظروف رأساً على عقب في وجه الغرب. ويتضمن هذا منح الأفضلية- بطريقة تعيد إلى أذهاننا ملاحظات جارسيا كانكليني حول الثقافات الحدودية- لتجربة المهاجر الهجينة "الهامشية" المُزاحة باعتبارها التجربة العالمية المركزية الناشئة، بالمقارنة مع هيمنة الغرب الثقافية الذاوية. ولكن، كما يجادل أحمد، فإن هذه الخطوات النظرية والاستطرادية ليست مقنعة لأنها ببساطة فشلت في منازلة القوة المادية الواضحة الخاصة بالرأسمالية العالمية(الغربية). وهكذا، ينتهي الأمر بمن يحتفون بالهِجنة "نظرياً" بسبب موقفها المناهض للجوهرية، وبصورة ساذجة نوعاً ما، وهم "يؤيدون المزاعم الثقافية للرأسمالية العابرة للحدود القومية ذاتها":
لأنه زعم شركة IBM أو شبكة CNN ، إلخ. أنهم في الواقع رواد ثقافة تتعلق بالمباهج، والمعارف، والإنتاجيات العالمية. ومرة أخرى، فمن الصحيح دون ريب أنه جار حالياً تشييد نظام معلوماتي عالمي. لكنه نظام يحتفي بهذه العملية كهِجنة معولَمة، أو يقوم بصياغة ذلك في صورة مفاهيمية كاختراق الأسر المتفرقة في كافة أنحاء العالم من قبل بِنَى موحدة ذات أيديولوجية إمبريالية ؟ (Ahmad 1995: 12)
ويمكن صفّ موقف أحمد العام هنا مع بعض الآراء المتشككة في عملية العولمة التي تمت الإشارة إليها سابقاً، وبشكل أكثر تحديداً،
صفحة (146)
مع الموقف النقدي الذي عرضنا له في في الفصل الثالث، والذي ينظر إلى العولمة الثقافية من خلال عدسة الإمبريالية والهيمنة الثقافيتين. وبرغم جميع المشاكل التي جابهناها مع هذا الموقف، إلا أنه يجب القول بأن أحمد يثير قضية هامة حول علاقات القوة في العمليات الثقافية من خلال إصراره على أننا يجب أن نُقدم تفسيرا للبنى المهيمنة في أي نظرية حول الهِجنة.
لكن التسليم بالبنى المهيمنة، على أية حال، لا يؤدي بالضرورة إلى رفض لفكرة الهِجنة على الفور. إنه في الحقيقة ليس اختيارا بين فكرة الهِجنة في شكلها البسيط المتمثل في ثمة تدفقات فوضوية وغير منظَّمة تتحد مع بعضها البعض بصورة إبداعية من ناحية، وبين فكرة "الاندماج" incorporation من الناحية الأخرى، والتي تقوم فيها الأطراف المهيمنة بامتصاص وإعادة تشكيل جميع الثقافات الثانوية على غرار صورتها الخاصة ووفقاً لغاياتها الخاصة. وكما تصفها الكاتبة والشاعرة الأمريكية المكسيكية جلوريا أنزالدوا، فإن التجربة الهجينة هي تجربة تُفلِت من الاندماج عن طريق البقاء مهمَّشة في "الأراضي الحدودية"، والتي تقوم بمزج الملذات والكروب، بشكل غريزي وبصورة تتسم بالتناقض:
أنا امرأة حدودية ... وقد كنت جلس مباعدة ما بين قدمي على هذه التيخا teja - الحدود المكسيكية، وغيرها، طوال حياتي. إنها ليست إقليما مريحا للعيش فيه، إنها مكان التناقضات. إن الكراهية، والغضب، والاستغلال هي الملامح البارزة لهذا المكان. وعلى أية حال، كان هناك أشياء لتعويض هذه الهجينة (المستزية mestiza )، بالإضافة إلى متع معينة. إن العيش على الحدود وفي المناطق الهامشية، والحفاظ على سلامة هوية المرء المتحولة والمتعددة وكرامته ، يشبه محاولة السباحة في عنصر جديد .... هناك ابتهاج نابع من كونك مشاركا في التطور الإضافي للجنس البشري ....(Anzaldua 1967).
ويتركز عمل أنزالدوا على هذا الالتباس – أي معايشة أمر جديد ومبهج- وفي الواقع، بمفهوم جارسيا كانكليني، أن تكون في طليعة التطور الثقافي - ضمن البنى المهيمنة التي تقوم بصورة مستمرة "بتهميش" الخلائط mixtures التي تخلقها. وكما تعبر عنها في مقطع شعري من قصيدتها المُسمَّاه "أن تعيش في الأراضي الحدودية يعني أنت":
ضع تشيلي في البُرش تناول تُرتيَّات tortillas مصنوعة من القمح الخالص تحدث لغة مكسيكية تكساسية بلكنة بروكلين دع شرطة الهجرة توقفك عند نقاط التفتيش الحدودية
(Anzaldua 1987: 194)
ويتم الشعور هنا بسلطة القوى المهيمنة ضمن إطار الهِجنة، التي برغم ذلك تتم معايشتها على أن لها قوتها الثقافية المستقلة.
صفحة (147)
وهكذا، وكما يقول نيديرفين بياتريس، فإنها مسألة تتعلق بإدراك الكيفية التي يعمل بها هذا التعقيد الخاص بالهيمنة- الهِجنة: "نتيجة لأن الهِجنة تثير التساؤل الخاص بشروط الخلط، وحالات المزج، والامتزاج. وفي الوقت نفسه، فمن المهم أن نلاحظ الطرق التي لا يتم من خلالها مجرد توليد الهيمنة ولكن إعادة تشكيلها ضمن العملية الخاصة بالتهجين" (1995: 57). وإحدى الطرق للتفكير في هذا النوع من "إعادة التشكيل" refiguring هي إدراك أن حركة المجموعات السكانية من العالم الثالث إلى العالم الأول - أو "شتات ما بعد الاستعمار"'post- colonial diaspora' - له تضميناته بالنسبة للهوية الثقافية للأمم الاستعمارية السابقة. وكما يعبِّر كيفن روبنز عن ذلك، فإن هذا النوع من اللاتوطين يمثل معنى "يكون فيه الآخر قد ثبَّت نفسه في قلب الحاضرة الغربية .... فمن خلال نوع من الغزو المعاكس، يكون المحيط periphery قد تغلغل الآن في القلب الاستعماري" (Robins 1991: 32). وهكذا، فبرغم أننا قد نتفق مع أحمد في أن خلق الهِجنة ليس عملية متعادلة القوة على الإطلاق، إلا أنه لا يمضي قدماً بالضرورة في مسار يمكن توقعه يحاكي صور الهيمنة القديمة. وبدلاً من ذلك، وكما يقول روبنز، فقد تُصبِح الهوية الثقافية المستقرة الواثقة بنفسها الخاصة بالغرب مُهدَّدة : "ومن خلال هذا الغزو للإمبراطورية، يتم مواجهة وإرباك المنظور الأكيد والمتمحور الخاص بالنظام الاستعماري القديم" (1991: 33).
وعند تقريب هذه الأفكار من بعضها البعض، يمكننا أن نستخلص، على الأقل، أن فكرة التهجين تمثل طريقة مفيدة لوصف جانب أساسي من عملية اللاتوطين. ومن الواضح أننا بحاجة إلى مصطلح ما للتعبير عن الظاهرة العامة الخاصة بالمزج الثقافي الآخذة في الازدياد بشكل غير قابل للجدل مع تقدم العولمة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن فكرة الثقافات الهجينة قد تفيد في فهم ذلك النوع من التماثلات الثقافية الجديدة التي قد تكون آخذة في الظهور- كما في الثقافة الشبابية التي يتم بناؤها حول أشكال الموسيقى الشعبية مثل "الهيب هوب" (Gilroy 1993: 33ff)- في الحيز الثقافي "العابر للحدود القومية". وربما أن هذه التحولات المعقَّدة للممارسات والأشكال الثقافية، بينما تمرّْ بسرعة ويُسر عبر الحدود القومية وخلال الاقتصاد العابر للحدود القومية، تُقدِّم تصورا عما قد تصير إليه "الثقافة الشعبية المُعولَمة" المستقبلية: حيث قد تكون مختلفة في طبيعتها عن الطبيعة "المختزلة" essentializing ، والدامجة الخاصة بالثقافات الوطنية، وذات تركيب أكثر ارتخاء، وأكثر تقلباً، وغير مبالية إلى حد ما بالمحافظة على صور حادة للتفرقة بين المصدر والانتماء الثقافيين.
وبرغم ذلك، فإن تضمينات التهجين "كمزج بسيط" ليست مباشرة كما رأينا، وكذلك الحال أيضاً مع المواقف السياسية التي يمكن أن يتم استخلاصها منها. وربما كان الأمر، على سبيل المثال، أن مصطلحاً مختلفاً لا يَجُرّ وراءه جميع النزعة الأحيائية biologism المتبقية الخاصة بمجاز "الهجين" سيكون مفضلاً. وعلى أي حال، فإنه يبدو من المهم
صفحة (148)
أن يتم الحفاظ على فكرة التهجين قريبة من التحليل الأوسع الخاص بالتغيُّر الثقافي الذي تم إدراكه في اللاتوطين - وتم استخدامه بصورة واعية للتعرف على جوانب هذه العملية- بدلاً من أن يتم أخذها بشكل مستقل على أنها وصف عام للحالة الثقافية العالمية. وبغض النظر عن أي شيء آخر، فمن المهم تجنب المبالغة في تقدير التدفق الثقافي للعولمة، وعدم ملاحظة ميل عمليات المزج الثقافي لإعادة تضمين أنفسها، ولو بصورة موجزة، في مواقف "مستقرة" للهوية. إن القيام بإدراج التهجين كمفهوم فرعي للاتوطين يمنحنا الحيز المفاهيمي اللازم للتفكير عبر هذا الميل في مقولة إعادة التوطين المعاكسة ديالكتيكيا dialectically opposed.
وتحضرني هذه الفكرة إلى الخلاصة العامة لهذا الفصل. ما حاولت وصفه في فكرة اللاتوطين هو ما يشبه حالة ثقافية عامة، والتي تنبع من انتشار الحداثة العالمية. ومما لا شك فيه أن هناك تضمينات ثقافية أخرى لعملية العولمة، ولكن هذه التي تأملناها في إطار مقولة اللاتوطين، وكما حاولت أن أعرض، هي تضمينات ذات أهمية محورية والتي تمس معظم الناس في العالم وتبدّل خبراتهم الحياتية اليومية بصور جذرية. ولكن في الختام، فمن المهم التأكيد على أن اللاتوطين ليس عملية خطية ذات اتجاه واحد، لكنه عملية تتسم بنفس حالات الشد والجذب الديالكتيكية التي تتسم بها عملية العولمة ذاتها. فأينما وجد اللاتوطين، توجد إلى جانبه أيضاً إعادة التوطين.
وبرغم أننا قد صادفنا بعض الأمثلة على الممارسات المعيدة للتوطين reterritorializing - مثل وصف جارسيا كانكليني لمزاعم سكان تيخوانا حول الملكية الثقافية لمدينتهم- ولم نؤكد بشكل عام على هذا الجانب، حيث أن الغرض من هذا الفصل كان يتمثل في التركيز على القوى التي تقتلعنا من روابطنا مع المكان. لكن هناك سببين وجيهين على الأقل للتسليم بشدة هذه القوة الموازية. أولاً، وكما أكَّدنا، فإن حالة اللاتوطين هي حالة مبهمة تجمع الفوائد مع التكاليف. ومن بين التكاليف نجد صور التعرضية الوجودية existential vulnerabilities المتنوعة التي تأتي عندما تنفتح حياتنا على العالم الأوسع، وحينها يصير إحساسنا الخاص بمنزل آمن محدد- حرفياً ومجازياً- مُهدداً. وهكذا، فمن الممكن رؤية الدافع نحو إعادة التوطين في المحاولات المتنوعة لإعادة إنشاء "بيت" ثقافي. ومن بين هذه، ستكون هناك أمثلة مباشرة للغاية على مشاريع تخيلية- ثقافية جماعية، مثل قيام جماعات الشتات الثقافي cultural diasporas بإنشاء "مواطن مخترعة" مثل تلك مطالبة السيخ المتشتتون بالحصول على "خاليستان" (Appadurai 1990: 302; Cohen 1997: 106ff). لكن، وبشكل أكثر عمومية، هناك العديد من الطرق الروتينية الصغيرة التي يحاول من خلالها الأفراد من البشر، مثلما يقول مارشال بيرمان (Berman 1983:348)،
صفحة (149)
إشعار أنفسهم كما لو كانوا "في المنزل" في عالم الحداثة العالمية، وأن يتعايشوا مع تحولاتها، وأن يقوموا بتوليد هويات وروايات جديدة حول المغزى الشخصي منها. وثانياً، هناك حقيقة بسيطة ولكن هامة، والتي تقول بأننا كلنا كبشر مجسدين embodied ونتواجد في موقع مادي. وبهذا المعنى المادي الأساسي، لا يمكن أبداً أن يتم فصل الروابط بين الثقافة والموقع، فيما تستمر الناحية المحلية في ممارسة مزاعمها علينا باعتبارها الموقف المادي لعالمنا الحياتي. وهكذا، فإن اللاتوطين لا يمكن أن يعني جوهرياً نهاية الناحية المحلية، ولكن تحويلها إلى حيز ثقافي أكثر تعقيداً. وكل من هذين الجانبين المتعلقين بالإمكانية الموازنة لإعادة التوطين سيبرز بصورة أكثر وضوحاً خلال الفصلين التاليين.
الفصل الخامس: الاتصال المتواسط والتجربة الثقافية
ص (150)
الفصل الخامس الاتصال المتواسط والتجربة الثقافية
سنركز في هذا الفصل على المساهمة المميزة لوسائل الإعلام وتقنيات الاتصال المعولِمة في تقديم التجربة الثقافية اللاتوطينية. ومن الأشياء التي تتضمنها مقاربة اللاتوطين التي تبنيناها في الفصل السابق، نجد الفكرة القائلة بأن التجربة الثقافية الخاصة بالعولمة هي، بالنسبة للأغلبية، ليست مسألة قدرة على التحرك المادي طرأت عليها زيادة هائلة، أو تسجيل الآلاف من الأميال الجوية، أو "التجوال حول العالم" globetrotting ، أو الحصول على تجربة مباشرة عن بلاد بعيدة وثقافات غريبة. وبرغم أن الزيادة في التحركية المادية physical mobility هي أحد الجوانب الثقافية الهامة للحداثة العالمية بشكل عام (الفصل الأول)، إلا أنه من المناسب القول بأنه بالنسبة لمعظم الناس، ولمعظم الوقت، يُستشعر تأثير العولمة من خلال البقاء في المنزل وليس عن طريق السفر. وهكذا، فإن إحدى الطرق المباشرة إلى حد ما لإثارة هذه القضية هي النظر إليها على أنها الفرق بين السفر فعلياً إلى أماكن بعيدة، و"السفر" إليها عن طريق التحدث عبر الهاتف، أو الكتابة باستخدام لوحة المفاتيح الخاصة بجهاز الكمبيوتر، أو مشاهدة جهاز التلفاز(1). ويعبر جيدنز عن هذه الفكرة من خلال السياق الفينومينولوجي phenomenological الأوسع، والمتعلق بتأثير العولمة على "العوالم الظاهراتية phenomenal worlds" الخاصة بالأفراد في أُطُرِهِم التي بالضرورة تكون "محلية":
تحت ظروف الحداثة المتأخرة، نحن نعيش "في العالم" بمفهوم مختلف عن ذلك الخاص بالعصور التاريخية السابقة. يستمر كل منا في أن يعيش حياة محلية، كما تضمن المقيّدات المتعلقة بالجسد أن يتواجد جميع الأفراد سياقياً في مكان وزمان محددين في كل لحظة من الوقت. لكن التحولات المتعلقة بالمكان، وإقحام المسافة في الأنشطة المحلية، بالإضافة إلى مركزية التجربة المتواسطة، أدت إلى تغيير الحالة التي يوجد عليها "العالم" في الحقيقة بصورة جذرية ... فبرغم أن الجميع يحيون حياة محلية، إلا أن العوالم الظاهراتية هي في معظمها عالمية من حيث الواقع ...
ص (151)
ولم يعد العالم الظاهراتي يوازي الإطار المعتاد الذي يتحرك خلاله أحد الأفراد ماديا سوى في حالات قليلة جداً. ((Giddens 1991: 187- 8) - التشديد من قبل المؤلف).
ولكن تحديداً كيف يقوم تفاعلنا الروتيني مع وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصالات بتغيير "عوالمنا الظاهراتية" ؟ للوصول إلى إجابة لهذا السؤال، سأقوم أولاً بمناقشة العلاقة بين مفهوم "التواسط" mediation وفكرة تجسير الفجوة بين الزمان والمكان، ثم سأقوم باستكشاف الاستخدام الخاص ببعض التقنيات المتواسطة mediating، المنتشرة على نطاق واسع وبشكل آخذ في التزايد في العالم المتقدم والتي تحقق تقدما في "العالم النامي"، من حيث قدراتها المُمَيِّزة المختلفة على تقديم "تقارب متواسط" للمستخدمين المتواجدين في نواح متباعدة مكانياً. وبرغم أنني سأشير هنا إلى "التقنيات الإعلامية الجديدة" مثل الاتصالات المتواسطة عبر أجهزة الكمبيوتر computer- mediated communications، إلا أنني سأركز بشكل أساسي على ثمة أشكال مألوفة للغاية من التقنيات المستخدمة في الحياة اليومية-مثل الهاتف والتلفاز. وسأهتم في الحالة الأولى بفكرة إيجاد الظروف المحلية المتعلقة " بالحميمية" عبر المسافات، وسأحاول أيضاً في هذا السياق استكشاف الروابط بين الناحية المحلية locality الثقافية وبين التجسد embodiment-أي "المقيدات المتعلقة بالجسد" التي أشار إليها جيدنز ضمنياً كأحد الشروط المحدِدة للاتوطين. وثانياً، سأحاول فهم قدرة التجربة المتواسطة-وخاصة التلفازية- على وصلنا عاطفياً وأخلاقياً مع السياقات الثقافية- الاجتماعية، والأحداث، والبشر الآخرين البعيدين عنا. ويوصلنا هذا الأمر الأخير إلى القضايا الأوسع حول فكرة الثقافة السياسية "الكوزموبوليتانية"، والتي سنركز عليها في الفصل الأخير من الكتاب.
التواسط والمرتبطية
ما هي التجربة المتواسطة ؟ قد يجادل البعض بأن هذا المصطلح يتضمن تفريقاً زائدا عن الحاجة. لأن هناك معنى تكون فيه جميع التجارب البشرية تقريباً متواسطة، وذلك إن كنا نعني بذلك أنه يتم تقديم التجربة إلى البشر من خلال النظام الرمزي للغة. ويمكن بصورة معقولة وصف بعض الأمثلة على التجربة الحسية الأساسية ، مثل الحالات الجسدية (الألم، الجوع، التعب، وما إليها) باعتبارها "تجارب مباشرة"، إلا أن هناك بطبيعة الحال مجال للمراوغات الفلسفية ، حتى هنا. ولكن من حيث الأنظمة الثقافية والاجتماعية للوجود البشري، تمثل اللغة دون ريب ذلك "الوسط" medium الأساسي الذي نقوم من خلاله بفهم العالم والارتباط به. ويعتبر هذا المستوى الأساسي من التواسط نقطة الانطلاق لتأملات جيدنز حول التجربة المتواسطة.
ص (152)
يجادل جيدنز بأن "اللغة هي الوسيلة الرئيسية والأصلية لتحقيق التماسف distanciation الزماني- المكاني، والارتقاء بالتجربة البشرية لما هو أبعد من المباشِرِيّة التي تتسم بها تجربة الحيوانات" (1991: 23). ولتناول قضية التواسط من منظور هذه الأنثروبولوجيا الفلسفية تبعات مثيرة، لأنها تستغل خطأ مفاهيميا معينا. والفكرة القائلة بأن اللغة تخرجنا من التجربة "المباشرة" (بمعنى كونها غير رمزية وغير ممثّلة) لعالم الحيوان هي فكرة هامة لفهم الفعل الإنساني والتجربة الإنسانية بشكل عام، وترتبط بشكل وثيق بأفكار جيدنز المتعلقة بالانعكاسية reflexivity البشرية (الفصل الثاني). لكنها تلقي بظلالها هنا على الفكرة القائلة بأن إقامة اللغة تمكننا من التعامل مع الزمان والمكان بطرق مُحدِّدة للوجود الإنساني. وبرغم الارتباط الوثيق بين هاتين الفكرتين، إلا أنهما لا تعطيان المعنى ذاته تحديداً. وستكون نتيجة الترخيم بينهما eliding هي وضع إطار لفهم التواسط المكتنف في تقنيات الاتصال، والذي يركز على دورها في التحول الزمني- المكاني متجاهلاً الاعتبارات الأخرى بصورة ما. وهكذا، فإن جيدنز يُعَرِّف التجربة المتواسطة بأنها "ربط التأثيرات المتباعدة زمانياً/مكانياً بالتجربة الحسية البشرية" (1991: 243). وبالتالي فإنه يُنْظَر إلى التواسط على أنه، بصورة أساسية، مسألة متعلقة بالربط بين الزمان والمكان من خلال التواصل. وبطبيعة الحال، فتعاملنا لا يقتصر الآن على التواصل اللغوي، لكن التعامل مع "التجربة المتواسطة" قد أمدنا اليوم بتقنيات حديثة للاتصال مثل الهاتف وأجهزة الكمبيوتر المتصلة عن طريق الشبكات، ومن خلال "وسائل الإعلام" مثل الصُحُفْ، والسينما، والراديو، والتلفاز، وما إليها.
وبعمل هذه الرابطة بين التواسط والتحول الخاص بالزمان والمكان، فإن جيدنز يتبع بشكل كبير التقليد الخاص بما يسمى "نظرية الوسط" medium theory (Meyrowitz 1994, Crowley and Michell 1994) المرتبطة بعالم "دائرة تورونتو" لمنظِّري التواصل في الفترة الممتدة ما بين عقدي الأربعينيات والستينيات من القرن العشرين. ويعتبر الباحثون أمثال هارولد إينيس (Innis 1951) ، ومارشال ماكلوهان (McLuhan 1964)، و والتر أونغ (Ong 1967)، وجاك غودي (Goody 1968)، بالإضافة إلى الكتاب الشمال أمريكيين الأحدث عهداً مثل جوشوا ميروفيتز (Meyrowitz 1985)، وجيمس كاري (Carey 1989) من المميزين في الإطار الأوسع لنظرية الاتصالات من خلال اهتمامهم بتأثير وسط الاتصال نفسه، بدلاً من محتويات الرسائل التي تطرحها وسائل الإعلام، على البنى الاجتماعية والتجربة الثقافية. لكن الأمر المهم فيما يتعلق بمنظورهم بالنسبة لأغراضنا هنا هو الطريقة التي جعلوا بها تضمينات تقنيات الاتصال ووسائل الإعلام في طليعة معالجتنا الاجتماعية للزمان والمكان.
فعلى سبيل المثال، جادل كتاب هارولد إينيس المرجعي المعنون تحيز الاتصال (Innis 1995) بأنه يمكن التمييز بين الحقب التاريخية المختلفة
ص (153)
من حيث تحديد الأنماط الثقافية والقوة السياسية، من خلال وسط الاتصال السائد في كل منها. والأمر الأشهر (والأكثر إثارة للجدل) أنه جادل بأن وسط الاتصال قد أظهر "تحيزاً" تجاه أي من الزمان أو المكان. وقد كانت المجتمعات "المتحيزة للزمان" time-biased هي تلك المجتمعات التي سادت فيها ثقافة شفهية بسيطة، أو التي كان وسط الاتصال السائد فيها ثقيلا ودائما ولكنه عاجز نسبياً عن الحركة، ولا يتسم بالمرونة، ومن الصعب استنساخه: مثل ألواح الحجارة أو الطين في المجتمعات القديمة، وورق البرشمان parchment في أوروبا خلال العصور الوسطى. ويجادل إينيس (جوهريا) بأن استخدام وسائل الإعلام هذه كان مرتبطاً بصورة مباشرة بتوجه هذه المجتمعات نحو "التقليد": تشديدها على العادات، والاستمرارية، والمعارف المقدسة المُوحَى بها ، والتوالد الاجتماعي غير الديناميكي إلى حدا ما، وما إليها، وربط الحاضر والمستقبل بالماضي. وعلى العكس من ذلك، فإن المجتمعات "المتحيزة للمكان" space-biased هي تلك المجتمعات التي استبدلت وسائل الإعلام هذه بوسائط أكثر مرونة، يمكن حملها، ويسهل استنساخها: مثل أوراق البردي بدلاً من الحجارة في مصر القديمة، والورق والأحرف الطباعية بدلاً من البرشمان في أوروبا، وهكذا. ولقد أدى هذا بدوره إلى توليد "انحياز ثقافي" نحو المكان في هذه المجتمعات - التوسع في السيطرة الإدارية الإقليمية (بما فيها الإمبريالية) مصحوبة بزيادة لاحقة في عدد المؤسسات العلمانية، والخبرة التقنية، والانفصال عن التوالد reproduction التقليدي المبني على العادات والدين، مع توجه نحو الحاضر والمستقبل بدلاً من الماضي (Heyer and Crowley 1995). وكما يلخص روجر سيلفرستون (Silverstone 1994:93) حجة إينيس، ففي حين أن الثقافات المتحيزة تجاه الزمان تبني قيمها ومجتمعاتها على أساس المكان، نجد أن الثقافات المتحيزة تجاه المكان "تقوم بالتركيز على الأرض كعقار، وسفر، واكتشاف، وحركة، وتوسع" وهو ما يتم بواسطته خلق "مجتمعات مكانية متحركة" مرتبطة ببعضها البعض عبر المسافات.
يمكننا أن نرى هنا صلة وتقاربا بين أفكار إينيس وبعض أفكار جيدنز حول الخصائص اللاتضمينية disembedding للحداثة، لأنه برغم كون جيدنز لا يبني حجته على النوع نفسه من "الحتمية التكنولوجية"، إلا أنه يقوم بعمل روابط مشابهة بين فكرة التواسط والتماسف الزماني- المكاني الذي تتسم به الحداثة.
ويتضح تأثير إينيس في كتابات مارشال ماكلوهان الرؤيوية visionary الأكثر شهرة والتي تتسم بالمبالغة. ويمكن ملاحظة أفكار ماكلوهان حول التأثير التوسعي "المُزِيح" لتقنيات الإعلام والاتصالات على سبيل المثال، في تناوله لهذه التقنيات في كتابه المعنون فهم وسائل الإعلام Understanding Media (1964) على أنها "امتدادات للإنسان". ولقد اقترح هنا أنه يجب أن يتم النظر للتقنيات الإعلامية على أنها "امتدادات" مكانية للحواس البشرية أو للجسم ذاته-الكتاب كامتداد للعين؛ والمذياع كامتداد للأذن. ولكن يمكننا أن نجد التوضيح الأشهر الذي قدمه ماكلوهان لخصائص التجسير bridging الزماني- المكاني
ص (154)
التي تتميز بها وسائل الإعلام في رأيه الشهير- والذي قد يجادل البعض بأنه متبصر prescient-والخاص بمفهوم "القرية العالمية" ، والذي "تغلبت فيه مجموعة الدوائر الكهربية على نظام "الزمان" و"المكان" ، وتمطرنا بشكل مستمر وفوري بمخاوف واهتمامات جميع البشر الآخرين" (McLuhan and Fiore 1967: 16).
وبرغم أن كتاب ماكلوهان قد استفاد ، وعانى في الوقت نفسه، من الأسلوب المبالغ والتنبؤي الذي تبناه، إلا أنه من المهم النظر إليه في إطار التقليد ذاته الخاص بإينيس ومُنَظِّري الوسط medium theorists الأحدث عهداً، مثل جوشوا ميروفيتز. فعلى سبيل المثال، كتب ميروفيتز في أحد كتبه، والذي صار مؤثراً على وجه الخصوص-لا إحساس بالمكان- قائلاً:
لقد قلل تطور وسائل الإعلام من أهمية الوجود المادي في تجربة الناس والأحداث .... والآن، أصبحت الأماكن المقيدة مادياً أقل أهمية لأنه صار بإمكان المعلومات التدفق عبر الجدران والاندفاع عبر المسافات الشاسعة. وكنتيجة لذلك، فقد أصبحت العلاقة بين المكان الذي يتواجد فيه الشخص وبين معارفه وتجاربه أقل فأقل، حيث قامت الوسائط الإلكترونية بتغيير معنى الزمان والمكان بالنسبة للتفاعل الاجتماعي (1985: ( Meyrowitz vii-viii.
والآن، وبعد أن حكمنا عليها كنظريات واسعة تربط وسائل الاتصال بالتفاعل والتوالد الاجتماعيين، هناك العديد من المشكلات التي تواجه أفكار جميع "منظري الوسط"(2). لكنني لا أود مناقشة هذه المشاكل هنا، حيث أنني سأكتفي بتوضيح الارتباط الوثيق بين مفهوم التواسط في هذا التقليد وبين فكرة التغلب على المسافة خلال التواصل. ويمكن ملاحظة هذا أيضاً في المصادر الاشتقاقية لجميع أشكال وسائل الإعلام الإلكترونية تقريباً: حيث أن أصل كلمات "التليفزيون" (التلفاز) ، و" التليفون" (الهاتف) ، و"التلغراف" هو الكلمة اليونانية تلي tele التي تعني "بعيد"، كما أن كلمة "راديو" مشتقة من كلمة radius اللاتينية والتي تعني "شعاع"، وبالطبع مصطلح "البث" broadcasting. وهذا الفهم للتواسط على أنه في الأساس كعملية "تسهيل" أو "توصيل" – أي جلب أحداث بعيدة إلى النواحي التي يقيم بها الناس- فمن الواضح أنه موح suggestive للغاية بفكرة اللاتوطين.
لكنني لا أعتقد، على أية حال، أنها تدرك جوهر التواسط بأكمله، وللمضي لما هو أبعد من ذلك في فهم الخاصية المميزة للتجربة المتواسطة، فإننا نحتاج إلى الجمع بين هذه النظرة ووجهة النظر الفريدة الأخرى حول هذه الفكرة. وهذا هو معنى التواسط باعتباره عملية المرور عبر وسط ما، والنتائج المتعلقة بطبيعة التجربة النابعة من هذا التدخل. ويمكننا فهم ما هو على المحك هنا ببساطة عبر المقارنة بين اثنين من المعاني التي يقدمها القاموس لكلمة وسط "medium": 1- "الوسيلة التي يتم بها التعبير عن شيء ما" و 2- "المادة البينية التي يتم عبرها توصيل الانطباعات الى الحواس" (Hawkins and Allen 1991: 902).
ص (155)
وفي الأول منهما ، نجد أن المعنى الساد هو النظر إلى التواسط كمُسَهِّل- "الوسيلة التي من خلالها ..."-ومن السهل ملاحظة كيف يوحي ذلك بجميع القدرات التكنولوجية التي تمتلكها وسائل الإعلام وممارسات الاتصال الحديثة على تقديم التجربة بسرعة، وسهولة، وكفاءة. ولا يوجد معنى لهذا التعريف للوسط على أنه يتدخل بنفسه في العملية، ويترك بصمته على التواصل، محدثاً تغيرات نوعية في تجربة الشيء الذي يتم توصيله. حيث أن هذا يحدث سوى من خلال التعريف الثاني، حيث تقوم الفكرة المتعلقة "بالمادة المتدخلة" بتوجيه الاهتمام لجميع هذه القضايا.
وبطبيعة الحال، يشتمل التواصل المتواسط على كل من هذين الجانبين. لا تتسم وسائل الاتصال بالشفافية على الإطلاق، لكنها تقوم دائماً بفطرتها بتشكيل الاتصال. وتعد التجربة التلفازية، على سبيل المثال، متواسطة إلى حد كبير -ليس فقط فيما يتعلق بالمحددات الفنية للشكل (الصورة المضيئة التي تنتج نتيجة قذف شاشة فلورية fluorescent screen بحزمة من الإلكترونات)، ولكن أيضاً من حيث المجموعة المعقدة من الشفرات الرمزية، والاصطلاحات، وقيم الانتاج التي تستخدمها. ومن الواضح أنه يوجد هنا تدخل هائل على جميع المستويات-من الاستراتيجيات المتعلقة بعمل آلة التصوير (الكاميرا) إلى تنظيم التجربة الذي يتم تحقيقه من خلال استخدام أنواع محددة من البث التلفازي، والخصائص النصية للوسط: أي أنماط الخطاب المتعلقة به، واستراتيجياته الروائية ، وما إليها (Williams 1974; Fiske 1987; Mellencamp 1990; Corner 1995; Abercrombie 1996).
وفي الحقيقة، فإن إحدى الطرق للتفكير في تطور التقنيات الإعلامية والاتصالية الحديثة هي المحاولة المستمرة لتحقيق الوعد الخاص بالتعريف الأول عن طريق تقليل المشكلات التي يواجهها الثاني. ومن ثم، فقد يُنْظَر إلى الهدف العام للتواصل المتواسط، بشكل متناقض بعض الشيء، كمحاولة لتحقيق المباشرية. ويمكن رؤية هذا بأكبر درجة من الوضوح كهدف تقني- تحسين جودة الإشارة، "الفورية" instantaneity التي تقدمها وصلات الأقمار الصناعية، ودرجات تعريف أفضل للصورة على الشاشات، ونظام الصوت الذي أصبح الآن عتيق الطراز إلى حد ما، ولكن الذي لا يزال برغم ذلك أقل تعبيراً، والخاص بفكرة سماعات "الهاي- فاي" (التصوير الدقيق للأداء الأصلي الحقيقي) وما إليها. ولكنه بنفس القدر من الأهمية أيضاً كهدف ثقافي- تجاربي للصناعات الإعلامية: على سبيل المثال، الفكرة القائلة بأنه يمكن إحضار الأحداث- الأخبار، الرياضة، "الأحداث التاريخية"، إلخ.- إليك "في بث حي وقت وقوعها" على شاشة التلفاز (Dayan and Katz 1992).
والتفكير في التواسط بهذه الطريقة يعيدنا إلى الفكرة المتعلقة بالتغلب على المسافة، ولكن بمعنى أكثر تعقيداً لهذه العملية. "فالمباشرية"، بالمعنى الدقيق للانحلال الذاتي للوسط، هي بصورة واضحة شيء لا يمكن الوصول إليه على الإطلاق، وبالتالي يجب فهم الخصائص المعولمة للتجربة الإعلامية - والتي يقصد بها معايشة العالم في غرفة المعيشة الخاصة بالفرد- على أنها شكل خاص من المرتبطية connectivity (الفصل الأول)
ص (156)
والتي تختلف من حيث النوع مع التجربة "المباشرة" المتعلقة بالناحية المادية التي يعيش فيها الفرد. وبالتعبير عن هذا باستخدام لغة الفينومينولوجيا، علينا أن نفكر في التجربة التي تحضرها الينا أجهزة الهاتف ، والتلفاز، وأجهزة الكمبيوتر المتصلة عبر شبكات، إلخ. على أنها تحتل "حيزاً" مميزاً وخاصاً في العالم الحياتي للفرد. والتجربة المتواسطة "تظهر للوعي" في التدفق اليومي للتجارب المُعَاشة بطرق يمكن تمييزها عن التجربة المباشرة التي تتم وجهاً لوجه، والمتعلقة بالتقارب المادي physical proximity ضمن سياق إحدى النواحي. وهكذا، فمن خلال الاهتمام بمثل هذا التمييز فقط ، سنكون قادرين على تقييم أهمية "اللاتوطين المتواسط" بالنظر إلى التجارب والاهتمامات المحلية الدنيوية الأخرى في العالم الحياتي للناس العاديين. ويمثل هذا ، على ما أعتقد، أحد الاعتبارات البالغة الأهمية لأنه يبدو أن كثيرا من الأشياء ترتكز على فكرة الوسائط الإلكترونية كأدوات vehicles للاتوطين.
