العراق الكويت: الجذور الغزو التحرير - القرار التاريخي لخادم الحرمَين الشريفَين
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقدمة
من الصعب تحديد اللحظة، التي اتخذ فيها الرئيس العراقي، صدام حسين، قرار استخدام القوة ضد الكويت، والاستيلاء على أراضيها كلها. ومعظم الخبراء يشعرون، أنه تعمد خلق تحرش سياسي بالكويت، وأنه وسع أهدافه وطموحاته، لتشمل احتلال الكويت، وربما المملكة العربية السعودية، مع تصاعد الأزمة. ونظراً إلى وقوع الأزمة في إحدى المناطق، التي تتداخل فيها المصالح، المحلية والإقليمية والدولية، فقد أثارت اهتمام أطرافٍ عدة. غير أن الملابسات والظروف السياسية، التي صاحبتها، أسهمت إسهاماً كبيراً في تهميش دور الأطراف الدولية، وإعطاء الدور الأكبر للفاعلَين الإقليميَّين المؤثرَين: المملكة العربية السعودية ومصر؛ إذ وقعت في وقت ازدحم فيه جدول الأعمال الدولي بالعديد من الموضوعات. فالقوّتَين العظمَيَين، كانتا منهمكتَين في بناء نظام دولي جديد، وإعادة تشكيل ركائز وأُسُس العلاقات بينهما. أمّا أوروبا، الشرقية والغربية، فكانت تشهد تغيرات، سياسية واجتماعية عميقة؛ أي أن الأزمة نشبت إبّان انشغال دول الشمال المتقدم، ذات المصالح الحيوية في منطقة الخليج، بأمورها الخاصة، الأكثر أهمية، فتضاءل اهتمامها بما يجري بين دول الجنوب. كما توافق وقوع الأزمة مع انصراف النظام الإقليمي العربي إلى استعادة حيويته، وتنشيط آلياته، وتطويق بؤر التوتر والخلافات بين دوله. وكانت مساعي تنقية الأجواء العربية، تسير بخطوات حثيثة نحو خلق وفاق عربي، يواكب اتجاهات التغيير في النظام الدولي. وفي ضوء تنامي دور النظام الإقليمي العربي، وانشغال القوى الكبرى بعضها ببعض، كان لا بدّ للمملكة العربية السعودية ومصر، من الاضطلاع بالدور الرئيسي في إدارة الأزمة. ولا يعني ذلك انتفاء اهتمام الدول الكبرى بمجريات الأزمة؛ وإنما المقصود، أن الدول الكبرى، أعطت المملكة العربية السعودية ومصر، هامشاً كبيراً من الحركة في تطويق الأزمة، في بدايتها. واقتصر دورها على تشجيع جهود التسوية السلمية، مع تلويحها بإمكانية التدويل، إذا ما استمر منحنى التصعيد في التزايد. ومنذ بدء الأزمة، حرصت المملكة، والدول العربية على اختلاف توجهاتها، على تسويتها في الإطار العربي، ومنع تدويلها. وتنمّ ردود الفعل العربية، والحرص على الحيلولة دون تدويل الأزمة، على التخوف من استغلال أطراف أخرى للأزمة، مستهدفين تصعيدها، لخلق بؤر توتر بين الدول العربية، من شأنها أن تلحق الضرر بها، وتلفتها عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي. كما أسهمت الحملة، الغربية والإسرائيلية، المعادية للعراق، في ترسيخ الانطباع لدى الدول العربية، أن ثمة مؤامرة تحاك لجرّها إلى نزاعات هامشية، تستنزف القدرات والإمكانات العربية. لذلك عملت الدول العربية، فرادى ومجتمعة، على تطويق الأزمة في إطارها العربي. وكانت المملكة العربية السعودية ومصر، صاحبتَي الدور الأكبر في جهود التسوية. وعملتا على تطويقها ومنع تصعيدها، من خلال الأساليب الدبلوماسية، وفي الإطار العربي. وجسّد التحرك الدبلوماسي، السعودي والمصري، ثقل دورَي الرياض والقاهرة في النظام الإقليمي العربي. وعبَّر عن الدور الذي أخذته الدولتان على عاتقهما، أن تكونا حلقة اتصال ووصل بين الدول العربية، بهدف حل سائر الخلافات، وتنقية الأجواء العربية من الرواسب، التي ما زالت عالقة بين تلك الدول.
أولاً: دبلوماسية المملكة العربية السعودية، بعد انفجار الأزمة
انطلق التحرك السعودي من عدة معايير، يأتي على رأسها، انتماء المملكة العربية السعودية إلى مجلس التعاون الخليجي، بل اضطلاعها بدور القائد فيه، بما يعنيه ذلك من الحفاظ على مصداقيتها، كدولة قائدة، إزاء تعرّض أحد أعضاء المجلس لمشكلة ما. لقد كان التحرك السعودي سريعاً، ومواكباً للتطورات. إذ بادر الملك فهد بن عبدالعزيز إلى إرسال الرسائل إلى كلٍّ من العراق والكويت. وعملت المملكة على تحديد موعد للقاء البلدَين، في جدة، ورعت المفاوضات في شأن ذلك، رعاية سعودية بمشاركة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، وليّ العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني. وسرعان ما أسفرت جهود المملكة العربية السعودية، عن قبول طرفَي النزاع المبادرة، التي طرحها الملك فهد بن عبدالعزيز، في صدد استضافتهما. وأعرب مصدر سعودي مسؤول، في تصريح إلى وكالة الأنباء السعودية، في 29 يوليه 1990، عن ترحيب حكومة المملكة العربية السعودية بلقاء الأشقاء على أراضيها، وتطلعها، بأمل كبير، إلى أن تسود روح المودّة أجواء الاجتماع الأخوي المرتقب، لكل ما فيه مصلحة البلدَين والشعبَين. وعقب انتهاء اجتماع جدة، في الأول من أغسطس، أعرب الطرفان عن استعدادهما لمواصلة المفاوضات، من أجل التوصل إلى حل لكافة القضايا بينهما؛ وذلك بعد جلسة الحِوار، التي جرت في قصر الحمراء، مساء 31 يوليه. وقد أدلى رئيس الوفد الكويتي، الشيخ سعد العبدالله الصباح بتصريح، عقب جلسة المباحثات، وقبل مغادرته جدة، قال فيه: "لقد أكدت إيمان الكويت بالحِوار الموضوعي، وفق مبادئ حُسْن الجوار، والرغبة في حل المشاكل بالتفاهم والمفاوضات المباشرة. والتزاماً بهذا النهج، فإنني أتطلع إلى مواصلة اللقاءات، واستمرار المفاوضات، في كلا البلدَين الشقيقَين، من أجل التوصل لحل كافة القضايا، وفق ميثاق جامعة الدول العربية، بما يؤمّن مصالحنا المشتركة، والمشروعة"
ولم يكن أحد، قد عرف، بعد، تفاصيل ما دار بين الرجُلَين، سواء في الاجتماع الأول، الذي عقداه بعد الظهر، أو الاجتماع الثاني، الذي عقداه بعد العشاء. وفيما بعد، روى كلٌّ من الطرفَين تفاصيل، تعارض ما يرويه الطرف الآخر. ففي حين ذكر الشيخ سعد، أنه أبدى موقفاً ليناً، تجاه المطالب العراقية، وكان على استعداد لحلول وسط كثيرة، ترضي العراق، في ما يتعلق بالديون والمساعدات، والالتزام بحصص الإنتاج ـ فإن نائب الرئيس العراقي، عزة إبراهيم، ذكر أنه لم يجد لدى نظيره الكويتي، أي استعداد لبحث حلول عملية، تفصيلية. وعلى أثر مغادرة الوفد العراقي جدة، إلى بغداد، أدلى سعدون حمادي، عضو مجلس قيادة الثورة العراقية، بتصريح مقتضب، قال فيه: "إن الجانبَين، بحثا مختلف المشاكل القائمة بين البلدَين. واستعرض كل جانب وجهة نظره". وأضاف سعدون حمادي، أن اللقاءات ستستمر، لمواصلة البحث في بغداد، حسبما اتُّفق عليه، بين الملك فهد والرئيسيَن صدام حسين وحسني مبارك. وفي إجابته عن سؤال وكالة الأنباء العراقية، عمّا أمكن التوصل إليه في جدة، قال: لم يحصل اتفاق على شيء. وفي منتصف الليل، وفي تمام الساعة الثانية عشرة، يوم الخميس، 2 أغسطس 1990، فاجأ العراق العالم كله، بدفع قواته المسلحة، المحتشدة على الحدود العراقية ـ الكويتية، إلى داخل الكويت، حيث أحكمت قبضتها على مدينة الكويت. ولم تعثر فيها للأمير، ولا لأفراد حكومته البارزين، على أثر. ثم علم قائد القوة العراقية بخروجهم، على طريق البر.
