الصوفية والسياسة: مقارنة بين المجتمعات التركية والعربية

من معرفة المصادر

الصوفية والسياسة: مقارنة بين المجتمعات التركية والعربية، فوليا أتاجان Fulya Atacan ** ، مجلة شرق نامه العدد السابع، يناير 2011.


تعد الطريقة باعتبارها التعبير المؤسسى عن الصوفية واحدة من الوسائل التقليدية فى منظومة الإسلام، ونشطت تلك الحركات فى الأوساط الإسلامية منذ نهاية القرن الثانى عشر وبداية القرن الثالث عشر. والطريقة هى الوسيلة العملية لهداية المريدين والأتباع عن طريق الأفكار والمشاعر والأعمال أيضاً، وحسب ذلك المفهوم يمر الفرد بمراحل معينة حتى يصل فى نهاية الأمر إلى الحقيقة. وللدخول إلى الطريقة فإنه من الطبيعى أن يخضع الفرد لسلطة وسيطرة الشيخ (المرشد)، فلدى كل فرد الإمكانية أن يحوّل نفسه أو ينقلها إلى التوحد مع الله ولكن هذه الإمكانية كامنة ولا يمكن إدراكها بدون توجيه من المرشد أو الشيخ . وطورت الصوفية - كشبكة مفككة ذات مراكز متعددة- هياكل تنظيمية ذات سياق متنوع، فعبر التاريخ تبنت وسائل متجددة لتجنيد الأفراد وللإتصال وتفسير المعرفة الخفية. وواقعياً فقد طورت الجماعات الصوفية المتنافسة استراتيجيات مختلفة للبقاء وللاحتفاظ بشبكاتها الدينية وتوسيع نطاقها تحت تأثير تركيبات إجتماعية متغيرة، وفى سياق مختلف لكل حالة. تناقش هذه الدراسة بتوسع العلاقة بين الطرق الصوفية والسياسة، فلو أخذنا السياسة بالمفهوم المؤسسى لابد لنا من تحليل العلاقات بين الفاعلين فيها على المستوى المؤسسى. أما لو قمنا بتعريف السياسة من منظور المنهج التحررى للنساء وما بعد الهياكل التنظيمية، فيكون كل ما هو شخصى هو من أعمال السياسة ولابد إذن من التركيز على السياسة والسلطة على المسنوى الأدنى أو المصغر. وهذه المناهج فى الدراسة تتيح لنا الفرصة لتقييم كيفية تشكيل السلطة فى المجتمع ومدى شرعيتها وطبيعيتها من خلال أنواع مختلفة من الخطاب السياسى. من الممكن دراسة العلاقة بين الطرق الصوفية والسياسة من منظور مقارن بين كل من العالم العربى وتركيا، إلا أن المجتمعات العربية متنوعة فى تركيباتها الإجتماعية وتجاربها السياسة، وعليه فسوف يتم التركيز فى هذه الدراسة على مصر بصفة أساسية حيث أن مصر وتركيا لهما مجال واسع من المعالم المشتركة ولكن يبقى التباين بينهما ملحوظاً. بدأ كل من هذين البلدين مسيرة التحديث فى القرن التاسع عشر ولهما مراكز متماثلة فى الإقتصاد العالمى، أما من المنظور الجغرافى الإستراتيجى فهما يتمتعان بالأهمية الإقليمية فى محيطهما. وتدعمت الدولة القومية فى هذين البلدين فى أوائل القرن العشرين عندما تمت عملية إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة من قبل القوى العظمى المتنافسة فى ذلك الوقت. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية بدأ كل منهما فى مشروع تنموى عملاق، ولكن بطريقتين مختلفتين: فبينما فضلت مصر الإشتراكية الشعبية اتبعت تركيا طريق الرأسمالية الشعبية. وفى نطاق الإقتصاد إنتهجت مصر مع أنور السادات سياسة الإنفتاح الإقتصادى منذ عام 1974، ثم كان أن اتبعت تركيا ذات السياسة ولكن منذ بداية الثمانينات مع تورجوت أوزال. وبينما أخذت تركيا بنظام التعددية الحزبية منذ عام 1950، عرفت مصر التحرر السياسى ولكن فى نطاق سيطرة الدولة وذلك منذ عهد السادات . وفى أعقاب إنشاء جمهوريتها الحديثة وضعت تركيا العلمانية أساساً لنظامها القانونى بما فى ذلك القانون المدنى، بينما أخذت مصر قانوناً مدنياً خاضعاً للشريعة الإسلامية، ومنذ مجىء الرئيس السادات للسلطة ازداد تأثير الشريعة الإسلامية على القانون العام فى مصر، حيث تم تعديل الدستور في نهاية الثمانينات لجعل الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع. سنتعرض فى هذه الدراسة أولاً للتغيرات التى حدثت على الطرق الصوفية، ثم نقوم بالتركيز تالياً على العلاقة بين الطرق الصوفية والسياسة. كانت الطرق الصوفية تدرس دائماً كجزء من الهياكل القروية التى تحدد ملامحها الطبيعة القبلية وهو إفتراض صحيح جزئياً، حيث أنه حتى الستينات والسبعينات كانت غالبية السكان فى الشرق الأوسط لا تزال تعيش فى المناطق الريفية. إلا أن ذلك لا يعنى أن الطرق الصوفية كانت غير نشطة أو ضعيفة فى المدن. أشار العديد من المؤرخين إلى أن الطرق الصوفية كانت منتشرة بكثرة فى المدن وأن عضويتها لم تقتصر على الفلاحين الأميين، وإنما ضمت أيضا سكاناً من المدن حصلوا على قدر جيد من التعليم فليس من الشاذ أن يجد المرء أعضاءا من الطبقة الحاكمة كالوزراء أو العلماء أو العسكريين فى هذه الطرق الصوفية. وركزت معظم الأبحاث التى أجراها علماء الحضارة والإجتماع وعلماء الأجناس على مجتمعات الريف، وكان منهجهم متأثراً بشدة بمفاهيم نظرية التطور. وفى ذلك المنهج تعتبر الطرق الصوفية جزءاً من المنظومة الإجتماعية التقليدية سيندثر بفعل عملية التطور والتحديث. وبالنظر لكونها جزءا من الهياكل الريفية إفترضت النظرية أن الطرق الصوفية، التى تعود الريفيون الأميون على ممارسة طقوسها، سوف تضعف بفعل هياكل الدولة الحديثة والتعليم والتحضر وقد كانت تلك هى الحجة المنتشرة بتنويعات مختلفة طوال فترة السبعينات وبداية الثمانينات.أما فى التسعينات فقد شرع علماء الاجتماع فى دراسة الطرق الصوفية فى المدن الكبرى، حيث شهدت المجتمعات فى تلك المنطقة هجرة من القرى إلى المدن. وقد يتغير معدل التحضر من مجتمع لآخر ومن فترة زمنية إلى أخرى ولكن التغيرات التى تسببها عملية التحضر تبدو واضحة على جميع المجتمعات. بدأت موجات الهجرة من الريف إلى المدن فى تركيا مع نهاية الخمسينات من القرن الماضى، وكان المهاجرون لا يحملون معهم أية خبرات أو أى مستوى تعليمى يؤهلهم للإنضمام إلى حياة المدينة القائمة على العمل. كانت حياة المدينة شيئاً غير مألوف بالنسبة لهم، خصوصاً فى غياب أية آليات أو مؤسسات تعينهم بالخدمات الضرورية مثل التدريب على الأعمال، أو الحصول على مسكن ملائم، أو لحل المشاكل فاتجهوا إلى خلق استراتيجياتهم الذاتية وآلياتهم التى تساعدهم على التأقلم . بالتأكيد لم يغير هؤلاء المهاجرون من قيمهم أو من طرق تفاعلهم مع ما حولهم لمجرد أنهم هاجروا إلى المدن، فقد طور هؤلاء الريفيون السابقون استراتيجيتهم للبقاء من واقع قيمهم التى أتوا بها من الريف، وذلك بإنشاء شبكة من الولاءات فى المدن الكبرى. وكان أن تحولت الطرق الصوفية إلى آلية هامة للضمان الإجتماعى موجهة أساساً إلى هؤلاء المهاجرين، وعملت