وهكذا، فإن المقابلة التي تم دفعنا نحوها تتم بين التجربة والتفاعل المحلي المباشر الذي يحدث وجهاً وجهاً من ناحية، وبين نظام مختلف نوعياً من التجربة المتواسطة، والذي يمكننا- في العالم المتقدم- الوصول اليه بشكل متكرر وبصورة متزايدة في النواحي التي نعيش بها. ويعد هذا تمييزا صالحا ومفيدا، لكننا يجب أن نكون مدركين لمخاطره.
وتتمثل الخطورة الأولى لهذا التمييز في أنه قد يقودنا بشكل مضلل إلى النظر للتجربة المباشرة التي تتم وجهاً لوجه على أنها شكل شفاف، ونقي، وبسيط من التجربة - لمجرد أنها تمثل، بمعنى ما، الشكل "الأنثروبولوجي" الأصلي من التجربة. ويعود بنا هذا إلى فكرتنا الأصلية القائلة بأنه لا يوجد مطلقا تفاعل، أو اتصال، أو تجربة يمكن اعتبارها "مباشرة" إذا أردنا التحدث بشكل دقيق. وكما يعبر مانويل كاستلز عن هذه الفكرة: "عندما يقول منتقدو الوسائط الإلكترونية أن البيئة الرمزية الجديدة لا تمثل "الحقيقة"، فهم يشيرون ضمنياً إلى فكرة بدائية بشكل سخيف حول التجربة الحقيقية "غير المُرَمَّزة" التي لم يكن لها وجود قط. حيث أنه يتم التعبير عن جميع الحقائق من خلال الرموز .... وبمعنى ما، فإنه يتم تصور جميع الحقائق تقريباً" (Castells 1996:373). هذا لا يهدف فقط للتأكيد على الفكرة الفلسفية المجردة التي تدور حول حتمية عرض الحقيقة بصورة رمزية، لكنها تسعى إلى كشف التعقيد الفينومينولوجي للتجربة "المباشرة". وبالتفكير للحظة، سندرك أن هذا يتضمن مزيجا معقدا من التجربة الحسية والرمزية المولّفة مع الذاكرة والتخيّل. ويتمتع التواصل الشفهي ذاته الذي يتم وجهاً لوجه بمدى من الصيغ الرسمية وغير الرسمية المختلفة (تلقي المعلومات أو التعليمات، والاستماع إلى المحاضرات، والانخراط في المفاوضات التجارية، والمحادثات، وتبادل المشاعر العاطفية، والإفصاحات الحميمة عن الذات، والمناقشات، والانهماك في القيل والقال، والنكات، إلخ.) مقرونا بوعي مستمر (يكون في الخلفية أحياناً ، وفي الطليعة في أحيان أخرى) بالبيئة المادية، وبتجربة الحركة أو الراحة، وبتمضية الوقت، وبالشعور بأننا في حالة جيدة أو غير جيدة، وبالنشاط الجنسي، وبالقلق، وأحلام اليقظة، وما إليها. وبالتالي، فليس الأمر كما لو أن السياق المحلي المباشر
ص (157)
للتجربة يمكن النظر إليه كخط قاعدي بسيط تتراكب تعقيدات التواسط فوقه.
يصبح هذا التبسيط لتعقيدات التفاعل الذي يتم وجهاً لوجه مثيراً للنزاع بشكل خاص عندما ينزلق نحو الفكرة القائلة بأن الإطار المحلي المباشر يمثل بصورة ما الشكل "النقي" ، ومن ثم الأكثر صلاحية من التفاعل التواصلي. وهنا فإن المباشر، والذي يفترض أنه "فوري" ، يمتلك أفضلية باعتباره الأساس الأخلاقي السامي للتفاعل الثقافي، والذي تبدو أي درجة من التواسط تنتج عنه وكانها أحد أوجه القصور الحتمية. وكثيرا ما نصادف هذا الموقف في الدفاعات عن تفوق المجتمعات الثقافية- السياسية صغيرة الحجم على المجتمعات الجماهيرية . وهي فكرة تم تفنيدها بقوة، على سبيل المثال، من قبل المنظِّرة السياسية المنادية بحقوق المرأة إيريس ماريون يونغ، بانتقادها لبعض صور التفكير السياسي المجتمعي بسبب تلك الطريقة التي تمنح بها "المباشرية أفضلية على التواسط". إن مَن يدافعون عن المثال (الرومانسي) للمجتمعات الصغيرة التي يتم التفاعل بين أفرادها وجهاً لوجه بسبب المباشرية التي يتسم بها- صفتي المباشرة والأصالة في العلاقات الاجتماعية التي تدعمها- هم، كما تقترح يونغ، يكدحون في ظل "وهم ميتافيزيقي" حول احتمالية "الوجود المباشر للناس بالنسبة لبعضهم البعض". وتمضي لتجادل بأنه
حتى العلاقة التي تحدث وجهاً لوجه بين شخصين تتواسط عبر الصوت والإيماءات، ووالبعدين المكاني والزمني .... [وهكذا] فإنه لا يوجد أساس للنظر للعلاقات المباشرة على أنها علاقات اجتماعية أكثر أصالة ونقاء من العلاقات التي تتواسط عبر الزمان والمسافة. لأن كلا من العلاقات المباشرة وغير المباشرة هي علاقات تتواسط عبر وسط معين، وفي كليهما توجد احتمالية الانفصال والعنف بنفس درجة وجود احتمالية التواصل والإجماع. (Young 1990:314)
وفي إطار مشابه، تحذر دورين ميسي من إضفاء الصبغة الرومانسية romanticizing على مفهوم المجتمع المتركز في المكان: لا يلغي "توافر الحضور"، بشكل ما، تلك القضايا المتعلقة بالتمثيل والتفسير. "إن ذلك المكان المسمى بالمنزل لم يكن أبداً تجربة لا متواسطة unmediated " (Massey 1994: 1634).
تعد هذه تحذيرات هامة، لكنها لا تمنعنا من إجراء التمييز الذي نحتاج إلى فعله بين التجربة المباشرة التي تتم وجهاً لوجه والتجربة التي نحصل عليها من التقنيات الإعلامية. والنقطة التي يجب أن نكون واضحين بشأنها هي أن هذا التمييز ليس تمييزاً بين "المباشر" والنقي من ناحية، والمتواسط باعتباره "غير حقيقي" أو مصطنعا من الناحية الأخرى، كما أن هذ التمييز لا يمنح أفضلية لتوافر الحضور كقيمة. وهذا، ببساطة، هو تمييز بين الأشكال الفينومينولوجية المختلفة ، أي الطرق المختلفة لمعايشة "الواقع".
وفي الحقيقة، فإن هذه الاختلافات الفينومينولوجية لا تقوم ببساطة
ص (158)
بمباعدة الفجوة بين "المحلي- المباشر" و"البعيد- المتواسط". ومن الواضح أن هناك فينومينولوجيات مختلفة تتعلق بالأنواع المختلفة من التقنيات الإعلامية. حيث أن رنين الهاتف "يقتحم" الموقف المحلي بطريقة تختلف عن فيض الصور الخاص بالتلفاز أو الرسالة التي تظهر على شاشة الكمبيوتر والتي تخبرك بأنه قد وصلت رسالة جديدة إلى بريدك الإلكتروني. ومن ثم فإن إحدى الخطوات المفيدة لفهم المرتبطية المتواسطة هي من خلال نمذجة بعض صور التمييز الأساسية هذه.
الصور المختلفة للتجربة المتواسطة
يقدم جون تومسون في كتابه المعنون وسائل الإعلام والحداثة الأساس لهذا، من خلال اقتراح "إطار مفاهيمي لتحليل أشكال الفعل والتفاعل التي تخلقها وسائل الإعلام" (Thompson 1995: 82). ويقترح تومسون ثلاث فئات من التفاعل، والتي ترتبط بثلاث صور مميزة من التواصل يمكننا أن نجدها في المجتمعات الحديثة (Thompson 1995:82- 7).
وتعتبر الفئة الأولى- وهي "التفاعل وجهاً لوجه"- مُفَسِّرة لذاتها، حيث تشير إلى التواصل المباشر ضمن سياقات التواجد المشترك co-presence التي تمت مناقشتها أعلاه. وتستخدم هذه الفئة بصورة مميزة مجموعة من متعددة من التلميحات الرمزية-ليس الكلام فحسب، ولكن أيضاً الإيماءات، ولغة الجسد، وما إليها- التي يمكن الحصول عليها من خلال نظام إشاري reference system زماني- مكاني مشترك. والشيء الأكثر أهمية هو أن التفاعل المباشر يكون حواريا dialogical: حيث يكتنف تدفقا تواصليا ثنائي الاتجاه.
أما فئته الثانية، أي "التفاعل المتواسط"، فتصف ذلك الشكل من التواصل الذي تمثله الرسالة، والبرقية، والفاكس، والهاتف ، وربما (برغم أن تومسون لم يذكر ذلك) الأشكال الأكثر أساسة من التواصل الذي يتم عبر أجهزة الكمبيوتر مثل رسالة البريد الإلكتروني البسيطة. ويشتمل هذا النوع من التواصل على استخدام وسط تقني- "الورق، الأسلاك الكهربائية، والموجات الكهرومغناطيسية، إلخ."- للسماح بالتواصل بين الأطراف المتباعدة عن بعضها البعض من حيث الزمان أو المكان (أو كليهما). ووفقاً لتومسون، فإن هذا التمديد للتواصل عبر الزمان- المكان تترتب عليه النتائج التالية. يفتقر المشاركون إلى إشارات مشتركة للتواجد المشترك، وبالتالي يتوجب عليهم التفكير بدرجة أكبر في وضع المعلومات ضمن سياقها الصحيح- العناوين والتواريخ الموجودة على الرسائل والفاكسات، وصور التعريف بالذات في المحادثات الهاتفية. كما أنهم يعملون هنا في إطار نطاق من التلميحات الرمزية أضيق بدرجة مميزة مما هو ممكن في التفاعلات المباشرة. وهكذا، فإن هذا النوع من التواصل قد يتسم بمستويات أعلى من الالتباس وبحاجة أكبر إلى المهارات التفسيرية من قبل الفاعلين المشاركين في صور التواصل هذه. ولكن إحدى النقاط الرئيسية هي أنه، وبرغم هذه المقيدات، إلا أن التفاعل المتواسط يظل حوارياً في الأساس، مثلما هو الحال مع التفاعل وجهاً لوجه.
ص (159)
والفئة الأخيرة من فئات تومسون هي أكثرها إثارة للاهتمام فيما يتعلق بالمناقشة التالية. حيث أن ما يطلق عليه اسم "شبه التفاعل المتواسط" mediated quasi- interaction يشير إلى التواصل الخاص بوسائل الإعلام ("الكتب، والصحف، والراديو، والتلفاز، إلخ."). ومن الواضح أن هذه الفئة، مثلها مثل التفاعل المتواسط، تقوم بتمديد التواصل عبر الزمان- المكان، لكن هناك اختلافين رئيسيين بينها وبين الفئتين الأخرتين: أولاً، أن هذا النوع من التواصل ليس موجهاً نحو آخرين محددين يمكن تعريفهم، ولكن "يتم إنتاجه من أجل مدى غير محدد من المستقبلين المحتملين"؛ وثانياً، أنه، على خلاف أي من الفئتين الأخرتين، يعتبر غير حواري ولكنه ذو طبيعة أحادية المتكلم (مونولوجية: monological) بصورة نموذجية: حيث أن الفيض التواصلي -سواء كان في صورة وسائط مطبوعة أو إلكترونية- يكون في الغالب أحادي الاتجاه. ولقد قاد هذان الاختلافان تومسون إلى وصف الاتصال المتواسط الذي يتم على نطاق واسع باسم "شبه التفاعل"، لأنه يفتقر بشكل واضح إلى بعض الجوانب التي نربطها بالتفاعل البشري "المباشر": وهي التبادلية reciprocity ، وخصوصية العلاقة بين الأشخاص interpersonal specifity. لكنه يصر، وهو محق في ذلك، على أنه نوع من التفاعل: فهو ليس مجرد نقل للمعلومات من المصدر إلى الوجهة؛ كما أن المستقبلين، برغم أنهم لا يتجاوبون بصورة مباشرة، فهم ليسوا سلبيين في هذه العملية، ولكنهم ناشطين في تفسير الاتصال وبناء المعنى. وهناك بالفعل بُعد تفاعلي في أنواع "العلاقة" التي يمكن أن لجمهور وسائل الإعلام أن يرسخها مع الشخصيات الإعلامية، وهكذا.
والآن، فإنه يتم تحديد كل هذا، بصورة محقة، وفقاً لمستوى التفاعل-لأن هناك معنى مهما والذي وفقاً له يجب أن نقوم دائماً بالتفكير في الاتصالات على أنها تفاعلية (أو شبه تفاعلية)، وليس كأفعال غير مترابطة من إرسال واستقبال الرسائل. وبالإضافة لذلك، فقد تم توظيف إطار تومسون من أجل تحليل مدى واسع من التفاعلات الاجتماعية التي تتصل بكل من إنتاج واستهلاك ثقافة وسائل الإعلام؛ والتي تتصل، بالإضافة لذلك، بالقضايا المتعلقة بتغيير المجال العام للعمل السياسي، والمتضمن في الاستخدام المتزايد للتقنيات الإعلامية (انظر أيضا: Thompson 1994). وبرغم ذلك، فبوسعنا التحدث عن التجربة المتواسطة، وكما يقر بذلك تومسون، على أنها "ذلك النوع من التجربة الذي يمكننا اكتسابه من خلال التفاعل أو شبه التفاعل المتواسط" (1995:228)، وهذا هو ما نريد الوصول إليه حقا.
تتمثل إحدى الطرق لعمل ذلك في محاولة بناء تحليل فينومينولوجي شامل بناء على الفروق التي عرضها تومسون في تحليله التفاعلي. يتطرق تومسون إلى بعض هذه القضايا الفينومينولوجية بنفسه، كما يقدم بعض التبصرات المفيدة التي سوف نعود إليها لاحقاً في هذا الفصل. لكنه لا يحاول أن يكون متعمقا بأي شكل من الأشكال، ومن السهل فهم السبب وراء ذلك. لأننا قد رأينا بالفعل أنه حتى الفئة التفاعلية "البسيطة" نسبياً
ص (160)
والمتعلقة بالتواصل المباشر (وجها لوجه) تعتبر معقدة من الناحية الفينومينولوجية. وإذا قمنا بتوسيع هذا ليشمل فقط فئة تومسون المتعلقة بما أسماه "التفاعل المتواسط"، فسنحتاج إلى إضافة مدى كامل من صور التمييز الدقيقة: بين وصف الفينومينولوجيات المتعلقة بتبادل الرسائل والمحادثات الهاتفية، أو بين أي منهما وبين "تفاعلات لوحة المفاتيح" المتعلقة بالاتصالات التي تتم عبر أجهزة الكمبيوتر. هل البريد الإلكتروني أقرب من حيث التجربة لكتابة الرسائل- "انتقام الوسط المكتوب والعودة إلى العقل المطبعي" (Castells 1996:363) أم هل هو "شكل جديد من "الشفهية" orality... كتابة غير رسمية وغير إنشائية في التفاعل الذي يتم في الزمن الحقيقي، في صورة الدردشة المتزامنة (الهاتف الكاتب ...)" (المرجع السابق) ؟ ولقد تعاظمت درجة تعقيد هذه الأسئلة بالنظر إلى "وسائل الإعلام الجديدة" ، بفعل عودتها للإشارة إلى ما افترضنا أنها أشكال متواسطة "بسيطة"-مثل الخطابات، على سبيل المثال- لكن التي اكتشفنا أنها معقدة من الناحية الفينومينولوجية(3).
واذا أضفنا إلى هذا المدى من القضايا تلك التي تثيرها، على سبيل المثال، التجربة المتعلقة بالاتصال المحوّل زمنياً time-shifted communication ، والذي صار متاحاً من خلال آلات المجيب الآلي، أو الطرق المختلفة التي اندمجت بها الهواتف النقالة بشكل سريع مع العوالم الحياتية الروتينية لبعض الناس، أو التجربة التي توضح كيف قامت "هجرة" تقنيات معينة-مثل أجهزة الفاكس- من إطار الأعمال التجارية إلى السياق المنزلي بتغيير تجربة الحياة المنزلية، فمن الواضح أنه سيكون لدينا مهمة جسيمة هنا. وبرغم أنه جار تمحيص بعض هذه القضايا بالنظر إلى وسائل الإعلام الجديدة، مثل الاتصالات التي تتم عبر أجهزة الكمبيوتر(Poster 1995, Turkle 1995,1996)، إلا أنه لا يوجد سوى قدر ضئيل للغاية من الكتابات التي تمتد عبر المدى الخاص بالتجربة المتواسطة و "التجربة شبة المتواسطة"(4).
وبالتالي سأقوم في الحيز المتاح هنا، متفادياً أية محاولة للقيام بمعالجة شاملة، بالتركيز على موضوعين اثنين فقط يصلان – من الناحية الفينومينولوجية- التجربة المتواسطة بالموضوع الأوسع الخاص باللاتوطين. ويمكن فهم كلا هذين الموضوعين على أنهما تعبيرات مختلفة عن مقولة "التقارب" proximity التي قمنا بمناقشتها في الفصل الأول كتوضيح ثقافي للمرتبطية المعرِّفة للعولمة. ولكن، وحيث أننا قد قمنا بالتركيز هناك بشكل أساسي على تجربة التقارب التي يوفرها السفر والتنقل المادي، فسنحاول استعادة الوعد الخاص بفهم التقارب الذي أوصلته التقنيات الإعلامية إلى النواحي المحلية.
التقارب المتواسط 1 : إعادة تعريف الحميمية
تتعلق فكرة الحميمية intimacy بالتجربة المحلية بعدد من الطرق المثيرة للاهتمام: أولاً، معناها السائد الخاص " بالقرب" closeness هو معنى يمكن المجادلة بأنه قد تمت صياغته على غرار التقارب المُجسَّد مادياً (لاثنين من الأشخاص)
ص (161)
عموما. وعادة ما ينظر إلى معنى أن تكون "حميماً" على أنه تحقيق مستوى عميق من الاتصال الشخصي مع الآخر. وهنا، فإن "العلاقة وجهاً لوجه" face-to-faceness التي يتسم بها التفاعل التواصلي المحلي، تصبح علاقة فرد لفرد one-to-oneness بدرجة أكبر، والتي يتمثل هدفها في أن يكون كل منهما متواجداً بالنسبة للآخر بأكمل شكل ممكن، وهو ما يشتمل غالباً على درجة من الاتصال الجسدي، وعادة ما يتضمن مقصورية الانتباه exclusivity of attention. ومن المحتمل أن الفكرة الرئيسية هنا هي "الباطنية" innerness التي تشتق من الأصل الاشتقاقي للمصطلح-من الكلمة اللاتينية intimus- أي "الأعمق". إن التلميح الضمني الشائع، لكن غير الحصري، للحميمية باعتبارها متعلقة بالنشاط الجنسي يعطي المعني الأكثر وضوحاً لهذه الصفة الباطنية للتواصل: الفعل الجنسي كمعرفة حميمية بالآخر، والتي تجمع بين كل من القرب وبين التزاوج المادي والنفسي. وعندما يتم فهمها بهذه الطريقة، فإن الحميمية هي نقيض التماسف distanciation . ويحولنا العالم الحميمي في النهاية إلى نواح محلية محددة- والتي عادة ما تكون في النطاق المنزلي وليس العام. ويمكن هنا فهم درجات متزايدة من الحميمية بمعنى مكاني- فينومينولوجي على أنها مستويات من "الباطنية": من صالة الدخول، إلى غرف الاستقبال، إلى المطبخ، وأماكن الاختلاء الأكثر خصوصية و"الأكثر عمقاً" في داخل المنزل – أي الحمام وغرفة النوم.
إذا كانت هذه هي الطريقة الأكثر شيوعاً التي يتم بها فهم الحميمية، فقد ينظر إلى تأثير التقنيات الإعلامية بصورة مباشرة على أنها مُزْعِجة للحميمية- أي العالم الخارجي الذي ينفذ إلى الداخلي. كان هذا هو المعنى الذي ذكرناه في الفصل السابق، حول قيام التقنيات الإعلامية بفتح الأجزاء المتعلقة بنا على العالم الخارجي وجعلنا "متوفرين" بصورة مستمرة. ويُصِرّْ مارشال ماكلوهان، على سبيل المثال، على أن الهاتف وسط مُتَطلِّب: حيث نشعر بشكل عام بأننا مضطرين للإجابة على رنين الهاتف مهما كان ما نفعله. والاحتمالية الكوميدية لتعرض اللحظات الحميمة إلى الإحباط والإزعاج من قبل هاتف يقوم باقتحامها برنينه هي بالطبع إحدى الأفكار المبتذلة للدراما الشعبية. ويقوم جوشوا ميروفيتز بالتوسع في هذه المناقشة، ذاكراً كيف أن مثل هذا التوافر المستمر قد صار معيارا اجتماعيا ضمنيا في المجتمعات الحديثة:
أن تكون اليوم "غير متصل" يعني أن تكون شاذاً ..... وأن يعيش الشخص في مكان لا يوجد به هاتف هو أمر كثيراً ما يتم فهمه على أنه إهانة ضمنية للأصدقاء، والأقارب، وزملاء العمل. كما أنه قد ينظر إلى ترك السماعة مرفوعة بعيداً عن الحامل الذي تعلق عليه على أنه علامة على أن من يفعل ذلك هو مبغض للبشر misanthrope. ويتوقع من العاملين في بعض المهن أن يقوموا بحمل "أجهزة تنبيه" تجعل من الممكن الوصول إليهم في أي وقت أينما يكونون، ومهما كان الذي يقومون بفعله. (1985:147)
ويمضي ميروفيتز ليسجل كيف أن بعض الأديرة اللاترابية قد قامت بتركيب أجهزة للهاتف تحت تأثير المجمع المسكوني الثاني للفاتيكان Vatican II في الستينيات من القرن العشرين. لكنه وجد في أحد الأديرة التي قام بدراستها، وهو أمر مشوق، أن الرهبان
ص (162)
برغم أنه كان بوسعهم استخدام الهاتف ، قد "قاموا بتجنب مشاهدة البث التلفازي المنتظم أو قراءة الصحف اليومية" (Meyrowitz 1985:353 n.36) كطريقة للحفاظ على أهدافهم المتمثلة في العزلة، والانسحاب من العالم، والحميمية الحصرية المستديمة مع الله.
وعلى أية حال، فبوسعنا تبني مقاربة مختلفة وأكثر تشويقا على ما أعتقد، وذلك بالتركيز ليس على إزعاج سياقات الحميمية، بل على مقدرة التقنيات الإعلامية على عرض أشكالها الفريدة المتعلقة من الحميمية، والتي من خلال قد تقوم هذه العملية بإعادة تعريف الأهمية الثقافية للحميمية بالنسبة لنا.
وهناك مفهوم واضح إلى حد ما، والذي تقوم فيه أجهزة الهاتف بتوصيل "تقارب" متماسف من حيث أنها تقوم نموذجيا بربطنا حوارياً " بشريك" تواصلي واحد ومحدد (Thompson 1995: 84). ولكن هل هذه حميمية؟ من بين الأسباب التي تجعلنا نعتقد أنها كذلك هو ملاحظة مدى القرب النسبي بين المحادثات الهاتفية المتماسفة والمحادثات التي تتم وجهاً لوجه. وبرغم التقييدات التي يفرضها الافتقار الى الوجود المادي المشترك، إلا أنه غالباً ما يلاحظ مدى كون هذا الوسط "طبيعيا" وغير متطفل. ومرة أخرى، يعبر ميروفيتز عن هذه الفكرة:
يعد التحدث لشخص ما عبر الهاتف أمرا طبيعي للغاية، لدرجة أننا كدنا ننسى أمر الوسط المتداخل. (وغالباً ما نقول "لقد تحدثت إلى فلان البارحة"، دون التفكير حتى في إضافة أنها كانت محادثة هاتفية. ونادراً ما نقول، "لقد تحدثت" عندما نعني أننا قد كتبنا رسالة إلى شخص ما). وبسبب السمة غير المتطفلة التي يتميز بها الوسط ورموزه، تعد المحادثة الهاتفية أكثر تلقائية بشكل كبير وأقل تصنعاً بدرجة كبيرة من معظم الرسائل (1985:109- 10).
والسمة "الطبيعية" naturalness الظاهرية التي يتميز بها التواصل عبر الهاتف مقارنة بالخطابات (أو البرقيات التلغرافية، أو رسائل البريد الإلكتروني في الواقع) قد يتم عزوها إلى الاختلاف بين الرموز المتعلقة بكل من الحديث والكتابة، حيث أن الكتابة، كما يستطرد ميروفيتز، هي شكل مرمّز بصورة أكثر تعقيداً. وهكذا، فإن القوة الفريدة المتعلقة بالهاتف كوسط متماسف "يتسم بالشفافية" تتعلق بالتأكيد، على أحد المستويات، بالطريقة التي تستنسخ بها الوسط المباشر الخاص بالكلام عبر الزمان- المكان.
لكن هناك أيضاً معنى يمكن أن يقوم فيه الهاتف بالفعل بتعزيز حميمية التواصل تحديداً كدالة على الافتقار إلى توفر الحضور. ويلحظ جيدنز (1991:189) التناقض التالي الذي يتسم به التواصل المتماسف: "قد يتحدث أحد الأشخاص عبر الهاتف إلى شخص يبعد عنه مسافة 12 ألف ميل، وأن يكون مرتبطاً بردود هذا الفرد البعيد خلال فترة المحادثة بشكل وثيق وبدرجة أكبر من ارتباطه بالأفراد الآخرين الذين يجلسون معه في نفس الغرفة". ويمكننا تفسير ذلك
ص (163)
من حيث كونه تركيزا فينومينولوجيا مكثفا يستثيره الوسط: إذ يؤدي الافتقار إلى الحضور المادي والضيق الناتج عنه في نطاق التلميحات الرمزية المتاحة ، إلى تضخيم الارتباط الحصري للموقف الحواري الخاص بالتفاعل الذي يتم وجهاً وجهاً. فنحن نركز على صوت الشريك الهاتفي ونمنحه انتباهنا الكامل لأن عدم فعل ذلك سيعني أن ينقطع الاتصال تماماً. وهذا هو ما يعنيه ماكلوهان (1964:267) عندما يقول بأن الهواتف "تتطلب المشاركة الكاملة من حواسنا وملكاتنا".
وبالتالي، فمن المعقول تماما أن نجادل بأن تقنيات الاتصال يمكنها توصيل نوع من الحميمية، لكننا بدأنا في رؤية تحول في معنى هذا المصطلح. حيث أنه يتم الحفاظ على العلاقة فرد لفرد وبين الباطنية. ولكن يبدو أولاً أن عنصر التجسد قد سقط ، تليه سياقات العزلة والخصوصية.
الحميمية غير المجسدة
مثلما يسمح الهاتف بتحقيق الحميمية برغم الانفصال الجسدي، تنطلق العلاقة فرداً لفرد مبتعدة عن العلاقة وجهاً لوجه. لكن أليس ذلك، إذن، نوعاً من الحميمة البديلة أو من الدرجة الثانية، أي بديل ضعيف لكمال الحضور؟ وقد يقنعنا الحماس التقني techno-enthusiasm لبيل غيتس فيما يتعلق بهذه القضية ، والذي يتسم بكونه تافها إلى حد ما، أنها كذلك:
لقد اعتدت أن أواعد امرأة كانت تعيش في مدينة أخرى. وقد أمضينا الكثير من الوقت معاً نتراسل عبر البريد الإلكتروني ، كما أننا فكرنا في طريقة يمكننا بها بشكل ما الذهاب إلى السينما معاً. فقد وجدنا فيلماً كان يتم عرضه في الوقت ذاته تقريباً في مدينتينا. كان كل منا يقود سيارته إلى دار السينما القريبة منه، فيما ندردش عبر الهواتف النقالة. وكنا نشاهد الفيلم وفي طريق عودتنا للمنزل كنا نستخدم الهواتف النقالة لمناقشة ذلك العرض الذي شاهدناه. سيكون هذه النوع من المواعدة الافتراضية أفضل في المستقبل لأنه سيمكن الجمع بين مشاهدة الفيلم وبين عقد اجتماع عبر الفيديو video conference (Gates 1995:206).
وخلال الكفاح ضد التهم الواضحة "بالهوس بتوافه الأمور" nerdishness في مظهرها العام، إلا أنه لا يزال من الصعب إلى حد ما أخذ هذا الاقتراح الخاص بالمواعدة الافتراضية بجدية كبيرة. حيث أن هذا النوع من العلاقة غير المشوقة والتي تعوزها الحيوية الذي قام غيتس باستحضاره، يجلب ببساطة الإجابة الواضحة بأن الحميمية "الحقيقية" في العلاقات الإنسانية تتطلب اتصالا ماديا عن قرب.
ويمثل النشاط الجنسي هنا معيارا ضمنيا، والذي يتم مقابله قياس الأشكال الأخرى "الأقل" حميمية. كما أن الفكرة المتعلقة بالتجربة الجنسية المتواسطة عن بعد telemediated هي فكرة مزعجة بعض الشيء، حيث تستحضر صورا تتراوح بين الأجسام الهزلية المتصلة بأسلاك والمتعلقة بتحفيز الجنس الافتراضي، إلى طرق الإشباع المتعلقة بخطوط الجنس الهاتفي التي تعتبر أكثر شيوعاً إلى حد ما، لكن من الواضح أنها صور تتسم بالوحدة والقنوط. وسيكون من الصعب في الحقيقة إيجاد
ص (164)
مثال أقوى على هذا النقص الجوهري الخاص بالحميمية المتواسطة عن بعد غير ذلك الخاص بخطوط الجنس الهاتفي التجارية. ويمكن النظر إلى الحقيقة البائسة لهذه الخدمات التي يتم الإعلان عنها في صورة مقابلات حميمة مثيرة جنسياً على أنها تقع في الفشل الذريع في تحقيق الحميمية "بكامل مظاهرها". لكن هذه هي علاقة عمل والتي، نظراً لأنها محكومة بطبيعتها التجارية، تكتنف الأجساد فقط في شكل إباحي/استمنائي pornographic/masturbatory ، والذي يركز على التحفيز السمعي لهِزِّة الجِماع لدى الزبون. ويبدو أن الإبعاد- الفصل- بدلاً من الحميمية هو السمة الغالبة لهذا اللقاء. فهناك أولاً تجريد "للسلعة" يتضح من المصالح التي غالباً ما تكون متعارضة بصورة فظة بالنسبة لطرفي تلك العلاقة : بالنسبة للزبون السرعة، ومن ثمَّ رخص التكلفة؛ والعكس بالنسبة لعاملة الجنس الافتراضي التي تتمثل مهمتها الأساسية في إبقاء الزبون على الخط لأطول فترة ممكنة. وهكذا، فإن المقابلة تقوم على فصل النواحي المحلية وعلى إخفاء الهويات، والتي هي أمر ضروري بالنسبة لاقتصاديات هذا العمل. ويمكن للزبون أن يتخيل المقابلة في إطار مثير جنسياً، والذي يبعد كثيراً عن البيئة الوظيفية الكئيبة التي يتميز بها المكان المادي الحقيقي للعاهرة sex worker ، والذي قد يكون مكتبا مظلما أو حتى مطبخها الخاص. وأخيراً، فإن إخفاء الهويات anonymity الذي يتميز به هذا النوع من المقابلة "الافتراضية" هو، كما يقول كاستلز (Castells 1996:361)، دالة على الخطورة المتعلقة بالتجربة الجنسية المباشرة في مجتمعات أواخر القرن العشرين: حيث أنه نظراً للخوف المتزايد من التقاط العدوى أو الاعتداء الشخصي، أخذ الناس يبحثون عن بدائل للتعبير عن نشاطهم الجنسي.... وخاصة طالما أن هذا التفاعل هو غير مرئي ويمكن من خلاله حفظ الهويات"(5).
ولكن إذا كان النشاط الجنسي المتواسط عن بعد يوحي بالتنفير والإبعاد (تجريد ما يتعلق بهزة الجماع orgasmic من ذلك الخاص بالكائن الحيorganismic)، فعلينا أن نحرص على عدم إلقاء اللوم في ذلك على الباب الخاطيء. حيث أن الجنس الهاتفي قد يكون أقرب شبها وبدرجة كبيرة بالدعارة (المباشرة) التقليدية في سياقها المعرِّف، والمتمثل في تحويل الجنس إلى سلعة، عن أن يكون مختلفاً عنها من حيث تماسفه المُفقد للخواص الجنسية sterilizing. وفي هذه الحالة ربما قد يكون الجنس الهاتفي (أو الذي يتم من خلال الاتصال عبر أجهزة الكمبيوتر المرتبطة عبر الشبكات) بمثابة مقابلة تخيلية أكثر إمتاعاً وحميمية عندما تتم ممارسته في إطار غير تجاري يتسم بموافقة الطرفين، أي بين حبيبين "حقيقيين".
وبالإضافة إلى ذلك، فقد تثار اعتراضات تقول بأنه من المضلل السماح لموضوع الحياة الجنسية بالسيطرة على فكرة الحميمية. لأن ذلك النوع من "الباطنية" الذي يصاحب العلاقات الوثيقة، ولكن غير الجنسية، ضمن الحياة الأسرية قد تقدم نموذجاً واعداً. ويمكن مشاهدة أحد الأمثلة الجيدة على تمديد هذا النوع من الحميمية، في استخدام تقنيات المؤتمرات الفيديوية لتوحيد الأسر المتفرقة مكانياً. ففي إحدى الحالات التي تمت رواياتها فيما يتعلق بهذه الممارسة، تمكنت امرأة تعيش في بريستول من الحفاظ على اتصال متكرر بأطفالها الثلاثة الموجودين في كمبريدج في اتصال فيديوي حي عبر الشبكة المعلوماتية الدولية (الإنترنت). وتخبرنا القصة كيف أن المرأة-التي انفصلت عن زوجها- قد قامت باستبدال
ص (165)
زياراتها المتقطعة التي تقوم بها نهاية الأسبوع لرؤية أبنائها، والتي كانت تشتمل على السفر لمسافة 300 ميل، بـ "زيارات" يومية عبر الخطوط الهاتفية "للشبكة الرقمية للخدمات المتكاملة العالية السرعة". وهكذا، فقد حولت التكنولوجيا "الآباء الذين تفصلهم عن بعضهم البعض مسافة كبيرة إلى أسرة متصلة سلكياً بصورة كاملة": "لقد كان التأثير دراماتيكيا. حيث يقولون أن هذا قد سمح لهم بتناول الطعام مع بعضهم البعض وسمحت لجيل [الأم] برؤية الأطفال قبل خلودهم إلى الفراش في الليل. "يمكنني أن أكون هناك لمساعدة الأطفال سواء كانت المشكلة هي سحج ركبة أحدهم، أو واجب منزلي صعب، أو مشاكل مع الأصدقاء" (Millar 1997:5).
