العراق الكويت: الجذور الغزو التحرير - المسرح الدولي والإقليمي والعربي (خلال الفترة من 1980 إلى 1990)

العراق الكويت: الجذور الغزو التحرير - المسرح الدولي والإقليمي والعربي (خلال الفترة من 1980 إلى 1990)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقدمة

على الرغم من أن النظام العربي، قد أخذ يفيق من أزمته الهائلة، الممتدة طوال الفترة من 1978 إلى 1987، فإن التحول الجذري لهيكل السياسة الدولية، قد أظهر ضعف هذا النظام، داخلاً وخارجاً. وسريعاً ما وصلت صحوة النظام العربي، التي بدأت مع مؤتمر القمة العربي غير العادي، التي عُقدت، في عمّان، في الفترة من 8 إلى 11 نوفمبر 1987، إلى ما يشبه الطريق المسدود، بسبب استنفاد فرص وإمكانات الصيغة السياسية، التي نهضت عليها هذه الصحوة، وهي صيغة"تنقية الأجواء العربية". ولم يحدث ذلك بسبب الصعوبات الشديدة، التي أوقفت استكمال تنقية الأجواء العربية، أمام صخرة التنافس السوري ـ العراقي فحسب، بل أصبحت القضية الرئيسية، هي نمط الاستجابة للتغيرات العالمية، التي جلبت تحديات عاصفة للأمن العربي، الفردي والجماعي، وهزت بعنف مكانة العرب، الدولية والإقليمية. لقد كان النظام العربي في حاجة إلى سياسة جديدة، قادرة على الانتقال من الميراث السياسي لفترة الأزمة الطاحنة، التي أعقبت توقيع اتفاقية كامب ديفيد، في 17 سبتمبر 1978، وانفجار الحرب العراقية ـ الإيرانية، في 22 سبتمبر 1980، إلى إستراتيجية موحدة، لمواجهة التهديدات والتحديات، الناجمة عن التحولات في السياسة العالمية، في بداية التسعينيات. وقادرة، كذلك، على صياغة برامج محددة، لضمان اطِّراد تقدم الصحوة القومية، ووضع أُسس انطلاق حقيقية لها. والواقع أن المسألة، لم تُثَر على هذا النحو. فانطوت سياسة"تنقية الأجواء العربية"، على الاعتقاد بكفاية العودة إلى نمط العلاقات العربية، السابقة على الأزمة. وكان من الطبيعي أن يؤدي الاستنفاد السريع لإمكانات فلسفة"التنقية"، إلى وقف عملية الصحوة، في نهاية المطاف. وظهر ذلك واضحاً عندما قرر مؤتمر القمة العربي غير العادي، الذي انعقد في الدار البيضاء، في الفترة من 23 إلى 26 مايو 1989، تكليف لجنة الخبراء بإعادة النظر في مشروع الميثاق الجديد للجامعة. وانتهى الأمر إلى الاقتصار على أمل تعديل الميثاق. ويمكن الربط، بشكل خاص، بين إقدام النظام العراقي على إشعال نيران الحرب ضد إيران، في 22 سبتمبر 1980، وبين إقدامه على غزو الكويت، بعد زهاء عشر سنوات من هذا التاريخ. كانت إرهاصات الغزو، قد تكونت من النتائج المؤلمة للحرب ضد إيران. وإذا كان من الصعب عزل هذا الغزو عن نتائج الحرب العراقية ـ الإيرانية، فإنه من الصعب، كذلك، عزله عن سياقه العربي. لقد أدى النزاع العراقي ـ الإيراني إلى ارتباط العراق، شيئاً فشيئاً، بالدول الغربية، إذ أحس أنه قد أصبح في حاجة إلى مساندة الولايات المتحدة الأمريكية، الراغبة بدورها، في المحافظة على التوازن الإقليمي، وذلك بإمدادها العراق باحتياجاته، من طريق الدول الصديقة لها في منطقة الخليج . وعلى الرغم من الأزمات الاقتصادية الطاحنة، التي بدأ العراق يواجهها، بعد نهاية الحرب، إلاّ أنه ظل يرى نفسه، بل كان يُنظر إليه، على أنه القوة الإقليمية الكبرى. كما ظل على اعتقاده، أن حربه على إيران قد أهلته لقيادة العرب. كان صدام حسين يأمل أن يعترف به الأمريكيون، كزعيم إقليمي للمنطقة، بينما كانت واشنطن تأمل أن"تحتوى طموحاته"، إذا لم يكن في الإمكان"ترويضه فعلاً". وعلى المستوى الإقليمي، كانت منطقة الشرق الأوسط، بما فيها العالم العربي، في مرحلة فوضى شديدة. وكان في بعض أجزائه يعاني الاقتتال، في حروب أهلية، أو خلافات وصل بعضها إلى حدّ الصراع المسلح. وكان الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لا يزال دائراً، تستحضره، في الدرجة الأولى، انتفاضة الشعب الفلسطيني، التي مست وجدان الأمة، وحركت مشاعر غضبها، بصرف النظر عما إذا كان هذا الغضب قادراً على الوصول، بشحنته، إلى نتيجة، أو كان عاجزاً عن ذلك. وبدا، مع ازدياد معدلات هجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل، أن الأخطار تتفاقم، من دون رادع حقيقي، يستطيع حصرها، فضلاً عن استطاعة ردّها. وكانت المشكلة الحقيقية، أن قلب العالم العربي وعقله، وإمكاناته وقدرته على إدارة الصراع، باتت، جميعاً، موزعة وممزقة. فقد اختارت مصر، لأسباب منطقية، من وجهة نظرها، أن تعقد صلحاً مع إسرائيل. وبتوقيع معاهدة كامب ديفيد، كانت مصر في جانب، بينما وقف معظم شعوب الأمة العربية في جانب آخر. وبهذا التباعد في المسافات، داخل العالم العربي، نشأ فراغ، لم يكن هناك سبيل لتعويضه. وظهرت ثلاثة تجمعات إقليمية: مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي ركز دوره في حماية دوله. والاتحاد المغاربي، الذي بدأ مهموماً بأوروبا، على الساحل الآخر من البحر الأبيض المتوسط. ثم مجلس التعاون العربي، الذي خيل إليه أنه يمثل طموح الأمة العربية، بينما الواقع أنه لم يمثل غير طموحات فردية، لم تلبث أن اختلفت فيما بينها وتنازعت. ولم تستطع هذه المجالس، أن تستوعب آمال الأمة العربية وأحلامها، كما أنها لم تستطع أن تلمّ شتات الوطن العربي الممزق. ووجدت الأمة العربية نفسها أمام طريق مسدود. كانت هذه المقدمة البسيطة تمهيداً لتناول الموقف، الإقليمي والعربي، قبْل الغزو العراقي للكويت، في 2 أغسطس 1990، خلال عقد من الزمان، قبْل هذا الحدث. ولذلك، يتحتم تناول أهم الأحداث، خلال هذا العقد، التي أثّرت في طرفَي الصراع، وتأثرت بهما، في مبحثَين. يخصص أولهما لدراسة المسرح بشكل عام، مع التركيز في أبرز الأحداث والمواقف والعلاقات، في محيط هذا المسرح. ويخصص المبحث الثاني لدراسة كيفية استغلال النظام العراقي أحداث المسرح السياسي، قبْل غزو الكويت بعام ونصف، أي خلال الفترة من أول يناير 1989 وحتى أول أغسطس 1990، وهو ما يحتاج إلى التعمق في هذه الأحداث والتركيز في أهمها، تلك التي كان لها تأثير مباشر في قرار الغزو العراقي، حين كان كل القوى، الدولية والإقليمية والعربية، مشغولة بأحداث عالمية، ظهرت على السطح خلال هذه الفترة، ترتب عليها انتهاء الحرب الباردة، ودخول العالم كله في فلك نظام جديد، انفردت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم، بعد خروج الاتحاد السوفيتي من حلبة الصراع مشتتاً، مقسماً، مفككاً.


المبحث الأول: الموقف العربي ـ الإقليمي

أولاً: الفراغ السياسي في المنطقة العربية

كان العالم العربي يعيش، خلال هذه الحقبة، حالة من الفوضى السياسية، لم يكن منشؤها اختفاء العدو، الذي يهدد الأمن القومي العربي، وإنما اضطراب المعادلة التي نشأ عليها الأمن القومي العربي، بانهيار الاتحاد السوفيتي، الذي دخل إلى المنطقة، بصفقة السلاح مع مصر، عام 1955، ثم أصبح، بعدها، عاملاً رئيسياً في كل الحسابات العربية، أثناء معركة السويس (1956)، وحرب يونيه (1967)، وحرب أكتوبر (1973). كما كان سنداً للقضية الفلسطينية وغيرها. كان سلاحه حاضراً، وكان اقتصاده متعاوناً، وكانت مواقفه ودية، خصوصاً إذا قورنت بمواقف غيره من القوى الدولية. وفجأة، بدأ الاتحاد السوفيتي يخرج من معادلة الصراع في الشرق الأوسط، ويترك محله فراغاً كبيراً. وفي الوقت عينه، تقريباً، كانت مصر، كذلك، قد ابتعدت، ظاهرياً، عن قلب الصراع العربي ـ الإسرائيلي في الشرق الأوسط، بعد اتفاقية كامب ديفيد. وأدى ذلك، بدوره، إلى فراغ . وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية، أن تملأ هذا الفراغ، فتقدمت إلى دور، انفتحت أبوابه لها. ولأن سياستها في التجربة العربية المعاصرة، لم تكن متوازنة، ولا عادلة، في نظر أغلبية ساحقة من العرب، فإن الدخول الأمريكي إلى المنطقة، بعد انفراد واشنطن، بالقوة على قمة العالم، زاد من حدّة الفوضى في المنطقة، ولم يقلل منها. أضف إلى ذلك، أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقدمت من أوسع الأبواب، عائدة إلى الشرق الأوسط، كانت هي نفسها في حالة حيرة أمنية، وتخبط إستراتيجي. وكانت دول الخليج تزداد انطواء على نفسها، وتحاول أن تحتفظ لنفسها بنفطها، مع إحساس بحالة الفراغ والفوضى، التي أطبقت على المنطقة كلها. وكانت هذه الدول تشعر أن التغيرات، الطارئة على العالم هي جميعاً في مصلحتها، فالذي انتصر في الصراع الدولي، هو الطرف الذي يساعدها، ويقدم إليها العون لكونه المستفيد الأول من مواردها. فانتصار هذا النظام، هو، في جزء منه، انتصار لها. كان العراق في وضع خطر. فقد انتهت الحرب العراقية ـ الإيرانية، عندما اقتنع آية الله الخميني، أن استمرارها أصبح غير ممكن. وأدى الانهيار المفاجئ لإيران إلى مشاعر متناقضة في بغداد. وبشكل ما، فإن العراق أحس بالفراغ المباشر، نتيجة لتوقف حرب، شغلته واستغرقته، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ونفسياً. وبتوقف المعارك، بدأت قوة العراق تواجه نوعاً من البطالة قريب الشبه بالفراغ، الذي دهم القوات المسلحة الأمريكية، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وما كان يشكله من تهديد كبير. ومن جهة أخرى، فإن الفراغ العربي العام، الذي غطى المنطقة كلها، أغرى العراق إلى التطلع إلى دور إقليمي، أوسع من حدوده وإمكاناته، المادية والمعنوية. وكانت تلك هي الفترة، التي شهدت تكوين التجمعات الإقليمية، ربما رداً على التجمع الأول، مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي أنشئ في 25 مايو 1981، فنشأ مجلس التعاون العربي في 16 فبراير 1989، والاتحاد المغاربي في 17 فبراير 1989. إن فكرة إنشاء مجالس للتعاون الإقليمي، بين أجزاء العالم العربي المتلاصقة، لم تكن جديدة. فقد ظهرت، في الواقع، قبْل إنشاء الجامعة العربية، ثم جرى الترويج لها، في بعض الأحيان، كبديل منها. وفي وقت من الأوقات، اعتمدتها هيئات المعونة والتنمية، الدولية، ولا سيما الغربية منها، كأساس لنشاطها في المنطقة. كانت الفكرة تقول إنه ليس هناك عالم عربي واحد، ولكن هناك أربعة عوالم، لكل منها خصوصيته وقاعدته وشبكة علاقاته الطبيعية: 1. شبه الجزيرة العربية عالم وحده، له خصوصيته. ومفتاحه الرياض. 2. والهلال الخصيب عالم ثانٍ وحده، له خصوصيته. ومفتاحه دمشق. 3. والمغرب العربي عالم ثالث وحده، له خصوصيته. ومفتاحه الرباط. 4. ووادي النيل (مصر والسودان)، عالم رابع وحده، له خصوصيته. ومفتاحه القاهرة. وقد عادت هذه الفكرة تتردد أثناء أزمات الجامعة العربية المتكررة. ونوقشت، مرة، في مجلس الوزراء المصري، عام 1962. وكان رأي جمال عبدالناصر فيها،"أنها محاولة لتقسيم الأمة العربية، وعزل مصر، على وجه التحديد، وإبطال دورها، وجعلها، بمفردها، في مواجَهة إسرائيل". والحقيقة أن توازنات القوة الداخلية في العالم العربي، في حقبة الثمانينيات والتسعينيات، قد تغيرت، وأصبح من الصعب عليها دفع العمل العربي العام. وقد أجرى مركز دراسات الوحدة العربية دراسة عن المستقبل العربي، استغرق إعدادها خمس سنوات، واشترك فيها مئات من المفكرين وأساتذة الجامعات العرب. وكان ممّا توصلوا إليه، تأسيساً على مجموعة من المؤشرات، الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية والعسكرية ـ أن"دولة واحدة، وهي مصر، كان في استطاعتها أن تقود، في الخمسينيات والستينيات. ولكن تغيّر الموازين أثر في هذا الوضع، وأصبح يحتاج إلى قيادة مشتركة للعمل العربي، لا تستطيع دولة واحدة أن تنهض بمسؤولياتها ـ بحكم الحقائق". لقد بدأت سلسلة المجالس الإقليمية بمجلس التعاون لدول الخليج العربية. ولم يكن في ذلك غرابـة، ولا عجب. فدول الخليج كلها، يضمها رباط النفط. إضافة إلى الروابط الدينية والتاريخية والثقافية، ولذلك، فقد كان سهلاً على الجميع، أن يلتقوا في تنظيم إقليمي واحد. ولم يكن مفاجئاً، أن يحدث ذلك عام 1981، كرد فعل مباشر إزاء نجاح الثورة الإسلامية في إيران، في الأول من أبريل 1979. وفي لحظة من اللحظات، ظن العراق أن باب التعاون مع دول الخليج، مفتوح له، بحكم وقوفه في الصف الأول، أمام إيران. وتبيّن، بعد قليل، أن ظنه، لم يكن له أساس؛ فقد حضر اجتماعاً واحداً، في التمهيد لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، ثم استبعد، بعد ذلك. وربما كان ذلك هو الوضع نفسه، بالنسبة إلى فكرة إنشاء تجمّع آخر في شمالي أفريقيا؛ وهو التجمع الذي حركته دعوة الوحدة المغاربية. كانت الفكرة سابقة، من أيام الكفاح في طلب الاستقلال. وبعده، ظلت معلقة، يعلو صوت الدعوة إليها، أحياناً، ويخفت، في أحيان أخرى، مسايرة لتقلبات الظروف في العالم العربي. وعندما تراخت قوة الجذب بين المشرق والمغرب في العالم العربي، ثم عندما بدأ الحديث والتخطيط والتنفيذ لسوق أوروبية موحدة ـ فإن دول المغرب العربي، التي كانت تستشعر مدى ارتباطها الاقتصادي بأوروبا الغربية، عادت إلى فكرة الوحدة المغاربية، كوسيلة لتنظيم علاقاتها بأوروبا الموحَّدة. وكانت هذه العلاقات متشابكة، من الزراعة إلى الصناعة إلى العمالة إلى الاتصالات. وهكذا، فإن الوحدة المغاربية، التي أُعلن تأسيسها في 17 فبراير 1989، بدت، هي الأخرى، في إطارها الخاص، إفرازاً طبيعياً لواقع حال من نوع مختلف. ولقد كان الداعي إلى الحيرة والتساؤل، بالفعل، هو فكرة مجلس التعاون العربي، الذي ظهر، فجأة، على المسرح العربي عام 1989، وطرح نفسه، بسرعة، على جماهير عربية، لم تعرف كيف تكّيف نفسها ومشاعرها إزاءه. وقد ظهرت فكرة هذا المجلس، ابتداء، في عمّان، ومنها انتقلت إلى بغداد، ثم وصلت إلى القاهرة. ومن الواضح أن المجلس كان خطوة غير موفقة؛ فلا تواصل جغرافي بين أطرافه، ولا تلاؤم بين قياداته، فضلاً عن أن الأهداف بين الأطراف، ليست متجانسة، بل لعلها كانت أقرب إلى الاختلاف منها إلى الاتفاق أو التجانس. فقد كان ظاهراً، أن هدف الأردن، هو مواجَهة أزمته الاقتصادية ونتائجها السياسية المحتملة. كما أن هدف العراق كان مواجَهة ظروف ما بعد حربه على إيران وأثرها. أمّا هدف مصر، فكان كسر طوق العزلة، والدخول إلى العمل العربي من أي باب، قد يؤدي إلى اجتياز بعض مشكلاتها. وكذلك اليمن، كان يبحث عن مطالب أمنية، ومطالب اقتصادية. ولعل هجوم النظام العراقي على الأنظمة السياسية في الخليج، خاصة على المملكة العربية السعودية، كان انتقاماً من مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لرفضه عضوية العراق فيه، مما عدته بغداد إهانة شديدة، وُجّهت إليها. وانطلاقاً من ذلك الإطار، بادر النظام العراقي إلى الدعوة إلى إنشاء مجلس التعاون العربي، الذي تأسس في 16 فبراير 1989، ليكون وسيلة ضغط على دول الخليج العربية، لتحقيق هيمنة العراق. وقد حاولت بغداد استدراج مصر، من خلال عضويتها في المجلس، إلى إنشاء قوة عسكرية مشتركة، على أساس أن مصر والعراق، يمثلان أكبر قوتين عسكريتين في المنطقة. غير أن القاهرة رفضت رفضاً باتاً، أن يكون للمجلس بُعدٌ عسكري أو استخباري، وأصرّت على أن تنحصر أهدافه في المجالات الاقتصادية فحسب. ومع ذلك، فقد وجد النظام العراقي تأييداً من بقية دول المجلس، إذ كان الأردن مستاء من خفض المساعدات المالية، التي كان يتلقاها من بعض دول الخليج العربية، كما وجد اليمن، في تسوية منازعات الحدود، السياسية، بين المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان، في منطقة الربع الخالي، إغفالاً واضحاً لحقوقه التاريخية ـ من وجهة نظره ـ في تلك المنطقة. في هذا الإطار، الفكري والسياسي، جرى طرح مشروع مجلس التعاون العربي. وبنظرة واحدة إليه، تتبدى حقيقة كونه مجمعاً للمشاكل أكثر منه مجلساً للتعاون. وفي الحصيلة النهائية، فإن المجالس الثلاثة للتعاون الإقليمي، بدت وكأنها ثلاث قفزات، كلٌّ منها في اتجاه مختلف. فمجلس التعاون لدول الخليج العربية، تجمّع لدول الخليج العربي، الغنية، المشغولة بمصالحها، في نطاق المنطقة. ومجلس التعاون العربي، تجمّع للدول التي تعاني مشاكل اقتصادية، وتضغط عليها المشاكل والضرورات. ومجلس الاتحاد المغاربي، تجمّع لدول البر الأفريقي الشمالي، التي تؤقلم نفسها مع البر الأوروبي الجنوبي، ودونهما بحر فاصل مانع، بالموافقات والاتفاقات والمعاهدات، التي قد تلائم دولة أو اثنتين، ولا تلائم الباقيات. إن هذه المجالس كلها، تفتقد التأييد الشعبي الكامل. وإن الدول العربية في أشد الحاجة إلى تجمّع، اقتصادي وسياسي، يلمّ كل أجزاء الأمة العربية، في وحدة اقتصادية شاملة، ثم وحدة سياسية وعسكرية. وللأسف الشديد، كان العالم العربي خلال الثمانينيات، في أسوأ حالاته، منقسماً، في الظاهر وفي الباطن، ومتضارباً في النيات، وكلها غامضة، ومنهمكاً في المظاهر، والأزمة تأخذ بخناق الجميع، اقتصادية وعسكرية وسياسية وفكرية، بل إنسانية، كذلك.

ثانياً. الحرب العراقية ـ الإيرانية، وموقف الكويت منها

حرصت الكويت، قبَيل نشوب الحرب العراقية ـ الإيرانية، على إزالة أسباب التوتر بين بغداد وطهران، مدركة الخطر، الذي قد ينجم عن مواجهة عسكرية بينهما. ودأبت الكويت في مساعيها، بعد نشوب الحرب، سواء بجهودها الفردية، أو من خلال دورها في المنظمات، الإسلامية والعربية والخليجية، بل سعت إلى تشكيل محكمة عدل إسلامية، للنظر في القضايا، التي يواجهها العالم الإسلامي، ومنها الحرب العراقية ـ الإيرانية.(أُنظر وثيقة بيان الشيخ صباح الأحمد الصياح، نائب رئيس الوزراء، وزير خارجية الكويت أمام مجلس الأمة الكويتي في 20 مارس 1984، في شأن الجهود التي بذلتها الكويت في وضع حد للحرب العراقية ـ الإيرانية وقد تحددت العناصر الرئيسية، في توجهات الكويت الرافضة لاستمرار الحرب، في إدراكها ما سوف يترتب عليها، من إتاحة الفرصة لتدخّل القوى الأجنبية في شؤون المنطقة. ومن ثَمّ كان تأييدها العراق، في ما كان يعلنه دوماً، من استجابته لكافة جهود الوساطة، لوضع حدّ لهذه الحرب. بينما اتخذت إيران موقفاً متصلباً، بل أخذت تهدد دول الخليج العربية. ولذلك، لم تتردد الكويت في السماح للعراق بأن يصل إلى موانئها العميقة ومياهها الإقليمية، حتى يتمكن من تصدير موارده النفطية، التي تعرض جانب كبير منها للاختناق، من جراء محاصرة إيران لموانئ تصدير النفط العراقي. وإضافة إلى ذلك، قدمت الكويت قرضاً إلى العراق، وصل إلى أربعة مليارات من الدولارات، دفع منه مبلغ مليارين، عام 1981، واستمرت القروض والمساعدات المالية الكويتية، تتدفق إلى العراق على الرغم مما تعرضت له الكويت من أزمات، اقتصادية ومالية، طاحنة، خلال حقبة الثمانينيات. وفي الكويت، كانت النظرة إلى الحرب العراقية ـ الإيرانية متعددة الرَّؤَى والاتجاهات. ففي الجانب الإيجابي، صرفت الحرب انتباه الدولتَين المتحاربتَين بعيداً عن الكويت. فالدولة التقليدية الطامعة (العراق)، قد تغيّر من تشددها إزاء الكويت، لمواجهة قضايا أكثر إلحاحاً، وقد تجعلها نتائج الحرب أكثر ضعفاً وخضوعاً. وعلى الطرف الآخر، فإن دخول النظام الثوري الجديد (إيران)، في حرب غير معروفة المستقبل، قد يستنفد حماسته الثورية. وعلى الجانب السلبي، فقد كان لهذه الحرب نتائج رهيبة، بالنسبة إلى الكويت. إذ تقع منطقة الحرب على مسافة، تقلّ عن 150 كم من مدينة الكويت، مما يؤثر في الشعب الكويتي. إضافة إلى أن موقف الكويت الرسمي، مهْما كان، لن يروق لطائفة من المواطنين، وربما لقوى إقليمية، كذلك. فضلاً عن أن الازدهار، الاقتصادي والتجاري، الكويتي، اعتمد، إلى حدّ ما، على التصدير التجاري لكلا الطرفَين المتحاربين، وعلى سهولة شحن النفط الخام، فتراجعت تجارة الكويت حوالي ثلث حجمها. وأخيراً، فإنه قد يكون للحرب نتائج وعواقب غير متوقعة، بالنسبة إلى الكويت ودول الخليج. وخير مثل على ذلك سقوط الفاو في يد إيران، وازدياد قلق الدول العربية الخليجية ومخاوفها من سقوط العراق، وسقوطها وفي مقدمتها الكويت. فالعراق يقف في خط المواجَهة الأمامي ضد إيران، وتليه الكويت، في الخط الثاني. لذلك، واجهت الكويت خيارات صعبة، وبدت كما لو كانت تمشي على خيط رفيع. فحافظت، رسمياً، على الحياد الظاهري، لكنها، وبشكل غير رسمي، تعاطفت مع العراق، وساندته بطرق شتى، إلى درجة الميل والانحياز. والتزمت الكويت باتفاقيتَي الترانزيت (1972، 1978) مع العراق، لشحن المعدات إليه، التجارية والعسكرية، من الموانئ الكويتية. وهكذا، بررت الاتفاقيتان الموقف الكويتي. وكذلك، أظهر استخدام العراق لميناءي الشويخ والشعيبة، بشكل غير مباشر، عدم حاجته إلى تسهيلات بحرية في الجزر الكويتية. إضافة إلى أن الكويت، وتحت الضغط العراقي، وكجزء من إعانة دول الخليج العربية للمجهود الحربي العراقي، قدمت ما تراوح قيمته بين 13 و15 مليار دولار أمريكي، في صورة معونات"مالية ـ سياسية"، غير قابلة للاسترجاع، ما بين 1980 و1988، منها 8 مليارات، على شكل نقدي مباشر. وعندما أغلقت خطوط الأنابيب النفطية العراقية، عبْر الأراضي السورية، في أواخر عام 1982، وافقت الكويت والمملكة العربية السعودية على بيع ما يراوح بين 300 ألف و 350 ألف برميل نفط، يومياً، في المنطقة المحايدة المشتركة، في مصلحة العراق. وقدِّرت حصة الكويت في هذه الإعانة، خلال الفترة من 1983 إلى 1988، بـ 7.2 مليارات دولار. كما قدمت المصارف الكويتية قروضاً إلى نظيراتها العراقية، بمبلغ يصل إلى مليار دولار. ومن المؤشرات الرئيسية الأخرى إلى الانحياز الكويتي تجاه العراق، النبرة القومية، في الحرب، الإعلامية والدعائية، في الصحف الكويتية ووسائل الإعلام الأخرى، المنحازة، بشكل قاطع، نحو العراق، والمتبنية لتفسيره للحرب وتطوراتها. ويمكن إدراك أن خلق المناخ المؤيد للعراق، في الصحافة الكويتية، كان نتيجة لعدة عوامل، قد تتضمن التعاطف والشعور القومي العربي، أو وقوع الصحافة الكويتية تحت سيطرة الخوف من إجراءات انتقامية، أو وقوعها في مصيدة الرشوة. ومما لا شك فيه، أن المساعدات الكويتية، سواء منها المالية أو العسكرية أو الإعلامية، أسهمت في تعظيم قدرات العراق الحربية ضد إيران، والصرف بإسراف على القطاعات، المدنية والإنسانية. وقد أدّى تأييد الكويت المطلق للعراق، إلى إثارة إيران. ومن ثَمّ، أصبحت الكويت هدفاً للاعتداءات الإيرانية المتكررة، التي ألحقت أضراراً بالغة بأمنها القومي وبمنشآتها الحيوية. وعلى الرغم من الدور الكويتي الإيجابي في مساندة العراق، إلاّ أن الكويت، رفضت استخدام جزيرتَي وربة وبوبيان، من قِبل العراق، في العمليات العسكرية ضد إيران. وكانت بغداد تتوق إلى استخدامهما، لأهميتهما الإستراتيجية، خاصة بعد سيطرة إيران على شبه جزيرة الفاو، عام 1986. وفي حين رأى العراق موقف الكويت تعنتاً، لا مبرر له، كانت الكويت شديدة التمسك بجزيرتَيها، كما كانت تعي أن استخدامهما في عمليات عسكرية ضد إيران، يعني دخولها المباشر، كطرف في الحرب العراقية ـ الإيرانية. ومع ذلك، فإن المساعدات، المادية والمعنوية، التي قدمتها الكويت إلى العراق، أدّت إلى توثيق العلاقات بينهما. ومع تزايد الضغوط، أخذت السياسات الإقليمية بُعداً جديداً، وشعرت الكويت بأنها واقعة بين فكَّي كماشة الطرفَين المتنافسَين، العراق وإيران، وبعدم قدرتها، منفردة، على حماية نفسها من التهديدات الخارجية، ناهيك من التخريب الداخلي الذي أصابها.(أُنظر جدول الأعمال العدائية الإيرانية ضد السفن الكويتية، والأعمال الإرهابية والتخريبية الإيرانية في الكويت خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980ـ 1988) وأثرت الثورة في طهران، والحرب بين العراق وإيران، في توجهات التنسيق بين الأنظمة التقليدية الخليجية، فضاق حيز الشك أو التحفظات من إمكانية تطبيق أمن جماعي، وتأسيس التعاون، ضمن إطار مؤسس ورسمي. وولد مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بناء على رغبة حقيقية في التعاون وفي توفير متطلبات السياسة الواقعية، لحماية الدول الأعضاء ومجتمعاتها، من التهديدات غير التقليدية؛ إذ إن العناصر الجغرافية، والمقومات الاقتصادية، والتماثل الاجتماعي، وتشابه الأنظمة السياسية، تجعل ظاهرة التكامل ضرورة حتمية.