ثانياً: موقف المملكة من الاجتياح العراقي للكويت
لم يكن ممكناً، أن تقف المملكة العربية السعودية مكتوفة الأيدي، تشاهد ما يحدث من اجتياح وتمزيق لدولة شقيقة، جارة، عضو في كافة المحافل الدولية، من دون أن يكون لها دور بارز في خضم تلك الأحداث. ولم يكن تحرك المملكة نابعاً فقط، من إحساسها بضرورة المشاركة في تلافي الآثار الخطيرة، التي سيحدثها الغزو العراقي للكويت، في المنطقة، بل تعداه إلى قناعة أخرى أكثر أهمية، وهي أن المملكة قد أصبحت مستهدفة، في الدرجة الأولى، من بين دول المنطقة، بهذا التحرك العراقي المفاجئ، وغير المفهوم، الذي يفتقد المبررات الكافية. وقد اتسم موقف المملكة، بقيادة الملك فهد بن عبدالعزيز، بالحكمة، وبُعد النظر، والحنكة السياسية، والقدرة على حفظ التوازن بين القِيم والمواثيق، من ناحية، واتخاذ الحيطة والحذر، من ناحية أخرى. إذ لم تمنع الملك، رغبته في تصديق حُسن النيات العراقية، من الاحتراس والتدبير، اللذَين مكناه من اتخاذ التدابير الكافية، واللازمة، في الوقت الملائم، لمواجهة الخطر الرابض على الحدود الشمالية للمملكة، بالطريقة الموائمة، التي كان لها أثر كبير في درء أهوال وأخطار، لا يعلم حجمها وآثارها، سوى الله، وحده. كان تحرك المملكة متوافق مع التزاماتها الثابتة، في سياستها، الإقليمية والدولية. فقد حرصت المملكة العربية السعودية، على أن يكون تحرُّكها، على المستوى العربي والإقليمي، متسماً بالحكمة والتدبر. فتحلت بالصبر. فقد أدلى مصدر مسؤول بتصريح إلى وكالة الأنباء السعودية، صباح الجمعة، 3 أغسطس 1990، قال فيه: "إن المملكة العربية السعودية، وهي تتابع الأحداث، تودّ أن توضح بأن الملك فهد، قد بدأ، منذ فجر يوم أمس، اتصالاته المكثفة بأشقائه، ملوك ورؤساء الدول العربية، بدءاً بالرئيس العراقي، صدام حسين، سعياً إلى تهدئة الموقف، وعودة الأمور إلى مجاريها الطبيعية، بين البلدَين الشقيقَين، العراق والكويت، بما يكفل مصلحة الجميع". وفي خضم تلك اللحظات الحرجة، وفي 4 أغسطس 1990، بات واضحاً، بما لا يدع مجالاً للشك، أنه على الرغم من الجهود السعودية المخلصة، والمتمثلة في تحركات واتصالات الملك فهد مع القادة العرب، للتشاور والتنسيق، في شأن المستجدات، وتبادله وجهات النظر مع رؤساء الدول الكبرى الصديقة، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي، جورج بوش ـ فإن النظام العراقي، مضى في تنفيذ مخططه، لابتلاع أكبر جزء، من دول الخليج، تمكنه منه ظروف العدوان العسكري، بادئاً بالكويت. لم يكن للترتيبات العالمية، الآخذة في التشكل، مؤخراً، أن تنشغل عن العدوان العراقي، بعكس ما تصوره النظام العراقي، في حساب خاطئ لرد الفعل العالمي. بل كانت ردود الفعل العالمية إزاءه، متحدة، ومتطابقة مع الموقف العربي العادل، ومتوائمة مع الموقف السعودي؛ حتى بات الفصل بين التحركات، العربية والعالمية، أمراً صعباً. ذلك أن الإجماع على رفض العدوان، أسفر عن التقاء الشرق والغرب على مبدأ واحد، هو نبذ القوة، وضرورة الالتزام بمبادئ المجتمع الدولي، التي تحكم كافة العلاقات بين الدول، في علاج مثل هذه القضايا. وفي 5 أغسطس، صدر بيان مشترك عن الإدارتَين، الأمريكية والسوفيتية، أعلنتا فيه حظر تسليح العراق أو بيع معدات له. وطالبتا بإعادة الأمور إلى نصابها، وضمان عودة الكويت إلى الأوضاع، التي كانت قائمة قبْل الاجتياح العراقي. أصدر معظم دول العالم بيانات، تستنكر العدوان العراقي على الكويت، وتطالب بانسحاب القوات العراقية، من الفور. لقد كان هذا الاستنكار خير معين، وعاملاً مساعداً ضمن عوامل أخرى كثيرة، كانت حكومة المملكة العربية السعودية، وقتئذٍ، تدرسها بدقة؛ إذ كان خادم الحرمَين الشريفَين، يوشك أن يصدر قراره، في شأن ضرورة استدعاء القوات الصديقة، العربية والإسلامية والدولية. ولعل أهم قرارات الإدانة والاستنكار، كانت تلك الصادرة عن الأمم المتحدة، والمنظمات والهيئات، العربية والأجنبية والدولية.
الثا: المملكة ومسؤولية الحل العربي
وبعد مرور خمسة أيام على العدوان العراقي على الكويت، كان هناك إجماع دولي، أعرب عنه مجلس الأمن، والجماعة الأوروبية، وجهات أخرى عديدة، على أن حل المشكلة، هو مسؤولية عربية، في الدرجة الأولى. وأن العالم يؤيد هذا التوجه، رغبة في حصر الموضوع في أضيق نطاق ممكن، والحيلولة، إذا أمكن، دون تدويل المشكلة. وكانت المملكة العربية السعودية، تأخذ بهذا الرأي، منذ الساعات الأولى للعدوان، تؤيدها على ذلك دول مجلس التعاون ومصر وسورية. ومن هذا المنطلق، أجرى الملك فهد اتصالات واسعة، مع مختلف الأطراف، العربية والإسلامية والدولية، لإبعاد أي تدخّل أجنبي عن القضية، وإتاحة المجال للتوصل إلى حل عربي، ينهي المشكلة والآثار المترتبة عليها. إلا أن العراق، وضع العراقيل أمام كل الجهود المبذولة في هذا الصدد، وأعانه على ذلك عدد من الدول العربية الموالية له، الأمر الذي حال دون تحقيق الهدف المنشود.
رابعاً: مقدمات اتخاذ القرار التاريخي== كان سفير الملك فهد إلى واشنطن، الأمير بندر بن سلطان، قد سمع نبأ الغزو، عند منتصف الليل في لندن (2 أغسطس1990)، فركب طائرته، من الفور، قاصداً واشنطن. وفور وصوله، اتصل بالملك فهد، هاتفياً، يسأل عن التعليمات. قال له الملك: لا بدّ للإدارة الأمريكية أن تكون حازمة مع ما حدث للكويت. وردّ الأمير بندر بأنه لم ير أحداً من المسؤولين الكبار، بعد. ولكنه من كل ما سمع ورأى، يشعر أن الأمريكيين ثائرون. وأنه عمد إلى الاتصال بالملك، قبْل أن يقابل أحداً، حتى يكون على بينة. واكتفى الملك فهد بأن أبلغ سفيره إلى واشنطن، "أنه ينتظر ما سيسفر عنه اجتماع وزراء الخارجية العرب، في القاهرة. وبعدها، سوف تكون الصورة أوضح". ومنذ بداية الأزمة، سعى الرئيس الأمريكي، جورج بوش، عبْر محادثات هاتفية كثيرة، مع الملك فهد وغيره من قادة المنطقة، إلى إقناع أصدقائه، من القادة العرب والحلفاء، بأن توسع صدام حسين نحو المملكة العربية السعودية، أمر لا محالة منه. كما أن الرئيس بوش، أوحى للملك فهد بذلك، خلال الاتصال معه، ظُهر يوم الخميس، 2 أغسطس 1990، (أي الساعة الخامسة صباحاً، توقيت واشنطن).
وخلال اجتماع الرئيس بوش إلى مستشاريه، في البيت الأبيض، في الساعة الثامنة، صباح يوم الخميس، 2 أغسطس 1990، لخص لهم تفاصيل ما سمعه من الملك فهد، قائلاً: إن الملك فهد في حالة صدمة. وهو غاضب. ويطالب بضرورة إجبار صدام حسين على الخروج من الكويت.
وأثنـاء حديث الرئيس الأمريكي مع الملك حسين، في 2 أغسطس، قال للعاهل الأردني، إن أكثر ما أدهشه، هو موقف الملك فهد، الذي كان على اتصال معي، قبل قليل. ولقد كان (أي بوش) يتوقع أن يبادر الملك إلى طلب مساعدة الولايات المتحدة. لكننا لم نتسلم مثل هذا الطلب، حتى الآن. تسلمنا طلباً من الكويت، بعد الغزو بنصف ساعة، ولم نتسلم شيئاً من السعودية".
وأردف الرئيس قائلاً: "إنني قلت للملك فهد، إن الولايات المتحدة، قادرة على حماية مصالحها، وبوسائلها. ولكن، إذا لم يتحرك الآخرون لحماية مصالحهم، فلن يكون هذا ذنب الولايات المتحدة. ومن ناحيتها، فإن الولايات المتحدة، لن تعود مهتمة بما يجري لهم. وإذا لم يكن الناس قادرين على أن يقفوا ضد عدوان مسلح موجه إليهم، فلماذا يتوقعون ذلك من الآخرين؟ عليهم في هذه الحالة، أن يلوموا أنفسهم فقط. ثم قال بوش: إن الولايات المتحدة، سوف تتصرف، وحدها، ولن تنسق مع غيرها إذا لم يكن هذا الغير مستعداً للتنسيق". كان الرئيس بوش حاداً في لهجته، منفعلاً لعدم طلب المملكة المساعدة. كل هذا يوضح ويؤكد إلى أي مدى استخدم خادم الحرمَين الشريفَين إستراتيجية الصبر، وحاول لمّ الشمل، ومعالجة الأمور بالسياسة والحكمة.