وتحتفي هذه القصة باستعادة التكنولوجيا لحميمية العلاقة بين أفراد الأسرة. وتظهر الصور الأطفال الباسمين في غرفة معيشة دافئة ممتلئة بأشياء متراكمة ملتفين حول شاشة الكمبيوتر الذي تظهر عليها صورة الأم الباسمة المصورة من خلال الفيديو. ويستدعي هذا إلى الذهن تلك الصور السابقة للحياة المنزلية التي تركز على وسائل الإعلام: الحلقات العائلية حول جهاز التلفاز في الخمسينيات أو الراديو خلال الثلاثينيات من القرن العشرين. وهناك ، على الرغم من ذلك، إشارة إلى وجود نقص هنا. حيث تقر الأم بأن هذا لا يحل محل كونها مع الأطفال- فالاتصال الذي يتم وقت الخلود للفراش لا يمتد ليصبح عناقا وتغطية للأطفال- كما أنه لا يمكن بالطبع فصل الحقيقة ذاتها المتعلقة "بالانفصال" القانوني- الاجتماعي عن انفصالهم المادي. ولكن برغم كل هذا، فإنه يبدو أن مثل هذه الأمثلة تقدم لمحات عن شيء يمكن بشكل معقول إلى حد كبير أن ننظر إليه على أنه حميمية متماسفة، و"غير مجسدة". وفي الوقت الذي تصبح هذه الممارسات المتواسطة أكثر انتشاراً- مع الهواتف المزودة بكاميرات الفيديو والمخصصة للاستخدام المنزلي، والمتصلة بشاشات عالية الوضوح بحجم الحائط في الأفق التقني- الثقافي القريب- فإن إعادة تعريف الحميمية تبدو أمراً حتمياً. والمقصود هنا هو ألا ننظر إلى الحميمية المتواسطة عن بعد على أنها نقص في كلية الحضور، ولكن كنظام مختلف للقرب، والذي لا يحل محل (أو قل إنه يفشل في أن يحل محل) الحميمية المجسدة، ولكنه يندمج بصورة متزايدة معها في التجربة اليومية المُعاشة.
لكن هناك طريقة أخرى للنظر إلى ذلك: وهي أن الحميمية التي تتحقق من خلال التقنيات الإعلامية قد تفضي إلى عمليات إعادة تعريف ثقافية أكثر جذرية-بما في ذلك فكرة "التجسد" ذاتها. إن نظرة ماكلوهان إلى هذا تأكيدية نموذجيا، لكنها متبصرة بشكل حدسي. وفي إطار تفصيله لفكرته عن وسائل الإعلام كامتدادات للجسد، عمد إلى تناول الجوانب الجسدية من الحميمية بطريقة لا تميز بشكل واضح بين الأجساد والتقنيات:
يفهم كل من الطفل والمراهق الهاتف، ويعانقون السلك وسماعة الأذن كما لو كانا حيوانات أليفة محبوبة. وما نطلق عليه اسم "الهاتف الفرنسي"، الذي هو عبارة عن الاتحاد بين قطعة الفم وسماعة الأذن في آداة واحدة، هو إشارة واضحة على ربط اللغة الفرنسية بين الحواس .... حيث أن اللغة الفرنسية تعد "لغة الحب" لمجرد أنها توحد الصوت والأذن بطريقة قريبة بشكل خاص، كما يفعل الهاتف . ولذلك فمن الطبيعي نوعاً ما أن يتم التقبيل عبر الهاتف .... (McLuhan 1964:266).
ص (166)
وباستبعاد التكوين العرضي لصور ثقافية مقولبة، هناك جانب من الوجاهة في الاقتراح القائل بأن أجهزة الهاتف تتمتع "بتناغم طبيعي مع ما هو عضوي" (ص. 271)-كامتدادات للشخص المجسد- والتي تستبق بعض العمل على السطح البيني الفاصل بين الإنسان والآلة ، والآخذ في الظهور خلال التسعينيات فيما يتعلق بالتواصل المتواسط عبر شبكات الكمبيوتر. قارن، على سبيل المثال، هذه الفقرة حول الامتدادية extensionality المأخوذة من كتاب شيري تيركل المعنون الحياة على الشاشة:
تماما مثلما يمكن أن تكون الآلات الموسيقية امتدادات لبناء العقل للصوت، فقد تكون أجهزة الكمبيوتر امتدادات لبناء العقل للأفكار. ويشير أحد الروائيين إلى "إدراكي المتجاوز للحس مع الآلة. تنطلق الكلمات، وأتشارك في الشاشة مع كلماتي". ويمضي أحد المهندسين المعماريين الذي يستخدم الكمبيوتر في التصميم ليقول: "يأتي المبنى إلى الحياة في الحيز الموجود بين عينيّ والشاشة". (Turkle 1995:30)
وبإجراء مقارنة مع نمط و.د. وينيكوت W. D. Winnicott من التحليل النفسي، والمتعلق بما أسماه "الشيء الانتقالي"- أي الأشياء، مثل بطانية المولود، التي ينظر إليها في الوقت نفسه على أنها جزء من الذات المجسدة ومن العالم الخارجي "المنفصل"- وتمضي تيركل لتقول أنه يمكن "معايشة الكمبيوتر على أنه شيء يقع على الحد الفاصل بين الذات وغير الذات". ويثير مؤلف تيركل حول فينومينولوجية استخدام الكمبيوتر (انظر أيضا Lupton 1995; Lupton and Noble 1997) تساؤلات محيّرة حول الحدود المُدركة التي تفصل بين البشر وبين التقنيات التي نستخدمها. وهناك مسار يمكن رسمه من هذا تجاه الأفكار التي تعتبر حتى أكثر صعوبة وإثارة للتحديات حول اختفاء الفاصل بين الإنسان والآلة، والذي يمكن ملاحظته في النظريات التي ظهرت مؤخراً حول ثقافة "السايبورغ" cyborg (Haraway 1991; Gray 1995; Featherstone and Burrows 1995). وفي هذا الجسم النظري، تتم صياغة المفاهيم المتعلقة بهؤلاء المهجنين الذين يصورهم الخيال العلمي والذين يمكن أن نجدهم، على سبيل المثال، في روايات ويليام جيبسون أو أفلام مثل الشرطي الآلي RoboCop لمخرجه بول فيرهوفن، يمكن صياغاتها بالتجاور مع التطورات الحقيقية التي حدثت في مجال الجراحات التجميلية. وكما يعبر فيذرستون وباروز (Featherstone and Burrows 1995: 3) عن ذلك، فإن تعميم mainstreaming جراحة التجميل والتقدم الحادث في التكنولوجيا الحيوية، والهندسة الوراثية، وتكنولوجيا النانو nanotechnology ، .... قد دفعت البعض إلى التأمل والقول بأن الجيل القادم قد يكون آخر البشر "الخالصين" pure. وبدون التعمق كثيراً في هذا الاتجاه، بوسعنا أن ننظر للحميمية على أنها مقيّدة بالتجسد - وفي الواقع، فإن النظر إلى التجسد على أنه العامل الرئيسي الذي يربط الأفراد بالنواحي التي يعيشوا فيها هو كالتفكير ضمن إطار فهم ثقافي معين للعلاقة بين التجسد والذاتية البشرية human subjectivity التي هي عرضة للتفنيد، حتى لو كان ذلك بشكل يشوبه الاضطراب.
ص (167)
الحميمية العامة
في الأمثلة المتعلقة بالنشاط الجنسي المتواسط والدائرة الأسرية الممتدة مكانياً، تحافظ الحميمية (ولكن بناء على دوافع مختلفة تماماً) على صلتها بالخصوصية. ولكن أحد الجوانب الهامة الأخرى فيما يتعلق بإعادة تعريف الحميمية هو انفصام هذه الرابطة، واحتمالية نشوء أنواع متعددة من الحميمية العامة الجديدة.
ومن بين الجوانب الواضحة لهذا ، نجد إعادة تعريف الأماكن الملائمة ثقافياً لاستخدام تقنيات الاتصال. كان ينظر إلى الهواتف فيما مضى على أنها تحتاج إلى حيز خاص منعزل لكي تعمل: فأولى كبائن الهاتف "العامة" كانت تقدم ليس فقط الهدوء ولكن أيضاً الخصوصية، وذلك نظراً لبنائها القوي. ويعكس الانفتاح المتزايد في بناء هذه الكبائن ليس فقط العوامل الاقتصادية، ولكن القبول العام التدريجي لفكرة إجراء مقابلة خاصة في حيز عام مفتوح. وقد أدى ظهور الهاتف النقال بالطبع، وبصورة هائلة، إلى تسريع هذا القبول. واليوم، يشير الاستخدام الشائع، وغير الواعي للذات unselfconscious ، للهواتف النقالة في أي موقف عام (تقريباً)- في القطارات، أو في المطاعم، أو في الشارع- إلى حدوث بعض التحولات الكبرى في المواقف الثقافية تجاه الحميمية المتواسطة. وعلى سبيل المثال، فمن السهل بشكل واضح بالنسبة للعديد من الناس القيام بمحو الوجود الخاص بالآخرين القريبين (الغرباء) وخوض العلاقة مع الآخر الذي يتم الاتصال به عن بعد دون أي منع أو كبت كبير ينشأ عن الافتقار إلى الخصوصية(6).
وهناك طريقة مختلفة لتناول فكرة الحميمية العامة، وذلك من خلال ملاحظة كيف تتحول فكرة العلاقة فرداً لفرد من ارتباط حصري بالناس الموجودين في سياقاتنا الشخصية الخاصة، إلى ارتباطات بالأشخاص المتاحين فقط بالنسبة لنا من خلال وسائل وسائل الإعلام العامة. نجد الأمثلة الجيدة على هذا في الحملة الإعلامية الحالية (1998) المتعلقة بالشركة المزودة لخدمة الهاتف الجوال، والمسماه "فرداً لفرد". ولقد تم الترويج للفكرة، في هذه الإعلانات التي كانت موجهة في الأساس نحو سوق الشباب، من خلال إجراء محادثة فرداً لفرد مع أحد المشاهير. وفي الحقيقة، فإن هذه الإعلانات تصور محادثات تخيلية تتم فرداً لفرد، والتي تقوم بها الرموز الثقافية الحالية ذات الشعبية مع أبطالهم الذين عاشوا في الماضي: حيث تتخيل عارضة الأزياء الشهيرة كيت موس Kate Moss الحصول على موعد مع إلفيس بريسلي Presley ، بينما يتخيل لاعب كرة القدم إيان رايت Wright عقد اجتماع مع مارتن لوثر كينغ King. وهذه الإعلانات عبارة عن نصوص معقدة، ليس أقلها من حيث الطريقة التي يعتمد بها الترويج لنوع ما من التواصل المتواسط "الحميمي" (الهواتف) على الأنواع الأخرى (الأفلام، والتلفاز). والشيء المثير بشكل خاص هو العلاقة التي يتم توطيدها بين القيم الثقافية المتعلقة بالحميمية مثل الاتصال الشخصي، والباطنية، والمقصورية (باعتبارها "قيمة هاتفية") وتلك المتعلقة بالوصول إلى الشخصيات الإعلامية "المملوكة للجمهور" (وهي "قيمة تلفازية").
ص (168)
وتصبح الحميمية هنا "عامة" بالمعنى الخاص بإنشاء عالم حياتي يتم التواصل فيه على نطاق واسع mass-mediated ، والذي يمكن فيه لأي شخص (ولأي عدد من الناس) الدخول في علاقة خيالية من الحميمية مع شخصيات عامة لن يلتقوها على الإطلاق، ولكنهم برغم ذلك حقيقيون بدرجة كبيرة بالنسبة لهم في تواجدهم المتواسط.
ويصف تومسون (1995: 219) هذا النوع من العلاقة الإعلامية التخيلية، مقتدياً في ذلك بكل من هورتون Horton و فول Wohl (1956)، على أنه "حميمية غير تبادلية تتم عن بعد". ويجادل بأن اللا تبادلية non-reciprocity المميزة في العلاقة المشتقة من الطبيعة المونولوجية لوسائل الإعلام مثل التلفاز ، تمثل جانبا فريدا لكنه شائع تماماً من "شبه التفاعل المتواسط":
بشكل أو بآخر، يقوم معظم الأفراد في المجتمعات الحديثة بإنشاء، والمحافظة على، علاقات غير تبادلية من الحميمية مع آخرين بعيدين. حيث يصبح الممثلون والممثلات، ومذيعو نشرات الأخبار، ومستضيفو البرامج الحوارية، ونجوم موسيقى البوب شخصيات مألوفة يسهل التعرف عليها، والذين غالباً ما يتناقش الأفراد حولهم في سياق حياهم اليومية، والذين قد يشار إليهم بأسمائهم الأولى، وهكذا (Thompson 1995:220) .
ومن المرجح أن نجد العرض الأحدث والأكثر إثارة على هذا النوع من الحميمية العامة في رد الفعل الفائق للعادة على وفاة الأميرة ديانا، أميرة ويلز- ليس في المملكة المتحدة وحدها ولكن في جميع أرجاء العالم. حيث أن تجربة الخسارة الشخصية الحقيقية تلك، والتعبير عن الحزن الشديد الذي تم تسجيله على وجوه تلك الحشود الضخمة من المعزين الذين سافروا إلى لندن لحضور الجنازة، بالإضافة إلى "المجتمع التلفازي" العالمي الهائل الذي شارك في هذا الحدث، شهدت على "حقيقة" هذا النوع من العلاقة اللا تبادلية المتواسطة. وقد أوضحت بصورة درامية مدى عمق وتغلغل العلاقات الإعلامية في نسيج التجربة اليومية لأعداد هائلة من البشر.
لكن جنازة ديانا أعطت أيضاً لمحة عن جانب محتمل آخر من الحميمية العامة. حيث يمكن فهم الرغبة القوية على ما يبدو من جانب المعزين في مشاركة أحزانهم على الملأ- وخاصة مَن ظلوا مخيمين طوال أيام حول "الأضرحة" المؤقتة التي أقيمت في حدائق قصر كينسنغتون- على أنه رد فعل على ما أطلق عليه جيدنز (Giddens 1991:144ff) اسم "مصادرة التجربة" sequestration of experience في المجتمعات المعاصرة: أي الميل إلى خصخصة تعبيرات الحزن بالإضافة إلى التجارب الحميمية/العاطفية الأخرى. وقد عبر العديد ممَن تمت مقابلتهم عن حاجتهم لتوسيع نطاق مشاركتهم في الحداد الجماعي، وربطوا هذا بالإحباط المتعلق باحتمالية رجوعهم إلى حياتهم الخاصة العادية. وليس من غير المعقول ربط هذا برغبة ثقافية أوسع، لكنها محتجبة بشكل عام، في الهروب من خصوصية
ص (169)
الحياة المحلية الرتيبة إلى مجتمعات من التجارب تتسم بكونها أوسع وأكثر تلبية للمتطلبات. وتقدم التجربة المتواسطة على نطاق واسع نماذج على هذا في "الحيوات الموازية" parallel lives التخيلية المتوفرة في العلاقات مع الشخصيات العامة (Chaney 1993; Grodin and Lindhof 1996)، أو في الأحداث الإعلامية الاحتفالية المتعلقة بالمناسبات (Dayan and Katz 1992)، وهذا النوع من التسوية في مزيج التجارب الخاص بالعوالم الحياتية المعاصرة هو بالتأكيد الطريقة الأكثر شيوعاً التي يتم بها إشباع هذه الرغبة. ولكن هناك أيضاً شكل أكثر تطرفا يتضح في بعض الممارسات الثقافية الجديدة التي ظهرت مع التواصل من خلال الكمبيوتر (CMC): أي الرغبة في التحرر بشكل كامل من المقيدات المتعلقة بالناحية المحلية، والروتين، وحتى المتعلقة بالتجسد والهوية الثابتة للذات-وفي الواقع، إنها الرغبة في السكن في العالم الحياتي لشخص آخر.
يعد الموقع الإلكتروني المسمى "جينيكام" Jennicam أحد الأمثلة المربكة إلى حد ما على هذا. حيث يتكون هذا الموقع من صور لغرفة نوم امرأة شابة والتي تقوم بنشرها كل دقيقتين، على مدار 24 ساعة في اليوم، وعلى مدار العامين الماضيين.يجتذب هذا الموقع 6000 مشترك منتظم، والذين يدفع كل منهم عشرة جنيهات إسترلينية سنويا، "ليشاهدوا جينيفر رينغلي Ringley وهي نائمة، وهي تقبِّل صديقها، وهي تتزين وتضع المساحيق، أو وهي تداعب قطيطتها " (Smith 1998:3). وليس من السهل تبرير شعبية هذا الموقع، فإذا وافقنا على أن الدافع الرئيسي ليس هو الاهتمام الشهواني أو النزعة إلى البَصْبَصَة الجنسية sexual voyeurism (حيث أن هناك رقابة على الموقع فيما يتعلق بهذا الجانب-"غير مسموح بأي تعر أو مواد جنسية")، فإن السؤال يظل حول السبب في رغبة الناس في "السكن" بشكل روتيني في الحيز الحميمي الدنيوي الحقيقي غير المزين لشخص آخر في "الزمن الحقيقي". حيث أنه يجب التمييز بين هذا النوع من الاهتمامات وبين حس الفضول الأكثر شيوعاً حول الأماكن الحميمية للمشاهير التي يتم تقديمها في إعلانات الصور الأنيقة واللامعة التي تظهر في مجلات مثل هلّو (Hello!).
وإحدى الطرق لفهم ما يدور هنا هي من خلال الرغبة غير واضحة التركيز في الإفلات من قيود الناحية المحلية. ومعنى أن يكون بإمكانك الوصول بشكل روتيني إلى حيز شخصي حميمي آخر-أن تتم دعوتك إليه- هو أنه صارت لديك حياة موازية، والتي قد تكون مُرضية بصورة أكبر كمهرب من حقيقتنا من تلك الموجودة في الروايات التلفازية. ومعنى أن يكون بإمكانك الوصول إلى الحميمية المتعلقة بغرفة النوم في طبيعتها ووقتها الحقيقي هو أنك، وبصورة ما، تمكنت من هزيمة الانعزال الذي تتسم به أماكننا الحميمة. وبطبيعة الحال، فمن الممكن أيضا النظر إلى هذا على أنه ضرب من الشهوانية prurience ، أو أنه الرغبة العصبية في النفاذ إلى، واستعمار، الحيز الشخصي الخاص بالآخر. إنه في أفضل الأحوال نوع كئيب بعض الشيء من التفوق. ولكن بالحكم عليه بتعطف أكبر، فمن الممكن أيضاً تفسير هذا النوع من الممارسة على أنه رغبة في الهروب من الخصوصية العاطفية المفروضة التي تتسم بها الحياة الحديثة (والتي كثيراً ما ينظر إليها على أنها تفاقمت نتيجة للثقافة المخصخصة privatizing المتعلقة بالاستخدام المنزلي لوسائل الإعلام) إلى مرتبطية أكثر اكتمالاً، وبصورة محتملة على الأقل ، تبادل أكثر أصالة للأفكار والمشاعر مع الآخرين.
وعلى أية حال، فقد تم الإقرار بأن الصلة بين هذه الأمثلة حول الحميمية العامة كطرق للفرار من موقفنا الوجودي المتجسد،
ص (170)
وكمعنى أكثر إيجابية للمرتبطية الثقافية- كامتداد للمجتمع، أو كمقابلة ثقافية كوزموبوليتانية- هي ليست متطورة بقوة في الثقافات الحديثة(7). وفي الواقع فإن المجال الحميمي، حتى بالطريقة التي تمت بها إعادة تعريفه من قبل التجربة المتواسطة، لا ينفتح بشكل عام على عالم يتحدى الافتراضات الثقافية الضيقة. فالهواتف، على سبيل المثال، لا تتوطن (بشكل عام) بمعنى أنها تعرّضنا للمعلومات أو الروايات التي تسبب الاضطراب للنزعة إلى أخذ الأشياء على علاتها دون تساؤل، والتي تتسم بها النواحي المحلية. وبالنظر تحديداً لأنها في الأساس هي عبارة عن وسائل للإعلام تُستخدم فرداً لفرد، فإنها تربطنا مع الآخرين في سياقات تتسم بكونها، بمعنى ما، متوافقة مع عوالمنا الحياتية المحلية. ليس الأمر أننا لا نقابل "غرباء" مطلقاً على الهاتف، ولكن لأننا نادراً ما نلتقي "غرابة ثقافية"cultural strangeness.
لكن التقنيات الإعلامية الأخرى- مثل التلفاز أو برامج تصفح شبكة الإنترنت web-browsers على سبيل المثال- فمن الواضح أنها تمتلك احتمالية للاتوطين بمعني أكثر أهمية من الناحية الأخلاقية، وأكثر صعوبة من الناحية الثقافية. فبوسعها ربطنا مع آخرين بعيدين بطرق تفتح الآفاق الثقافية على ممارسات، وقيم، وأنماط حياتية أخرى، حيث يمكنها تعزيز الإحساس بأن نواحينا المحلية مرتبطة مع أجزاء بعيدة من العالم (سواء أكان ذلك حسناً أم سيئاً). كما أن بوسعها تزويدنا بمعنى حول العالم ذاته كسياق اجتماعي/ثقافي/ أخلاقي ذي مغزى. وبطبيعة الحال، فإن عددا كبيراً للغاية من التجارب المتلفزة الرائجة ليست من هذا النوع، بل على العكس من ذلك تماما، فهي موجهة نحو تقديم صور الراحة الوجودية "الناظرة نحو الداخل" والمتعلقة بالروتين، والألفة، والاحتواء الثقافي ضمن "الأسرة التلفازية" المحلية (Scannell 1996).
وبرغم ذلك، فإن احتمالية تحقق ما نسميه باللاتوطين الثقافي- الأخلاقي توجد في هذه الأشكال من التجربة الثقافية المتواسطة. ومن المشوق ملاحظة كيف يتكرر موضوع الحميمية في هذا السياق. وتركز معالجة جيدنز (Giddens 1992) لتحول الحميمية في المجتمعات المعاصرة على العلاقات الشخصية الغرامية والجنسية التي تتم "وجهاً لوجه"، ولم تتطرق إلى التجربة المتواسطة.لكنه يقترح، برغم ذلك، وجود علاقة بين هذا المستوى من الحميمية باعتباره ما فوق المحلي ultra-local ، وبين عالم السياسة العالمية. وتهاجم مناقشته الطريقة التي يكون فيها للسعي وراء الاستقلال الذاتي في العلاقات الحميمية الشخصية تضمينات حول السياسة الديموقراطية: "يوجد تناظر بين دقرطة democratizing الحياة الشخصية وبين الاحتمالات الديموقراطية في النظام السياسي العالمي على أكثر الأصعدة شمولية" (1992:195- 196). ويقوم هذا الزعم على الحدس القائل بأن العولمة تجسر دائما الهوة بين "الصفة الخارجية" out-thereness للعالم و"الصفة الداخلية" in-hereness "لعوالمنا" الظاهراتية الحميمة (الفصل الأول). ويمكن تتبع هذه العلاقة فيما يتعلق بتواسط التجربة. والشيء الذي على المحك هنا هو ذلك الشكل المحدد من الارتباط الأخلاقي/السياسي الذي قد يوجد في الصور الإعلامية التي تتم معايشتها
ص (171)
في سياقاتنا المحلية-وأكثرها شيوعاً أجهزة التلفاز الموجودة في غرف المعيشة بمنازلنا. وهذه هي الفكرة التي أود استكشافها في القسم التالي.
التقارب المتواسط 2: الاكتناف التلفازي وتقريب المسافة الأخلاقية
سنبدأ بمفارقة: ففي الوقت الذي تزداد فيه القدرة التكنولوجية لوسائل الإعلام العالمية وتعقيدها، يبدو أن تغطية الأحداث الأجنبية على شاشة التلفاز آخذة في الانكماش. وربما يمكن توضيح هذا الموقف بأكبر قدر من الدرامية في حالة الولايات المتحدة، الأمة الأغنى من حيث المعلومات في العالم، والتي انخفضت فيها التغطية الاخبارية للأحداث الأجنبية التي تقوم بها الشبكات "بمعدل الثلثين خلال عقدين من الزمان" (Culf 1997:13) وبنسبة 42% فيما بين عامي 1988 و 1996" (Wittstock 1998:7). وبرغم أن حالة الولايات المتحدة تجتذب أغلب الاتهامات المتعلقة بضيق الأفق والانعزالية (التي يتم ربطها باتهامات التتفيه trivialization و"التسطيح" dumbing down – أي "جدول أعمال محلي... يسيطر عليه تحليل الرئيس" (Wittstock 1998))، ويتجلى اتجاه مشابه أيضا في جميع أجزاء العالم المتقدم. فقد انخفض النتاج الوثائقي الذي يتناول الموضوعات الدولية عبر جميع القنوات التلفازية البريطانية الأرضية بنسبة 40% خلال الفترة ما بين عامي 1989 و 1994 (Cleasby 1995:1).وفي معرض حديث له في عام 1997، اشتكى توني هول Hall ، كبير المسؤولين التفيذيين في مجموعة قنوات البي.بي.سي الإخبارية، من إطار دولي أوسع من ضيق الأفق الصحفي، والذي تقوم فيه معظم المؤسسات الإخبارية بالإنفاق بدرجة أقل على الأخبار الأجنبية، وبدرجة أقل على المراسلين الأجانب، وأقل القليل على المكاتب الخارجية". وأضاف قائلا أنه "في وقت يتم تحديد فيه العديد من شؤوننا المستقبلية على نطاق عالمي، يبدو أن جمهور البرامج التي نقدمها يهتم بدرجة أقل بالعالم. وتبدو الصحافة، في استجابة لذلك، أقل اهتماماً، وأكثر تركيزا على الداخل أيضاً" (Culf 1997:13).
وأسباب مثل هذه النزعة مثيرة للجدل، وهي تحتل ذلك الصعيد الذي تم تفنيده بصورة سيئة السمعة، والذي يقع بين المطالب المُدركة للجمهور من ناحية، وبين المواد التحريرية ومواعيد البث من الناحية الأخرى (Morley 1992; Ang 1996). وهكذا، فكثيراً ما يتم استقطاب المناظرة المتعلقة بالسياسة بين موقف يتمسك "بسيادة المستهلك" في مفهوم سوقي للجمهور (والذي يظهر في أقوى صوره في النموذج التجاري الأمريكي) وأخلاقيات الخدمة العامة التي تتمسك بأن التلفاز ملزم بتقديم معلومات ومفاهيم تتجاوز مجرد الترفيه (Herman and McChensey 1997; Thompson 1997). ولكن مهما كانت الصناعة الإعلامية المضغوطة تجارياً بشكل متزايد جديرة باللوم بسبب توليدها لضيق الأفق الثقافي cultural parochialism، فإن هذا وحده لا يمكنه تفسير هذه الظاهرة. أما كليسبي، وفي معرض تعليقه على الحالة البريطانية،
ص (172)
فقد عزا المشكلة بشكل جزئي إلى المذيعين الذين يقومون "بمطاردة الجمهور"، ولكن إقراره بأن هذه القضية مهمة بالنسبة لحياة المشاهدين يعد أمراً حاسماً: "إن الميل نحو التقوقع واضح وجلي. وينبع هذا الميل جزئياً من افتراض واسع بأن البرامج التي تتناول الشؤون الدولية هي غير محبوبة بفطرتها لدى الجمهور البريطاني .... يرغب المشاهدون رؤية المزيد من البرامج التي تتصل بحياتهم وتجاربهم هم، ويتم تفسير هذا على أنه يعني مزيدا من البرامج عن بريطانيا" (Cleasby 1995:iii- iv).
ويقترح كليسبي أن المذيعين ربما يكونوا قد كونوا افتراضات متسرعة وغير دقيقة حول الافتقار المفترض في أهمية وصلة القصص الدولية بالجمهور المحلي، وأن هذه الافتراضات تسهم في تشكيل "سبيل حلزوني رديء متجه نحو الأسفل من تناقص النتاج الدولي، والاهتمام المتناقص للجمهور، وتضاؤل الوعي العام بالقضايا الدولية" (مرجع سابق). وقد يكون هذا صحيحاً بالفعل. ولكن يبقى بعض الشك-الذي يتم مناهضته من قبل المثقفين التقدميين ذوي التوجه الدولي بسبب تضميناته الثقافية المتشائمة- في أن معظم الناس العاديين ليسوا مهتمين ببساطة بالأحداث التي تتخطى حدود نواحيهم (الوطنية).
ومن الجدير بالذكر أنه نادراً ما يتم التفكير في طبيعة هذا الوسط الذي يمثله التلفاز ذاته في إطار هذه المناظرة. حيث يميل التركيز على القضايا المتعلقة بتقييمات الجمهور وإعداد البرامج إلى إخفاء التساؤلات التي من المحتمل أنها أكثر أساسة ، والمتعلقة بما إن كانت التجربة المتواسطة عن بعد، وكيف يمكن لها، أن تصنع أحداثا لا ترتبط بنا سوى من الناحية البنيوية (سياسياً، واقتصادياً)، وذات أهمية ومغزى على مستوى التجربة. وهكذا، فإن التساؤل يصبح تساؤلاً حول الكيفية التي يمكن أن يقربنا بها التواسط عن بعد فينومينولوجياً، بتجسير المسافة بين البعدين الثقافي والأخلاقي، مزودا إيانا بمعنى لا يقاوم من المشاركة مع أحداث وحيوات lives بعيدة.
ونظراً لأنه من الواضح أن مشاهدة أحداث بعيدة على شاشة التلفاز ليس هو التجربة ذاتها كالسفر فعليا إلى موقع هذه الأحداث والتواجد خلالها، فإن أحداً لن يزعم بجد (حتى ولو كان بودريار نفسه)، على سبيل المثال، بأن الطريقة التي "نتأثر" بها بالأحداث العنيفة التي تقع في إحدى مناطق الحروب كما يتم تصويرها على شاشة التلفاز في غرفة معيشتنا تعادل كوننا نتعرض للقصف المدفعي. وكما يقول روجر سيلفرستون (Silverstone 1994:30): "إن نوعية الاتصال-أي نوعية التأثر- هي ما يهم بالتأكيد". ومع ذلك، فإن بعض الروايات الأكثر إيحائية حول الإمكانية اللاتوطينية للتلفاز-كما في مزاعم هيبديغ Hebdige حول "النزعة الكوزموبوليتانية (التلفازية) الدنيوية" التي تم الاستشهاد بها في الفصل الرابع- لا تعترف بهذه الاختلافات الفينومينولوجية الحاسمة، وبالتالي تشجع درجة معينة من الشكوكية.
كثيراً ما يتم الاعتراف بالتأثير الطويل لكتابات ماكلوهان (Ferguson 1991; Silverstone 1994; Stevenson 1995) في المزاعم الأكثر تطرفا
ص (173)
حول الإمكانية الثقافية للتلفاز. ويبدو أحد أوائل منتقدي ماكلوهان، وهو جوناثان ميلر (Miller 1971)، على سبيل المثال، متشككاً للغاية في ادعاءاته حول "القرية العالمية" المشكلة تلفازياً، مجادلاً - من بين أشياء أخرى- بأن التجارب البعيدة التي يتم جلبها إلينا من خلال التلفاز، "هي بديلة بشكل أساسي، ولا تشترك سوى في القليل أو في لا شيء على الإطلاق مع التجارب المحدِّدة للنزعة الجماعية collectivism المميزة لحياة القرية" (Miller 1971:124). وهذا النقد موجه في الأساس إلى فشل مجتمع ماكلوهان المتماسف/المتواسط في الوصول للصورة المثالية المتعلقة بمجتمع محلي يتم التواصل فيه وجهاً لوجه، ويستحضر هذا جميع الأفكار المألوفة المتعلقة بالخصائص الملزمة أخلاقياً وعاطفياً للمجتمع الثاني مقارنة بالأول. لكن شكوكه حول قدرة التلفاز على "إشراكنا" أخلاقياً وعاطفياً في حياة آخرين بعيدين عنا تمتد إلى ما يسميه "بالملامح الحسية للوسط":
على العكس مما يؤكد عليه ماكلوهان، فإن التلفاز مرئي بصورة مدهشة، والصور التي يعرضها منفصلة بشكل غريب عن جميع الحواس الأخرى. حيث يجلس المشاهد لرؤيتها وهو مرتاح في منزله الخاص، منفصلاً عن ألم، وحرارة، ورائحة ما يدور في الواقع .... وتساعد كل هذه التأثيرات على إبعاد المُشاهد عن المَشاهد التي يشاهدها، وأخيراً يسقط في التصديق اللاواعي بأن الأحداث التي تحدث على شاشة التلفاز تدور في مسرح للنشاط البشري بعيد بشكل لا يمكن تصديقه. ويتم تضخيم التأثير المنفّر بواسطة الحقيقة المتمثلة في أن شاشة التلفاز تصغر الصور إلى نفس الجودة البصرية. وتتبادل المناظر البشعة مع العروض الترفيهية على نفس ذلك المستطيل من الزجاج المنتفخ (1971:126).
وهذا لا يهدف فقط لتوضيح الخصائص الفريدة لهذا الوسط، ولكنه يوحي بأنها تقوم في الحقيقة بكبت ومنع تجربة تقريب المسافة. يتسم تدخل هذا الوسط بكونه "مُبعدا" أو حتى "مُنفِّرا" : ولأنه بعيد كل البعد عن الربط بيننا، نجد أنه "يفصلنا" عن الأحداث البعيدة. ويبدو أن ميلر يشير إلى أن التجربة التلفازية الخاصة بالأماكن الأخرى تحدث فقط في سياق فينومينولوجي متواسط جوهريا، والذي هو "بعيد" عن أمكنتنا المحلية وعن الأماكن التي تصورها. وبناء على هذا التفسير، فإن الوسط يعمل كنوع من النطاق الصحي الذي يحمي مساحتنا المحلية من "حقيقة" الأحداث البعيدة المزعجة والممارسات الغريبة. وفي وصف آخر أحدث كثيراً، تناول زيجمونت باومان موضوع "العزل" insulation هذا بعيداً عن مخاطر المقابلة الثقافية في تعليق متشكك بنفس الدرجة حول القدرة الكامنة للتلفاز على توليد ارتباط تفسيري حقيقي مع أناس آخرين بعيدين عنا ثقافياً ومكانياً:
على العكس من الرأي الشائع، فإن اختراع التلفاز، ثقب الرؤية الضخم هذا الذي يمكن الوصول إليه بسهولة، والذي يمكن أن نلمح من خلاله بشكل روتيني... طرقا غير مألوفة،
ص (174)
لم يقم لا بإزالة الفصل المؤسسي ولا بتقليل فعاليته، ولم تتحقق "القرية العالمية" التي تصورها ماكلوهان. ويدرأ الإطار الخاص... بشاشة التلفاز خطر الإراقة spillage بفعالية أكبر من الفنادق السياحية ومواقع التخييم المحاطة بالأسوار. وتؤدي أحادية الجانب التي يتميز بها التواصل إلى ترسيخ الأشياء غير المألوفة على الشاشة على أنها معزولة في الأساس. (1990:148)
ولقد قام باومان في مؤلف لاحق بتوسيع نطاق هذه الفكرة المتعلقة باحتواء الارتباط مع آخرين "يتم الاتصال بهم عن بعد" في الحيز الثقافي/الفينومينولوجي "للمدينة البُعادية" . وفي المدينة البُعادية (الالتباس بين الشكل التجاربي وبين ضرب من المواقع مقصود هنا) يتم "تركيز النظر على الغرباء دون خوف- بشكل يشبه كثيراً ما يحدث مع الأسود في حديقة الحيوان". وهم قريبين بصورة غير محدودة كأشياء، ولكن مقدر لهم أن يظلوا في سعادة بعيدين بشكل غير محدود كأناس فاعلين-آمنين ومعافين، مثل ممارسة الجنس مع ارتداء الواقي الذكري condom " (Bauman 1993:178). وهكذا، فإن التجربة التلفازية بالنسبة لباومان هي ليست فقط تجربة بديلة، لكنها متناقضة بشكل ايجابي مع المواجهات الأخلاقية/العاطفية/الثقافية. تمثل "المدينة البُعادية" الآخر السلبي "للمدينة" الحقيقية، والتي يمكن فيها مقابلة أناس حقيقيين بكامل خصائصهم كوكلاء أخلاقيين مجسدين. ونقابل في المدينة البُعادية أناساً تم اختزالهم إلى شكل وجودي من "السطح النقي" الذي يمكن "حذفه من الشاشة- وبالتالي من العالم- عندما لا يعودوا مسلين" (مرجع سابق).