ثالثاً: مجلس التعاون لدول الخليج العربية

برز مجلس التعاون لدول الخليج العربية، كأحد التجمعات العربية الإقليمية، في عالم، اتّسم بالمتغيرات الحادّة، وبروز تجمعات، اقتصادية وسياسية، كبيرة، وانتهاء دور الكيانات الصغيرة التي فقدت شأنها في عالمنا المعاصر. والحقيقة، أن إنشاء المجلس، كان يستند إلى العديد من الدوافع. لعل من أهمها اتجاه دول الخليج العربية، إزاء تصاعد الحرب الباردة، بين الدولتَين العظميَين، إلى البحث عن إطار للتعاون والأمن الجماعي فيما بينها، وذلك بعد أن أصبح مفهوم أمن الخليج مرتبطاً، في نظر كلٍّ من المعسكَرين المتصارعَين، بمصالحه الخاصة، مما حدا بدول الخليج العربية على التأكيد، صراحة، أن الصراع بين هاتَين القوّتَين العظمتَين في المنطقة قد يهدد أمنها. وارتكز مفهومها لأمن الخليج على حماية بنائها الاجتماعي، والمحافظة على أنظمتها السياسية، وفض الخلافات القائمة بينها، إلى جانب تنقية الأجواء العربية، وحسبان استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، في مقدمة الأخطار، المهددِّة للأمن والاستقرار في المنطقة. وانطلاقاً من ذلك المفهوم، أخذت تلك الدول تظهر ردود فعل مضادّة، وذلك بتأكيد قدرتها الذاتية على حماية أمنها، وأن مواردها هي حق طبيعي لشعوبها. وأعلنت عن رفضها الصريح للمشروعات الأمريكية والسوفيتية في المنطقة، التي كان من شأنها إثارة القلق والمخاوف، في ظل حملات الدعاية المتبادلة، وتحميل كل طرف مسؤولية تهديد الأمن للطرف الآخر. ومن ثَمّ، كان اتجاه دول الخليج العربية إلى تنمية قدراتها الذاتية على الدفاع عن النفس، وتأكيد أن أمن الخليج، يخص دوله وشعوبه. ويقيناً، أن هذا الاتجاه، الذي ظهر في السياسة الخليجية، منذ بداية الثمانينيات، كان مقدراً له أن يتطور تطوراً إيجابياً. بيْد أن تلك السياسة، تأثرت نتيجة الغزو العراقي للكويت. إضافة إلى الظروف الدولية، التي كانت تشهدها منطقة الخليج العربي، في بداية حقبة الثمانينيات، كان للظروف الإقليمية، كذلك، التي عاشتها المنطقة بصفة خاصة، والمنطقة العربية بصفة عامة، دور كبير في الدوافع إلى تأسيس المجلس. وأغلب الظن، أن التحرك الخليجي نحو التجمع، قد انطلق من عاملَين رئيسيَّين: 1. أولهما، التحولات، السياسية والاقتصادية، التي طرأت على دول الخليج العربية، وبما أتاحته لها ثرواتها، من القدرة على التأثير في مجريات السياسة العربية. ومن ثَمّ، برزت تلك الدول كمراكز قوى، سياسية واقتصادية، مؤثرة. ويكفي الإشارة، في هذا المقام، إلى ما ترتب على استخدام سلاح النفط، وقطع الإمدادات النفطية عن الدول المؤيدة لإسرائيل، خلال حرب أكتوبر 1973، وفي أعقابها، من تحوّل دول الخليج العربية، من أطراف هامشية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، إلى أطراف فاعلة فيه. 2. أمّا العامل الآخر، الذي ساعد على التجمع الخليجي، فيرجع إلى ما أدركته تلك الدول من حتمية انضوائها إلى تنظيم إقليمي واحد، للوقوف في وجه الهيمنة الإيرانية صفاً واحداً، والوقوف ضد تنامي الدور العراقي في الخليج، خاصة بعد التطورات، التي طرأت على الساحة الخليجية، في آفاق الثمانينيات، حين أصبح مسرح الخليج، مجالاً خصباً للثورة الإسلامية الإيرانية، التي وصلت إلى السلطة، في الأول من أبريل 1979، وما أعقبها من نشوب الحرب العراقية ـ الإيرانية في العام التالي. لقد ترتب على هذَين الحدثَين الإقليميَّين الكبيرَين، دفع مسيرة التجمع الخليجي العربي، إذ إنه على الرغم مما أدّت إليه الثورة الإيرانية من سقوط النظام الشاهنشاهي، وقيام نظام إسلامي، إلاّ أن دول الخليج العربية، ظلت تستشعر الأخطار، التي تتهددها، إثر تجدد الادعاءات الإيرانية في شأن دولة البحرين، واتجاه إيران إلى تصدير ثورتها، واستمرار سياستها التوسعية الإقليمية، واتخاذها بُعداً قومياً. ومن جهة أخرى، فقد ترتب على نشوب الحرب العراقية ـ الإيرانية، تزايد المخاوف من احتمالات تعرض دول الخليج العربية لأخطار أمنية، بسبب مجاورتها لمسرح العمليات العسكرية، وما يعنيه ذلك من امتداد الحرب إلى أراضيها، أو تهديد مصالحها. وظهر ذلك واضحاً، حين أخذت الكويت والمملكة العربية السعودية، تتعرضان لسلسلة من الاعتداءات الإيرانية، وما أدّت إليه تداعيات تلك الحرب من تهديد للملاحة في الخليج. فضلاً عن ذلك، فإن تصاعد العمليات العسكرية بين الدولتَين، أدى إلى عزلتهما عن الساحة الخليجية، مما يعني تغليب الدور، الذي كان على دول الخليج العربية أن تضطلع به؛ إذ إن انشغال العراق وإيران عن الاهتمامات الخليجية، كان يعني التخفيف من ضغوطهما، ومن ثَمّ، كان المجال مفتوحاً لكي تمارس دول الخليج العربية دوراً أكبر في حرية حركتها. وتحسباً من تلك الدول لانتصار أي من القوّتَين، وانعكاس ذلك على أوضاعها الأمنية، كانت حتمية التجمع، لما يتيحه لها ذلك من إمكانية التعامل مع القوة المنتصرة، من موقع الندية، وعدم إتاحة الفرصة أمام أيٍّ منهما لممارسة دور الهيمنة، السياسية أو العسكرية، على المنطقة، خاصة أن العراق، كان يتخذ من النظام الشمولي أساساً له، وإيران تطرح الأيديولوجية الثورية الإسلامية، المعادية للأنظمة السياسية، القائمة في دول الخليج العربية .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

درع الجزيرة

لقد وضع مجلس التعاون لدول الخليج العربية، في قائمة أولوياته، أهمية تحقيق التكامل والتنسيق الاقتصادي الجماعي؛ إذ في 11 نوفمبر 1981، وُقِّعت اتفاقية اقتصادية موحدة، احتوت على 28 مادة. اعتنت في موادها السبع الأولى بالتبادل التجاري. وفي المادتَين الثامنة والتاسعة، بحُرية العمل وانتقال رؤوس الأموال والتملك وتوحيد التعريفة الجمركية. ومن المادة العاشرة إلى الثالثة عشرة، ركزت في التنسيق الائتماني. ومن المادة الرابعة عشرة إلى السابعة عشرة في التعاون الفني. ومن المادة الثامنة عشرة إلى المادة العشرين في النقل والمواصلات. ومن المادة الحادية والعشرين إلى المادة الثالثة والعشرين في التعاون المالي، والنقدي. والمواد الخمس الأخيرة، خصصت للأحكام الجنائية. وتبعتها، بدءاً من عام 1983، قرارات من المجلس الأعلى في شأن الشروع في الخطوات التنفيذية لهذه الاتفاقية. غير أن اهتمامات المجلس، لم تلبث أن تحولت إلى الشؤون الأمنية. ويرجع ذلك إلى تطور الأحداث، في السنوات الأولى، التي أعقبت تأسيسه. ويمكن تحديد عام 1982 بداية لذلك التحول؛ إذ إنه في قِمة المجلس الثانية، التي عقدت في الرياض، في 10 نوفمبر 1981، قرر المجلس دعوة وزراء الدفاع إلى الاجتماع، من أجْل تحديد الأولويات، التي تحتاج إليها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لتأمين استقلالها وسيادتها، نتيجة لما تكبده العراق من هزائم أمام إيران، في بداية الحرب، ونتيجة للاضطرابات الداخلية، التي تعرّض لها بعض دول الخليج العربية، ولا سيما البحرين. يضاف إلى ذلك النفوذ السوفيتي، في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية (اليمن الجنوبي) وأفغانستان. فضلاً عن تعرّض المنطقة لضغوط من الأنظمة اليسارية، مع توتر العلاقات بين بعض دول المجلس والولايات المتحدة الأمريكية. ومع تنامي الأخطار الأمنية، اتُّفق في مؤتمر القمة الثالثة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، الذي انعقد في المنامة (البحرين)، في 9 نوفمبر 1982، على إقرار توصيات وزراء دفاع دول المجلس، الهادفة إلى إنشاء قوة عسكرية خليجية، قوامها 10 آلاف جندي، شاركت فيها دول الخليج العربية الست، واتخذت من حفر الباطن، على الحدود السعودية ـ الكويتية، مركزاً لها، وحملت اسم قوات"درع الجزيرة"(Peninsula Shield). وقد ارتبط تشكيل هذه القوة باستمرار ما كانت تتعرض له دول الخليج العربية، من تهديدات، داخلية وخارجية، في الوقت الذي تعاني فيه خللاً سكانياً، واتساعاً صحراوياً، مع عدم وجود عوائق طبيعية، مما يقلل القدرة الذاتية لكل دولة في الدفاع عن نفسها من دون التعاون والتنسيق مع غيرها. ومع توالي الأحداث، كان يتعين على دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أن تضع تصوراً إستراتيجياً، يتناول أوضاعها الأمنية، مما جعل أغلب مؤتمرات المجلس، على مختلف مستوياتها، تضع قضية أمن الخليج على رأس جدول أعمالها. ومع ذلك، لم تتوصل دول الخليج العربية إلى اتفاقية شاملة، في هذا المجال، ويعزَى ذلك إلى الخلافات والمنازعات الحدودية بين دول المجلس، واختلاف وجهات نظر الدول في شأن المسائل الأمنية. ازدادت الأنشطة العسكرية المشتركة، بين الدول الست لمجلس التعاون لدول الخليج العربية. ففي منتصف 1983، بادر المجلس إلى إنشاء قوة"درع الجزيرة". وفي نوفمبر 1983، كان هناك مناورات جوية، بين الكويت والمملكة العربية السعودية. وفي فبراير وأبريل 1984، نُفذت مناورات جوية عُمانية ـ إماراتية. وفي أبريل 1984، نُفذت مناورات جوية مشتركة، بين الكويت والبحرين وقطَر والمملكة العربية السعودية. وفي يناير 1985، اشتركت الكويت وقطَر في مناورات بحرية. وفي مارس 1985، نُفذت مناورات جوية عُمانية ـ كويتية. وفي أبريل 1985، نُفذت مناورات بحرية سعودية ـ كويتية. وفي نوفمبر 1988، اشتركت دول المجلس في مناورات جوية على الأراضي الكويتية. وباستعراض القرارات، التي اتخذتها مؤتمرات مجلس التعاون لدول الخليج العربية، على مختلف مستوياتها، يتضح حرص المجلس على تحقيق مجموعة من المبادئ الأساسية، تشمل المجالات، الدولية والإقليمية والعربية. ففي المجال الدولي، تأكدت سياسة عدم الانحياز، ونبذ الأحلاف والمحاور، مع احترام المواثيق والالتزامات الدولية، والعمل على توطيد أسُس السلام والعدل والأمن الدولي، ومساندة توازن العلاقات الدولية، مع عدم التدخل في شؤون الآخرين. وفي المجال الخليجي، حرص المجلس على تأكيد التعايش السلمي بين دول المنطقة، وإبعادها عن ساحة الصراع الدولي، ومعارضة التدخل في شؤونها، والاعتماد على القوة الذاتية، وتسوية النزاعات بالوسائل السلمية. وفيما يتعلق بالمجال العربي، أكد المجلس أنه يتماشى مع ميثاق الجامعة العربية، الداعي إلى تحقيق التقارب، وتوثيق العلاقات، وتعميق التعاون بين الدول العربية.

رابعاً: استبعاد العراق من مجلس التعاون لدول الخليج العربية

ربما كان النظام العراقي من أكثر الأنظمة العربية معارضة لقيام المجلس، الذي لم يضمه إلى عضويته، على الرغم من إسهام العراق في جميع مجالات التعاون، الاقتصادي والثقافي، الخليجي، منذ بداية السبعينيات. ومن الواضح أن اختلاف بنية العراق، السياسية والاجتماعية، كان عائقاً دون انضمامه إلى هذا التجمع. إذ لم تبدِ دول الخليج العربية استعداداً لانضمامه إلى تجمّعها. وقد ألقى النظام العراقي اللوم في ذلك على المملكة العربية السعودية. ولعل استبعاد العراق من عضوية المجلس، كان دافعاً له إلى التفكير في إيجاد تجمّع آخر، منافس له. ومن ثَمّ، دعا إلى تكوين مجلس التعاون العربي، الذي ضم الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي)، في البداية، المستبعد هو الآخر، من مجلس التعاون لدول الخليج العربية، إلى جانب مصر والأردن. ومع ذلك، لم يكن استبعاد العراق من عضوية المجلس، يعني أنه أصبح منعزلاً عن دول الخليج العربية، وإنما على العكس من ذلك، ظلت علاقاته إيجابية بتلك الدول، التي طالما عَدَّته خطاً دفاعياً ضد الهيمنة الإيرانية. ولعل دول الخليج العربية، وجدت في تورط العراق في الحرب على إيران، مبرراً للتعلل باستبعاده من عضوية المجلس، في الوقت الذي شعر فيه العراق بحاجته الشديدة إلى تأييدها ودعمها، مما جعله يغيّر موقفه إزاء المجلس. ومن ثَمّ، صدر العديد من التصريحات الرسمية، التي أعلن فيها العراق، أنه يحارب إيران بالنيابة عن أشقائه، كما أظهر تأييده للمجلس؛ وذلك تماشياً مع توجهاته الأيديولوجية، المساندة، على حدّ ما ورد في تلك التصريحات، لأي تقارب بين دول الخليج العربية، وأنه يأمل أن يتطور التعاون الخليجي، إلى مرتبة الوحدة العربية الشاملة. وعلى الرغم من تلك التصريحات، التي كانت تتفق مع مصالح العراق، خلال حربه على إيران، إلاّ أنه كان من الواضح، أن النظام العراقي، يكنّ لدول المجلس عداءً شديداً. وهناك من يرى أن دوافع العراق إلى غزوه الكويت، وتهديده دول الخليج العربية الأخرى، ربما كانت، في جانب منها، انتقاماً من هذه الدول، لحؤولها دون انضمامه إلى تجمّعها، بل دون هيمنته على ذلك التجمع.

خامساً: استبعاد إيران

تكشف ردود الفعل الإقليمية، التي صاحبت قيام المجلس، أن الموقف الإيراني، كان شديد الحساسية؛ إذ استبعدت طهران، بدورها، من التجمع الخليجي، على الرغم من مشاركتها في بعض اتفاقات التعاون، التي سبقت إنشاءه، فقد انضمت، عام 1976 إلى العديد من المنظمات الخليجية، التي كان من أبرزها المنظمة الخليجية للاستشارات الصناعية. كما انضمت، عام 1978، إلى اتفاقية مع دول الخليج العربية، للحفاظ على البيئة البحرية. ومن ثَمّ، رأت إيران، أن تأسيس المجلس، هو تجمّع عربي خليجي، معادٍ لها، فلم تتوانَ في إبداء شكوكها وتحفظها. ويبدو ذلك واضحاً في العديد من التصريحات الرسمية، الصادرة عن القيادات الإيرانية، والتي أعلنت فيها معارضتها لقيام تجمّع عربي على الساحل الغربي من الخليج، المواجِه لها، وأوضح علي خامنئي، المتحدث باسم الثورة الإسلامية الإيرانية، أن المجلس جاء ضد إيران. ومما تجدر الإشارة إليه، أن الموقف الإيراني كان ناجماً عن عدة عوامل، منها خوف إيران من مساندة دول المجلس للعراق، أو مساندة أي عمل أمريكي ضد طهران، خاصة في الوقت الذي تدهورت فيه العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية. وهكذا، يمكن تفسير بعض العمليات التخريبية، التي تعرّضت لها البحرين، عام 1982، مما أدى إلى شكوك دول المجلس في نيات النظام الإيراني ومخططاته، ضد دول الخليج العربية. وحقيقة الأمر، أن موقف المجلس تجاه الحرب العراقية ـ الإيرانية، كان يتّسم بتحقيق التوازن، في ضوء المصالح العربية بوجه عام، ومصالح المنطقة بوجه خاص. فعلى الرغم من مساعدات دول المجلس للعراق، فإن هناك مساعدات، قُدّمت من بعض تلك الدول إلى إيران، كذلك. وفي اجتماع قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية الخامسة، الذي عقد في الكويت، الفترة من 27 ـ 29 نوفمبر 1984، أبدت القمة استعدادها للسعي مع الأطراف المعنية من أجل وقف الحرب العراقية ـ الإيرانية. وأكد الشيخ زايد بن سلطان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، أهمية مساعدة الدولتَين، بعد توقف الحرب بينهما، لإزالة ما ألحقته الحرب من دمار. وعلى الرغم من تنديد إيران بمساندة دول المجلس للعراق، فإن دول الخليج العربية، أبقت على جسور الحوار والاتصال مع الجانب الإيراني، وحرصت على الوساطة بين الدولتَين المتصارعتَين ومحاولة احتواء ردود الفعل، الناجمة عن الصراع وانعكاساته على دول المنطقة.