تلك التجمعات الدينية فى عدة محاور لتلبية إحتياجات المهاجرين. ما أن تصبح التجمعات الصوفية شبكة هامة، بفعل الهجرة على المستوى القومى، يكون عليها التعامل مع التجمعات المثيلة لتطوير سبل معالجة الموقف الجديد. نجحت بعض تلك التجمعات فى تبنى التغير الجغرافى الإجتماعى العام، وهو ما مكنها من أن تحتفظ بمراكزها القوية على المستوى المحلى وأيضا على المستوى القومى. والمثال المؤكد لهذا التحول هو إنشاء الروضة فى مصر. أنشأ الشيخ عبد الجواد الدومى أول روضة فى القاهرة وهى مختلفة عن الصحا فى الصعيد. "خلافا للصحا فى المفهوم الصعيدى فإن الروضة ليست مفتوحة للعوام بل هى مقصورة على الخاصة والمنتظمين". وكانت الروضة نقطة تجمع وملتقا للمهاجرين، فكان أن تكاثر عدد الروضات فى القاهرة وفى المدن الكبرى فى الصعيد خلال السبعينات . وهذه الساحات كانت تحافظ على الصلات المحلية من ناحية، وتشكل نقطة إلتقاء للمهاجرين لحل مشاكلهم وتقوية تضامنهم فى مجتمع المدينة من ناحية أخرى. قد يقول البعض بأن الطرق الصوفية حافظت دائما على هياكلها التنظيمية الخاصة بها منذ تأسيسها فى القرن الثالث عشر، إذا اعتبرناها مؤسسات ثابتة لا تتغير. بل أكثر من ذلك قد يحاجج البعض أن الطرق الصوفية تتشارك فى بعض الأفكار والممارسات بالرغم من التنوع البادى فى طرق تنظيمها، ولكن الهيكل التنظيمى لتلك التجمعات قد تغير أيضاً أثناء تلك العملية. تغيرت بعض عناصر التركيبة للطريقة بطريقة تناسب ظروف الوقت الحالى، بينما اختفى بعض من تلك العناصر نهائيا أو تبنت بعض الطرق عناصر جديدة تماماً. فالطرق الصوفية فى تركيا وفى عديد من المجتمعات غيرها تتميز بكونها منظمات مفككة للغاية، وعديد من الجماعات التى ترى أنها صوفية هى فى الواقع خارج التنظيم الصوفى. ومثال ذلك الطريقة النقشبندية المنتشرة بالعديد من الفروع وكثير من المشايخ فى تركيا اليوم، كذلك يقال أن الطريقة الخلواتية فى مصر ليست منظمة واحدة متحدة ذات تنظيم هرمى؛ بل قسمت نفسها باستمرار إلى قطاعات جديدة وهو بالضبط ما ساعدها على الإنتشار والتوسع فى طول وعرض البلاد جغرافياً واجتماعياً . لاحظ هوفمان انه عندما يتحدث المرء عن شيخه، فإنما يقصد شيخه أو معلمه المباشر لا شيخ الطريقة كلها . وهذا هو سبب وجود عديد من التجمعات النقشبندية أو القديرية أو الخلواتية كفروع، لكل منها شيخها نظامها وسلسلة النسب الخاصة بها (ويقصد بذلك التسلسل الطويل الذى يوصل فى النهاية إلى الرسول). وخلافاً لمصر وكثير من الدول الأخرى قامت تركيا بحظر الطرق الصوفية عام 1925 فى أعقاب الانتفاضة الكردية الاسلامية، أو "ثورة الشيخ سعيد". كذلك كانت الطرق الصوفية محل انتقاد واسع من قبل هيئة العلماء وأعضاء الطبقة الحاكمة خلال عهد الامبراطورية العثمانية فى القرن التاسع عشر . وتركز ذلك الإنتقاد للصوفية والصوفيين على قيامها على الخرافة والدجل وخداع الجماهير لأغراض شخصية، وتمحورت المناقشة على ممارسات تلك الجماعات وطريقة عملها وتفسيرها للإسلام. وبالرغم من أن الجماعات الصوفية احتفظت بدرجات روحية (مقامات وما يشابه الرتب) فى تركيبها الغير معلن ؛ إلا أن الحظر التركى عليها أجبرها على إتخاذ تنظيمات شرعية جديدة. خلال الستينات من