ومن السهل فهم مضمون هذا النقد نحو نوع من المانوية . وسرعان ما تصبح المقيدات التجاربية للتجربة المتواسطة على نطاق واسع مرتبطة بأفكار أخرى خاصة بالفقر الوجودي والأخلاقي، مقارنة بالمجال المثالي المتعلقة بالتفاعلات والتجارب التي تتم وجهاً لوجه. ويمكن ملاحظة مغزى مشابه في بعض الكتابات النقدية التي تظهر الآن حول أشكال التواصل التي تتم عبر الكمبيوتر و"الواقع الافتراضي" virtual reality. فعلى سبيل المثال، بدأ كل من بروك وبول، في مقدمتهما للمجموعة التي أطلقا عليها مقاومة الحياة الافتراضية، بالتنصل من أي انحياز تجاه التجارب التي تتم وجهاً لوجه، "والإقرار بمميزات العلاقات غير المباشرة" التي تولدها التقنيات الإعلامية المتنوعة. لكنهما يزعمان في الجملة التالية أن: "التفاعلات التي تتم وجهاً لوجه هي بطبيعتها أكثر ثراء من التفاعلات المتواسطة. وفي أيامنا هذه ، انضم مدمن المعلومات إلى المدمن على مشاهدة التلفاز couch potato في الإعجاب السلبي بالشاشة الصغيرة" (Brook and Boa1 1995:vii).
ويبدو لي أن إحدى المشاكل التي تنطوي عليها هذه الانتقادات تتمثل في الانتقال المتعجل من الفينومينولوجيا إلى الحكم الأخلاقي- الوجودي. وليس الأمر أن القضايا التي يثيرها أولئك النقاد غير مهمة أو تمت إساءة فهمها. وعلى سبيل المثال، يمكننا الموافقة بسهولة على أن وجبة حصرية ومملة من التجربة المعروضة على شاشة التلفاز قد تكون ضارة بالنسبة للناس
ص (175)
بكل أنواع الطرق، بما في ذلك التآكل المحتمل للأحاسيس الأخلاقية. وقد يكون من الصحيح أيضاً أن بعض التطورات الحادثة خلال عملية "تطويع" customizing التقنيات الإعلامية لتناسب أنماط الحياة الفردية (9) قد تجتذب، أو تشجع، مظهرا ثقافيا ضيق الأفق ومتمركزا حول الذات. ومن ثمَّ فإن هناك العديد من المخاوف الأصيلة التي تحيط بالطريقة التي تصبح بها التجربة المتواسطة مندمجة بصورة متزايدة في التجربة المباشرة. لكن من السهل أيضاً أن نرى كيف يمكن المبالغة في تقدير هذه المخاوف في استقطاب عام غير متقن بين التجربة المباشرة "الجيدة" والتجربة "السيئة" المتواسطة على نطاق واسع.
ولتجنب هذا، فمن المفيد استكشاف فينومينولوجية مقولة جون تومسون المتعلقة "بشبه التفاعل المتواسط" بقدر قليل من التفصيل. وأود بشكل خاص القيام باستخلاص اثنين من التفريقات الفينومينولوجية الحاسمة في وصفه.
يتعلق أولهما "بالمسافة" التجاربية experiential التي يتم الإبقاء عليها بين المشاهد والأحداث التي تتم مشاهدتها على التلفاز. حيث يتم جلب هذه الأحداث بكبسة زر واحدة، إلى مساحاتنا المادية الأكثر حميمية، وبهذا المعنى تكون قريبة منا. لكنها تظل برغم ذلك "بعيدة في معظمها عن السياقات العملية للحياة اليومية" (Thompson 1995:228). وتنبع هذه المسافة الفينومينولوجية ،جزئيا، من حقيقة أن الأحداث التي نراها على شاشة التلفاز-مثل الحروب البعيدة على سبيل المثال- لا تؤثر في معظمها على حياتنا الخاصة بشكل مباشر. لكنها تعزى أيضاً، وبصورة مهمة، إلى عجزنا عن التدخل في الأحداث التي نراها. وكما يعبر تومسون عن ذلك، فإن هذه الأحداث تتمتع بطبيعة "منيعة" (مقاومة، ويصعب التأثير فيها)"، .... أي أنها أحداث من غير المرجح أن تتأثر بتصرفاتنا. حيث أنها ليست "في المتناول" أو "يسهل الوصل إليها"، ولذلك فليس من السهل تعديلها وفقاً لأفعال المستقبلين" (مرجع سابق). وهذا أمر تم ذكره من قبل في إطار سياسي بدرجة أكبر (Groombridge 1972; Morley 1992)- أي كمناقشة حول العجز النسبي للناس العاديين فيما يتعلق بالأحداث السياسية التي يرونها مصورة على شاشة التلفاز، وإدراكم التالي لمثل هذه الأحداث على أنها "بعيدة" عن حياتهم. لكن تومسون يطرح هنا فكرة أكثر عمومية حول طبيعة هذا الوسط نفسه.
وهذه الصعوبة المتعلقة بالانخراط الكامل في الأحداث المتواسطة على نطاق واسع - والتي هي بالطبع ناتجة جزئيا عن الطبيعة المونولوجية (أحادية المتحدث) لشبه التفاعل المتواسط (Poster 1990; Tomlinson 1994)- هي على ما أعتقد إحدى القضايا الرئيسية بالنسبة لفهم الطبيعة المميزة للتجربة التلفازية. ومن المهم ملاحظة أن هذه ليست مسألة تتعلق بكون جمهور التلفاز "سلبيا" في تكوين المعنى: لكن المقصود هو أن "نشاطنا" يتحدد من خلال الطبيعة الجوهرية لهذه التكنولوجيا اللاتوطينية. حيث أن تعرضنا بصورة روتينية لصور ومعلومات تتعلق بأحداث بعيدة عن عالمنا الحياتي المحلي،
ص (176)
والتي لا نملك أي سيطرة عليها أو إمكانية للتدخل فيها، يعني أننا وبصورة حتمية نختبر أنفسنا كما لو كنا خارجها بمعنى ما. لأنه، وفي المقام الأول، كيف يمكننا عملياً المشاركة في هذا الكم الكبير من الأحداث المتاحة أمامنا عبر التلفاز؟ وثانياً، فهذه الأحداث تأتي إلينا، وبشكل واضح، عبر هذا الشكل الشديد التواسط و"المُحتَوَى" مادياً ، والخاص بالصور المصغرة المعروضة على شاشة التلفاز.
والآن، من السهل إدراك كيف أن إدراك هذه المسافة الفينومينولوجية الحتمية قد يتخذ نوعاً من المنحى الأخلاقي الذي رأيناه في انتقادات كل من ميلر وباومان. ويمكن إعادة صياغة تحديد تومسون للمسافة بحيث يشير إلى فكرة الانفصال الأخلاقي. وتتسم معالجة كيفن روبنز لهذه القضية بكونها مثالا جيدا على ذلك، إذ أن روبنز مهتم بالتساؤل المحير الخاص بكيف يتجاوب جمهور التلفاز مع عرض الصور البالغة العنف وصور الموت عندما كان يتم عرضها، على سبيل المثال، في سياق تغطية الحرب في البوسنة. ويتساءل قائلاً : كيف يمكن أن الجمهور "يبدو وكأنه لم يصب بأذى نسبياً بعد المواجهات التي تمت بينه وبين عنف الحرب؟ كيف... يمكن أن تنتشر مثل هذه الحقائق ؟" (Robins 1994:458). وكما يعترف هو، فإن الإجابات على هذا اللغز تمثل جزءا من أجندة أكبر- تتعلق "بالكيفية التي تحولت بها علاقتنا مع العالم عبر التواسط التكنولوجي". ويقدم لنا روبنز هنا تحليلاً متبصراً وحاذقاً، لكنه يبالغ في تقدير الطريقة التي قد يكون بها التلفاز معوقاً من الناحية الأخلاقية. فعلى سبيل المثال، فقد جعل جزءاً من حجته أن استشهد بقول سي.جالاز حول الطبيعة "الفصامية" schizophrenic لمشاهدة التلفاز، والتي "تسمح لنا من ناحية بالتحكم بصورة سحرية في موقفنا في مواجهة العالم ومشاهده، ومن الناحية الأخرى بالإبقاء على مسافة معينة، بحيث لا نكون فاعلين فيه مطلقاً وألا نضطر إلى تحمل المسؤوليات على الإطلاق" (Gallaz quoted in Robins 1994:461). نلاحظ هنا أن طرحه للموضوع بهذه الطريقة كتساؤل حول التراجع عن الارتباط الأخلاقي، أدى به إلى محفظة encapsulation التجربة التلفازية في صورة قاتمة بعض الشيء: "تقارب فاتر، وانفصال حميمي" (1994:461).
لكني أعتقد أننا لسنا مجبرين، بسبب المناقشة حول المسافة الفينومينولوجية، على تبني مثل هذا النوع من التشاؤم الأخلاقي. حيث يبدو لي في المقام الأول أن الناس يقومون في ظل ظروف معينة بتحقيق مستويات متباينة من المشاركة الأخلاقية في القضايا التي يجلبها التلفاز إليهم. ونتيجة للتصوير التلفازي لمعاناة البشر البعيدين، يتعرض بعض الناس للصدمة بدرجة أكبر، ويتأثرون عاطفياً بدرجة أكبر، ويتحركون نحو التعاطف وحتى الفعل، بدرجة أكبر مما يسمح به روبنز. وهناك، كما يشير إليه تومسون، مجموعة بالغة التنوع من الاستجابات: " قد يبتعد بعض الأفراد .... ويسعون للحفاظ على المسافة بينهم وبين الأحداث التي هي، على أية حال، بعيدة عن المطالب المُلحِّة لحياتهم اليومية. بينما قد تستثير الصور والتقارير المعروضة في وسائل الإعلام أفرادا آخرين،
ص (177)
فيقوموا بإلقاء أنفسهم في حملات بالنيابة عن جماعات وقضايا بعيدة عنهم" (Thompson 1995:234). ويمضي تومسون ليستشهد بالمثال- المتطرف باعتراف الجميع- الخاص بغراهام بامفورد، والذي يتحدث عن سائق شاحنة من بلدة ماكليسفيلد، والذي قام في عام 1993 بعد مشاهدة التغطية التلفازية للمذبحة في فيتيز بغمر نفسه بالوقود وأضرم النار في نفسه في ميدان البرلمان للاعتراض على عدم قيام الحكومة البريطانية بالتدخل في مأساة البوسنة". ومثل هذه الحوادث تكون نادرة بشكل واضح ومعقدة من الناحية السيكولوجية. ولكن عند وضعها مع العديد من الحالات الأخرى الأكثر شيوعاً للناس الذين ألهمتهم التغطية التلفازية للمشاركة في الجهود الإنسانية- مثل الأشخاص الذين تطوعوا لتحميل وقيادة الشاحنات التي تحمل المساعدات الغذائية إلى سراييفو- فهي تعمل إلى حد ما على تقويض فرضية روبنز حول الطبيعة المخدِّرة anaesthetizing أخلاقياً وعاطفياً للتلفاز.
والطريقة المثلى لتجنب التشاؤم الأخلاقي الذي لا داع له هي، على ما أعتقد، من خلال إدراك كيف أن التجربة التي تتم عن بعد تقع ضمن العالم الحياتي الإنساني. والطبيعة "المحتواة" بصورة حتمية للتجربة التلفازية كما تُعرض علينا في التدفق الكامل للتجربة اليومية المُعاشة (بمتطلباتها الأخلاقية والعاطفية التي تتسم بكونها "مباشرة" بدرجة أكبر) تعني أنه ستكون هناك حاجة لبذل مزيد من الجهد الأخلاقي والعاطفي للمشاركة في المواقف المتعلقة بآخرين بعيدين. وهذا ليس فصاماً تحرّضه التكنولوجيا، لكنه يمثل ببساطة جزءا من الحالة الوجودية المميزة للحداثة العالمية- والتي يتم فيها فرض قدر إضافي هائل من المتطلبات الأخلاقية/الثقافية بصورة ضمنية على الناس العاديين بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. وهذا "العبء الأخلاقي" moral burden الضمني هو أحد الجوانب الأقل وضوحاً للاتوطين. ولاستكشاف الطريقة التي قد يتم تدبيره بها بشكل عام، يمكننا الرجوع للجانب الآخر من وصف تومسون والذي أود أن أتناوله.
وهذه هي فكرة "بنية الأهمية" relevance structure المتعلقة بالتجربة التي قام تومسون باسترجاعها من الفلاسفة الفينومينولوجيين أمثال هوسرل Husserl و شوتز Schutz.وتتمثل هذه الفكرة جوهريا في أن الناس لا يقومون بتكوين صلة مع كل هذا العدد الهائل من التجارب المتاحة لهم بشكل متساو، لكنهم يفعلون ذلك بصورة انتقائية من حيث الأهمية المُدركة للتجربة بالنسبة للتكوين المستمر للذات. وينظر إلى الذات self هنا ليس كوحدة ترتبط بالفرد ببساطة، وبصورة آلية وغير قابلة للتبديل، ولكن " كمشروع رمزي" يقوم الفرد بتشكيله وإعادة تشكيله في سياق حياته أو حياتها" (Thompson 1995:229).ونحن نقوم بصورة مستمرة ببناء وإعادة بناء "ذواتنا" خلال مسار الحياة. وكما يعبر جيدنز عن ذلك، فإن هويتنا الذاتية تصبح بهذه الطريقة "إنجازا انعكاسيا" reflexive achievement ، أو "رواية" ، والتي "تم الإبقاء عليها بصورة انعكاسية فيما يتعلق بالظروف السريعة التغير للحياة الاجتماعية، وذلك على الصعيدين المحلي والعالمي" (Giddens 1991:215).
ومقصد تومسون هنا هو أنه في ظل الظروف المتعلقة بالحداثة العالمية،
ص (178)
يرتكز مشروع الذات بشكل انتقائي على كل من التجربة المباشرة والمتواسطة، ولكن بنية الأهمية تكون مختلفة إلى حد ما في كل من الحالتين. حيث يشير إلى أن أهمية التجربة المباشرة للذات "غير قابلة للنقاش إلى حد كبير، لأنه يتم بناء مشروع الذات وإصلاحه بمرور الوقت من خلال هذه التجربة بشكل أساسي " (Thompson 1995:229). وبالتالي، فمن الممكن المجادلة بأن التجربة المحلية المباشرة- باعتبارها "البيئة المباشرة" التي تتطور الذات بداخلها- تكتسب أولوية وجودية معينة في حياة الناس. أما التجربة المتواسطة فهي، وعلى العكس من ذلك- وبسبب طبيعتها المتماسفة و"المقاومة"- "فمن المرجح أن لا ترتبط مع الذات سوى بعلاقة بسيطة، ومتقطعة، وانتقائية ":
بالنسبة للعديد من الأفراد الذين ترتكز مشاريع حياتهم على الأطر العملية لحياتهم اليومية، فإن العديد من أشكال التجربة المتواسطة قد ترتبط برابطة واهية مع حياتهم: وقد تكون مشوقة على فترات متقطعة، ومسلية أحيانا ، لكنها ليست القضايا التي تهمهم أكثر مما سواها. ولكن الأفراد يقومون أيضاً باستلهام التجربة المتواسطة بشكل انتقائي ، ويقومون بالمشابكة بينها وبين التجربة [المباشرة] المُعاشة التي تشكل النسيج الضام لحياتهم اليومية (Thompson 1995:230) .
وهكذا، فبرغم أن الناس يقومون بدمج التجربة التلفازية في "مزيج تجاربهم" المحلية اليومية الروتينية- مثل وضع الوضع النشرة الاخبارية المسائية في موقعها من بنية أحداث اليوم- إلا أنها تظل في غالبيتها منفصلة بعناد عن التجارب التي تأتي من الأجزاء "الأقرب من المنزل". وهناك بعض الأسباب العملية الواضحة لهذا، فمن الواضح أن المطالب المادية المتعلقة بالعالم المحلي، والتي لا يمكن الإفلات منها – مثل السفر اليومي، والتفاعلات الروتينية اليومية، والعمل، والتسوق، والطبخ، والعناية بالأسرة- تفرض أولويتها ليس فقط على أعمالنا ، ولكن على تشكيل "ذواتنا". وهكذا، فبالنسبة للغالبية العظمى من الناس، فإن ما يمكن أن نسميه- إذا قمنا بإعادة صياغة تعبير ماركس- "الدافع الفاتر الخاص بما هو يومي" سيقوم عادة بوضع جدول الأعمال المتعلق بالأهمية. ولتوضيح هذا، يمكننا تأمل الإجابة التي قدمتها امرأة حاورها ديفيد مورلي Morley خلال دراسته لممارسات المشاهدة المتعلقة بالأسرة:
أرغب أحيانأ في مشاهدة الأخبار، إذا كان شيء قد حدث مثل-أين ذهب ذلك الطفل الصغير وما الذي حدث له. وإلا فلا، ليس إلا إذا كان محليا، فقط عندما يكون هناك شيء قد حدث على الصعيد المحلي ....إن الأخبار القومية تثير أعصابي... ولا أستطيع تحمل برامج مثل أحداث العالم World in Action و بانوراما Panorama وما إليها، حيث أنها تعرض حروبا طوال الوقت. وأنت تعلم، إنها تستثير أعصابك.... أنا لا أريد أن أعرف شيئاً عن المستشار الألماني وكل ذلك. ماذا يدور في العالم؟ أنا لا أفهمه، وهكذا فأنا لا أصغي إلى ذلك. أنا أشاهد مثل هؤلاء الأطفال الصغار [حالة اختطاف]-والتي تؤثر فيّ، أريد أن أعرف المزيد عنها.
ص (179)
أو إذا كانت هناك بالفعل جريمة ما [في منطقتها المحلية]، مثل الاغتصاب وخلافه. فإني أود معرفة ما إن كانوا قد أمسكوا بالمجرم وحبسوه. (Morley 1986, quoted in Morley 1992:251)
وكما لاحظ مورلي، فهذا مبرر قوي للغاية لانحياز الاهتمام تجاه التجربة المحلية. وأنا أعتقد أن هذا يوضح بشكل جيد الطبيعة العملية للفروق التي يتم عملها في ملاءمة التجربة المتواسطة ووثاقة صلتها بمشروع الذات. ومن الواضح أننا لا نستطيع تشبيه هذه الإجابة بفرضية الآثار المخدرة أو المنفّرة للوسط medium . وبرغم أنه يقع إلى حد كبير عند الطرف المعاكس من الطيف مقارنة مع حالة غراهام بامفورد، إلا أنه إجابة للتجربة التلفازية لا تقل عن الأخرى شيئا، والتي ترتبط بشكل وثيق-وبصورة واعية- بتكوين الذات. وبرغم أنها تمضي لترفض إجابتها واصفة إياها بأنها "جهل مطبق في الواقع"، إلا أن استخدام هذه المرأة لشبه التجربة المتواسطة mediated quasi-experience هو دمج متعمد وذكي للأشياء المهمة ضمن إطار أفق عالمها الحياتي.
ولذلك، فإن القضية الأخلاقية هنا ليست قضية تتعلق باللامبالاة أو الانفصال (اللذان تحفزهما وسائل الإعلام)، لكنها تتعلق بمدى ملاءمة أفق أخلاقي مختلف. وقد يكون من المغري النظر إلى إجابة هذه المرأة على أنها شكل من "الأنانية" (إذا كان بعيداً عني فلا يعنيني) الوجودية- الأخلاقية- أي رفض السماح للعالم المهدّد threatening والموجود " هناك في الخارج" باختراق البيئة المباشرة للذات. لكن من الصعب تدعيم مثل هذا الحكم الأخلاقي: لأنه بناء على أية معايير يمكننا الحكم على الكيفية التي ينظم بها الناس إحساسهم بالأهمية الوجودية؟ وهناك إجابة أفضل تتمثل في النظر إلى أهمية الحكم على بنية الملاءمة، على أنها تلقي بالمسؤولية الأخلاقية مرة أخرى على وسائل الإعلام. أي أنه بدلاً من توقّع أن "يرتقي الناس إلى مستوى التحدي" الخاص بالمسافة الأخلاقية، نجد أن القصص التي تشكل الإطار الخاص بقضايا الاهتمام الأخلاقي البعيد تحتاج إلى أن تتم روايتها بطرق تجعلها متطابقة مع الآفاق الأخلاقية المحلية- والتي تقوم بالفعل بنقل هذه المخاوف إلى إطار ما هو شخصي وحميمي.
وكما يمكننا أن نرى في أمثلة مثل التقارير المتعلقة بوفاة وجنازة الأميرة ديانا، يعد التلفاز في الواقع جيدا إلى حد ما في تأطير أحداث معينة بحيث يجعلها جذابة على المستوى الشخصي. ولكن غالباً ما يتم انتقاد التغطية التلفازية لقيامها بإضفاء صبغة شخصية زائدة عن اللازم على القضايا- ولجعلها تبدو تافهة، ولإخفاء جوانبها الأكثر إثارة ضمن ضبابية النزعة العاطفية، أو تأطيرها من حيث النماذج المقولبة الأخلاقية الأيديولوجية غير المتقنة إلى حد ما. وفي أغلب الأحيان يكون هذا النقد مبرراً. ولكن يبدو لي أن الإجابة لا تتمثل في الإصرار على أن القضايا "الهامة" يجب أن تكون "متحررة من النزعة الشخصية depersonalized " (10) تماما. وبطبيعة الحال، فإن العديد من المشاكل التي تواجهنا في العالم المعولم تعد مشاكل كبيرة،
ص (180)
ومعقدة، ومجردة. ولكن إذا أريد للناس أن يشاركوا في أي من هذه القضايا على الإطلاق- أي أن يمارسوا أي درجة من القوة الأخلاقية- فيجب أن يتم إيجاد طرق لروايتها بحيث تنسجم مع العوالم الحياتية للفرد الذي تقع ضمن إطاره المحلي. وهكذا، فمن الممكن اعتبار أن درجة معينة من "إضفاء الصبغة الشخصية" personalization هي أمر أساسي في خطاب يتم التعبير فيه عن مشاكل عالمنا الأكثر صعوبة والأكثر "بعداً" كاهتمامات أخلاقية.
والتساؤل المحوري الذي قام هذا الفصل بإثارته هو ذلك الخاص بكيف يؤدي استخدام تكنولوجيا الاتصالات والتقنيات الإعلامية إلى اللاتوطين: كيف تقتلعنا من ارتباطنا الثقافي بل والوجودي بنواحينا المنفصلة، وبمعان عديدة، قامت بفتح عوالمنا الحياتية على عالم أكبر. وسأحاول في الفصل الأخير من الكتاب أن أتتبع بعض هذه التساؤلات المتعلقة بالمشاركة في أحداث العالم انطلاقاً من إطارها الفينومينولوجي، ومتجهين نحو السياسة الثقافية المتضمنة في فكرة الكوزموبوليتانية.
الفصل السادس: احتمالية الكوزموبوليتانية
ص (181)
الفصل السادس احتمالية الكوزموبوليتانية
قامت إحدى الهيئات، والتي تدعى "لجنة الحوكمة العالمية" بنشر تقرير ليتزامن مع دور انعقاد الجمعية العمومية الخامس عشر للأمم المتحدة في عام 1995. وهذه اللجنة، التي ترعاها العديد من الحكومات الوطنية بالإضافة إلى العديد من المؤسسات الوطنية والدولية، كانت في الواقع تقدم تقريرا عن الكيفية التي تغيّر بها العالم خلال الخمسين عاماً التي انقضت منذ أن تم إنشاء الأمم المتحدة في عام 1945، كما كانت تحاول طرح تصور حول نوع الاستجابة السياسية الدولية المنظّمة التي تتطلبها مثل هذه التغيرات. يلاحظ أن التقرير الذي يضع عملية العولمة في القلب من تحليله للتغير، اتخذ من تلك الفكرة التي ترى العالم على أنه جوارنا العالمي عنواناً ومجازا موجّها guiding metaphor له.
للوهلة الأولى، نجد أن هذا المصطلح يشير إلى طريقة تتسم بالورع بعض الشيء، طريقة دافئة بعض الشيء، طريقة جماعية للنظر إلى العالم gemeinschaftlich، والتي تحمل أصداء ماكلوهان - أو حتى التمثيليات التلفزيونية الاجتماعية الأسترالية. ولكن يتَبَيَّن في الحقيقة أنه عنوان مناسب وذكي إلى حد ما. لأن فكرة "الجوار" تصور أمرا أساسيا فيما يتعلق بعملية العولمة: العلاقة الديالكتيكية بين حياتنا المحلية والتجربة الثقافية من ناحية، وبين البنى والقوى المُعَوْلِمَة التي تقوم بتحويلهما بسرعة كبيرة. والأكثر من ذلك أن الحي الذي يتناوله التقرير لا يتسم بالدفء على الإطلاق.
وكما يقول التقرير، فإن الجوار يتم تعريفه - في الأساس- من حيث القرب وليس الروابط الطائفية أو القيم المشتركة. ولذلك فإن ما يجعل العالم المُعَوْلِمَ "جوارا" ليس ظهور أي من وحدات الحداثة العالمية المُحَيِّرة، والتي تتمثل في: مجتمع عالمي، أو ثقافة عالمية، أو أممية القيمة value universalism . ولكن بدلاً من ذلك، إنها الحقيقة القائلة بأن انكماش المسافة والاعتماد المتبادل المعقد الخاص بعملية العولمة يُنتج ما يمكن أن نسميه "بالتقارب المفروض." ولهذا دلالات مختلطة: فمن ناحية، هناك وعد بعالم
ص (182)
ذي آفاق ممتدة، وبإمكانية زيادة التفاهم والتعاون السياسيين، وبتجربة ثقافية كوزموبوليتانية متنوعة وثرية. وقد يعني التقارب أن مظاهر عدم المساواة العالمية ستَتَجلَّى بصورة أوضح، وأن المخاطر والتهديدات العالمية المشتركة- والتي تتجلى في أوضح صورها في التهديدات المُوَجَّهة ضد بيئتنا التي نتشاركها جميعا- ستصبح أكثر تركيزاً، وأنه سيتم وضع جدول أعمال للمسؤولية العالمية والمصالح المشتركة. ولكن ومن الناحية الأخرى، فإن إحدى الخصائص المميزة للجوار هي أننا لا نقوم باختياره، ولكننا يجب أن نتعايش معه. واقتباساً من التقرير، فعندما يكون الجوار هو الكوكب، فإن الانتقال بعيدا عن الجوار السيء ليس من بين الخيارات المتاحة" (Commission on Global Governance 1995: 44). ولذلك، فإن الأخطار المحتملة الشديدة الوضوح لظهور جوار عالمي هي تلك المتمثلة في ثمة حيز ثقافي واجتماعي "آخذ في الازدحام" بصورة متزايدة: في الصدام العنيف بين الثقافات والأيديولوجيات، وبناء الأسوار العالية - في الانسحاب إلى العديد من الأصوليات Fundamentalisms "المحلية" الراسخة- سواء كانت تلك وطنية، أو عرقية، أو دينية، أو خاصة بالنوع، أو جنسية، أو حتى بيئية.
وبرغم هذه الأخطار والشكوك، إلا أن تقرير اللجنة يتسم بنبرة متفائلة إلى حد ما: حيث أن ما تم اقتراحه لم يكن إطاراً لحكومة عالمية، بل مجموعة من المقترحات الأكثر تواضعاً - تتسم بالبراغماتية بشكل عام- بخصوص "الحوكمة" governance، والتي ينظر إليها على أنها "إصلاحات تتعلق بأنماط التعاون الدولي .... وإدارة الشؤون العالمية ..... واستجابة لمصالح جميع البشر في ظل مستقبل مستدام .... والذي يجعل التنظيم الدولي يعمل بصورة متوافقة مع حقيقة التنوع العالمي" (1995: xvii). ولذلك فإن التقرير يقترح إجراء إصلاحات مؤسساتية محددة: في سياسة الأمن الدولي، وفي الطريقة التي يتم بها تنظيم الاقتصاد العالمي، وفي الإطار الخاص بالقانون الدولي، وفي منظمة الأمم المتحدة ذاتها. لكن الأمر المهم بالنسبة لنا هو أن هذه المقترحات هي جميعها تابعة subordinate - أي أنها تتوقف على- للفكرة القائلة بأن الحوكمة العالمية ليست شأن الدول القومية وحدها - حيث أنه لا يمكن تركها لها في الواقع- ولكن يجب أن تشتمل على أعمال الجماعات الأصغر حجماً، وصولاً إلى مستوى الأفراد العاديين. وقد تم التأكيد على هذا في جميع أجزاء التقرير، كما أنه محوري في الحقيقة لذلك المجاز الخاص بالجوار العالمي (وهو مكان تم تعريفه في المقام الأول على أنه الإطار الذي يتم فيه التفاعل بين الأفراد). وهكذا، فغالباً ما يتم استخدام فكرة الجوار العالمي بشكل مترادف مع الفكرة الخاصة " بظهور مجتمع مدني عالمي، [والذي] يعكس زيادة كبيرة في مقدرة ورغبة الأشخاص في التحكم في الحياة الخاصة لكل منهم" (335:1995).
وبأخذ هذا الاقتراح على محمل الجد، يمكننا أن نلاحظ في تحليل اللجنة حساسية تجاه نمو الانعكاسية reflexivity الاجتماعية ضمن الحداثة العالمية: تلك الخاصة بعالم تتم فيه مناغمة المؤسسات بشكل متزايد لتتوافق مع الأعمال الفردية المتعددة، ومع مطالب
ص (183)
جماعات القوى المستقلة. ومن المرجح أنه مما لا يحتاج للتوضيح أن هذه الانعكاسية معقدة وتنطوي على قدر كبير من التواسط. وبرغم أنها لا تمثل زيادة محتملة في الاستقلالية والتحرر الإنسانيين، إلا أنها لا تعبّر بالضرورة عن نفسها على المدي القصير- سواء كانتقال مباشر وبسيط للسلطة إلى الشعب، أو حتى في صورة "أنسنة" humanizing واضحة للمؤسسات التي نعيش ضمنها. لكن ما تدركه هو الطريقة التي تقوم بها الروابط البينية المعقدة للحداثة العالمية بإبراز العلاقة بين أنماط حياة الأفراد وبين التبعات العالمية (الفصل الأول). وبهذا المعنى، فإن أفكار ومعتقدات وتصرفات الأشخاص العاديين تكتسب أهمية في محيط الحوكمة العالمية. وهذا هو التبصّر بالتحول الاجتماعي الذي تم تغليفه في الحكمة الشهيرة للحركة البيئية، والتي تقول: "فكر بصورة عالمية، وتصرف بشكل محلي". ولذلك، فلا يجب النظر إلى النداء المتكرر الذي تطلقه اللجنة من أجل ترسيخ "أخلاقيات مدنية عالمية" جديدة على أنه نوع من الورع، ولكن كاستراتيجية سياسية جديرة بالاعتماد- أي توطبد دعائم الحكم على أساس "مشاركة" القوى المُهمة انعكاسيا reflexively consequential.
قصدت من كل هذا عرض محور اهتمام هذا الفصل الأخير من الكتاب- وهو التضمينات "السياسية" الأوسع للعولمة الثقافية. ولقد اقترحت في الفصل الأول أن الأمور الثقافية المتعلقة بالعولمة بمعناها الواسع، وأن الأفعال الفردية المحلية التي يتم القيام بها في سياق "نمط للحياة" منظم ثقافياً، كثيراً ما تكون لها تبعات عالمية. ويشير هذا ضمنيا إلى وجود علاقة بين التجربة الثقافية الخاصة باللاتوطين من ناحية، وبين الأجندة السياسية للعولمة، ومشكلة حوكمة الجوار العالمي من الناحية الأخرى.
والطريقة التي أقترح أن يتم التفكير بها في هذه العلاقة هنا- والتي من المؤكد أنها معقدة- تتمثل في صياغة مبسطة بعض الشيء للمشكلة. أود استكشاف الفكرة القائلة بأن الفعل المحوِّل عالمياً globally transformative للأفراد في سياق النواحي المحلية التي يقطنون بها يتوقف على مدى تطويرهم لميل ثقافي محدد- أو "نزعة تجاه العالم". وهذا، مرة أخرى، هو الموقف الذي اقترحه مؤلفو تقرير "جوارنا العالمي" في تشديدهم على تطوير "أخلاقيات عالمية": "إن التغيير الأهم الذي يمكن أن يقوم به الناس هو تغيير الطريقة التي ينظرون بها إلى العالم" (47:1995). وأنا أعتقد أن هذا صحيح إلى حد بعيد، لكنه ينطوي على عدد من المشاكل يفوق ذلك الذي يعترف به مؤلفو اللجنة. تتمثل مقاربتهم في الانتقال بسرعة من فكرة التخيل والإدراك الثقافي إلى التوصية بمجموعة أساسية من القيم العالمية (والمستمدة من معيار التبادليةreciprocity ) التي يمكن أن يوافق عليها جميع البشر، ومن هذا إلى اشتراط مجموعة من المسؤوليات والحقوق العالمية التي يمكن إضفاء الصبغة المؤسسية عليهاinstitutionable . وهذا بالطبع يمثل إجابة مطابقة تماماً للخطاب الخاص باللجان الدولية التي تتوجه، بطبيعتها، نحو
ص (184)
التوصل إلى مقترحات واقعية فيما يتعلق بالسياسات. لكن المشكلة الواضحة بشكل كاف فيما يتعلق بذلك هي أن "قيم الجوار" التي يقترحونها كقيم عالمية لها أسسها، وهي: "احترام الحياة، والحرية، والعدالة والمساواة، والاحترام المتبادل، ومراعاة مشاعر الآخرين، والاستقامة"، تبدو لطيفة ومقبولة إلى أن يتم دفعها بالقوة نحو تفسير يقع ضمن إطار موقف حقيقي محدد - وهي النقطة التي تميل عندها إلى أن تتجزأ، وأن تتبني التعقيد الأخلاقي الذي يتسم به السياق المعين الخاص بالفعل، وأن تفقد نتيجة لذلك خصائصها المُلْزِمَة عموما.