سادساً: علاقات الكويت بمثلّث القوى الإقليمي

حرصت الكويت، في سياستها الخارجية، على التوازن بين القوى الثلاث، المجاورة لها. والمقصود بتلك القوى، ذلك المثلث الذي يقع على رؤوسه كلٌّ من العراق وإيران والمملكة العربية السعودية. أ. العلاقات الكويتية ـ السعودية منذ الستينيات، استطاعت الكويت توثيق علاقاتها بالمملكة العربية السعودية، وكان ذلك على أثر تسوية الخلافات، التي كانت قائمة بين البلدَين، فيما يتعلق بوضع المنطقة المحايدة، وإن ظل بعضها كامناً، لم يحسم بعد، حول حقوق السيادة على جُزُر كُبر وقاروه وأم المرادم وغيرها من الجُزُر، الواقعة في مياه المنطقة المحايدة، والخاضعة، حالياً، لسيادة الكويت. ولعل تلك الخلافات، هي التي حالت دون موافقة الكويت على توقيع اتفاقية أمنية مع المملكة العربية السعودية، كما فعلت دول الخليج العربية الأخرى، عام 1982. كما عارضت الكويت اقتراح المملكة العربية السعودية إنشاء قوة أمن جماعي لدول الخليج العربية، وكان الأمير نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية السعودي، قد صرح بذلك، في 23 فبراير 1985. غير أن الكويت أعلنت، أن مجلس الأمة، لن يوافق على تلك المشروعات الأمنية، ما لم تعدَّل، لإزالة النقاط المتعارضة مع الدستور الكويتي. وليس من شك في أن رفض الكويت توقيع اتفاقية أمن مع المملكة العربية السعودية، أو الموافقة على المشاركة في قوة الأمن الجماعي، إنما يرجع إلى تخوفها من تدخّل القوات السعودية في بعض المناطق الكويتية، مما يعني انتهاكاً لسيادتها الإقليمية. وعلى الرغم من معارضة الكويت المقترحات السعودية، إلاّ أنها كانت تدرك جيداً، أن توثيق علاقتها بالمملكة العربية السعودية، أمر لازم لمواجهة الضغوط التي كانت كثيراً ما تتعرض لها، من قِبل إيران أو العراق. ومن ثَمّ، دانت الكويت حادثة الحرم المكي، عام 1979، ولم تعترض على الأحكام، التي صدرت في المملكة العربية السعودية، ضد عناصر كويتية، اتُّهمت مع غيرها بتدبير الحادث . وفي هذا الخصوص، وتعليقاً على أحكام الإعدام، صرح خادم الحرمين الشريفين، في حديثه إلى "مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية"، رداً على سؤال عن علاقات الكويت والسعودية قال: "إن الكويت هي السعودية والسعودية هي الكويت. وهؤلاء ثبت عليهم الاتهام في جريمة كبرى هي الإفساد في بيت الله الحرام، فالكلمة فيها لشرع الله وقضائه. ولو أن سعودياً عبث بأمن الكويت فإننا سنكون أول من يؤيد أي إجراء تتخذه قوانين الكويت ضده . وقد اتجهت الكويت، على أثر توقّف الحرب العراقية ـ الإيرانية، إلى إقامة علاقات أوثق بالمملكة العربية السعودية، وظهر ذلك واضحاً في زيارة الشيخ سعد العبدالله الصباح، ولي عهد الكويت، إلى الرياض، خلال الفترة من 5 وحتى 12 نوفمبر 1988، وأسفرت مباحثاته في الرياض عن تشكيل لجنة مشتركة، تجمع بين وزراء الداخلية والخارجية والنفط، للتنسيق بين البلدَين، في الشؤون السياسية والاقتصادية، ما عَدَّه بعض المحللين تنسيقاً أمنياً بين البلدَين. ب. العلاقات الكويتية ـ العراقية أمّا العلاقات بين الكويت والعراق، فقد تراوحت بين التدهور والتحسن. واتخذت بغداد من مشكلات الحدود بين البلدين، وسيلة للضغط على الكويت، ومطالبتها إذا كانت تريد إنهاء تلك المشكلات، باتخاذ مبادرات قومية، أي بالتنسيق السياسي مع العراق، واستثمار رؤوس أموالها فيه، واستخدام الأيدي العاملة العراقية. ج. العلاقات الكويتية ـ الإيرانية مع استمرار تردّي العلاقات الكويتية ـ العراقية، خلال الستينيات والسبعينيات، كان النظام الإيراني الشاهنشاهي، يؤيد الكويت في أزمتها مع العراق، على الرغم من أن السياسة الكويتية، كانت معارضة لنظام الشاه، الذي أطلقت له الولايات المتحدة الأمريكية مهمة حماية المصالح الغربية في الخليج، عقب إعلان بريطانيا قرارها الخاص بالانسحاب من المنطقة، قبل نهاية عام 1971. غير أن نشوب الثورة الإسلامية الإيرانية، وسقوط النظام الشاهنشاهي، في الأول من أبريل 1979، كان لهما أثرهما في العلاقات الكويتية ـ الإيرانية، حين وجدت الكويت نفسها، تتعرض لضغوط شديدة من قِبل النظام الإيراني الثوري الجديد. ولم تقتصر الضغوط على الكويت، وحدها، وإنما تعدتها إلى دول الخليج العربية الأخرى، إذ كان من شأن التحولات الضخمة، التي حدثت في إيران، تهديد الأنظمة الخليجية القائمة، وذلك على عكس نظام الشاه، الحريص على استقرار تلك الأنظمة. ويفهم من التصريحات العديدة، الصادرة عن قادة الثورة الإيرانية، مدى التناقض بين النظام الثوري الإيراني وبين الأنظمة الخليجية العربية، التي وصفها آية الله الخميني، بأنها تمارس الإسلام، أو على حدّ قوله، الإسلام على النظام الأمريكي. ومما يذكر أن الخميني، كان يكن عداء شخصياً ضد الكويت، التي لم تسمح له بدخولها، بعد طرده من العراق، في 6 أكتوبر 1978 وعلى الرغم من تلك التصريحات، فإن الكويت كانت حريصة، مراعاة لسياسة التوازن، التي دأبت عليها، على المحافظة على علاقات طيبة بالنظام الإسلامي الإيراني، بل العمل على التنسيق معه لحماية الأمن في المنطقة. وفي صدد ذلك، كان الشيخ صباح الأحمد، وزير خارجية الكويت، أول وزير خليجي، يزور العاصمة الإيرانية، عقب نشوب الثورة. وفي الوقت الذي لم تحقق تلك الزيارة الرسمية نجاحاً يذكر، فإن وفوداً شيعية كويتية شعبية، زارت طهران، مهنئة بنجاح الثورة، فاستقبلت استقبالاً طيباً. ومع ذلك، كانت الكويت حريصة، في العديد من المناسبات، على التعبير عن حسن نياتها تجاه النظام الإسلامي الإيراني. ولذلك، عارضت، حين كانت عضواً في مجلس الأمن الدولي، فرض العقوبات الاقتصادية على إيران، إبّان أزمة الرهائن الأمريكية، كما دانت مهمة الإنقاذ الأمريكية، وأعلنت استياءها من تجميد الأرصدة الإيرانية. وفضلاً عن ذلك، لم تتردد الكويت في تقديم المساعدات الإنسانية، من أغذية وأدوية، إلى ضحايا الفيضانات، في جنوبي إيران. كما وافقت، عام 1980، على إمداد إيران بالنفط المكرر، وأبدت استعدادها للتعاون معها. وفتحت زيارة صادق قطب زادة، وزير الخارجية الإيرانية، إلى الكويت، عام 1980، المجال لقيام حوار بين البلدين. غير أن تتابع الأحداث السياسية، أدى إلى توتر واضح في العلاقات بينهما، على أثر التصريحات الصادرة عن قادة الثورة، في شأن عزمهم على تصدير الثورة الإسلامية، إضافة إلى تداعيات الحرب العراقية ـ الإيرانية. وعلى الرغم من أن هذه الحرب، شغلت الطرفَين المتحاربَين، إلاّ أن القلق ظل يساور الكويت وغيرها من دول الخليج العربية الأخرى، نتيجة الانتصارات، التي حققتها إيران على العراق، عام 1982، وازداد التوجس من انهيار الأنظمة الخليجية، في حالة نجاح إيران في إيقاع الهزيمة بالعراق. ولعل النظام السياسي في الكويت، كان يدرك جيّداً، أنه إذا كان في وسعه احتواء الشيعة في الكويت، الذين لم يكن لهم تأثير ملموس في صنع القرار السياسي، إلاّ أنه سيتعذر عليه ذلك، في حالة انتصار إيران في الحرب. ومن جهة أخرى، كانت الكويت تحبذ النظام العلماني في العراق على النظام الديني (الثيوقراطي)، في إيران، الذي لا يمكن التنبؤ باتجاهاته. وقد رأت الكويت أن مسانداتها للعراق، قد تؤدي إلى حل مشكلات الحدود القائمة بينهما، كما أنها ستؤدي إلى ارتياح القوميين العرب، والأصوليين الإسلاميين، على حد سواء، فضلاً عن استجابة الحكومة للمصالح الاقتصادية، المتمثلة في حصول رجال الأعمال الكويتيين على تعاقدات مع الحكومة العراقية، لإزالة ما خلّفته الحرب من دمار، أو على الأقل استرجاع حقوقهم في العقود غير المدفوعة، التي أبرموها مع العراق، خاصة بعد أن حذر طه ياسين رمضان، نائب الرئيس العراقي، من أن الذين ترددوا في مساندة العراق، سوف يحطمون مصالحهم، وسيفقدون، بالتأكيد، أي فرصة في المستقبل. وكان موقف الكويت المنحاز إلى تأييد العراق ودعمه في الحرب، تغييراً في نهج سياسة الكويت الخارجية منذ الاستقلال، القائمة على التوازن والحياد. وكان الاندفاع في ذلك التأييد، قد أسهم، دون شك، مع دول مجلس التعاون، في دعم النظام العراقي وتثبيته. إن موقف الكويت من الحرب العراقية ـ الإيرانية، مبني على رأي جماعي لدى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مفاده أن هزيمة العراق في الحرب، وانتصار إيران، يعني خطر السيطرة الإيرانية على المنطقة، ولذلك، وقفت، إعلامياً واقتصادياً، مع العراق، من دون أن تضع في حسابها، أن الأمر نفسه سيحدث، لو انتصر العراق. وبينما كان الموقف الرسمي الكويتي يتجه إلى تأييد العراق، فإنه على المستوى الشعبي، كان التأييد لأحد الطرفَين المتحاربَين، يرتكز، في الدرجة الأولى، على أُسُس عنصرية أو طائفية. فالكويتيون السُّنيون، كانوا يؤيدون النظام العراقي. وذلك على عكس الشيعة، خاصة ذوي الأصول الإيرانية، الذين كانوا يساندون إيران، أو يتعاطفون معها، على الأقل. ومن ثَمّ، كان من الطبيعي أن تنظر الدوائر الرسمية الكويتية إلى العناصر الشيعية المتطرفة في الكويت على أساس أنها تشكل"طابوراً خامساً"لإيران. ولعل ذلك مما دفع إيران إلى إرسال وفد خاص إلى الكويت، في مارس 1987، لمناقشة موقفها من الحرب، وما ادَّعته طهران من سوء معاملة الكويت للشيعة فيها. وأبدى الوفد الإيراني اهتمامه بإطلاق الكويت بعض الشيعة، الذين احتجزتهم السلطات الكويتية لنشاطهم ضد استقرار أمنها. وكان من الطبيعي أن ترفض الكويت مناقشة مثل تلك الموضوعات، لكونه يمس سيادتها الداخلية. ومن ثَمّ، طالبت الوفد الإيراني بالرحيل، من الفور. وعلى الرغم من مساندة الكويت للعراق، فقد حاولت التوسط بين الطرفَين المتحاربَين. وبطبيعة الحال، لم تسفر الوساطة الكويتية عن نتائج إيجابية، إذ كانت إيران ترتاب في الموقف الكويتي، وكانت تخشى، بصفة خاصة، أن تتنازل الكويت للعراق عن جزيرتَي وربة وبوبيان. وأكدت أنه إذا حدث ذلك التنازل، فإنها ستبادر إلى السيطرة على جزيرة فيلكا الكويتية. وفي الوقت نفسه، كان العراق يخشى من الوساطة الكويتية، لما قد تتيحه من فتح الحوار مع إيران، خاصة أن كثيراً من دول الخليج العربية، كدولة الإمارات العربية المتحدة وقطَر وسلطنة عُمان، ظلت تربطها مصالح، سياسية واقتصادية، بإيران، ولم يطرأ عليها أي تغيير يذكر. وإزاء الإصرار الإيراني على مواصلة الحرب، وعدم الإذعان للقرارات الصادرة عن مجلس الأمن بوقف إطلاق النيران ـ في حين أبدى العراق استعداده للاستجابة لتلك القرارات ـ استمرت الكويت في دعمها للعراق؛ إذ سمحت للإمدادات العسكرية وغيرها، بالعبور، عبْر موانئها، إلى العراق، التزاماً بمعاهدتَي التعاون، الموقعتين بينها وبين العراق، عامَي 1972 و1978. كما استمرت الموانئ الكويتية العميقة، في الشعيبة والشويخ وغيرهما، تؤدي دوراً مكثفاً في خدمة المتطلبات العراقية. وسمحت الكويت، في الوقت نفسه، للمقاتلات العراقية باختراق مجالها الجوي، وهي في طريقها إلى قصف سفن الأسطول الإيراني. فضلاً عن تقديم الكويت قروضاً ومساعدات مالية ضخمة إلى العراق، وإسهامها في بناء خط أنابيب إلى المملكة العربية السعودية، لتصدير النفط العراقي. وقد أدى الموقف الكويتي المساند للعراق، إلى استمرار تعرّض الكويت للضغوط الإيرانية. ولسلسلة من العمليات الانتقامية الإيرانية، فتعرضت ناقلاتها النفطية للقصف الإيراني. وإزاء تصاعد تلك العمليات، تقدم وزراء خارجية دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بشكوى إلى مجلس الأمن، في 17 مايو 1984، ضد الأعمال العدوانية الإيرانية، المتكررة على سفنها التجارية، أثناء إبحارها في الخليج العربي. فأصدر مجلس الأمن قراره الرقم 552، في الأول من يونيه 1984، يدين فيه الهجمات العسكرية الأخيرة على السفن التجارية وناقلات النفط المحايدة، في منطقة الخليج. وطالب بوقف هذه الهجمات، فوراً. وحث جميع الدول على احترام حرية الملاحة وحمايتها، في مياه الخليج. وبهذا القرار، يتضح أن مجلس الأمن، لم يدن إيران صراحة، ولم يوجّه إليها اللوم، على الأقل، لاعتداءاتها على الدول غير المشاركة في الحرب .(أُنظر وثيقة ترجمة القرار الرقم 552 (1984) الصادر عن مجلس الأمن في الجلسة 2546 والمؤرخ في 1 حزيران/يونيه 1984م، في شأن الاعتداءات الإيرانية على السفن التجارية في مياه الخليج</a>) و( وثيقة أصل القرار باللغة الإنجليزية) وعلى الرغم من ذلك، رفضت إيران قرار مجلس الأمن، ودأبت في أعمالها العدوانية، ضد الكويت، حتى وصل الأمر إلى انتهاكها مياهها الإقليمية، حين أطلقت صاروخاً، في 15 أكتوبر 1987، أصاب ناقلة نفط أمريكية (Sangri) كما أصيبت، في اليوم التالي، ناقلة نفط كويتية، ترفع العلم الأمريكي، بصاروخ سيلكوورم (Silkworm)، داخل المياه الإقليمية للكويت. وإزاء تواصل الاعتداءات الإيرانية على الناقلات الكويتية، التجأت الكويت إلى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، مبدية استعدادها لرفع أعلام تلك الدول على ناقلاتها. وفي 19 مايو 1987، وافقت إدارة الرئيس الأمريكي، رونالد ريجان، على رفع العلم الأمريكي على نصف الأسطول الكويتي، ووضعه تحت حماية البحرية الأمريكية. كما استطاعت الكويت أن تحصل على موافقة الاتحاد السوفيتي على رفع علمه على بعض ناقلاتها. كذلك، وافقت بريطانيا، بدورها، على رفع علمها على ثلاث ناقلات كويتية. بينما اكتفت فرنسا بإعلام الكويت بأنها ستراقب الموقف. في حين اعتذرت الصين عن عدم استجابتها الطلب الكويتي. كما اتجهت إيران إلى استخدام وسائل الضغط ضد الكويت، بتشجيع بعض العمليات الإرهابية. ففي الأول من أغسطس 1987، انتهكت إيران حرمة السفارة الكويتية في طهران، التي احتُلت من قِبل السلطات الإيرانية، واحتُجز أعضاؤها، وحولت مقر السفارة إلى مقر لحزب الله، بما يخالف الأعراف الدولية. وفي 5 أبريل 1988، اختُطِفَت إحدى الطائرات الكويتية المدنية، وعلى متنها 111 راكباً. وكانت في طريقها من بانكوك إلى الكويت، حين أُجبرت على هبوط مطار"مشهد"الإيراني. وبادرت السلطات الإيرانية إلى تزويد المختطفين الوقود، والسماح لهم بمغادرة"مشهد"، إلى مطار لارناكا، في قبرص، حتى وصلت الطائرة إلى الجزائر. وفي 20 أبريل، وبعد مفاوضات، استمرت 16 يوماً، تم الإفراج عن الرهائن من ركاب الطائرة، وسلّم المختطفون أنفسهم للسلطات الجزائرية، بطريقة سلمية، ومن دون تنازلات من الكويت. واتضح أنهم كانوا يطالبون بإفراج الكويت عن 17 سجيناً من المتطرفين، عملاء إيران، الذين احتجزتهم سلطات الأمن الكويتية، لإدانتهم بأعمال داخلية، هددت أمن الكويت.(أُنظر جدول الأعمال العدائية الإيرانية ضد السفن الكويتية، والأعمال الإرهابية والتخريبية الإيرانية في الكويت خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980ـ 1988)) ومهما كانت الانتقادات، الموجَّهة إلى الكويت، لاستخدامها الأعلام الأجنبية، فإنها استطاعت، بتلك الوسيلة، أن تكون عاملاً حاسماً في تدويل الحرب، بل استطاعت، في خلال عام واحد، من إدخال الأعلام الأجنبية إلى مياه الخليج العربي، أن تنهي حرباً، استمرت ثمانية أعوام. ولئن أثرت الحرب العراقية ـ الإيرانية، سلباً في حالة أمن الكويت فإن تأثيرها في اقتصادها كان تأثيراً إيجابياً، إذ ازدادت الكميات، التي صارت تصدرها الكويت من النفط. صحيح أن أسعار النفط انخفضت، غير أن الكويت عوضت ذلك بزيادة معدلات التصدير، وكانت قد نقلت ملكية شركة النفط كاملة إلى الدولة، منذ عام 1977، واستطاعت أن تكوّن مدخرات، أحسنت استثمارها في الخارج، بالقياس إلى دول الخليج الأخرى، وأسست بعض الشركات الكبرى، ومنها شركة النفط البريطانية، إذ تمكنت الكويت من شراء 20% من أسهمها، إلى درجة أزعجت رئيسة وزراء بريطانيا،"مارجريت تاتشر Margaret Thatcher"، فتدخلت لتخفيض نسبة الأسهم. والمهم أن استثمارات الكويت، أصبحت تدر أرباحاً، تكاد توازي عائدات النفط نفسها، وجعلت الحكومة الكويتية تلك المدخرات محجوزة، لا تمس، إذ خصصت للأجيال القادمة بعد عام 2000.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المبحث الثاني : العلاقات العربية ـ الإيرانية/ التركية

أولاً: العلاقات العربية ـ الإيرانية، سياسياً

1. المفاوضات العراقية ـ الإيرانية منذ أن توقف القتال بين إيران والعراق، في 20 أغسطس 1988، وبدأت عملية المفاوضات بينهما، ثارت تكهنات بقرب انفراج عربي ـ إيراني، لعدة أسباب، منها الحقائق الجغرافية ـ السياسية، التي تجعل إيران بلداً أساسياً في تفاعلات منطقة الشرق الأوسط، وأن ثقلها الإستراتيجي يملي على العرب طرح الأفكار والمبادرات الإيجابية، لتجسيد حالة من حُسن الجوار، القائم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وإيجاد القواسم المشتركة إزاء القضايا، الإقليمية والدولية، المختلفة. إلاّ أن عملية الانفراج هذه لم يقدر لها، بعد، أن تتجسد عملياً، لأسباب عديدة، منها أسباب تعود إلى إيران نفسها، وأخرى تعود إلى الرؤية العربية، وأولويات القضايا المثارة. لقد تعثرت المفاوضات المباشرة بين العراق وإيران، منذ قبول الأخيرة قرار مجلس الأمن، الرقم 598، في 20 يوليه 1987، بوقف إطلاق النار، من أجل وضع البنود الستة لهذا القرار موضع التنفيذ. وفي مطلع عام 1989، عمد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة إلى جولة استطلاعية في كلٍّ من البلدَين، لمحاولة الاتفاق على شكل وميعاد ومكان المفاوضات المباشرة بينهما. كما جرت اتصالات، في أوائل شهر فبراير 1989، في نيويورك، بين وزيرَي خارجية البلدَين، على هامش المناقشات، التي أجراها مجلس الأمن في شأن تجديد فترة وجود قوات المراقبة الدولية على الحدود. ومن الناحية الرسمية، لم تكن تلك الاتصالات استئنافاً للمفاوضات المقطوعة بين العراق وإيران. وعلى الرغم من كل هذه الجهود والاتصالات، ظلت وجهات النظر مختلفة بين الطرفين، حتى حلول الجولة الرابعة من المباحثات، في 20 أبريل 1989، تحت إشراف الأمين العام للأمم المتحدة. وبدورها، لم تسفر هذه المفاوضات عن أي تطورات جوهرية، إذ ظل كل طرف متمسكاً بوجهة نظره، حول كيفية تنفيذ بنود القرار الدولي 598، وحول الأولويات والخطوات، التي يجب أن يلتزم بها الطرف الآخر أولاً. وعقب فشل الجولة الرابعة، من المفاوضات، طالب وزير الخارجية الإيراني، "علي أكبر ولايتيAli-Akbar Velayati" ، الأمين العام للأمم المتحدة، بأن يحدد موعداً لانسحاب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، التي تبلغ مساحتها 2600 كم2، كخطوة ضرورية لكسر الجمود في الموقف. ورفض العراق ذلك، إذ أكدّ وزير خارجيته، طارق عزيز، أنه ليس لإيران الحق في إملاء الأولويات في المفاوضات، التي يجب أن تعالج خطة السلام ككل. ولمّا كانت مشكلة الأسرى ذات طابع إنساني خاص، فقد طالب العراق، من جهته، بأن يجري التعامل مع هذه المشكلة، خارج إطار قرار مجلس الأمن، وأبدى استعداده للتبادل الفوري لجميع الأسرى، بشكل مستقل عن تطور مفاوضات السلام بين الطرفين. أمّا إيران، فقد أصرت على ضرورة معالجة هذه المشكلة، في إطار القرار الدولي. وبعد تدخلات من "خافيير بيريز دى كويلار Javier Perez de Cuellar" ، ونجاحه في الحصول على موافقة إيران على تبادل الأسرى، في الحالات المرضية فقط، جرى تبادل 150 أسيراً، ثم أوقفت إيران العملية، بحجة أن بقية الأسرى من المرضى، قد شفوا في إيران. ولم تفلح محاولات الصليب الأحمر، والأمانة العامة للأمم المتحدة، في تأمين استمرار تبادل الأسرى. وفي ذكرى مرور عام على وقف القتال بين إيران والعراق، أرسل بيريز دى كويلار، الأمين العام للأمم المتحدة، مذكرة، في 18 أغسطس 1989، إلى قادة البلدَين لافتاً إلى أن سير المفاوضات قد توقف، على الرغم من محاولات دفعها. ولفت دى كويلار نظر الطرفَين إلى أن أي تسوية للصلح، يجب أن تسير بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 598، الذي قبلاه، ولا يمكن تعديله، ودعاهما إلى اتخاذ مواقف متوازنة. وتبع ذلك جولة مكوكية للمبعوث الخاص للأمين العام،"يان الياسون"، استمرت 17 يوماً، زار خلالها كلاً من بغداد وطهران، ست مرات، وانتهت في 17 نوفمبر 1989. وكان هدف الجولة الرئيسي هو تقديم الاقتراحات، لاستئناف المفاوضات، ولتطبيق القرار الدولي، فضلاً عن تدارس آراء البلدَين، حول كسر الجمود المخيم على الموقف. وأثناء الجولة، أبدت إيران موافقتها على تبادل الأسرى، في الوقت عينه، الذي ينسحب فيه العراقيون من المواقع الإيرانية. وهو ما رفضه العراق، إذ رأى أن هذا الاقتراح، يربط بين قضيتَين، كل منهما لها طبيعتها الخاصة. وأن الانسحاب إلى الحدود الدولية، هو قضية سياسية، في حين أن تبادل الأسرى، هو قضية إنسانية، وهناك اتفاقية دولية تنظم هذه العملية. وقدم العراق اقتراحاً، يتضمن، بالتحديد، تشكيل خمس لجان، هي: أ. لجنة السيادة على شط العرب. ب. لجنة الانسحاب. ج. لجنة الأسرى، في إطار اتفاقات جنيف، وبمشاركة ممثل هيئة الصليب الأحمر الدولية. د. لجنة الفقرتَين 6 و8، من القرار الدولي 598. هـ. لجنة الفقرة 4، من القرار الدولي، المتعلقة بتوقيع معاهدة سلام بين الطرفَين. وتضمن الاقتراح العراقي إجراء محادثات مباشرة، إيرانية ـ عراقية، على أن تعقد، بالتناوب، مرة في بغداد ومرة في طهران، وألاّ تتجاوز هذه اللقاءات زمناً نهائياً لا يزيد على ثلاثة أشهر، وألاّ تقلّ عن أربع مرات لكل لجنة. ويتلو ذلك، اللقاء على مستوى أعلى، وربما بين وزيرَي الخارجية، ثم في مرحلة لاحقة، إذا تطلب الأمر، على مستوى أعلى من المستوى الوزاري. ولم يوافق الإيرانيون على الاقتراح العراقي، وتمسكوا بعملية الربط بين الانسحاب وتبادل الأسرى. وهو ما أعطى انطباعاً قوياً بفشل جولة الياسون، الذي رأى أن مهمته لم تفشل فشلاً تاماً، لأن الطرفَين عبّرا عن اهتمامهما بالاستمرار في وقف القتال، وعدم العودة إليه، وبالرغبة في التفاهم، وتسوية المشكلات المعلقة بينهما، وكذلك، لأن الطرفين اتفقا على لقاء غير مباشر بين وزيري خارجية البلدين، يتم في نيويورك، تحت إشراف الأمم المتحدة، وقد عقد هذا الاجتماع، بالفعل، ولكنه لم يسفر عن جديد. وظلت المفاوضات العراقية ـ الإيرانية معلقة، ولم تحقق أي تقدم أو نجاح. وقدمت إيران عرضاً، خصت به الأسرى المصريين لديها، وعبّرت عن رغبتها في الإفراج عنهم، مقابل فتح ملف العلاقات المصرية ـ الإيرانية. إلاّ أن الحكومة المصرية، ارتأت تسوية مشكلة الأسرى، المصريين والعراقيين معاً، في إطار التسوية الشاملة بين البلدَين. انصرم عام 1989، من دون إقرار تسوية شاملة للمشاكل القائمة بين العراق وإيران، بسبب الخلافات الكبيرة بينهما، في شأن تفسير القرار 598، المتعلق بوقف إطلاق النار بينهما. وفي 6 يناير 1990، تقدم الرئيس العراقي، صدام حسين، في الذكرى التاسعة والستين لتأسيس الجيش العراقي، بمبادرة، تهدف إلى التسوية الشاملة للقضايا المتنازع فيها، بين بغداد وطهران. وتضمنت المبادرة العراقية البنود التالية: أ. عقد اجتماعات دورية بين قيادتَي البلدَين، والسماح بتبادل الزيارات المنظمة إلى المقامات الدينية. ب. التبادل الفوري لكل المرضى والجرحى من الأسرى، خاصة الذين أمضوا مدة طويلة في الأسر. ولم تقبل إيران مبادرة الرئيس العراقي، ووصفتها بأنها خدعة، ودعاية له. وبعد خمسة أيام من المبادرة العراقية، أعلنت إيران أنها وافقت على الاقتراح، الذي تقدم به الاتحاد السوفيتي، في يونيه 1989، والمتضمن عقد اجتماع ثلاثي، يضم وزراء خارجية العراق وإيران والاتحاد السوفيتي. وكان العراق قد قبل الاقتراح، في حينه. وجاء الرد العراقي على التحول في الموقف الإيراني، في تصريح لسفير العراق إلى فيينا، أعلن فيه تحفظ العراق إزاء أي وساطة خارجية، لإنهاء النزاع بين طهران وبغداد، سواء كانت خليجية أو سوفيتية. وأشار إلى أن العراق قبِل الاقتراح السوفيتي، لا كوساطة سوفيتية، ولكن كاقتراح لجمع الطرفين، تمهيداً للتشاور. وأصرّ العراق على أن تكون مبادرة الرئيس صدام حسين أحد البنود الأساسية في أي اجتماع بين البلدَين. لم يتمكن البلدان من عقد الاجتماع الثلاثي، بسبب تباعد مواقف كلٍّ منهما. وإنقاذاً للموقف، تقدم الأمين العام للأمم المتحدة، بتأييد من مجلس الأمن، بمبادرة من ثماني نقاط، اشتملت على ما يلي: أ. انسحاب قوات البلدين إلى الحدود الدولية المعترف بها. ب. الإفراج عن الأسرى وإعادتهم إلى وطنهم، وفقاً لاتفاقية جنيف الثالثة، لعام 1949. ج. التعاون مع الأمين العام على تحقيق تسوية شاملة ومقبولة، وفقاً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة. د. تطهير ممر شط العرب. هـ. بحث إمكانية تكليف الأمين العام بتشكيل هيئة محايدة، للتحقيق في المسؤولية عن الصراع. و. مبادرة الأمين العام إلى التشاور مع الطرفين وسواهما من دول المنطقة، في دراسة إجراءات تعزيز الأمن والاستقرار الإقليميَّين. ز. اتخاذ مزيد من الترتيبات، المتعلقة بوقف إطلاق النار، وحرية الملاحة في أعالي البحر ومضيق هرمز. ح. تقديم الطرفين تأكيدات متبادلة، في ما يتعلق بالطبيعة الواحدة المتكاملة للقرار، ولإحلال السلام، وعلاقات حسن الجوار. وتتسم هذه المبادرة بتحقيق نوع من التوازن، بين المطالب العراقية، والمطالب الإيرانية. فهي من جانب، تتوخى التوصل إلى تسوية شاملة، تحت رعاية الأمم المتحدة؛ وهو ما يلبي المطالب العراقية. وتستهدف، من جانب آخر، الانسحاب إلى الحدود الدولية، وتكليف هيئة دولية بالتحقيق في المسؤولية عن الصراع؛ وهو ما يلبي المطالب الإيرانية. غير أن هذه المبادرة لم تسفر عن شيء. وفي ضوء هذا الجمود، بعث الرئيس صدام حسين برسالة، في 19 مايو 1990، إلى كلٍّ من الزعيم الإيراني، علي خامِنَئي، والرئيس الإيراني، علي أكبر هاشمي رافسنجاني، رداً على خطابهم المرسل في الأول من مايو 1990. وكرر صدام حسين في رسالته، مقترحاته السابقة، التي بعث بها من قبْل، في 21 أبريل 1990، بعقد قِمة عراقية ـ إيرانية، يسبقها لقاء أولي بين ممثلين من كلا البلدَين ليتمكن كل جانب من أن يتعرف مواقف الطرف الآخر من القضايا المعلقة بينهما، لتوضيح الصورة أمام الرؤساء، قبْل القِمة، حتى يتفرغوا للسعي إلى حل حاسم للمشاكل الناجمة عن الحرب، لتحقيق السلام الشامل في المنطقة، طبقاً لقرار مجلس الأمن الرقم 598. وأعرب الرئيس العراقي، في نهاية رسالته، عن رغبته في عقد القِمة في مكة المكرمة. (أُنظر وثيقة ترجمة رسالة الرئيس صدام حسين إلى كلً من قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، علي خامنيئي، والرئيس الإيراني، علي أكبر هاشمي، في 19 مايو 1990) و(وثيقة أصل الرسالة باللغة الإنجليزية). وأبدت إيران اهتماماً غير عادي برسالة الرئيس صدام حسين. فوصفها الرئيس رافسنجاني بأنها"دلالة على حُسن النية، من جانب العراق". كما أبدت الحكومة الإيرانية استعدادها للدخول في مفاوضات مباشرة مع العراق، بإشراف الأمم المتحدة، وفي إطار القرار 598، بشرط أن تُحدَّد الموضوعات، التي ستطرح في المفاوضات، وتنفَّذ بنود اتفاقية الجزائر، عام 1975. ويلاحظ أن السياسة الإيرانية تجاه العراق، قد تغيرت لهجتها، في هذه الفترة. فبعد أن كانت تتسم بالتشدد، واستخدام عبارات مثل"معاقبة مجرمي الحرب في بغداد"أو"يزيد الكافر"… إلخ، أصبحت تستخدم عبارات أكثر ودية، مثل الأفكار البناءة للقيادة العراقية، أو خطوة الرئيس العراقي الجديدة. وعلى الرغم من هذه المرونة، فإن الجانبَين، لم يتمكنا من وضع القرار 598 موضع التنفيذ، بسبب الشكوك الإيرانية في النيات العراقية. 2. العلاقات الإيرانية ـ الخليجية تمثل العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حجر الزاوية في تشكيل عملية الاستقرار الإقليمي في الخليج العربي. والمعروف أن دول هذا المجلس، قد اتخذت موقفاً متوازناً من الحرب العراقية ـ الإيرانية، في بدايتها. ولكن هذا الموقف أخذ يتطور ببطء، نحو مساندة أقوى للعراق، على الصعيدين، السياسي والاقتصادي. وقد برزت هذه المساندة في العامَين الأخيرَين للحرب، اللذَين شهدا محاولات إيرانية لتوسيع رقعة القتال، ليشمل دولاً خليجية أخرى، كالكويت، فضلاً عن التأثير في الملاحة في مضيق هرمز. وفي حقيقة الأمر، عكس الموقف الخليجي، عبر تطوره، قدراً من التباين بين الدول الخليجية. ويمكن القول إنه كان هناك اتجاهان، يتنازعان دول المجلس، إزاء الحرب والجهود المبذولة من أجل إيقافها. الاتجاه الأول، كان يدعو إلى اتخاذ موقف متشدد من إيران لكونها الطرف المعرقل لوقف الحرب، والإفصاح عن المساندة الكاملة للعراق، سياسياً وعسكرياً. ونادى أنصار هذا الاتجاه بالعمل على عزل إيران ومحاصرتها في المنطقة، كنوع من الضغط عليها للاستجابة إلى الجهود الدولية، ولا سيما المبذولة في إطار الأمم المتحدة، لوقف القتال. أمّا الاتجاه الثاني، فكان يرى أن اتخاذ موقف خليجي ضاغط على إيران، من شأنه أن يعقّد الموقف، ولا يسهم في تحقيق انفراج فيه. ذلك أن الضغط على إيران، قد يدفعها إلى مزيد من اليـأس، فلا تجد ما يردعها عن توسيع رقعة القتال، وإقحام دول خليجية أخرى في الحرب، وهـو ما يجب تجنّبه. ورأى أصحاب هذا الاتجاه أن الحكمة، تقتضي، ولو جزئياً، استمرار الاتصال مع القيادة الإيرانية ومحاورتها، ومحاولة إقناعها بوقف القتال، والدخول في مفاوضات لتسوية القضايا المختلفة مع العراق. وأن يقدم الخليجيون نوعاً من الضمانة السياسية، والمعونة، لاستقرار الأوضاع في المنطقة. وفي واقع الأمر، كانت القرارات، التي تنتهي إليها قمم مجلس التعاون لدول الخليج العربية، قرارات وسطاً، راعت أنصار كل اتجاه. ولم يختلف الأمر كثيراً، فيما بعد توقف القتال، فالمفاوضات العراقية ـ الإيرانية، لم تتح لها الظروف، بعد، أن تتقدم إلى الأمام. وكان هذا التعثر مثار مناقشات بين قادة الدول العربية الخليجية، في القمتَين، التاسعة، التي عقدت في المنامة، في 19 ديسمبر 1988، والعاشرة، التي عقدت في مسقط، في 18 ديسمبر 1989. ففي القمة التاسعة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، لم يكن قد مضى على المفاوضات العراقية ـ الإيرانية سوى نصف عام فقط، وكان الاهتمام مركزاً في كيفية المساهمة في دفع هذه المفاوضات، وإعادة صياغة العلاقات الخليجية ـ الإيرانية، بعد وقف القتال. وخلصت القمة إلى أن التعاون مع إيران مرهون، أولاً، بالنجاح في المفاوضات العراقية ـ الإيرانية، وأن الأولوية أمام دول المجلس، هي المساعدة على دفع هذه المفاوضات، والعمل على إنجاحها. وحاول النظام الإيراني إيجاد حركات مضادّة للأنظمة الحاكمة، في منطقة الخليج العربي، مستخدماً الأقليات الشيعية، في الكويت والمملكة العربية السعودية. ولكنها لم تنجح في كلتا الدولتَين. إذ قُضي على القلاقل، التي أثارها بعض الشيعة في الأحساء. واتبعت إيران وسائل أخرى، مثل استغلال موسم حج عام 1407 هـ (1987م)، في توزيع منشورات دعائية في مصلحة طهران، وتشكيل مسيرة صاخبة، أشاعت الفوضى والاضطراب بين الحجاج، وأفسدت عليهم عبادتهم. ففي يوم الجمعة السادس من ذي الحجة 1407 هـ، الموافق 31 يوليه 1987، وبعد صلاة العصر، اصطدمت مسيرة من الحجاج الإيرانيين برجال الأمن السعوديين، مما أسفر عن مصرع 85 سعودياً و275 إيرانياً و42 حاجاً من جنسيات مختلفة، إضافة إلى إصابة 649 آخرين بجراح، منهم، 145 سعودياً، من رجال أمن ومواطنين، و201 من حجاج بيت الله الحرام، و303 من الإيرانيين. وفي اليوم التالي، الأول من أغسطس 1987، ووسط تطورات سريعة ومتلاحقة، اقتحم مئات من المتظاهرين الإيرانيين، سفارات المملكة العربية السعودية والكويت والعراق وفرنسا في طهران، وأشعلوا النيران في الوثائق والممتلكات في داخلها، وذلك على أثر ما بثته إذاعة طهران، في شأن مصرع المئات من الحجاج الإيرانيين، في اشتباكات مع رجال الأمن السعوديين، حول المسجد الحرام. وفي يوم الثلاثاء، 26 أبريل 1988، قطعت المملكة العربية السعودية علاقاتها الدبلوماسية بإيران، حينما تسلّم القائم بالأعمال الإيراني، محمد حسين عزامي، مذكرة بذلك، من وزارة الخارجية السعودية، بسبب ما تعرضت له السفارة السعودية في طهران من دهْم وتخريب، والاعتداء على الدبلوماسيين العاملين فيها، واحتجاز أربعة منهم، مما أفضى إلى استشهاد أحدهم، إضافة إلى تدمير ممتلكات السفارة ونهب وثائقها. وقد اتخذت المملكة العربية السعودية هذا القرار، بعد أن تأكدت من أن هذه الأعمال، كانت بإيعاز من السلطات الإيرانية الرسمية.(أُنظر وثيقة نص مذكرة وزارة خارجية المملكة العربية السعودية، إلى القائم بالأعمال الإيراني في الرياض، في 26 أبريل 1988، في شأن قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين) وفي القمة العاشرة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، دارت المناقشات، المتعلقة بالعلاقات بإيران، في اتجاهَين. أ. أولهما، دعا إلى استمرار دول المجلس في تأييد جهود الأمين العام للأمم المتحدة، وعدم اتخاذ أي موقف محدد من المفاوضات، يفسَّر بأنه انحياز إلى هذا الطرف أو ذاك. ب. أمّا الاتجاه الثاني، فرأى أن دول المجلس معنية بنجاح المفاوضات، والوصول بها في أسرع وقت، إلى تسوية سلمية، ما يقتضي الاضطلاع بدور أبعد من دور المراقب، والمؤيد للجهود الدولية، وأنه يمكن أن تؤدي دول الخليج دوراً في دفع المفاوضات، من خلال اتخاذ موقف أكثر تحديداً من القضايا المستعصية، خاصة قضية الأسرى. والجدير بالذكر، أن إيران بادرت إلى تحرّك دبلوماسي، قبْل أيام قليلة من القمة الخليجية العاشرة، إذ أرسلت مبعوثاً خاصاً، زار قطَر والإمارات العربية المتحدة، إضافة إلى توجيه رسائل، عبر سفرائها لدى الدول الخليجية، عبّرت فيها عن رغبتها في تحسين العلاقات بكل دول المنطقة. ويبدو أن هذا الجهد الدبلوماسي الإيراني قد آتى ثماره، إذ إن قرار القمة الذي صدر في 21 ديسمبر 1989، جاء حلاً وسطاً بين الاتجاهَين المشار إليهما، فأكد أهمية الدور، الذي تؤديه الأمم المتحدة في المفاوضات العراقية ـ الإيرانية، وأهمية حل قضية الأسْرى، على أساس أن هذه الخطوة، تضفي جواً من الثقة والفاعلية على المفاوضات، وتؤدي إلى تسارع الجهود، في اتجاه حل سلمي، وشامل. لقد أتاحت الحرب العراقية ـ الإيرانية الفرصة، لكي تتجاوز الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بتأثيرها، الذي يتخفى تحت العباءة الدينية، منطقة الخليج. ذلك أن سورية، التي دخلت في صراع مرير مع العراق، نشأ شبه تحالف بينها وبين إيران، وعُلِّل هذا التقارب بالتشابه المذهبي بين النظام العلوي الحاكم في سورية، وبين الجمهورية الشيعية في إيران، التي اتخذت من الفقه الجعفري مذهباً رسمياً. كذلك، استفادت سورية اقتصادياً من هذا التقارب، بالحصول على النفط الإيراني بأسعار مخفضة. صحيح أن دولاً عربية أخرى، مالت إلى إيران مثل ليبيا، في السنوات الأولى للحرب، وكذلك الجزائر، ولكن ليس إلى درجة التقارب السوري. وعبْر سورية تسرب النفوذ الإيراني في لبنان، حيث كان المجال واسعاً لالتحام حراس الثورة الإيرانيين بميليشيا حزب الله، الذي لم يخفِ ولاءه، السياسي والديني، لإيران. وعلى الرغم من التحسن، الذي طرأ على العلاقات بين إيران وبعض دول الخليج العربية، في النصف الأول من عام 1990، إلاّ أن العديد من القضايا ظلت محل خلاف، ولا سيما تلك المتعلقة بالتزام إيران بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج، ووقف الحملات الإعلامية بين طهران والرياض، ورفض إيران، للعام الثالث على التوالي، الاشتراك في موسم الحج. غير أن هذا الموقف سرعان ما تبدد، بعد غزو العراق للكويت، فأصبح الحديث عن اشتراك إيران في الدفاع عن أمن الخليج، وإنشاء علاقات على أُسُس متينة بينها وبين جيرانها، مقبولاً لدى الطرفَين. وقد شهد عام 1990 تبادلاً مكثفاً للزيارات والرسائل الرسمية، بين إيران ودول الخليج، بما فيها الكويت، التي استقبلت علي أكبر ولايتي، وزير خارجية إيران، في أول زيارة رسمية لمسؤول إيراني، منذ اندلاع حرب الخليج الأولى. واتفق البلدان على استئناف الرحلات الجوية بين طهران والكويت، وتشغيل خط ملاحي بين ميناء بوشهر الإيراني والكويت، وإنشاء العلاقات بين الطرفَين على أساس حُسن الجوار، والاحترام المتبادل للسيادة الإقليمية للبلدَين. كما زار علي محمد بشارتي، نائب وزير الخارجية الإيراني، عُمان، وأبو ظبي، والبحرين. أمّا الرئيس رافسنجاني، فبعث برسائل خطية إلى دولة البحرين، في 12 أبريل 1990، وسلطنة عُمان، في 12 مايو 1990، والإمارات العربية المتحدة، في 14 يوليه 1990. وتشير هذه الزيارات والرسائل إلى: أ. أن هناك تياراً قوياً، في إيران، يمثله الرئيس علي أكبر هاشمي رافسنجاني، يرفض ويعارض تصدير الثورة الإيرانية إلى الدول الخليجية المجاورة، من طريق استخدام القوة، أو التدخل في شؤونها الداخلية. ب. أن هذا التيار، يؤيد فكرة اتخاذ مبادرات عملية، واتخاذ سلسلة من الخطوات والإجراءات، الدبلوماسية والسياسية والإعلامية، تساعد على فتح صفحة جديدة في العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. ج. أن مضمونها قد انصب على قضايا، اقتصادية وتجارية، ولم يتطرق إلى مسائل ذات طبيعة أمنية أو عسكرية. وعلى الرغم من مناخ الوفاق الجديد بين إيران ودول الخليج، إلاّ أن العلاقات الإيرانية ـ السعودية، سارت في اتجاه معاكس. فقد ازدادت حدّة الحملات الإعلامية بين طهران والرياض، مع اقتراب موسم الحج. وأدى الجدل القائم بين البلدَين، حول عدد الحجاج الإيرانيين، المحدد بـ 45 ألف حاج إيراني، وفقاً لقرار منظمة المؤتمر الإسلامي، والمرفوض من قِبل إيران، إلى تأجيج الحملات الإعلامية بينهما.