القرن الماضى اتخذ بعضها صورة جمعيات للعمل التطوعى، وفى أعقاب الثمانينات أنشأت نوع جديد من الوقف مختلف عن النوع الذى ساد أثناء الفترة العثمانية. وهذه المنظمات الجديدة جاءت برتب ومقامات شبه مهنية لا تتكون بالضرورة من تسلسل الاقدمية لانضمام الأتباع بالمفهوم الروحى. ومن الحقائق المعروفة جيداً أن التفسير الصوفى للإسلام (التصوف) وبعض من ممارسات الصوفية كتوقير الأولياء (الذكر) كانت محلاً لاننقاد هيئة العلماء. وبالرغم من وجود كثير من الكتابات المعارضة والمؤيدة للصوفية، إلا أن الملاحظ أن الإسلام الوهابى يقف منها موقفا عدائيا. وهذه المواقف المؤيدة والمعارضة للصوفية لم تكن فقط ذات طابع دينى بل تعدت ذلك إلى مواقف سياسية متعارضة. رأى السلطان عبد الحميد (1876 – 1909) فى الصوفية ومشايخها وسيلة قيمة لنشر سياساته بشأن الوحدة الإسلامية، وبعد ذلك رأت القوى الإستعمارية الأوروبية فى الصوفية أداة للإحتفاظ بعلاقات طيبة مع المجتمعات الإسلامية. وهكذا تعرضت الطرق الصوفية لكثير من النقد بسبب علاقاتها بالإدارة البريطانية الإستعمارية ، وبعد الإستقلال وتكوين الدول القومية فضلت معظم البلاد العربية أن تضم الطرق الصوفية إلى تركيبتها السياسية الجديدة. لا يعنى ذلك أن الطرق الصوفية لم تكن أبداً فى موقف معارضة من هذه الدول، ومن العسير فى الواقع عمل تعميم لموقف الطرق الصوفية من الدولة، فيمكن للمرء إيجاد أمثلة على الحالتين من معارضة وتأييد. وبعبارة أخرى فالمواقف السياسية للطرق الصوفية كانت تتغير وتتبدل حسب الظروف الإجتماعية والسياسية لكل بلد عبر التاريخ. ومن الممكن إيجاد أمثلة لعدة صور من ضم الطرق الصوفية فى العديد من الدول. فالطرق الصوفية محظورة فى تركيا ولكن العديد منها كون علاقات حماية مع أحزاب مختلفة بما فيها حزب "الشعب الجمهورى"، وتكيفت مع النظام الجديد لتعدد الأحزاب وأصبحت جزءا من النظام السياسى التركى. فحزب "النظام القومى"، وهو أول حزب أنشأه نجم الدين إرباكان وأصدقاؤه كان فى واقع الأمر من تأسيس إحدى الجماعات النقشبندية الخالدية – فرع جوموش حنفى – بتأييد من مجموعة نورشو. واليوم فإن شخصيات هامة جداً بما فيهم رجب الطيب أردوجان فى حزب "العدالة والتنمية" كانوا أعضاء فى جماعة النقشبندية. أما فى مصر فقد حاولت الدولة دائماً أن تتدخل فى عمل الطرق الصوفية منذ العهد العثمانى، وأنشأت الدولة المجلس الأعلى للطرق الصوفية فى عام 1895 والغرض منه مراقبة عمل هذه الطرق فى مصر. وبالرغم من مراجعة القانون عام 1903، إلا أن الهيكل التنظيمى للطرق الصوفية فى مصر اليوم مبنى على القانون رقم 118 الصادر عام 1976. يتكون المجلس الأعلى من 16 عضوا منهم عشرة منتخبين من قبل ال 73 طريقة صوفية المعترف بها، ومدة ولايته ثلاث سنوات. وإلى جانب هؤلاء العشرة هناك ممثل لشيخ الأزهر، وممثل لوزارة الأوقاف وممثل لوزارة الداخلية وممثل لوزارة الثقافة، وممثل للأمن العام فى الحكومة المحلية والمنظمات الشعبية، وكلهم من المعينين. ويتم إنتخاب العشرة مشايخ من الفرق الصوفية المعترف بها بواسطة مجلس الشعب ويعين شيخ المشايخ بواسطة رئيس الجمهورية . والمجلس الأعلى للطرق الصوفية فى مصر مسئول عن الإشراف على الممارسات الصوفية