وبدأت التقارير الإخبارية ترد، في صدد دخول القوات العراقية المنطقة المحايدة، بين المملكة العربية السعودية والكويت. ثم اتصل الأمير بندر، سفير المملكة العربية السعودية إلى واشنطن، بالملك فهد، في 3 أغسطس، ليقول: "إنه سمع من مصدر في البيت الأبيض، بأن قوة مدرعة عراقية، تتقدم تجاه المنطقة المحايدة، بين الكويت والسعودية. وسمع، أيضاً، أن الكويت، تقدمت بطلب رسمي للمساعدة من الولايات المتحدة. وكان بندر يسأل إذا كان في نية المملكة، أن تتقدم بطلب مشابه لطلب الكويت. وقال الأمير بندر إنه يعرف أن اجتماعاً لمجلس الأمن القومي، سوف يعقد، اليوم، برئاسة الرئيس بوش، وإنهم سوف يضعون له اقتراحاتهم بالخيارات المحتملة للعمل. والراجح في تقديره (الأمير بندر) أنهم سوف يتصلون به، وهو يريد أن يكون مستعداً. وطلب الملك فهد من سفيره في واشنطن، الأمير بندر بن سلطان، الانتظار حتى ينجلي الأمر، وتتضح الصورة كاملة". وخلال 3 أغسطس، كان وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، على اتصال مستمر بالملك فهد، من القاهرة، من داخل اجتماعات وزراء الخارجية العرب، طالباً تعليماته. وكانت تعليمات الملك فهد، "أن ينسق مع كل الإخوان، الذين لا بدّ لهم أن يعرفوا أن الموقف خطير، وأبواب جهنم، يمكن أن تنفتح، وأن التنسيق يجب أن يكون كاملاً مع المصريين والسوريين". ثم جرى اتصال بين الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودية، والأمير بندر بن سلطان، سفير المملكة إلى واشنطن. كرر خلاله السفير ما سبق أن قاله الأمير بندر للملك، عن المعلومات التي تشير إلى تقدم قوات عراقية في المنطقة المحايدة، بين الكويت والمملكة. وكان رأيه، "أن الذي يفطر بالكويت، لا بدّ له أن يتغدى بشيء آخر". وكان لدى الأمير تركي نقطة، يريد أن يتأكد منها. فقد سأل الأمير بندر عمّا إذا كان سمع عن تنسيق بين العراق وإيران. "فهو يظن أنه من الصعب على العراق، أن يدخل بكل هذه القوات إلى الكويت، ويكشف نفسه على الجبهة الطولية مع إيران، إلا إذا كان هناك تفاهم بينهما على شيء". ويبدو أن الأمير تركي، كان يسأل عن ذلك، لأنه كُلِف، ضمن آخرين، من قِبل الملك، بدراسة العدائيات المحيطة بالمملكة، لأنه كان يفكر، في ذلك الوقت، في قراره التاريخي، باستدعاء القوات الأجنبية.
خامساً: اجتماع ريتشارد تشيني والأمير بندر بن سلطان
بعد عودة الرئيس بوش من آسبن، صباح 3 أغسطس 1990، اجتمع، من الفور، في غرفة الاجتماعات الرسمية، في البيت الأبيض، مع مجلس الأمن القومي. وفي نهاية الاجتماع، طلب الرئيس بوش من برينت سكوكروفت أن يجتمع كل من تشيني وباول، في اليوم عينه، مع الأمير بندر بن سلطان، ليلخصا له الموقف، ويوضحا الأخطار المحيطة بالمملكة العربية السعودية.<o:p></o:p>
عقد الاجتماع بين الأمير بندر بن سلطان، سفير المملكة العربية السعودية لدى واشنطن، وكلٍّ من وزير الدفاع الأمريكي، ريتشارد تشيني، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، كولين باول، في الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم 3 أغسطس 1990، في البنتاجون. ولقد فعل تشيني خلال الاجتماع شيئين. الأول: بناءً على توجيهات الرئيس بوش، أطلع تشيني الأمير بندر على بعض صور أقمار صناعية سرية، ذات درجة وضوح عالية، لثلاثة فرق مدرعة عراقية، التي نفذت الغزو، وأن إحدى هذه الفِرق المدرعة العراقية، تتحرك خلال الكويت إلى الحدود الجنوبية، في اتجاه المملكة العربية السعودية، وتتبعها فِرق أخرى، تتخذ التشكيل نفسه، الذي سبق أن اتخذته القوات العراقية، قبْل غزوها الكويت. هذا التشكيل ظهر إنه يمكن أن يُستخدم في الهجوم لاحتلال حقول النفط السعودية، الموجودة على بُعد 200 ميل، جنوباً، بالقرب من الظهران. الثاني: أعطى الجنرال كولين باول، الأمير بندر إيجازاً عن خطط عسكرية، ذات سرية عالية، "محظور الإطلاع عليها"، لانتشار فِرقتَين ولواء واحد، إضافة إلى إسناد، جوي وبحري، قويين، مشتملاً على ثلاث حاملات طائرات. وما يراوح بين مائة ومائتَي ألف مقاتل. وأبدى الأمير رضاه، خاصة عندما أبلغه الجنرال باول، أنه يتحدث عن انتشار قوات بهذا الحجم. ووعد الأمير بندر، بأنه سيتصل بجلالة الملك فهد، و ينقل إليه كل هذه التفاصيل، وسيكون بنفسه من المؤيدين للانتشار الأمريكي الفوري. واتصل الأمير بندر بالملك فهد، لإبلاغه. وأراد الملك، أن يتأكد أن التهديد العراقي تهديد حقيقي. كان كلاهما يعلم، أن الكويت قد تأخرت في طلب العون من الولايات المتحدة الأمريكية. وقال الأمير بندر للملك فهد، إن صور الأقمار الصناعية، قد أكدت أن المملكة العربية السعودية، تتعرض لمتاعب خطيرة، وأن التهديد حقيقي. وسأله الملك فهد: هل رأيت بعينيك؟ هل رأيت الصور؟ نعم، يا سيدي الملك. ورد الملك فهد قائلاً: "إذاً، قل لهم أن يأتوا، ويحضروا معهم الصور. واتصل الأمير بندر، مرة أخرى، بالملك فهد، يستأذنه في القدوم إلى جدة، ليشرح له بنفسه بعض الأمور المهمة. وكان رد الفعل الأول لدى الملك، أن طلب إلى بندر، أن يظل في واشنطن، للمتابعة. ولكن بندر ألح قائلاً: "إن الإخوان هنا، يريدون أن يسمعوا منا". ورد الملك: "المهم، قبْل أن يسمعوا منا، أن يعرفوا ويدرسوا جيداً موقفهم". ثم وافق الملك على أن يترك سفيره موقع عمله، في هذه اللحظات الحاسمة. وسافر الأمير بندر. ولكنه قصد، أولاً، إلى المغرب، حيث كان والده، الأمير سلطان بن عبدالعزيز في دور النقاهة، بعد العملية الجراحية الدقيقة، أجراها في ركبته، في سويسرا. وفي الدار البيضاء، شرح الأمير بندر لوالده بعض ما رأى وسمع، ثم التقى الاثنان الملك الحسن. وبعد انتهاء اجتماع الرئيس بوش بمجلس الأمن القومي، في كامب ديفيد، صباح اليوم التالي، 4 أغسطس، اتصل بالملك، وحضر الاتصال مستشار الرئيس للأمن القومي، سكوكروفت. وأخبره بأن صداماً، يحشد قواته على الحدود السعودية. وردّ الملك فهد بأن المملكـة، لا تحتاج إلى قوات برية للدفاع عنها، الآن. وأن السعوديين، لا يريدون إلا مساعدة جوية، وربما بعض المعدات. وذكر الملك للرئيس، أن الأمير بندر، أبلغه أن الولايات المتحدة الأمريكية، سترسل فريقاً إلى الرياض، لإطلاع الملك على آخر الصور الجوية، وعلى القدرات الأمريكية على مساعدة السعوديين على الدفاع عن أنفسهم. وردّ بوش بأنه سوف يرسل هذا الفريق، من الفور. قرر الرئيس بوش إرسال وزير دفاعه، تشيني، ومعه الجنرال شوارتزكوف، وبوب جيتس، من مجلس الأمن القومي، ونحو ستة آخرين. وحدد موعد الرحيل إلى المملكة، في الساعة الثانية والنصف، بعد ظُهر 5 أغسطس 1990، بتوقيت واشنطن. وقُبَيل رحيل تشيني، تحدث مع الرئيس بوش، الموجود في كامب ديفيد. ولم يكن هناك وقت لتعليمات رسمية مكتوبة. فحدّد الرئيس الخطوط العامة للمهمة، شفهياً. قال لتشيني: اعرض على الملك الموقف، بدقة. ووضح له، بصراحة، أنه في حالة طلبه القوات الأمريكية، فإني سأرسلها، بأعداد ضخمة. وستبقى هناك، ما دام ذلك ضرورياً؛ ولكن، لن تبقى أكثر مما يريد السعوديون.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
سادساً: شروط المملكة العربية السعودية المطلوبة في القوات الصديقة
قرر القادة السعوديون، في إثر تحليلهم الموقف من كل جوانبه، أن القوات الصديقة، التي يمكن دعوتها لمساندة المملكة، لا بدّ أن تتوافر فيها شروط عدة، أبرزها:
- التمتع بخفة حركة عالية، وقدرة سريعة على الرد.
- امتلاك القدرة على الردع، حتى قبْل الوصول إلى المملكة.
- القدرة على حماية خطوط الإمداد، لا سيما البحرية منها.
- القدرة على الدفاع عن المملكة، ومواجهة أي هجوم عراقي محتمل.