ثانياً: العلاقات العربية ـ الإيرانية، اقتصادياً

تدهورت العلاقات الاقتصادية، بين العرب وإيران، تدهوراً كبيراً، منذ نجاح الثورة الإيرانية، وما تلاها من تهديد بتصدير الثورة الإسلامية، ثم اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية، ثم فتنة حج عام 1407 هـ (1987م)، التي وقعت في مكة المكرمة، وما تلاها من أحداث، ولا سيما الأعمال التخريبية في سفارة المملكة العربية السعودية في طهران، وتسببت بقطع العلاقات بين طهران والرياض. وتكاد العلاقات الاقتصادية بين الطرفَين، تكون محصورة في صادرات إيرانية إلى العرب، لم تجاوز 57 مليون دولار، عام 1987، وواردات إيرانية، قدرت بنحو 190 مليون دولار، في العام نفسه. وكان معظم التجارة الإيرانية مع الإمارات العربية المتحدة والكويت وسورية. ولم تزد تجارة إيران مع الوطن العربي على 1.2% من إجمالي تجارتها الخارجية، عام 1987، وفي الوقت عينه، تشكل التجارة العربية مع إيران نحو 0.1% من إجمالي التجارة الخارجية للوطن العربي. وقد مثلت عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدول العربية وإيران، بعد انتهاء الحرب الإيرانية ـ العراقية، مقدمة منطقية لتطوير علاقاتها الاقتصادية. وإذا كانت الكويت في طليعة الدول العربية، التي استأنفت علاقاتها الدبلوماسية بإيران، بعد قبولها قرار وقف إطلاق النار، الصادر في 20 يوليه 1987، فإن المملكة المغربية هي آخر دولة استعادت علاقاتها بإيران، في ديسمبر 1991. وعلى مدار ثلاث سنوات، هي الفاصلة بين الحدثَين، جرت مياه كثيرة من تحت الجسور، ووَسِع إيران أن تتغلب على بعض العقبات الرئيسية في هذا الخصوص، ومنها العقبة العراقية. وشهدت المعاملات التجارية الخليجية ـ الإيرانية دفعة قوية، زيدت، بمقتضاها، قيمة واردات إيران من دبي، من 427 مليون دولار، عام 1989 إلى 520 مليون دولار، عام1990. وفي المقابل، قدِّرت قيمة الواردات البحرينية من إيران، في النصف الأول من عام 1991، بحوالي 9.2 ملايين دولار، مقارنة بـ 6.6 ملايين دولار، على مدار عام 1990. لكن ارتفاع حجم التجارة البينية، الخليجية ـ الإيرانية، لم يكن هو الوجه الوحيد لنمو العلاقات الاقتصادية المتبادلة بين الطرفَين. ولم يكن النطاق الخليجي، على أهميته، يمثل الوعاء الوحيد لنمو العلاقات الاقتصادية، بين العرب وإيران. فعلى المستوى الأول، شكلت صيغة المشروعات المشتركة واحدة من أبرز مظاهر التعاون الإيراني ـ الخليجي ، وكان أهمها، على الإطلاق، ذلك المشروع الذي عرف باسم"الأنبوب الأخضر"، الذي يقضي بتوصيل مياه الشرب، من نهر قارون، جنوبي إيران، إلى دولة قطَر، عبْر خط أنابيب ضخم، يبلغ طوله 1800 كم. ويمثل هذا المشروع بديلاً من نظيره التركي"مشروع مياه السلام"، الذي يهدف إلى سحب فائض المياه، من نهرَي"سيهان"و"جيهان"، جنوبي تركيا، وتوصيله إلى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مروراً بسورية والأردن. ومن تلك الزاوية، فإنه يعكس أحد أبعاد التنافس التركي ـ الإيراني، بعد حرب الخليج الثانية، سواء في المنطقة العربية أو في نطاق الشرق الأوسط. وعلى صعيد آخر، تعاونت إيران مع سلطنة عُمان على مدّ الخطوط الملاحية فيما بينهما، تسهيلاً لتدفق الأشخاص والسلع التجارية. كما ساندت السلطنة في مجلس التعاون المشروع الإيراني، المتعلق بمدّ خط للسكك الحديدية، يربط طهران بدول آسيا الوسطى. بل إن موضوع النفط، الذي يُعَدّ أحد الموضوعات الشائكة في العلاقات الخليجية ـ الإيرانية، خاصة مع زيادة إيران حصتها النفطية المقررة، من 3.6 إلى 3.9 ملايين برميل، يومياً، لمواجهة أزمتها الاقتصادية، هذا الموضوع تجنبت إيران أن يصبح سبباً في وقوع مواجَهة حادّة، داخل منظمة الأوبك.

ثالثاً: العلاقات العربية ـ التركية، سياسياً

لقد تجلت حكمة العقل السياسي التركي العام، في أوضح صورها، في أبعاد الموقف التركي المعلن، والمنفذ، عملياً وواقعياً، إبّان الحرب الإيرانية ـ العراقية، الممتدة لأكثر من ثماني سنوات متتالية. فلقد التزمت تركيا حياداً دقيقاً، حقيقياً، من الحرب، حرصاً منها على علاقاتها بالدولتَين المتحاربتَين، ولم تلجأ إلى أدنى صنوف الضغط، الاقتصادي أو الدبلوماسي، في مصلحة أحدهما ضد الآخر، بل سعت الدبلوماسية الخارجية سعياً حثيثاً إلى مساعدة الطرفَين على التوصل إلى تسوية سلمية لنزاعهما. فاشتركت تركيا، عضواً، في لجنة السلام الإسلامية، التي أنشئت عام 1980، منذ بداية أعمالها، وبذلت الجهود في نطاقها. بل إن الطرفَين المتصارعَين طلبا من أنقرة أن ترعى مصالح كلٍّ منهما لدى الآخر، فاستجابت لهما. إن حياد تركيا، وإن كان له جوانب إيجابية على الصعيد الاقتصادي، لكنه لم يساعدها على أداء أي دور إيجابي وحقيقي لإيقاف القتال. والمرة الوحيدة، التي نجحت فيها تركيا، عبْر وساطة شخصية من رئيس الوزراء التركي،"تورجوت أوزال Turgut Ozal" ، كانت في مارس 1988، وتعلقت بمحاولة إيقاف القصف المتبادل للمدن. ولم يدم النجاح التركي سوى أيام قليلة، عادت بعدها مظاهر التصعيد العسكري إلى الذروة. والملاحظ أن تركيا، لم تلجأ أبداً إلى التلويح بممارسة أي نوع من الضغوط الاقتصادية، على أي من المتحاربَين. ومع وقف القتال، في 20 أغسطس 1988، وتعثر المفاوضات بينهما، لم تتغير عناصر الموقف التركي إزاء البلدَين، بل إن عمليات الإعمار الجزئية، تعد، من وجهة النظر التركية، عاملاً إيجابياً، وتفتح المجال أمام الشركات التركية للمساهمة في هذه العمليات، سواء في إيران أو العراق. وتأثرت العلاقات العربية ـ التركية، في غضون الثمانينيات، بعدة عوامل، أبرزها التحديات الاقتصادية الداخلية التركية، والحرب العراقية ـ الإيرانية. وقد تضافر هذان العاملان معاً، ونجم عنهما نوع من التقارب العربي ـ التركي. فالتحديات الاقتصادية التي عانتها تركيا، وتمثلت في ضغوط أوروبية، أدّت إلى إعادة العمالة التركية، الموجودة في أوروبا، إلى وطنها، وقدرت بمئات الآلاف من العمال الأتراك، إضافة إلى تقلص فرص تصدير المنتجات التركية إلى أوروبا، ولا سيما الزراعية. وتزامن مع هذه التطورات السلبية تطورات أخرى، ذات طابع إيجابي، إذ تزايد استخدام الأراضي التركية، لعبور الكم الهائل من بضائع الترانزيت إلى العراق ومنطقة الخليج العربي، لسد الحاجات ومتطلبات التنمية في تلك المنطقة. وهكذا وجدت تركيا نفسها مدفوعة إلى إحداث تقارب مع الدول، العربية والخليجية. ولم يكن هذا التقارب مدفوعاً برغبة تركية وحسب، بل وجدت دوافع عربية، اختلطت فيها العناصر الاقتصادية بأخرى إستراتيجية وأمنية مباشرة. ويبدو ذلك التداخل في عدد من الاتفاقات، الموقعة بين تركيا وبعض الدول الخليجية، في المجالَين، الاقتصادي والأمني، إذ وُقعت اتفاقات أمنية حدودية بين العراق وتركيا، واتُّفق على توسيع أنبوب النفط العراقي ـ التركي، ليكون بطاقة مليون ونصف مليون برميل، يومياً، وصار العراق، منذ منتصف الثمانينيات، الدولة الثانية في قائمة الدول المستوردة من تركيا، بينما يحتل المرتبة الثالثة، في قائمة الدول المصدرة إليها. وبالنسبة إلى الدول الخليجية الأخرى، فقد اطَّرد تطور علاقاتها بتركيا. وفي خلال عامَي 1984 و1985، زار الرئيس التركي،"كنعان إيفرين Kenan Evren"ـ ، (1982 ـ 1989)، كلاًّ من المملكة العربية السعودية والكويت وقطَر والبحرين والإمارات، حيث وقع عدة اتفاقات، اقتصادية وتجارية. وفي الوقت نفسه، تطورت علاقات تركيا بكلٍّ من مصر ودول المغرب العربي، ولا سيما تونس والمغرب. ومما تجدر ملاحظته أن الاعتراف التركي بإسرائيل، منذ مارس 1949، ووجود علاقات دبلوماسية بينهما، لم يؤثرا في نمو العلاقات، السياسية والاقتصادية، بين العرب وتركيا، إبّان الثمانينيات. ويرجع ذلك إلى سببَين. أحدهما، عربي وهو خاص بنمو التوجهات السياسية العربية، القابلة للتسوية السياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي. والسبب الثاني، وهو تركي، ويرجع إلى مراعاة تركيا للدول العربية، وتقليل مساحة العلاقات بإسرائيل، فضلاً عن تأييد الحقوق الفلسطينية، والحل العادل للصراع العربي ـ الإسرائيلي. وتمثل المنطقة العربية أهمية خاصة بالنسبة إلى تركيا، ليس لاعتماد الاقتصاد التركي على النفط العربي فقط، ولكن لمعايير، أمنية وإستراتيجية، فقد نصت الاتفاقات الدفاعية بين تركيا ودول حلف شمال الأطلسي على إمكانية استخدام القواعد التركية، للدفاع عن المصالح الغربية في الشرق الأوسط، بعد موافقة الحكومة التركية. وفي هذا الإطار يمكن تحديد ثلاثة عوامل أساسية، توضح أهمية المنطقة العربية، خاصة الخليج العربي، بالنسبة إلى أمن تركيا: 1. المصالح الاقتصادية لتركيا في المنطقة، إذ تحصل على 60% من حاجاتها النفطية من دول المنطقة، فضلاً عن أن الصادرات التركية إلى الدول العربية، خاصة إلى سورية والعراق والمملكة العربية السعودية، تساعدها على تقليص العجز في ميزانها التجاري مع الغرب. 2. مصلحة تركيا في استمرار تدفق النفط العربي إلى الغرب، نظراً إلى ارتباط أمنها ومصالحها بأمن الغرب ومصالحه. 3. عودة الأحزاب الإسلامية، كقوة مؤثرة في الحياة السياسية التركية، أدّت إلى اهتمام تركيا بقضايا العالمَين، الإسلامي والعربي. وخلال النصف الأول من عام 1990، سيطر على العلاقات العربية ـ التركية قضية المياه. فسورية والعراق، يشتركان مع تركيا في الاستفادة من نهرَي دجلة والفرات، اللذَين ينبعان من جبال تركيا الشرقية، ويصبان في الخليج العربي. وقد أدّت المخططات التركية، الرامية إلى بناء السدود على النهرَين إلى توتر العلاقات بين الدول الثلاث، ولا سيما أن 90% من مياه الفرات، تنبع من الأراضي التركية، وتساهم تركيا، وبنفس النسبة تقريباً، في نهر دجلة، قبل التقائه فرعه الشرقي، الذي ينبع من جبال زاجروس، في إيران. وقد انفجرت أزمة مياه الفرات، في 13 يناير 1990، حينما أعلنت تركيا قطع مياه الفرات عن كل من سورية والعراق، لمدة شهر كامل، ريثما يمتلئ خزان سد أتاتورك. وقد أدى قرار تركيا إلى إلحاق أضرار كبيرة بالمحاصيل الزراعية، في سورية والعراق، وانقطاع المياه والكهرباء عن بعض المدن السورية. وأثار أزمة سياسية في العلاقات العربية ـ التركية، فدانت جامعة الدول العربية، في بيان رسمي، في 14 يناير 1990، إقدام السلطات التركية على قطع مياه الفرات، وعَدّت ذلك سابقة خطيرة في العلاقات التركية ـ العربية. وقد تزامن قرار تركيا قطع مياه الفرات، لمدة شهر، مع بدء المشاورات بين تركيا وإسرائيل، لرفع مستوى العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى درجة سفارة، وكانت العلاقات بين تركيا وإسرائيل، منذ عام 1980، على مستوى مفوضية، بعد أن سحبت تركيا سفيرها لدى تل أبيب، احتجاجاً على ضم إسرائيل للقدس الشرقية. وثمة أسباب دفعت أنقرة إلى النظر في رفع مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، منها ضعف المساندة العربية للأقلية التركية، في قبرص وبلغاريا، ومساندة بعض الدول العربية للحركة الانفصالية الكردية في تركيا، إضافة إلى أن الحصار الدبلوماسي العربي لإسرائيل، قد ضعف، بعد معاهدة كامب ديفيد 1978. وكان أبرز الخطوات، على صعيد تطبيع العلاقات بين إسرائيل وتركيا، ما أعلنه السفير التركي في عمان، في 14 مايو 1990، أن تركيا ستزود إسرائيل المياه، ولكن ليس من طريق اتفاق رسمي بين الحكومة التركية وإسرائيل، وإنما من خلال اتفاق بين إسرائيل وإحدى شركات القطاع الخاص التركية. ويلاحظ أن تركيا نفت وجود اتفاق رسمي مع إسرائيل، في هذا الشأن، حرصاً على المشاعر العربية.

رابعاً: العلاقات العربية ـ التركية، اقتصادياً

تحتفظ تركيا بعلاقات اقتصادية وثيقة بالأقطار العربية. وتتنوع تلك العلاقات بين التجارة وهجرة العمالة التركية، للعمل في الوطن العربي، ونشاط شركات تركية في أعمال مقاولة في الوطن العربي، وتوجُّه استثمارات عربية إلى تركيا. وقد قدِّرت القيمة الإجمالية للعقود، التي فازت بها الشركات التركية، في الوطن العربي، من عام 1976 وحتى يونيه 1988، بنحو 16 ملياراً و897 مليون دولار، تمثل نحو 97.8% من إجمالي العقود، التي فازت بها الشركات التركية، خارج بلادها. وتركز أغلب العقود التركية في ليبيا والمملكة العربية السعودية والعراق، وكان ترتيبها على التوالي: 54.5%، 28.7% ، 12.1%. أمّا في خصوص الاستثمارات العربية المباشرة في تركيا، فحتى عام 1970، لم يكن موجوداً منها سوى استثمارات كويتية محدودة، ثم أخذت الاستثمارات العربية تتزايد، وأصبحت تشكل نحو 13.7 من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا، عام 1986. وتأتي ليبيا والمملكة العربية السعودية والبحرين، في مقدمة الأقطار العربية التي لها استثمارات مباشرة في تركيا. وتتركز الاستثمارات العربية في تركيا في مجالات، التجارة والمصارف والنقل والزراعة والثروة الحيوانية والسياحة والصناعة. ولتركيا حوالي 50 ألف عامل يعملون في المملكة العربية السعودية وليبيا والعراق والكويت، خلال عام 1988.

