الدولة السعودية الأولى

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقدمة

لقد كان ظهور أسرة آل سعود، على مسرح الحياة السياسية في نجد، في أواسط القرن الثاني عشر الهجري ـ عاملاً مهماً في بروز هذه المنطقة، لتشارك في صنع التاريخ من حولها. فإن منطقة الجزيرة العربية، وبخاصة وسطها، واجهت إهمالاً، لا مثيل له، من قبل الدول الحاكمة، منذ العصر العباسي. ومرت مراحل التاريخ، من دون أن تلحق هذه البقعة أي آثار للحضارة والعمران والتعليم.

وتوافق ظهور أسرة آل سعود، مع قيام الدعوة الإصلاحية السلفية، التي نادى بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وكانت هذه الدعوة، في الأساس، رد فعل قوياً على الإهمال، العلمي والديني والحضاري، لهذه المنطقة، التي حُرمت كل ما تمتعت به الحواضر الإسلامية الأخرى.

واجتمعت الدعوة الدينية المجددة، والقوة السياسية الناشئة، لتكونا دولة قوية، استمرت خمسة وسبعين عاماً، شغلت فيها الدولة العثمانية الحاكمة، واستنزفت قواها.

ويمكن القول، إن تاريخ شبه الجزيرة العربية الحديث، يبدأ بظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في نجد، وقيام الدولة السعودية الأولى.

سترتكز مادة هذا البحث ارتكازاً رئيسياً على أربعة كتب. هي:

1. تاريخ المملكة العربية السعودية، الجزء الأول، د.عبدالله الصالح العثيمين، الطبعة الثامنة الرياض، 1418هـ/1997م.

2. الدولة السعودية الأولى، الجزء الأول، د. عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم، الطبعة السادسة، القاهرة، دار الكتاب الجامعي، 1418هـ/1997م.

3. محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، د. عبدالفتاح حسن أبو علية، الطبعة الثانية، الرياض، 1411هـ/1991م.

4. تاريخ المملكة العربية السعودية، ماضيها وحاضرها، صلاح الدين المختار، الجزء الأول، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1376هـ/1957م.

وسيعول في موضوعات كثيرة من المادة، على المصدرَين الأساسَّيين لهذه الفترة. وهما:

1. عنوان المجد في تاريخ نجد، عثمان بن عبدالله بن بشر النجدي، حققه وعلق عليه عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ، الجزء الأول، الطبعة الرابعة، مطبوعات دارة الملك عبدالعزيز،الرياض، 1402هـ/1982م.

2. تاريخ نجد، المسمى روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام، حسين بن غنام، حرره وحققه د. ناصر الدين الأسد، قابله على أصله الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الجزء الأول، الطبعة الثاثلة، الرياض، 1403هـ.


المدخل: شبه الجزيرة العربية وأحوالها، في منتصف القرن الثاني عشر الهجري

شبه الجزيرة العربية وأحوالها، في منتصف القرن الثاني عشر الهجري

لمحة، جغرافية وتاريخية

تتكون شبه الجزيرة العربية من عدة أقاليم متميزة، جغرافياً ومناخياً. أهمها: الحجاز، وعسير وتهامة، واليمن، وحضرموت، وعُمان، والأحساء، والبحرين، ونجد.

وتشغل المملكة العربية السعودية، اليوم، معظم شبه الجزيرة العربية. ويشترك معها في حدود سياسية، كل من الجمهورية اليمنية، وسلطنة عُمان، ودولة الإمارات العربية، وقطر، والبحرين، والكويت.

وأهل شبه الجزيرة العربية ينقسمون إلى: حضر، يسكنون المدن والقرى. وبدو، ينزلون في الصحراء، حيث تتوافر موارد للماء. ولكل من القسمين أنماط معيشة وعادات مختلفة، وإن جمعت بينهما الصفات العربية الكريمة. 1. إقليم الحجاز

يمتد إقليم الحجاز من العقبة شمالاً، إلى تهامة عسير جنوباً، شرق البحر الأحمر. وتقطن فيه قبائل عربية كثيرة، منها: حرب، وجهينة، وبلي، والحويطات، وبني عطية، وبني سُليم، وهذيل، وثقيف، والأشراف من قريش، والبقوم، وبعض عتيبة، وغيرهم.