- الاستعداد لشن عملية هجومية لتحرير الكويت، في القريب العاجل.
والنتيجة الواضحة، أن هذه الشروط، لا تستوفيها إلا القوات الأمريكية. فقرار استدعاء القوات الأمريكية والقوات الصديقة والشقيقة الأخرى، هو قرار أملاه المنطق، لدرء الخطر عن الوطن. ولم يغب عن خادم الحرمَين الشريفَين، أن بعض المسلمين قد يعترضون على طلب المساندة من القوات الأجنبية، خصوصاً أنها المرة الأولى، التي تدخل فيها قوات غير إسلامية إلى الأراضي السعودية. فالمملكة لم تتعرض في تاريخها لاستعمار غربي، خلافاً لأجزاء العالم العربي الأخرى. كان الملك يدرك تخوف بعض المسلمين من بقاء القوات الأجنبية في المملكة، بعد انتهاء مهمتها. كما كان ثمة مخاوف أخرى من ردود الفعل السلبية، لبعض المواطنين السعوديين، ومواطني الدول، العربية والإسلامية، الأخرى. بيد أن الملك، أدرك، بحكمته، أنه إزاء التهديدات الناجمة عن غزو صدام الكويت، لا بدّ من تحمّل تلك الأخطار كلها؛ فهو يأخذ الرأي العام الإسلامي في الحسبان، في كل ما يفعله.
سابعاً: القرار التاريخي لخادم الحرمين الشريفين
حينما وصل وزير الدفاع الأمريكي، تشيني، إلى المملكة، ظُهر الإثنين، 6 أغسطس، كان الملك فهد مجتمعاً إلى علماء الدين، ليرى ما إذا كانوا يتقبلون دعوة القوات الأمريكية الصديقة، أم لا. وقد بارك العلماء إستراتيجية ملكهم وسياسته. وفي مساء هذا اليوم، التقى الملك فهد الفريق الأمريكي. وتولّى الأمير بندر الترجمة بين الجانبَين.
بدأ الاجتماع بكلمة قصيرة، من الملك فهد، عن علاقته الطويلة بالرئيس جورج بوش. ثم تكلم تشيني، فشكر للملك والمسؤولين استقبالهم. ثم قال: يجب علينا جميعاً، أن نتعاون على إفشال خطط صدام حسين. وأقترح إستراتيجية من جزءَين: أولاً، التعاون على أمور الدفاع. وثانياً، خنق العراق.
ثم قدم تشيني الجنرال شوارتزكوف، الذي بادر إلى إطلاع الملك فهد على صور الأقمار الصناعية للدبابات العراقية، وهي في طريقها إلى الحدود السعودية. وقال: "وإذا جمعتم هذا كله، فستجدون أن هذه فِرقة من أفضل الفِرق، التي يمتلكها العراق. وفي موقع ما بين هذا المكان (وأشار إلى نقطة، على بعد 50 ميلاً) وبين مدينة الكويت، هناك فِرقتان أخريان. فبعد أن استولى العراقيون على مدينة الكويت، جلبوا وحدات جديدة، ليتيحوا لهما المضيّ إلى الحدود. لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق، هو أن هناك ثلاث فِرق أخرى، تحركت من منطقة البصرة. ونحن نراقب الأمر بدقة، لنرى ما يجري. وثمة قدر كبير من إعادة التموين". كما أوضحت الصور قواعد إطلاق صواريخ سكود، وهي مصوبة نحو الجنوب.
وقال الملك فهد، إنه لا يرى أي لَبْس؛ "فلديهم قوات في مراكز، لا يحتاجون إليها، من أجل الكويت، وحدها. فلا بدّ، إذاً، أن لهم أهدافاً أخرى". لقد كنا نعتقد، أن صداماً يقول الحقيقة. وقد أخبرنا، وأخبر الولايات المتحدة الأمريكية، وأخبر الرئيس المصري، أنه لن يهاجم الكويت. ولكن، حدث العكس. ومن ثَم، فإننا نعرف نياته. واتخذنا الاستعدادات الصحيحة، للرد الصحيح، في الوقت الصحيح. وأنا شاكر لكم ما بذلتم. ثم تحدث شوارتزكوف قائلاً: إن صدام حسين، وقواته، ليسوا عمالقة، لكنهم خصم عنيد. وأضاف أنه سيتم إحضار القوات الأمريكية عبر رحلة، طولها سبعة آلاف ميل، للقادمين جواً، واثنا عشر ألف ميل، للقادمين بحراً. وستأتي أسراب المقاتلات، أولاً، تعقبها القوات البرية الخفيفة. وأخذ شوارتزكوف يقدم عرضاً للحشد الأمريكي، أسبوعاً بعد أسبوع. وفي الأسبوع السابع عشر، ستكون قوة كبيرة، قد حشدت، قوامها كثير من طائرات السلاح الجوي وسفن الأسطول، وفِرقتا دبابات، وفِرقتان أخريان. وبعد الأسبوع السابع عشر سيمكن هذه القوات هزيمة كل ما يقف في وجْهها.
وقال وزير الدفاع الأمريكي، تشيني: "لقد طلب مني الرئيس بوش، أن أؤكد أربع نقاط مهمة:
النقطة الأولى: أن الولايات المتحدة الأمريكية، مستعدة لتقديم قوة دفاع إلى المملكة، تستطيع أن تؤدي مهمتها، وتتعاون مع القوات السعودية على ردع صدام حسين. <o:p></o:p>
- النقطة الثانية: لا بدّ أن يكون لدينا قوى متمركزة على الأرض؛ فلا يمكننا أن ننتظر إلى أن يعبُر العراقيون الحدود، إذ الوقت عامل أساسي.
- النقطة الثالثة: بعد أن يزول الخطر، ستعود قواتنا إلى بلادها. وبفضل تعاوننا، ستكون قواتكم أقدر على الدفاع، بعد أن نرحل.
- النقطة الرابعة: سيكون الانتظار أشد خطراً. فإذا لم نجابه صدام حسين، الآن، فإنه سيزداد قوة وتهديداً".
ثم تحدث الملك فهد، قائلاً: "إن تعاوننا مع الولايات المتحدة الأمريكية، لا يصدر عن رغبة في مهاجمة الآخرين، أو العدوان على أحد". وأضاف أن أساس هذا التعاون، هو الخطر الذي تتعرض له المملكة، والمصالح المتبادلة". إننا لم نخلق المشكلة؛ وإنما خُلقت لنا. إن المسألة، ليست العدوان على الكويت فقط، فصدام يتطلع إلى شيء أكبر. وإذا كنا، اليوم، نطلب المساعدات الأمريكية من الأصدقاء؛ فإنما نفعل ذلك من أجْل الدفاع عن النفس، وليس عدواناً على الآخرين. إنني جدّ سعيد بما سمعته، الآن، من الوزير تشيني، وعلينا أن نعمل لتنفيذ ذلك".
وبعد ذلك، استدار جلالة الملك إلى تشيني، قائلاً: "فلنتكل على الله. ولنضطلع بما يجب أن نضطلع به. وأضاف جلالة الملك: "لا يهمني ما يقوله الآخرون. فأهم شيء، هو أن نبدأ بحماية بلادنا والدفاع عنها، مع الأصدقاء الأمريكيين. وكذلك مع بعض الأصدقاء العرب والمسلمين". وأكد خادم الحرمَين الشريفَين ضرورة "مغادرة القوات الأمريكية الأراضي السعودية، متى طلب منها الملك ذلك".
وفي نهاية الحديث، استأذن الوزير الأمريكي في العودة إلى واشنطن، من الفور، ليطلع الرئيس بوش على ما دار في المناقشة. وأكد أن "الجنرال شوارتزكوف، سيعمل مع مسؤوليكم، على وضع التفاصيل. وسنترك فريقاً خلفنا".
وبعد انتهاء هذا الاجتماع التاريخي، اتصل تشيني، من الفور، بالرئيس جورج بوش، في مكتبه، في البيت الأبيض، حيث كان يجتمع إلى مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا. وقال للرئيس لقد طلب الملك القوات الأمريكية، للمساعدة على عمليات الدفاع عن أرض المملكة. وطلب تشيني من الرئيس الموافقة، رسمياً، على بدء تحرك القوات إلى المملكة. وأضاف أن الشرط الوحيد، الذي وضعه الملك، هو ألاّ يصدر أي إعلان في هذا الخصوص، قبْل أن تنشر القوات في المواقع المقررة لها". ورد بوش قائلاً: "إنني موافق. فامضوا". ثم اتصل تشيني بكولن باول، ليخبره بالتصريح ببدء نشر القوات.
وفي الساعة الرابعة، بعد ظُهر 6 أغسطس، تلقّى الجنرال كيلي، وهيئة عملياته، الأمر بالدفاع ضد هجوم عراقي على المملكة العربية السعودية، والاستعداد لإجراء عمليات أخرى، حسب الأوامر. وكان الأمر المباشر، هو تنفيذ خطة العمليات (1002 ـ 90). وتحدد إرسال 48 طائرة F-15 النفاثة، من جناح المقاتلات التكتيكية، في قاعدة لانجلي الجوية، في فرجينيا، يعقبها لواء من الفيلق 82، المحمول جواً، ويتألف من 2300 رجل. إلاّ أن هذه القوات، لن يمكنها الوصول، قبْل صباح الأربعاء، 8 أغسطس1990.
ويوم الأربعاء، 8 أغسطس تحدثت مارجريت تاتشر، هاتفياً، مع الملك فهد، لمدة ساعة، لتتسلم منه دعوة رسمية إلى المشاركة في القوات الصديقة، بطائرات بريطانية، وفي حالة الضرورة، بقوات مسلحة.
