العراق الكويت: الجذور الغزو التحرير - اللعبة السياسية، وإدارة الأزمة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقدمة
دارت أزمة الخليج الثانية وحربها بأسلوب يشبه المباراة العسكرية السياسية، كان لكل فريق فيها كروته، وأسلوبه الخاص في اللعب. وفي النهاية فاز التحالف، فهل حالفه الحظ في هذا الفوز، أم كان لكروته فاعلية واضحة؟ أم كان ذكاؤه ومهارته في اللعب وراء هذا الفوز؟.
وعلى الجانب الآخر خسر صدام، فهل كان في يده كروت فاعلة، ولكن خانه الحظ، أم أنه افتقد الذكاء والمهارة في ممارسة اللعب؟ أم أنه كان يجهل قواعد اللعب تماماً، أم لعله طرح الأوراق كلها دفعة واحدة، أو تركها تسقط من يده وكأنه غائب الوعي؟.
فهذه التساؤلات يلزم للإجابة عليها عرض كروت كل فريق، ومحاولة بيان أسلوبه في اللعب.
المبحث الأول
كروت صدام حسين
يمكن تقسيم كروت صدام حسين إلى ثلاثة أنواع (أُنظر ملحق كروت صدام حسين) كالآتي:
·كروت لعب بها بالفعل وحاول الكسب.
·كروت كانت في يده ولم يستخدمها.
·كروت خطط للحصول عليها، ولكنها سقطت من يده، وضاعت فرصة اللعب بها.
أولاً: كروت لعب بها بالفعل وحاول الكسب
1. كرت الإرهاب والتخويف والتلويح بالحرب
هو كرت:"أعطني ما أريد وإلاّ قتلتك". لقد بنى العراق جيشاً ضخماً عدَّه المحللون رابع أكبر جيش في العالم، بما يحتويه من قوات برية وجوية وبحرية تفوق في حجمها جيوش الهند وألمانيا وتركيا ومصر. ولم يكتف ببناء هذه القوة الهائلة، بل هدد باستخدامها، ففي خطاب له في الأول من أبريل 1990، نشرته وكالات الأنباء، ومنها جريدة وول ستريت The Wall Street قال إنه على استعداد لحرق نصف إسرائيل. إن هي أقدمت على مهاجمة العراق أو أي بلد عربي آخر وأخذت صورة صدام، أمام العالم تتبلور أكثر وأكثر، إنه هو الذي شن الحرب على إيران وجر منطقة الخليج إلى أتون حرب دامت نحو عقد من الزمان، وهو الذي قتل الآلاف من الأكراد، إنه رجل يهوى استخدام القوة وأسلوب التخويف والإرهاب، ويهدد جيرانه، ويلوح بالتهديد للكويت والإمارات متهما إياهما بأنهما يشنان حرباً اقتصادية على العراق، بزيادة إنتاجهما النفطي. إضافة إلى ذلك كان صدام يعتبر نفسه المنتصر في حربه مع إيران ويتطلع إلى زعامة مثل زعامة عبدالناصر. كانت لديه قوات مسلحة هائلة، دون عدو تقاتله، أو هدف تحققه! لم يكن في وسعه تسريح هذه القوات، خشية تفاقم البطالة المدمرة والعواقب الاجتماعية الخطيرة، كان من الواضح أنه يحتاج إلى أن يشغل قواته في جبهة أخرى وعدو جديد.
وأخيراً نفَّذ تهديداته في 2 أغسطس 1990، واجتاحت القوات العراقية الكويت، وأعملت السلب والنهب والتدمير الشامل وإشعال النيران، كأنه يقول للعالم: سالموني وإلاّ الدمار للجميع. وأصدر مجلس قيادة الثورة العراقية برئاسة صدام حسين في 21 سبتمبر 1990 بياناً أشار فيه إلى أنه: "لا مجال للتراجع عن شن المعركة وفقاً لمبادئ الشرف والإيمان والإصرار على تحقيق النصر".
كان لهذا الكرت أهميته في ظل جو الإرهاب الذي يسود الشرق الأوسط، ويقلق أوروبا الغربية، وصورة صدام كرجل يدعم الإرهاب، ويؤوي عدداً من أشهر الإرهابيين، مثل كارلوس، الذي يُظن أنه أقام في بغداد أثناء عام 1989. كذلك كان العراق يدفع رواتب لعدد من جماعات الإرهاب الفلسطينية، وكانت إذاعة بغداد، خلال فترة المعركة، تذيع تعليمات غامضة، فسرها الكثيرون بأنها شفرة خاصة تتضمن أوامر وتعليمات لشبكات الإرهاب بتنفيذ عمليات معينة.
كان الهدف من هذا الكرت توجيه رسالة إلى الأوروبيين والأمريكيين أن الدماء ستسيل، وستحدث عمليات إرهابية هائلة إذا تدخلوا في النزاع. وكان المغزى أن صدام يلوح بالحرب، ولا يخشاها، فها هو قد حرّك قواته، وغزا الكويت بالفعل، إنه مستعد بعد ذلك لأي صورة من صور العنف والقوة. وهو يقول، بعد وصول القوات المتحالفة: "أمّا أساطيل أمريكا البحرية والجوية وجيوشها ومن انحدر معها إلى الهاوية، فإنها لن تزيدنا، نحن ورفاقنا، في القيادة وشعبنا في العراق العظيم، إلاّ إيماناً... إذا اندلعت الحرب، فإننا سنقاتل على نحو يجعل كل العرب والمسلمين فخورين .. ونحن لا نقلل من تقدير القوة العسكرية للولايات المتحدة، ولكننا نستخف بنواياها الشريرة. وإذا شاء الله أن تقع الحرب، فإن الأمريكيين سوف يجدون أن طائراتهم "الشبح" يرصدها حتى الرعاة في الصحراء، وأنها تحت رقابة التكنولوجيا العراقية".
2. كرت محاولة جر إسرائيل إلى ساحة الصراع
يعد هذا الكرت من أقوى كروت صدام، التي استخدمها بالفعل، إذ أطلق على إسرائيل 39 صاروخاً من نوع (SCUD-B)، سقطت على مدنها وكان الهدف من ذلك:
أ. جر إسرائيل إلى دائرة الحرب، ومن ثم إحداث انشقاق في الدول المتحالفة.
ب. حدوث ردود فعل شعبية عربية وإسلامية واسعة النطاق تأييداً للعراق.
ج. إثبات مصداقية التهديدات العراقية.
د. تأكيد أنها الدولة الوحيدة التي هددت تل أبيب، منذ نشأة إسرائيل.
هـ. إقناع العرب والمسلمين أن الكويت ما هي إلا محطة على الطريق لتحرير القدس وهزيمة إسرائيل.
كان صدام يريد أن يلهب حماس العرب الذين يؤمنون بأن إسرائيل هي كيان يهودي زرعه الغرب في قلب الوطن العربي. وإذا أمكن جرها إلى حلبة الصراع فإن الشعوب العربية لن تسمح لحكوماتها بالوقوف إلى جانبها ضد العراق، وستضطر كثير من الدول المتحالفة إلى الانسحاب منه.
وقد صعَّد صدام من استخدام هذا الكرت حين اشترط لانسحابه من الكويت أن تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة أولاً.
3. كرت النفط
وهو كرت خطير يتحكم في اقتصاديات الدول الصناعية، وغير الصناعية، لقد أصبح صدام، بعد غزوه الكويت مباشرة، يتحكم في نحو 60 % من احتياطي العالم، مما هدد اقتصاديات الولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا واليابان. ولعل صداماً ظن أن الغرب سيفكر ملياً قبل أن يواجهه، بل قد يضطر إلى التعامل معه بسياسة الأمر الواقع، ولعل ذك أقصى ما هدف إليه صدام.