وتتبع هذا الإقليم مدن وقرى كثيرة، منها مكة، وجدة، والمدينة، والطائف، والقنفذة، والليث، ورابغ، وينبع، والوجه، والمويلح، وضبا، ورنية، وتربة، وغيرها.

وفي أواخر العصر المملوكي، في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، كان الحكم الفعلي، في إقليم الحجاز، للأشراف في مكة المكرمة. ولما فتح السلطان سليم الأول مصر، عام 923هـ/1517م، أوفد شريف مكة، آنذاك، بركات الثاني، ابنه، أبا نُمي، إلى مصر، حيث قابل السلطان، وقدم له مفاتيح الكعبة، إعلاناً لولائه، ودخول الحجاز تحت الحكم العثماني.

واهتمت الدولة العثمانية بالحجاز، لأنه مصدر لسيادتها الدينية في العالم الإسلامي، بصفتها حامية للحرمَين الشريفَين. وأولته جل عنايتها، بتعيين الولاة العثمانيين، الذين تولوا أمور الحماية العسكرية، وجمع الضرائب، وتأمين طرق قوافل الحج. وكان لشريف مكة مسؤولية تسيير أمور الحج، في الأماكن المقدسة، وتأمين طرق الحجيج. وكان هناك قائمقام عثماني، مقره جدة. أمّا والي الحجاز العثماني، فمقره في مكة، شتاء، وفي الطائف، صيفاً. ويوجد محافظ عثماني للمدينة المنورة. وكان نفوذ أشراف الحجاز ممتداً من معان، على أطراف الشام شمالاً، إلى القنفذة، على ساحل البحر الأحمر جنوباً. وكان يمتد إلى الشرق، فيشمل بعض نواحي إقليم نجد.

وكان النزاع لا ينتهي، بين أشراف مكة، في المناصب والموارد المالية. وكثيراً ما تدخل فيه الولاة العثمانيون في مصلحة أحد الطرفين، مما اضطربت معه أحوال الإقليم، وعانى الحجاج والأهالي كثيراً من المحن، بسبب هذا الصراع المرير.

وكان الحج مورداً من موارد الرزق، لكثير من أهالي مكة المكرمة والمدينة المنورة، الذين عملوا في خدمة الحجيج، وتبادل التجارة معهم.

وكان سكان الحجاز من البادية، يتعرضون لقوافل الحجيج، وينهبون المحامل، ويسفكون دماء الحجاج الآمنين. وكانت القبائل تفرض الإتاوات على القوافل، لكي تمر بسلام عبر منازلها. وإذا لم يُدفع لها، فإن مصير القافلة القتل والنهب والتشتت.

ولم تشعر هذه القبائل بقوة سلطة الدولة العثمانية. ولم تردعها الحملات التأديبية، التي كان يقوم بها شريف مكة، بين حين وآخر.

وكان لوجود الحرمَين الشريفَين أثر في الحياة العلمية في الحجاز. فقد كان يفد بعض العلماء، من مختلف بقاع العالم الإسلامي، للمجاورة في مكة المكرمة والمدينة المنورة. ويقومون بالتدريس والتأليف. وانتشرت المدارس والمكتبات، التي أنشأتها الدولة العثمانية، أو الموسرون من أهالي الحجاز. وأسست الأوقاف، للإنفاق عليها، فازدهر النشاط العلمي.

وكان الحجاز، مثل بقية بقاع العالم الإسلامي، في العهد العثماني، تنتشر فيه الطرق الصوفية. ويعمل أتباعها على نشر معتقداتهم، من خلال الزوايا والتكايا والمدارس. فنتج منه كثير من أمور البدع والخرافات، التي تعد خروجاً عن أوامر الشريعة الإسلامية، مثل التوسل بالأولياء والموتى والنذور، وإقامة الموالد.

وكان الجهل بالدين سمة أهل البادية، في الحجاز وغيره من مناطق شبه الجزيرة العربية. فقد ترك الناس إقامة العبادات، ومارسوا من الأعمال ما ينافي الدين. ولم تكن هناك مساجد في البادية، يجتمع فيها الناس للصلاة ولتلقي الوعظ والإرشاد. فابتعد الناس عن الدين، وانحطت الأخلاق، وفشا فيهم الجهل. 2. إقليم عسير والمخلاف السليماني ونجران

يضم هذا الإقليم منطقة عسير (السراوات وتهامة) وجازان ونجران.