ويقول بعض الروايات إن العامل الأساسي في قرار الملك يُعزى إلى صور الأقمار الصناعية، التي عرضها عليه تشيني، وأظهرت وجود حشود عسكرية عراقية على حدود المملكة. وثمة رواية أخرى تجزم أن الأمر بدأ يتخذ الصورة التي انتهى إليها قبل ذلك، وتحديداً بعد لقاء مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا، والرئيس الأمريكي، جورج بوش، في آسبن، في يوم الغزو نفسه، حيث أقنعته بضرورة التدخل.
إن قرار الملك استدعاء القوات الأمريكية والقوات الشقيقة الأخرى لم يكن وليد لحظته، ولم يتدخل في اتخاذ الملك لهذا القرار شخص أجنبي أو غير أجنبي. فمثل هذا القرار الحيوي، الذي يتعلق بمصلحة الوطن، لا يتخذ بناء على تعليق عابر من هنا أو هناك! فحماية الوطن وأمنه لم يكونا ليعتمدا على زيارة وزير، أو على مصادفة وجود رئيسة الوزراء البريطانية في آسبن، أو عرض بعض الصور على الملك! فواقع الأمر، أن القرار الذي اتخذه الملك، كان بدعم من كبار العائلة المالكة.
وليس سراً، أن الأمريكيين جهدوا، سنوات طويلة، في السماح "لهم بتخزين معدات عسكرية في المملكة. فقد طلب الرئيس جيمي كارتر من المملكة، أن توقع اتفاقية دفاع مع الولايات المتحدة، عقب صدمة سقوط الشاه، أوائل عام 1979، تحسباً من أن سقوطه قد يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار في المنطقة. كما ذهب الرئيس رونالد ريجان أبعد من ذلك، حين عرض على المملكة صفقة، تشبه "التحالف الإستراتيجي" مع إسرائيل، وقال: "في وسعكم، أن تحصلوا على كل شيء تحصل عليه إسرائيل". لكن الملك فهداً، الذي كان وقتها ولياً للعهد، لم يرَ ضرورة إلى أن تتخذ تلك العلاقة، بين المملكة والولايات المتحدة، شكلاً رسمياً. وكان دائماً يقول إنه إذا حدث أمر، يعرّض مصالحنا ومصالح الولايات المتحدة للخطر، فلن نحتاج، عند ذلك، إلى تحالف رسمي، بل سنحارب معاً. أمّا إذا لم تكن مصالح الولايات المتحدة مهددة، فلا شيء سيجبرها على الوقوف معنا".
تلك هي خلفية القرار التاريخي للملك، "بعد أن عرّض صدام أمن المملكة وأمن المنطقة بأسْرها، للخطر، وهدد الاقتصاد العالمي، الذي تشكل المنطقة الشرقية للمملكة، الغنية بالنفط، مركزاً حساساً فيه. ولما كان الأمريكيون هم، وحدهم، القادرين على صد عدوان صدام ودحره، فلا بديل من مقدمهم؛ وإنْ لم يغب عن المملكة أن استدعاءهم، لا يخلو من مخاطرة جمة. ولكن خوفهم تبدد، بناء على إصرار الملك على أن يقبض بنفسه على زمام الأمور. فعلى سبيل المثال، كان من ضمن شروط قبول مساندة الولايات المتحدة، شرط ينص على توقيع تعهد بمغادرة القوات الأمريكية المملكة، متى طلب منها الملك ذلك". و"لم يكن استدعاء الأمريكيين أو عدمه، أمراً يشغل بال الملك ومستشاريه، بل ظل شغلهم الشاغل: "هل يمكن الاعتماد على الأمريكيين فعلاً، وهل سيأتون بأعداد كافية وتصميم صادق على إتمام المهمة؟". هذا هو السؤال الذي شغل تفكير الملك ومستشاريه، خلال الأيام الأربعة أو الخمسة، التي أعقبت الغزو، والذي دار في شأنه كثير من الأخذ والرد، عبر المحيط الأطلسي". "وريثما تتضح الإجابة عن ذلك السؤال، مضى الملك في مشاوراته مع القادة، عرباً وغير عرب. كان عليه التأكد من مصداقية الاعتماد على الولايات المتحدة، ثم على بريطانيا، قبْل أن يصدر قراره الحكيم، استدعاء القوات الأجنبية. تحدث الملك ساعات طويلة، في تلك الأيام الأولى إلى الرئيس بوش والسيدة مارجريت تاتشر". وكان يقين الملك أن الحل العربي، "لا يمكن أن يعول عليه. لكنه لم يشأ أن يخاطر بفقدان العرب والغرب معاً. وهذا يعني أن الهدف من مهمة تشيني في الرياض، يوم 6 أغسطس، كان إضفاء الصبغة الرسمية فقط، على أمر تم الفصل فيه. فالملك قد حزم أمره، فعلاً. والرئيس جورج بوش، قد أصدر أوامره إلى حاملتَي طائرات، بالتوجه إلى المنطقة، قبل السادس من أغسطس. وبينما الفِرقة 82، المحمولة جواً، تستعد للتحرك، كان الملك يستقبل الوفد الأمريكي".
ثامناً: أسباب اتخاذ خادم الحرمين الشريفين لقراره التاريخي
منذ الغزو العراقي للكويت، "كان أول ما انصرف إليه تفكير الملك، هو حل النزاع العراقي ـ الكويتي، من طريق الوساطة. ولكن، بحلول مساء الجمعة، 3 أغسطس، وبعد يومَين من المشاورات والاتصالات مع القادة، العرب والأجانب، تبيَّن للملك فهد، أن لا جدوى من الاستمرار في ذلك النهج. وتأكد الملك، في ذلك اليوم، أن صداماً، ينوي البقاء في الكويت، ولن تفلح أي قوة عربية في إخراجه منها. وأصبح الحديث عن حل عربي، ضرباً من الوهم. فقد ذهب الحل العربي مع الريح، وألقت به في مكان سحيق. وباتت تلك الأساليب الدبلوماسية العربية التقليدية، غير مجدية. وانعدمت كل فرصة للحوار الأخوي، أو لإصلاح ذات البين، أو للتنازلات المتبادلة، أو للعناق والقبلات، التي يتلوها رأب الصدع. حقاً، لقد كان الخطب جللاً.
وارتكز استياء الملك، ورفضه عدوان العراق على الكويت، على عاملَين: إنساني وأخلاقي. فالكويت جارة وشقيقة وعضو، في الوقت نفسه، في مجلس التعاون لدول الخليج العربية. ولم يغب عن فطنته المغزى السياسي الجغرافي (الجيوبوليتيكي) لهذا الاحتلال. فلو ابتلع صدام الكويت، فلا شك أن استقلال المملكة ودول الخليج قاطبة، سيصبح في خطر داهم. فضم الكويت إلى العراق، سيجعل منه، دون شك، قوة تسيطر على دول الخليج، بل على نظام الشرق الأوسط برمّته. وعندما يغدو العراق سيد المنطقة بلا منازع، فسوف يضغط على المملكة العربية السعودية، لترضخ لإرادته".
لقد اكتشف العالم العربي، متأخراً، تصميم صدام حسين على رغبته في ضم الكويت نهائياً إلى العراق. وأصبحت أي دولة من الدول المجاورة للعراق، من الآن فصاعداً، تفتقد الإحساس بالأمان، كسورية والمملكة العربية السعودية.
وكان على رئاسة هيئة الأركان العامة، منذ بدء الغزو، متابعة الموقف العسكري في الكويت، وعلى الحدود، الكويتية ـ السعودية، والعراقية ـ السعودية، إضافة إلى رصد العدائيات المحيطة بالمملكة، والأهداف الحقيقية للقوات العراقية الغازية، وقدرات المملكة الدفاعية لمواجهة التهديد العراقي.
1. الموقف العسكري للقوات العراقية في نهاية يوم 3 أغسطس
لقد توقفت القوات العراقية أمام الحدود، السعودية ـ الكويتية، والسعودية ـ العراقية، وقفة مؤقتة، تعبوية، لالتقاط الأنفاس، ومراجعة موقفها، السياسي والعسكري.
أ. ففي المجال السياسي
توقفت القوات العراقية، ولم تستكمل هجومها على المملكة العربية السعودية، لعدة أسباب، سياسية، تتلخص في الآتي:
(1) معرفة ردود الفعل، المحلية والعربية والإسلامية والدولية.
(2) الترتيبات السياسية اللازمة، لإدارة دفة الأمور في الأراضي المحتلة.
(3) إضافة الشرعية السياسية إلى العملية العسكرية، والتهام اللقمة الأولى، وهي الكويت.
(4) تأكيد أن السعودية، حتى تلك اللحظة، ليست هدفاً لها، مؤكدة أن هناك اتفاقية عدم اعتداء وتدخّل بين الدولتَين، وذلك خشية عدم الحصول على تأييد الدول، العربية والإسلامية، للهدف الابتدائي.
ب. في المجال العسكري
توقفت القوات العراقية، وقفة عملياتية مؤقتة، عند الحدود الكويتية ـ السعودية، ولم تستكمل هجومها على المملكة العربية السعودية، من أجل:
(1) تأمين ما تحقق من أهداف، بابتلاع دولة عربية ابتلاعاً كاملاً.
(2) استعواض الاحتياجات، من كافة الأصناف، وعلى جميع المستويات.