المبحث الثالث : الموقف الدولي =

أولاً: الحرب الباردة، ومشكلات الأمن في الخليج

عندما أعلنت حكومة العمال البريطانية، برئاسة هارولد ويلسون Harold Wilson، سياسة الانسحاب من الخليج العربي، في 16 يناير1968، حددت نهاية عام 1971، ليكون موعداً نهائياً لاستكمال هذا الانسحاب وإنهاء الوجود العسكري البريطاني، بما يترتب على ذلك، من التخلي عن التزاماتها الدفاعية في المنطقة. والحقيقة أن الحكومة البريطانية قد ترددت كثيراً في اتخاذ هذا القرار، بعد فترة استعمارية طويلة، استمرت أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان. غير أنه تعذر عليها التوفيق بين حرصها على استمرار البقاء وبين ما يترتب عليه من نفقات مادية، لم تكن قادرة على تحملها. والشيء الغريب، والمثير للانتباه، أن قرار الانسحاب البريطاني من الخليج العربي، لم يجد ترحيباً له في كثير من الدوائر، الغربية والإقليمية والمحلية. إذ أبدت الولايات المتحدة الأمريكية قلقها من السرعة التي اتخذ بها هذا القرار. ودعا الرئيس الأمريكي،"ليندون جونسون Lyndon Baines Johnson"، الحكومة البريطانية إلى الإبقاء على بعض قواعدها العسكرية، تحسباً للفراغ الذي سوف يخلّفه انسحابها. كما أبدت المملكة العربية السعودية قلقها من القرار البريطاني، لأنها كانت تخشى من الهيمنة الإيرانية على الخليج. وكانت البحرين تخشى، بدورها، من تجدد الادعاءات الإيرانية فيها. كما عرض بعض الإمارات العربية، خاصة إمارة دبي، على الحكومة البريطانية، المساهمة في النفقات المادية، المترتبة على استمرار وجودها العسكري. أمّا إيران، فقد رحبت بقرار الانسحاب، إذ كانت تنظر إلى الخليج على أنه بحيرة فارسية. ومن ثَمّ، أخذت تعد نفسها، لتكون القوة المهيمنة عليه، خاصة أن قرار الانسحاب، اقترن بضجة، سياسية وإعلامية، واسعة النطاق، بما سيؤدي إليه من حدوث فراغ، يتعين ملؤه، حتى لا تتاح الفرصة للسوفيت، أو للعناصر الراديكالية المعادية للأنظمة القائمة، فرصة التغلغل في المنطقة. وقد أكدت الحكومة الأمريكية، على لسان دافيز روجرز، وهو أول مبعوث رسمي، أوفدته إلى المنطقة، في نهاية عام 1971، أنها ترحب بتحالف إقليمي، يكون من شأنه المحافظة على الأمن والاستقرار في المنطقة، على الرغم من أنها لم تكن عازمة على سد الفراغ الذي سينشأ نتيجة الانسحاب البريطاني. وفي صدد ذلك، طرحت مشروعاً لحلف إقليمي، يتكون من تركيا وإيران وباكستان والمملكة العربية السعودية والكويت. وصرح"يوجين روستو EugeneRostow"، مستشار الرئيس الأمريكي،"ريتشارد نيكسون Richard Milhous Nixon"، للأمن القومي، بأن هذا التحالف سيكون أساساً، يمكن أن ترتكز عليه تدابير الأمن والاستقرار في المنطقة. غير أن مشروع التحالف الإقليمي، أو الإسلامي، الذي اقترحته الولايات المتحدة الأمريكية، لم يجد استجابة من دول الخليج العربية، خاصة من المملكة العربية السعودية والكويت، اللتَين أخذتا تركزان جهودهما في التغلب على العقبات، التي كانت تعترض سير المباحثات الاتحادية، التي كانت تدور بين الإمارات السبع على الساحل الجنوبي للخليج، إضافة إلى قطَر والبحرين، والتي قد يكون من شأنها إقامة دولة اتحادية، تجمع بين تلك الإمارات التسع، كوسيلة يمكن التذرع بها لمواجهة ما كان يتردد من حدوث فراغ في المنطقة. ونتيجة للمساعي السعودية ـ الكويتية، شهدت الفترة المواكبة للانسحاب البريطاني، قيام دولة الإمارات العربية المتحدة في 2 ديسمبر 1971، وإن لم تضم إليها قطَر والبحرين، اللتَين انسحبتا من المباحثات الاتحادية، وأعلن كلٌّ منهما استقلالها. ومع ذلك، لم تكن الجهود المبذولة لقيام الدولة الجديدة، كافية لسد الفراغ. ومن ثَمّ، أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى إيران، كأقوى قوة إقليمية، يمكن أن تعتمد عليها في حماية مصالحها. ولعل ذلك يفسر تأييد واشنطن لطهران، بالتنسيق مع لندن، في السيطرة على جزر الخليج الثلاث، أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، لأهمية موقعها الإستراتيجي، على مقربة من مضيق هرمز، شريان الحياة، الاقتصادية والملاحية، في منطقة الخليج العربي.

ثانياً: التحركات السوفيتية في منطقة الخليج

ولم تكد تنقضي عدة أشهر على إعلان الانسحاب البريطاني، حتى وصلت قطع بحرية سوفيتية إلى بعض موانئ الخليج العربي، والجزء الغربي من المحيط الهندي، في كلٍّ من بومباي (Bombay) ومدراس (Madras) وبندر عباس وأم قصر وعدن ومقديشو. وساعد على تلك التحركات البحرية، التحولات السياسية في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية؛ إذ هيمن الجناح الماركسي من جبهة التحرير القومية، على السلطة. إضافة إلى التحولات التي أعقبت انقلاب حزب"البعث"في العراق؛ إذ تمكنت مجموعة من عناصر الجيش العراقي من السيطرة على الحكم، في 17 يوليه 1968، وكان على رأسها اللواء أحمد حسن البكر وصدام حسين. وكان من الطبيعي، أن يترتب على تلك التطورات توثّق العلاقات بين الاتحاد السوفيتي وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، من جهة، وبينه وبين العراق، من جهة أخرى. فقد أُبرمت معاهدة صداقة وتعاون، في 9 أبريل 1972، بين موسكو وبغداد (أُنظر <a href="doc07.doc_cvt.htm">وثيقة ترجمة معاهدة الصداقة والتعاون بين العراق والاتحاد السوفيتي التي عقدت في بغداد في 9 أبريل 1972</a>) و(وثيقة أصل المعاهدة باللغة الإنجليزية. أتاحت للسوفيت موضع قدم لهم على الجزء الساحلي الجنوبي من العراق، المشرف على الخليج، من الناحية الشمالية. بينما أتاحت للعراق الحصول على الأسلحة والخبراء الفنيين من الاتحاد السوفيتي. كما منح العراق الاتحاد السوفيتي الإشراف على بعض مشروعاته الحيوية، ومن بينها مشروع أنابيب للنفط، تمتد إلى ميناء أم قصر العراقي، المطل على الخليج. وكدليل على توثّق العلاقات السوفيتية ـ العراقية، بادر الرئيس السوفيتي، "ليونيد بريجينيف Leonid Llich Brezhnev" إلى زيارة منطقة شط العرب، ضمن جولته في العراق، على أثر توقيع تلك المعاهدة. وردت الولايات المتحدة الأمريكية، في مايو 1972، بتقديم كميات هائلة من المساعدات العسكرية إلى إيران، إضافة إلى صفقة أسلحة كبيرة. فكان الربط بين معاهدة الصداقة والتعاون العراقية ـ السوفيتية في أبريل 1972، وبين صفقة الأسلحة الأمريكية لإيران في مايو 1972، إيذاناً ببدء الحرب الباردة بين العملاقَين. وهكذا بدأ التسابق بين الدولتَين العظميَين، إلى كسب النفوذ في الخليج العربي والأقطار المجاورة له. فقد أتيح للسوفيت، بحكم علاقتهم الوثيقة بجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، أن يسهموا في دعم الحركة اليسارية، التي كانت تتزعمها جبهة تحرير ظُفار، في سلطنة عُمان، التي لم تلبث أن تحولت إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي، مما شكل تحدياً للمصالح الغربية في المنطقة، إذ كان هناك تخوف مما يمكن أن يترتب على نجاح تلك الحركة، من قيام نظام يساري في عُمان، يكون في مقدوره التحكم في شبه جزيرة مسندم (Musandam)، المشرفة على مضيق هرمز. وإذا أُضيف إلى ذلك، أن جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، تتحكم في جزيرة بريم، الواقعة عند مدخل مضيق باب المندب، فإن ذلك يعني، أن تصبح نقاط اختناق (Choke Points) في كلٍّ من المداخل الجنوبية للبحر الأحمر والخليج العربي، أي مضايق هرمز وباب المندب، واقعة تحت النفوذ السوفيتي، من طريق الأنظمة الموالية للاتحاد السوفيتي، فيكون في مقدوره، استطراداً، التحكم في تصدير النفط، أو قطع إمداده عن العالم الغربي، بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية.

ثالثاً: التغير في الساحة الإقليمية، والمكاسب السوفيتية

استطاع الاتحاد السوفيتي أن يستفيد من التغيرات في الساحة الإقليمية، المتمثلة في الاضطرابات، التي وقعت في إيران، ومهدت لقيام الثورة الإسلامية، عام 1979. وعلى الرغم من أن قادة النظام الإسلامي، لم يتجهوا إلى توثيق علاقتهم بالاتحاد السوفيتي؛ إذ أعلنوا أن ثورتهم ضد المعسكرَين، السوفيتي والأمريكي معاً، إلاّ أن موقف الثورة العدائي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وإطاحتها النظام الشاهنشاهي، المعروف بتحالفه مع الغرب، والمستخدم كأداة لقمع التيارات اليسارية، كان يعد، في حد ذاته، كسباً للجانب السوفيتي. ترتب على نشوب الثورة الإسلامية الإيرانية، وظهور آية الله الخميني، كزعيم روحي لها، اتجاه لتصدير العنف إلى الدول المجاورة، ومحاولة إطاحة الأنظمة السياسية القائمة، مما أدى إلى تعريض الأمن في الخليج لأخطار شديدة. وكان من الطبيعي، أن يؤدي ذلك إلى قلب الإستراتيجية، التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية، في منطقة الخليج، رأساً على عقب، ومن ثَمّ، كان لا بدّ لها أن تضع إستراتيجية جديدة، خاصة بعد أن أظهرت دول الخليج مخاوفها، حين أفصحت حكومة الثورة الإيرانية عن أهدافها التوسعية، ولم تخفِ عزمها على تصدير الثورة، وهو ما نظرت إليه تلك الدول على أنه تهديد لأمنها. ولم ينتقص من هذه النظرة ما بدا من عداء الثورة الإيرانية للسوفيت؛ إذ إنها كانت ضد الشاه والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، في آن واحد. وتجسد خطر الثورة في ما صرح به آية الله الخميني، عشية اندلاعها، أن في إمكانه "أن يحوّل الخليج إلى كرة من النيران، إن جرؤ أحد على المساس بنا". وفي الوقت الذي كان السوفيت يحققون تلك المكاسب، كانت الولايات المتحدة الأمريكية، ترقب تلك التغيرات بقلق واهتمام بالغَين. كما كان الطبيعي أن تتجه إلى ردود فعل مضادّة، كي تواجِه التقدم السوفيتي، من جهة، وتعمل على تدعيم مصالحها، الاقتصادية والإستراتيجية في المنطقة، من جهة أخرى. وليس من شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تدرك جيّداً، أن الانسحاب البريطاني قد أفرغ المنطقة من قوة رادعة؛ إذ لم تكن دول الخليج العربية في وضع، يمكّنها من تحمّل مسؤولية الدفاع عن نفسها، على الرغم من إحرازها الاستقلال. ومن ثَمّ، وجهت واشنطن نظرها إلى القوى الإقليمية، المحيطة بالخليج، وهي العراق والمملكة العربية السعودية وإيران، وسعت إلى التوفيق بين طهران والرياض، بعد ما توترت العلاقات بينهما، نتيجة التصريحات الإيرانية المتكررة، بأن إيران قد أصبحت القوة الوحيدة، المهيمنة على الخليج العربي. أمّا العراق فلم يكن، بطبيعة الحال، يستلفت اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية لانشغاله بأوضاعه الداخلية، واتجاهه إلى توثيق علاقته بالأنظمة ذات النزعة اليسارية، للوقوف ضد إيران، من جهة، وضد المصالح الغربية، من جهة أخرى. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تركز اهتمامها في إيران، تحديداً، بعد كارثتها في فيتنام، وتبنّيها"مبدأ نيكسون"، إلاّ أنها كانت تدرك خطر غياب الوجود الأمريكي المباشر عن منطقة الخليج. ومن ثَمّ، اتجهت إلى تعزيز مَواقعها الإستراتيجية في المنطقة، كما اهتمت، في الوقت نفسه، بإقامة علاقات، اقتصادية ودبلوماسية، بدول الخليج العربية، حديثة الاستقلال، وقدمت إليها الخبرات والمساعدات، العسكرية والتقنية، التي كانت في حاجة إليها. وفضلاً عن ذلك، بادرت إلى تعيين أول سفير لها لدى الكويت، عام 1974، واعتمدته سفيراً متنقلاً في دول الخليج العربية الأخرى. وكل ذلك، يشير إلى ازدياد مصالح واشنطن في منطقة الخليج العربي. وكشفت مناقشات الكونجرس الأمريكي، أن وزارة الدفاع الأمريكية، استأجرت قسماً من قاعدة الجفير، منذ أخلتها بريطانيا، وبررت موقفها، سياسياً، بأن خطوتها تلك ضرورة، يمليها تغلغل الأسطول السوفيتي في المحيط الهندي، فلا بدّ من إثبات الوجود الأمريكي في بعض المَواقع القريبة منه. وعلى أثر نشر هذه المناقشات، نفت حكومة البحرين، أن يكون هناك أي اتفاق عسكري مع واشنطن. وذكرت أن الأمر يتعلق ببعض التسهيلات الاقتصادية لشركات مدنية أمريكية؛ إذ يتعذر على حكومة البحرين الناشئة، الاستفادة من المباني الشاسعة في القاعدة. وبمقتضى المعاهدة، التي أبرمتها الولايات المتحدة الأمريكية مع حكومة البحرين، في 23 ديسمبر 1971، أصبح لـ"قوة دفاع الشرق الأوسط"الأمريكية[2]) حق استخدام قاعدة الجفير، مما أتاح للبحرية الأمريكية، أن يكون لها وجود فاعل في الخليج العربي، والجزء الغربي من المحيط الهندي، وذلك إثر إلحاق "قوة دفاع الشرق الأوسط" بقيادة الأسطول السابع، في المحيط الهادي، بعد أن كانت لها قيادة خاصة مستقلة. كما طورت البحرية الأمريكية قاعدة الجفير، ليكون في وسعها استقبال السفن الأمريكية الأكبر حجماً، والأكثر كفاءة في التسليح. وبدا واضحاً، أن"قوة دفاع الشرق الأوسط"، ستضطلع بدور الحماية، الذي كانت تؤديه بريطانيا في الخليج. وإضافة إلى التسهيلات والقواعد البحرية الأمريكية في الخليج العربي، حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على تطوير قاعدتها في جزيرة دييجو جارسيا، الواقعة في الجزء الجنوبي الغربي من المحيط الهندي. وقد أسهمت هذه القاعدة إسهاماً ملحوظاً في نقْل المعدات العسكرية الأمريكية إلى الخليج، إبّان الغزو العراقي للكويت. ولم تقتصر أهمية الخليج العربي على موارده النفطية، أو دعم النظام النقدي العالمي، أو تحقيق الاستقرار والانتعاش الاقتصادي في الدول الصناعية الكبرى، وإنما يمكن أن نضيف إلى ذلك القروض والمنح الضخمة، التي كانت تقدمها دول الخليج العربية، كالمملكة العربية السعودية والكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة، من طريق برامج المساعدات، أو صناديق التنمية العربية، أو المنح المباشرة، إلى دول العالم الثالث، مما كان يخفف، إلى حدٍّ كبير، من الأعباء المادية، التي كانت تتحملها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، خاصة أن تلك المساعدات، كانت تتجه إلى الدول ذات الأنظمة المعتدلة. ومن ثَمّ، أصبح النفط، لا يشكل أهمية اقتصادية فحسب، وإنما أهمية سياسية وإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، ولحلف شمال الأطلسي. وانطلاقاً من هذا السياق، أصبح مفهوم أمن الخليج، يرتكز، في منظور السياسة الأمريكية، على تأمين موارد النفط، وإبعاد السوفيت، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، عن التطلع إلى المنطقة. وعلى العكس من ذلك، كان الاتحاد السوفيتي، يرفض فكرة الأمن في حدِّ ذاتها، ويعدها فكرة إمبريالية، ابتدعتها الولايات المتحدة الأمريكية، بهدف السيطرة على موارد النفط، واستخدام منطقة الخليج لتهديد أمن الاتحاد السوفيتي نفسه. ومن ثَمّ، اتجهت السياسة السوفيتية إلى التقرب من دول المنطقة وشعوبها، والتضامن معها إزاء العديد من القضايا، وبصفة خاصة في النزاع بينها وبين إيران، فيما يتعلق بحقوق السيادة على جزر الخليج الثلاث (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى).

رابعاً: اتفاقات السلاح الكويتية، وبداية التغلغل السوفيتي في المنطقة

تُعَدّ الاتفاقية العسكرية، بين الكويت والاتحاد السوفيتي، الموقعة في أغسطس 1976، بداية التغلغل السوفيتي في دول منطقة الخليج. كما تعد أولى الخطوات نحو علاقات عسكرية ودية بين البلدَين. وقدرت قيمة الاتفاقية بمبلغ 300 مليون دولار، ثمن أسلحة حديثة من صواريخ أرض / جو، من نوع سام 7 (SAM-7)، ودبابات، ومدفعية حديثة (بما فيها صواريخ أرض / أرض). كما زار موسكو وزير خارجية الكويت، الشيخ جابر الأحمد الصباح، في أبريل 1981، موفداً من قِبل دول الخليج، بما فيها المملكة العربية السعودية، لفتح قناة حوار مع الاتحاد السوفيتي، وليوضح لمسؤوليه، أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ليس"وصفة"عسكرية أمريكية. وبحلول أغسطس 1984، وقَّعت الكويت والاتحاد السوفيتي اتفاقية أخرى، تقدر قِيمتها بنحو 325 مليون دولار، لشراء نظام دفاع جوي متطور. وفي صيف 1988، توصلت الدولتان إلى ثلاث اتفاقات، لشراء الأسلحة، قدرت قِيمتها بمبلغ 300 مليون دولار، لشراء عربات مدرعة من نوع (BMB-2) ومع نهاية مايو 1989، وقَّعت الكويت ويوغسلافيا اتفاقية شراء معدات عسكرية، قدرت قِيمتها بنحو 800 مليون دولار، لشراء 350 دبابة. وقد تسببت أول اتفاقية كويتية ـ سوفيتية، في أغسطس 1976، بخلق توتر، داخلي وإقليمي. فاتُّهمت الكويت بأنها فتحت أبوابها لتلقين المبادئ الماركسية لقواتها المسلحة، من خلال التدريبات العسكرية، وفتحت الباب، كذلك، للخبراء العسكريين السوفيت إلى بنية الجيش الكويتي. والأهم، أن المملكة العربية السعودية، عارضت التغلغل السوفيتي في شبه الجزيرة العربية، من خلال الكويت. وقد عُدلت الاتفاقية، ليتمكن الكويتيون من الحصول على التدريب على المعدات الجديدة، في كلٍّ من مصر وسورية، وكذلك في الكويت نفسها، من قِبل خبراء مصريين بدلاً من الخبراء السوفيت. ويبدو أن العلاقات الكويتية ـ السوفيتية، قد آتت بعض الثمار. ومع حلول عام 1987، وأثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، أُعلن أن الاتحاد السوفيتي، قد بدأ يتصل مع إيران، طالباً منها التوقف عن مهاجمة الكويت، واحترام سيادتها واستقلالها. وفي منتصف عام 1988، اتفقت الكويت والولايات المتحدة الأمريكية على اتفاقية أسلحة شاملة، تقدر بمليار وتسعمائة مليون دولار. وتُعَدّ هذه أكبر صفقة سلاح، توقّعها الكويت. وسبق للكويت أن اشترت من فرنسا، عام 1983، أسلحة تجاوزت قيمتها 300 مليون دولار. ويتضح من ذلك، أن الكويت قد تبنّت، في الحصول على أسلحتها، سياسة تنويع مصادر السلاح، وهو ما يسمح بحرية شراء السلاح، من دون ضغوط سياسية، أو تنازلات معينة، لأي من مصدّري السلاح.

خامساً: أمن الخليج، من وجهة النظر السوفيتية

رداً على التحركات الأمريكية في الخليج العربي، والدول المجاورة له، حاول الاتحاد السوفيتي توثيق علاقته بدول الخليج العربية، وإقامة علاقات دبلوماسية معها. فانبرى يخفف من حِدة حماسته للأنظمة اليسارية، في الوقت الذي كانت الحركات اليسارية، قد انحسرت، أو قُمِعَت، في منطقة الخليج. وأظهر تضامنه مع دول الخليج العربية في ما كانت تردّده من أن ثرواتها ملك لها، وأمنها هو من مسؤوليتها. فبادر الاتحاد السوفيتي إلى إعلان أهمية تحقيق الاستقرار والسلام في الخليج العربي والمحيط الهندي. وانطوي هذا الإعلان على مبادئ خمسة، طبقاً لما ورد في الخطاب، الذي ألقاه الزعيم السوفيتي، ليونيد بريجينيف، في البرلمان الهندي، في ديسمبر 1980، وشرح، من خلاله، للعالم وجهة النظر السوفيتية الرامية إلى تقليص الوجود الغربي في المنطقة الخليجية المجاورة للسوفيت. ودعا فيه إلى : 1. تحييد منطقة الخليج العربي والمحيط الهندي، وتعهد الدول المعنية بعدم الاعتداء على منابع النفط، باستخدام القوة، أو التهديد باستخدامها. 2. عدم إقامة قواعد عسكرية أمريكية في المنطقة، أو في الجزر القريبة منها. 3. احترام سياسة عدم الانحياز، التي اختارتها دول المنطقة وشعوبها، وعدم جرها إلى أحلاف عسكرية. 4. احترام حقوق السيادة لتلك الدول على مواردها الطبيعية، بما فيها النفط، وتوثيق العلاقات وتطوير التعاون فيما بينها. 5. عدم إيجاد عقبات أمام التبادل التجاري المشروع، أو إعاقة الطرق البحرية، التي تربط المنطقة بالعالم الخارجي. وعلى الرغم من جاذبية المبادئ، التي أعلنها بريجينيف وأهميتها، إلاّ أنها لم تلقَ استجابة من كثير من دول المنطقة، بسبب استمرارية الوجود السوفيتي في أفغانستان، إضافة إلى ما كانت تشنه الدوائر الأمريكية، من هجوم عنيف على الاتحاد السوفيتي، والذي وصل إلى حدّ مطالبة وسائل الإعلام الأمريكية، بضرورة المبادرة إلى تحركات عسكرية ضد السوفيت، الذين أصبح في وسعهم إعاقة الملاحة في مضيق هرمز، وما سوف يترتب على ذلك من تعرّض العالم الغربي لأضرار فادحة. وحقيقة الأمر، أن استغلال الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل السوفيتي في أفغانستان، أو احتمال تهديد الملاحة في مضيق هرمز، لم يكن إلاّ من قبِيل المبررات، التي استهدفت بها الولايات المتحدة الأمريكية تأكيد وجودها العسكري في الخليج.

سادساً: موقف الاتحاد السوفيتي، قبل الغزو العراقي للكويت

لقد شهد النظام العالمي، خلال الثمانينيات، تحولات عميقة، أثرت في هيكل القوى وموازينها فيه. وجاءت أزمة الكويت لتضع هذا النظام برمّته عند مفترق طرق، ولتسهم، بدورها، في الكشف عن سمات نظام دولي مختلف، بدأ يتشكل في رحم هذه الأزمة نفسها، بعد أن شهد مرحلة استقرار كبيرة، إثر الحرب العالمية الثانية، وإن كان يسيطر عليها أسلوب الحرب الباردة. فمنذ وصول الرئيس السوفيتي،"ميخائيل جورباتشوف Mikhail Gorbachev"، إلى السلطة في الاتحاد السوفيتي، في مارس 1985، كسكرتير عام للحزب الشيوعي السوفيتي، وشروعه في إحداث تغييرات جوهرية في هيكل النظام السوفيتي وسياساته، وفقاً لرؤيته هو إلى ضرورات المكاشفة"جلاسنوست"(Glasnost)، وإعادة البناء"بيريسترويكا"(Perestroika) ـ كان من الواضح أن النظام العالمي، بدأ يدخل مرحلة جديدة، امتدت منذ وصول جورباتشوف إلى السلطة وحتى اندلاع أزمة الكويت. وكان أهم سماتها قرار الاتحاد السوفيتي تقصير خطوط علاقاته الخارجية، والبحث عن أسلوب جديد لمعالجة المشكلات الدولية وحلها، يقوم على أساس"توازن المصالح"، بدلاً من"توازن القوى"، ونبذ محاولات السيطرة والهيمنة، والصراع الأيديولوجي، وتلمّس صيغ جديدة للتعاون الدولي، تضمن الحدّ من سباق التسلح، والتفرغ لمعالجة المشكلات الكونية. وكانت النتيجة الأساسية لهذا التوجه الجديد، بصرف النظر عن دوافعه أو أسلوب تطبيقه، هي الانحسار التدريجي للنفوذ السوفيتي من مَواقع عديدة، ثم الانسحاب، الذي بدأ منتظماً، ثم راح يتعثر، مهرولاً، بعد ذلك، من المسرح العالمي، للتركيز في مشكلات الاتحاد السوفيتي الداخلية. وقبل أن تندلع أزمة الخليج، في 2 أغسطس 1990، كان موقف الاتحاد السوفيتي من العديد من المشكلات الإقليمية في العالم، قد تغيّر كلية، بعد أن أبدى استعداده للذهاب إلى أبعد مدى ممكن، لإيجاد حل مشرّف ومعقول يأخذ في الحسبان مصالح جميع الأطراف. ثم بدأ موقفه يتغير من قضايا ومشكلات أوروبا الشرقية نفسها، وهي منطقة نفوذه المباشر، وخط دفاعه الأمني الأول، إلى حدّ أنه تخلّى نهائياً عن أنظمة الحكم الشيوعية الموالية له، وتركها وحيدة تحت رحمة جماهيرها الغاضبة. ولم يكن في وسع أحد، على الإطلاق، أن يشكك في عمق التغير، الذي طرأ على سياسة الاتحاد السوفيتي، إذ بدا وكأنه غير راغب في أن يحرك ساكناً، عندما اندفعت الجماهير الثائرة في ألمانيا الشرقية، تحطم سور برلين، في 9 نوفمبر 1989، وهو اليوم الذي جسد، عملياً، نهاية الحرب الباردة. لقد طغت التطورات الداخلية، التي مر بها الاتحاد السوفيتي، خلال عام 1989، على مسرح الأحداث الدولية، سواء منها، الإيجابية الناجمة عن تمكن جورباتشوف من إرساء بعض إصلاحاته على أرض الواقع، في المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو الآثار الجانبية، المترتبة على هذه الإصلاحات، والتي وصلت، في أحد جوانبها ـ مشكلة القوميات ـ إلى ظهور بعض التكهنات باحتمال إطاحة جورباتشوف، إضافة إلى تفجَّر الإضرابات العمالية، مطالبة بتحسين ظروف العمل، وتوفير الخدمات. وشهد الاتحاد السوفيتي، عام 1990، فوضى، سياسية واقتصادية، داخلية، غير مسبوقة في تاريخه الحديث، كادت تؤدي إلى انهيار شامل. وخيّم على البلاد شبح المجاعة، على الرغم من تحسن الإنتاج الزراعي، كاستجابة لتشوش عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق، واضطراب العلاقات التوزيعية بين المدن والأرياف، وبين الجمهوريات السوفيتية نفسها. وسرت عدوى الاستقلال من الجمهوريات الهامشية إلى جمهوريات القلب.