والإعتراف بالطرق الجديدة وإصدار قرارات تحذر من ممارسات أى مجموعات أو أشخاص غير مسجلة وتدعى أنها جزء من الحركة الصوفية. وكذلك يعد المجلس مسؤولاً عن إقرار التعيينات والجزاءات، وإقالة المشايخ ونوابهم، ومنح التصاريح بإقامة الموالد والمناسبات الصوفية والقيام بتمثيل الطرق الصوفية فى المؤتمرات على المستوى القومى، وإنشاء مكاتب حفظ القرآن للمراكز الصوفية والمزارات . وكما يقول هوفمان، فإن الغرض من ذلك القانون هو دعم الفكر الدينى المستنير لدى جماهير الحركة الصوفية وعرض الصوفية للمصريين وللغرب بطريقة لا تضر بسمعة الإسلام ولا تنحرف عن قيمه القائمة على السماحة والصدق . ويحدد القانون رقم 118 هدف الطرق الصوفية بأنه التعليم الدينى والروحى بما يتوافق وقواعد الشريعة الإسلامية وتدعيم ذلك عن طريق الوعظ والإرشاد وتنظيم حلقات الذكر. ولا يسمح لأعضاء الطرق الصوفية بنشر معتقدات أو ممارسة طقوس أو إقامة موالد أو إحتفالات أو حلقات ذكر تخالف أحكام الشريعة . وفى الواقع فإن هناك فى مصر العديد من فروع الطرق الصوفية الغير مسجلة رسمياً، والتى لا يحتاج شيوخها إلى الإعتراف من قبل الدولة لكى يمارسوا سلطاتهم. أما فى الحالة التركية، وكما سبق ذكره، فإنه بما أن الطرق الصوفية غير شرعية فلا توجد جهة يمكنهم تسجيل حركاتهم لديها للحصول على إعتراف بشرعيتهم. ويبدو أن عدم الشرعية لم تمنع نشاط وانتشار تلك الطرق فى المجتمع؛ فطالما يوجد إعتراف شعبى بهذه الطرق فهم مشايخ ويستطيعون تأسيس جماعاتهم الخاصة. وبطبيعة الحال قد يحدث بين بعضهم خلافات أو بينهم وبين السلطات الشرعية، ولكن هذه الخلافات لم توقف ممارساتهم للإسلام على طريقتهم. ومن الحقائق المعروفة أن الإنضمام إلى عضوية إحدى الطرق الصوفية أو البدء فى ذلك لا يعنى أن الشخص سوف يصبح هو نفسه شيخاً من مشايخ المستقبل. وبعبارة أخرى فإن السؤال هو من هو الشخص الذى يمكنه أن يصبح من المشايخ وما هو السبيل إلى ذلك. ثبت تاريخياً، عبر العمر الطويل للطرق الصوفية، أن مقام الشيخ كان دائماً ينتقل بطريقة توريثية أو يتم اختياره عن طريق صفوة أهل الطريقة أو بقيام شيخ كبير بتسمية خليفته مسبقاً. وفى حالة الدولة العثمانية كان يحدث كثيراً أن تثبت السلطة المركزية تعيين مشايخ الطرق. وفى تركيا اليوم لا توجد سلطة تعين أو تثبت تعيين المشايخ، بينما توجد تلك السلطة فى مصر. وتؤدى عملية الإعتراف بشرعية إحدى الطرق أو أحد المشايخ إلى حدوث تنافس على السلطة، وبالتالى تدخل السياسيين. وفى تركيا فإن هذا النوع من التنافس يكون فى معظم الأحيان داخل الطرق الصوفية، وبين الأعضاء، وكل هذه العملية تتم بطريقة غير رسمية. أما فى مصر فهذا التنافس قد يظل داخلياً؛ ولكن الجماعة أو الشيخ لابد لها من الحصول على موافقة المجلس الأعلى ولعل هذا هو الدور التوفيقى للسياسيين من الأحزاب كما فى حالة العزمية عام 1933 . وعلى الرغم من عدم معرفة العدد الحقيقى لأعضاء وأتباع الطرق الصوفية، إلا انه يمكن القول أن عددهم يكفى لجذب الأحزاب السياسية الساعية إلى الدعم الإنتخابى. تستغل الأحزاب السياسية الطرق الصوفية عن طريق حشد الناخبين فى صفها، وفى المقابل تستفيد الطرق من هذه الصلة لمنفعة الجماعة الصوفية. ففى