مما يدل على خطورة هذا الكرت أنه في 3 أغسطس 1990، اجتمع مجلس الأمن القومي الأمريكي برئاسة جورج بوش، للمرة الثانية في البيت الأبيض، لمناقشة تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الذي يؤكد أن الغزو العراقي للكويت يثير تهديداً يمكن أن يكون مدمراً للنظام العالمي على المدى البعيد؛ فصدام حسين عازم على أن يحول العراق إلى دولة عربية مهيمنة على المنطقة، وسيطرته على أكثر من20 % من النفط العالمي يوفر له تحقيق ذلك.
وأثناء اجتماع الملك حسين مع الرئيس بوش في مصيفه في "كينينكبورت" يوم 14 أغسطس 1990، قال الرئيس بوش مخاطباً الملك حسين: "اسمعني، إن النفط بالنسبة لنا أكثر من ضرورة. هو أسلوب حياة، وأنا لن أسمح لهذا الرجل (يقصد صدام حسين) أن يسيطر على ثلث إنتاج الخليج اليوم، وعلى ثلثي احتياطي العالم من النفط غداً". ثم استطرد بوش: "إن هذا الرجل أثبت أنه عدو للولايات المتحدة، ولن أسمح لنفسي أن أترك ديكتاتوراً يضع يده على شريان حياتنا".
تأثرت سوق النفط الدولية منذ أن بدأت أزمة الخليج بالغزو العراقي للكويت، وارتفعت أسعار النفط وبلغت أقص ارتفاع حققته في أكتوبر 1990، وهو ما أعاد أسعار النفط إلى ذروات لم تبلغها منذ الثمانينات.
استخدم صدام كرت النفط بصورة أخرى تمثلت في:
أ. ضخ النفط في مياه الخليج
(1) بدأ التسرب في 26 يناير 1991.
(2) ادعى صدام أن الولايات المتحدة الأمريكية هي السبب لإغراقها عدداً من ناقلات النفط العراقية، بينما أكدت الولايات المتحدة الأمريكية أن العراق هو الذي فتح أنابيب مصب النفط الرئيسي في الأحمدي.
(3) تعمد صدام ضخ النفط في مياه الخليج لتحقيق هدفين:
(أ) عرقلة العمليات الهجومية لمشاة البحرية، بتكوين بقعة نفطية ضخمة.
(ب) وتلويث مصادر محطات التحلية وغيرها من المنشآت البحرية للدول الخليجية.
ب. إشعال النار في آبار النفط
أشعل صدام النار في البداية، أي منذ الأسبوع الرابع لأعمال القتال. في حوالي خمسين بئراً، وكذلك لم تنسحب القوات العراقية من الكويت إلا بعد إشعال النار في أكثر من 700 بئر.
كان لصدام من جراء ذلك هدفان:
(1) أولهما عسكري: وهو استخدام نواتج الاحتراق (الدخان) لستر المواقع العراقية وإعاقة أعمال القوات المتحالفة الجوية أو البرية.
(2) ثانيهما اقتصادي: وهو تدمير جميع المقومات الاقتصادية للكويت قبل الانسحاب منها تدميراً شاملاً.
4. كرت التهديد بالتلوث البيئي
أكد وكلاء الدعاية العراقية، ومنظمات حماية البيئة العالمية، احتمال حدوث تلوث بيئي هائل نتيجة الحرب، وأن بقع النفط المسكوبة سوف تلوث وتدمر الخليج العربي. إضافة إلى ذلك يحتمل حدوث تغيير حاد في الأحوال المناخية في العالم بسبب هذه الحرب.
كان الهدف هو إثارة منظمات حماية البيئة العالمية لإعلان معارضتها لهذه الحرب، وتكوين رأي عام عالمي يضغط على الدول المتحالفة للجوء إلى التفاوض والحل السلمي بدلاً من الحرب.
5. كرت القضية الفلسطينية
الفلسطينيون يعانون، وقضيتهم هي الجرح العربي الذي لا يندمل، وهم في حاجة إلى بطل قوي يقودهم إلى التحرير، ومن ثم اجتهد صدام في أن يظهر بصورة هذا البطل، أملاً في أن يصبح الفلسطينيون أشد المؤازرين له، وأن تلعب ردود أفعالهم الوطنية دوراً مؤثراً في الإعلام الغربي.
برع صدام في اللعب بهذا الكرت، فقد طرح مبادرة عراقية في 12 أغسطس 1990، تربط بين قضية الكويت والصراع العربي الإسرائيلي، وأكد أن قضية احتلال الكويت لا يمكن حلها إلا بالتزامن مع حل قضايا الاحتلال الأخرى في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
كان لهذا التصريح فعل السحر، وساد غزة والضفة الغربية موجات من الحماس العارم. ووصف الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مبادرات صدام حسين، بربط الانسحاب من الكويت بالانسحاب الإسرائيلي والسوري من لبنان، بأنها جاءت لتضع القضية في إطار الحل الصحيح والمشرف، وأن عملية الغزو تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية داخل العائلة العربية. ودعا بيانه إلى انتفاضة شعبية عارمة تنادي بسقوط الأنظمة الرجعية والخائنة.
وتواصلت في أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة مظاهرات التأييد للعراق. وذكرت وكالات الأنباء أن المتظاهرين قد أجمعوا على أن صدام حسين هو الزعيم العربي الوحيد الذي إذا قال فعل. بل وأطلقوا عليه اسم (ناصر الجديد) ووصفوه بأنه هو الوحيد القادر على التصدي لإسرائيل. وأصبح صدام بطلاً قومياً يتصدى، من وجهة النظر الفلسطينية، لأعداء القضية، ويملك القدرة العسكرية والرغبة السياسية اللتين تمكنانه من تحدي إسرائيل.
واستقطب صدام عدداً كبيراً من القيادات الفلسطينية، ومنح حق اللجوء السياسي للقادة الفلسطينيين الثلاثة: جورج حبش، وأبو نضال، وأبو العباس، في 2 سبتمبر 1990، أي بعد شهر واحد من الغزو.
6. الشارع العربي وأحلام الوحدة
اعتمد صدام على اندلاع الثورة ومظاهرات الحماس والتأييد في الشارع العربي، بحيث تصوّر عدسات الإعلام الغربية تفجر الشارع السياسي العربي بما يشكل ضغطاً على الحكومات. وبالفعل خرجت مظاهرات عارمة في عمّان، والجزائر، والمغرب، وتونس، وعدة أماكن أخرى. وكان هدف صدام هو إشاعة الاضطراب والقلق في النظم السياسية العربية المنافسة وإقناع الغرب أن الجماهير تسانده. ولعل ربط صدام القضايا العربية كلها بعضها ببعض من فلسطين والانتفاضة، إلى لبنان والاحتلال السوري والإسرائيلي، إلى توزيع الثروة العربية توزيعاً عادلاً، كان تحضيراً منه لموقف تفاوضي يريد تفادي نشوب الحرب أكثر مما يسعى لها، أو يرتب نفسه لملاقاتها.
وعلى الرغم من عدم جدية تلك الشعارات إلا أن العراق استطاع أن يجد تأييداً من بعض المثقفين والمفكرين العرب، ومن قطاعات كبيرة من الرأي العام العربي، ممن اعتبروا ما أقدم عليه العراق خطوة أولى في طريق الوحدة العربية. إضافة إلى ذلك نجح العراق في التأثير على الرأي العام العربي من جهة إمكانية استعادة أراضيه، ومقاومة الاستعمار والهيمنة الأمريكية، واستثمار الأموال العربية داخل الوطن العربي، وتحقيق العدالة بعد أن ظل المتخمون يزدادون تخمة والفقراء يزدادون جوعاً وفقراً، وهكذا بدا صدام وكأنه زعيم العرب ومحررهم.