سابعاً: العلاقات الثنائية بين القطبَين

انعكس التدهور الشديد للقوة السوفيتية في السياسة الدولية، الناجم عن تفاقم الأزمة الداخلية، على الأداء الخارجي للدولة. وتبلور ذلك في تحوُّل غير ملحوظ، من توازن المصالح إلى التسليم بتفوق الغرب، وشبه الانفراد الأمريكي بمكانة القوة العظمى. وترجم ذلك كله بمزيد من التنازلات السوفيتية، في السياسة الدولية. فإلى جانب تقنين التحول السياسي في أوروبا الشرقية، الذي نقلها من النفوذ السوفيتي إلى النفوذ الغربي، فقد قفز الاتحاد السوفيتي قفزة إضافية، في التنازلات الإستراتيجية، عندما اعترف، في سياق مفاوضات 2+4، التي بدأت في 15 مارس 1990، في شكل مائدة مستديرة، بحق ألمانيا الموحَّدة في الانتماء إلى حلف شمال الأطلسي، أي نقل ألمانيا الشرقية، من دائرة حلف وارسو إلى ندّه السابق، حلف الناتو. وإضافة إلى ذلك، فقد كانت التنازلات الإستراتيجية السوفيتية، وراء النجاح في توقيع معاهدة تخفيض الأسلحة التقليدية في أوروبا. وكان أهم التنازلات هو الاعتراف بحق التفوق في أعداد القوات الأمريكية المنتشرة في أوروبا الغربية، تعويضاً للولايات المتحدة الأمريكية عن القرب الجغرافي للقوات السوفيتية من أوروبا الشرقية. وشهد عام 1989، وبدايات عام 1990، ما يشبه إطلاق يد الولايات المتحدة الأمريكية في إدارة صراعات دول العالم الثالث، والصراعات الإقليمية، نتيجة للانسحاب السوفيتي من بعضها، ولتهميش دوره في بعضها الآخر، مما أدى إلى انفراد واشنطن بإدارة هذه الصراعات، واستقطاب أطرافها، المحلية والإقليمية، للتباحث مع الإدارة الأمريكية. ولا يمكن فهْم ردود فعل الولايات المتحدة الأمريكية، إلاّ في سياق فهْم أعمق لطبيعة سياستها تجاه المنطقة ككل. فقد كان لواشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى اندلاع أزمة الخليج، في 2 أغسطس 1990، ثلاثة أهداف رئيسية تجاه المنطقة: محاربة النفوذ السوفيتي، وحماية إسرائيل وضمان أمنها، والمحافظة على المصالح الأمريكية النفطية، التي تشمل ضمان تدفّق النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإلى حلفائها، بالأسعار الملائمة للاقتصاد الأمريكي بصفة خاصة. وعلى الرغم من اختلاف وتغيّر أساليب السياسة الخارجية الأمريكية وأدواتها، من إدارة إلى أخرى، إلاّ أن هذه الأهداف الثلاثة ظلت ثابتة، ولم تخضع لأي مراجعة جوهرية، طوال ما يقرب من نصف القرن الماضي، كما أنها لم تتأثر بتغيّر الإدارات الأمريكية المختلفة وتعاقبها، طوال تلك الفترة. وفيما يتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، فقد شهد انفراداً أمريكياً، وتراجعاً سوفيتياً، تبلور، بوضوح، في المحاولات السوفيتية المتكررة، لإقناع واشنطن بأن يكون له دور في حل الصراع. ويمكن القول إن الاتحاد السوفيتي، خضع لعملية ابتزاز أمريكي ـ إسرائيلي، مقابل السماح له بدور ما في حل الصراع؛ إذ تشترط الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل عليه، أن يعيد علاقاته الدبلوماسية بإسرائيل، ويفتح الباب أمام هجرة اليهود السوفيت. ونجحت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في تنفيذ مطالبهما. فعلى صعيد الهجرة السوفيتية اليهودية إلى إسرائيل، شهد عام 1990 إزالة كافة القيود، وبدت الفرصة مثالية أمام المؤسسات الصهيونية للمبادرة إلى واحدة من أكبر عمليات نقْل البشر، في التاريخ المعاصر. ولقد زاد عدد اليهود السوفيت، الذين دخلوا إسرائيل، على 200 ألف مهاجر، وهو رقم يساوي ثلاثة أضعاف مَن هاجر إليها في عام 1989، واثني عشر ضعفاً لمهاجري عام 1988. وهو، بلا شـك، ما لا يتيح للطرف العربي إمكانية التفاوض من موقع قوة، أو على الأقل موقع تعادل. وعلى صعيد آخر أعاد الاتحاد السوفيتي علاقاته الدبلوماسية بإسرائيل.

يرجع تأسيس قوة الشرق الأوسط، إلى عام 1949، حين شعرت الولايات المتحدة الأمريكية بحاجتها إلى وجود بحري منظم، في الخليج، وذلك لدعم مصالحها، الاقتصادية والإستراتيجية. واتخذت هذه القوة من قاعدة الجفير مركزاً لها، وذلك بموجب اتفاقية، عقدت في ذلك العام، بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، التي كانت تتولى، آنذاك، الإشراف على الشؤون الخارجية لدولة البحرين بموجب علاقاتها التعاقدية معها  في ألمانيا الشرقية، فاز `التحالف من أجْل ألمانيا` بالانتخابات العامة، التي جرت في مارس 1989. وتكونت الحكومة الجديدة بزعامة لوثر دى ميزير، زعيم الحزب المسيحي الديموقراطي، أكبر أحزاب التحالف. وتُعَدّ ألمانيا أهم حالات التحول السياسي في أوروبا الشرقية، بسبب ارتباطها الوثيق بالتوازنات الإستراتيجية بين الغرب والشرق، ومستقبل النظام الدولي ككل. وجرت مباحثات (4+2)، في شكل مائدة مستديرة، في بون، وضمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي، إضافة إلى الألمانيَتَين، لبحث الوضع العسكري لألمانيا، بعد توحيدها ومستقبل الحدود بين ألمانيا الموحدة وجيرانها، خاصة بولندا 

المبحث الرابع : النظام العراقي وأحداث المسرح الدولي

أولاً: استغلال النظام العراقي لأحداث المسرح السياسي خلال الفترة من أول يناير 1989 ـ أول أغسطس 1990

كان المسرح السياسي، العالمي والإقليمي والعربي والإسلامي، مهيّأً، بل مشجعاً لنظام مثل النظام العراقي على اتخاذ قراره السياسي غزو الكويت. فمن الناحية الدولية، كان العالم يمر بحالة من "الغليان" شبه الكامل، بداية انهيار الاتحاد السوفيتي، ثورة الديموقراطيات في أوروبا الشرقية، وبداية الانفراد الأمريكي باتخاذ القرار العالمي، أو الهيمنة العالمية بصفة عامة. بمعنى أن العالم، كان يمر في فترة انتقالية، مع ما يصاحبها من حالة من الفراغ، الذي يحدث، عادة، في فترات الانتقال من نظام سابق إلى نظام لاحق. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كانت القوة التي أصبحت القوة العالمية الوحيدة، أي الولايات المتحدة الأمريكية، مركزة أنظارها وجهودها في ما يجري في شرقي أوروبا، أكثر من تركيزها في سائر أنحاء العالم، والشرق الأوسط، بعد أن هدأت الأمور، عقب انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية، وتطبيع العلاقات الأمريكية ـ العراقية، بل باتت تنظر إلى العراق، عقب الحرب، على أنه قوة إقليمية، يمكن التعامل معها؛ وهو ما يتضح من الخطابات المتبادلة بين الرئيسَين جورج بوش وصدام حسين، خلال تلك الفترة (عام 1990)، ومن الحوارات التي دارت بين عضو مجلس الشيوخ، روبرت دول والرئيس صدام حسين، وكذلك من تصريحات جون كيلي، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، في بغداد، ومن تلك المقابلة الشهيرة بين صدام حسين وسفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لدى بغداد، أبريل جلاسبي . لقد فسر صدام حسين كل هذه الأحداث، على أنها مؤشرات إلى عدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية، أو ترددها في التدخل في المنطقة، نتيجة انشغالها بالشرق الأوروبي، من ناحية، وضعف القرار الأمريكي، وفق قراءة القيادة العراقية لهذه الأحداث، بل موافقة واشنطن على ما يمكن أن يجري، إذا ضُمنت مصالحها في المنطقة؛ وهو ما ضمنه صدام حسين نفسه، من خلال مقابلاته مع الوفود والشخصيات الأمريكية. ومن ثَمّ تصور صاحب القرار في العراق، أن في إمكانه اقتناص الفرصة، وتحقيق الغاية، من دون أثر فعلي يذكر، حتى إنْ غاب حليفه السابق (الاتحاد السوفيتي) عن الساحة، وإنْ كانت الحرب الباردة قد انتهت، وحل محلها النظام العالمي الجديد، الذي لا يسمح باختلال توازن القوى الإقليمية، بما يهدد الأمن العالمي، خاصة بعد الانهيار الإيراني، عقب الحرب العراقية ـ الإيرانية، وتهديد بغداد بالاستيلاء على كامل منطقة الخليج، وثروتها الهائلة، فضلاً عن القوة العسكرية الضاربة. ومن الناحية العربية، ثمة عاملان أساسيان، يشكلان دافعَين وراء قرار العراق اجتياح الكويت. العامل الأول: هو اعتقاد صدام حسين، أن الحرب العراقية ـ الإيرانية، قد رسخته زعيماً للعرب. وهو ما يتضح، مباشرة، من تصرفاته في قمة بغداد، التي عُقدت في الفترة من 28 إلى 30 مايو 1990،"قمة صدام"، التي كان فيها النجم الأوحد. كما أن أجهزة الإعلام العربية، لم تألُ جهداً في إبراز زعامته، خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية وعقبها، مما أعطاه الانطباع، أن شرعيته وشرعية تصرفاته، إنما تنبعان من ذاته هو (كريزما Charisma)، وليس من أي شيء آخر. العامل الثاني: ولعله الأهم، هو الافتقار إلى نظام عربي قادر على التصدي لأطماع صدام، إضافة إلى أنه حين إنشاء"مجلس التعاون العربي"، اعتقد أنه، من خلاله، قد اكتسب ولاء أكبر دولة عربية، ألا وهي مصر. فهشاشة النظام العربي، والنفخ في زعامة صدام، كانا جزءاً من البيئة التي سمحت لقرار العراق اجتياح الكويت، أن يظهر إلى الوجود . ومن الناحية الإقليمية، هنالك ثلاثة عوامل، أعطت القيادة العراقية الانطباع أن مجال الحركة مفتوح. العامل الأول: هو خروج إيران من المعادلة الإقليمية، إلى حدٍّ كبير، وبروز العراق، استطراداً، كأقوى قوة في المنطقة. العامل الثاني: هو عدم معادلة القوة العسكرية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية للقوة العسكرية العراقية. مما أعطى صدام حسين الانطباع، أنه قادر على تفكيك هذا المجلس، بطريقة أو بأخرى. ومثال ذلك تلك المناورة، التي حاول أن يلعبها مع المملكة العربية السعودية، حين وقّع معها معاهدة عدم اعتداء مشترك، وعدم استجابته، في الوقت عينه، لطلب الكويت وضع حدود نهائية معه، وذلك عقب انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية. العامل الثالث: هو كويتي بحت، ألا وهو الصراع، الذي كان دائراً، عام 1990، بين المعارضة الكويتية والحكومة، حول مجلس الأمة والمجلس الوطني، والذي أوحى للقيادة العراقية بانشطار الجبهة الداخلية للكويت، والاعتقاد أن تلك المعارضة، سوف تستقبل"قوات التحرير"العراقية بالورود، خاصة أن الصحافة الكويتية، في ذلك الوقت،"المعارضة والمؤيدة"، كانت تقف وراء العراق، من دون تحفظ يذكر. ولعل هذا هو ما أوحى للقيادة العراقية، أن تعلن، في أيام الاجتياح الأولى، أن هنالك ثورة شعبية في الكويت، وأن هذه الثورة، قد طلبت الدعم من"الأشقاء" في العراق.

ثانياً: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية

شهد عام 1989، اتجاه التقارب الأمريكي ـ السوفيتي، الذي أخذت معالمه في البروز بروزاً واضحاً، على كافة الصُّعُد. فإذا كان عام 1988، قد شهد إنجاز معاهدة الحدّ من الصواريخ متوسطة المدى، فإن عام 1989، شهد إزالة عقبات عديدة أمام التوصل إلى اتفاقات مشابهة، فيما يتعلق بالصواريخ، قصيرة وطويلة المدى، والأسلحة التقليدية الكيماوية، والتجارب النووية تحت الأرض. وتواصلت محاولات إنجاز هذه الاتفاقات، كحصيلة للتنازلات السوفيتية المتلاحقة، عن مواقف خلافية، كانت تعرقل إنجاز هذه الاتفاقات. 1. الاتحاد السوفيتي شهد عام 1989 عواصف شديدة، في المعسكر الاشتراكي، أدّت إلى انهيار دول شرقي أوروبا، وتخلّيها عن الاشتراكية، والبحث عن موقع لها في المعسكر الرأسمالي. ولم يكن هذا الانهيار بعيداً عن التوجه السوفيتي إلى التخلص من سياسة الهيمنة، التي دأب عليها طيلة عقود. كما أن المقترحات، التي تقدَّم بها الاتحاد السوفيتي، لتخفيض ترسانة الأسلحة، النووية والتقليدية، في أوروبا وآسيا، كان لها أثرها الواضح في تخفيف حدّة التوتر الدولي. وسارت موسكو خطوات كبيرة، في الاتجاه السليم؛ حينما سحبت قواتها من أفغانستان، وكشفت الغطاء عن النظام العسكري في أديس أبابا، واتَّبعت سياسة تراجعية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتسليح الدول العربية، كسورية وليبيا واليمن الديموقراطية الشعبية. وفَقَدَ الاتحاد السوفيتي، أمام النزاعات القومية، والصعوبات الاقتصادية، كونه"القوة الأعظم"، بعد الولايات المتحدة الأمريكية. لقد بدأ ينكفئ أكثر فأكثر، نحو الداخل. وسعت الدوائر الغربية إلى تحقيق"نصر بلا حرب"على الاشتراكية، لإلغائها من الوجود. كما اتفق الرئيسان، الأمريكي جورج بوش، والسوفيتي ميخائيل جورباتشوف، على بدء مرحلة جديدة في العلاقات بين الشرق والغرب، في القمة التي عقدت بينهما، يومَي 2 و 3 ديسمبر 1989، أمام سواحل مالطة (Malta)، في شأن الحدّ من التسلح، في مجالاته، التقليدية والنووية الإستراتيجية والكيماوية، واستعراض المشكلات الإقليمية، لا سيما في أمريكا الوسطى والشرق الأوسط. وتعهد جورباتشوف بوقف شحنات السلاح إلى أمريكا الوسطى، بينما أكد جورج بوش إصراره على منع حكومة نيكاراجوا من تصدير الثورة إلى السلفادور والدول المجاورة. أمّا الشرق الأوسط، فقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية الحصول على وعد من الاتحاد السوفيتي، بتأييد الجهود الأمريكية الجارية في المنطقة. ووجهت القمة نداء، لوقف إراقة الدماء في لبنان. وقد أطلع الرئيسان حلفاءهما على نتائج قمتهما. وأكد بوش ضرورة بقاء حلف شمال الأطلسي، على الرغم من انتهاء الحرب الباردة. وقد أشارت جريدة"الأهرام "إلى ذلك بقولها:"حرب باردة في المعسكر الغربي، وقمة دافئة في البحر الكاريبي". ويعود فشل الاتحاد السوفيتي في التعامل الدولي، على أساس مبدأ توازن المصالح، إلى تفاقم أوضاعه الداخلية، وعجزه، استطراداً، عن تعبئة عوامل قوّته الهائلة، المبعثرة. وقد أسهم في وصول الاتحاد السوفيتي إلى هذه الحالة، عدد من الأزمات والمشكلات، على رأسها المشكلة الاقتصادية، ومشكلة القوميات، والصراعات السياسية والأيديولوجية، التي أدّت إلى شل الإرادة السياسية للدولة وخلال عام 1990، واصل الاقتصاد السوفيتي مسيرة تدهوره الشديد فحقق معدلات نمو سالبة، للعام السادس على التوالي، مما يعني تدهور مستويات المعيشة تدهوراً شديداً، خلال أعوام ستة منصرمة. أمّا من الناحية الكيفية، فإنه يمكن القول إن الاقتصاد السوفيتي، قد شارف، عام 1990، على الانهيار الفعلي. وكانت الإشارة الرئيسية إلى هذا الانهيار، المجاعة، التي باتت تهدد المجتمع السوفيتي، خاصة المدن الكبرى. ويمكن النظر إلى الانهيار والفوضى الاقتصادية، اللَّذَين تمخضا بشبح المجاعة، على أنهما أهم العوامل وراء انهيار الإدارة السياسية، والتدهور الشديد، الذي لحق بشعبية جورباتشوف، والتصاعد الخطير لشعور اليأس والإحباط والتشاؤم، في المجتمع السياسي السوفيتي عموماً. كما أن الأزمة الاقتصادية الهائلة، قد ألقت بظلالها على الصراع، السياسي والأيديولوجي، في الاتحاد السوفيتي. فشهدت الصراعات الداخلية، في النصف الأول من عام 1990، على الجبهة القومية، تصاعداً خطيراً، خاصة في جمهوريات البلطيق. وقد بدأ الصراع يتصاعد بين الدولة المركزية والمطالب الاستقلالية لجمهوريات البلطيق. كذلك عرفت الساحة الداخلية للاتحاد السوفيتي، محاولات انقلاب على جورباتشوف وصراعاً بينه وبين "بوريس يلتسن Boris Nikolayvich Yeltsin" كما انتاب الحزب الشيوعي السوفيتي موجة من استقالات قياداته، وبدء تفسخه. 2. الولايات المتحدة الأمريكية انشغلت الولايات المتحدة الأمريكية، خلال النصف الأول من عام 1989، باستكمال تشكيل الإدارة الجديدة، التي ستتولى تنفيذ السياسة الأمريكية، الداخلية والخارجية، حتى مطلع عام 1993. وعلى الرغم من العقبات، التي واجهها الرئيس جورج بوش، في تشكيل إدارته، والتي تبلورت في رفض الكونجرس التصديق على ترشيح جون تاور لتولّي وزارة الدفاع، فإن جورج بوش، سرعان ما تجاوز الأزمة، وسحب ترشيحه لتاور واستبدل به ريتشارد تشيني، ليستكمل بذلك تشكيل إدارته. وعلى صعيد السياسة الخارجية، شهدت الساحة الأمريكية، آنئذٍ، انقساماً في الرأي، حول طريقة التعامل المُثلى مع جورباتشوف. فكان هناك فريق، يتزعمه"جورج كينان Kennan Geore Frost"، مهندس سياسة الاحتواء، إبّان الحرب الباردة، يرى ضرورة التجاوب مع التفكير الجديد لجورباتشوف. ومن ثَمّ، يجب على الولايات المتحدة الأمريكية، أن تتفاوض مع الاتحاد السوفيتي، من منطلق حُسن النية. أمّا الفريق الآخر، فكان يتزعمه"كاسبار واينبرجر Caspar Willard Weinberger"، وزير الدفاع الأسبق، ويركز في محاذير التعامل مع جورباتشوف. وقد أدى اختيار الإدارة الأمريكية نهج التجاوب مع الزعيم السوفيتي إلى مزيد من التقارب بين الدولتَين، اتضح في الزيارتَين المتبادلتَين لوزيرَي خارجية البلدَين، وما ترتب عليهما من نتائج إيجابية. ففي زيارة"جيمس بيكر James Addison Baker "إلى موسكو، في 8 مايو 1989، أُحرز تقدّم ملموس، في العديد من مجالات التباحث. وفي زيارة"إدوارد شيفرنادزه Eduaed Amvrosiyevich Shevardnadze "إلى واشنطن، في 23 سبتمبر 1989، وُقِّعت عدة اتفاقات، تتعلق بحُرية انتقال مواطني الإسكيمو (Eskimo) بين البلدَين، عبْر ممرات"بيرينج Bering "، من دون تأشيرة، والسماح بتبادل زيارات خبراء حقوق الإنسان، وإعطاء مواطني الاتحاد السوفيتي حرية أكبر في زيارة الولايات المتحدة الأمريكية. ففي أمريكا الوسطى، وفي 29 أغسطس 1989، تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وبّنما، بسبب اتِّجار"مانويل أنطونيو نورييجا Manuel Antonio Noriega Morena"، حاكمها العسكري، ورَجُلها القوي، في المخدرات، وتهريبها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولتمكين مرشح المعارضة المنتخب،"جويليرمو أندارا Guillermo Endara "، من تولي رئاسة الدولة، بعد أن حال نورييجا دون ذلك، وألغى نتائج الانتخابات، بدعوى التدخل الخارجي فيها. لقد عَدّ الرئيس الأمريكي، جورج بوش، مكافحة تجارة المخدرات، واجباً قومياً، يجب أن يتصدى له بكل إمكانات الولايات المتحدة الأمريكية، العسكرية والسياسية. وفي 3 أكتوبر 1989، وقعت محاولة انقلاب عسكري في بّنما لإطاحة الجنرال نورييجا، قائد الجيش والحاكم الفعلي في البلاد. وبعد ساعات من إعلان محاولة الانقلاب، أكد متحدث عسكري أمريكي، أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست على خلاف مع القوات المسلحة في بّنما؛ وإنما النزاع كان مع الجنرال نورييجا، الذي أجهض الرغبة في الديموقراطية لدى شعب بّنما. وفي الوقت نفسه، أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، أن القوات الأمريكية في بّنما (12 ألف جندي) قد وضعت في حالة تأهب قصوى. وفي 4 أكتوبر 1989، أعلن الجنرال نورييجا، أنه يسيطر على الموقف في بلده، بعد أن أحبط محاولة الانقلاب، التي أسفرت عن مصرع عشرة عسكريين من زعماء الانقلاب، واعتقال 39 آخرين. واتَّهم الولايات المتحدة الأمريكية بتدبيرها؛ وهي المحاولة الثانية ضده، في أقلّ من 18 شهراً. وعلى الجانب الآخر، أعربت الولايات المتحدة الأمريكية عن خيبة أملها، لفشل محاولة الانقلاب. وأكد متحدث باسم البيت الأبيض، أن واشنطن ستواصل الضغط، من أجْل إزاحة نورييجا من منصبه. وفي 10 أكتوبر 1989، وتصعيداً للموقف المتوتر بين البلدَين، سعى الحاكم العسكري البّنميّ، نورييجا، لدى السلطات القضائية في بّنما، إلى إصدار أمر قضائي باعتقال قادة القاعدة العسكرية الأمريكية، على جانَبي قناة بّنما، بتهمة الاشتراك في محاولة الانقلاب الفاشلة في بلاده. وفي 15 ديسمبر 1989، أعلنت الجمعية الوطنية في بّنما (البرلمان)، بالإجماع، أن بّنما في حالة حرب ضد الولايات المتحدة الأمريكية. وبتحدٍّ، اختارت الجنرال مانويل أنطونيو نورييجا رئيساً جديداً للحكومة، مع منحه سلطات استثنائية أوسع. وفجر 20 ديسمبر 1989، أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية قواتها إلى بّنما، للعمل ضد نورييجا، ومحاولة اعتقاله. وكانت الأوامر قد صدرت إلى وحدات عسكرية أمريكية من قواعدها في ولاية كاليفورنيا (California)، وفورت براج (Fort Bragg)، في ولاية كارولينا الشمالية، بالانضمام إلى الوحدات الموجودة في بّنما في هذه العملية (عملية القضية العادلة Operation Just Cause)، التي بدأت بضرب مقر القيادة العسكرية، في بّنما سيتي، حيث يُفتَرَض وجود نورييجا. إلاّ أنه تمكن من الهرب. وفي 3 يناير 1990، تمكنت القوات الأمريكية من اعتقاله، بعد أن لجأ إلى سفارة الفاتيكان في العاصمة البّنميّة، وتقديمه إلى المحاكمة، في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي منطقة الشرق الأوسط، شهد النصف الأول من عام 1990، تعرّض الجهود الأمريكية، في تقريب وجهات النظر بين إسرائيل والفلسطينيين، للفشل. وحذر الرئيس الأمريكي، جورج بوش، إسرائيل من أخطار تضييع الوقت. في الوقت عينه، كانت إسرائيل تحاول شن حملة مكثفة، لوقف الحوار بين واشنطن ومنظمة التحرير الفلسطينية. كما صدر تحذير أمريكي ـ سوفيتي لإسرائيل، من استمرار بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. لذلك، تصاعدت حدّة الجدل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. كما أكد جورج بوش معارضته للاستيطان وتغيير وضع القدس.

ثالثاً: قمة الدول السبع الصناعية الكبرى

خلال الفترة بين 9 و12 يوليه 1990، عقدت قمة في هيوستن (Houston)، في الولايات المتحدة الأمريكية، ضمت زعماء كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا واليابان وألمانيا الغربية وفرنسا وبريطانيا وكندا. وهي القمة الأولى، بعد إعلان إنهاء الحرب الباردة، رسمياً. وجسدت موضوعاتها وقراراتها ترتيب الأولويات، وتمايز الاستجابات تجاه القضايا المطروحة على جدول الأعمال، وفق توازن القوى، وتوازن المصالح بين الدول الصناعية الكبرى المؤتمرة، وتبعاً للظروف العالمية المتغيرة. قد ظهر منطق توازن المصالح بين الدول الصناعية الكبرى، في تأكيد القمة مبدأ الخيارات المتمايزة، إزاء تقديم المساعدات الاقتصادية إلى الاتحاد السوفيتي، وتطوير العلاقات الاقتصادية مع الصين الشعبية. وتجسّد واقع توازن القوى بين الدول الصناعية الرئيسية، في ترْك الباب مفتوحاً للمفاوضات، بعد القمة، من أجل تسوية خلافاتها حول قضايا تحرير التجارة العالمية، في إطار جولة أوروجواي. تضمن جدول الأعمال ثلاث مجموعات من القضايا الرئيسية: 1. القضية الأولى، تتصل بعلاقات الغرب والشرق خاصة تقديم المساعدات الاقتصادية، التي تحتاج إليها دول شرقي أوروبا، بعد انهيار النظام الاشتراكي القديم. 2. والقضية الثانية، تتعلق بعلاقات الغرب بعضه ببعض وتحديداً بمناقشات المنازعات الاقتصادية، التي تشغل"الدول الصناعية الرئيسية"، التي انفردت بقيادة الاقتصاد العالمي. 3. والقضية الثالثة، ترتبط بعلاقات الغرب والجنوب وخصوصاً تخفيف المديونية الخارجية"لدول العالم الثالث"، في ظل تأكد أخطار تهميشها في النظام العالمي الجديد. وهكذا، يتبين أن الدول السبع الصناعية الكبرى، كانت منشغلة بمشاكلها الاقتصادية، في المقام الأول، فلم تول قضية الشرق الأوسط اهتماماً يذكر.