المجتمعات ذات الموارد الشحيحة وحيث يتعاظم دور الدولة فى تخصيص أوجه إنفاق تلك الموارد تصبح شبكة الولاءات سلاحاً مهماً للتكتلات الإجتماعية بغرض الحصول على نصيب لها من تلك الموارد. وفى مصر مثلاً يعد الشيخ محمد محمد أحمد الطيب من السياسيين المرموقين فى قريته التى تقع قرب الأقصر، وهو يحوز نفوذاً على المستوى المحلى بسبب صلته السياسية بالحكومة، وعن طريق ذلك النفوذ فهو يتدخل بفعالية لمصلحة دائرته المحلية. وهو عضو فى الحزب الوطنى الديموقراطى الحاكم، وكثيراً ما يخاطبه مسؤولو الحكومة للعمل على حل مشاكل قريته، وبمساعدة مجلس الأعيان فى قريته فهو يستطيع مواجهة طلباتهم بطلبات إليهم. وزادت هيبته ونفوذه عندما أصبح شقيقه المتعلم الدكتور أحمد مفتيا للجمهورية بقرار من رئيس الجمهورية، ثم رقى بعدها إلى رئيس لجامعة الأزهر ولاحقاً تم تعيينه في منصب شيخ الأزهر . كان خلوصى آتيش (1914 – 1990) فى تركيا شيخاً للنقشبندية فى الجزء الشرقى من الأناضول، ولم يكن مجرد شيخ وإنما زعيماً محلياً على درجة كبيرة من الأهمية. احتفظ آتيش بعلاقات طيبة مع العلمانيين من ممثلى الدولة، أى البيروقراطيين وبذلك أصبح شخصية هامة ليس فقط لمريديه ولكن لكل السكان المحليين على وجه العموم. وفى أعقاب تأسيس نظام التعددية الحزبية عام 1950 تمكن خلوصى أفندى من إنشاء علاقات جديدة مع عديد من الأحزاب السياسية، وعن طريق هذه الشبكة التى شملت عددا من موظفى الحكومة البيروقراطيين وأعضاء الأحزاب دعم خلوصى أفندى مركزه القوى فى مجتمعه . وفى إطار هذه العلاقة فإن الشيخ الذى يسيطر على الموارد البشرية والإقتصادية يستطيع حشد هذه الموارد لمصلحة البيروقراطية الحكومية وبالمقابل يستطيع البيروقراطيون أن يستخدموا تلك الموارد فى حل مشاكل الدائرة المحلية. وهذه الموارد يمكن أيضا إستغلالها للحصول على الدعم السياسى للأحزاب، وبالتالى فإن شبكة الطرق الصوفية هى عامل جذب للأحزاب السياسية. يتمتع الشيخ تقريباً باستقلالية تجاه السياسيين من الأحزاب وكذلك تجاه الموظفين البيروقراطيين؛ وذلك نتيجة للموارد التى تحت يده حيث يستطيع عقد الصفقات ليس فقط مع الأحزاب السياسية ولكن أيضا مع الموظفين البيروقراطيين. وفى حالة وجود خلاف بينه وبين البيروقراطية ففى إمكانه إستغلال علاقاته بالأحزاب لممارسة الضغط عليهم أو حتى لنقلهم، أما فى حالة التعاون فإن الإستفادة تكون متحققة لكل من الطرفين. وطبيعة هذه العلاقة تفسر رغبة الطرفين فى التعاون بدلا من التصادم ، إلا أن سلطة المشايخ يحد من غلوائها مع ذلك عاملان هامان. أولاً من المغالاة فى القول أن ندعى بأن كل مريد – وخصوصا هؤلاء من سكان المدن الذين لهم خلفية إجتماعية وإقتصادية أعلى– سيقوم باتباع نصائح الشيخ وخياراته السياسية والإقتصادية. ثانياً على الرغم من سيطرة الشيخ على قدر لا يستهان به من الموارد، إلا أن التغيرات السياسية فى البلد –على سبيل المثال إنقلاب نظام الحكم– لها تأثير واضح على سلطته. وهذا هو السبب فى محاولة المشايخ باستمرار للحفاظ على قدر من التوازن بين الأحزاب السياسية المختلفة؛ إلا أن الإتصالات السياسية لبعض المريدين قد تؤدى فى بعض الأحيان إلى فقدان المشايخ لقدرتهم على عقد الصفقات