قال بعض المفكرين العرب إن بعض الدول العربية، مثل المملكة العربية السعودية ومصر وسورية، ارتكبت جريمة في تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية ضد دولة عربية. وإنها بفعلتها تلك أساءت إلى مبادئ القومية العربية ومزقت الإجماع العربي. وأضاف هؤلاء أن مصدر الخطر الحقيقي الذي يهدد الأمة العربية ليس صداماً بل الدول الغربية. وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، وصوروا صداماً بطلاً للقومية العربية، عمدت إلى إذلاله مؤامرة غربية أو صهيونية.
تعكس مثل هذه المواقف، بداهة، إحساس العرب بالنقمة على الاستعمار الغربي، الذي تعرض له الوطن العربي في بداية هذا القرن. كما تعكس استياءهم لدور الغرب في خلق إسرائيل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتأييد المطلق الذي تمنحه الولايات المتحدة الأمريكية لها منذ قيامها، ولو كان ذلك على حساب المصالح الأمريكية نفسها. كما أن كثيراً من العرب ما زالوا يشعرون بالحنين الرومانسي الحالم، إلى ماضيهم حين لم يكن لحضارتهم مثيل، ولا لقوتهم منافس.
لكن هذه الآراء لا تمت إلى الواقع بصلة. فمن المؤسف أن "القومية العربية"، وهي شعار يرفعه معظم العرب، لم تسفر حتى الآن عن عمل سياسي موحد، وكان "الإجماع العربي" غائباً أكثر مما كان حاضراً، في معظم الأحداث المهمة التي أثرت في المنطقة.
أراد صدام، ومن ورائه حزب البعث، إشعال حماس الأراضي العربية كلها، مؤكداً أن العرب كانوا عظماء في الماضي، ولهم تاريخ مجيد، وكانت بغداد مركزاً لثقافة العالم. وكان الاستعمار هو السبب في انحدار العرب وتفككهم، فلماذا لا تعود عظمة العرب مرة أخرى، وتتكون دولة عربية واحدة مساوية للقوى العظمى، بل أكبر منها، وما الحدود بينها إلا حدود وهمية ومصطنعة، وضعها الاستعمار.
قال صدام حسين: "أيها العرب.. لقد برهنتم لساكني الكرة الأرضية أن اختيار الله لكم لتكون أمتكم شاهداً على الإنسانية جميعاً، هو اختيار حق. ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[ w (سورة البقرة، الآية 143). ولقد تقدم الصفوف فيكم في مبادرة الاستجابة العظيمة لمناصرة شعب العراق، شعب الحجارة الصامد الذي أوكل الله له واجب إظهار الحق ضد أباطيل الصهاينة، وإظهار كم هو الحق مقتدر وكم هو الباطل ضعيف عندما ينازله الحق".
كان صدام يريد أن يقول إن الكويت كانت دولة عربية مصطنعة الحدود، ضمن الحدود الوهمية التي صنعها الاستعمار وأن الغزو العراقي للكويت كان الخطوة الأولى لمحو الحدود غير القانونية.
7. كرت الشعور الإسلامي، ونداء الجهاد
على الرغم من أن صداماً شخص علماني واضح، وحزب البعث هو حزب لا ديني طالما أعلن عدم صلاحية الإسلام كمنهج للحياة، وظل سنوات عديدة يحارب المسلمين الشيعة في جنوب العراق، والأكراد السنة في شماله، إلا أن صدام لعب بكرت نداء الجهاد الإسلامي المقدس ضد الصليبيين والكفار، ففي يوم 10 أغسطس 1990، أثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي في القاهرة، وجه صدام حسين نداءه إلى المسلمين كافة: "إلى جماهير العرب، وإلى المسلمين حيثما كانوا .. أنقذوا مكة وقبر الرسول من الاحتلال .. إن أمتكم أمة عظيمة اختارها الله لتكون أمة القرآن وشرفها عبر مراحل الزمن، أن تحمل مبادئ كل الرسالات السماوية، وأن تكون مبشرة وداعية لمبادئها، وما ورد فيها من قيم وأحكام .. ومنها تعاقب الأنبياء والرسل ليؤدي كلٌ دوره العظيم..".
وأخذ صدام يطلق العديد من الشعارات الإسلامية أن المعركة أصبحت ضد الصليبيين الجدد، واستطاع أن يستصدر العديد من الفتاوى، سواء من داخل العراق أو من بعض الأنظمة المؤيدة له، بأن من يشارك في القتال، ضد مسلمي العراق، يصبح مرتداً عن دين الله، وأنه إذا هاجم الغرب العراق يصبح الجهاد فرضاً واجباً على المسلمين.
ولعل مما تجدر الإشارة إليه أن صداماً استغل الشعارات الإسلامية في حربه مع إيران كما استغلها في أزمة الخليج. ففي خلال السنتين الأولتين من الحرب العراقية الإيرانية أخذ يظهر نفسه كنصير للإسلام، وأدار الحرب باعتبارها حرباً مقدسة بين العراق المسلم والمجوسية الفارسية. ولم يلبث أن ادعى رجوع نسبه إلى السلالة النبوية الشريفة. كما تميزت الفترة التي سبقت غزو الكويت بإقامة المهرجانات والمؤتمرات الإسلامية في بغداد والتي حاول من خلالها استقطاب العديد من الكتاب والصحفيين وعلماء الدين والفنانين، وقد تميزت تلك الاحتفالات بالبذخ والإسراف. وكان الخطاب الديني واضحاً في المؤتمر الذي عقده صدام حسين في بغداد لعلماء المسلمين قبل شهر واحد من الغزو العراقي للكويت.
وحين تجمعت القوات المتحالفة الدولية، في حفر الباطن بالمملكة العربية السعودية، أطلق الرئيس العراقي دعوة الجهاد لإنقاذ مكة وقبر الرسول من الاحتلال الأجنبي وطالب الجماهير العربية والإسلامية بالإطاحة بأنظمتها السياسية وبحكامها، الذين تعاونوا مع القوات الأجنبية التي باتت تدنس الحرمين الشريفين.
كان الهدف السياسي من هذا الكرت هو إيهام الغرب بأنه إذا تصدى لحرب صدام، فإن أربعمائة مليون مسلم، من جميع أنحاء العالم، سيهبون للوقوف بجانبه، ومن ثم كانت إذاعة بغداد تردد: "الجنود اليهود الأمريكيون في مكة المكرمة". كما كان الهدف الظهور أمام مسلمي العالم بأن صدام حسين هو صلاح الدين الجديد الذي سيكسر شوكة الصليبيين ويطردهم من الأراضي الإسلامية.
8. كرت الرهائن
هو أقوى كروت صدام حسين، وقد استغله لهدفين:
أ. لتهديد باستخدامهم دروعاً بشرية في القواعد العراقية المحتمل تعرضها للهجوم.
ب.الابتزاز السياسي وربط الإفراج عنهم بحضور مسؤولين من الدول التي ينتمون إليها، ومساومتهم طالباً منهم الإعلان عن رفض الخيار العسكري.
وقد تمثل الأسلوب العراقي في تجميع الرعايا الغربيين، وتوزيعهم على ثلاثة عشر مركزاً إستراتيجياً، لإحباط أي محاولة لشن هجوم على هذه المنشآت، التي تباينت بين تجمعات سكانية، ومواقع ومصانع لإنتاج الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وشبكة الجسور والطرق، التي تشكل خطوط إمداد حيوية للقوات العراقية المتمركزة في الكويت.