رابعاً: المملكة المتحدة

شهد عامي 1989 ـ1990 عدة متغيرات في بريطانيا سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي (إقليمياً وعالمياً) أثرت في علاقاتها الخارجية خاصة مع دول أوروبا الشرقية، ودول منطقة الشرق الأوسط. فعلى المستوى الأوروبي، شهدت بريطانيا المزيد من التطورات لدفع فكرة الوحدة الأوروبية لتأخذ شكلها التطبيقي والتنفيذي في عام 1992، والتي يتم في إطاره وضع جدول زمني واضح ومحدد لتنفيذ جميع مراحل خلق السوق الموحدة. كما انشغلت بريطانيا، خلال هذه الفترة، بالمتغيرات الجوهرية التي حدثت في دول أوروبا الشرقية، وتوجهها نحو الليبرالية الاقتصادية والسياسية، والتي قد تؤدي إلى احتمالات انضمام بلدان أوروبا الشرقية أو بعضها إلى الجماعة الأوروبية. كما أن توحيد الألمانيتين في الثالث من أكتوبر 1990، والذي اعتبر من أهم الأحداث العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تطلب من بريطانيا ودول غرب أوروبا ضرورة التكيف مع هذا التحول المهم، خاصة مع الاتفاق على دخول ألمانيا الموحدة بعضوية كاملة في حلف الأطلنطي. وشهدت هذه الفترة، العديد من المشاكل الاقتصادية، التي بدأت تظهر ملامحها بوضوح خلال عامي 1989 ـ 1990، على الساحة الأوروبية بصفة عامة والبريطانية بصفة خاصة تمثلت في: - انخفاض معدل نمو الناتج القومي للدول الصناعية، ومنها بريطانيا عام 1989 بنسبة 3.4% وعام 1990 بنسبة 2.6%. - اضطراب الأوضاع الاقتصادية لمجموع دول الشمال الصناعي بسبب المشاكل الاقتصادية في شرق أوروبا، وهو ما انعكس على الوضع الاقتصادي الداخلي في بريطانيا، وتباطؤ معدلات النمو، وانخفاض متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي. وفي منطقة الشرق الأوسط، شهدت العلاقات البريطانية ـ الإيرانية، خلال هذه الفترة، توتراً بسبب إعلان الإمام آية الله الخميني، فتوى إهدار دم الكاتب سلمان رشدي، الهندي الأصل وبريطاني الجنسية، مؤلف كتاب آيات شيطانية، بسبب ما ورد فيه من عبارات تهاجم الإسلام، مما أدى إلى تجميد العلاقات بينهما. واتسم الموقف البريطاني في المسألة الفلسطينية، وقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بشيء من التميز خلال العامين 1989 ـ 1990، على نحو لم تعهده البلدان العربية منذ سنوات. وكان انشغالها، في منطقة الشرق الأوسط، خلال هذه الفترة، متجهاً نحو تعميق التعاون والتنسيق السياسي، في منطقة الشرق الأوسط، بالتعاون مع الجماعة الأوروبية، في محاولة لإثبات الثقل السياسي لها خاصة بعد ما لمسته الساحة الأوروبية، من تقارب عربي وعودة الوفاق بين دولها في أعقاب مؤتمر عمان 1987، ومؤتمر قمة الدار البيضاء عام 1989. وكان التحرك البريطاني، هدفه تحقيق المصالح الأوروبية، في إطار سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أبدت كل من بريطانيا وفرنسا اهتماماً ملحوظاً يستهدف دفع عجلة السلام في منطقة الشرق الأوسط، من خلال: 1. ترحيبها بالقرارات التي اتخذها المجلس الوطني الفلسطيني، بالجزائر في 22 نوفمبر 1988، خاصة قبول قراري مجلس الأمن الدولي رقمي 242، 338، كأساس لعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط. 2. تأييدها لقرارات منظمة التحرير الفلسطينية، الخاصة بمكافحة الإرهاب. 3. انتقادها عرقلة إسرائيل لانعقاد المؤتمر الدولي تحت إشراف الأمم المتحدة. 4. إدانتها لسياسة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، ومعارضتها لتوطين اليهود السوفييت بالأراضي المحتلة. 5. طالبت السلطات الإسرائيلية وقف إجراءات القمع ضد الفلسطينيين، والالتزام بمعاهدة جنيف لحماية حقوق المدنيين تحت الاحتلال، مع إجراء حوار سياسي مع الشعب الفلسطيني، لفتح الباب أمام تسوية المشكلة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.

خامساً: التغييرات في أوروبا الشرقية

شهد عام 1989، والنصف الأول من عام 1990، تدعيماً للاتجاهات المستمرة نحو التغيير والإصلاح، في بعض دول أوروبا الشرقية، التي شهدت مزيداً من التقدم نحو الليبرالية، السياسية والاقتصادية، مثل المجر وبولندا. كما شهدت هذه الفترة بداية التفكك في صفوف الدول، المناوئة لإصلاحات جورباتشوف. وعلى صعيد المعسكر الاشتراكي، بدأت تظهر الخلافات بين الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو، الرافضة مسايرة توجهاته، وخلافاته مع رومانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا، بسبب رفض قيادات هذه الدول الاستجابة لدعاوى التغيير والإصلاح. وإذا كان الوضع يمثل امتداداً، بالنسبة إلى رومانيا ويوغسلافيا، فإن تشيكوسلوفاكيا، تمثل حالة جديدة، ولا سيما أن الاتحاد السوفيتي، سبق أن أقدم على غزو براج (Prague)، عام 1968، ليوقف حركة تغيير وإصلاح، مشابهة لما يدعو إليه جورباتشوف. كما نشب الخلاف بين ألمانيا الشرقية والمجر، وتبلور في قضية سماح المجر لمواطني ألمانيا الشرقية، بعبور حدودها، صوب ألمانيا الغربية. لقد شهد النصف الأول من عام 1990 تقنيناً للتحولات السياسية الكبيرة، التي حدثت خلال عام 1989. وتجسد هذا التقنين من خلال انتخابات عامة، نزيهة، أجريت بإشراف دولي، وفي ظِل إصلاح دستوري جذري. ففي بولندا، قرر البرلمان إنهاء الفترة الرئاسية للجنرال "ياروزلسكي Wojcieck Witold Jaruzelski "، وإجراء انتخابات مباشرة. وفي المجر، جرت الانتخابات العامة للبرلمان الجديد، في 25 مارس و 8 أبريل 1990، وأسفرت عن فوز حركة المنتدى الديموقراطي، وتحالُف الديموقراطيين الأحرار وحزب صغار المزارعين، على الحزب الشيوعي. وتولّى زعيم حركة المنتدى الديموقراطي، "جوزيف انتال Jozeef Antall"، رئاسة الحكومة الجديدة، في 2 مايو 1990. وفي تشيكوسلوفاكيا، جرت انتخابات برلمانية حرة، في يونيه 1990، أسفرت عن فوز حركة المنتدى الديموقراطي، على الحزب الشيوعي، وانتُخب زعيم حركة المنتدى،"فاتسلاف هافيل Vaclav Havel"، لرئاسة الدولة، بوساطة البرلمان، في يوليه 1990. وفي رومانيا، جرت الانتخابات العامة، في 20 مايو 1990، وأسفرت عن فوز جبهة الإنقاذ الوطني، وفاز رئيس الجبهة"إيون إيليسكو Ion Iliescu" برئاسة الدولة. وفي بلغاريا، جرت الانتخابات البرلمانية الحرة، في يونيه 1990، وانتهت إلى فوز الحزب الاشتراكي الحاكم بأكثر من 57% من مقاعد البرلمان، في الوقت الذي دعم الحزب تسلم زعيم معارض رئاسة الدولة. أمّا في ألمانيا الشرقية، فقد فاز"التحالف من أجْل ألمانيا"، في الانتخابات العامة، التي جرت في مارس 1990؛ وهو ائتلاف من الأحزاب اليمينية، المتحالفة مع الحزب الديموقراطي المسيحي، في ألمانيا الغربية. وتكونت الحكومة الجديدة بزعامة"لوثر دى ميزير Lothar de Maiziere"، زعيم الحزب المسيحي الديموقراطي، أكبر أحزاب التحالف. وتُعَدّ حالة توحيد ألمانيا، هي أهم حالات التحول السياسي في أوروبا الشرقية، بسبب ارتباطها الوثيق بالتوازنات الإستراتيجية بين الغرب والشرق، ومستقبل النظام الدولي ككل. وبسبب هذا الارتباط الوثيق، خاضت الدول الأربع الكبرى، المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، والتي تسيطر على برلين، مفاوضات شاقة مع الدولتَين الألمانيتَين باسم (4+2)، لتجديد الوضع الإستراتيجي لألمانيا الموحدة. ومثلت مشكلة عضوية ألمانيا الغربية في حلف شمال الأطلسي، المشكلة المركزية في هذه المباحثات. ورأت موسكو، أن توحيد ألمانيا، يمكن أن يمثّل مناسبة فريدة لحل الحلفَين العسكريَّين، شمال الأطلسي ووارسو، كجزء من عملية بناء السلام الإيجابي، في أوروبا والعالم. بينما رأى الغرب وألمانيا الغربية أن الوحدة الألمانية، تجعل ألمانيا ككل، بما فيها الجزء الشرقي، عضواً في حلف شمال الأطلسي. والواقع، أن الاتحاد السوفيتي، كان راغباً في إظهار أكبر قدر ممكن من المرونة. على أن الأهمية الجوهرية لهذه المسألة، بالنسبة إلى الأمن الإستراتيجي السوفيتي، جعلت الاتفاق في شأنها صعباً. وقد أدى تصلب الغرب، وانهيار قوة السوفيت، إلى رضوخ موسكو للمطالب، الألمانية والغربية، في شأن هذه المسألة، لقاء منحة مالية ألمانية للاتحاد السوفيتي، تقررت في لقاء"هيلموت كول Helmut Kohl" وميخائيل جورباتشوف، في موسكو، في الفترة من 14 إلى 16 يوليه 1990، حين أقر الطرفان السيادة الكاملة لألمانيا الموحَّدة، و"حقها"في اختيار التحالف العسكري الذي تريده، والتزام ألمانيا تخفيض قواتها العسكرية إلى 370 ألف جندي، وانسحاب الاتحاد السوفيتي من الجزء الشرقي من ألمانيا، في غضون أربع سنوات، مع إيجاد ترتيبات لنشر قوات حلف شمال الأطلسي في ألمانيا. وتوج هذا الاتفاق بلقاء وزراء الخارجية الستة.

سادساً: الجماعة الأوروبية

شهد عام 1989، والنصف الأول من عام 1990، المزيد من التطورات، لدفع فكرة الوحدة الأوروبية، إلى أخذ شكلها التطبيقي والتنفيذي، عام 1992. وعلى الرغم من إنجازات العديد من الدول الأوروبية وجهودها الواضحة وعلى رأسها أسبانيا وفرنسا، اللتان تناوبتا مهمة رئاسة السوق، خلال عام 1989؛ كان هناك عدم تفاؤل تجاه تحقيق مشروع"أوروبا 1992"، وكان الاعتقاد سائداً أنه سيستغرق، على الأغلب، عقد التسعينات كله. وكانت مجالات الانشغال، تتلخص في النقاط الرئيسية الآتية: 1. عملية لتطبيق إجراءات خلق السوق الواحدة. 2. البحث والتنمية للتكنولوجيا المتقدمة. 3. انتخابات البرلمان الأوروبي. وفي هذا الإطار، يمكن بلورة أهم التطورات الداخلية، التي شهدتها الجماعة الأوروبية، فضلاً عن قضايا الجدل السياسي، خلال النصف الأول من عام 1990، في شأن عدد من القضايا الرئيسية. 1. المسألة الألمانية تصدّر موضوع توحيد ألمانيا، منذ سقوط حائط برلين، في نهاية عام 1989، قائمة الأولويات الأوروبية واللقاءات المكثفة، الجماعية والثنائية. فقد كانت تلك المسألة، من المنظور الأوروبي الغربي، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمعظم التحولات، التي شهدتها أوروبا، الوسطى والشرقية، وتعني أنه يقع على عاتق أوروبا مسؤولية تاريخية، هي قيادة هذه التطورات وتوجيهها صوب"الاتجاه الصحيح"، المتوافق مع المصالح والأهداف الأوروبية الغربية. 2. قضية التوسع في عضوية الجماعة الأوروبية احتلت مسألة التوسع في عضوية الجماعة الأوروبية، قدراً كبيراً من الأهمية، في إطار التطورات الداخلية، خلال النصف الأول من عام 1990. ومحور هذه القضية، هو تفاعُل عنصرين رئيسيَّين. أولهما، يتعلق بالتزايد المطّرِد في أعداد الدول المطالبة بالانضمام إلى عضوية الجماعة، سواء منها تلك التي تقدمت بطلب رسمي، مثل قبرص وتركيا، والدول الأخرى التي لا تزال تبحث، بجدية، في هذا الأمر، مثل دول أوروبا الشرقية، وبعض الدول الإسكندنافية، مثل النرويج وفنلندا، ودول أخرى مثل مالطة وسويسرا. أمّا العنصر الثاني، فيرتبط بالاتجاه الرئيسي داخل الجماعة، المعارِض، بشدة، أي محاولات للتوسع في عضوية الجماعة. ويتزعم هذا الاتجاه رئيس المفوضية الأوروبية، ويسانده المجلس الأوروبي. ويرى أنصار هذا الاتجاه، أن"توسيع"الجماعة، يشكل خطراً على هدف"تعميق"العلاقات بين الدول الأعضاء الاثنتَي عشرة، الرامي إلى المزيد من التوحيد السياسي. وقد استقرت السياسة، التي تتبعها المفوضية الأوروبية، أساساً لرفض أي طلب رسمي، في هذا المجال، وضرورة تأجيل أي محادثات في صدد العضوية، حتى نهاية عام 1993، على أساس أن جدول أعمال الجماعة، ينوء بالأعباء، في المرحلة الحالية. 3. استكمال إجراءات مشروع"أوروبا 1992" وشهد النصف الأول من عام 1990، امتداد نشاط المحور الفرنسي ـ الألماني إلى محاولة الإسراع في خطوات تنفيذ السوق الموحَّدة. إذ إن تقارير الجماعة، أكدت، حتى نهاية عام 1989، استمرار نمط التعثر والتباطوء المتعمد، الذي يسود عملية التطبيق. وحتى نهاية التاريخ نفسه، لم تنجح المفوضية الأوروبية عينها في الإدخال إلى عملية التطبيق، سوى 68 توجيهاً فقط. والجزء الأول من مشروع "أوروبا 1992" الذي يَعِد بإحداث تغييرات، يستشعرها المواطن الأوروبي ـ هو الجزء المتعلق بإلغاء القيود، على الحدود. وهو يثير التكهنات المشككة في إمكانية دخوله حيّز التنفيذ. على أن اتفاق فرنسا وألمانيا ودول"البينلوكس Benelux" (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورج)، على احتواء ذلك التباطؤ المتعمد، وتحقيق، على مستوى خمسة بلدان، خلال منتصف عام 1992، ما يفترض، مبدئياً تحقيقه، على مستوى الدول الاثنتى عشرة، في أول يناير 1993 ـ قد أعطى دفعة قوية لمشروع"أوروبا 1992"، من خلال التوقيع على"اتفاقية شينينجين" (Schenengen Treaty)، في يونيه 1990. التي ستزال، بمقتضاها، جميع العراقيل أمام حرية انتقال الأشخاص والخدمات، بين البلدان الخمسة، في موعد، أقصاه منتصف عام 1992. وكان يعني ذلك، عملياً، تحقيق السوق الموحَّدة، قبْل موعدها بنصف عام. كما يعني ذلك، أن مجموعة شينينجين، سوف تصبح مختبراً عملياً، لِما سيكون عليه شكل الجماعة الأوروبية ككل. وعلى الرغم من أن التوقيع على تلك الاتفاقية، كان مقرَّراً خلال عام 1988، فإنه أُجِّل، بعد أن أصبحت الوثيقة المتعلقة به جاهزة، في ديسمبر 1989. وكان تنفيذ المشروع، قد أرجئ، لأسباب داخلية، تتصل بمجريات الوحدة الألمانية، وهو ما حُسِمَ، في هذه المرحلة. 4. التقدم في مجال التوحيد الأوروبي، الاقتصادي والنقدي يُعَدّ تقرير محافظي المصارف المركزية، المعروف باسم"تقرير ديلور عن التوحيد، الاقتصادي والنقدي"ـ محور مشروع الوحدة، الاقتصادية والنقدية، وخطوة مهمة على صعيد تطوير مشروع"أوروبا 1992". وينص التقرير المعني على إيجاد عملة أوروبية موحدة، ومصرف مركزي أوروبي موحَّد، فضلاً عن تحقيق المزيد من التنسيق في السياسة الاقتصادية الكلية للدول الأعضاء في الجماعة، عبْر ثلاث مراحل: أ. المرحلة الأولى، تبدأ في يوليه 1990، تحرَّر، خلالها، حركة رؤوس الأموال داخل السوق، مع التزام جميع الدول الأعضاء، تطبيق النظام النقدي الأوروبي تطبيقاً جادّاً. ويُنشأ، خلال هذه المرحلة، كذلك، صندوق الاحتياطي، كخطوة ممهدة لإنشاء مصرف مركزي موحَّد. ب. أمّا المرحلة الثانية، وهي مرحلة انتقالية، فيكون التركيز، خلالها، في تحقيق المزيد من تنسيق السياسة، المالية والنقدية، للدول الأعضاء، على نحو يسمح بإنشاء مصرف مركزي أوروبي موحَّد، يتولى مهمة الإشراف على المؤسسات والإجراءات، المرتبطة بالسياسات، المالية والائتمانية، للدول الأعضاء. ج. وبمقتضى المرحلة الثالثة، تُدعَم السلطة النقدية المركزية، للسيطرة على النقد المتداول في السوق، وإلغاء أسعار الصرف بين عملات الدول الاثنتَي عشرة.

==

المبحث الخامس : النظام العراقي وأحداث المسرح الإقليمي والعربي

أولاً: اليابان

يلحظ المراقب لأحداث السياسة والمجتمع، خلال الفترة من أوائل عام 1989، إلى نهاية النصف الأول من عام 1990، في اليابان، أن هذه الفترة، قد تميزت بتتابع الأحداث السياسية وتلاحقها، على نحو جعل كثيراً من المحللين السياسيين، يتوقعون أن اليابان مقبِلة على فترة جديدة من التغيير الداخلي (في نمط التحالفات السياسية القائمة، وأسلوب القيادات الحاكمة ونمطها)، والتغيير الخارجي، كذلك، المتمثل في استمرار علاقات التحالف الياباني مع دول الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، أو اتجاهات علاقاتها بالدول المجاورة، مثل الاتحاد السوفيتي والصين، وفي موقفها من المشكلات الدولية المختلفة. شهدت هذه الفترة توالي ثلاث حكومات يابانية على السلطة (حكومة "تاكيشيتا NoburuTakeshita" ـ وحكومة "أونو Sasuke Uno" ـ وحكومة "كايفو Toshiki Kaifu")، وسط أزمة داخلية، عاناها الحزب الحاكم، أساسها انتشار الفساد السياسي، وظهور عدد من الفضائح، المالية والأخلاقية، المتعلقة بقيادات الحزب الليبرالي الديموقراطي، المسيطر، منذ عام 1955، على السلطة في اليابان. ووسط هذا الجو من عدم الاستقرار السياسي، فقدت اليابان إمبراطورها "هيروهيتو "Hirohito، الذي حكمها لمدة 63 عاماً. ومثّل عام 1990 اختباراً صعباً لقيادة رئيس الوزراء، "توشيكي كايفو Toshiki Kaifu"، في معالجة برامج الإصلاح الداخلي، واستعادة ثقة المواطنين بالحزب الليبرالي الديموقراطي الحاكم، وبالحكومة، كذلك. إذ حققت المعارَضة اليابانية، انتصاراً، عام 1989، أجبر الحزب الحاكم، في بعض المناسبات، على تقديم تنازلات، في أكثر من مجال. ومع بداية عام 1990، بدأ الحزب الحاكم يستعيد ما فقَده من ثقة، واستطاع رئيس الوزراء الياباني، أن يحقق لحزبه انتصاراً، في انتخابات 18 فبراير 1990، كما تمكن، عبر إجراء تعديلَين وزاريَّين، خلال هذا العام، من تنظيف صورة الحزب والحكومة، أمام الرأي العام، والمعارَضة، كذلك. واستغلت الأحزاب المعارِضة، المناخ العام، السائد في اليابان، من فضائح، مالية وأخلاقية، تطاول قيادات داخل الحزب الحاكم. كما استغلت الشعور السائد لدى اليابانيين، من معارضة لقانون الضرائب، من أجْل تنشيط معارَضة حقيقية، داخل البرلمان، وعرقلة سياسة الحزب الحاكم. واستطاعت الأحزاب المعارِضة تحقيق أغلبية، داخل المجلس الأعلى، جعلت الحزب الحاكم غير قادر على تطبيق نظام الضرائب الجديد. كما تمكنت من تعطيل الموافقة على موازنة الدفاع، لعام 1989/1990، ومعارَضة القانون المتعلق برفع سن المعاش، من 60 إلى 65 عاماً، كذلك. هكذا كانت اليابان تعاني صراعاً حزبياً داخلياً، كبيراً، إضافة إلى معارضة شديدة لموازنة الدفاع. كل ذلك قصر اهتمامها على مشاكلها الداخلية، في المقام الأول. وشهد النصف الأول من عام 1990 تحولات مهمة، في مدركات صانعي السياسة الخارجية اليابانية، في مجالات القوى والتنافس، على المستويَين، الإقليمي والعالمي. فقد بدأ العام بتحولات مهمة في أنماط التحالف الدولي، على مستوى تطورات الأحداث في أوروبا، شرقاً وغرباً، وعلى مستوى العلاقة بين العملاقَين. وأدركت القيادة اليابانية، أن تحولات مهمة من التحالف الإستراتيجي، إلى مجالات التنافس والتعاون الاقتصادي، سوف تصبح أكثر أهمية في حقبة التسعينيات، وربما مع بداية القرن الحادي والعشرين. وكانت المشكلة الرئيسية، التي واجهت إدارة رئيس الوزراء الياباني، توشيكي كايفو، أنه في خضم الشعور المتنامي بالعداء، من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، تجاه الحليف الياباني، فإن الضغوط كانت تزداد، من داخل اليابان، في شأن ضرورة أن تأخذ الإدارة اليابانية مواقف أكثر تشدداً، مع الصديق الأمريكي، وذلك تماشياً مع زيادة قوتها الاقتصادية. ومع تزايد قوة المعارَضة اليابانية، داخل البرلمان (خصوصاً داخل مجلس الشيوخ الياباني)، فإن حكومة رئيس الوزراء الياباني، قد أصبحت غير حرة في أن تقول"لا"، للولايات المتحدة الأمريكية، التي تزايدت ضغوطها على اليابان، من أجْل فتح أسواقها أمام السلع الزراعية الأمريكية، ومشاركة الإدارة الأمريكية في تحمّل أعباء مشكلاتها الاقتصادية، خاصة العجز الكبير في ميزان التجارة الأمريكي. وأبدت اليابان استعدادات أكثر مرونة، للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، في المجالات، الدولية والثنائية، وذلك في إطار التغييرات، التي عرفتها أوروبا، شرقاً وغرباً، والاتحاد السوفيتي، على حدٍّ سواء. وكانت وجهة النظر السائدة داخل الأوساط الحكومية اليابانية، أن هذه التغييرات، تُعَدّ فرصة سانحة للإسهام، من خلال ثروات اليابان، المالية والتكنولوجية في إعطاء حلفائها انطباعاً عاماً، أن مشاركتها في مشكلات النظام الاقتصادي العالمي، يمكن أن تكون ذات قيمة حقيقية، وواقعية. وأشارت المصادر اليابانية إلى أن المعونات، التي قررتها الحكومة اليابانية، لكلٍّ من بولندا والمجر، التي تصل إلى ملياري دولار، مع بداية عام 1990 ـ هي"رسم الدخول"إلى مصافّ الدول العظمى. ويرى المراقبون اليابانيون، أن تقرير هذا المبلغ الضخم، دفعة واحدة، نحو بلدَين من بلدان أوروبا الشرقية ـ هو إيحاء سياسي من اليابان إلى القوى الكبرى المجاورة لها (الاتحاد السوفيتي)، بإبداء قدر أكبر من المرونة، حيال قضية الجُزُر الأربع، الواقعة شمالي اليابان، والتي يحتلها الاتحاد السوفيتي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والمعروفة باسم جُزُر كوريل (Kuril). وشهد النصف الأول من عام 1990 تقديم أكبر تنازلات، من جانب الإدارة اليابانية، في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، بما يساعد على تخطِّي العقبات، الاقتصادية والتجارية، التي أصبحت تهدد العلاقات الأمريكية ـ اليابانية، وتضع حدّاً لتطورها، مستقبلاً. وعلقت إدارة رئيس الوزراء، توشيكي كايفو، نجاح الدبلوماسية اليابانية في تخطِّي هذه العقبات، بمدى النجاح في المباحثات التجارية بين البلدَين، المعروفة باسم مبادرة (SII)، أي مشروع إزالة العوائق الأساسية، الذي يعني اتخاذ الإجراءات الضرورية، الرامية إلى تخفيض العجز التجاري بينهما، الذي نيّف على 50 مليار دولار، في مصلحة ميزان المدفوعات الياباني.