أطلق على منطقة جازان اسم المخلاف السليماني؛ والمخلاف يعني المنطقة، والسليماني نسبة إلى سليمان بن طرف الحكمي، الذي وحد تلك المنطقة تحت إمرته، عام 373هـ/983م.

وأهم مدن عسير: أبها وخميس مشيط والباحة وأحد رفيدة.

وأهم مدن المخلاف السليماني: جيزان (جازان) وصبيا وأبو عريش.

وأهم مدن نجران، هي نجران.

وأهم القبائل في هذا الإقليم الجنوبي: قحطان، وشهران، وشمران، وغامد، وزهران، وبنو شهر، ويام وغيرها. ويعمل أهالي عسير في الزراعة والرعي. وأهل السواحل يعملون في الصيد.

وكان نفوذ أشراف مكة المكرمة، ممتداً إلى القنفذة، على البحر الأحمر. وكان الزعماء المحليون، من شيوخ القبائل، هم أصحاب الكلمة في هذا الإقليم. وكانت السلطة العثمانية، ممثلة في متصرفية عسير، غير متمكنة من السيطرة الكاملة عليه، بل امتلأ تاريخ تلك الفترة بالثورات وأعمال العصيان، التي استنزفت القوة العسكرية العثمانية في شبه جزيرة العرب.

وعلى الرغم من حياة الاستقرار، التي غلبت على أهل عسير، فإن الحياة العلمية، لم تكن مزدهرة ازدهارها في الحجاز. ولم تتهيأ الظروف لظهور علماء بارزين في المنطقة. وكانت الحياة الدينية مرتبطة بالواقع العلمي للإقليم.

وكانت إمارات متعددة، في المخلاف السليماني، تتولى قيادتها زعامات من الأشراف، الذين يدينون بالولاء لحكام صنعاء. وظل الوضع السياسي للمخلاف على هذا الحال، حتى نجح الشريف أحمد بن محمد بن خيرات، في كسب ولاء الزعماء المحليين، ثم استطاع ابنه، محمد، توحيد البلاد تحت قيادته.

ويعتمد سكان المخلاف السليماني، في حياتهم، على الثروة، السمكية والحيوانية، والزراعة. كما كانت التجارة ناشطة، عبر موانئ جازان، مع البلاد المجاورة.

وكان أغلب سكان الإقليم، يعتنقون المذهب الزيدي، المنتشر في اليمن. وبعض منهم على المذهب السُّني، خاصة الشافعي. ولم يكن هذا الإقليم ليسلم مما انتشر في بقية البلاد، من الطرق الصوفية، وشيوع البدع والخرافات.

وفي منطقة نجران، كان السكان من قبائل يام، ومنهم المكارمة، الذين يعتنقون المذهب الإسماعيلي الشيعي. واشتهرت قبائل يام بالنشاط العسكري، الذي كان مصدراً لدخلها. فحاربت في صفوف زعماء المخلاف السليماني، ومع خصوم الدولة السعودية. ولم تكن الحياة الدينية عندهم مختلفة عن بقية القبائل الأخرى. 3. إقليم الأحساء

ويشمل الأحساء وميناء القطيف، وبلدان الهفوف والمبرز وعنك وسيهات والجشة، وغيرها. وتسكنه قبائل العجمان، والهواجر،ومطير والدواسر، وبني خالد، وبعض بني مرة.

ويعتمد سكان الأحساء والقطيف على الزراعة. فالمنطقة عبارة عن واحات، تشتهر بغزارة المياه، التي تنبع من عيون الأحساء، فتكثر فيهما بساتين النخيل، ومزارع الأرز. ويعمل السكان، أيضاً، في صيد الأسماك، والغوص بحثاً عن اللؤلؤ. وكانت موانئها تستفيد من التجارة الداخلية، مع منطقة نجد. ولهذا، تهيأت الظروف لهذا الإقليم، لأن يفرض سلطته على منطقة نجد، في بعض الفترات.