وقد صعّد العراق استخدام هذا الكرت، مع ما سُمي بحرب السفارات، عندما وجَّه في 20 أغسطس 1990 إنذاراً إلى السفارات الأجنبية في الكويت بإغلاق أبوابها، خلال أربعة أيام، ونقل أنشطتها إلى بغداد، وعندما رفضت جميع الدول الغربية، وبعض الدول الآسيوية والأفريقية الإنذار العراقي، بدأت القوات العراقية في حصار السفارات الأجنبية، وقطع جميع أنواع المرافق الحيوية عنها، وعدم السماح لأي من الدبلوماسيين بمغادرة بغداد. وهكذا تحولت قضية السفارات والرهائن إلى نقطة المواجهة الرئيسية بين العراق ومعظم الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان صدام بارعاً حين قال، في رسالة وجهها إلى الرئيس الأمريكي بوش في 21 أغسطس 1990: "الرئيس بوش يعرف، أو أفترض أنه يعرف أن أمريكا نفسها، أثناء الحرب العالمية الثانية، احتجزت عشرات الألوف من رعاياها لمجرد أنهم كانوا من أصل ياباني، وقد استندت أمريكا، في تعاملها هذا، إلى قاعدة دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر".
المفاجأة: إقدام صدام حسين على إطلاق سراح الرهائن الغربيين، الذين كان يحتجزهم دون مقابل، ودون مبرر، بينما كان في وضع يجعله في أشد الحاجة إلى هذا الكرت، الذي كان أهم وأقوى كروته.
9. عقدة فيتنام
كان صدام واثقاً ثقة كاملة، دون مبرر لهذه الثقة، من أن الكونجرس الأمريكي لن يسمح للرئيس بوش باستخدام القوة ضد العراق، بسبب عقدة فيتنام، حيث خاضت الولايات المتحدة الأمريكية، طوال سبع سنوات، حرباً مكلفة عقيمة في فيتنام، خسرت فيها الكثير، ثم واجهت بعدها رأياً عاماً ثائراً يصر على عدم حدوث أي تورط أمريكي أو تدخلات عسكرية في نزاعات العالم الثالث، مما اضطر نيكسون إلى إعلان مبدأه، الذي عُرف بـ "مبدأ نيكسون" الذي يؤكد على فك ارتباط الولايات المتحدة الأمريكية العسكري المباشر في المشكلات الدولية.
وازداد عمق عقدة فيتنام حين فشلت محاولة إنقاذ الرهائن الأمريكيين المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران عام 1980.
ومن ثم كان صدام حسين يراهن على أن المؤسسات الدستورية في الولايات المتحدة الأمريكية لن تعطي الرئيس الأمريكي حرية الحركة في الدخول المباشر إلى الحرب مع العراق، وقال صدام حسين لوزير العدل الأمريكي الأسبق رمزي كلارك: "لقد فقد الرئيس الأمريكي ليندون جونسون القاعدة، التي يستند إليها، بالاستمرار في حربه ضد فيتنام، فمـن غير المتوقع أن يبقى الرئيس بوش في موقعه إذا ما تورط في الحرب مع العراق ..!".
وصرح صدام حسين بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد هزتها عقدة فيتنام، وظهر ذلك في الانسحاب الأمريكي السريع من لبنان، عقب الهجمات على قوات المارينيز في بيروت. "وكادت إدارتها كلها تصبح محل تساؤل لو استمرت الغارات على قواتها، التي احتلت بنما. لقد هُزمت أمريكا، في بعض المواجهات، رغم كل ما تملكه من قوة، وظهر عليها الإحباط والتردد، عندما اعتدت على حقوق الشعوب، وانطلقت من العنجهية والهيمنة، وهذه هي النتيجة الطبيعية لمن يعتدي على حقوق الشعوب".
كان هدف صدام من كرت عقدة فيتنام هو إقناع الولايات المتحدة الأمريكية أن الاشتباك مع العراق سوف يسبب جرحاً آخر لا يندمل، وكان هدفه كذلك بلبلة الرأي العام الأمريكي وانقسامه.
10. كرت الادعاء بالأحقية التاريخية في الكويت
كان العراق معارضاً دائماً لقبول الكويت دولة مستقلة واحترام سيادتها. ويعتقد صدام، شأنه شأن كثير من العراقيين، بأن للعراق حقوقاً تاريخية في الكويت، ترتكز إلى أنها كانت جزءاً من ولاية البصرة أثناء الحكم العثماني. ويكفي القول هنا إن ثمة خبراء محايدين عكفوا على دراسة هذه القضية، وتوصلوا إلى نتيجة مفادها أن الادعاءات العراقية لا أساس لها من الصحة.
بيد أن صداماً تناسى أن زميله السابق اللواء أحمد حسن البكر، الرئيس العراقي السابق، تخلى في أكتوبر 1963 عن ادعاء العراق ملكية الكويت واعترف باستقلالها وسيادتها ووافق على عضويتها في الجامعة العربية والأمم المتحدة. وعاد صدام يكرر أن الكويت كانت، على مر التاريخ، جزءاً من العراق، وأنه بغزوها قد أعاد الحق التاريخي إلى نصابه، وكان الهدف من هذا الكرت:
أ. إلهاب حماس الشعب والجيش العراقي إلى ضرورة التمسك بالكويت
ب. إرباك الرأي العام في العالم وفي الولايات المتحدة الأمريكية بين قطاعات الجماهير التي تجهل حقائق التاريخ والجغرافيا.
11. كرت الإسراع في خطوات ضم الكويت وكسب الوقت
وهو يرتبط بالكرت السابق، إذ أصدر صدام حسين مرسوماً جمهورياً بضم الكويت، في 26 أغسطس 1990، وأشفعه بقرارات إدارية باعتبار الكويت هي المحافظة التاسعة عشرة من محافظات العراق باسم محافظة كاظمة، كما ضم إليها قضاء صدامية المطلاع وناحية العبدلي، التابعين لمحافظة البصرة، وظهرت خريطة رسمية جديدة أدخلت نحو 700 كيلومتر مربع من الكويت في محافظة البصرة.
أخذ العراق ينشر دعايته عن تنفيذه للعديد من المشروعات، من بينها حفر ترعة شط العرب ومدها إلى الكويت، ومد سكة حديد البصرة إليها، وأصدر مجلس الثورة العراقي قراراً ألغى به التعامل بالدينار الكويتي، مؤكداً أن ضم الكويت إلى العراق أصبح قراراً أبدياً لا رجعة فيه ولا مساومة بشأنه.
كان الهدف من هذا التصعيد:
أ. تعزيز الموقف التفاوضي للعراق لعله يستطيع تحريك نقطة الحل الوسط إلى موقع أكثر ملاءمة له، وإعطاء إشارة للأطراف الآخرى بأنه على استعداد للمضي في المخاطرة إلى نهايتها، مهما كانت النتائج، وهذا يدفعها إلى حسابات أخرى.
ب. كسب الوقت لتثبيت أقدام جنوده على الأرض الكويتية، وإحداث انشقاق في التحالف والتأثير على الرأي العام الداخلي والعام.
12. كرت معارضة الحكم الوراثي ومحاولة إزالته
عمد صدام إلى تصوير أسرة آل صباح في الكويت، والأسر الحاكمة في دول الخليج، بأنها أدوات تتحكم فيها شركات النفط الغربية، وأنها مجرد ألاعيب في يد واشنطن.
كان الهدف من هذا الكرت:
أ. تغطية غزو العراق للكويت وتصويره على أنه ضربة لنظم الحكم الوراثية العتيقة.
ب. إقلاق حكومة المملكة العربية السعودية، وحكومات دول الخليج الآخرى والمباعدة بينها وبين شعوبها.
ج. تصوير صدام أمام هذه الشعوب بأنه المحرر والمنقذ لها.
د. إثارة الرأي العام في الغرب وجعله يتساءل لماذا تدعم أمريكا، الدولة الديمقراطية، نظم الحكم الوراثية هذه.