والقضية المعقدة الخاصة بالكونية universalism - كما رأينا في الفصل الثاني- ليست بعيدة على الإطلاق عن جدول أعمال الحداثة العالمية، وسوف نعود إليها مرة أخرى لاحقاً في هذا الفصل. لكن ما أعنيه هو أن تحوّل التقرير إلى هذا النوع من الخطاب الأخلاقي هو أمر متهور، على أية حال. والشيء الذي يُفَضَّل أن نقوم بالتركيز عليه هو الأسئلة السابقة الخاصة بالإدراك، والميل، والتخيل الثقافي. كيف سيفكر الناس حتى في أنفسهم على أنهم ينتمون إلى جوارعالمي؟ هذه هي المشكلة التي أود استكشافها: ماذا يعني أن تكون لك هوية عالمية، أن تفكر وتتصرف "كمواطن عالمي" citizen of the world - أي حرفياً باعتبارك "كوزموبوليتانيا" ؟
سأتساءل أولاً عن ماهية المواطن الكوزموبوليتاني cosmopolitan، وما إن كانت هذه في الحقيقة هي الطريقة المثلى للتفكير في الانتماء العالمي، والقيام على وجه الخصوص بالتفكير مليا في المدلولات الأيديولوجية التي اجتذبها هذا المصطلح. وثانياً، فبالنظر إلى بعض الحجج الجدلية التي قد تربط اللاتوطين بتنمية نزعة كوزموبوليتانية، سأقترح أنه يتوجب علينا أن نفكر في الكوزموبوليتانية كمورد ثقافي يحتاج إلى أن يعمل في إطار مؤسساتي موحش unconvivial على نحو استثنائي. وإذا كان لثمة نزعة كوزموبوليتانية أن تحقق أي فائدة في تناول القضايا ذات الأهمية العالمية، فلابد وأن تكون مستدامة في عالم يفتقر إلى، ويبدو أنه مصمم على الإفتقار إلى، أية مؤسسات سياسية عالمية مركزية رسمية قوية قد يُتوقع منها أن تدعمه.
الكوزموبوليتانية: الفكرة، والأيديولوجية، والغاية الغاية: الكوزموبوليتانية كنزعة ثقافية
إن الأصل الاشتقاقي للمصطلح "كوزموبوليتاني" واضح بما فيه الكفاية: من الكلمة اليونانية كوزموس kosmos التي تعني "عالم"، وبولِس polis التي تعني "مدينة". ومن ثمَّ، فإن الكوزموبوليتاني هو مواطن عالمي. والآن، من الواضح أن فكرة المواطنة هذه لها تضمينات محددة في مجال السياسة ضمن السياق الخاص بالعولمة. وقد تمثل أحد التأكيدات الهامة هنا - في خطاب تعود أصوله إلى الفكرة السياسية الدولية التي طرحها إيمانويل كانط Kant- في التفكير مليا في جدوى النماذج الديموقراطية والمؤسسات السياسية
ص (185)
التي تتخطى نظام الحكم الخاص بالدولة القومية (Held 1992, 1995). لكن المقاربة التي أود أن أنظر من خلالها إلى فكرة الكوزموبوليتانية هي، بوضوح، باعتبارها رمزا ثقافيا: يضيف معجم أكسفورد الموسوعي للغة الإنجليزية إلى تعريفها معنى التحرر من المقيدات وصور الانحياز الوطنية، وهذا يقترب بشكل أكبر من المعنى الذي أسعى إليه. فأن " تكون مواطناً عالمياً"، بالنسبة لأغراضنا هنا، يعني أن تكون لديك نزعة ثقافية، والتي لا تقتصر على الاهتمامات المتعلقة بالناحية المحلية المباشرة، بل تعترف بالانتماء، والمشاركة، والمسؤولية العالمية، ويمكنها دمج هذه الاهتمامات الأوسع في ممارسات الحياة اليومية. ويعد هذا النوع من النزعات شرطا مسبقا لتحقيق "مشاركة فعالة" لنمط الحياة في الحوكمة العالمية. وقد عبَّر أولف هانرز عن هذا بشكل جيد في وصفه للكوزموبوليتانية على أنها "منظور، أو حالة ذهنية، أو .... أسلوب لتدبير المعنى" (Hannerz 1990: 238).
تكتسب مناقشة هانرز أهمية خاصة لأنها تقدم بعض التبصرات الثاقبة والذكية فيما يتعلق برمز الكوزموبوليتانية كضرب من "النمط المثالي"، لكنه في الوقت نفسه يثير ضمنياً بعض المشاكل الأيديولوجية فيما يتعلق بهذه الفكرة. حيث يجادل بأن الناس قد يرتبطون بعملية العولمة بإحدى طريقتين عامتين: "هناك الكوزموبوليتانيون وهناك المحليون" (237:1990). وبالنسبة له، نجد أن "المحليين" هم أناس يظل منظورهم الثقافي دائماً دون الأفق الخاص بالناحية المحلية المحددة التي يقطنون بها، في حين أن الكوزموبوليتانيين هم أناس "ذوي أقدام طليقة" و "يتحركون بصورة دائمة في أرجاء العالم"، والذين يميلون إلى غمر أنفسهم في الثقافات الأخرى" (1990: 240- 241). وبالتالي، فإن الكوزموبوليتانية كمنظور ثقافي هي، بالنسبة لهانرز، "أولاً وقبل كل شيء .... رغبة في التعاطي مع الآخر. إنها موقف فكري وجمالي من الانفتاح على خبرات ثقافية متباينة، إنها بحث عن التناقضات بدلاً من التجانس" (ص.239).
ويمضي هانرز لتمييز الكوزموبوليتانيين الحقيقيين عن جماعات أخرى من الناس المتحركين على الصعيد العالمي- السياح، والمنفيين، والمغتربين، وموظفي الشركات المتعددة الجنسيات، والعمال المهاجرين- على أساس ما إن كانت لديهم هذه النزعة الثقافية المركزية أم لا. وهو يجد أن معظمهم لا يمتلكونه. فالسياح غير مهتمين بالتعاطي بعمق مع الآخر الثقافي، حيث أنهم يريدون ببساطة مركزاً للتسوق مثل "هُوم بَلَص"Home-plus : "فأسبانيا هي هوم بلص الشمس الساطعة، والهند هي هوم بلص الخدم، بينما أفريقيا هي هوم بلص الأفيال والنمور" (ص.241) (1). وبالمثل، فإن معظم العمال المهاجرين لا يصبحون كوزموبوليتانيين: "فبالنسبة لهم قد يكون الذهاب بعيداً، مثاليا، هو "هوم بلص" للحصول على دخل أعلى، وغالباً لا يكون التعاطي مع ثقافة أخرى ميزة إضافية، ولكن تكلفة ضرورية يجب أن يتم الإبقاء عليها عند مستوى منخفض قدر الإمكان" (ص.243). وقد كانت المجموعات الأخرى التي قام بدراستها أفضل قليلاً من وجهة نظره: حيث يريد المنفيون بشكل عام "هوم بلص للأمان"، في حين أن الموظفين المتنقلين في كافة أرجاء العالم والذين يعملون في الشركات المتعددة الجنسيات غالباً ما يقومون بتغليف أنفسهم
ص (186)
في ثقافاتهم الوطنية (التي غالباً ما تكون أوروبية غربية أو شمال أمريكية) خلال أسفارهم، وبالتالي "فإنهم يظلون بشكل أساسي محليين من ساكني العاصمة metropolitan locals ، بدلاً من أن يصبحوا كوزموبوليتانيين" (ص.245).
وهكذا، يتبين أن الكوزموبوليتانيين بالنسبة لهانرز هم طيور مهاجرة نادرة إلى حد ما. ومن المؤكد أنه يكتب عنهم كما لو كانوا جماعة مُهِمَّة من الناس، والتي تلعب دورا ثقافيا خاصا في عملية العولمة. ومع ذلك، فيبدو أنه يشير إلى أنه برغم كون بعض الناس المتميزين بعض الشيء في المجموعات التي قام بدراستها قد يمتلكون هذه النزعة، إلا أنه من المرجح أن معظمنا يفتقر إليها (2). وبالنظر إلى الحالات الموجودة بالفعل من هذا التوجه الثقافي المحدد، قد يكون هذا صحيحاً بالفعل. وقد كانت رؤية هانرز الأنثروبولوجية مفيدة في تذكيرنا بأن الزيادة الهائلة في التحركية mobility التي أدت إليها عملية العولمة ليست كافية في حد ذاتها لإحداث نزعة كوزموبوليتانية، وهذه مشكلة سوف نعود إليها لاحقاً.
وعلى أية حال، فنحن مهتمون بدرجة أكبر حالياً بالعمل نحو اشتراط النزعة الكوزموبوليتانية كغاية ideal – أي باعتبارها المنظور الثقافي الملائم للمحرّك الأخلاقي في "الجوار العالمي". هل يناسب الكوزموبوليتاني الذي وصفه هانرز هذا الوصف؟ واحسرَتاه! لا. وذلك لسببين.
الأول، لأن المنظور الذي يصفه لا يمثل سوى جزء من المواصفات الضرورية. فمن المؤكد أن الكوزموبوليتانيين يحتاجون إلى التحرر من القيود وأشكال التحيز الضيقة الخاصة بثقافتهم الأم، وأن يكونوا منفتحين على التنوع الذي تتسم به الثقافات العالمية الأخرى، وأن يكونوا راغبين في فهم المنظور الثقافي للآخر. ولكنهم يحتاجون أيضاً - وربما بشكل أكثر أهمية- لامتلاك حس بالالتزام الثقافي الأوسع - وبالانتماء إلى العالم ككل: أي، بالمعني الذي اقترحه كل من أنتوني جيدنز (Giddens 1991) وأولريخ بيك (Beck 1992, 1996)، ذلك الحس بعالم لا يوجد به آخرون- وخاصة فيما يتعلق بالتهديدات البيئية التي تتطلب تعديل نمط الحياة. حيث أن كونك طليق القدمين ثقافياً لن يمثل بالضرورة أفضلية هنا. وربما يرتبط هذا النوع من الاحتفاء بالاختلاف الثقافي الذي يصفه هانرز بنزعة أخلاقية تجاه المسؤولية العالمية، وربما لا. ومن الممكن أن "الصورة الأوسع" التي يشجع عليها الكوزموبوليتانيون الذين يصفهم، قد تقودهم إلى أن يكونوا مواطنين عالميين أكثر مسؤولية، وأن يمتلكوا شعورا بأننا، وكما عبَّر سارتر عنه ذات مرة "embarqué" - أي أننا جميعا في القارب ذاته. لكنهم، وبنفس الدرجة، قد يختارون ببساطة أن يستمروا في التنقل، وأن ينغمسوا في تذوق الخبرات الثقافية الجديدة في الوقت الذي يظلوا فيه، وكما يقترح هانرز نفسه، غير ملتزمين على وجه العموم، "وأن [يعلموا] دائماً كيفية الخروج من ذلك" (Hannerz 1990: 240).
والسبب الثاني في أن نمط هانرز من الغايات الكوزموبوليتانية يعجز عن أن يمثّل غاية ثقافية- أخلاقية، يرجع إلى كمية النظريات والعادات الأيديولوجية البالية التي يحملها هو (يكتب هانرز بصراحة عنه مستخدما تعبير "هو").
ص (187)
والشيء الأهم بين ذلك، كما سنرى، هو الميل إلى انتقاد تجربة المواطن المحلي المتضمنة في بنية الازدواجية التي طرحها هانرز. ولذلك دعونا ننظر الآن إلى بعض المدلولات الأيديولوجية غير المناسبة التي تراكمت على مفهوم المواطن الكوزموبوليتاني.
الأيديولوجية: الكوزموبوليتانيون مميّزون على المحليين
لتجنب سوء لفهم، يجب أن أقول من البداية أن هذه المشاكل الأيديولوجية لا ترتبط على وجه الخصوص بتصور هانرز، بل إنها تمثل ظلالا عامة للمعنى الذي اكتسبته فكرة الكوزموبوليتانية. وسأبدأ بذكر اثنين فقط من هذه المشاكل، كما سأنفق بعض الوقت الإضافي في تناول مشكلة ثالثة - وهي الفكرة الخاصة بتمييز privileging التجربة "العالمية" على تلك "المحلية".
والمدلول غير المناسب الأول لهذا المصطلح هو ذلك المتمثل في أن الكوزموبوليتاني هو أوم دو موند homme du monde - أي "الرجل العالمي". والتحيز النوعي الضمني واضح: الرجال - مقارنة بالنساء- هم "عالميون". وهناك قول إسباني شائع يصوّر هذا الشعور بشكل لطيف: Hombre en la calle, mujer en la casa ("الرجل في الشارع" - العالم الأوسع؛ "المرأة في البيت" - الحيز المنزلي). وللتأكد تماما من عدم القدرة على الحركة المطلوبة في حالة النساء، مضى القول المأثور ليقول ! con la pata quebrada ("بساق مكسورة!"). وكما ذكرت جانيت وولف، لم يقتصر الأمر فقط على تشكل السفر تاريخيا وفقاً للنظام الأبوي patriarchy ، لكن كلا من أدب الرحلات والاستعارات الخاصة بالسفر، والتي تم استخدامها في النظرية الثقافية الأوسع تتسم بالتحيز إلى النوع gendered بصورة جوهرية (Wolff 1993). ومن ثم، فقد تكون هناك حاجة إلى "إعادة ملاءمة" فكرة المواطن الكوزموبوليتاني، كما تجادل وولف بالنسبة لحالة الاستعارات المتعلقة بالسفر في النظرية الثقافية ("البدوي"، "التخطيط") من هذا السياق المتنقل discursive والأبوي بصورة ضمنية. وفي الواقع، فإن هذه المشكلة تثير أيضاً تلك المشكلة الأوسع والأعمق الخاصة "بعزل" sequestering النساء عند صياغة المفهوم الغربي للمواطنة، بداية من الدول المدينية city-states الإغريقية ووصولاً إلى الحيز العام لهابرماس (Benhabib 1992; Fraser 1987).
وثانياً، هناك الشك القائل بأن شخصية المواطن الكوزموبوليتاني هي (حرفياً ورمزياً) شخصية غربية. وهناك مستويان يمكن توجيه هذه التهمة إليهما. فالأكثر وضوحاً أن هناك شك في وجود تمركز عرقي مباشر: أي أن فكرة الكوزموبوليتانية، وكما عبرت عنها دورين ميسي، بالإضافة إلى فكرة العولمة هي "في الأساس تصور للأمور يتسم بكونه أبيض / خاص بالعالم الأول" (Massy 1994: 165). حيث أن الغربيين هم في الغالب من يتسمون بالتجوال وكثرة الأسفار - باختيارهم، أي ليس كلاجئين؛ إن سكان العالم الأول
ص (188)
هم من يقومون بإرسال الفاكسات، كما أنهم هم أيضاً من يستخدمون الإنترنت. وقد قمنا بإثارة هذه القضية في الفصل الرابع فيما يتعلق بإمكانية التعميم العالمي لفكرة اللاتوطين. ولكن يمكننا أن نضيف هنا أن هناك طرق لاشتراط النزعة الكوزموبوليتانية من أجل تجنب ظهورها كمجرد ملكية ثقافية خاصة بالغرب. وبرغم أن هانرز يميل إلى تصوير ثقافات العالم الثالث على أنها تنتمي بشكل عام للقطب المحلي من ازدواجيته، إلا أنه طرح أيضاً الفكرة المهمة القائلة بأن مُعْظَم الثقافات الغربية "العابرة للحدود القومية" لا يمكن أيضا اعتبارها كوزموبوليتانية كما ينبغي، لأنها تقوم عامة بإظهار نفسها عالمياً على أنها "جيوب ثقافية غربية" (Hannerz 1990: 245). وبهذا المعنى، فإن الإنفتاح على العالم يتعارض تحديداً مع وجود هيمنة عالمية غربية تتسم بالرضا عن الذات. كما أنه إذا ما تم فهم النزعة الكوزموبوليتانية بشكل جيد، سنجد أنها ليست شيئا يصل ثقافياً كإحدى الكماليات الراسخة "للعولمة التكنولوجية" الغربية. ولذلك، فسيبدو عند هذا المستوى أن الخيط الأيديولوجي الذي يربط الكوزموبوليتانية بالغرب يمكن قطعه بسهولة نسبية.
وعلى أية حال، فعند مستوى مختلف، قد تصبح القضية أكثر تعقيداً. لأنه يوجد أيضاً ما قد نسميه "الارتياب ما بعد الاستعماري" في هذه الفكرة: أي الشك في أن الكوزموبوليتانية الغربية ترتبط بعمق " بالكوزمولوجيا" cosmologyالغربية. وهذا هو معنى أن الفكرة ذاتها القائلة بأن تصبح مواطنا عالمياً ستؤدي حتماً إلى توليد "النظرة العالمية" الأخلاقية والفكرية الراسخة الخاصة بالغرب: افتراضاتها المعرفية والوجودية والمعيارية - وباقتباس كلمات كورنيليوس كاستورياديس- "الدلالات الاجتماعية المتخيّلة" (Castoriadis 1987). وإذا واصلنا هذا النهج النقدي، فقد يؤدي بنا هذا إلى التشكك في الفرضيات الأساسية للنزعة الكوزموبوليتانية - في كل من لحظاتها "المُعوّلِمة" و"المُعَدِّدة" pluralizing - وذلك ،بصورة ما، مثل التركة المشكوك في صحتها الخاصة بحركة التنوير الأوروبية التي ينتقدها جون غراي (الفصل الثاني). وهذا بالطبع يعيد فتح القضية الخاصة بالعلاقة بين الحداثة والغرب بأكملها، ولو على مستوى مختلف، والتي قمنا بمناقشتها في الفصل الثالث فيما يتعلق بنقد سيرجي لاتوش. لكن هذا ليس النهج النقدي الذي أنتوي مواصلته، لأنني لا أعتقد أن هذا النوع من الميل الأخلاقي- الثقافي العملي الذي نهتم به هنا سيتعرض لضرر جوهري كبير لمجرد أن منشأه يأتي من الفكر الغربي. وبنفس الدرجة التي تمتلك بها حالة الحداثة قابلية تطبيق applicability عالمية عامة (الفصل الثاني)، برغم تمرسها في سياقات "دخول" تاريخية مختلفة ("الحداثات العالمية")، أعتقد أنه يمكن استعادة الكوزموبوليتانية كموقف ثقافي يمكن تعميمه.
وعلى أية حال، فإن تشككي الأيديولوجي الثالث لدي تجاه فكرة الكوزموبوليتانية يتطلب منا
ص (189)
مزيدا من الاهتمام، لأنه ينفذ إلى لب الفكرة. إنها قضية متعلقة بانتقاد، أو على الأقل إخضاع، التجربة والممارسة الثقافية التي تقع في سياق محلي. ويتضح هذا، عند أكثر المستويات سطحية، في الدلالة الشائعة لكلمة "الكوزموبوليتاني" باعتبارها تنطوي على درجة من التميز الاجتماعي- المعنى الخاص بنخبة اجتماعية تمتلك القدرة على تجاوز الهموم اليومية التافهة. وهكذا، على سبيل المثال، فإن التناقض المألوف بين الكوزموبوليتاني (كشكل مضخّم من "ساكن العاصمة") وبين "المحلي". وهذا هو بالفعل مثال رئيسي على القوة الأيديولوجية للمقابلة الثنائية binary opposition. ولذلك، فليس من المستغرب أنه، في المرات التي تمت فيها المقابلة رسمياً بين الكوزموبوليتاني كنمط نموذجي وبين المحلي - كما في مقاربة هانرز، أو في الدراسة الكلاسيكية للمدن الصغيرة في أمريكا التي أعدها روبرت ميرتون (Merton 1968) ، والتي يتبعها في بعض الجوانب- يؤدي المحلي مهمته بشكل سيء. والمشكلة في هذا النوع من الازدواجية هي أنه يستخف بصورة شبه حتمية بالتجارب والممارسات المُعَاشة محلياً بصورة ضمنية، ويصورها على أنها ضيقة، وجاهلة، ومحدودة الأفق، ومحافظة، وناقصة المعرفة، وتفتقر إلى الصورة الأوسع، وما إلى ذلك. ويمكن أن نسترجع هنا، من الفصل الثالث، التحيز المدني / الحديث / الكوزموبوليتاني الذي اتسم به ماركس ووصفه الشهير في البيان الشيوعي لما أسماه "بلاهة الحياة الريفية" (Marx and Engels 1969: 53). والأمر الأشد صعوبة هنا هو الطريقة التي قد ينزلق بها هذا التمييز الثقافي نحو التمييز الأخلاقي ethical distinction ، والذي يمكن النظر من خلاله إلى الكوزموبوليتانية على أنها تمتلك نوعا من الأفضلية الأخلاقية على المحلية، لمجرد القدرة الأكبر على الحركة، والوصول بدرجة أكبر إلى وسائل الاتصال، وما إلى ذلك. وقد نصل حينئذ إلى الاستنتاج المشكوك في صحته بأن الأفضلية الاقتصادية الاجتماعية تخلق عناصر أخلاقية أكثر تفوقاً.
وإذا كانت المشكلة هي مجرد واحدة متعلقة بالدلالة أو المنطق أو المقابلة الثنائية، فمن الممكن التغلب عليها، ويمكن إنقاذ فئة المواطن الكوزموبوليتاني مرة أخرى. فمن ناحية، يمكننا أن نقوم بسهولة بإبعاد المعنى المراد للانفتاح الثقافي عن مدلولات حكم النخبة الثقافية cultural elitism وبناء معنى أكثر "ديموقراطية" يرتكز، مثلاً، على الوصول الواسع إلى تجربة وسائل الإعلام المُعَوّْلِمة التي قمنا بمناقشتها في الفصل الخامس. ومن ناحية أخرى، فبوسعنا أن نتوقف عن التفكير بلغة المتقابلات الثنائية المتضادة، ومن ثم محاولة التفكير في النزعة الكوزموبوليتانية كشيء لا يُشْتَرَط بالضرورة أن يقوم باستبعاد المنظور الخاص بالجانب المحلي. وهذا هو النهج الذي سأؤيده حالياً. وعلى أية حال، فقبل أن نأتي إلى ذلك ، سنحتاج إلى سَبر المسألة بعمق أكبر بعض الشيء، لأنه قد تكون هناك أمور كثيرة على المحك هنا أكثر من مجرد تأثيرات النزعة الثنائية. فقد يكون هناك توتر ثقافي- سياسي حقيقي بين المنظورات والمصالح الخاصة بكل من النزعتين الكوزموبوليتانية والمحلية.
ص (190)
وهذه احتمالية تمت إثارتها في مقال مثير كتبه جون فيدال حول السياسة البيئية. يجادل فيدال بأن سياسة الحركة البيئية موزعة بشكل مثير للالتباس عبر "المبدأين المحوريين لعصرنا": أي "النزعة المحلية" و "العولمة". وقد تم التعبير عن النزعة المحلية، بالنسبة له، في العدد المتزايد من الحركات السياسية الأصولية التي ظهرت خلال التسعينيات من القرن العشرين، والتي اعترضت على ما أطلق عليه اسم "النزعة إلى البُعد" remotism: أي فرض مشاريع أو سياسات تؤثر على إحدى النواحي المحلية، من خلال قوى - سواء كانت الدولة، أو الشركات المتعددة الجنسيات، أو المؤسسات الدولية مثل اتفاقية الجات GATT ،أو منظمة التجارة العالمية WTO ، أو صندوق النقد الدولي IMF - التي ينظر إليها على أنها بعيدة وغير مستجيبة لرغبات ومصالح السكان المحليين. وهكذا، فإن فيدال يستجمع المنظور الخاص بالمحلية، وكفاح العالم الثالث ، كما في حالة شعب الأوغوني Ogoni في نيجيريا ضد تلويث شركة البترول شِلّْ لأراضيه، بالإضافة إلى الاعتراضات المحلية ضد قرارات التخطيط المركزية في العالم المتقدم - فيما يتعلق بإنشاء الطرق، والتعدين من المناجم المكشوفة، وإنشاء متاجر سوبر ماركت ومراكز تسوق جديدة ، إلخ. وهذا المنظور، بالنسبة له، يعد منظورا استثنائيا بالفعل لأنه يمر عبر محور العالم الأول/ العالم الثالث: "عندما يتمكن أحد أفراد قبائل الهوبي الهندية في أريزونا من زيارة عمال التعدين في ساوث ويلز، وأن يتم التصفيق له لقيامه بمناداتهم باسم "السكان الأصليين" الذين يجب أن "ينتفضوا ويقوموا باستعادة أراضيهم التي تم اغتصابها منهم". وعندما تتعاطف "قبائل" المحتجين والمشردين، والعاطلين في الطرق السريعة مع المتمردين الزاباتيين Zapansias في المكسيك، أو الهنود الحمر Amerindians المهمشين في البرازيل، فهناك أمر يحدث " (Vidal 1995: 57). وهكذا، فإن المبدأ المُرْشِدْ للنزعة الإقليمية كمنظور سياسي- ثقافي عالمية الانتشار هو تحقيق الحد الأقصى من الحكم الذاتي المحلي، والتحكم في البيئة المحلية، بالإضافة إلى الحفاظ على "أنماط حياتية" معينة.
لكن الأممية Globalism ، وعلى العكس من ذلك، فهي ذلك المحور "الساحر والشديد الإغراء" الذي "يقدم جميع المكافآت الخاصة بسلطان الجشع": ولذلك ففي الأيدي الأمينة للشركات المتعددة الجنسيات وجماعات النخبة السياسية والاقتصادية، تقدم الأممية أفضل ما في العلوم، وأحدث ما توصلت إليه علوم الوراثة والكمبيوتر، وعلاجا عاما مبهرجا لجميع المفردات الجديدة التي يخترعها المجتمع .... والرسائل المتضمنة في اللغات العالمية حول الاعتمادية المتبادلة، والتفاعل البيني، والتواصل غير المحدود، والحلول الشاملة" (ص.58). والنقطة المثيرة الآن هي أنه لا يُنْظَر إلى "الأممية" على أنها مجرد أيديولوجية المتهمين المعتادين – أي الشركات المتعددة الجنسيات التي تتسم بالجشع، أو الدولة القومية التي استسلمت للتخطيط المركزي الذي يتسم بالمبالغة الحمقاء. وكما يجادل فيدال، فإن هذا المنظور قد أغرى الحركة البيئية بنفس الدرجة(3). والحكمة القائلة "فكر بشكل عالمي، وتصرف بطريقة محلية" هي، بالنسبة له، ليست استراتيجية ديالكتيكية بقدر كونها "منطرة تناقضية"paradoxical mantra. وقد حاول دعاة الحركة البيئية اعتناق المنظور المحلي، في تأكيدهم على العمل المجتمعي، إلخ. ولكن، وبرغم ذلك، فلقد مالت الحركة البيئية ككل إلى تعزيز المنظور العولمي. وكثيراً ما هيمنت المصالح
ص (191)
الخاصة بالأممية البيئية ذات التأثير الآخذ في التعاظم - وهي المخاوف المتعلقة "بكوكب الأرض بأكمله" ، لكن باعتبار أن جذورها تتعلق بالاهتمامات المتعلقة بنمط الحياة الخاص بدول العالم الأول الغنية، فكثيرا ما تغلبت هذه على المصالح المحلية - حيث قامت بمنع مجتمعات الإنويت من صيد الحيتان أو تسعى لمنع الشعب الصيني من استخدام ثلاجاته التي تنبعث عنها مركبات الفلوروكلوروكربون. وهكذا، فمن الممكن استبعاد شعب البوشمن من صحراء كلهاري، التي عاشوا فيها لآلاف السنين، وذلك لأن حكومة بوتسوانا تري أنهم يشكلون مصدر خطورة كبيرا للغاية على النظام البيئي الهش" (Vidal 1995: 60).
ويمضي فيدال إلى حد وصف منظمة السلام الأخضر "غرين بيس" Greenpeace، والتي ربما كانت الجماعة البيئية العالمية الأكثر نجاحاً، باعتبارها "شركة متعددة الجنسيات بأي مُسَمَّى آخر". وما يعنيه بهذا التصريح المُسْتَفِزّ بعض الشيء هو أنه، برغم هدفها (شبه المعرِّف) المتمثل في شن حرب دعائية على الممارسات الملوّثة الخاصة بالصناعة التي تتخطى الحدود القومية، تشترك النزعة البيئية لمنظمة غرين بيس مع أعدائها في بعض الممارسات والافتراضات المُعَوّْلِمة. حيث أنها تستخدم "الأبحاث العِلْمية الكبرى " في تعريف القضايا البيئية ضمن سياق عالمي، وليس ضمن السياقات المحلية الحساسة اجتماعياً، إذ أنها " تعتمد على الأممية بشكل كامل لتوصيل رسالتها"، كما أنها تُبْقِي على علاقة تماسفية حرة الحركة مع نواح محلية معينة، "بينما تتأرجح نحو الدول النامية ... دون أن يكون لديها أي تفويض للبقاء أو مساعدة السكان المحليين على تصحيح تبعات أفعالها" (61:1995).
لا ريب في أن فيدال يبالغ بعض الشيء لغرض جدليّ polemical ، لكنه لا يطرح تعارضا محتملا هاما في المصالح هنا. فإذا أريد للنزعة الكوزموبوليتانية في الحقل البيئي أن تكون مجرد شكل من أشكال "الأممية" - باستلهام ما تطلق عليه مارجوري فيرغسون (Ferguson 1992: 82) اسم "خرافة العولمة" المتعلقةخ "بإنقاذ كوكب الأرض"- فسيكون من السهل رؤية كيف يمكن أن تتعارض مع مصالح النزعة المحلية. لأنه بالنسبة لمعظم الناس، وكما عبر عنه لاش و أوري (Lash and Urry 1994: 305)، فإن "البيئة هي ناحيتهم المحلية"، وقد لا يمكن إقناعهم بأن هناك اهتمامات أوسع (أي أكثر "بعداً" من الناحية التجريبية) يجب أن تكون لها الأولوية. وهذا ليس فقط هو الحال في معظم الأمثلة الواضحة التي يوجد فيها تضارب واضح في المصالح بين الممارسات المحلية (التي ربما تنتج بسبب تقاليد راسخة لا تخضع للنقاش، أو بسبب ضرورة مادية اقتصادية مباشرة)، وبين إحدى النتائج السلبية العالمية: مثل حرق الفحم والأمطار الحمضية أو الاحترار العالمي، وصيد الأنواع الحيوانية المهددة بالانقراض مثلما يحدث حول جزر غالاباغوس. لكن هذا صحيح بنفس القدر في الحالات السياسية- الثقافية الأكثر صعوبة التي توجد فيها أنواع مختلفة من المخاوف البيئية على كلا المستويين المحلي والعالمي: أي ما يعرف باسم "الأجندة البنية" للبيئات المُلوَّثة والمزدحمة لمدن الأكواخ favelas الموجودة بدول العالم الثالث، مقارنة بالهم "الأخضر" النموذجي حول "القضايا العالمية المشتركة" مثل غابات الأمازون المطيرة. وباعتبار أن مسببات المشاكل البيئية تتسم بكونها معقدة للغاية
ص (192)
ومفتوحة أمام الاختلاف والجدل حولها (Goldblatt 1996; Yearley 1996)، فليس من الواضح على الإطلاق ما إن كانت التدخلات التي قد تتم الدعوة إليها على الصعيد العالمي لمواجهة المشاكل البيئية يمكن أن تُمنح بعض التفضيل على الممارسات المحلية وقواعد المعرفة الخاصة بالاستدامة البيئية والتي قامت "الثقافات البيئية" ecocultures التقليدية (Dyer 1993) بتطويرها على مدى مئات السنين.
وما تُرْجِعُنَا هذه الاعتبارات إليه هو المشاكل المتضمنة في التوفيق بين النزعة الكوزموبوليتانية وبين النزعة الكونية universalism السياسية والأخلاقية. وعند تناول هذه القضية بطريقة أكثر عمومية، يمكننا أن نتدبّر، وبصورة موجزة، الموقف الذي طرحه نيكولاس غارنهام فيما يتعلق بفكرتي المواطنة السياسية والحيز العام في سياقهما العالمي. ويثير غارنهام هذه التساؤلات بوضوح فيما يتعلق بالحاجة إلى حلول سياسية شاملة، حيث يتساءل عما إن كان يتوجب علينا أن ننظر إلى أنفسنا كمواطنين عالميين أم كمواطني دولة قومية أم ماذا؟ (Garnham 1992: 368). وقد كان واضحاً تماما عندما ذكر أنه يجب أن يكون أول هذه الخيارات، وذلك بالنظر إلى طريقة عمل قوى السوق العالمية وغيرها من الأمور ذات الأهمية العالمية:
باختصار، تتمثل المشكلة في بناء أنظمة من المحاسبية الديموقراطية يتم دمجها في أنظمة إعلامية ذات مستوى مقارب، والتي يحتل نفس الحيز الاجتماعي مثل ذلك الذي ستؤثر عليه القرارات الاقتصادية والسياسية. فإذا كان التأثير شاملا، فلابد وأن تكون كل من الأنظمة السياسية والأنظمة الإعلامية شاملة بدورها .... وإذا كانت المشكلة التي نواجهها، سواء أكنا نحب ذلك أم لا، لها تأثير عام علينا جميعاً، فمن ثم يكون هناك مسار واحد فقط محدد بطريقة عقلانية من التصرف السياسي التدخلي. ويجب أن تتم الموافقة بالإجماع على أسلوب العمل هذا أو يجب أن يتم فرضه بالقوة، سواء كان ذلك من قبل الأغلبية أو الأقلية. وإذا كانت قوى السوق عالمية، فإن أي استجابة سياسية فعالة يجب أن تكون عالمية .... وينطبق هذا بنفس الدرجة من القوة على القضايا المتعلقة بالأسلحة النووية أو البيئة (1992: 371- 2).
وتمثل هي نزعة كونية ثقافية وسياسية قوية: حيث تتطلب المشاكل العالمية حلولا عالمية تكون ملزمة لنا جميعاً. ومضمون الحجة التي طرحها غارنهام هو أن ثمة "حيز عالمي عام" سيتشكل في مجموعة موازية من الوسائط والمؤسسات السياسية العالمية التي ستتمثل وظيفتها في إطلاع، وعلى ما يبدو، التمكين الثقافي للجمهور العالمي وتوطيد إرادته الجماعية. وفي سياق يقوم فيه الفاعلون السياسيون والمؤسسيون بتدخلات مستمرة من أجل مصالحهم المتحيزة - في المصالح الخاصة بمراكمة رأس المال أو المتعلقة بالاهتمامات المحلية الضيقة لكل من الدول القومية- تتمثل وظيفة الحيز العام العالمي في جعل هذه التصرفات خاضعة للمحاسبة بشكل ديموقراطي من قبل نظام الحكم الكوني "للمجتمع العالمي".
ص (193)
ونظراً للطبيعة الملحة التي تتسم بها العديد من القضايا العالمية التي نواجهها، فإن حجة غارنهام قد تبدو مقنعة. ولكن، وكما يُقِرّ هو، فقد أثارت النزعة الكونية العديد من الانتقادات، وخصوصا في مجال التنظير الاجتماعي والثقافي والسياسي المعاصر. وهذه "التعدديات" المتنوعة هي ما يختلف معه غارنهام - سواء كانت في احتفاء ما بعد الحداثة "بالاختلاف"، أو المزاعم النسائية بخصوص الطبيعة المتحيزة للنوع التي تتسم بها العقلانية الكونية universal rationality ، أو نقد نزعة التركيز على أوروبا في النظرية ما بعد الاستعمارية، أو الحجج المخصِّصة للفلاسفة السياسيين الاجتماعيين. والشيء الذي يعارضه بقوة شديدة أكثر من غيره هو ما يراه على أنه النسبية الثقافية المُعَوِّقة سياسياً، والتي تنبع من هذه المواقف التعددية. والشكوك المعرفية epistemological (لبعض) التعدديين - والتي تتركز حول الشكوك المتعلقة بالتكافؤ بين صور الخطاب الثقافي، وفي النهاية ما إن بالإمكان وجود ثمة عقلانية للخطاب الكوني- هي إحدى المخاوف التي لا يستطيع الصبر عليها. ومن ثم يجادل بأنه، وبالنظر إلى موقف تقوم فيه أنظمة السلطة الاقتصادية والسياسية بتحديد جوانب كبيرة من حياتنا، وتخلق اهتماماً مشتركاً في التحرّر - أو بشكل نهائي في بقاء النوع- فسنحتاج إلى "وضع رهان باسكالي Pascalian على العقلانية الكونية" (370:1992).