(3) إعادة تمركز عناصر الإسناد القتالي، والإسناد الإداري، بعد امتداد خطوط التموين العراقية، واتساع رقعة الأرض المسيطر عليها، وهي دولة برمّتها.
(4) تكديس الاحتياجات للمراحل التالية.
(5) بناء خطوط الدفاع، على عَجَل، لمنع التعرض للقوات العراقية الموجودة في الأراضي الكويتية.
(6) إعادة تخصيص المهام القتالية.
(7) استكمال الإجراءات العملياتية، للمراحل القتالية التالية.
وإجمالاً فالموقف العسكري، في 3 أغسطس 1990، يتلخص في الآتي:
- سيطرة عراقية كاملة على دولة الكويت.
- حشود عراقية على الحدود الكويتية ـ السعودية، تراوح ما بين 100 ألف و140 ألف مقاتل. تنتظم في ما يراوح بين 7 و9 فِرق، مدرعة وآلية وحرس جمهوري. وتراوح عدتها بين 900 دبابة قتال، وما بين 600 و700 قطعة مدفعية. وبذلك، كانت نسبة الحشود العراقية إلى القوات السعودية المواجهة لها، في الأفراد والأسلحة والمعدات، على الحدود السعودية، 8 : 1، أو أكثر قليلاً. وهي تتزايد، كل يوم، على الحدود الكويتية ـ السعودية، والسعودية ـ العراقية.
وكان الاستنتاج، الذي تم التوصل إليه، في تلك الساعات العصيبة، والأيام المحمومة، التي تلت الغزو العراقي، بعد تقدير الموقفَين، السياسي والعسكري، الآتي (انظر جدول مقارنة بين القوات العراقية وقوات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومصر وسورية):
- نسبة القوات البرية السعودية إلى القوات البرية العراقية، هـي 1 : 15.
- نسبة القوات البرية في جميع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية إلى القوات البرية العراقية، هي 1 :7.
- نسبة القوات البرية ، في حالة إذا قدِم الجيش المصري بأسره لنجدة دول مجلس التعاون الخليجي، إلى القوات البرية العراقية، هي 1: 2.
- نسبة القوات البرية، في حالة إذا كان في قدرة المملكة استقدام الجيش المصري والجيش السوري كاملَين، إلى القوات البرية العراقية، عندها فقط، تصل النسبة 1 : 1.
ولكن لم يكن أمراً واقعياً، أن يفترض أن مصر، أو سورية، أو حتى الدول الخليجية، يمكن أن يرسلوا كل قواتهم البرية إلي المملكة. فالسوريون، على وجه الخصوص، كانوا مرتبطين بوجودهم على الجبهة مع إسرائيل، وفي لبنان. وكان عليهم أن يحتفظوا بقوات لهم في مواجَهة العراق. إضافة إلى هذه الصعاب كلها، كانت المملكة وأشقاءها العرب، تفتقر إلى وسائل نقل إستراتيجية، واسعة النطاق، وسياسة دفاعية متكاملة.
وهل كان في وسع المملكة العربية السعودية، أن تتطلع إلى مساندة من بقية دول العالم الإسلامي؟ فقد كانت باكستان منشغلة بمواجهتها مع الهند، بينما بنجلاديش وماليزيا، لا تمتلكان القوة الكافية، فضلاً عن بعد الشقة بين المملكة وبينهما.
أما الدول الإسلامية الأخرى، فكانت قواتها المسلحة ضعيفة، مقارنة بالقوات العراقية، إضافة إلى طول المسافة وبعدها عن مسرح الحرب، وهو ما يحتاج إلى وسائل نقل إستراتيجية، حديثة وكبيرة، هي غير متاحة.
2. العدائيات المحيطة بالمملكة
كان الجو المحيط بالمملكة مفعماً بالعداء. فإيران في الشرق، يسعدها أن تتعرض المملكة للعدوان. أما اليمن في الجنوب، والأردن في الشمال الغربي، فكلاهما متعاطف مع العراق، ومرتبط به في مجلس التعاون العربي. أما في الشمال الغربي، فهناك إسرائيل، بتاريخها الطويل من العداء للعرب. بينما كان العراق، على حدود المملكة الشمالية، يحشد قواته، التي تزداد أعدادها، كل ساعة.
كل ذلك، دفع المملكة وقائدها، الملك فهد، إلى إعادة حسابات الأمن والدفاع، لمنع كل من تسول له نفسه الاعتداء على الأرض المقدسة، في المملكة. وهكذا، بدأ خادم الحرمَين الشريفَين، يصل في قرارة نفسه إلى وجوب الاستعانة بالأصدقاء، لمشاركة قوات المملكة في الدفاع عنها، أمام كل الطامعين في أرضها وثرواتها ومقدساتها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تاسعاً: الملك فهد يعلن قراره للأمة
قبْل توجه الملك فهد إلى القاهرة، لحضور القمة الطارئة، التي دعا إليها الرئيس حسني مبارك، في 8 أغسطس ـ أعلن، في كلمته إلى الشعب السعودي، في 9 أغسطس 1990، أنه قد تأكد للمملكة سوء نيات المعتدي العراقي، الذي لم يستهدف الكويت الشقيقة، وحدها، من خلال العمل العسكري، الذي عمد إليه، في 2 أغسطس، بل إن حشوده الضخمة، على حدود المملكة، تؤكد بقية مخططه التوسعي، الذي ما كان ليوقفه شيء، لولا تدارك المملكة متطلبات هذه الساعات الحرجة، من حكمة وحزم وقوة، في صناعة القرار. وانطلاقاً من حرص المملكة على الجنوح إلى السلم، وعدم اللجوء إلى القوة في حل الخلافات، أعربت المملكة عن رغبتها في اشتراك قوات عربية شقيقة، وأخرى صديقة؛ إذ بادرت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، كما بادرت القوات البريطانية، ودول أخرى، بحكم علاقات الصداقة، التي تربط بين المملكة وهذه الدول ـ إلى إرسال قوات، جوية وبرية، لمساندة القوات المسلحة السعودية، على أداء واجبها الدفاعي عن الوطن والمواطنين، ضد أي اعتداء. ووضح الملك فهد للشعب السعودي، أن هذه القوات، سيكون وجودها مؤقتاً على أراضي المملكة، وستغادرها فور ما ترغب المملكة في ذلك (اُنظر وثيقة القرار التاريخي لخادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز، الذي أعلنه إلى الشعب السعودي في يوم الخميس، 9 أغسطس 1990).
عاشراً: الأُسس الرئيسية للقرار التاريخي
تجسدت الأُسس الرئيسية للقرار التاريخي لخادم الحرمين الشريفين، في عناصر ثلاثة، هي:
1. أن القوات الأجنبية، لم تأتِ إلى الخليج، إلا بحكم الضرورة، واستجابة لطلب المملكة. وأنها ستغادرها عند انتهاء مهمتها، أو لدى طلب الحكومة السعودية منها ذلك.
2. تأكيد الدور الدفاعي لهذه القوات. وأنها ليست لمهاجمة أحد.
3. التأكيد المستمر لتفضيل الحل السلمي للأزمة، من أجل تجنيب المنطقة الخسائر والدمار، اللذين سينجمان عن الحرب. وفي الوقت عينه، أوضحت المملكة، بجلاء، أن قوام الحل هو الجلاء الكامل للقوات العراقية، وعودة الشرعية الكويتية.
حادي عشر: مواجَهة الحملة العراقية على مجيء القوات الأجنبية
في مواجَهة الحملة العراقية الزاعمة أن الأماكن المقدسة، هي قيد الاحتلال من قوات أجنبية؛ ونداء الجهاد، الذي أصدره الرئيس العراقي (أُنظر وثيقة نداء من الرئيس العراقي صدام حسين إلى جماهير العرب والمسلمين حيثما كانوا يوم الجمعة 10 أغسطس 1990) ـ سعت الحكومة السعودية إلى الاستجابة لطلب الدول الإسلامية في المشاركة، إلى جانب القوات العربية، في الدفاع عن أراضيها، لعزل الرئيس العراقي، وإضعاف موقفه. وقد اشتركت كلٍّ من الباكستان وبنجلاديش، بأعداد من قواتهما. وتعزَّز ذلك بإرسال المجاهدين الأفغان عدداً محدوداً من مقاتليهم، إلى الأراضي السعودية، تعبيراً عن إدانتهم للموقف العراقي، وتأييدهم المملكة العربية السعودية. فضلاً عن ذلك، حصلت الحكومة السعودية على تدعيم إضافي، لمشروعية إجراءاتها، من هيئة كبار رجال الدين في المملكة، ورابطة العالم الإسلامي. كما عقد مؤتمر إسلامي عالمي، في مكة، لهذا الغرض، أعلن تأييده الإجراءات السعودية، وإدانته الغزو العراقي.
وأكدت وزارة الإعلام السعودية، ردّاً على نداء الجهاد، الذي وجّهه الرئيس العراقي، لإنقاذ المقدسات الإسلامية، والحرمَين الشريفَين اللذَين زعم أنهما باتا تحت سيطرة القوات الأجنبية ـ أن القوات، الشقيقة والصديقة، انتشرت على الحدود السعودية، المتاخمة للعراق، في الشمال والشمال الشرقي؛ والمقدسات الإسلامية، والحرمان الشريفان، على مبعدة ألف وخمسمائة كيلومتر تقريباً، تقطعها الطائرة النفاثة في حوالي ساعة ونصف الساعة. وما كانت حكومة خادم الحرمَين الشريفَين، وهي المؤتمَنة على المقدسات، لتسمح بوجود جندي أجنبي واحد في الأراضي المقدسة. وليس هذا شيئاً جديداً، بل هو قديم بدأ مع تأسـيس المملكـة العربية السـعودية، منذ ستين عاماً ونيّف.