وكان إقليم الأحساء تحت حكم أسرة زامل الجبري، من بني عامر، منذ عام 820هـ/1416م. وتطلع العثمانيون إلى السيطرة على هذا الإقليم، لدفع أخطار البرتغاليين، عن الأماكن المقدسة. فاستولوا عليه، عام 957هـ/1548م . وفي ذلك الوقت، كانت قبيلة بني خالد، تزداد قوة، في منطقة الأحساء والخليج العربي. واضطرت الدولة العثمانية إلى استرضاء زعمائها، بالمال أو بالمناصب والرتب. ولكن زعيم بني خالد، برَّاك بن غُرير آل حُميد، تمكن من الاستيلاء على الأمور في الأحساء، بين سنتَي 1074هـ/1663م و 1076هـ/1665م . فقضى على سلطة العثمانيين على الأحساء، حتى دخلت تحت حكم الدولة السعودية الأولى، في أوائل القرن الثالث عشر الهجري.

وينتشر المذهب الشيعي في المنطقة إلى جانب المذهب السُّني. وحققت الحياة، العلمية والدينية، تقدماً ملحوظاً. فظهر، في الأحساء علماء، من السُّنة والشيعة، اشتهروا بنشاطهم، العلمي والديني. ووفد إليها طلاب العلم من المناطق الأخرى، بمن فيهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الذي عرج على الأحساء، في طريق عودته من البصرة، فأخذ العلم عن بعض علمائها.

أما القبائل في البادية، فلم تكن تختلف عن غيرها، من انتشار الجهل فيها، والبعد عن الدين، وامتهان قطع طرق الحجاج، القادمين من البصرة وإيران، والفتك بهم ونهبهم. 4. إقليم نجد

نجد تعني الأرض المرتفعة. وهي وسط شبه الجزيرة العربية. وتنقسم إلى عدة أقاليم، أهمها وادي الدواسر، والفُرَع ـ حوطة بني تميم، والحريق ـ والأفلاج، والخرج (أو الأسياح)، والعارض، والمحمل، وسدير، والوشم، والقصيم، وجبل شمر. (انظر الخرائط المرفقة مع البحث)

ويمتهن أغلب أهلها الزراعة في الواحات، حيث توجد المياه الجوفية، خاصة زراعة النخيل، التي تحتل المرتبة الأولى، ويمارس بعضهم التجارة. وتخرج قوافلهم إلى بلاد الشام والعراق ومصر والبحرين، بل إلى الهند. وأما البدو، فعماد حياتهم الإبل والأغنام.

وأهم القبائل: تميم، والدواسر، وشمر، وعنزة، وعتيبة، ومطير، وسبيع، والفضول، والظفير، وقحطان، والسهول، وبعض حرب، وغيرها.

وقبيل قيام الدولة السعودية الأولى، كانت نجد مقسمة بين زعامات محلية متنازعة. وكانت الحروب الداخلية قائمة بين بلدان نجد، بسبب السيطرة والنفوذ، والصراع حاداً بين القبائل، بسبب المخاصمات القبلية، والثأر، والنزاع في موارد الماء والكلأ.

ولما استولى العثمانيون على الأحساء، رُبطت بها نجد. وأسس فيها سنجق(وحدة إدارية)، كان مرتبطاً بولاية البصرة. وفي السنوات الأخيرة من العهد العثماني، تحولت نجد إلى ولاية، تشمل الأحساء.

وقد تعرضت نجد لغزوات، من الأشراف في الحجاز، في الغرب، ومن قبل زعماء بني خالد، حكام الأحساء، في الشرق. وذلك إما لتأديب بعض القبائل، التي كانت تعترض طريق قوافل الحجاج، أو لفرض النفوذ أو الإتاوات والحصول على غنائم.

فقد غزا الأشراف نجداً، بقيادة الشريف حسن بن أبي نمي، عام 986هـ/ 1578م. وهاجموا بلدة معكال، التي أصبحت جزءاً من مدينة الرياض الحالية. واستمرت غزوات أشراف الحجاز الأراضي النجدية، على فترات متباعدة زمانياً، خلال القرن الحادي عشر الهجري، حتى ضعفت قوتهم في الحجاز.