ولذلك فإن حجة غارنهام تتمثل في أننا لا نقدر على الانخراط في تعددية جذرية - "أي سعي مثالي ورومانسي وراء الاختلاف في حد ذاته" (375:1992)- حيث أن مصالحنا الإنسانية - الكونية- المشتركة تتسم بكونها مهمة للغاية، وملحة للغاية. ففي حين أن الواحد منا قد يشعر ببعض التعاطف تجاه عدم صبر غارنهام على الأشكال الأكثر بساطة من النسبية الثقافية التي ظهرت في أعقاب ما بعد الحداثة، إلا أن ذلك النوع من النزعة الكونية القوية ذات الهدف الواحد التي ينادي بها لا يبدو جذاباً تماما هو الآخر. ويرجع هذا إلى أن الحجج التي قمنا بمناقشتها حتى الآن تشير إلى أن مشكلة التعددية ليست مشكلة نسبوية relativist عصرية، لكنها مشكلة متعلقة بالتعدد الحقيقي للتجربة المُعاشة، والذي يمكن أن نجده في المواقف المحلية التي تشكل الإجمالي العالمي. والناس، ببساطة، لا يملكون منظورات ثقافية ومصالح سياسية وثقافية مختلفة تنبع من الموقع الذي يوجدون به بعيدا عن أي مصالح إنسانية كونية. ونحن لا نملك أية معايير أخلاقية فائقة superordinate والتي تسمح لنا بترتيب مثل هذه المصالح في صورة هرمية، ومنح الأسبقية لتلك العالمية، أو آليات مؤسساتية- سياسية فعالة يمكنها تشكيل مثل هذه الترتيب الهرمي في السياسات العملية. وفي الحقيقة، فبسبب هذا الافتقار تحديدا، وكما تقر بذلك لجنة الحوكمة العالمية، تحتاج القضايا ذات الأهمية العالمية لأن يتم تناولها من حيث علاقتها بالحوار الثقافي بين المصالح العالمية والمصالح المحلية.
ومن المنوّر أن نقارن بين الكونية التي وصفها غارنهام وبين النزعة المناهضة للكونية التي تتسم بنفس القدر من القوة، التي طرحها جون غراي (الفصل الثاني)، والتي تقف
ص (194)
دفاعاً عن الاختلاف الثقافي الذي يبدو مسؤولاً عن إحباط السياسة الكوزموبوليتانية. وقد كان ما اقترحته فيما يتعلق بموقف غراي يتمثل في وجود نزعات كونية "جيدة" وأخرى "سيئة"، حيث تشتمل الأنماط السيئة على تلك الصور التي تتنكر فيها مصالح سياسية / ثقافية معينة كمصالح عامة: وتوجد الصور الحميدة في القيم الإنسانية التي يمكن - من خلال الحوار، ومن خلال الارتباط التفسيري العميق- أن يتم اعتبار أنها تتمتع بوسيلة لزيادة القوة والنفوذ عبر مدى من السياقات الثقافية والمصالح المحلية ذات الصلة. والآن، نجد أن كونية غارنهام لا تقع بشكل واضح ضمن الفئة "السيئة"، لكن الشيء الذي يبدو ناقصاً هو تلك الدرجة من التعددية الثقافية التي ستجعل إيماءته نحو الإجماع مُقنعة بدرجة أكبر، والتي ستجعله يلغي إشارته إلى "فرض" ثمة نهج "عقلاني" من الفعل. ولا يمكن أن تكون النزعة الكوزموبوليتانية الثقافية نزعة رافضة للتعددية لمصلحة المزاعم القائلة بوجود مصالح إنسانية كونية يتم الاستدلال عليها عقلانيا. يحتاج المواطنون الكوزموبوليتانيون إلى أن يكونوا كونيين وتعدديين في آن واحد.
الغاية: الكوزموبوليتانية باعتبارها "نزعة علولمحلية أخلاقية"
إذا كنا حساسين بدرجة كافية لجميع المدلولات العويصة للكوزموبوليتانية، فإني أعتقد أنه يمكن استرجاعها من منظور غير داع إلى حكم النخبة non-elitist، وغير متركز حول عرق ما، وغير أبوي، وغير "أممي" globalist – كضرب من النزعة الثقافية التي سيحتاج الناس الذين يعيشون في عالم مُعَوْلَمْ إلى تنميتها.
ولتلخيص هذا، فإن المواطن الكوزموبوليتاني يحتاج أولاً إلى إحساس فعال بالانتماء إلى العالم الأوسع، وبأن يكون قادراً على معايشة "هوية متماسفة": هوية غير محددة بشكل كامل بالناحية المحلية المباشرة، ولكن بشكل حاسم تلك التي تتبنى معنى خاصا بما يوحدنا كبشر، وبالمخاطر والاحتماليات المشتركة، وبمسؤولياتنا المشتركة. وللتعبير عن ذلك بمصطلحات ملموسة بدرجة أكبر، يمكننا التفكير في الاختلاف بين الأخلاقيات المحلية الخاصة بما يسمى "الأنانية" nimbyism (إذا كان بعيداً عن بيتي فلا يهمني) – أي اهتمام الفرد ببيئته المباشرة وحدها وعدم مبالاته بالآخرين- وتلك الخاصة بأخلاقيات العناية العالمية بالبيئة. ومن ثمَّ، فإن الخاصية الأولى للكوزموبوليتانية هي الإدراك القوي للعالم على أنه مكان "لا يوجد به آخرون".
ولكن حينها ستكون الخاصية الضرورية الثانية هي إحساس شبه معاكس: في صورة وعي بالعالم كمكان يحتوي على العديد من الآخرين الثقافيين. وما أعنيه بهذا هو أن المواطن الكوزموبوليتاني يجب أن يكون ملماً بالتعددية المشروعة للثقافات، وأن يكون منفتحاً على الاختلاف الثقافي. ويجب أن يكون هذا الوعي انعكاسيا- فيجب أن يجعل الناس منفتحين على التشكيك في الافتراضات والأساطير الثقافية الخاصة بهم، وما إليها
ص (195)
(والتي قد يكون لدينا ميل ، من نواح أخرى، للنظر إليها على أنها "كونية"). ولذلك فإن المقصود هنا هو أننا لا يجب أن ننظر إلى شقيّ هذه النزعة على أنهما متضادين أو متخاصمين، ولكن باعتبار أن كلا منهما يقوي الآخر بصورة متبادلة، وبالتالي يقنعانا بإجراء حوار مستمر ، سواء داخل أنفسنا أو مع الآخرين الثقافيين المتماسفين.
ويجب علينا بالطبع أن ندرك الخطر الموجود هنا، والمتمثل في أن هذه الانعكاسية قد تنقلب إلى نسبوية مجردة، أو "الكوزموبوليتانية بعد الحداثية" التي يشعر غارنهام بشك كبير تجاهها. وباعتبار أن الحساسية تجاه المنظورات الثقافية المتعددة تنطوي على خطورة في أنها قد تؤدي إلى منطق بسيط إلى حد ما ولكنه جذاب، والذي يرى أن نتيجة لكون جميع القيم هي قيم "محلية" محتملة، فإنه لا يوجد عملياً أية قيم. ومن السهل رؤية كيف أن المواطن الكوزموبوليتاني قد يستحضر مثل هذا النوع من المنطق للتنصل من التزاماته، ولكي يبقى - كما لاحظ هانرز- ضمن الهواة الثقافيين والنقاد الساخرين. ولكننا لسنا مضطرين للانزلاق نحو هذا الرفض للمرجعيات antifoundationalism وتبعاته. وعلى سبيل المثال، فإن جيدنز يصور النزعة الكوزموبوليتانية، مقتديا في ذلك برأي أوكشوت (Oakeshott 1991)، كنوع من "الارتباط المدني" - أو "علاقة ذكية" بين أنداد متساوين، والتي تحترم استقلالية الآخر. ويستطرد قائلا:
لن يصر الموقف الكوزموبوليتاني على أن جميع القيم متكافئة، ولكنه سيؤكد على المسؤولية التي تقع على عاتق الأفراد والجماعات فيما يتعلق بالأفكار التي يتبنونها والممارسات التي ينخرطون فيها. والمواطن الكوزموبوليتاني ليس شخصاً يتنصل من التزاماته - بنفس طريقة هاوي الفنون، على سبيل المثال- لكنه شخص قادر على التعبير عن طبيعة هذه الالتزامات، وتقييم دلالاتها بالنسبة لمن يتبنون قيماً مختلفة". (Giddens 1994: 130)
وإذا أردنا التعبير عن ذلك بطريقة مختلفة قليلاً، يمكننا القول بأن التوجه الكوزموبوليتاني ليس نمطاً مثالياً تتم المقابلة بينه وبين التوجه المحلي، حيث أنه بالتحديد شخص قادر على أن يحيا - بصورة أخلاقية وثقافية- على كل من الصعيدين العالمي والمحلي في الوقت ذاته. ويمكن للكوزموبوليتانيين أن يقروا بميولهم الثقافية، وأن يُقَدِّرُوها، وأن يتفاوضوا كأنداد مع المحليين المستقلين الآخرين. لكنهم يستطيعون أيضاً التفكير فيما هو أبعد من المستوى المحلي، وصولاً إلى التبعات بعيدة المسافة وبعيدة المدى للأفعال، وأن يدركوا المصالح العالمية المشتركة، وأن يكونوا قادرين على الانخراط في علاقة ذكية من الحوار مع الآخرين الذين ينطلقون من افتراضات مختلفة حول كيفية تعزيز مصالحهم.
إن إحدى الطرق المؤدية لفهم تركيبة هذه النزعة الثقافية المتمّمة ذات الجانبين، تتمثل في الفكرة، التي قام رولاند روبرتسون بتطويرها خصيصاً، عن "العلولمحلية" glocalization بدلاً من "العولمة". وقد قام روبرتسون بالاستيلاء على مصطلح "العلولمحلية" هذا من الخطاب التجاري (ياباني الأصل)، والذي يشير فيه أساساً إلى استراتيجية "للتسويق المصغر" micro- marketing -
ص (196)
"الإعلان عن، وتفصيل tailoring ، المنتجات والخدمات على أساس عالمي أو شبه عالمي وصولاً إلى الأسواق المحلية والمحددة المتزايدة التمايز" (Robertson 1995: 28). والآن، يدرك روبرتسون بطبيعة الحال جميع المشاكل الخاصة بالسياق الاستطرادي الذي نشأ منه هذا المصطلح، ولكنه برغم ذلك يجده مفيداً للتشديد على أحد الموضوعات المركزية في منظوره الخاص بعملية العولمة، وهو الإصرار على أن الجانبين المحلي والعالمي (أو حسب تعبيره "المحدد والكوني") لا يوجدان كأقطاب ثقافية، ولكن كمباديء "متبادلة النفاذ"interpenetrating فيما بينها (30:1995) – ومن الواضح أنه موقف ودود للغاية تجاه مفهومنا للكوزموبوليتانية.
وبتكييف هذه الفكرة بعض الشيء، قد نكون قادرين على التفكير في الكوزموبوليتانية كنوع من "العلولمحلية الأخلاقية". ويتمثل أحد الجوانب الإيجابية لهذا المصطلح في سياقه التسويقي، على الأقل، في الحساسية التي يبديها تجاه مبدأ القوة الأخلاقية cultural agency. والمفهوم البسيط إلى حد ما القائل بأن "التنوع يحقق مبيعات" (Robertson 1995: 29) يمثل أيضاً رؤية ثقافية، بالإضافة إلى كونه سابقاً بخطوة للسيناريو الخاص بالهيمنة السياسية (الفصل الثالث).
وكما يقترح روبرتسون، فإن مصطلح "العلولمحلية" - والذي هو باليابانية دوتشاكوكا dochakuka - مشتق من كلمة دوتشاكو dochaku ، والتي تعني "عيش المرء على الأرض الخاصة به" (28:1995). وتوجد هنا الفكرة الخاصة بأساليب زراعية تكيفت لتلائم الظروف المحلية. ويمثل هذا جزءا مهما مما قد ترغب أخلاقيات الكوزموبوليتانية في أن تدور حوله. وإذا صَحََ ما ناقشناه حول البنية المحلية لعالم الحياة الإنسانية في الفصل الخامس، فلابد من التعبير عن الالتزامات العالمية الأوسع باستخدام مصطلحات تتصل بهذا العالم الحياتي . ولا يمكننا أن نتوقع أن يعيش الناس حياتهم ضمن سياق أفق أخلاقي بعيد كل البعد عن أن يكون مجرداً: وقد تكون هناك حاجة بالنسبة للأخلاقيات الكوزموبوليتانية إلى أن تكون "ذاتية التركيز"، بمعني حرفي بعض الشيء، لكنه إيجابي.
ولتوضيح هذا، يمكننا العودة مرة أخرى، وبصورة وجيزة، إلى حقل الإيكولوجيا ecology وتأمل إحدى الصور التي تم وصفها في عدد مجلة ذي إكولوجيست The Ecologist الذي تلى قمة الأرض التي انعقدت في مدينة ريو دي جانيرو عام 1992. وتتبنى هذه المجلة موقفاً متشككاً للغاية تجاه المشروع المعروف باسم "التدبير البيئي العالمي" بأكمله، والمتضمن في مداولات قمة الأرض، وتنظر إلى هذا على أنه مثال رئيسي على ما يطلق عليه فيدال اسم "الأممية"globalism. وقد استشهدت المجلة بمثال على ما تعتبر أنه الضحالة التي تتسم بها هذه المقاربة، وهذا المثال هو صورة ظهرت في "مجلة بيئية عالمية" تُسَمَّى الغد Tomorrow ، والممولة من جانب إحدى الشركات:
تبين هذه الصورة شابة شقراء ترتدي ثوب السباحة والتي تجسد الغرب، وتقف حتى وسطها في بحر تسطع عليه الشمس بنورها ... وهي تعانق كرة أرضية بلاستيكية هائلة قابلة للنفخ. إن وجهها وعيناها المغلقتين وابتسامتها الرقيقة تشع سكينة وسعادة. وقد تم تصويرها بينما يرتكز خدها على القطب الشمالي، ويحتضن ذراعها أفريقيا محاولاً إبداء الحب تجاه "عالم" مجرد، والذي لا يرتبط
ص (197)
بحياتها في الحقيقة سوى من خلال الآليات غير الشخصية وتفسيرات الخبراء (The Ecologist 1992: 182)
يقارن هذا المقال بين هذه الصورة وبين صورة امرأة من حركة الشيبكو Chipko الهندية - "وهي حركة تتمركز في القرى، والتي استمدت تسميتها من الكلمة الهندية "يعانق"، ويقوم القرويون حرفياً بمعانقة الأشجار للحيلولة دون قطعها" (195:1992). والغرض من هذه المقارنة هو المقابلة بين العاطفة غير الشخصية وغير الراسخة، والتي هي مطلوبة وفقاً للعقلية الإدارية لإنقاذ العالم، وبين المشاعر الأخلاقية الشخصية، البالغة التحديد" التي تميز الأفعال المحلية التي تهدف إلى المحافظة على البيئات (195:1992).
ويمكن بسهولة النظر إلى موقف مجلة ذي إكولوجيست هنا - المُخَصِّص، المحلي، المناهض بشدة للنظرتين الإدارية والمكوننة- على أنه مجرد نزعة رومانسية مناهضة للحداثة. كما إن تمثيلهم للبيئة على أنها في الأساس عبارة عن مجموعة من "العوام" المحليين يدفعهم في الحقيقة نحو إضفاء الصبغة الرومانسية على مقدرة الجماعات المحلية على المحافظة على نوع من التوازن البيئي الحدسي. وهذا تصور غير قابل للتصديق لقوة "النزعة المحلية"، بالنظر إلى الروابط الداخلية المعقدة التي تتسم بها العولمة.
لكن الشيء الأكثر إثارة للاهتمام هو تلك النظرة الخاصة بالعلاقة بين الارتباط السياسي- الأخلاقي من ناحية وبين الموقف المحلي المتضمن هنا. ومن المثير للاهتماك مقارنة تشديدهم على "المشاعر الأخلاقية الشخصية الشديدة التحديد" بتحليل زيغموت باومان غير الرومانسي تماماً للموقف الأخلاقي في فترة ما بعد الحداثة. حيث يقترح باومان، مقتدياً بالفيلسوف هانز يوناس Jonas، أن:
المبادئ الأخلاقية التي ورثناها من عصور ما قبل الحداثة - وهي المبادئ الأخلاقية الوحيدة التي لدينا- هي أخلاقيات للتقارب، ولأن هذا غير ملائم بصورة مؤسفة في مجتمع تكون فيه جميع الأعمال الهامة هي الأعمال التي تتم عن بعد .... تظل الأدوات الأخلاقية التي نملكها لاستيعاب والسيطرة على [القوة التكنولوجية الحديثة] على الحالة ذاتها التي كانت عليها في مرحلة "الصناعة الحرفية". وتدعونا المسؤولية الأخلاقية إلى أن نهتم بإطعام أطفالنا وكسوتهم وإلباسهم أحذية في أقدامهم، ولكنها لا تستطيع أن تمنحنا الكثير من النصائح العملية عندما نواجه تلك الصور التي تصيبنا بالخدر لكوكب يعاني من الاحترار الزائد، والجفاف، والاستنزاف، والتي سيرثها أبناؤنا وأبناء أبناءنا وسيضطرون إلى العيش في النتائج المباشرة أو غير المباشرة للا مبالاتنا الجماعية. (Bauman 1993: 217- 18)
والأمر الذي تحتفي به مجلة ذي إكولوجيست كميول أخلاقية أصيلة في حركة الشيبكو، يمكن أن يصوره باومان "كأخلاقيات للتقارب"morality of proximity تنطوي على مفارقة تاريخية. لكن كلاهما يتفقان حول كيف أن الناس يشكلون في الحقيقة ارتباطات سياسية- أخلاقية. وبرغم أننا لا يجب أن نضفي صبغة رومانسية على عمليات التعبئة الطائفية المحلية، فبوسعنا أن نجد مقارنة هامة
ص (198)
بين معانقي الأشجار من الشيبكو وبين، لنقل مثلاً، "القبائل" التي تسكن على قمم الأشجار والتي تعترض على إنشاء طريق جانبي في نيوبيري. وبرغم أن أيا من الحركتين لا تبدي تلك النزعة المحلية السلبية، والتمركز حول الذات، واللامبالاة الأخلاقية تجاه الآخر التي تتسم بها "النزعة الأنانية" (إذا كان بعيداً عني فلا يهمني). إلا أن كليهما ،وبرغم ذلك، مثالان على ما يسميه باومان بالنزعة الأخلاقية "ذات اليدين القوية ولكن القصيرة" (218:1993). وكلاهما يستمدان قوة تعبئتهما mobilization من تهديدات حقيقية وشيكة. ولا تكمن أهمية هذه الحركات في فعاليتها، لكن هذه القضايا ذات الأهمية الكونية تحتاج في عرضها إلى أن يتم تجسيدها instanciated في التجربة اليومية المحلية و"العالم الحياتي الأخلاقي" للناس.
والمواطنون الكوزموبوليتانيون هم، كما ركَّزنا على ذلك، أناس عاديون. وهم لا يحتاجون إلى امتلاك ميل صادق تجاه اتخاذ خطوات نشطة فيما يتعلق بقضايا معينة والذي هو من الخصائص المميزة "للقبائل الجديدة" (Maffesoli 1996; Melucci 1989) - والتي قد تكون كوزموبوليتانية أو لا. ولكن في الخيارات التي يتخذونها بخصوص نمط الحياة اليومي، يحتاج الكوزموبوليتانيون بصورة روتينية إلى معايشة العالم الأوسع على أنه يمس عالمهم الحياتي المحلي، والعكس صحيح- فهم يحتاجون إلى التصرف باعتبارهم "علولمحليين أخلاقيين" 'ethical glocalists'.
الكوزموبوليتانيون بلا كوزموبوليس
عند هذه النقطة، من حق القارئ أن يتساءل عما إذا كانت جميع هذه المواصفات الخاصة بالنزعة الكوزموبوليتانية هي جديرة بذلك، و أن يتساءل عما إذا كانت هذه الفكرة لا تتعدى كونها مجرد طموح يتسم بالورع. هل هناك أية علامات على أن احتمال ظهور مثل هذا النوع من التوجه الثقافي؟
هناك بالتأكيد الكثير من الأسباب التي تجعلنا متشككين. ويبدو على وجه الخصوص أن هناك عدد قليل من العلامات، في الوقت الذي نقترب فيه من الألفية، على تعاظم قوة الدعم المؤسساتي institutional العالمي للنزعة الكوزموبوليتانية. وقد ركزت في كافة أجزاء هذا الكتاب على أن عملية العولمة لا تبدو مستعدة لإفراز ثقافة عالمية بأي معنى مؤسساتي موحد. وهذا، في الواقع، هو سياق تُقِرّ به لجنة الحوكمة العالمية. وبرغم أنه يتطلع إلى الأمم المتحدة للعب دور مستمر في الحوكمة العالمية- ويوصي ببعض الإصلاحات البنيوية الجذرية إلى حد ما من أجل الوصول إلى هذه الغاية (4)- إلا أن التقرير يقر بأنها مؤسسة "مقيّدة منذ البداية" بفعل الحقائق المتعلقة بالمصالح المتشعبة واستعراضات القوة الخاصة بالدول الأعضاء فيها (والتي تتمتع بدرجات متفاوتة من القوة). ولذلك، فمن خلال النظر إليها كطريق مؤسساتي نحو النزعة الكوزموبوليتانية المشار إليها ضمنا في ميثاقها- نحن شعوب الأمم المتحدة ...."- يجب أن يُنْظَر إلى ما صارت إليه المؤسسة الفعلية للأمم المتحدة على أنه خيبة أمل: حيث أن تدخلها محدود وغالباً ما يكون غير فعال، ومستقبلها غير أكيد.
ص (199)
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا ليس مجرد مشكلة متعلقة بالدستور التاريخي للأمم المتحدة، ولكنها تتعلق بالشكل المؤسساتي لأية هيئة عالمية تتكون من دول قومية. لأن الدولة القومية العصرية، وكما عبر عنها لاش و أوري (301:1994)، تكون "مُنضغطة دائماً بين العمليات المحلية والعالمية"، وغالباً ما تسعى إلى ذلك النوع من الشعبية قصيرة المدى لدى جماهير الناخبين الذين لا ينتظر أن يتم اجتذابهم من خلال الإنفاق خارج "الناحية المحلية" الواقعة ضمن الحدود الوطنية. ومن ثمَّ، أيضاً، تردّد الدول القومية في الاستجابة بقوة للمشاكل البيئية العالمية المشتركة على الصعيد الاقتصادي الملموس (5) أو ذلك المتعلق بالسياسات: وهو ما تم تمت تسميته بمتلازمة NIMTOO "ليس خلال مدة ولايتي"(6) (Leggett 1990:3). وكمثال ممتاز على ذلك، لا يحتاج المرء سوى إلى النظر إلى الموقف الرجعي للولايات المتحدة تجاه القيود المفروضة في قمة كيوتو المناخية التي نظمتها الأمم المتحدة في عام 1997 للتحكم في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون نتيجة حرق الوقود الحفري - والذي لا يمكن النظر إليه إلا كاستسلام يتسم بالجبن من جانب إدارة كلينتون Clinton لضغط لوبي صناعة النفط الأمريكية.
وبناء على كل هذه الأمور التي تم تناولها، فإن احتمالات النزعة الكوزموبوليتانية التي يتم بناؤها من خلال المؤسسات الحكومية الدولية تبدو ضعيفة للغاية. وبرغم أنه يمكن اعتبار أن صعود المنظمات (الدولية) غير الحكومية ((I)NGOs) يمثل أحد أكثر الجوانب السياسية لعملية العولمة دعوة للتفاؤل (Hamelink 1994; Waters 1995)، إلا أن احتمالية تمكنها من تحقيق تغير ثقافي واسع تبقى محدودة لكافة أنواع الأسباب(7). حيث أن الكوزموبوليتانية كنزعة ثقافية قد تحتاج، لجميع الأغراض العملية، إلى أن يتم توطيدها بدون أية دعائم مؤسساتية قوية. ومن المحتمل أنه يتوجب علينا أن نصبح كوزموبوليتانيين دون أن تكون هناك احتمالات لوجود كوزموبوليس.
اللاتوطين والنزعة الكوزموبوليتانية
هل هناك أي شيء في العمليات الثقافية التي تناولناها في هذا الكتاب يشجّع مثل هذا الأمل؟ حسناً، ربما. فإذا كان اللاتوطين يقتلعنا من روابطنا مع الثقافة المحددة مكانياً، فقد يكون هناك أمل في النهاية في تحقيق إعادة توطين عالمية أوسع نطاقا.
وهكذا، وكما رأينا في الفصل الرابع، فإن هناك احتمالية في أن بعض التجارب الحياتية الروتينية للحداثة العالمية قد تُنتج نزعة ثقافية عامية تتسم بانفتاح أكبر على العالم، بغض النظر عن الافتقار إلى أي تشجيع من جانب الدول القومية. كما إن تحول النواحي المحلية التي نعيش فيها إلى "نواح علولمحلية" glocalities ، والذي ناقشناه فيما يتعلق "باللاتوطين الدنيوي" في الفصل الرابع - مثل التغيرات في بيئاتنا المادية الواقعية، والتحليل الروتيني للعمليات السياسية- الاقتصادية البعيدة وتحويلها إلى خطط حياة، واختراق
ص (200)
منازلنا من قبل تكنولوجيا الإعلام والاتصالات، وتحول التعددية الثقافية إلى المعيار بشكل متزايد، والقابلية المتزايدة للتحركية والسفر للخارج، وحتى التأثيرات الخاصة بتحويل ثقافة الغذاء إلى الكوزموبوليتانية cosmopolitanizing- حيث تَعِدُ كل هذه التحولات بجوانب حيوية للنزعة الكوزموبوليتانية: مثل الوعي بالعالم الأوسع كأمر هام بالنسبة لنا في ناحيتنا المحلية، والإحساس بالارتباط بالثقافات الأخرى، وربما حتى الانفتاح بشكل متزايد على الاختلاف الثقافي.
وبطبيعة الحال، علينا أن ندرك أيضاً خطر التفاعل الثقافي المصاحب لتجربة اللاتوطين. فالصور المتعددة لفقدان الشعور بالأمان التي تلازم تفكك الروابط بالمكان تمتلك بوضوح إمكانية التقهقر العدائي والنكوص إلى المجتمعات المتخيّلة مثل الأمة أو الجماعة العرقية، بدلاً من النزعة الكوزموبوليتانية. وبرغم ذلك، فإن الحقيقة ذاتها المتمثلة في أننا نسمي هذه بعمليات "تقهقرية" قد توحي بلحظة مؤقتة وأكثر قوة من التفاعل ضمن عملية ثقافية طويلة المدى. والطبيعة الهجينة المعقدة للثقافات الشبابية العالمية المعاصرة، والتي تنتظم حول الموسيقى، والرقص، والموضة توحي بالمعنى المقصود هنا. وبرغم أنه من الواضح كونها ثقافات تجارية، إلا أن هذه الثقافات تُعد، بطرق عديدة، ثقافات كوزموبوليتانية أيضاً، وبالتالي فهي لا تبدي سوى القليل من الاهتمام لحصرية التقسيمات العرقية أو الوطنية.
وعليه، هل يجب أن نكون متفائلين إزاء الدافع الثقافي المستبطن، والذي يتسم بالثبات، تجاه الانفتاح على العالم؟ لاستكشاف هذا بمزيد من التفصيل، أود مناقشة إحدى الحجج التي يطرحها جون أوري حول علاقة تنامي السفر والسياحة الشعبيين بتطور ما يطلق عليه اسم "النزعة الكوزموبوليتانية الجمالية" (Urry 1995). وقد كان أوري حريصا على إبعاد حجته عن الزعم المتعلق بصناعة السياحة، المبتذل بعض الشيء، والمشكوك في صحته على حد قوله، والذي يقول بأن "السياحة تيسّر التفاهم الدولي". ولكنه لا يجادل بأننا شهدنا ظهور شهية شعبية ضخمة "لاستهلاك" الأماكن الأجنبية خلال السنوات الأخيرة.
وكمثال على ذلك، نجده يطرح التدفق الهائل للزوار من أوروبا الشرقية تجاه المراكز السياحية في أوروبا الغربية عقب انهيار الستار الحديدي Iron Curtain ، والطريقة التي أصبح بها الحق غير المقيد في السفر والاستهلاك الثقافي جزءاً، ليس فقط من الوعد الخاص بالليبرالية الغربية، ولكن من فكرة أوسع عن "المواطنة الاستهلاكية" consumer citizenship المعولمة. وبالإضافة إلى قدرة السياح المتزايدة على الحركة- فإن أوري، وهو ما سيتم تذكره بشكل أكثر عمومية، يرى التحركية السريعة على أنها "تجربة حديثة نموذجية" (Lash and Urry 1994: 253)- ويقترح أن هناك نوعا جديدا آخذا في الظهور من "النزعة الكوزموبوليتانية الجمالية"، والذي ينطوي على "موقف من الانفتاح تجاه التجارب المتباينة المستمدة من الثقافات القومية المختلفة"، وعلى "بحث عن السرور في أوجه التباين الموجودة بين المجتمعات بدلاً من الحنين إلى التجانس أو التفوق". وينتقل من هذا لتطوير نموذج من هذا الموقف الثقافي،
ص (201)
والذي يشبه بالعديد من الطرق نمط هانرز المثالي من المواطن الكوزموبوليتاني الذي يشتمل بجانب هذا الانفتاح والفضول الثقافي الأساسي: "قدرة أساسية على تخطيط الأماكن والثقافات تاريخياً، وجغرافياً، وإنسانياً"، وهو موقف متقبل للمخاطرة من حيث الرغبة في التحرك "خارج الفقاعة البيئية السياحية"، وهو مستوى من المهارة العلاماتية semiotic في تفسير العلامات الثقافية وربما، وهو الأمر الأكثر أهمية، في القدرة الانعكاسية "على تحديد موقع المجتمع الخاص بالمرء وثقافته بالنظر إلى مجموعة واسعة ومتنوعة من المعارف التاريخية والجغرافية" (167:1995).
ويقارن أوري هذه النزعة الكوزموبوليتانية الجمالية التي اتسمت بها فترة أواخر القرن العشرين، مع تلك النزعة التي قامت الطبقة الأرستوقراطية وطبقة النبلاء البريطانية بتنميتها في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر: أي الممارسات – على غرار الرحلة الطويلة عبر أنحاء أوروبا والمعروف باسم "غراند تور" - والتي مكنتهم من "توسيع مخزونهم من المناظر الطبيعية من أجل الاستهلاك المرئي". وبطبيعة الحال، يتمثل الاختلاف الأكثر وضوحاً في أن التوزيع الأكثر اتساعاً لفرصة السفر اليوم – أي تقييس massification، وتبسيط popularization، ودقرطة democratization السياحة التي بدأت في العقد الرابع من القرن التاسع عشر مع توماس كوك . لكن هناك ملمح آخر فريد لنزعة أوري الكوزموبوليتانية الجمالية: وهي أنها مترسخة في الممارسات الخاصة بالثقافة الاستهلاكية الشعبية مثل جوانب كبيرة من الثقافة الشبابية. وإنه لفي فعل "الاستهلاك" ذاته للأماكن كسلع ثقافية، أن السلع والاتجاهات الثقافية وربما حتى (برغم أنها قد تكون كبيرة) الأخلاقيات الخاصة بالنزعة الكوزموبوليتانية تأخذ في الظهور.
وبرغم أن حجة أوري مقنعة ، إلا أنه سيوافق، وأنا واثق من ذلك، على أن الأنماط التي يقوم بوصفها لن تتمكن بصورة ما من بلوغ المثال النموذجي للنزعة الكوزموبوليتانية التي نتناولها هنا. ففي المقام الأول، توجد جميع المشاكل الخاصة بالحصرية المحتملة للطائفة التي قمنا بمناقشتها سابقاً. وهذا النطاق الاقتصادي- الاجتماعي الذي يمكنه الوصول إلى الخبرات التي يصفها، برغم أنه وبشكل واضح أوسع بكثير من نخبة الكوزموبوليتانيين في أحد العصور السابقة، إلا أنه ومع ذلك يبقى نطاقاً مقيداً: حيث أنه من الواضح أن السفر الخارجي الترفيهي المنتظم هو إحدى الممارسات الخاصة بالغرب في الأساس، وحتى بالمجموعات الموسرة نسبياً في الغرب نفسه. وثانياً، وبصورة ضمنية، يثير هذا التقييد بعض المشاكل الأخلاقية التي ذكرناها سابقاً: وهي أن الإحساس بالثراء والقدرة على التحرك تمنح وصولا مميّزا إلى نطاق الحكم الأخلاقي والثقافي السامي، والحط الناتج عن ذلك من قدر تجربة هؤلاء الذين، بحكم الضرورة أو اختيارياً، يبقون محليين. وثالثاً، فبرغم أن النزعة الكوزموبوليتانية الأخلاقية قد تميز بعض الأنشطة السياحية، إلا أن الواضح أن قدرا كبيرا من السياحة- مهما كانت المجموعات الاقتصادية- الاجتماعية التي تقوم بها- تبقى من النوع الذي أسماه هانرز بالسعي وراء "هوم بلص".
ص (202)
وبرغم جميع هذه المشاكل، إلا أن حجة أوري تظل حجة مثيرة في تحديدها للجانب الجمالي من النزعة الكوزموبوليتانية. والشيء الذي يصفه هو ميل ناشيء للشواطيء الأوسع للتجربة الثقافية، والذي قد يمثل خطوة في الاتجاه السليم. ولا يجب بالطبع أن يتم الخلط بين الأخلاقي والجمالي. وكما اقترحنا فيما يتعلق بشخصية هانرز الكوزموبوليتانية، فلا يوجد ضمان بأن رفع الآفاق الثقافية العامة، وشحذ المهارات العلاماتية وتنمية القدرات التفسيرية سيتبعه أي حس ضروري بالمسؤولية تجاه المجمل العالمي global totality. ولكن من الناحية الأخرى، فربما كان من المحتمل بدرجة أكبر أن مثل هذا الإحساس سينمو بصورة غير مباشرة من هذه الممارسات الثقافية الرائجة، بدرجة أكبر مما إذا كان ستتم تنميته بشكل مباشر ضمن نوع من الأخلاقيات المدنية العالمية المجردة.
ويمكن تطبيق نفس هذا المنطق على ذلك النوع من "السفر غير المباشر" الذي هو، وكما يقر أوري (مقتدياً في ذلك بهبديغ Hebdige 1990)، متاح أمام الناس من خلال أجهزة التلفاز الخاصة بهم. وكما ناقشنا في الفصل الخامس، فإن التجربة المتعلقة بالاستخدام الروتيني للتقنيات الإعلامية يجب اعتبارها كأحد أهم مصادر اللاتوطين الثقافي وأكثرها توفراً. وهناك معنى - ولو أنه مقيد- يمكن فيه للأشخاص، كما يقترح هيبديغ، أن يصبحوا "كوزموبوليتانيين" في غرف المعيشة الخاصة بهم، من خلال التعرض المتكرر للاختلاف الثقافي والتذكّر المستمر للعالم الأوسع فيما وراء ناحيتهم المحلية التي يقطنون بها. ولا يحصل الناس على هذه التجربة بشكل تعليمي didactically ، ولكن ببساطة باعتبارها النمط الطبيعي لنتاج وسائل الإعلام العالمية.