السياسية. وجدت دائماً بعض الطرق الصوفية التى كانت، أو لا تزال، معادية للهياكل القائمة أو للحكام، ففى تركيا وجدت بعض من هذه الطرق التى تعادى النظام العلمانى للدولة الحديثة ولكن اليوم تم تكامل معظمهم فى داخل الهيكل الإجتماعى والسياسى للبلاد وفى الغالب تم ذلك عن طريق الأحزاب ذات الإتجاهات اليمينية على الرغم من كون بعض هذه الطرق لا تزال تطالب ببعض من التعديل فى النظام السياسى. وفى أعقاب الإستقلال طبق الكماليون سياسة علمانية متشددة فى تركيا تم من خلالها إلغاء السلطنة والخلافة فى 1 نوفمبر 1922 وفى 3 مارس 1924 على الترتيب . وقتذاك تم إلغاء منصب شيخ الإسلام ووزارة الشئون الدينية ومؤسسة التقوى، وحلت محلهم إدارة الشئون الدينية الملحقة برئاسة الوزراء. وبقانون توحيد التعليم تم إغلاق كل ما كان يسمى بالمدرسة وتم إنشاء التعليم العلمانى. وفى 8 أبريل 1924 تم إيقاف العمل بالشريعة وبعدها تم إدخال القانون المدنى السويسرى بديلا عنها . ولكن ينبغى على المرء أن يذكر أن دستور عام 1924 نص على أن الإسلام هو الدين الرسمى للدولة التركية ( المادة 2) وأن مجلس النواب هو المسئول عن تطبيق القانون الإسلامى (المادة 26). ولابد هنا من ملاحظة أن مصطفى كمال أتاتورك قبل بهذه المواد –التى تتعارض مع المادة 3 التى تنص على السيادة هى للشعب والمادة 4 التى تنص على أن البرلمان هو الممثل الوحيد والحقيقى للشعب– فى حينه، على أن يتم رفع هذه المواد (2 و26) فى الوقت المناسب. والواقع هو أنه فى عام 1928 تم رفع هذه المواد من الدستور ولم تذكر العلمانية فى الدستور إلا فى عام 1937 . أما الإنتفاضة الكردية الإسلامية الكبرى أو تمرد الشيخ سعيد فقد وقعت فى عام 1925، وبينما يرى البعض أن الدافع الرئيسى وراء هذه الثورة كان إلغاء الخلافة والتشدد العلمانى يصر البعض الآخر على أنها كانت إنتفاضة قومية كردية. كان تمرد شيخ الطريقة النقشبندية سعيد مدفوعاً بروح القومية العرقية، ولكن تم إستعمال اللغة الدينية وشبكتها الواسعة فى قيام التمرد وفى حشد الجماهير . وأعطى النظام التعددى الحزبى بعد عام 1950 لهذه الجماعات الصوفية قناة شرعية لتكاملها داخل الهيكل السياسى، وعملت الجماعات الصوفية كجماعات ضغط لتحقيق أهدافها السياسية من خلال تلك القنوات. ولكن ذلك لا يعنى أنها كانت عملية سلسة حيث تولد عنها بعض من التوتر والخلافات. تعرض الحركات الدينية المعارضة فى معظم الكتابات عن هذه الفترة باعتبارها حركات معارضة لعملية التحديث، وهو إتجاه منبنى على إفتراضات نظرية التحديث التى تقول بأن الحركات الإسلامية تمثل التقاليد وتعارض الطرق الحديثة فى التنظيم وتعارض أفكارا مثل العقلانية وخلافه. وقد يكون هذا هو السبب فى أن معظم الأبحاث عن الصوفية التى تم نشرها مؤخراً حاولت إظهار أنها لم تكن بالضرورة ضد التحديث، وعليه فهى ليست جماعات معارضة بالمفهوم البسيط للكلمة. يذهب هوفمان على سبيل المثال إلى أن الصوفية ليست مؤسسة حديثة بمفهوم العقلانية والإستقلالية، اللذان يشكلان أساس الحداثة الليبرالية ولكنهم يعيشون نوعاً من الحداثة البديلة. أما الصوفيون فهم يؤكدون على الجاذبية الكامنة والكمال والسمو التى هى من صفات الشيخ الذى يتسم أيضا بالقرب