13. كرت الزعيم البطل
أراد صدام حسين أن يظهر في دور بطل العرب وزعيمهم، لقد كوَّن قوة مسلحة هائلة، وآلة عسكرية جبارة، فضلاً عن الصواريخ والأسلحة الكيماوية، والخبرات القتالية العالية، التي اكتسبها الجيش العراقي خلال حرب السنوات الثمان مع إيران. وأراد أن يصور للشعوب العربية أنه وريث حمورابي ونبوخذ نصر، وصلاح الدين الأيوبي، الذي سيطرد القوى الصليبية ويهزمها. ما أن وضعت حرب العراق وإيران أوزارها، حتى طالب صدام بالمزيد، أراد من جيرانه العرب الاعتراف بصدارة العراق في الخليج، وأن يحصل على منفذ أكبر إلى الخليج لنشر أسطوله البحري من أجل الدفاع عن الأمن العربي كله، على حد زعمه. كما أراد إعفاءه من الديون التي تراكمت عليه جراء الحرب، إضافة إلى منحه قروضاً جديدة. وأخذ يلوح بمطامح أخرى تتجاوز حدود الخليج. كان يطمح أن يصبح الناطق الأول باسم العرب لدى أمريكا، أي أن يكون الرجل الذي تستطيع واشنطن أن تسوي معه مشاكل المنطقة، بما فيها المشكلة الفلسطينية. وبعبارة أخرى، كان يطمح إلى الهيمنة على المنطقة بكاملها والتفوق على الرئيس جمال عبدالناصر الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة، قائداً وبطلاً عربياً.
وأخذ يتصرف على هذا الأساس، ففي الجلسة الافتتاحية لمؤتمر القمة العربية في بغداد في نهاية مايو 1990، أخذ صدام يخاطب الزعماء العرب وكأنهم مرؤوسون له، كان متعالياً عليهم لا يعدهم أنداداً له.
لم يكن الكثيرون يعلمون أن شعاراته التي يطلقها هي مجرد شعارات جوفاء، ومثال ذلك تهديده الذي أطلقه في أبريل 1990 بإحراق نصف إسرائيل إن هي أقدمت على مهاجمة العراق، أو أي بلد عربي آخر، فإنه بعد هذا التهديد العنيف، قال لمسؤول عربي كبير: "أرجو أن تنقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية أن التصريح الذي صدر عنا هو للاستهلاك المحلي فقط. وليس لدينا النية أبداً إلحاق الضرر بإسرائيل!".
أخذ العالم الخارجي بتصريحات صدام حسين العنيفة مأخذ الجد كما وجدت وسائل الإعلام سبباً قومياً لاتهامه بأنه رجل غير متزن وخطير. لقد كان صدام ضحية أخطائه الشخصية وتهوره الحاد ومزاجه العنيف.
كان صدام قد اتبع عدة خطوات سابقة لإثبات زعامته للعرب، منها:
أ. أنه قاد العرب لعزل مصر عن الأمة العربية عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، واستطاع في قمة بغداد، الصمود والتصدي، أن يحقق هدفه هذا. ولم ينتبه الزعماء العرب إلى مخطط صدام لكي يصبح قوة إقليمية كبرى تستطيع السيطرة على القرارات السياسية والاقتصادية، والتعامل مع الغرب من هذا المنطلق.
ب. شنه الحرب على إيران عام 1980، معتبراً نفسه حامياً للأمة العربية مما أعطاه دفعة قوية في منطقة الخليج، بل المنطقة العربية كلها.
أشارت بعض التقارير الأمريكية حول شخصية صدام حسين إلى إعجابه الخاص بالزعامة الناصرية وسحرها، وسعيه لأن يكون "ناصراً" جديداً في المنطقة العربية. إضافة إلى تلك الصور والتماثيل التي تملأ العاصمة العراقية، ومدن العراق، والتي يظهر فيها صدام حسين ماداً يديه، شامخاً تحيط به رسومات خلفية لدبابات وطائرات، مما يعكس تعطشاً شديداً للزعامة.
كان الهدف السياسي من هذا الكرت هو الحصول على تأييد الشعوب العربية، وهز الأنظمة المعارضة لغزو الكويت. وكان هناك هدف آخر وهو الإشارة إلى الدول المتحالفة بأنه زعيم سوف يبقى حتى إذا انتصر التحالف، لأنه حسبما جرت العادة في المنطقة العربية لم يُعزل أي قائد عربي، خلال الأربعين سنة الماضية، بسبب هزيمته في حرب ما، بل يبقى في الشارع العربي بطلاً شهيداً، أي منتصراً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المبحث الثاني
كروت التحالف
أول ما يُلاحظ على كروت التحالف أنها جميعاً كروت أُعدت بإتقان، ولعب بها كلها، وأجاد أسلوب اللعب فحقق الفوز الساحق في تلك المباراة العسكرية السياسية.
أولاً: كروت التحالف:
بلغ عدد كروت التحالف نحو تسعة عشر كرتاً (أنظر ملحق كروت التحالف) كالتالي:
1. كرت إبراز خطورة شخص صدام ووحشيته (الصراع الحضاري)
كانت محاولات التحالف الناجحة للتركيز على شخص صدام حسين، وجعله محور الاهتمام الدعائي السياسي، وتركيز الهجوم عليه، سبباً في إفساد محاولة صدام حسين إظهار الصراع على أنه صراع بين الغرب والعالم العربي، أو بين الشمال والجنوب.
وقد نشطت الدعاية الأمريكية في تصوير الصراع على أنه صراع حضاري بين التطور والتحضر والقيم وبين الهمجية والوحشية التي يمثلها صدام حسين، بل بين المجتمع الدولي والفاشية البغيضة.
2. كرت تدويل الصراع
نجح التحالف في حشد أكبر تجمع دولي (37 دولة) ضد صدام، وفي إعداد رأي عام عالمي مناهض للغزو، وعزل صدام حسين تماماً عن أي دعم أو تأييد عالمي، وأصبح الصراع بين المجتمع الدولي كله تقريباً وبين صدام حسين.
3. كرت إبعاد إسرائيل عن دائرة الصراع
يعد هذا الكرت من أقوى وأنجح كروت التحالف، فقد كان دخول إسرائيل طرفاً في النزاع كفيلاً بنقض عرى التحالف المناهض للعراق، وإحداث تحول كامل في موقف الدول العربية والإسلامية، والرأي العام العربي والإسلامي. فهو يعرف أن إسرائيل لم تعتد أبداً أن تصمت، وخصوصاً إذا هوجمت، ومن ثم فلن تستطيع قوة على وجه الأرض أن تمنع إسرائيل من الدخول طرفاً مباشراً في المعركة مع أوّل صاروخ يسقط عليها. وشكل ذلك تحدياً ومعضلة كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة. لكن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت بالفعل في مواجهة هذا التحدي. وعلى الرغم من أن إسرائيل استغلت هذا الوضع أفضل استغلال، وقبضت ثمناً باهظاً، إلا أن النتيجة فيما يتعلق بمحاولة الولايات المتحدة تجميع سائر خيوط الأزمة في يدها، كانت واحدة. ولم يكن هناك قوة أخرى تستطيع شراء صمت إسرائيل أو فرضه إلاّ الولايات المتحدة الأمريكية. وربما كانت مهمة الولايات المتحدة الأمريكية أهون نسبياً قبل بداية الحرب، فقد كانت المساعدات المالية والعسكرية والتلويح بمغانم سياسية إسرائيلية كبيرة، بعد انتهاء الأزمة، تكفي لإقناع إسرائيل بمزايا العمل خلف الكواليس، دون الظهور على خشبة المسرح. لكنه مع بداية الحرب واحتمال تعرض إسرائيل للهجمات الصاروخية العراقية، استلزم الأمر حضوراً أمريكياً على أعلى المستويات في إسرائيل نفسها طوال فترة الحرب. وقبل بدء العمليات العسكرية سافر إلى إسرائيل سراً كل من لورانس ايجلبوجر مساعد وزير الخارجية، والجنرال روبرت وولفتيز من رئاسة أركان الحرب المشتركة، وظلا هناك حتى انتهاء المعارك، وكان الهدف من هذا الحضور، هو ضمان ألا تفقد إسرائيل أعصابها خلال الحرب، وتتخلى عن تعهدها بعدم التدخل في المعركة.