لكننا ذكرنا أيضاً أن "المسافة" الفينومينولوجية المكتنفة في "شبه التجربة" المتمثلة في مشاهدة التلفاز تفرض قيدا معينا على قدرتها على إشراكنا وجذبنا إليها عاطفياً وأخلاقياً. وهذه هي ليست حالة يكون فيها التلفاز "مخدِّر أخلاقياً"، لكنه يوفر نوعا مختلفا من التجربة الثقافية التي ربما كانت غير داعمة من الناحية الأخلاقية كما هو الحال مع الخبرات المباشرة والعلاقات الشخصية القريبة من جوهر العالم الحياتي. وبسبب أوجه القصور هذه، فمن غير المعقول أن التجربة الإعلامية وحدها ستزودنا بإحساس بالتضامن العالمي. وهكذا، فعلينا أن نكون متشككين بدرجة معقولة- ولكن ليس بشكل أعمى- في الفكرة شديدة الارتباط القائلة بظهور "مجتمعات" عالمية وسيطة إلى حيز الوجود، والتي "تنتظم حول القضايا ذات الأهمية الأخلاقية الشاملة"(8) (Hebdige 1989: 91). وكما جادلت في كتاب آخر (Tomlinson 1994)، فلا يمكن النظر على نحو صحيح إلى جماهير التلفاز على أنهم "مجتمعات" متشتتة، بل يجب أن ينظر إليهم على أنهم يمتلكون نفس العلاقة تجاه الخبرات المشتركة مثل أي جمهور آخر. وأود أن أقترح إجراء تمييز هنا مثل ذلك الذي قام به سارتر بين "السلسلة" series - وهم مجموعة من الناس لا تربطهم سوى علاقتهم بشيء خارجي- و"المجموعة" group - التي يتم تعريفها من خلال
ص (203)
الروابط التبادلية بين أفرادها، وإدراك الاحتمالية الخاصة بالتطبيق المتبادل (Sartre 1976). ومثال سارتر الأشهر على "السلسلة" هو طابور من الناس المنتظرين لقدوم الحافلة في ميدان سان جيرمان - والذي هو عبارة عن مجموعة عشوائية من الناس الذين لا توجد بينهم صلة وغير مبالين ببعضهم البعض- وهي "تعددية من الانعزالات" - إلا في علاقاتهم المشتركة بالحافلة التي ينتظرونها. لكنه قام أيضاً بمناقشة مثال الجمهور المتفرق لأحد البرامج الإذاعية، مجادلاً بأن هؤلاء الناس يشكلون سلسلة (تمييزاً لها عن المجموعة) والتي تتحدد " بالغياب" - ليس في مجرد انفصالهم المادي عن بعضهم البعض، ولكن في "استحالة تكوين هؤلاء الأفراد لعلاقات تبادلية بين أنفسهم أو أداء فعل مشترك" (1976: 270- 271).
ودون اتباع سارتر لأبعد من اللازم في تعقيدات تحليله للجماعيات الاجتماعية، فيبدو من المهم التأكيد على الفكرة القائلة بأن الحقيقة البسيطة المتمثلة في الانتباه المتزامن والمشترك لحدث مُذاع - برغم أنه قد يكون معنياً بإحدى القضايا الأخلاقية العامة، مثل الحفلات الموسيقية الحية خلال الثمانينيات التي كان يخصص دخلها للمساعدات الإنسانية- ليس كافياً ليجعل من هذه الجماعات "مجموعات" كما في مفهوم سارتر أو كمجتمعات communities في مفهومنا نحن. ومن المهم الحفاظ على المسافة المفاهيمية بين الجماهير الذين هم أيضاً مجتمعات (على سبيل المثال، رعايا الكنيسة الذين يستمعون إلى إحدى المواعظ، والطلاب (في بعض الحالات) الذين يحضرون إحدى المحاضرات) وهؤلاء الذين هم ليسوا كذلك (مثل جماهير السينما الذين تم جمعهم بشكل عشوائي، وشهود إحدى حوادث الطرق، وجمهور وسائل الإعلام المتماسف) إذا كنا سنتحاشى التقدير المفرط التفاؤل لقدرة التجربة التلفازية على أن تكون مُلزمة أخلاقياً وثقافياً.
ويكمن أحد الأسباب الرئيسية لهذا الشك المفاهيمي في طبيعة شبه التجربة المتواسطة باعتبارها تجربة تحتوي على متحدث واحد بدلاً من اثنين (وهي نقطة يؤكد عليها سارتر أيضاً)، حيث أن الفرصة للحوار تبدو محورية، ليس فقط لفكرة المجتمع ولكن للنزعة الكوزموبوليتانية ذاتها - بالتأكيد كما ينظر اليها مفكرين من أمثال جيدنز. وبالنظر إلى هذا، فبوسعنا أن نجادل بأن هناك عائق تكنولوجي مباشر للمجتمع المتواسط في أشكالنا الأوسع انتشاراً في الوقت الحالي مثل التلفاز. وبطبيعة الحال، فهناك حل تكنولوجي مزعوم لهذه المشاكل في التقنيات التفاعلية المتواسطة بالكمبيوتر والخاصة بالفضاء التخيلي . وهذا هو الوعد بما أطلق عليه هوارد راينغولد اسم "المجتمع الافتراضي" (Rheingold 1994) من مستخدمي الإنترنت المنتشرين عالمياً من خلال لوحات المفاتيح ووحدات العرض المرئي VDUs الخاصة بهم. ومن السهل نسبياً التخلص من مثل هذه النوعية اليوطوبية التكنولوجية لأنه، وكما أوضح العديد من النقاد (Stallabrass 1995;Robins 1996;Gray 1997) ، هناك أعماق من السذاجة السياسية في المزاعم القائلة بأن التفاعلات التي تتم من خلال الشبكة المعلوماتية يمكن أن تعيد بناء مجتمع Gemeinschaft متحرر من الجسد المادي في ضرب من العوالم الموازية للعالم الحقيقي. لكننا، ومن الناحية الأخرى، قد نحتاج إلى تجنب السقوط في هذا النوع من
ص (204)
التشكك التفاعلي، وبشكل خاص، ذلك الشكل من المانوية manichaeism الذي قمنا بوصفه في الفصل الخامس، والذي يعمد إلى الاستخفاف بالتجربة المتواسطة عند مقارنتها بمعيار مثالي من التجربة المباشرة. وعلى أية حال، أنا أعتقد أن لهذا التشكك ما يبرره، على خلفية الافتراض- المتأصل في جزء كبير من الخطاب الحماسي الذي يدور حول الفضاء التخيلي - القائل بأن المشاكل الأخلاقية، والاجتماعية، والسياسية قد تؤدي بشكل عام لإيجاد حلول تكنولوجية. ومن المؤكد أن جون غراي كان مُحقاً فيما يتعلق بهذه النقطة، برغم أنه كان مفرط التشاؤم في منظوره تجاه الفضاء التخيلي :
تنبع جاذبية اليوطوبيا الخاصة بالمجتمع الافتراضي بشكل جزئي عن تلك القوى السحرية التي تعزوها للتكنولوجيا. ولكن في العالم الحقيقي للتاريخ البشري،لا تؤدي التقنيات الجديدة مطلقا إلى خلق مجتمعات جديدة، أو حل مشاكل موغلة في القدم، أو تطرد صور الندرة الموجودة حالياً. حيث أنها تقوم ببساطة بتغيير الشروط التي تتم وفقاً لها إدارة الصراعات السياسية والاجتماعية. وتتوقف الاستخدامات التي يتم توظيف التقنيات الجديدة فيها على طريقة توزيع السلطة والوصول إلى الموارد، وعلى مستوى التطور الثقافي والأخلاقي في المجتمع.
(Gray 1997:120 - التشديد مضاف من قبل المؤلف)
وبتطبيق هذا على القضية المتعلقة بالحس العالمي بالمشاركة الأخلاقية المطلوبة من المواطن الكوزموبوليتاني – أي منظومة التنظيم الذاتي في الممارسات المتعلقة بنمط الحياة، والتي تمثل المفتاح الثقافي للحوكمة العالمية الانعكاسية- يبدو واضحا أنه لا يمكن أن توجد هنا أية إصلاحات تكنولوجية. وما يمكن أن تمنحه لنا الاتصالات وتكنولوجيا وسائل الإعلام هو درجة كبيرة من الوصول إلى العالم ، ومعلومات عنه، وربما حتى أنماط جديدة من التفاعل المتماسف. ولا يجب أن يتم ازدراء ذلك أو التقليل من شأنه. ومن المحتمل في هذا الخصوص أن جون غراي لم يطلب الكثير عندما اقترح أنها ستخدمنا بالشكل الأمثل إذا ما عاملناها على أنها أجهزة متواضعة، أو أدوات يمكننا بها حماية ما هو مهم بالنسبة لنا" (1997: 121). هذا إذا ما عجزنا عن إدراك الطبيعة اللاتوطينية الكامنة لهذه التقنيات التي تحول بكفاءة "ما هو مهم بالنسبة لنا"، على سبيل المثال فيما يتعلق بالقيمة الثقافية التي نخلعها على التجسيد(الفصل الخامس). ولكنه، على الجانب الآخر، محق في الإبقاء على الطائفتين الخاصتين بما هو تكنولوجي وما هو أخلاقي واضحتين ومتمايزتين إلى حد ما. ويجب أن يأتي الجهد الوجودي الأخلاقي المطلوب لفعل أي شيء بالاستعانة بالخبرات المتوفرة عن طريق التقنيات الإعلامية من مصادر أخرى - وفي النهاية من داخل العالم الحياتي الذي تقع فيه الذات. وبدون ذلك، لن يكون بإمكان أي قدر من التعقيد التكنولوجي أن تجعلنا كوزموبوليتانيين عن طريق الاتصال بشبكة الإنترنت.
ص (205)
الخاتمة: إطالة الأيدي القصيرة للتضامن
وهكذا، أخيراً، ما هو نوع الإجابة التي يمكننا تقديمها على التساؤل المتعلق بالقدرة الكامنة لدى اللاتوطين الدنيوي على خلق نزعة كوزموبوليتانية؟ من الصعب إعطاء إجابة قاطعة فيما يتعلق بذلك. فبرغم أن جميع الأشكال والمصادر المتنوعة للوعي العالمي، وللانفتاح على العالم، ولقابلية الحركة، وللهجنة، وما إليها يمكن أن تجعل من النزعة الكوزموبوليتانية احتمالية، إلا أن أيا منها لا يبدو أنه يضمن تحقيقها. ويقترح أولريخ بيك أن "المخاطر العالمية تقوم بإنشاء تبادليات عالمية"، ولذلك فإن "المجتمع الكوزموبوليتاني ... يمكنه أن يتشكل في الضرورة المدركة لمجتمع المخاطر العالمي" (Beck 1996: 2). لكن، وكما يقر في كتاب آخر، فمن غير الواضح كيف "تعمل القوة المُلزمة للقلق، حتى إذا كانت تعمل فعلاً" (Beck 1992:49) (راجع. Tomlinson 1994: 163).
وأعتقد أن هذا الارتياب ينبع من حقيقة أن هذه العوامل الخبراتية تكمن وراءها مشكلة أكثر صعوبة خاصة بطبيعة، والحدود الممكنة، للارتباط الأخلاقي- الوجودي الإنساني. أي أننا لا نعرف حقاً ما إن كان من الممكن تمديد "أخلاقيات التقارب" morality of proximity الخاصة بباومان لتشمل التعقيدات الهائلة والواسعة التي تربطنا جميعاً بمصير بقية العالم. ونحن لا نعلم ما إن كانت موارد التخيل الأخلاقي التي ستدعم ثمة ممارسة أخلاقية كوزموبوليتانية هي متوفرة من العالم الحياتي الموجود محليا.
وهكذا، دعونا ننهي حديثنا بتخيل الأسوأ. لنفترض أنه ببساطة من المتأصل في طبيعة الارتباط الأخلاقي والتضامن الإنساني كونها في الأساس قضية محلية. وقد يشير هذا إلى أن الحالة الوجودية العالمية هي حالة مأساوية: أي أن قدراتنا الاجتماعية والتكنولوجية على تمديد العلاقات عبر المسافة - لخلق الحالة الاجتماعية الخاصة بالعولمة- قد تفوقت ببساطة على قدرتنا الأخلاقية التخيلية لعيش حياتنا فيما يتعلق بجميع الآخرين البعيدين الذين قد أصبحنا بالضرورة مرتبطين معهم- وبحس من التبادلية معهم. وعندما يكون العالمي والمحلي لا يعملان بشكل جيد، فإن احتمالات الكوزموبوليتانية تبدو مظلمة.
لكن الأمر قد لا يكون كذلك، حيث أنه من الممكن إدراك النزعة الكوزموبوليتانية بشكل آخر خلاف ذلك الخاص بالالتزام الأخلاقي الصارم الذي يجهد نفسه من أجل ربط عالمنا الحياتي بالآخرين البعيدين المعممين generalized و"المجردين"، والذين هم جيراننا العالميين.
والنقطة الأولى التي يجب وضعها في الاعتبار هي قوة الالتزام الأخلاقي، والتبادلية، والتضامن، في الوقت الذي توجد فيه ضمن المجتمعات الحديثة على المستوى المحلي. وليس الأمر أن حالة الحداثة العالمية تسبب تدهوراً كلياً في هذه الفضائل. ويستشهد هيلموت بيركنغ Berking ، على سبيل المثال
ص (206)
(مقتدياً بفوتنوف Wuthnow 1992) بأدلة تشير إلى أنه في أمريكا - مهد النزعة الفردية الاستحواذية possessive individualism الحديثة - نجد أن الممارسات الثقافية الموجهة نحو الآخر هي في الحقيقة آخذة في التوسع:
ماذا نصنع في موقف يقوم فيه 80 مليون من الأمريكيين، أسبوعا بعد أسبوع، أي ما يزيد عن 45% من عدد السكان الذين تزيد أعمارهم عن 18 عاماً، بتخصيص خمس ساعات أو أكثر من وقتهم لأعمال الإغاثة التطوعية والأنشطة الخيرية، والعمل في مراكز إدارة الأزمات .... ويقومون بالمساعدة في مشروعات تنظيم الأحياء التي يقطنون فيها، وبناء الشبكات الاجتماعية المكرسة للعناية بالمسنين ....؟ وإذا كان من الممكن تصديق هذه البيانات، فبالنسبة لمايزيد عن 75% من صور تضامن الأمريكيين، سيكون لتقديمهم يد العون وتوجهات المصلحة العامة نفس الأهمية البارزة التي تعزى لدوافع مثل تحقيق الذات، والتوجهات المتعلقة بالنجاح المهني، وتوسيع نطاق الحرية الفردية. (Berking 1996: 192- 3)
ويتتبع بيركنغ هذه التبادلية المحلية التي يبدو أنها آخذة في الازدهار إلى مصدرها في التشكيل الانعكاسي المستمر للذات البشرية. ويجادل بأننا نرى في المجتمعات المعاصرة ظهور "نزعة فردية تضامنية" solidary individualism - والتي يعتمد فيها بناء الهوية الذاتية على وعي انعكاسي متزايد بالتعاملات مع الآخرين. وهذا يعني أن التصرف وفقاً للمصلحة الذاتية لا يعني بالضرورة فعل ذلك بطريقة نفعية ضيقة، لكنه بالتأكيد يشتمل على "التبرير الذاتي" الذي ينبع من التصرفات التبادلية (ويستشهد هنا بما أسماه "الاقتصاد الخاص المتوسع لتقديم الهدايا" في المجتمعات الحديثة). والفكرة الرئيسية في هذه المناقشة هي أنه لا ينظر إلى كل من التبادلية، والتضامن، والاعتبارات الأخلاقية على أنها قيم اجتماعية جماعية "تقليدية" مهددة بالانقراض بصورة ما، ولكن كميول تنبع من حالة الحداثة ذاتها: أن يُطْلَبْ من الأفراد (في استرجاع لحجج تومسون التي عرضناها في الفصل الخامس) ، وبصورة مزمنة، أن يقوموا "ببناء" هوياتهم من خلال التفاعلات الاجتماعية بدلاً من أن يجدوا أنفسهم يلعبون أدوارا اجتماعية مستقرة، ويشغلون المراكز المصاحبة لها. وهكذا، فإن الارتباط الأخلاقي يصبح حالة من الالتزام العقلاني الشكلي تجاه مجموعة من المثل والمسؤوليات المجردة، بدرجة أقل من كونه عملا تهذيبيا وتعليميا، أو عملا متعلقا بتحقيق الذات. وهكذا، فإن الشخص الانعكاسي المعاصر، ومن "خلال انتوائه تحقيق ذاته، يعمل نحو تغيير العالم الاجتماعي" (Berking 1996: 201).
قد يؤدي بنا النظر إلى الارتباط الأخلاقي بهذه الطريقة إلى أن نكون أقل تشاؤماً بشكل عام حول المصادر الأخلاقية للحداثة، لكنه لا يقوم في حد ذاته بإعطاء دفعة لاحتمالات تحقق النزعة الكوزموبوليتانية. وفي الحقيقة، وكما يقر بذلك بيركنغ، هناك خطورة في أن هذا النوع من التبادلية قد يتبين أنه منعزل، وأنه يحقق ذاته في "مناطق التقارب ذات السخونة الزائدة أخلاقياً، ومع تلاشي القُرب، تزداد درجة اللامبالاة" (ص.199) (راجع Castells 1998: 352).
ص (207)
ولكن من الناحية الأخرى، فإن إدراك العلاقة بين احتمالية وجود نزعة كوزموبوليتانية وبين تشكيل الذات المنعكسة ينتقل بالمناقشة إلى اتجاه أكثر إيجابية. لأنه إذا كانت ثمة "نزعة فردية تضامنية" هي ما يحرك التبادلية، فإن هذا يبدو، من حيث المبدأ، محفزا أكثر مرونة من أوصاف النزعة المحلية الأخلاقية الأخرى- على سبيل المثال، تلك التي يمكن أن يتم اشتقاقها من البيولوجيا الاجتماعية socio-biology (Wilson 1978). ولذلك لا يتم استبعاد احتمالية النزعة الكوزموبوليتانية من قبل أي منطق حديدي للنزعة المحلية، لكنها تصبح متركزة على المشروع الثقافي الخاص بتمديد نطاق الأهمية الخاص بالتبادلية لتبني إحساس بالآخرين البعيدين على أنهم "آخرين هامين" على سبيل المجاز. وقد لا يكون هذا سهلاً. لكن، وكما يقول بيركنغ، فإنه ليس مستحيلاً: "إذا كنت أعلم ما الذي تعنيه الغابات الاستوائية أو حركة مرور السيارات بالنسبة لصحتي، وإذا كنت أعلم ما الذي قد يؤدي إليه الحب والصداقة، والتعاطف والشفقة .... فإن ما يهم حينها .... هو تضامنات solidarities متوسعة، والتي لم تعد مقيدة بمجتمعي الخاص ذي القيم المشتركة" (Berking 1996: 201).
ليس هناك ما يضمن بناء التضامن الكوزموبوليتاني في ظل الأوضاع الملتبسة التي تتسم بها الحداثة العالمية. لكن احتماليته مستمدة على الأقل من بعض المصادر الثقافية الحداثية القوية: أي ذلك المزيج من اللاتوطين والتجربة الدنيوية الذي يجعل العالم منفتحاً علينا بصورة متزايدة، بالإضافة إلى الدافع إلى تحقيق الذات في أنماط الحياة التي هي نفسها "منفتحة" على التبادلية المتوسعة. وبالنظر إلى هذا، فإن الحالة الثقافية للاتوطين ليست شيئاً ينظر إليه على أنه منفصل عن، أو مضاد للحالة الأخلاقية الإنسانية الأساسية، لكنها شيء يتطور بشكل مترادف معها. حيث أن هذه النزعة الكوزموبوليتانية المتواضعة ، والمتحفظة إلى حد ما، قد تكون صرخة بعيدة من المثل الأعلى البطولي للمواطنة العالمية- لكن لا يبدو على الأقل أنها نزعة يمكن بناؤها بشكل معقول على ما هو موجود في حوزتنا.
هوامش المؤلف
هوامش المؤلف
الفصل الأول
العولمة والثقافة
1- بطبيعة الحال، فإن هذا الإجراء الروتيني المألوف الذي يتم خلال السفر بالطائرة، بالإضافة إلى السلوك الاحترافي لطاقم الرحلة، والذي يعمل على توجيه الانتباه نحو "البُعد الداخلي" in-hereness الآمن للموقف، يمكن النظر إليه على أنه جزء من الإدارة المؤسسية لعلاقات الثقة في الحالات الروتينية التي تنطوي على خطورة. انظر إشارة جيدنز (Giddens 1990: 86) إلى أهمية "اللامبالاة المدروسة والابتهاج المتزن من قبل أفراد طاقم الطائرة" في طمأنة الركاب.
2- في عام 1996 ، بلغ إجمالي عدد للمسافرين الذين مروا عبر أكثر المطارات الدولية ازدحاماً في العالم - وهو مطار هيثرو بلندن- 55.7 مليون مسافر، أي بمتوسط 152,600 في اليوم. لكن المنفذ الجوي الأكثر ازدحاماً في العالم على الإطلاق - والذي يعززه عدد الرحلات الداخلية الذي يتفوق به بكثير على مطار هيثرو - هو مطار أوهير O'Hare بشيكاغو الذي سافر عبره 69.1 مليون مسافر في عام 1996 (المصدر: شركة BAA plc للتوقعات والإحصائيات، 1997).
3- أحد الأمثلة الرئيسية على تعقيد الموقف هو الطريقة التي أثَّرَ بها التشريع الخاص بمركبات الفلوروكلوروكربون CFCs – والمتمثل في فرض قيود في الدول المتقدمة ومنح إعفاءات للدول النامية- على أعمال التهريب. حيث كان يتم تهريب أسطوانات غاز الفريون المنتجة في المكسيك عبر نهر ريو جراندي إلى الولايات المتحدة لتلبية الطلب من قبل السائقين الأمريكيين (والذين هم في معظمهم أشخاص أكثر فقراً يقودون سيارات أكثر قدماً) لاستخدامها في أنظمة التكييف الموجودة في سياراتهم. وتقدر مصلحة الجمارك الأمريكية أن هذه التجارة مُربحة بنفس قدر تهريب المخدرات.
4- يجب التفريق بين هذا الرفض الصريح لهذا المفهوم وبين النظر إلى العولمة باعتبارها "خرافة" ، والمتضمن في بحث مارجوري فيرغسون المعنون "الميثولوجيا المتعلقة بالعولمة". ربما كانت فيرغسون متشككة في أوهماي بنفس القدر، لكنها حرصت على توضيح أن "هذه ليست خرافات متعلقة بالعولمة في حد ذاتها، ولكنها خرافات حول الأهداف والعلاقات بين المصالح والمؤسسات المتفاوتة التي تسعى إلى استغلال القوة الدافعة المعولمة" (Ferguson 1992: 74). وهي تستخدم فكرة الخرافة بالمعنى الذي طوره رولاند بارث (1973Barthes) للإشارة ليس إلى الأكاذيب البسيطة، ولكن إلى تلك الصور المعقدة والمتطورة تاريخياً من الحقيقة، والتي تتسم بكونها ملتوية أيديولوجياً.
5- لهذا الفصل بين المجالات، بطبيعة الحال، جانب أيديولوجي. فمن الواضح أن الممارسات الثقافية تحدث ضمن إطار علاقات السلطة الاجتماعية المتعلقة بالطبقة، والجنس، والنوع، وما إليها. وبالتالي، فهي "سياسية" بهذا المعنى الواسع. وهناك، على سبيل المثال، أنماط ثقافية "شعبية" وأخرى متعلقة "بالنخبة"، والتي "تعبّر" في معان معينة عن علاقات القوة هذه والتي قد تسهم في تعزيزها، أو تقدّم سياقات للاعتراض عليها. وبالمثل، فإنه يتم إجراء معظم عمليات التمثيل الرمزي في المجتمعات الحديثة ضمن السياق "الاقتصادي" للسوق.
6- لم أتعامل هنا مع مزاعم والترز حول الميل "التدويلي" internationalizing لعالم السياسة. ويجب القول بأنه من الواضح أنه يمتلك حجة أقوى هنا، وخاصة في المعنى الضمني لأن عالم السياسة لا يزال يهيمن عليه النظام الدولي للدول القومية، بدلاً من نظام "عالمي" أوسع ومع ذلك أكثر انتشاراً. لكنني، حتى هنا، لا زلت غير مقتنع بأنه يمكن دعم مثل هذه الصلات الاختيارية الواضحة بين الدوائر الاجتماعية والسياقات المكانية. ويزعم ووترز بأنه يجب اعتبار درجة تقويض الدولة التي يمكن اكتشافها كجزء من عملية العولمة على أنها "تطور ثقافي"، وليس سياسيا (Waters 1995: 122). وهذا يبدو لي بشكل مثير للريبة مثل "حفظ ملامح" الافتراض الأولي.
7- ديفيد لويد Lloyd ، متحدثاً في مؤتمر التلفاز الوطني المنعقد في إدنبره عام 1995، مذكورة في Culf 1995: 2.
الفصل الثاني
الحداثة العالمية
1- حرص جيدنز على الإشارة إلى أنه لم يتم استلهام كافة جوانب النظرية التطورية بطريقة غائية teleologically (1990: 5). ولكن مهما كان شكلها، فإنها تظل مضللة. وللحصول على معالجة نقدية شاملة وواضحة للنظرية الاجتماعية التطورية، انظر Sztompka 1993: 99ff.
2- تخفي جميع التعميمات المماثلة اختلافات تجريبية. حيث يقوم باربر(Barber 1992: 45ff) ، على سبيل المثال بإجراء مقارنة بين النمط النموذجي من حياة الفلاحة المستقرة التي تتسم بها المناطق المنخفضة من إنجلترا ونمط الحياة الرعوي الذي يتسم بأنه أكثر تنقلاً بكثير، والخاص بالرعاة في مناطق مثل جبال البيرينيه Pyrenees خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ويعلق شبروبيني (Cherubini 1990: 133) على النظرة العالمية المتوسعة لبعض الفلاحين الأوروبيين خلال العصور الوسطى، والتي يمكن عزوها إلى الهجرة الموسمية للعمال.
3- يصف ثريفت (Thrift 1996: 57) هذا بدقة، باعتباره "الصورة الذاتية للعالم الحديث عن تمايزه .... والتي تشكل نوعا من استشراق التاريخ". انظر أيضاً مناقشة أوسبورن (Osborne 1992: 68) لمشكلة الحداثة كحقبة يتم تعريفها "حصريا من خلال المحددات الزمنية".
4- يُرْجِع جيدنز ذلك "إلى نهاية القرن الثامن عشر على الأقل " (1990: 17). وبطبيعة الحال، كانت الساعات الميكانيكية تستخدم بشكل محدود للغاية قبل ذلك الوقت في أوروبا - لكنها كانت مستخدمة قبل ذلك بوقت كبير في الصين. وكما يوضح ثريفت، فقد بدأت الساعات العامة وساعات الكنائس في الظهور في جميع أرجاء إنجلترا خلال القرن الرابع عشر، وباتت أمرا مألوفا وموجودا في جميع الأبرشيات بحلول القرن السابع عشر - ولكن، وكما يقول، "فمن غير المؤكد ما إن كانت هذه الساعات قد تركت تأثيراً كبيراً على غالبية السكان"، ويرجع هذا جزئياً إلى عدم دقتها (Thrift 1990: 107). وحتى منتصف القرن السادس عشر، كان تسجيل الوقت في معظمه أمرا عشوائيا، حيث أن المحاولات المبذولة من أجل الدقة في تحديده كانت تقتصر على التجار في المدن وعلى الأديرة- التي وصفها ثريفت ببراعة على أنها "جزر لتسجيل الوقت في بحر من غياب الزمن". وبشكل عام، فإن تاريخ ثريفت يؤكد تقريباً وجهة نظر جيدنز حول التوزيع الاجتماعي الأوسع للساعات: "في وقت ما خلال الفترة ما بين عامي 1800و 1850 ، وصل التاريخ إلى نقطة أصبحت الساعات والساعات اليدوية فيها موجودة بين جميع الطبقات" (1990: 112).
5- كان التقويم الغريغوري الذي ألمح إليه جيدنز متواجدا، بالطبع، في وجود أنظمة أخرى للتأريخ مشتقة من الدين - مثل كل من التقويمين الإسلامي واليهودي. وبرغم أنه لا تزال هناك أهمية ثقافية لهذين التقويمين الأخيرين (حيث أن التواريخ على رؤوس الرسائل في بلدان مثل إيران لا تزال تستخدم التقويم الإسلامي)، إلا أن جيدنز محق في القول بأن التقويم الغريغوري قد "أصبح كونياً، بالنسبة لكافة الأغراض والنوايا " في تنسيقه للحياة المعاصرة. ومن الأمثلة الجيدة على هذا، نجد القلق الحالي [صدر الكتاب عام 1999] حول ما يسمى "بعيب الألفية": كيف ستتمكن الساعات والتقاويم المثبتة في أجهزة الكمبيوتر الموجودة في جميع أرجاء العالم من مواكبة الحركة الرقمية لما بعد عام 2000.
6- بدأ تركيب صنايق البريد على نطاق واسع في المنازل البريطانية في أعقاب الإصلاحات البريدية التي تمت في عام 1840 ، وطرح الطوابع البريدية اللاصقة المدفوع ثمنها سلفاً. وقبل ذلك، كان يتم دفع الرسوم البريدية بصفة عامة إلى حامل الرسالة عند الاستلام. ولقد كان تأخر أرباب الأسر في الرد على طارق الباب هو ما عَجَّل حملة الحكومة الهادفة إلى تركيب شقوق slits لتمرير الرسائل عبر الباب. وقد استمرت هذه الحملة (وحملات مشابهة، في الولايات المتحدة على سبيل المثال) برغم وجود قدر معقول من المعارضة الشعبية لها طوال القرن التاسع عشر ولفترة كبيرة من القرن العشرين. انظر يونغ فاروغيا (Young Farrugia 1969: 143ff).
7- للمزيد حول هذه النقطة، انظر أيضاً مناقشة كريس روجيك للدلالات الاجتماعية لإدخال إنارة الطرق العامة في أوروبا وأمريكا الشمالية خلال العقدين السابع والثامن من القرن التاسع عشر، وخاصة تأثير هذا على التمييز بين الحياة الاجتماعية "الداخلية" و"الخارجية" في المدن (Rojek 1993: 123- 5).
8- بحلول القرن الثامن، كان لدى معظم الدول الأوروبية اقتصاد نقدي يقوم على العملات الفضية. وقد تطور هذا في درجة تعقيده خلال العصور الوسطى، لكنه احتفظ بدرجات هائلة من التنوع المحلي والافتقار إلى المعايير القياسية (انظر بروك Brooke 1975: 75ff). ولكن انظر أيضاً باربر ( Barber 1992: 745ff) حول القوة الدافعة للتجارة العالمية التي تم تقديمها بشكل خاص من خلال الدور المصرفية الإيطالية منذ القرن الثالث عشر: أي استخدام نظام حفظ الدفاتر ذي الإدخال المزدوج، ونشأة الصفقات الائتمانية التي تطورت من تحول الكمبيالات البسيطة إلى تسهيلات الإقراض.
9- على سبيل المثال في الانتقادات الفرويدية- الماركسية لمنظرين من أمثال كريستوفر لاش (Lasch 1980; 1985). انظر نقد جيدنز لأفكار "لاش" (Giddens 1991:171f).
10- برغم أنه كان أكثر انتقاداً لعلاقات السلطة (الطبقية منها على وجه الخصوص) الخاصة بالحداثة الانعكاسية، إلا أن سكوت لاش (Lash 1994: 167) يجادل بأن "أنظمة جيدنز الخبيرة لم تعد تسيطر على الجماهير أو تحررهم. وبدلاً من ذلك، فإنهم هم الجماهير". ويشير هذا إلى النسبة المتزايدة من القوة العاملة في الدول المتقدمة (يقدرها لاش بنحو 25% في المملكة المتحدة والولايات المتحدة) والتي يتم توظيفها في الأنظمة الخبيرة مثل صناعة الاتصالات/المعلومات.
11- انظر هنا إلى الحجة التي قدمها فيذرستون (Featherstone 1995: 146)، والتي تقول بأن اشتقاق جيدنز المؤسساتي للعولمة من الحداثة "لا يضع في اعتباره القوة المستقلة للعوامل الثقافية المتضمنة في هذه العملية". وكن وجهة نظري هي أن تحليله الاجتماعي- الوجودي له تضمينات ثقافية هامة - خاصة في مجال التجربة المتواسطة. وما لم يفعله جيدنز هو توضيح هذه التضمينات بتعابير لا لبس فيها وبأي درجة من التفصيل.
12- لكننا يجب أن ندرك هنا كيف يتشابك ويتناغم موقف غراي مع الاتجاه العريض المناهض للكوننة في الفكر المعاصر، والذي تم بناؤه تحديداً من التجارب الثقافية "الهامشية" التي تركز على الاختلاف. وهذا هو الحال بشكل خاص في مجال سياسات الهوية الذي نشأت فيه نزعة عدائية- بصورة صريحة أو ضمنية- من قبل جميع طوائف المجموعات المهمشة في الغرب تجاه المشروع المكونن الخاص بالتنوير. ويشير هؤلاء بشكل صحيح إلى الميل إلى تصنيف الاختلاف الثقافي الذي يعنيهم ضمن فئات أوسع مثل "البشرية". ويفسر كفاح هذه الهويات المحددة من أجل التعبير عن نفسها وفرض جداول الأعمال السياسية الخاصة بها، يفسر إلى حد كبير التوجه الفكري الشامل المناهض للكوننة الذي اتسمت بها تلك الأزمنة. وللا على مناقشة تاريخية- نقدية مثيرة لهذا الخطاب من منظور ماركسي، انظر زاريتسكي ( Zaretski 1935)، ولمزيد من المناقشات العامة لسياسة الثقافة والهوية، انظر وودوارد ((Woodward 1997.
13- وهو ما يعني أنها مثيرة للنزاع في تفصيلاتها. وهناك، بطبيعة الحال، جماعات مصالح محددة وعدائية مكتنفة حتى في مثل هذه المشاكل العالمية (انظر Sachs 1993). ليس على المرء سوى أن يفكر في وجهات النظر المختلفة التي ظهرت خلال محاولة تنظيم إنتاج غازات الكلوروفلوروكربون المدمرة لطبقة الأوزون، والتي تمت الإشارة إليها في الفصل الأول: الخلافات بين الدول المنتجة والدول المستهلكة، وبين دول العالم النامي والمتقدم. ومن المؤكد أن هذه المشاكل السياسية الشائكة والحقيقية لن يتم حلها عبر "نزعة سَلِسَة نحو عالم واحد" "one- worldism". (ولمناقشة هذه القضايا بالنظر إلى "الخطاب المكونن" للعولمة، انظر Yearley 1996: 100ff). لكن المقصود هنا هو أنه لا يمكن أن ينشأ حل لهذا النوع من المشاكل العالمية إلا إذا تم وضع المصلحة الكونية بصورة جدية جنباً إلى جنب مع المصالح المحددة الأكثر مباشرة.