الروحى من الله، والذى يفضى إلى نوع من الإفتتان السحرى فى هذا العالم. وعلى الرغم من الإقدام البادى على الزهد فى الحياة الدنيا، إلا أن أتباع الصوفية يستطيعون بسهولة أن يندمجوا فى شئون الحياة الدنيا من عمل وسياسة معاصرة . وبالرغم من كون الطرق الصوفية غير مشروعة فى تركيا، إلا أنهم يمثلون جزءاً مهماً من أطياف المجتمع التركى. فهم ليسوا محصنين ضد التطورات الرأسمالية فى تركيا ولهم أتباع من قطاعات مختلفة من المجتمع التركى، حتى أن بعض أعضاء الطرق الصوفية قاموا باستغلال الفرصة السانحة بفعل السياسات التحررية الجديدة التى بدأها تورجوت أوزال وتابعها رجب الطيب اردوجان وإستغلال الشبكة الدينية والإتصالات السياسية للصعود على السلم الإجتماعى، بيد أن ذات السياسات تسببت أيضاً فى هبوط بعض أعضاء الطرق الصوفية على نفس السلم. تشكل الفروق الطبقية مشكلة، بل تحوز قبول كثير من الأعضاء طالما أن إمكانية الصعود إلى أعلى متاحة، بل ينظر إلى تلك الفروق على أنها فرصة مفتوحة للأعضاء، وحتى وقت قريب كانت إمكانية الصعود هى سمة من سمات التقدم أو الإيمان الحق. ولكن يبدو الآن أن هذه الفروق سوف ينظر إليها على أنها مشكلة على الأقل لبعض الحركات الإسلامية. وبما أن إهتمام الطرق الصوفية ينصب على إصلاح الفرد الذى يعتمد على طريقة التنقية الداخلية فقد ينظر إليها على أنها سياسياً أو حتى إجتماعياً غير ذات تأثير. وكما ذكر سابقا فإنه عند بحث شأن السياسة عند الطرق الصوفية على المستوى الأدنى أو المصغر، فإنه يصعب القول بعدم وجود تأثير لها. وفى حالة تركيا -فى غالبية الأحوال- فقد ساندت الطرق الصوفية السياسات اليمينية المحافظة والأحزاب ذات الإتجاهات القومية، وعلى العموم فإن نظرتهم المحافظة جعلت منهم شريكاً يعتمد عليه لهذه الأحزاب ولجهاز الإدارة فى الدولة. أما فى حالة مصر فإن معظم الطرق الصوفية ستوافق على تطبيق الشريعة وإزالة بعض أوجه المجتمع المعاصر التى يرونها مستفزة لهم مثل البارات والملاهى الليلية ودور السينما والملابس الخليعة للنساء . وبعبارة أخرى فإنه بالرغم من إنتقادهم بسبب التساهل والتسامح، فإنه من الممكن إستغلالهم من قبل الأحزاب السياسية أو الجهاز الإدارى فى الدولة كوسيلة لتطبيق سياسات أكثر محافظة. وفى النهاية فإن الخلاصة هى أنه لابد من القول بأن الجماعات أو المنظمات الدينية تعمل من خلال سياق خاص بها يحتوى على ظروف إجتماعية وسياسية وإقتصادية فى لحظة معينة من مسار التاريخ. تتنوع الأدوار التى تلعبها تلك الجماعات المختلفة فى تكوين الهيكل الإجتماعى السياسى لبلد معين وكذلك تتباين مواقفها من الصراع السياسى. وعند هذه النقطة لا تشكل هياكل وأفكار هذه الجماعات فقط عناصر التغيرات فيها، وإنما أيضا تلعب الهياكل السياسية والإجتماعية والقانونية والإرتباطات الدولية لبلد ما دورها فى تلك التغيرات. بعبارة أخرى لابد من دراسة العلاقات بين تلك الجماعات المختلفة (الداخلية منها والخارجية)، فضلاً عن العلاقات بين تلك الجماعات والدولة، فربما تؤدى دراسة تلك العلاقات إلى توضيح الفروق بين تلك الجماعات. الأستاذة بقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة يلديز التقنية- اسطنبول.


مجلة شرق نامه