4. كرت إضفاء الشرعية على التحركات والهجوم
حرصت القوات المتحالفة، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، على وجود غطاء قانوني سياسي شرعي لاستخدام القوة لطرد صدام، وصدر قرار مجلس الأمن الرقم 678، الذي يجيز استخدام القوة لطرد المعتدي، وقد وصلت قرارات الأمم المتحدة تجاه العراق ثلاثة عشر قراراً.
كذلك بمجرد الإعلان الرسمي الصادر عن المملكة العربية السعودية، بطلب المساعدة الأمريكية، أصبح للتحالف السند القانوني الملائم لفرض أكبر حصار بحري واقتصادي على العراق، ونشر القوات البرية والبحرية والجوية، والتي بلغت خلال الأسبوعين الأول والثاني من الأزمة نحو 50 ألف جندي.
5. كرت الكويت
وهو كرت يدعم الكرت السابق في إضفاء شرعية تدخل الولايات المتحدة الأمريكية خاصة. وهذا الكرت صناعة أمريكية خالصة، أعدت المجال له من فترة طويلة، بحيث طلب الكويت من الولايات المتحدة الأمريكية، في يوم الغزو نفسه 2 أغسطس 1990، التدخل رسمياً في القضية. وذلك أنه في عام 1984 عندما تمكنت القوات الإيرانية من صد الهجمات العراقية الأولى، وبدأت تقوم بهجماتها المضادة ـ كانت وكالة الاستخبارات المركزية طرفاً في ترتيبات أمن، مع كل من وزارة الداخلية ووزارة الدفاع في الكويت. وكان هدف هذه الترتيبات في البداية محدداً لحماية الأمير وأعضاء الأسرة الحاكمة البارزين، إلى جانب مواجهة احتمالات أي عمل تخريبي، يستهدف من الداخل الإضرار بحقول النفط، ومنشآت نقله وتكريره وشحنه. وأما غير ذلك من ضرورات الدفاع عن الكويت فكان متروكاً لجهات أخرى.
وعندما تقدم الإيرانيون نحو منطقة البصرة تعاونت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية مع كل من وزارة الدفاع والداخلية الكويتية في وضع خطة طوارئ لمواجهة أي عمل إيراني ينطلق من جزيرة "الفاو"، وبينها وبين الأراضي الكويتية كيلو مترات محدودة. وفي ذلك الوقت عقدت سلسلة اجتماعات ممتدة بين ممثلي الوكالة، وممثلين عن وزارتي الدفاع والداخلية، وكانت النتيجة التي خلصوا إليها في حساب احتمالات الخطر تتلخص في أن الإيرانيين قد يفكرون في دخول الأراضي الكويتية لإحكام حصارهم حول البصرة، وذلك لقطع طرق الإمداد بين بغداد والبصرة، وعزل القوات العراقية المدافعة فيها عن قوات المنطقة المركزية للجيش العراقي. وربما وصل التفكير الإيراني إلى أكثر من ذلك، وفكر في احتلال الكويت كلها لتمكين القبضة الإيرانية من أن تمسك بعصب منطقة الخليج كلها. وكان التقدير أن ذلك إذا تحقق يمكن أن تصاحبه أعمال عنف موجهة إلى أمير الكويت، وعدد من أفراد الأسرة الحاكمة المهيئين للإمارة بعده، لأن مثل ذلك يخلق فراغاً في الشرعية. وعلى هذا الأساس، فقد وضعت خطة طوارئ تقتضي ترحيل رؤوس الأسرة الحاكمة، بما فيهم الأمير، في أي لحظة تطل فيها بادرة خطر، وذلك بقصد الحفاظ على الشرعية التي تستطيع وحدها الاحتفاظ بتماسك الوطن، وتملك الحق الشرعي في استدعاء القريب والبعيد لنجدة الكويت والدفاع عنها.
وإلى جانب خطة ترحيل الأمير وأعضاء الأسرة الحاكمة البارزين من الكويت عند لحظة الطوارئ، فقد وضعت خطة تكميلية لمراقبة تحركات واتصالات الكتل الشيعية داخل الكويت. وقد تحقق مخاوف واضعي الخطط بعد ذلك عندما حدثت محاولة لاغتيال أمير الكويت سنة 1985، ثم أعقبها في السنة التالية 1986 نجاح الإيرانيين في احتلال شبه جزيرة الفاو وهي ملاصقة للجزر الكويتية. وكان هناك شد وجذب بين المسؤولين الكويتيين عن الأمن، وبين غيرهم من المشاركين في التخطيط لحماية الأمير. وكانت لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ملاحظات كثيرة على أداء الأمن الكويتي.
وحين بدأت السحب تتجمع مرة أخرى في الخليج بسبب المشاكل التي تراكمت على العلاقات بين العراق والكويت أعيد تنشيط لجنة الاتصال الأمني الخاصة المشتركة التي كان مقرها في الكويت، وأعيد بعث الخطط القديمة ومراجعتها.
وحوالي ظهر يوم 31 يوليه 1990، طلب أحد خبراء الأمن الأمريكيين الاتصال بمدير الأمن الكويتي، وطلب إليه إبلاغ وزير الداخلية ووزير الدفاع برسالة مؤداها ما يلي: "نحن لا نريد أن نثير القلق في نفس أحد دون داع، ولكننا نعتقد أن خطة الطوارئ الموضوعة سابقاً بشأن حماية سلامة الأمير والأفراد الرئيسيين للأسرة الحاكمة يجب أن توضع موضع التنفيذ من باب الاحتياط". وعلى الفور بدأ إجراء حصر بأماكن إقامة كل أفراد الأسرة الحاكمة. وظهر أن الأمير الشيخ "جابر" لم يكن ينوي أن يقضي عطلة نهاية الأسبوع في "البر" خارج مدينة الكويت، كما هي عادته. وإنما كان يريد أن ينتظر في قصر "السيف" حيث يعمل، أو قصر "دسمان" حيث يسكن، حتى يتمكن من انتظار الشيخ "سعد الصباح" القادم من جدة، ويسمع منه تفاصيل ما جرى بينه وبين "عزة إبراهيم" نائب الرئيس العراقي.
وبعد ساعتين عاد أحد ضباط الاتصال الأمريكيين برسالة مؤداها أنه تحت أي ظرف لا يجب أن يكون أمير الكويت في المدينة هذه الليلة، بل أنه يجب أن يخرج بكل سرعة ممكنة، ويتوجه إلى أي بيت من بيوته القريبة من منطقة الحدود مع السعودية. وحوالي الغروب عاد ضابط الاتصال مرة أخرى يطلب أن يكون كل أعضاء الأسرة الحاكمة على علم بأن خطة الطوارئ أصبحت نافذة المفعول، وأنهم جميعاً يجب أن يكونوا خارج المدينة في ظرف ساعتين لا أكثر. وبعد أن حل المساء أصبحت إجراءات خطة الطوارئ أكثر شدة وصرامة، وطلب إلى الأمير أن يتحرك إلى منطقة "الخفجي" في المملكة العربية السعودية، مع رجاء ألا يكون موكب سفره طابوراً طويلاً من السيارات مضيئة مصابيحها القوية في ظلام الليل. وبالفعل بدأ موكب الأمير يتحرك في اتجاه منطقة "الخفجي"، وكان الذهول يمسك بأعصاب الجميع. وكان الغزو قد بدأ فعلاً.
كان ولي العهد الشيخ "سعد العبد الله الصباح" قد وصل قبل ذلك قادماً من جدة متشائماً، حيث أُخطر بأن خطة الطوارئ وضعت موضع التنفيذ، وأن عليه أن يقوم بدوره فيها. وعلى أي حال، فمن المؤكد أنه أصدر بعض التعليمات إلى عدد من أجهزة الدولة، وبينها الحرس الوطني، ثم غادر مدينة الكويت إلى "البر" في الوقت الذي كان فيه دوي انفجارات القنابل يسمع بوضوح في المدينة، وطائرات الهليكوبتر العراقية تحوم في سمائها.
