الربيع موتاً، ممدوح عدوان

من معرفة المصادر

الربيع موتاً، للشاعر السوري ممدوح عدوان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القصيدة

هي ليلة

والريح تهدأ في الربيع

تزقزق الأفراح في قلبي

وتندلع الزهور على مسار دمي

يمر سواد هذا اليتم

ثم تعود أمي في شذا الأزهار

أمي والربيع التوأمانِ

رأيت أمي في المنام

فقلت: خيراً

وانتظرت مجيئها في العرس

ثم رأيتها عنوان مكتة

ورحت أقلب الصفحات عنها

قلت: خيراً ربما جاءت مع الدرس

انتظرت مجيئها إذ يهدأ الاعصار

جاءت والربيعَ جنازتين على الضحى محمولتين

لا بأس أن تتململ الأشجار

فالأوراق تشهد أن في قلبي تراباً

والصبا هو آخر الأنفاس من موتاي

ظِلُّ العجز ممتد من الشريان حتى نبرة المذياع

أو لا بأس أن تتقدم الأعذار

إن الشمس غافية

وصوتي يائس

وأنا المدلى من حبال الصمت

أعرف، دون مكرمة،

لماذا في دمي تتنهد الأزهار

أمي في الربيع جنازة

تنداح بين شقائق النعمان

قطّفت الزهور وجئت للفرح العصي

وفي شكوكي حيطة

فالزهر ينفع في الجنائز

يسهل التغيير من دمع السعادة

نحو شهقات الفجيعة

من تغاضي الخوف، والرجفان بين سنابك الحراس

نحو تنهد الأسرى

ومن صخب الأغاني في اعتزاز النصر

نحو تذمر المهزوم كي يخفي مهانته

أقول إذن:

ترى من كان يعرف أن هذا الموت

يبلغ سحره أن يجمل الموتى به

أن نلتق بجمال موتنا

الذي حجبته عنا زحمة الدنيا

وأحلم مثلما يحلو لضعفي

سوف تبدأ حربنا برصاصة

أطلقتها عمداً على الأفراح والأحزان

خاصمت العواطف كلها

مذ قُدِّمت قسراً

مجهزة بفيض دموعها

بالابتسامات الصفيقة

والزغاريد البغية

سوف أنسى الوشم في وجهي

ووهج الذل في عينيّ

أنسى أنني أتقنت إظهار البراءة

كلما واجهت عيناً

كلما أحسست بالخطو الثقيل دنا

وأطلقت الرصاص على السعادة

إنها موسومة في القلب

كي يتمتع السياح

أو لا يشمت الأعداء

علّ الضيق يخدع

هذه الأرض العجيبة أغلقت أوجارها

في أوجه الخلعاء

ما عادت تقدم غير مقبرة لمن خُلِعوا

ومنتجع لكيد الوالغين بعمرنا

هل كان نومي في ظلام الكهف أطول من نعاسي؟

مَرّ حولي الدهر دون تحية

فأفقت ضيقاً بالرقاد

وكنتُ لم آنس ولو قبساً على مرمى بلادي

لم أواجه لسعة للجمر إلا في فؤادي

كيف أترعت الحنايا بالرماد

أرى بلاداً غير ما أنشدت من جوق الطفولة

غير ما خبأت من أجل الكهولة

تلك دنيا غير دنيا

غير ما شاهدت في الأحلام

أو ما كنت أقرأ في الصحائف

تلك دنيا ازّينت بتهدم أو بانهيار

إنه رمل يباهي بالجفاف

وأوجه تزهو بَمسخٍ

بغتة أرضي تضيق بما عليها من تراب

والرياح بما لديها من هواء

والنجوم بضوئها

وأنا أضيق بكل صوت في السكون

أشك بالصمت المشوب بأعين

راحت تحاصرني بعاصفة الظنون

ولم يدم لي مثل ما خلفت

غير مجيء أمي والربيع جنازتين

لعل هذا الضيق يخدع،

كيف جفّفني الشتاء؟

وكيف قدّدني الشقاء

وصرت أعجز أن أكيل الحقد

أن أرجو الحنانْ

لم يُبق لي هذا التقهقر غير أمنية ملفقة

سمعت ذبائح الأوطان تشكر نصل سكين

رأيت جلودها تحشى مواشيَ من جديد

كي تبارك ذابحيها الطيبين

عرفتُ أني إن صرخت،

فكل عضوٍ فيّ يأتي شاهداً ضدي

وأني إن هربتُ،

وخفَّ خلفي الطاردون

فكل عضو فيَّ يدعوهم لكشفي

إن وقعتُ

وسار بي الفتَّاكُ نحو النطع

تخذلني دمائي

ثم تشكر للخناجر فضلها

وعرفت أني كنت سكيناً،

ومذبوحاً

وساقية الدماء

وعريت من خجلي أمام ذبائحي

سأعيِّر الجثث الطريحة بالذباب على مناحرها

وبالدم حين ييبس تحتها

ولربما أعلنت أن تفسخ القتلى

دليل النتن في دمهم

عرفت بأنني أحيا بلا عمري

ظروفي الآن تسمح لي بطلقة غادر

أو طعنة في الظهر

تعزية بموتي بعدها

برقيتين تعددان مناقبي

تستنكران الغدر بي

وعلى ضريحي زهرة

وخطاب تعزية

...ونسياني

(الظروف تبيح دعوتا لبذل دمي

وحين يفور من فوق الموائد والمكائد

أو يطلُّ من الأضابير العتيقة

أو من الذكرى

الظروف تؤجل الموضوع

من أجل التداول في أمور بحثها أجدى)

فآه يا دمي

ألأنني أرخصت بَذْلَكَ أرخصوك؟

لأنني أهملت تضميد الجراح

توهموا أني رخيص العمر

حين بزغتُ في الأشجار

لم يقبل عليّ سوى الخريف

يفكّك الأوراق

يمسح عن جذوري الماء

يقتاد التراب إلى الصخور

... وحين أملت بالمستقبل المطري

لم يقبل عليّ سوى الفجر المدجج بالصقيعْ

وعلى ترامي الأفق

تحتشد الزهور لدى ربيع زائف

كشف الصبا عن سترة الموتى

وجاء محملاً بروائح الجثث العتيقة

جاء يجمعنا بها

وتقدم الحشد المضيء إلى القبور

جنازتان لديه:

أمي والربيع.


المصادر