كذلك حاولت دعاية النظام العراقي الإيحاء بعدم جواز وجود قوات أجنبية، في المملكة ومنطقة الخليج العربي، من دون أن تجيب عن السؤال، الذي يطرح نفسه، في هذا الصدد: مَن كان سبباً لاستدعاء القوات، الإسلامية والشقيقة، وكذلك القوات الصديقة. وما مهمة هذه القوات ومبرر وجودها؟ إن التاريخ القريب، يشهد أن المملكة، ودول مجلس التعاون الخليجي جميعاً، كانت، دائماً وأبداً، ضد وجود أي قوات أجنبية في المنطقة. ويمكن مراجعة قرارات القِمم الخليجية، وتصريحات مجلس وزراء دفاع دول مجلس التعاون الخليجي، وجميعها ترفض وجود القوات الأجنبية، وترى أن الدفاع عن الخليج، هو مسؤولية خليجية، أولاً وآخراً. حتى عندما كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية في أوج احتدامها، ومع ما تعرضت له الكويت من إجراءات انتقامية، لم تطلب قوات أجنبية. ولهذا، كانت قوات "درع الجزيرة"، التي تتألف من وحدات عسكرية من دول المجلس الست، خطوة عملية، للمناورة والتدريب على الدفاع عن الخليج، تجاه مختلف الاحتمالات.
ولم يخطر بالبال، أن يأتي الخطر من العراق، الذي يُعَدّ شقيقاً وصديقاً مأمون الجانب، وسنداً لدول الخليج العربية الست. وأن يكون العراق نفسه مصدر تدمير واكتساح واجتياح. وأن تبذل الجهود، لوقف هذا الجار عند حدّه، وكبح عدوانه، وإجباره على الانسحاب من الكويت، التي اكتسحها بطريقة غادرة.
ثاني عشر: تأييد رجال الدين الإسلامي للقرار التاريخي للملك
حازت حكومة جلالة الملك فهد تدعيم وتأييد من رجال الدين الإسلامي في المملكة، وتأييدهم مشروعية إجراءاتها، في استدعاء القوات الشقيقة والصديقة، عربية وإسلامية وأجنبية، للدفاع عن المملكة ضد الأطماع العراقية. وأكد رجال الدين، أن قرار الملك فهد، يُعَدّ قراراً تاريخياً، في كل أبعاده وآثاره، قراراً لم يوفر الحماية لشعب المملكة العربية السعودية فقط، إنما ضمن كل أسباب الأمن للأمة العربية بأسْرها، تاريخاً وثقافة وحدوداً ومقدرات. وتوالت بيانات ورسائل وبرقيات التأييد من الهيئات الدينية، والمسؤولين، الرسميين والدينيين.
1. بيان هيئة كبار العلماء
أكد البيان الصادر عن مجلس هيئة كبار العلماء، في المملكة العربية السعودية، ضرورة الدفاع عن الأمة ومقوماتها، بجميع الوسائل الممكنة. وأن الواجب على ولاة أمرها، المبادرة إلى اتخاذ كل وسيلة، تصد الخطر، وتوقف زحف الشر، وتؤمّن للناس سلامة دينهم وأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وتحفظ لهم ما ينعمون به من أمن واستقرار. لذا، فإن المجلس، يؤيد ما اتخذه وليّ الأمر ـ وفقه الله ـ من استقدام قوات قادرة على ردع من أراد العدوان على هذه البلاد. وهو أمر واجب عليه، تمليه الضرورة في الظروف الحاضرة، ويحتمه الواقع المؤلم. وقواعد الشريعة وأدلتها، توجب على وليّ أمر المسلمين، أن يستعين بمن تتوافر فيه القدرة (اُنظروثيقة بيان هيئة كبار العلماء، في المملكة العربية السعودية الصادر يوم الإثنين، 22 محرم 1411 هـ، الموافق 14 أغسطس 1990).
2. بيان الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
أصدر سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، بياناً، استنكر فيه العدوان العراقي على الكويت. وأكد أن الواجب على جميع الدول، الإسلامية وغيرها، والعربية وغيرها، إنكار هذا العدوان. وأما ما حصل من الحكومة السعودية، من استعانتها بجملة من الجيوش، التي حصلت من أناس متعددة، من المسلمين وغيرهم، لصد العدوان، والدفاع عن البلاد ـ فذلك أمر جائز، بل تحتمه الضرورة، كواجب على المملكة؛ لأن الدفاع عن الإسلام والمسلمين، وعن حرمة البلاد وأهلها، هو أمر لازم، بل متحتم. فهي معذورة في ذلك، ومشكورة لمبادرتها إلى هذا الاحتياط، والحرص على حماية البلاد من الشر وأهله، والدفاع عنها ضد عدوان متوقع. لذلك، دعت الضرورة إلى الأخذ بالاحتياط، والاستعانة بالجيوش المتعددة الأجناس، حماية للبلاد وأهلها، وحرصاً على سلامة البلاد وأهلها (اُنظر وثيقة بيان سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد).
3. بيان مجلس القضاء الأعلى
وأكد بيان مجلس القضاء الأعلى، أن وليّ الأمر، عليه أن يعمل كل ما في وسعه، لتجنيب أمته وبلاده الأخطار. وأن يعمل ما يوفر لهما الاستقرار، والأمن على المقدسات والدماء والأعراض والأموال. وأن عليه من مسؤولية ذلك، ما ليس على سواه. وأنه يجب الأخذ بأقرب الأسباب وأنجحها، في ما يراه نافعاً، دافعاً لشر من يتوقع منه الشر (اُنظر وثيقة بيان مجلس القضاء الأعلى، الصادر يوم السبت، 20 محرم 1411 هـ، الموافق 12 أغسطس 1990).
4. رسالة الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي
أرسل الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، بالنيابة، محمد بن عبدالله، رسالة إلى الملك فهد، يستنكر فيها، باسم أئمة الحرمَين الشريفَين وخطبائهما ومدرسيهما ورجال الدين فيهما، وباسمه شخصياً، البيان الصادر عن الرئيس العراقي، صدام حسين، في شأن الحرمَين الشريفَين، وتهجمه على المملكة العربية السعودية. ورفع إلى الملك فهد طلباً بالإعلان لعموم المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، أن الحرمَين الشريفَين، هما ـ ولله الحمد ـ في أيدٍ أمينة، ساهرة على حمايتهما، باذلة كل غالٍ ونفيس في عمارتهما، والمحافظة عليهما؛ كما يشاهد ذلك كل قادم إلى هذه البلاد، من حجاج وعمار وزوار. وأعلن أن ما جاء في بيان صدام حسين، هو كذب وافتراء، لا أساس لهما من الصحة مطلقاً (أُنظر وثيقة رسالة فضيلة الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي ـ بالنيابة).
5. بيان رجال الدين في المدينة المنورة
وجّه رجال الدين، في المدينة المنورة، بياناً إلى كل مسلم ومسلمة، أفراداً وجماعات، ودولاً ومنظمات، ردّاً على ما قاله الرئيس العراقي، تحت عنوان "نداء إلى العرب والمسلمين"، زاعماً أن الأماكن المقدسة للمسلمين، واقعة تحت الاحتلال الأمريكي ـ الصهيوني. وجاء في البيان، نقول لكم، أيها الإخوة في الله، إن ما قاله الرئيس العراقي كذب واضح، وافتراء مكشوف، لا يتفقان مع الواقع، ولا يمتان إلى الصدق بصِلة، أراد بهما الإيهام والتشويش والتضليل، ليغطي عدوانه، وغدره، واعتداءه. ونخبركم، عن علم ويقين، بأن الحرمَين الشريفَين، ليس فيهما قوات أمريكية، ولا غيرها؛ وإنما هما آمنان مطمئنان، مطهران للطائفين في مكة، والعاكفين والركع السجود فيهما. ونؤكد أنهما في أيدٍ أمينة، مؤمنة بالله (اُنظر وثيقة بيان من عُلماء المدينة المنورة).
6. بيان رابطة العالم الإسلامي
أعلنت رابطة العالم الإسلامي، أن الحرمَين الشريفَين الطاهرَين، وكل مدن المملكة، ليست تحت الاحتلال الأمريكي، ولا غيره. وأن الحرمَين الشريفَين مطهران من ذلك، ولم تمسهما إلا جباه المصلين الركع السجود، وتشرف عليهما الأيدي الأمينة، الحريصة على دينها وقِبلتها ومقدساتها (اُنظر وثيقة بيان رابطة العالم الإسلامي).
7. رسائل وبرقيات أخرى إضافة إلى كل ما سبق، تلقي ديوان خادم الحرمَين الشريفَين، وديوان سمو وليّ العهد، ومكتب سمو النائب الثاني ـ عشرات من البرقيات الأخرى، رفعها أمراء مناطق ومدن وقرى، وقضاة ومساعدون قضائيون، وأساتذة جامعات، وأهل فكر ورأي وقلم، ورؤساء قبائل وعشائر، وجاليات عربية وإسلامية. وكلها تتضمن استنكار ادعاءات النظام العراقي، في شأن الحرمَين الشريفَين. وتعلن التأييد للقرار التاريخي، الذي اتخذه الملك فهد، لحماية أراضي المملكة العربية السعودية، باستدعاء القوات، الشقيقة والصديقة، وتجدد الثقة بالمليك المفدى، في ضبط الأمور، والسيطرة على الأزمة، وتوجيهها الوجهة الصحيحة، التي تنتهي إلى ردّ كيد المعتدي الباغي.