وكانت القوات العراقية قد أحكمت قبضتها على مدينة الكويت، ولم تعثر فيها للأمير ولا لأي فرد من الأسرة المالكة على أثر.
6. كرت المملكة العربية السعودية
يعد هذا الكرت من أهم الكروت، بل هو الكرت المباشر الذي أدى إلى مجيء القوات الأمريكية والقوات المتحالفة. عندما غزا صدام الكويت، أصبحت المملكة، هذه المرة، على خط المواجهة دون وجود منطقة عازلة تفصلها عن المعتدي، ولهذا السبب كانت الأزمة أشد تهديداً لها. ولم يكن لديها خيار آخر سوى دعوة القوات الصديقة لمساندتها، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الشرط الوحيد الذي وضعته المملكة العربية السعودية للاستعانة بالقوات الأمريكية، هو أن توافق الولايات المتحدة الأمريكية كتابة على سحب قواتها من المملكة العربية السعودية والكويت بعد انتهاء النزاع مباشرة. وكان قرار المملكة العربية السعودية حيوياً.
كانت المملكة العربية السعودية هي حجر الزاوية في الدفاع عن منطقة الخليج، وما كان التحالف ليخوض تلك الحرب أو أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من انتصار للإرادة الدولية، لولا البنية الأساسية العسكرية والعمق الإستراتيجي الذي تتمتع به المملكة، فضلاً عن الإسهامات المادية والعينية التي بذلتها في هذا الصدد، فجعلت رحى الحرب تدور دون خلل أو فتور، ما استطاعت القوات المتحالفة التجمع والانتشار والقتال والانتصار، وكانت المملكة هي محور ذلك التحالف ومناطق تجمعه.
ورغم أن المملكة العربية السعودية كانت تشعر بالقلق البالغ على أمنها وبأن الخطر بدأ يقترب منها، إلاّ أنها لم تقبل استضافة قوات أمريكية ضخمة على أراضيها إلاّ بعد أن تأكدت بما لا يدع مجالاً للشك من أن القوة التي تنوي الولايات المتحدة الأمريكية حشدها وكذلك الخطط الأمريكية المصاحبة لها كفيلة بحسم الموقف، وأن الولايات المتحدة الأمريكية جادة تماماً في مواجهة التحدي ومصرة على إجبار صدام حسين على التراجع أو تجرع الهزيمة. وجاء قبول وطلب المملكة بطلب مشاركة القوات الأجنبية يوم 6 أغسطس 1990 وهو اليوم نفسه الذي أصدر فيه مجلس الأمن القرار الرقم 661 الذي بمقتضاه فرض عقوبات اقتصادية شاملة ضد العراق.
وكانت الجسور البحرية والجوية إلى السعودية مزدحمة على أخرها بقوات الحشد. وكان واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول وضع حجم كاف من القوات في المملكة العربية السعودية يقلل بأسرع ما يمكن فترة تعرض المملكة العربية السعودية لإمكانية عمل عسكري يقوم به العراق لاستباق الحشد الأمريكي. وكانت تلك فترة خطيرة وصفها الجنرال نورمان شوارتزكوف بأنها كابوس استمر أسبوعاً بأكمله.
أدت المملكة العربية السعودية دورها الفاعل في جميع مراحل تحرير الكويت من استقبال القوات المتحالفة وإمدادها بكل ما تريد من احتياجات، إلى تغطية جميع نفقات تجهيز الموانئ والمطارات، والإمداد بالسلاح والذخيرة والمعدات والأجهزة والخيام والعربات، إلى جانب الإسناد الإداري من وقود وطعام ومياه وخدمات أخرى، إلى المشاركة الكاملة بالأفراد في جميع العمليات القتالية.
7. كرت مصر وسورية والدعم العربي
كان لمصر بوصفها أكبر دول العالم العربي سكاناً دور أساسي في إنجاح التحالف، وقد نظرت إلى مشاركتها في الدول المتحالفة على أنه فرصة للعودة إلى الصف العربي، وإنهاء سنوات العزلة التي تلت معاهدة السلام مع إسرائيل. إضافة إلى إدراكها أن تحالفاً أمريكياً مصرياً عربياً سيكون خطوة كبيرة في تهميش دور الراديكاليين، من الجماعات الإسلامية وغيرها، وقد تخرج مصر من هذا الصراع وهي القوة العربية الأولى، ومع تحجيم حدة التطرف في المنطقة يمكنها أن تتفرغ لمعالجة شؤونها الاقتصادية الداخلية.
وجد الرئيس المصري أن المصالح المصرية سوف تتعرض للخطر، إذا سُمح للعراق بالهيمنة على مسرح الشرق الأوسط. ولم يكن الرئيس مبارك مستعداً للمخاطرة وإتاحة الفرصة للعراق لإبعاد مصر عن منطقة الخليج، وهي المنطقة التي عَبَّرَتْ مصر دوماً عن اهتمامها الراسخ بها خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، وأسهمت في حمايتها. ومن البديهيات التي يدرسها الضباط في الأكاديميات العسكرية المصرية، أن أمن الخليج جزء لا يتجزأ من أمن مصر.
في الفترة 1989 ـ 1990، وهي الفترة التي سبقت أزمة الخليج، طُرد المصريون من العراق بأعداد كبيرة من دون حصولهم على مستحقاتهم المالية، أو السماح لهم باصطحاب ممتلكاتهم الشخصية، وأجبروا على العودة إلى وطنهم في ظروف بالغة القسوة. إضافة إلى ذلك، لقي عدد منهم حتفه في ظروف غامضة، على أيدي مجرمين عراقيين مجهولين، وشحنت جثثهم إلى بلدهم مما أثار موجة من الاستياء الشديد في مصر. ومن جملة الأسباب التي أدت إلى هذه الأعمال الوحشية، أن الجنود العراقيين العائدين من جبهة القتال، بدأوا يطردون العمال المصريين من أعمالهم عنوة، اعتقاداً منهم بأن المصريون استولوا على وظائفهم. ولعل الحكومة العراقية وجدت مصلحة لها في إرهاب المصريين وحملهم على الهرب من العراق، فأطلقت عليهم زُمراً من جنودها.
أثارت المعاملة السيئة، التي لقيها العمال المصريون على أيدي العراقيين، الرأي العام المصري ضد العراق. وسهلت للرئيس مبارك، من الناحية السياسية، أن يضم مصر إلى التحالف المعادي لصدام.
يضاف إلى ذلك أن الرئيس مبارك كان مستاء جداً لأن الرئيس صدام حسين كان قد وعده بعدم استخدام القوة لحل خلافه مع الكويت. وتولد إحساس قوي في مصر بأن النية لدى العراق كانت مبيتة لغزو الكويت، وأن دوافع العراق في تأسيس مجلس التعاون العربي كان عزل سورية وتجميد مصر. وبدت مصر وكأنها في وضع تحتم عليها معه أن تختار بين دول الخليج العربي مجتمعة وبين العراق. وكانت مشكلات مصر الاقتصادية وطبيعة علاقاتها السياسية والاقتصادية بالولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح لها بهامش كبير من الحرية والمناورة. أما سورية، فكانت أكثر أعضاء التحالف خشية من سيطرة العراق وعدوانه. كان صدام مصمِّماً على معاقبة منافسه القديم، الرئيس حافظ الأسد، لوقوفه إلى جانب إيران خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية. ولو سُمح لصدام بابتلاع الكويت، لكان النظام السوري هدفه التالي دون تردد. وفي العام السابق لغزو الكويت، حاول صدام تقويض وضع سورية في لبنان، بإرسال الأموال والأسلحة إلى الزعيم الماروني العماد ميشيل عون، وإلى سمير جعْجع، "قائد القوات اللبنانية". وهما من ألدّ أعداء سورية. وعلى كل حال، فقد كان الأسد وصدام في معركة مصيرية منذ ربع قرن تقريباً، أي منذ وقوع الانشقاق في حزب البعث عام 1966، فكلاهما من أعضائه البارزين. ومع أن اشتراك الأسد في التحالف ضد صدام أثار بعض الدهشة في الدوائر الغربية، إلاّ أنه كان أمراً متوقعاً.
