العرندس، كامل الكيلاني
العرندس، احدى قصص كامل الكيلاني.
زقزوق الخياط
كان – في قديم الزمان – خياط زكي اسمه زقزوق.
وكان يعيش مع زوجه عيشة راضية ( أي: حياة طيبة سعيدة )، ولا يدخر وسعا ( أى: كان يعمك كل ما يستطيع ) في سبيل ارضائها، لأنها كانت لا تدخر وسعا في سبيل ارضائه. وقد عاشا معا في صفاء ( أي: خلو من الهموم ) وابتهاج ( أي: فرح وسرور ).
2 – العرندس
وفي ذات يوم كان زقزوق جالسا في دكانه يخيط بعض الثياب، فمر به رجل احدب أي: في ظهره جزء خارج كسنام الجمل، واسمه: العرندس. وكان ذلك الاحدب ( أي: الجل الذي ارتفع عظم ظهره )، مبتهجا راضيا بعيشته على فقره. فجلس قريبا من دكان زقزوق الخياط، وظل يغني. فابتهج الخياط بغنائه، وطلب منه ان يصحبه إلى بيته، ليدخل السرور عليه وعلى زوجته العزيزة.
3 – في بيت الخياط
ففرح العرندس بذلك، فاستجاب لدعوته مسرورا. ولما جاء المساء، أغلق الخياط دكانه، وذهب إلى بيته مع العرندس.
وظل العرندس يطربهم بغنائه حتى جاء وقت العشاء، فجلس زقزوق وزوجه والعرندس على المائدة يتعشون.
4 – موت العرندس
وكان العرندس يقص عليهما – في اثناء الاكل – قصصا فكاهية مشوقة ( أي: يشتاق اليها من يسمعها )، ويأكل في شره عجيب أعني: يقبل على الطعام ويلتهمه بكثرة يتعجب منها من يراها.
وكان يقذف السمك في جوفه، وهو يتحدث إليهما. وقد انساه الشره ( أي: الحرص الشديد على الاكل ) واجب الحذر. فوقفت سمكة صغيرة في حلقه فخنقته، ومات من فوره.
5 - في بيت الطبيب
ورأى الخياط وزوجه ما حل بالعرندس، فخافا سوء العافية. وفكرا طويلا في وسيلة يتخلصان بها من هذا المأزق. ثم قررا ان يحملا جثته إلى طبيب قريب من بيتهما. فلما بلغا بيت الطبيب قرعا بابه، فنزلت إليهما ادم عجوز، وسألتهما عما يريدانه. فقال لها زقزوق.
اصعدي الى سيدك الطبيب، وخبريه أن معنا طبيبا مشرفاعلى الموت ليسعفه بالعلاج. فصعدت الخادم إلى سيدها، وأيقظته من نومه، وقصت عليه ما سمعت.
6 – حيرة الطبيب
ولم يشأ زقزوق وزوجه أن يضيعا هذه الفرصة، فحملاجثة العرندس، وصعدا السلم، ووضعاها قريبا من باب الغرفة، وعادا مسرعين إلى بيتهما. وخرج الطبيب من غرفته مسرعا، ثم طلب من خادمه أن تحضر المصباح، وكان الظلام حالكا، فلم ير جثة العرندس. فصدمها صدمة عنيفة، فهوت إلى اسفل السلم. وادرك الطبيب خطأه، فنادى أن تسرع في احضار المصباح. وما كاد الطبيب أن يرى جثة هامدة لا حراك بها، هتى امتلأ قلبه رعبا وهلعا، وأيقن ان تسرعه كان السبب في هلاك ذلك المريض.
وحار في امر: ماذا يصنع؟ وكيف يتخلص من هذا المأزق الحرج، حتى لا يعرض نفسه للهلاك؟
7 – في بيت التاجر
جزع الطبيب ( أي: اشتد حزنه ) وارتبك، فذهب إلى زوجه وقص عليها ما حدث له. فاضطربي وقالت له: لا بد من اخراج هذه الجثة المشأومة من بيتنا، والا اتهمنا بقتل صاحبها، وكان الموت جزاءا على هذه التهمة الشنعاء.
وبعد تفكير طويل، اهتدت الزوج الذكية إلى حيلة بارعة للخروج من هذا المأزق الحرج. فتهاونت هي والطبيب والخادم على حمل جثة الرجل إلى سطح جارهم التاجر، حيث سندوا الجثة إلى الحائط، وعادوا إلى بيتهم آمنين.
8 – بين التاجر والعرندس
وبعد قليل عاد التاجر إلى بيته – وكان قد دعى في هذه الليلة إلى حفلة عرس – فلمح رجلا واقفا على سطح منزله.