ثالث عشر: القِمة العربية، تستجيب طلب المملكة
أكدت القمة العربية الطارئة، التي انعقدت في القاهرة، يوم الجمعة، 10 أغسطس 1990، استجابتها طلب المملكة ودول الخليج العربية الأخرى، بنقل قوات عربية، لمساندة القوات المسلحة فيها، دفاعاً عن أراضيها وسلامتها الإقليمية، ضد أي عدوان خارجي. وندد المؤتمر، في قراره (الرقم 195) الصادر بأغلبية 12 دولة، بالتهديدات العراقية للمملكة ودول الخليج. واستنكر حشد العراق قواته المسلحة، على حدود المملكة العربية السعودية. وأيد كافة الإجراءات، التي تتخذها المملكة للدفاع عن استقلالها، وسيادتها على أراضيها، ودرء خطر العدوان العراقي المتوقع، فضلاً عن تأييده إرسال قوات، مصرية وسورية ومغربية إليها. وانتهت القِمة إلى تأكيد التضامن العربي الكامل مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية الأخرى، وتأييد الإجراءات التي تتخذها، إعمالاً لحق الدفاع الشرعي، وفقاً لأحكام المادة الثانية من معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، بين دول الجامعة العربية؛ والمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة؛ وقرار مجلس الأمن، (الرقم 661)، في 6 أغسطس 1990، على أن تُلغَى هذه الإجراءات، فور الانسحاب الكامل للقوات العراقية من الكويت، وعودة الشرعية إليها.
رابع عشر: القرار التاريخي جاء منسجماً مع التوجه العالمي
كانت دول حلف شمال الأطلسي، قد بدأت، بالتعاون مع عدد آخر من دول العالم، اتخاذ إجراءات فاعلة، لتشكيل قوة متعددة الجنسيات، تفرض حصاراً بحرياً على العراق، بعد أن كان الرئيس الأمريكي، جورج بوش، حذّر العراق من شحن نفطه عبر الخليج العربي.
وكانت الدول، الحليفة والصديقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، قد بدأت، فعلاً، باتخاذ تدابير عسكرية، للتدخل في المنطقة، حفاظاً على مصالحها الإستراتيجية، المتمثلة في إمدادات النفط. وكانت قوات هذه الدول قد وضعت في حالة استعداد، انتظاراً لأوامر قياداتها، بتنفيذ الحصار البحري على العراق، وفقاً لقرارات مجلس الأمن. هكذا كانت الإجراءات، التي اتخذتها المملكة العربية السعودية، متوافقة توافقاً تاماً مع التوجه العالمي كله، في مواجهة العدوان العراقي على الكويت. كما أن بدايات التأييد لهذه الإجراءات، التي كانت قد لاحت في الأفق، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، في الداخل والخارج، هي أسطع دليل على اتفاق روح تلك الإجراءات مع رغبة الشعب المسلم وإرادته، في كل مكان، وفي المملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص.
وتنفيذاً لأوامر الرئيس جورج بوش، بإرسال قوات أمريكية إلى المملكة العربية السعودية، استمر تدفق القوات الأمريكية إليها، طوال يومَي 8 و9 أغسطس 1990. وكذلك القوات البريطانية. وأعلنت دول أوروبية عديدة، استعدادها للمشاركة في القوة الدولية.
وصرح الملك فهد بن عبدالعزيز، إلى رؤساء تحرير الجرائد المصرية، أنه لم يعلن قبول القوات الأجنبية، إلا بعد ملاحظة الحشود العراقية على حدود المملكة. وقال: "إننا لمسنا، أن هناك تحركات عراقية كبيرة جداً، قرب الحدود السعودية. وكما تعلمون، فإن الحدود متلاصقة وإنه من المفروض ألاّ تكون هناك قوات عراقية في هذه المنطقة. فأعلنا استعدادنا لقبول قوات من الدول، الأجنبية أو العربية، التي تريد أن تساندنا، بدون أي التزام من جانبنا ... وأن تنسحب هذه القوات من الخليج، بمجرد الانتهاء من أزمة الكويت، أو عندما نطلب منهم ذلك".
واستطرد الملك فهد: "إن هناك اتفاقاً بيننا وبين القوات الأجنبية، بألا يتم أي هجوم من الأراضي السعودية. ولن نبدأ بأي عدوان، إلا إذا تعرضنا لهجوم علينا. وإنني ملتزم بذلك. ولكن، ليس لي أي سيطرة على أي ضربة أخرى، تأتي من خارج المملكة".
وحول تزامن الانسحاب من الطرفين، قال الملك: "لا بدّ لنا، أولاً، من معرفة هل العراق مستعد للانسحاب. إننا لا نريد أن نعتدي على أحد. ودولتنا لا تعتدي على أحد. وإنني ملتزم بذلك، إلاّ إذا اعتدى علينا". وفي 6 يناير 1991، ألقى خادم الحرمين الشريفين، خطاباً، بعد تفقده قوات التحالف، في منطقة حفر الباطن، في المنطقة الشمالية من مسرح العمليات، شارحاً فيه تطور الأحداث منذ اندلاع الأزمة، وما تلاه من غزو العراق الكويت، وتهديده للمملكة، مما دعاه إلى اتخاذ قراره باستدعاء القوات الشقيقة والصديقة والإسلامية، للدفاع عن المملكة (أُنظروثيقة كلمة خادم الحرمين الشريفين، جلالة الملك فهد بن عبدالعزيز بعد تفقد القوات المتحالفة، في المملكة العربية السعودية، الأحد 6 يناير1991).
خامس عشر: القرار التاريخي في سجل التاريخ
سيسجل التاريخ للملك فهد بن عبدالعزيز، أنه في كل لحظات تلك الأزمة الخانقة، كان واعياً ومدركاً، ليس أبعادها ومتطلبات مواجهتها، والعمل على درء خطرها، وإلغاء آثارها فقط، بل إن اهتمامه تعدى ذلك، إلى التركيز في ضمان الأمن النفسي للمواطن، في كل الدول، الإسلامية والعربية، والفرد السعودي بصفة خاصة. واتضح هذا الاهتمام في كلماته، التي كان يوجهها إلى شعوب العالمَين، العربي والإسلامي، والتي حرص فيها، دائماً، على كشف الزيف والخداع، اللذَين كان يمارسهم، آنئذٍ، بعض النظُم السياسية العربية، مستهدفة استثارة عواطف العرب والمسلمين، تجاه قضية، لها وقعها في نفس كل مسلم، ألا وهي قدسية المشاعر المقدسة، وحرمة الحرمَين الشريفَين، على غير المسلمين.
لقد أرسى الملك فهد دعائم التوجه السعودي، في تلك الفترة. فعلى الرغم من حرج الموقف ودقته، اللذَين تطلبا التصدي، بحزم، لكل عابث بقدرات هذه الأمة وأمنها، فقد أعلن الملك: "إننا لن نكون البادئين أبداً بالعدوان. لكننا، في الوقت نفسه، لن نمكن أحداً، كائناً مَن كان، مِن الاعتداء على شبر واحد من أرضنا الطاهرة، أو يجني ذرة واحدة من رمالها. وسيكون الثمن، الذي يدفعه المعتدي، غالياً، وأغلى مما يتصور بكثير، ولن تكون المملكة أبداً لقمة سائغة".
واتسمت القيادة السعودية، في مواجهة متطلبات تلك المرحلة، وعلى رأسها الملك فهد بن عبدالعزيز، بالتفاعل مع تفاصيل الحياة، في الداخل والخارج، في الوقت عينه، الذي كانت تطورات الأزمة فيه، تتخذ منحًى حاداً، فرض على كل المتعاملين معها معايشتها، بكل ثقلها وآثارها السيئة. لقد عاش الملك فهد بن عبدالعزيز تفاصيل رائعة، لتفاعل الشعب السعودي، على اختلاف فئاته، مع موقف المملكة من هذه الأزمة ومنهاجها الرشيد المحنك، في التعامل مع متغيراتها. ولم تقتصر مظاهر التأييد، التي أبداها أبناء الشعب السعودي، لموقف قيادتهم، على الكلمات وعبارات التأييد، بل تجاوزتها تلك المرحلة إلى المشاركة بالنفس. لقد كانت استجابة أبناء الشعب السعودي نداء قياداته، بالاستعداد والتأهب للدفاع عن بلاده، مثالاً على متانة الأواصر، التي تربط بين الوطن وأبنائه. وعلى الرغم من تجهيز القوات المسلحة واستعدادها، فقد بادر الأطفال والشيوخ، قبْل الشباب والرجال، إلى تقديم أنفسهم إلى مراكز التدريب، رغبة منهم في التأهل العملي لخدمة الوطن.
سيظل قرار الملك فهد استدعاء القوات الأمريكية، والقوات الأخرى، الشقيقة والصديقة، الذي سمي، بحق، قراراً تاريخياً، أحد إنجازاته الخالدة. وهو قرار أملاه المنطق، كذلك. فالملك لديه الشجاعة كل الشجاعة، أن يضع، في لحظة الخطر، أمن الوطن قبل أي اعتبار. فعل ذلك مواجهاً كل المحاذير والشعارات الجوفاء، التي كان يرددها أدعياء القومية العربية، ولم تثنه عن عزمه مقولة القائلين: إن الاستنجاد بالقوات الغربية سوف يشعل المنطقة بأسْرها. فهل تعني القومية العربية أن نرضخ لإرادة المعتدي؟!".