كان اشتراك الأسد في التحالف موضع ترحيب كبير لسببين: أولاً، لأن سمعة الرئيس الأسد، زعيماً يؤمن بالقومية العربية، بذل نفسه لمقاومة الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي العربية، ساعدت على إضفاء صفة الشرعية على التحالف لدى الرأي العام العربي. ثانياً، لأن علاقات الرئيس الأسد الوطيدة مع إيران ساعدت على ضمان حيادها خلال أزمة الخليج. وقد آتت هذه العلاقة ثمارها بعد ذلك، عندما عرض صدام على إيران الصلح في منتصف أغسطس عام 1990. إلاّ أن الأسد حصل على تعهدات من إيران، على ما يبدو، حين زار طهران بين 22 و25 من شهر سبتمبر، بألاّ تُمكن صداماً من الاستفادة من هذه الفرصة.
إضافة إلى ذلك فإن انهيار المعسكر الاشتراكي، فرض على سورية إعادة تقييم سياساتها الخارجية، وأتاحت لها الأزمة فرصة كسر عزلتها السياسية والاقتصادية، وإنهاء مشكلة ميشيل عون، وضرب النصارى المارونيين الذين يدعمهم العراق في لبنان، ومد جسر للحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفي هذا السياق وحده أمكن لمؤتمر القمة العربي الذي عقد في القاهرة، أن يتخذ قراراً بأغلبية ضئيلة "أحد عشر صوتاً" قرر فيه "الاستجابة لطلب المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية الأخرى، لنقل قوات عربية لمساندة قواتها المسلحة، دفاعاً عن أراضيها وسلامتها الإقليمية، ضد أي عدوان خارجي"، والمهم هو إن حالة التمزق والانشطار العربي بين الرغبة في وضع نهاية للعدوان العراقي وتحرير الكويت، وبين الخوف من العواقب غير المأمونة لوجود عسكري أمريكي كثيف على الأرض العربية، قد أوجد حالة من الشلل العربي، سهلت تماماً تحقيق رغبة الإدارة الأمريكية في تجميع كل خيوط وعناصر إدارة الأزمة في يدها.
في خطابه المشهور في التاسع من أغسطس، وصف خادم الحرمين الشريفين الملك فهد غزو الكويت، بأنه: "أفظع عدوان عرفته الأمة العربية في تاريخها الحديث". وشرح الجهود التي بذلتها الحكومة السعودية لاحتواء النزاع بين العراق والكويت. وكرر تأكيده مطالب المملكة بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الغزو العراقي وعودة الأسرة الكويتية الحاكمة. وذكر الأسباب التي أدت إلى دعوة القوات العربية والصديقة للمساندة في الدفاع عن أراضي المملكة العربية السعودية، والحفاظ على مصالحها الحيوية وتعزيز قدراتها العسكرية. وشدّد على أن وجود هذه القوات في المملكة إجراء مؤقت، وأنها سوف ترحل دون إبطاء، عندما يطلب منها الرحيل. وكرر القول، أن الترتيبات التي اتخذتها المملكة، هي ترتيبات دفاعية في المقام الأول، وليست موجَّهة ضد جهة محددة أو شخص معين.
8. كرت الآلة العسكرية الأمريكية الهائلة والتقنية بالغة التطور
قبل اندلاع الحرب كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد حشدت قوات بحرية وجوية وبرية لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية. كانت هناك أربع حاملات طائرات في الجزء الشمالي من البحر الأحمر، تحمل فوق ظهرها مائتي طائرة، وحاملتان في الخليج، تحملان مائة طائرة، إضافة إلى البوارج المزودة بتجهيزات لإطلاق صواريخ "كروز" و"توما هوك". وفي المملكة العربية السعودية، كانت هناك ثلاث قواعد جوية في حفر الباطن والرياض والظهران، ترابض فيها 800 طائرة. وفي تركيا قاعدة إنجرليك تربض فيها 400 طائرة. وفي مواجهة القوات العراقية كان هناك أكثر من 350.000 جندي، معظمهم من الأمريكيين المزودين بأحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا الحرب من أسلحة ذات أعلى تقنية، وأكبر قوة تدميرية في العالم، وعلى أتم استعداد لخوض الحرب.
9. كرت إدارة المواجهة
لهذا الكرت عدة أوجه منها:
أ. الاستخبارات
تميزت استخبارات التحالف بالمهارة الفائقة والتكامل التام، والقدرات الإلكترونية على التقاط جميع اتصالات العراق (ماعدا الاتصالات الهاتفية ذات الخطوط المدفونة)، والسرعة الهائلة مع الدقة الكاملة، في معالجة المعلومات، والاطلاع على جميع خطط العراق، ورصد جميع تحركاته.
ب. صواريخ الباتريوت
أدت هذه الصواريخ، خاصة باتريوت باك2 وظيفتها بصورة أفضل مما كان متوقعاً منها، على الرغم من أن الجيش الأمريكي لم يتسلمها إلا في آخر يوليه 1990، لقد تمكنت هذه الصواريخ من شل فاعلية صواريخ سكود، وإفساد مقصد صدام من قصف إسرائيل لجرها إلى الصراع.
ج. إدارة المعارك الجوية والبرية
كانت السيطرة الجوية والتكتيكات الجوية، التي طورها حلف الناتو، سبباً أساسياً في تميز القوات المتحالفة، وتفوقها في جميع المعارك مع العراق، فقد كان بمقدور القوات الجوية إحداث الخسائر الفادحة في قوات العراق، دون وجود خسائر في صفوفها. إضافة إلى التركيز على الضربات الجوية العميقة في مؤخرة جيش العدو، وتعاون جميع أفرع القوات في عملية المساندة المشتركة، في وقت واحد، بين الدفاع الجوي والمروحيات، وعمليات القوات الخاصة والمدرعات والمشاة والمدفعية، مع السرعة الفائقة والمناورة الذكية. وكانت المعارك فرصة للولايات المتحدة الأمريكية لإثبات نجاحها في عمليات التدريب المكثفة الشاملة لجنودها في قاعدة فورت إيروين في ولاية كاليفورنيا، حيث تم التدريب على أرض مشابهة وأسلوب مماثل لما حدث في الخليج.
وباختصار وضع التحالف خطته على ثلاث مراحل هي: الردع، والدفاع، ثم الهجوم المضاد، ونفذها بحذافيرها وبكل دقة، وعلى أعلى مستوى من الإتقان في ظل استكمال مهمات الوقاية، والتدريب الكيماوي، والاستعداد للقتال تحت ظروف استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية. وتوج ذلك بالاستعداد التام للعمليات البرية، ثم تنفيذها على محورين رئيسيين بعد اجتياز خط العوائق العراقي الأول. واعتمد التحالف على التطبيق الكامل والسليم لمبادئ الحرب التقليدية: المفاجأة، والمبادأة، والحشد، وخفة الحركة، والتعاون، والسيطرة، واستخدام الخداع والتمويه في استخدام عناصر الإبرار البحري على نطاق واسع. مع توفير حماية مباشرة للطائرات، بمختلف أنواعها، بتزويدها بوسائل الإعاقة، والتحذير من الأسلحة التي تعمل بالليزر.
د. إتقان استخدام العمليات النفسية في التأثير المباشر في معنويات مقاتلي العراق وإفقادهم الرغبة في القتال، وقد برز الدور الحيوي للعمليات النفسية من خلال إلقاء 25 مليون منشور (تهديد، ترغيب، بطاقات دعوة).