فأسرع إليه، وأهوى عليه بعصاه الغليظة.حسبه لصا جاء ليسرق من مخزنه، فقال له غاضبا، وهو يضربه بعصاه:
لقد كنت أحسب أن الفيران وبنات عرس هي التي تسرق من مخزني، فإذا بك انت تتسلل في خفية كل ليلة!.
ما كادت الجثة تهوي على الأرض، حتى اسرع اليها التاجر، فرآها بلا حراك. فامتلأ قلبه ذعرا، وحسب ان عصاه هي السبب قي قتل هذا الرجل.
فارتبك وأيقن بالهلاك جزاء ما صنع.
9 – حيلة التاجر
ففكر التاجر في حيلة يتخلص بها من هذا المأزق، فلم يجد امامه إلا أن يحمله على ظهره، ويتخلص من جثته فبل ان يطلع الفجر. فأسرع في تنفيذ ختطه وحمله إلى دكان قريب من بيته. ثم اسنده إلى حائط الدكان، وعاد إلى بيته، وهو لا يكاد يصدق بنجاته.
10 – بين المؤذن والعرندس
وكان هذا الدكان قريبا من مسجد المدينة الكبير. وبعد قليل خرج المؤذن من بيته – وهو على بعد خطوات قليلة من المسجد – ليؤذن أذان الفجر كعادته في كل يوم.
وكان ضعيف البصر، فلم ير العرندس، وداس قدمه، فارتمى جسم العرندس عليه. فخيل له انه لصا يريد ان يفتك به، فانهال عليه ضربا ولكما، وصاح يستغيث بالناس والشرطة. فأسرع إليه الشرطي، وامسك بالعرندس، فرآه جثة هامدة. فقبض على المؤذن، وساقه إلى المخفر، ( أي: دار الشرطة ومركز عساكر الطريقوضباط الامن).
11 – بين يدي الجلاد
ولما جاء الصباح، عرض امره على القاضي، فأمر بصلبه جزاء له على قتل العرندس. وذاع الخبر في انحاء المدينة، فأقبل الناس من كل مكان ليشاهدوا صلب المؤذن المسكين. ووقف القضي ورجال الشرطة أمام المشنقة، وأمر القاضي باحضار المؤذن من السجن، فأحضروه – في الحال – ووضعوا الحبل في عنقه. فأسرع التاجر إلى الجلاد، وصاح فيه بأعلى صوته:
(( تمهل أيها الرجل ! فإن هذا المؤذن لم يقتل احدا، بل انا وحدي القاتل. فلا تأخذوا البرئ بذنب المسئ!)).
فسأله القاضي عن حقيقة الامر، فأخبر عن قصته مع العرندس من اولا إلى آخرها، وكيف قتله بعصاه، ثم حمل جثته ووضعها قريبا من المسجد.
فاقتنع القاضي بصحة ما قال التاجر، وأصدر أمره بصلبه وتبرئة المؤذن.
وما كاد الحلاد أن يضع الحبل في عنق التاجر ويهم بصلبه، حتى أسرع إليه الطبيب. وقد أبى عليه ضميره على أن يأخذ التاجر بذنبه، فصاح في الجلاد: ((حذار أن تقتل التاجر، فهو برئ، ولم يقتل هذا الرجل أحد غيري)).
ثم قص على القاضي قصته، فأمر بصلبه، وما كاد الجلاد يضع الحبل في عنق الطبيب، ويهم بصلبه، حتى اسرع إليه الخياط وصاح قائلا:
((هذا الرجل برئ، وإنما أنا وحدي القاتل)).ثم قص على القاضي قصته، فرأى من الحزم (أي: من الحكمة وحسن التصرف ) أن يرجئ ( أي: يؤخر ) حكمه قليلا.
12 – دهشة السلطان
وعجب القاضي من شجاعا التاجر والطبيب والخياط، ودهش من غرابة ما رأى. ورفع قصتهم إلى السلطان، فاشتد دهشته منها، وحضر بنفسه – ومعه وزيره – وطلب من المتهمين أن يقصوا عليه قصتهم العجيبة، فأخبروه بكل ما حدث لهم.
13 – ذكاء الوزير
فالتفت الوزير إلى السلطان، وقال له: (( يأذن لي مولاي أن أرى هذا الاحدب؟ )). فلما أحضروا العرندس أمامه، أنعم ( أي: دقق ) النظر في وجهه، ثم قال للسلطان مبتسما: (( من العجيب أن هذا الرجل لا يزال حيا حتى الآن ! )). ثم لكمه على ظهره بجمع كفه لكمة قوية، فقفزت السمكة من حلقه، وأفاق من فوره.
14 – خاتمة القصة
فابتهج السلطان بهذه الخاتمة السارة، واعجب بشجاعة المتهمين، ووفائهم، قأمر لكل منهم بمكافأة كبيرة على صدقه ومروءته، واتخذ العرندس نديما ( أي: محدثا ومسامرا ) له منذ ذلك اليوم.