ثانياً: جمهورية الصين الشعبية

كان عام 1989، بالنسبة إلى الصين، عاماً مثقلاً بالمشكلات والتحديات، فيما يتعلق بالأوضاع الداخلية والعلاقات الخارجية. فعلى امتداد ما يقرب من شهرَين، شهدت البلاد واحدة من أكبر المواجَهات، من أجْل الديموقراطية وحقوق الإنسان، بين نظام ما بعد"ماو"، الذي لم يتوانَ عن الظهور بمظهر ليبرالي، طوال عقده الأخير، وبين الشعب الصيني، بغالبية فئاته، من الطلبة والمثقفين والعمال. وأدّت المظاهرات دور المفجِّر للأزمة، العقائدية والأيديولوجية، داخل المجتمع الصيني، في شأن الأسلوب الأمثل، الذي ينبغي أن تنتهجه الصين، في معركتها من أجْل التحديث. وامتد الصدع، الذي أحدثته داخل المجتمع والحزب، إلى صفوف القيادة نفسها. وإذا كانت العناصر، المتشددة والمحافظة، نجحت في حسْم المواجِهة في مصلحتها، باستخدام القمع العسكري، الذي راح ضحيته مئات الآلاف، فإن حكم هذه الفئة، دخل مرحلة جديدة، هي مرحلة فقدان الشرعية، وانقطاع التعاون مع الجيل الصيني الجديد. فالقضية الرئيسية، إذاً، ليست مسألة التقهقر السياسي إلى الدكتاتورية فقط، وإنما هي مجموعة الضغوط والتحديات، التي سيتعيّن على النظام القائم مواجهتها، في السنوات التالية، بما لا يقتصر تهديده على مصير نهج الإصلاح التحديثي للصين فقط، وإنما يتجاوزه إلى قدرة السلطة على الاستمرار بإدارة شؤون البلاد، كذلك. وطلبت الولايات المتحدة الأمريكية من الحكومة الصينية، تقديم تفسيرات لما حدث في ميدان السلام السماوي. إلاّ أن الصين، رفضت ذلك، ورأته تدخلاً في الشؤون الداخلية. وفي الأول من يوليه 1989، حاصرت القوات الصينية السفارة الأمريكية في بكين، رافضة تقديم أي تفسيرات لِما حدث. وفي الأول من أكتوبر 1989، شهدت الصين مظاهرة ضخمة، احتجاجاً على معاملة الطلاب، الداعين إلى الديموقراطية. وفي 15 أكتوبر 1989، أصدرت الحكومة الصينية قرارات صارمة، لإعادة الانضباط بين طلبة جامعة بكين. وفي 22 أكتوبر 1989، كشف مسؤول صيني النقاب عن شبكة أنفاق سرية، لهروب الزعماء، والأساليب التي استخدمتها السلطات الصينية في قمع مظاهرات الطلبة. وفي 30 أكتوبر 1989، انسحب الجيش الصيني من ميدان السلام السماوي. وشهد عام 1990 تحوّل الاهتمام الإعلامي الدولي عن جمهورية الصين الشعبية، إلى الانهيار الكبير في النُظُم الشيوعية الأخرى، وتحديات البيريسترويكا في الاتحاد السوفيتي. ووجهت القيادة الصينية اهتمامها إلى الداخل، وظهر ذلك، بوضوح، في الآتي: 1. إزالة آثار الحركة الطلابية، الداعية إلى الديموقراطية، والتي وقعت في أبريل ومايو 1989. 2. الحفاظ على التجربة الاشتراكية الصينية من السقوط، في غمار سقوط الشيوعية في الشمال. وشهد عام 1990 انكفاءً صينياً ملحوظاً، استتبع وقوع معظم أنشطة القيادة الصينية، في مجال إعادة ترتيب البيت الصيني من الداخل، سلباً بإزالة آثار الانتفاضة الطلابية، التي وقعت في أبريل 1990، وإيجاباً، بدفع معدلات النمو قُدُماً، لضمان الحفاظ على التجربة الاشتراكية الصينية"الفريدة"، من الانهيار تحت وقع ضربات التغيير، التي أصابت دول الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي. ولذلك، عمدت السلطات الصينية، في الأول من أبريل 1990، إلى إغلاق ميدان السلام السماوي، تحسباً لتجدد مظاهرات أبريل 1989. لقد تركز الاهتمام الصيني، خلال عام 1990، في محورَين رئيسيَّين، هما تطهير الدولة والحزب من آثار الانتفاضة، وإحكام قبضة الحزب الشيوعي على حركة الأحداث. وقد استتبع ذلك وقوع عدد من الخطوات أهمها. 1. منع إحياء ذكرى الانتفاضة الطلابية، في موعدها، وإلغاء كافة الاحتفالات. 2. الإسراع في إنهاء محاكمات المتمردين. 3. السكوت على هروب الشخصيات المهمة في الانتفاضة إلى خارج الصين. 4. طرد القيادات المتعاطفة مع الانتفاضة، من الحزب والسلطة. 5. محاولة إيقاف سيل التعاطف الغربي، مع الحركة الطلابية. وفي 13 يونيه 1990، بدأ تطبيق العقوبات الأمريكية ضد بكين. وفي اليوم نفسه، أعلن أن إسرائيل، هي أكبر مصدر للتكنولوجيا العسكرية المتقدمة إلى الصين. وفي 19 يوليه 1990، ظهرت خلافات حادّة بين بكين وواشنطن، في شأن حل المشكلة الكمبودية. كما أعلنت مصادر دبلوماسية في العاصمة الصينية، بكين، توقّعها إقامة علاقات دبلوماسية، بين الصين والمملكة العربية السعودية.

ثالثاً: الصراعات الإقليمية، ودور الاتحاد السوفيتي

إذا كان عام 1988، قد انتهى بالتوصل إلى ما يشبه موجة عامة من التسويات لمعظم الصراعات الإقليمية؛ وهي موجة ناجمة، في معظمها، عن تراجع الدور السوفيتي أو انحساره، أحياناً، في إطار التفكير الجديد لجورباتشوف، الذي يركز في المشاكل الداخلية ـ فإن عام 1989، شهد استمرار عملية التسوية، التي أمكن التوصل إليها، عام 1988؛ إذ أكملت جنوب أفريقيا سحب قواتها من ناميبيا، وجرت عملية الانتخابات، تحت إشراف قوات الأمم المتحدة، في 6 نوفمبر 1989. وأكملت فيتنام، كذلك، سحب قواتها من كمبوديا. وشهد عام 1989 استمرار تراجع الدور السوفيتي في صراعات دول العالم الثالث، وترْك الساحة للولايات المتحدة الأمريكية. وراوح هذا التراجع ما بين الانسحاب التام والتخلي عن القوى، التي كانت تحظى بتأييده، مثل الجنوب الأفريقي، وبين الانسحاب المحدود، كالانسحاب من نيكاراجوا. وأخيراً، هناك صراعات طبيعية خاصة، لا يستطيع الاتحاد السوفيتي، أن يتراجع عن التزاماته تجاهها. وفي الوقت عينه، لا يستطيع الاستمرار بمواقفه السابقة منها، نظراً إلى ما لهذه الصراعات من أهمية خاصة. وتبلور الموقف السوفيتي الجديد، في التراجع التدريجي المنظَّم عن المواقف السابقة، في محاولته التقاء مواقف الأطراف المناوئة. ويتجسد ذلك في الموقف السوفيتي من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والأزمة اللبنانية، اللذَين تبلور فيهما صراع الشرق الأوسط، عقب توقف الحرب العراقية ـ الإيرانية. إذ شهد الصراع العربي ـ الإسرائيلي، خلال عام 1989، والنصف الأول من عام 1990، انفراداً أمريكياً، وتراجعاً سوفيتياً، تبلور، بوضوح، في المحاولات السوفيتية المتكررة، لإقناع الولايات المتحدة الأمريكية، بدور سوفيتي في حل النزاع. ويمكن القول إن الاتحاد السوفيتي، خضع لعملية ابتزاز أمريكي ـ إسرائيلي، مقابل السماح له بذلك الدور؛ إذ اشتُرِط عليه أن يعيد علاقاته الدبلوماسية بإسرائيل، ويفتح الباب أمام هجرة اليهود السوفيت، التي بلغت أعلى معدلاتها في النصف الأول من عام 1990 1. 1. الصراع العربي ـ الإسرائيلي شهد عام 1989 استمرار الجدل، بين الموقف السوفيتي، المطالب بعقد المؤتمر الدولي، والموقف الأمريكي ـ الإسرائيلي، المطالب بإجراء الانتخابات في الأراضي المحتلة، مع الخلاف في طريقة إجرائها، ومراحلها المختلفة، والتي تهدف، في النهاية، إلى إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية، وخلق قيادة بديلة، من سكان الأراضي المحتلة. وقد حاول الاتحاد السوفيتي، في ظل مزيد من التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، أن ينتزع المبادرة، عندما دعا، في مايو 1989، إلى عقد لقاء رباعي بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، لبحث عملية السلام في الشرق الأوسط، مؤكداً أن اقتراحه هذا، ليس بديلاً من المؤتمر الدولي للسلام، تحت إشراف الأمم المتحدة. وهو ما رفضته واشنطن، مؤكدة أن الوقت لم يحِن، بعدُ، لعقد هذا المؤتمر. ومن ثَمّ، لا بدّ من إتاحة الفرصة أمام فكرة إجراء الانتخابات في الأراضي المحتلة. واحتلت مسألة هجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل، موقعاً مهماً، في التفاعلات السوفيتية ـ الإسرائيلية، طوال عام 1990، الذي شهد تدفق موجات ضخمة من يهود الاتحاد السوفيتي، إلى إسرائيل. وسجّل ذلك العام معدلاً قياسياً في هجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل؛ إذ تخطى، على مدار العام، 180 ألف مهاجر. ويرجح هذا التدفق المكثف لليهود من الاتحاد السوفيتي، أساساً، إلى أجواء التقارب الأمريكي ـ السوفيتي، الذي بدأ منذ وصول جورباتشوف إلى السلطة، في مارس 1985، بعد وفاة "قسطنطين تشرينكو Konstantin Chernenko"، سكرتير عام الحزب الشيوعي السوفيتي الأسبق، في 10 مارس 1985. وتزعم نائب الرئيس الأمريكي،"جيمس دانفوث كويل James Danforth Quayle"، حملة لتأييد هجرة اليهود السوفيت لإسرائيل. كما صرح رئيس وزراء إسرائيل،"إسحاق شامير Yitzhak Shamir"، بأن استيعاب المهاجرين السوفيت، هو الأولوية القصوى للحكومة. 2. الأزمة اللبنانية وتُعَدّ الأزمة اللبنانية، بتشابكاتها، المحلية والإقليمية والدولية، نموذجاً للأزمات، التي تضطر فيها القوى الكبرى إلى التراجع عن اتخاذ خطوات فاعلة في تصعيد الصراع، أو المساهمة في جهود الحل السلمي. فتطورات الأحداث، منذ مطلع عام 1989، كانت تشير إلى تقلص النفوذ الأمريكي، وعجز القيادة الفرنسية عن الاضطلاع بدور محايد، في الحدّ من تصاعد الأزمة، فضلاً عن شلل السياسة البريطانية، الناجم عن عدم وجود علاقات دبلوماسية لها بسورية. وهكذا أصبح الاتحاد السوفيتي، هو الوحيد من الأطراف الدولية الكبرى، الذي يمكنه أن يسهم في الحدّ من تصاعد الصراع، من خلال علاقاته الجيدة بمختلف أطرافه الإقليمية المتورطة، التي تمتلك التأثير، إن لم يكن السيطرة على الأطراف المحلية المتصارعة. ونظراً إلى عجز الاتحاد السوفيتي عن الاضطلاع بالدور المطلوب منه، في الحدّ من تصاعد الصراع، فقد اتفق مختلف الأطراف الدولية على ترك الساحة لوسيط محلي ـ إقليمي، أي أن يتولى عبء هذا الحل اللجنة العربية الثلاثية.

رابعاً: النظام الإقليمي العربي

لقد أمكن الحفاظ على الإنجازات، التي تحققت في عامَي 1987 و1988، وأبرزها إنجازان أساسيان: 1. الحفاظ على الانتظام، في الاجتماعات العربية، خاصة مؤتمرات القمة، التي حافظت، في الفترة من 1987 إلى 1989، على معدل اجتماع واحد، لكل عام. 2. الحفاظ على علاقات حُسن الجوار بين الدول العربية، بعد النجاح في القضاء على الخلافات الحادّة بين عدد منها، باستثناء الصراع العراقي ـ السوري، الذي لا يزال مستعصياً على محاولات التهدئة. فانعقاد قمة الدار البيضاء، الطارئة، في الفترة من 23 إلى 26 مايو 1989، يمثل دليلاً على إرادة الدول العربية في الحيلولة دون تدهور الأوضاع العربية. وعلى الرغم من تعذر تحقيق أي تقدُّم على جبهة العلاقات السورية ـ العراقية، أثناء القمة، إلاّ أن المؤتمرين، استطاعوا البدء بإنجاح المحاولات لحل الأزمة اللبنانية. فقد قررت القمة إنشاء اللجنة الثلاثية، من ملكي المملكة العربية السعودية والمغرب والرئيس الجزائري، لتولّي أمر تلك الأزمة، بعد أن أخفقت اللجنة السياسية، التي تشكلت برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير خارجية الكويت، وعضوية وزراء خارجية كلُّ من: الأردن والإمارات العربية المتحدة والجزائر وتونس والسودان، بالإضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، بموجب القرار الرقم 4863، الصادر في 12 يناير 1989، من مجلس جامعة الدول العربية، في تحقيق أي إنجاز، على الصعيد اللبناني.(أُنظر وثيقة قرار جامعة الدول العربية الرقم 4863، الصادر في 12 يناير 1989، في شأن الأزمة اللبنانية ) وقد أظهر قرار القمة، تشكيل اللجنة الثلاثية، ضمن قرارها المتعلق بالوضع في لبنان، جملة التعقيدات والقواعد، التي تحكم أداء جامعة الدول العربية. فعلى الرغم من التشدد، الذي أظهره بعض الدول العربية، خاصة أعضاء مجلس التعاون العربي، ضد الوجود السوري في لبنان، إلاّ أن التيار العام، داخل القمة، قاوم محاولة عزل سورية، ومال إلى الاعتراف بالمصالح السورية في لبنان، مما أسفر عن تحوّل أغلب الدول، أعضاء مجلس التعاون العربي، إلى مراعاته، وهو ما انعكس في البيان، الصادر عن القمة. وقد آلت جهود اللجنة الثلاثية إلى إنجاز اتفاق الطائف (23 أكتوبر 1989)، الذي لا يزال، على الرغم من الصعوبات التي يواجهها، أهم الوسائل وأكثرها جدية، لحل الأزمة اللبنانية. ومع ذلك، ظل الجزء الجنوبي من لبنان محتلاً من إسرائيل، بالتعاون مع جيش لبنان الجنوبي، بقيادة أنطوان لحد، كما استمر القتال، في بيروت الشرقية، بين ميليشيات"القوات اللبنانية"، بزعامة سمير جعجع، والقوات الموالية للعماد ميشال عون. والحكومة الشرعية في لبنان، لم تبسط سيطرتها على كامل لبنان. وحمل عام 1990، إلى النظام العربي والمستقبل السياسي للعرب، تطورات سلبية، شديدة الخطر. بل ربما يكون هذا العام علامة زمنية بين عصرَين: 1. عصر تعامل فيه العرب، مهْما اشتدت خلافاتهم، كأمّة واحدة. 2. وعصر آخر، اضمحل فيه الرباط الجامع بين العرب، فاستوعبتهم أُطُر، إقليمية ودولية، غريبة عن فكرة الأمّة العربية.

خامساً: العرب ودول الجوار الإقليمية

1. تركيا والعرب في خلال عام 1989، والنصف الأول من عام 1990، كانت تركيا مشغولة مع العرب، وبالأخص مع العراق وسورية، الدولتان اللتان تشتركان معها في حدود، تتخطّى 1200 كم، بأمور كثيرة، أهمها: أ. مشكلة الأقليات، وأبرزها مشكلة الأقلية الكردية الانفصالية، التي تعيش في مناطق الحدود المشتركة، بين كلٍّ من تركيا والعراق وسورية، إضافة إلى إيران. ب. مشكلة لواء الإسكندرونة السوري، وهو أرض عربية. وتعود المشكلة إلى منتصف الثلاثينيات، وهي من ذيول حقبة الاستعمار الفرنسي لأجزاء من المشرق العربي. وخلال شهر سبتمبر 1989، وأثناء تفاعل أزمة المياه وتصاعدها، في ديسمبر 1989، أشار وزير الإعلام السوري إلى أن هذه المنطقة، يجب أن تكون تابعة لسورية، وأن دمشق كانت تَعُدّها، دوماً، أرضاً عربية. وهو ما أدى إلى مطالبة أنقرة بتقديم سورية إيضاحات رسمية لتصريحاتها. واستمرت هذه المشكلة، خلال النصف الأول من عام 1990. ج. مشكلة المياه، وهي من أهم القضايا المعلقة، بين سورية والعراق من جانب، وتركيا من الجانب الآخر. وكانت مثار نزاعات، كذلك، خلال عام 1989، والنصف الأول من عام 1990. 2. إيران والدول العربية الخليجية تمثل العلاقات ما بين إيران ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، نقطة مهمة في استقرار الأوضاع الأمنية في الخليج العربي. وكانت قمة مجلس التعاون، التاسعة، التي عقدت في 19 ديسمبر 1988، تهدف إلى المساهمة في دفع المفاوضات العراقية ـ الإيرانية إلى الأمام، وإعادة صياغة العلاقات الخليجية ـ الإيرانية، فيما بعد وقف القتال. لقد انتهى عام 1989، من دون إقرار تسوية شاملة للمشكلة القائمة بين العراق وإيران، بسبب خلافاتهما الكبيرة، في شأن تفسير القرار الرقم 598، الصادر في 20 يوليه 1987، المتعلق بوقف إطلاق النار بينهما. واتسمت العلاقات بين الدولتَين، عام 1990، بالتحول السريع من وضع اللاحرب واللاسلم، إلى الانفراج في العلاقات بين بغداد وطهران. 3. سورية كانت دمشق تعاني في خلال هذه الفترة، بعض المشاكل، الخارجية والداخلية، التي تتلخص في الآتي: أ. اهتمامها وتورطها في أزمة لبنان. ب. عزلتها، إلى حدٍّ ما، بعد خسارة إيران الحرب مع العراق، وبعد ما أصاب حليفها الإستراتيجي، الاتحاد السوفيتي، من انهيار شامل. ج. محاولاتها تحسين العلاقات بمصر. د. اتهامها برعاية الإرهاب الدولي، واتخاذ العديد من المنظمات الإرهابية إياها مقراً لها. 4. دول المغرب العربي شهد عام 1989، والنصف الأول من عام 1990، نشاطاً كبيراً للاتحاد المغاربي في إيجاد مكانة لدول المغرب العربي، وسط التجمعات العربية الناشئة، للتوازن مع مجلس التعاون الخليجي، في أقصى الشرق العربي، ومجلس التعاون العربي، في الوسط، على الرغم من تَباين الاتجاهات في معظم المشاكل، الدولية والإقليمية. 5. إسرائيل كان المسرح، العربي والإقليمي والدولي، خلال عامَي 1989 و1990، مهيأً لإسرائيل، لتحقيق كل ما كانت تصبو إليه من أهداف ومهام، لتدعيم وجودها. ويظهر ذلك في الآتي: أ. أفادت من الأخطاء والخلافات العربية. ب. استغلت التهديد العراقي أحسن استغلال، فحصلت على المعونات من معظم دول العالم، وحصلت على تعويضات من الألمانيَتَين. وزودت شعبها معدات الوقاية من الحرب الكيماوية، ودربته على استخدامها. وظهرت أمام العالم بأنها الجانب المجني عليه، دائماً. ج. زادت من إجراءات قمْعها للانتفاضة. د. تدفق إليها المهاجرون السوفيت. وحصلت على القروض والضمانات، من الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت عينه، لا تقبَل أي نصائح أو آراء منها. هـ. زادت من معدلات بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. و. أكدت حيوية دورها، وأهميتها، كدولة وحيدة، حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، وللغرب بصفة عامة، وأهمية وجودها الإستراتيجي، في قلب المنطقة العربية. ز. تعمدت تسريب بعض المعلومات، التي تؤكد قدرتها، النووية والكيماوية؛ وذلك ردعاً للعراق. وشهدت الأرض المحتلة، في فلسطين، طوال أشهر مايو ويونيه ويوليه 1990، العديد من الاشتباكات والاصطدامات، بين المستوطنين اليهود والجيش الإسرائيلي، من جانب، والفلسطينيين، من جانب آخر. إذ وقعت، مثلاً، مجزرة الرملة، في مستوطنة"ريشون لتسبون"، بالقرب من تل أبيب، في 20 مايو 1990، حين أطلق شاب إسرائيلي، يرتدي الملابس العسكرية، النار، فجأة، على نحو 100 عامل فلسطيني، فقتل منهم 8، وأصاب 10 آخرين. وأكملت قوات الاحتلال هذه المجزرة بإطلاق النار على المتظاهرين العرب، في قطاع غزة، الذين أضربوا منددين بالمجزرة، فارتفع عدد الشهداء من الفلسطينيين إلى 19 فلسطينياً، وأصيب 1300 فلسطيني. كما شهدت الأراضي المحتلة إضراباً شاملاً، في ذكرى إعلان دولة إسرائيل، وتشريد 800 ألف فلسطيني. وخلال شهر يوليه 1990، أخذت الحكومة الإسرائيلية تخطط لمضاعفة عدد المستوطنين، في القدس الشرقية، وقمْع الانتفاضة الفلسطينية، بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، فسقط العشرات من القتلى، والمئات من الجرحى. 6. العراق على الرغم من الخسائر الفادحة، التي تكبّدها العراق، في حربه ضد إيران، إلاّ أنها لم تقضِ على طموحه إلى الزعامة، خاصة أن الطريقة، التي توقفت بها الحرب. إذ إن تحقيق العراق سلسلة من الانتصارات العسكرية، أدّت إلى إجبار القيادة الإيرانية على قبول وقف إطلاق النار، بعد أن كانت ترفض ذلك، مما أظهره كما لو كان هو المنتصر. وانتهز العراق تلك الفرصة لكي يطلق دعايته الواسعة، وإن كانت الحقيقة، أن الحرب لم تنتهِ بانتصار أحد الطرفَين؛ إذ فشل العراق في توقيع معاهدة مع إيران، بينما أعلن آية الله الخميني، أن قبول وقف إطلاق النار، كان بالنسبة إليه، أشد من السم الزعاف. وفضلاً عن ذلك، لم يستطع العراق أن يحقق شيئاً من أهدافه، التي أعلنها في بداية الحرب، وهي تحرير عربستان، وإطاحة النظام الإيراني، واسترداد جُزُر الخليج الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى). غير أن العراق استطاع، عقب انتهاء الحرب ضد إيران، أن يخرج بقوة عسكرية ضاربة، بالمعيار العربي على الأقل. كما كان العراق يمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة التقليدية، فضلاً عن الصواريخ المزودة رؤوساً كيماوية. وقد كشفت إحدى فِرق التفتيش، التابعة للأمم المتحدة، في نوفمبر 1991، عن وجود مفاعلَين نوويَّين. كما أثبتت تقارير البنتاجون، أن العراق كاد ينتج الأسلحة النووية، وأن عدد قواته، تجاوز المليون، إضافة إلى قوات الحرس الجمهوري، ذات الكفاءة العالية، والجيش الشعبي، فضلاً عن امتلاكه قوة، لا بأس بها، من السلاح الجوي، وما يقرب من ستة آلاف دبابة. ويضاف إلى ذلك كله الخبرات القتالية، التي اكتسبها الجيش العراقي، خلال حربه ضد إيران. ويتضح من ذلك، أن العراق أنفق معظم موارده على التسليح، من دون أن يُعنى بتنمية بنيته الأساسية، وربما كان أكثر تركيزاً في المشروعات، المظهرية أو الترفيهية، كبناء القصور أو ترميم المناطق الأثرية، أو رعاية الاحتفالات والمهرجانات الضخمة. وعلى الرغم من الأزمات الاقتصادية الطاحنة، التي بدأ العراق يواجهها، بعد نهاية الحرب، إلاّ أنه ظل يَعُدّ نفسه القوة الإقليمية الكبرى. كما أمعن في اعتقاده، أن حربه ضد إيران، قد أهلته لقيادة العرب، خاصة أنه أخذ يردد شعارات حماسية، بعد أن توقفت الحرب بينه وبين إيران، ضد إسرائيل، تارة، وضد الأنظمة السياسية في الخليج وشبه الجزيرة العربية، تارة أخرى. ومن ذلك إعلانه، أن في مقدوره أن يحرق نصف إسرائيل بصاروخ كيماوي مزدوج. هكذا، شهد المسرح العراقي، خلال الفترة من أول يناير 1989، إلى أول أغسطس 1990، كثيراً من المشاكل وسوء الإدارة، تتلخص في أزمات اقتصادية خانقة، ومشاكل داخلية، بين عِرقية وعقائدية، وقوات مسلحة كبيرة العدد، يصعب تسريحها، وكذلك إبقاؤها من دون مهام. إضافة إلى قاعدة صناعية متقدمة، إلى حدٍّ ما، وإعلان إمكانية إطلاق أقمار صناعية، مصنوعة بأيدٍ عراقية، وإعلان عن امتلاك أسلحة كيماوية، لا يمتلك مثلها إلاّ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. ولا شك أن هذا الوضع الجديد، بدأ يثير قلق واشنطن، التي راحت تقدِّر طبيعة الدور الإقليمي، الذي يطمع العراق في أدائه، ونمط التحالفات، التي يمكن أن يدخل فيها، بعد أن تخفف من عبء الحرب وأثقالها.

سادساً: المسرح الدولي والعربي، قبل الغزو مباشرة

1. المسرح الدولي يتضح مما ذكر، أن المسرح الدولي، من وجهة نظر العراق، كان مهيأً لضربة صدام حسين، غزو الكويت. فكان مشغولاً بعملية تغيير شاملة للنظام الدولي، في جوانب رئيسية ثلاثة، في سياق التفاعل بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، على الوجه التالي: أ. الجانب الأول، يتعلق باستفحال المشكلات الداخلية للاتحاد السوفيتي، على أساس أنه المحدد الرئيسي للتخلي عن مبدأ توازن المصالح، في مصلحة البراجماتية، القائمة، في الواقع، على توازن قوى"مختل"بين الاتحاد السوفيتي والغرب عموماً، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص. ب. الجانب الثاني، يتعلق بتقنين التحول السياسي، في أوروبا الشرقية، وخلع هذه المنطقة من دائرة النفوذ السوفيتي، إلى دائرة النفوذ الغربي. ج. الجانب الثالث، يتعلق بأهم الجوانب، العملية والإستراتيجية، في عملية تفكيك هياكل الحرب الباردة؛ وهي محادثات خفْض الأسلحة بين الشرق والغرب وبالتحديد، بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية. 2. المسرح العربي رأى النظام العراقي، أن هذا الوقت، هو الملائم للمبادرة إلى غزو الكويت، لانشغال الكثير من الدول العربية بعضها ببعض، فمثلاً، دول مجلس التعاون الخليجي، كانت مشغولة بأمور كثيرة، منها: أ. محاولات التكامل، في بعض المجالات. ب. مشاكل حدودية، بين بعض أعضاء المجلس. ج. وجود قوة"درع الجزيرة"على الأراضي السعودية. د. نظر العراق إلى المجلس، على أنه شُكِّل من وراء ظهره، أثناء انشغاله بالحرب ضد إيران، حماية لدول مجلس التعاون نفسها، وللجناح الشرقي للأمّة العربية. هـ. توقيع اتفاقية الحدود، بين المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان، في 21 مارس 1990. كما أن دول مجلس التعاون العربي، الذي يجمعها اتحاد واحد، على الرغم من عدم وجود وحدة جغرافية، تربط بينها، عدا العراق والأردن. وكان للرئيس العراقي صدام حسين، أهداف رئيسية، من تشكيل هذا المجلس، تتلخص في الآتي: أ. تطويق المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. ب. الرد على تشكيل مجلس التعاون الخليجي، من دون دعوة العراق إلى الاشتراك فيه. ج. تحييد مصر، وإبعادها عن مشاكل الخليج. د. عزل سورية. ويتضح من أحداث هذا الفصل، أن المسرح السياسي، الدولي والإقليمي والعربي، كان مهيّأً، من وجهة نظر العراق، في هذا الوقت، لغزو الكويت وابتلاعها، لانشغال دول العالم بمشاكلها، سواء الداخلية أو الخارجية، وأنه كان من الصعب التدخل لِثَنْيِه عن طموحاته في الكويت. وقد صدر تصريح الرئيس العراقي، صدام حسين، باستخدام الصواريخ في حرق نصف إسرائيل، في الأول من أبريل 1990. في مناسبة إعلان استقبال إسرائيل موجات من المهاجرين، من الاتحاد السوفيتي