الفصل الثالث
الثقافة العالمية: الأحلام، والكوابيس، والشكوكية
1- أو حتى أن التعددية و"النسبية الثقافية" تبدأ بها. انظر، على سبيل المثال، مقال ميشيل دو مونتاني "الحداثي" بشكل لافت، والمعنون "عن أكلة لحوم البشر" 'On the Cannibals والذي تمت كتابته خلال الجزء الأخير من القرن السادس عشر. ويرفض مونتاني هنا الفكرة القائلة بأنه يجب أن يتم النظر إلى " أكلة لحوم البشر" - وهم أولئك الأشخاص الذين يعيشون على ساحل البرازيل والذين قد قرأ عنهم في الروايات الخاصة بفتح العالم الجديد- على أنهم "بربريون" barbarians: "أنا أجد (مما روي لي) أنه لا يوجد شيء متوحش أو بربري فيما يتعلق بهؤلاء الأشخاص، ولكن كل شخص يطلق لقب بربري على أي شيء هو ليس معتاداً عليه، إنها في الحقيقة الحالة المتمثلة في أننا لا نملك أي معيار آخر للحقيقة أو الصواب- العقل سوى المثال والشكل الخاص بالآراء والعادات الموجودة في مجتمعنا" (Montaigne 1995: 8- 9).
2- انظر تومسون (Thompson 1990: 125ff) للحصول على مناقشة لمفهوم هيردر التعددي للثقافة وتأثيره على الإثنوغرافيين الذين عاشو خلال القرن التاسع عشر مثل إي.بي.تيلور Tylor ، وبالتالي على التقليد الأنثروبولوجي الناشئ.
3- من المحتمل أن نزعة كانط Kant الكوزموبوليتانية كان لها التأثير الأكبر على التفكير السياسي الدولي الحديث. فبرغم كل هذه المثالية، إلا أنه سيكون من الخطأ بالطبع القيام بوصف أفكار كانط حول النظام السياسي الكوزموبوليتاني على أنها "يوطوبية"، لأنه كان مدركاً إلى حد ما للصعوبات الجمة المتمثلة في المصالح القومية (Turner 1990: 349) واقترح ما كان في جوهره حلاً فدرالياً لهذه المشاكل. للاطلاع على مناقشات حديثة تدور بنفس هذه الروح، انظر: Bobbio 1995، و Archibugi 1995 ، و Held 1995.
4- يلاحظ أن توقعات ماركس حول المجتمع الشيوعي القادم مجزأة إلى حد ما ومتفرقة عبر كتاباته، وبالإضافة إلى ذلك، فقد قاوم بشكل عام تقديم وصف منهجي، وذلك لكي يُبْعِد نفسه عما رآه على أنه "الاشتراكية اليوطوبية" الساذجة التي لا تقوم على النزعة المادية التاريخية. وبرغم ذلك، نجده يضرب العديد من الأمثلة المادية عما يمكن أن تكون عليه الحياة في ظل الشيوعية. ويقوم بيرتل أولمان (Ollman 1979) بجمع هذه الأمثلة بصورة عملية في مقاله المعنون "رؤية ماركس للشيوعية".
5- تم الاستشهاد به في سعيد (Said 1985:153) - حيث قام سعيد أيضاً بمناقشة "نزعة ماركس الاستشراقية" المثيرة للالتباس.
6- هذا المقتطف من رئيس قسم تجميع الأخبار في محطة سي.إن.إن CNN ، حيث يتحدث إد (وليس تيد) تيرنر حول البرنامج التلفازي علامات الضيق الذي تم بثه في مسلسل القناة الرابعة قنوات المقاومة في أبريل من عام 1993. ولكن قم بمقارنة لغة تيد تيرنر الأكثر "تواضعاً" في خطاب عام 1994 لمؤتمر قناة بان آسيا التلفازية الفضائية والتي يتم بثها من خلال الكيبل، وهو المؤتمر الذي أقيم في هونغ كونغ: "لم نأت إلى هنا مطلقاً لنخبر الناس كيف يقومون بإدارة محطة تلفازية، لكننا أتينا إلى هنا فقط مع قناتنا الفضائية الصغيرة سي.إن.إن الدولية، و التي يحاول الجميع الآن تقليدها" (Turner 1994: 39).
7- يسعى ويذرفورد في كتابه المعنون السلام العالمي والأسرة الإنسانية للدفاع عن الفكرة القائلة بأن "السلام العالمي مرغوب ويمكن تحقيقه من خلال حكومة عالمية وثقافة عالمية متأصلة في فكرة الأسرة العالمية" (Weatherford 1993: x). وهذا نص لافت للنظر، وغريب بالعديد من الطرق، لكن الشيء المثير فيه بالنسبة للمناقشة الحالية هو الطريقة التي يحافظ بها ويذرفورد على موقف ودود وغير مضطرب تجاه انتشار الثقافة الغربية - والأمريكية تحديداً- لمصلحة "السلام العالمي".
8- ولكن كما يوضح ديفيد كريستال (Crystal 1987: 375) ، فإن كل من الآمال والمخاوف المتعلقة بوجود لغة عالمية وحيدة مهيمنة قد تكون عرضة لأن يتم تثبيطها بسبب طبيعة التطور اللغوي ذاتها: "حيث أنه نتيجة لأن اللغة [المهيمنة] تصبح مستخدمة في جميع أركان العالم .... فإنها تبدأ في تطوير لهجات منطوقة جديدة .... وبمرور الوقت، قد تصبح هذه اللهجات الجديدة غير مفهومة unintelligible تبادليا" وهو مثال جيد على هذه اللحظة الديالكتيكية من "إعادة التضمين الثقافي".
9- يتمثل أحد الأمثلة الرئيسية على هذا في النزاع الشهير الذي نشب بين الولايات المتحدو وأوروبا خلال الأسابيع الختامية من جولة أوروغواي من محادثات اتفاقية الغات GATT في عام 1993. ولقد تركز هذا الخلاف حول الطلب الذي تقدم به الأوروبيون (وخاصة فرنسا) بأن يتم استثناء تجارة المواد المرئية المسموعة من هذا الاتفاق، وهو ما يسمح لهم بتقييد تدفق الأفلام والبرامج التلفازية الأمريكية على بلادهم - وهو شكل من الحمائية protectionism الثقافية، والتي قاومها الأمريكيون بشدة. وقد قمت بمناقشة نزاع الغات هذا بمزيد من التفصيل في فصل من أحد كتبي (انظر Tomlinson 1997a). وللاطلاع على مناقشة شاملة للخلفية الاقتصادية والثقافية لهذا النزاع، انظر الأوراق البحثية الموجودة في van Heme1 et al. 1996، كما يقدم هاميلينك Hamelink 1994) ) وصفاً موجزاً جيداً للمناورات السياسية المتضمنة في القضية.
10- يستخدم لاتوش أيضاً مصطلح "اللاتوطين" (1996: 94- 98) ولكن بمعنى أكثر تقييداً من المعني الخاص بي، حيث أنه قد ربطه بصورة شبه حصرية بالنتائج السلبية لإضفاء الصبغة العابرة للقوميات transnationalization على الاقتصاديات القومية.
11- لكي أكون منصفا مع لاتوش، فإن إدانته للتغريب westernization مصحوبة بإقرار بحدودها، وما يراه على أنه "أزمة النظام الغربي" (Latouche 1996: 85ff). كما أنه يقدم أيضاً مناقشة مشوقة لصور المقاومة الثقافية في العالم الثالث للميول الساعية لتحقيق الهيمنة السياسية (pp. 100ff). لكن التبصرات العديدة الخاصة بهذا التحليل تتسم بالتشوش، وذلك راجع جزئياً للمبالغة الأولية فيما يتعلق بالشرور الهادفة لتحقيق الهيمنة الغربية، وراجع بشكل أكبر إلى الفشل في الفصل نظرياً بين مبادئ الحداثة الاجتماعية وبين مبادئ التغريب westernization.
الفصل الرابع
اللاتوطين: الشرط الثقافي للعولمة
1- للإحاطة بكامل جوانب الموضوع، يجب أن نذكر أيضاً استخدام مصطلحات "اللاتوطين" و "إعادة التوطين" للإشارة إلى التأثيرات الثقافية- النفسية للرأسمالية في كتاب ديلويتسه وغواتاري المعنون نقيض- أوديب Anti-Oedipus (Deleuze and Guattari 1977). لكنني، على أية حال، لم أستند إلى تحليلهما في الجزء المتبقي من الكتاب.
2- في عام 1949 لم يكن هناك سوى عشرة من متاجر السوبر ماركت في المملكة المتحدة (التي يتم تعريفها بأن مساحتها تفوق 2000 قدم مربع، ولها أكثر من ثلاثة منافذ للخروج). ولقد ارتفع هذا العدد إلى 4764 من متاجر السوبر ماركت في عام 1997 وتسيطر السلاسل "الأربعة الكبار" من هذه المحلات - وهي أسدا Asda ، وسانزبيري Sainsbury's ، وسيفواي Safeway ، وتيسكو Tesco - على "أكثر من نصف فاتورة البقالة في البلاد" (Gannaway 1998: 2).
3- في الواقع، تكشف شعبية النوع الجديد من الأفلام الوثائقية التلفازية "ذبابة على الحائط"، والتي تتناول علاقات العمل في كل من مطاري هيثرو وبرمنغهام الدوليين، أن كلا من التعقيد الثقافي لهذه البيئات واهتمام الناس بها باعتبارها "عوالم حياتية" ثرية.
4- في حالة الاتحاد الأوروبي، لا يقابل هذا الوعي إحساس بشرعية هذه القوى "الخارجية". وقد توصل مسح أجراه ديموس Demos في عام 1998 إلى أن الدعم العام للاتحاد الأوروبي بين المواطنين الأوروبيين قد انخفض إلى أدنى مستوى له على الإطلاق، حيث أعرب 41% فقط من المجيبين عن إحساسهم بأن بلادهم تستفيد من العضوية في الاتحاد الأوروبي، كما أن 50% منهم فقط قد ذكروا أنهم يشعون بالتوحد مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي أو مع أوروبا ككل"، كما أقر 80% منهم "بأنهم ليسوا مطلعين بشكل جيد" أو أنهم " لا توجد لديهم أي معرفة على الإطلاق" عن الاتحاد الأوروبي (Leonard 1998: 6).
5- لمناقشة موقف روسكين النوعي- السياسي gender- political العام فيما يتعلق بالعالم المنزلي، انظر كتاب كيت ميليت Millett المعنون المناورات السياسية الجنسية (Ruskin 1971: 98ff)- والذي هو مصدر مقتطف ميروفيتز. وتقوم ميليت هنا بالمقارنة بين النزعة الأبوية الرومانسية لروسكين وبين الليبرالية التي تتسم بها نظرة جون ستيوارت ميل Mill "للعبودية المنزلية" للنساء. ولمناظرة أحدث ذات صلة بالموضوع، انظر نقد باريت وماكنتوش (Barrett and McIntosh 1982) لموقف كريستوفر لاش حول الأسرة الأبوية في كتابهما المعنون الجنة في عالم لا قلب له (Lasch 1977). 6- على الرغم من أن أنماط الملبس هذه تصبح أيضاً "ذات طابع أصلي" indigenized ، إلا أنه من الممكن استخدام الفروقات الدقيقة بين الأساليب المفضلة للمدربين، على سبيل المثال، لتسجيل الاختلافات الإقليمية أو العرقية.
7- قد يغرينا تجدد الاهتمام الحالي بأطباق الطعام المحلية – مثل أنواع الجبن الإنجليزي الإقليمية المتوفرة من "نادي الجبن" في صحيفة الغارديان، "وجبة الكرش والنقانق بالخبز والزبدة الموجودة على قوائم الطعام في المطاعم الأكثر فخامة" (James 1996: 89) - كعلامات على "إعادة التوطين" في الذوق الخاص بالطعام. لكننا يجب أن نميز بين هذا النوع من ممارسة استهلاك "العينات المحلية" الكوزموبوليتانية (التي تقتصر كما يلاحظ جيمس على القلة الموسرة) وبين أية صورة أخرى أكثر انتشاراً وأهمية من إعادة التأكيد على المحلية.
8- للمزيد حول نفس الموضوع المتصل بالدراسات التنموية، انظر كتاب جين كولينز عن الافتراضات الثقافية والمناورات السياسية للنزعة المحلية "الشعبوية الأصولية" (Collins 1996) 'grassroots populist' localism.
9- قام مارك فيليبس Phillips بإنتاج وإخراج برنامج مانغ توت لصالح سلسلة BBC الوثائقية بعنوان الأزمنة الحديثة Modern Times (1997).
10- ناقشت هنا كتاب جارسيا كانكليني بشكل عام، وهو ما لا يوفي حق العديد من الاختلافات والخصائص التي يتسم بها السياق (السياقات) اللاتينية التي يُعْنَى بها. ولمناقشات نقدية لكتابه في هذه السياقات، انظر رو (Rowe 1992) ، على سبيل المثال، وإلى المساهمين العديدين الآخرين في هذه المناظرة حول الثقافات الهجينة Culturas Hibridas في مجلة الدراسات الثقافية الأمريكية اللاتينية: ترافيسيا Travesia, 1.2 (1992)، وخاصة فرانكو Franco (1992) وكرانيوسكاس Kraniauskas (1992).
11- يكتب روزالدو هنا تحديداً في إشارة إلى جارسيا كانكليني. ويجب أن نتذكر أن مسألة الهجنة لها أصداء خاصة في النظرية الثقافية الأمريكية اللاتينية، والمتصلة كما هو حالها لا محالة بالموضوعات العنصرية الخاصة بالتزاوج بين الأوروبيين والهنود الحمر Mestizaje أو التزاوج بين الأوروبيين والزنوج من سكان جزر الهند الغربية creolization (انظر Nederveen Pieterse 1995: 54). ويتحرر مؤلف جارسيا جانكليني من بعض هذه الروابط، ولكن كما ألمح روزالدو ليس دائماً بصورة كاملة من دلالاته الأساسية. لمناقشة مشابهة، انظر فرانكو (Franco 1992).
12- هذا هو الموقف الذي تم اقتراحه على سبيل المثال في مناقشة فيليب دود (Dodd 1995) للسياسة المتعلقة بالثقافة الوطنية البريطانية في بحث صادر عن الهيئة الاستشارية البريطانية ديموس Demos. لكن ما يمكن أن نسميه بالنزعة الاستراتيجية المعادية للجوهرية يقصد بها تقويض الهويات الحصرية(وخاصة العنصرية)، إلا أنه يميل بصورة تدعو للسخرية تجاه الاستعارة البيولوجية الخاصة " بالنزعة التهجينية" mongrelism: انظر الفصل الذي كتبه بعنوان "في مدح المهجنين".
الفصل الخامس
التواصل المتواسط والتجربة الثقافية
1- لن أحاول المحافظة على تقسيم صارم بين الخصائص اللاتوطينية لكل من التقنيات "الحديثة" و"القديمة" لوسائل الإعلام هنا، برغم أن هناك -وبصورة واضحة- بعض الفروق المميزة التي يمكننا ذكرها. حيث يميّز مارك بوستر (Poster 1995)، على سبيل المثال، بين "العصر الأول لوسائل الإعلام" الخاص بالراديو، والتلفاز، والهاتف و "العصر الثاني لوسائل الإعلام" الخاص بالاتصالات التفاعلية، اللامركزية، المتواسطة عبر أجهزة الكمبيوتر، والإنترنت، والطريق السريع للمعلومات، والعالم الخاص بما يسمى "الفضاء التخيلي". وهذا التمييز مرتبط بتحليل أنماط مختلفة من الاستقبال الثقافي لوسائل الإعلام هذه، وللمواقف الخاصة بالموضوعات المختلفة المتوفرة من خلالها - والذي يتم تخطيطه في كلا الحالتين على غرار الفصل بين الحداثة/ما بعد الحداثة. وبرغم أن تحليل بوستر يحوي الكثير من الأمور المهمة، إلا أنه يعرض بعض المشاكل المصاحبة للتحليل الحقبي والنزعة الثنائية - خاصة كما هي متمركزة على التقنيات- والتي قمنا بمناقشتها في الفصل الثاني. ولكي نكون منصفين، نشير إلى أن بوستر كان مدركا لهذه المشاكل (1995: 21- 22) ، لكنه لم يقم بحلها بصورة كاملة. ولأغراضي الحالية، سيكون من المفيد بدرجة أقل التأكيد على جوانب الاختلاف بدلاً من الاستمراريات في هذه التقنيات. ويرجع هذا، على وجه الخصوص إلى التوزع الأوسع بكثير للتقنيات "القديمة" على الصعيد العالمي. وكما يقترح مانويل كاستلز (Castells 1996: 358)، فإن "التواصل المتواسط عبر شبكات الكمبيوتر ليس وسطا عاما للتواصل، ولن يكون هكذا في المستقبل المنظور. وبرغم أن استخدامه يزداد بمعدلات فائقة إلا أنه سيستبعد، ولوقت طويل الغالبية العظمى من البشر، على خلاف التلفاز ووسائل الإعلام الأخرى". وبطبيعة الحال، فهذا ليس سبباً لتجاهل قدرته المحتملة المحددة على اللاتوطين، ولكنه لا يوحي بأنه قد يكون من المفيد التفكير في التواصل عبر شبكات الكمبيوتر من حيث علاقتها بوسائل الإعلام المُعَوْلِمة الأكثر شيوعاً مثل التلفاز (Turkle 1995: 235) ، بدرجة أكبر من الفصل بينها على نحو صارم.
2- من بين الأمور الأبرز من هذه نجد التهم التي- بتركيزها الضيّق على الوسط medium ، بدلاً من الإطار السياسي، والاقتصادي، والثقافي الأوسع للتواصل- تعرض نظرة للتغير الاجتماعي- التاريخي الذي يقوم على مبدأ من "الحتمية التكنولوجية"، والتي تتسم بكونها ضيقة نسبياً. وترتبط هذه التهمة بصورة نموذجية بالنقد القائل بأن مثل هذه النظريات عموما تتجاهل القضايا والأيديولوجيات المتعلقة بالسلطة الاقتصادية- السياسية والمؤسساتية، أو دقائق الاختلاف الثقافي. وقد تعرض كتاب مكلوهان لنقد حاد بسبب ذلك (مثل Williams 1974; Ferguson 1990,1991)، لكن النقد امتد أيضاً ليشمل آخرين، وخاصة ميروفيتز (Silverstone 1994: 94- 5; Stevenson 1995: 137- 8). وتتسم هذه الانتقادات جوهريا بكونها صحيحة- ولكن انظر، على سبيل المثال، لدفاع هاير وكراولي (Heyer and Crowley 1995) عن إينيس Innis ضد التهمة الفجة القائلة بأنه لا ينخرط في السياقات الخاصة بكل من السلطة الاقتصادية والمؤسساتية. ولكن كما لاحظ روجر سيلفرستون بصورة واضحة، فإن هناك شيء موح في وجهات النظر هذه، والذي ينبع تحديداً من تركيزها الضيق نسبياً: "...لأنها، وبشكل يتسم بالتناقض، تصر على عزل التقنيات الإعلامية ومنحها أفضلية .... فهي تثير تساؤلات مهمة حول مغزاها، بطريقة تخلو نسبياً من الحسابات المتعلقة بنظام الحكم أو الاقتصاد" (Silverstone 1994: 92).
3- تأمل، على سبيل المثال، الاختلاف في فينومينولوجية الوقت المتضمن في القراءة المتأنية لخطاب غرامي، من ناحية، والاندفاع للتعرف على محتويات خطاب يحمل في طياته أخبار سيئة، من الناحية الأخرى - حيث تتسابق العينان لإجراء مسح سريع للخطاب من أجل "معرفة الأسوأ" بأسرع ما يمكن.
4- لكن انظر إلى كم الأبحاث التي أجريت في علم النفس الاجتماعي، والتي تتناول الآن (برغم أنها لا تتسم بنفس درجة التركيز الفينومينولوجي المشار إليها هنا) تضمينات التجربة المتواسطة بالنسبة لبناء الذات (مثل Gergen 1991; Grodin and Lindhof 1996).
5- في هذا السياق، كان كاستلز يشير إلى الجنس الذي تتم ممارسته من خلال التواصل عبر أجهزة الكمبيوتر، لكن هذه الفكرة تنطبق أيضاً على الجنس الهاتفي. انظر أيضاً إلى مناقشته للنمو السريع لخطوط الدردشة ذات التوجه الجنسي (الرسائل الوردية 'les messageries roses') على نظام مينيتل Minitel الفرنسي، والتي توازي ظهور خطوط الجنس الهاتفي التجارية في بلدان أخرى، ولكن مع إضافة العنصر المتمثل في المقابلات الجنسية "التلقائية" (غير التجارية) التي تتم على خطوط الدردشة المخصصة للأغراض العامة. ويذكر كاستلز أن مثل هذه الأنشطة قد استحوذت على أكثر من نصف المكالمات التي أجريت على النظام خلال ذروتها في عام 1990 (Castells 1996: 344- 5).
6- قد يتمثل أحد أسباب عدم استكشاف هذه الظاهرة على نطاق واسع ، في أن التركيز الثقافي- الشعبي مال إلى أن الانصباب على القيمة الفارقة الخاصة بمستخدمي الهواتف النقالة غير الواعين بذواتهم. ومن المثير ملاحظة أنه لم تظهر قواعد سلوكية واضحة تماما بهذا الخصوص. وربما يشهد هذا على الزعم المتعلق بالحقوق في داخل الأماكن العامة، والمتضمنة في استخدام الهواتف النقالة: ما هي الحقوق التي يملكها الناس في الحصول على حماية من الإزعاج الذي يسببه مستخدمو الهواتف النقالة في المساحات المشتركة، مثل عربات القطار؟ وكيف يختلف هذا عن الإزعاج الناتج عن المحادثات المباشرة التي تتم وجهاً لوجه؟
7- يجب أن نعترف بوجود شك مشابه فيما يتعلق بما يسمى "المجتمعات الافتراضية" المتعددة - أنظمة لوحات النشرات (Bulletin Board Systems;BBSs)، والمجالات ذات المستخدمين المتعددين (Multiple User Domains; MUDs) - على الإنترنت، والتي ناصرها هوارد راينغولد (Reingold 1994). وعلى سبيل المثال، فإن كتاب شيري تيركل الإثنوغرافي الذي يدور حول المجالات ذات المستخدمين المتعددين، وبرغم أنه يقر بمحاسن هذه التفاعلات ذات الهوية المرنة وغير المتجسدة بالنسبة لمستخدميها، إلا أنه يظل متشككاً في قدرتها على بناء مجتمعه الأوسع: " ليس من الصعب أن نوافق على أن المجالات ذات المستخدمين المتعددين تقدم منفذا للأشخاص للعمل على حل المشكلات الشخصية بطريقة مثمرة. ومع ذلك، فمن الحصافة الاعتقاد بأن ثورة الكمبيوتر الشخصي، التي تم تصورها ذات مرة كأداة لإعادة بناء المجتمع، تميل الآن إلى التركيز على بناء المجتمع داخل آلة" (Turkle 1995: 244). وللاطلاع على نقد أشد لفكرة المجتمعات الافتراضية بالنظر إلى "المجتمعات الواقعية"، انظر -على سبيل المثال- روبنز (Robins 1996).
8- يبدأ ميلر Miller بالقول: "على العكس مما يؤكد عليه ماكلوهان...." لأن ماكلوهان قد زعم، بشكل معاكس تماماً، أن التلفاز كان في الأساس وسطا "لمسيا" tactile وليس بصريا. ولكنه عرف "الملموسية" tactility على أنها تفاعل متبادل للحواس بدلاً من الاتصال المنعزل بين الجلد وأحد الأشياء(McLuhan 1964: 314) وهكذا، فما بدا أنه يعنيه كان التجربة الخاصة "بالاكتناف العميق" في تجربة المشاهدة بدلاً من مجرد اللقاء المرئي بالصورة التي تظهر على السطح المنبسط للشاشة. فعلى سبيل المثال، يستشهد ماكلوهان بطلاب الطب الذين يشاهدون عملية جراحية مصورة تلفازياً ثم يروون أنهم شعروا كما لو كانوا يُجْرُونَها بالفعل - وأنهم كانوا "يمسكون بالمبضع" (McLuhan 1964: 328).
9- انظر هنا إلى مناقشة نيك ستيفنسون (Stevenson 1995: 141- 2) لاحتمالات تآكل المشاعر الموجّهة نحو الآخر، والمعروضة خلال تطور مشروعات مثل 'MeTV'- التي تشتمل على اختيار مسبق للبرامج بواسطة جهاز الاستقبال التلفازي المصممة خصيصاً لتواكب أذواق وأنماط حياة المشاهد المنفرد.
10- في هذا الخصوص، انظر مناقشتي (Tomlinson 1997b) للاحتمالية الأخلاقية الكامنة لتغطية وسائل الإعلام "للفضائح" - وخاصة التي يُنْظَرْ إليها بشكل عام على أنها ترمز لتتفيه وسائل الإعلام الشعبية، لكنها، وكما جادلت، تطرح احتمالات للتأمل الأخلاقي مبنية على التعاطف empathy.
الفصل السادس: احتمالية الكوزموبوليتانية
1- لقد أخذ هانرز هذه المواقف عن مؤلف كتب الرحلات بول ثيرو (Therou 1986). وللاطلاع على وجهة نظر مشابهة، انظر فيذرستون (Featherstone 1995: 98).
2- يميل هانرز، بشكل أو بآخر، إلى الفكرة القائلة بأنه قد تكون هناك صلة ما بين النزعة الكوزموبوليتانية وبين ثقافة المثقفين- وهم أشخاص يتمتعون بما أسماه "رأس مال ثقافي لا سياقي" Decontextualized ونزعة انعكاسية، وعويصة ...... (و)...وتوسعية بشكل عام في تدبيرها للمعنى" (ص. 246). لكن هل هناك أصداء بعيدة هنا لتحبيذ المنظور الخاص " بالمفكرين المتحررين اجتماعياً" في كتاب سوسيولوجية المعرفة لكارل مانهايم؟ (Mannheim 1960) .
3- للاطلاع على نقد قوي "للنزعة البيئية العالمية"، انظر المساهمات المقدمة لمكتاب فولفجانج زاكس Sachs المعنون الإيكولوجيا العالمية Global Ecology (1993) (وخاصة الجزء الثالث).
4- إن الأكثر أهمية من بين هذه هو توسيع عضوية مجلس الأمن ومراجعة شروط العضوية الدائمة فيه، بالإضافة إلى الإلغاء التدريجي لحق النقض (الفيتو)، وتبنّي صيغة تمويلية جديدة لتقليل الاعتماد على المساهمة الرئيسية للولايات المتحدة (1995: 301- 302، 344- 347). ولكن انظر هيلد (Held 1995: 273ff) من أجل الحجة القائلة بأنه حتى إذا ما تم إصلاح الأمم المتحدة، فإنها ستحتاج إلى "مجلس ديموقراطي دولي" جديد يكون مكملاً لها، والذي سيشتمل على "المنظمات غير الحكومية، وجماعات المواطنين، والحركات الاجتماعية" بالإضافة إلى الدول.
شكر وتقدير
لقد استفاد هذا الكتاب كثيرا من مناقشتي مع عدد كبير من الناس- بعضهم محبذ للأفكار التي يحملها، وبعضهم متشكك فيها (بصورة ودية). تمت تجربة بعض النقاشات في البداية كمقالات مستضافة في العديد من ورش العمل والندوات ، وأنا مدين للأشخاص التالية أسماؤهم لدعواتهم الكريمة ، وحسن ضيافتهم، وتعليقاتهم المفيدة: ياب فيرهول وهانز بيرتنز من جامعة أوتريخت ، وريتفا ليفو-هندريكسون وكارل نوردنسترينغ من الجمعية الفنلندية لأبحاث الاتصال الجماهيري، والراحل فنسينت توكر من جامعة كورك، وفرانز شورمان وديتليف هاوده من مركز العالم الثالث بجامعة نيخميجن ، وكلايف بارنيت وموراي لو من قسم الجغرافيا بجامعة ريدنغ، وبارباره أوكونور من جامعة مدينة دبلن، ومحمد صالح ويان نيدرفين بياتريس من معهد الدراسات الاجتماعية في لاهاي. وأنا مدين أيضا للأشخاص التالية أسماؤهم بسبب الطرق التي أثّروا بها على طريقة تفكيري في العولمة والثقافة وأثْروها ، بطرق متعددة، وهم مارتن ألبراو، وآش أمين، وأنتوني جيدنز، ولوك غود، وستيوارت هول، وسيز هاملينك، وجيمس لول، وتوني ماكغرو، وغراهام ميردوك، وريناتو أورتيز، ويان آرت شولته، وأنابيل سريبيرني- محمدي، وبيتر تايلور، وكين تومبسون، وجيليان يونغس. أما أعضاء هيئة التدريس في قسم العلوم الإنسانية بجامعة ترينت في نونتغهام، فقد عملوا على توفير بيئة فكرية محفزة لتفكيري وداعمين له بطريقة غير عادية، وذلك طوال فترة عملي معهم خلال السنوات القليلة الماضية، كما استفدت كثيرا من العديد من المناقشات مع أصدقائي وزملائي في مركز CRICC وفي مركز النظرية، والثقافة، والمجتمع، وخصوصا: روجر بروملي، وديبورا تشامبرز، وهوغو دي بورغ، وكريس فاراندس، ومايك فيذرستون، وريتشارد جونسون، وإلينور كوفمان، وعلي محمدي، وبرافاتي راجهورام، وكريس روجيك، وتريسي سكيلتون، وباتريك ويليامز. أما تيري ماكسويني فقد زودتني بدعمها الفائق الجودة في مجال السكرتارية كالمعتاد. ومن جانبها، قامت ريبيكا هاركين من مطبعة بوليتي بتقديم العديد من التعليقات المفيدة على المسودات الأولى للكتاب. وفي النهاية، أود القول بأن آني جونز هي دائما أهم مصادر التحفيز العقلي والنقد الحاد- آه أيتها المحاربة الشقراء (الأخرى)!
بيتر غرايمز: أنا مواطن، تمتد جذوري هنا في الحقول المألوفة، والمستنقعات، والرمال، والشوارع العادية، والريح السائدة... وبفعل حنان نظرة عابرة.
الكابتن بالسترود: كان بوسعك التخلص من هذه المراسي لو كانت لديك الإرادة.
بنيامين بريتن/ مونتاغو سلاتر : بيتر غرايمز
المؤلف
الدكتور جون توملينسون
• بريطاني الجنسية • أستاذ علم الاجتماع الثقافي ، ومدير معهد التحليل الثقافي، نوتنغهام • رئيس وحدة الأبحاث المتعلقة بالدراسات الثقافية ، والإعلامية بجامعة ترينت في نونتغهام • حجة عالمية حول الجوانب الثقافية لعملية العولمة • ألقى العديد من المحاضرات في كثير من الجامعات المرموقة في أوروبا ، والولايات المتحدة وشرق آسيا • عضو هيئة التحرير الاستشارية في العديد من المجلات العاملية • له العديد من الكتب والمقالات المنشورة عالميا
المترجم
الدكتور إيهاب عبد الرحيم محمد
• ولد في جمورية مصر العربية عام 1965 • تخرج في كلية الطب، جامعة أسيوط (مصر)، بمرتبة الشرف عام 1988 • حصل على دبلوم عال في الترجمة من كلية كامبردج (المملكة المتحدة) • حصل على ماجستير في الإعلام الصحي من جامعة كيرتن (أستراليا) • استشاري التقييم النفسي والتدريب على مهارات القيادة بإحدى الشركات المتخصصة في دولة الكويت • عمل كرئيس لقسم التأليف والترجمة في إحدى المنظمات التابعة لجامعة الدول العربية ما بين عامي 1994 و2007 • يشرف على ترجمة وتحرير صفحة يومية متخصصة في صحيفة "الجريدة"- الكويت • المحرر المؤسس لمجلة "تعريب الطب" عام 1997، ومحررها حتى عام 2007 • أشرف على ترجمة وتحرير عدد كبير من الكتب، والمعاجم، والمقالات الطبية والعلمية والاقتصادية • شارك في تأليف ثلاثة كتب هي : ثورات في الطب والعلوم (كتاب العربي رقم 36- 1999)؛ والثقافة العلمية واستشراف المستقبل العربي (كتاب العربي رقم 67- 2007)؛ ودليل الإعلامي العلمي العربي (الرابطة العربية للإعلاميين العلميين، مصر ، 2008). • له من الكتب المترجمة: "كيف نموت؟" (شركة المكتبات الكويتية- 1997)؛ "البحث عن حياة على المريخ" (سلسلة عالم المعرفة، العدد 288، المجلس الوطني للثقافة الفنون والآداب، الكويت، 2002) ؛ "الطاقة للجميع" (سلسلة عالم المعرفة، العدد 321، المجلس الوطني للثقافة الفنون والآداب، الكويت، 2005)؛ "الصحة العقلية في العالم" (المجلس الأعلى للثقافة ، ج.م.ع.، 2006)؛ "مستقبلنا بعد البشري" (مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية، أبو ظبي، إ.ع.م.، 2006)؛ "نحو شركات خضراء" (سلسلة عالم المعرفة، العدد 329، المجلس الوطني للثقافة الفنون والآداب، الكويت، 2006). • له عشرات المقالات الطبية والعلمية المنشورة في دوريات منها: العربي، الثقافة العالمية، علوم وتكنولوجيا، عالم الفكر، العلوم. • عضو الجمعية الدولية للمحررين الطبيين WAME • عضو لجنة الأخلاقيات الطبية بالجمعية شرق المتوسطية للمحررين الطبيين EMAME • عضو شبكة تعريب العلوم الصحية "أحسن"- منظمة الصحة العالمية • عضو مؤسس في الرابطة العربية للإعلاميين العلميين • عضو اتحاد كتاب الإنترنت العرب • عضو الجمعية الدولية للمستقبليات وعدد من الجمعيات العلمية الدولية الأخرى
هذا الكتاب
برغم أن العولمة تمثل اليوم موضوعا لكثير من المناقشات، إلا أن تلك النقاشات كثيرا ما تكون مقتصرة على خطابات معينة ضمن التخصصات العلمية المحددة. وفي هذا الكتاب- ولأول مرة - يتم الجمع بين النظريات الاجتماعية، والدراسات الثقافية في مقاربة واحدة لفهم العولمة.
يبدأ الكتاب بتحليل للعلاقة بين عملية العولمة والتغيرات الثقافية المعاصرة، ثم ينتقل بنا إلى الربط بين هذا وبين النقاشات الدائرة حول الحداثة الثقافية والاجتماعية. ومن الأهمية بمكان بالنسبة للكتاب الذي بين أيدينا، نجد تحليلا بالغ العمق "للتجربة المُعاشة" التي تتسم بالتعقيد وبالغموض في الوقت نفسه.
وفي هذا الكتاب، يجادل المؤلف بأننا نستطيع الآن رؤية نمط عام من تفكك الروابط بين التجربة الثقافية وبين الموقع المكاني الذي نعيش فيه. وتتم مناقشة الطبيعة "غير المستوية" لهذه التجربة ، من حيث علاقتها بمجتمعات العالمين الأول والثالث، إضافة إلى تناول الحجج المتعلقة بتهجين الثقافات ، والدور المميز الذي تلعبه تقنيات الاتصالات والإعلام في عملية "اللاتوطين".
ويختتم كتاب "العولمة والثقافة" بمناقشة للسياسات الثقافية للنزعة الكوزموبوليتانية.
وبأسلوبه السهل الممتنع، يمثل الكتاب الذي بين أيدينا قراءة مفيدة لطلاب علم الاجتماع، والدراسات الإعلامية، والدراسات الثقافية والتواصلية، كما أنه مفيد لكل من يهتم بالقراءة