وأما بنو خالد، فقد فرضوا نفوذهم على نجد، من مركزهم في الأحساء. وغزا زعيمهم، برّاك بن غرير، أراضي نجد، أول مرة، في عام 1081هـ/1671م. واستمرت الحملات عليها لفترة من الوقت، أدت إلى تقوية نفوذ بني خالد في نجد.

ولم يكن للدولة العثمانية وجود قوي في نجد. ومن ثمّ، لم تكن لها سيطرة على قلب الجزيرة العربية، خاصة بعد أن تركت الأحساء، أمام ثورات بني خالد.

ومنطقة العارض من نجد، حيث ظهرت الدولة السعودية، تضم بلدات الدرعية، والعيينة، وحريملاء والجبيلة، وعرقة، ومنفوحة، وحاير سبيع. ويربطها وادي حنيفة. وتأسست فيها إمارات محلية، أهمها:

أ. إمارة العيينة: شمال غرب مدينة الرياض الحالية. وكانت أقوى إمارات نجد. وأمراؤها من آل معمر، وأشهرهم عبدالله بن معمر، الذي حكمها أكثر من أربعين سنة (1096هـ ـ 1138هـ/1684م ـ 1725م). وقال ابن بشر، في تاريخه، "عنوان المجد": "إنه لم يذكر مثله في زمانه، ولا قبل زمنه، في نجد، في الرئاسة وقوة الملك والعدد والعدة والعقارات والأثاث". وكانت خاضعة، في عهد عثمان بن معمر، لنفوذ زعماء بني خالد، في الأحساء.

ب. إمارة الدرعية: قاعدة آل سعود.

ج. إمارة منفوحة: وأميرها علي بن مزروع.

د. إمارة الرياض: في وسط العارض. تحيط بها بساتين النخيل. وتطل على وادي حنيفة. وكان أميرها دهام بن دواس .

هـ. إمارة الخَرْج: في الجنوب الشرقي من العارض، ويطلق عليها أيضاً السيح، وهي أغنى مناطق نجد بالمياه، وأرضها خصبة، فهي منطقة زراعية. وقاعدتها الدِلَم، وكان يتولاها الأمير زيد بن زامل الديلمي.

ولا بدّ من الإشارة إلى الحياة، العلمية والدينية، في نجد، على وجه الخصوص؛ إذ إنها هيأت الأسباب، ومهدت لظهور الدعوة الإصلاحية، للشيخ محمد بن عبدالوهاب، في القرن الثاني عشر الهجري.

لم يكن التعليم منتشراً في مناطق نجد، خاصة بين أهل البادية. وكان مقتصراً، في المدن، على حفظ القرآن الكريم، ومبادىء القراءة والكتابة، وشيء من الفقه الحنبلي.

وعلى الرغم من وجود عدد من العلماء في نجد، الذين تفقهوا في أمور الدين، وتولوا مناصب القضاء، وقاموا بالتدريس، إلا أن عددهم، لم يكن كافياً لإحداث نهضة علمية مؤثرة.

وكان المذهب الحنبلي، قد وجد طريقه إلى نجد، منذ القرن التاسع الهجري. وازداد رسوخه، بعد نشاط دعاة الدعوة الإصلاحية، في القرن الثاني عشر الهجري.

ولكن الجهل، كان سائداً في البادية والحاضرة، بصفة عامة، نظراً إلى عدم وجود دولة، ترعى العلم. فالدولة العثمانية، لم تكن تعنيها منطقة نجد، من قريب أو من بعيد، بل ركزت أعمالها في الحجاز. ولم تكن الحالة المادية للسكان، تسمح لهم بإنشاء دُور العلم، أو تأسيس الأوقاف، للإنفاق على طلاب العلم.

وكان الجهل المقيت بأمور الدين، هو الطامة الكبرى؛ إذ أسقط العامة فروض العبادة، وتركوا أركان الدين، من صلاة وزكاة وصوم، وانتشرت البدع والخرافات، والتوسل بالقبور والأضرحة، وطلب الشفاعة والمدد من الموتى، والتبرك بالأشجار والأحجار، والاستعانة بها على دفع الضر وجلب النفع. وكل ذلك مما يخالف العقيدة الإسلامية السمحة، التي لم تجعل بين العبد وربه واسطة، بل وأمر القرآن الكريم بطلب العون والمدد من الله وحده، وإفراده بالعبادة والدعاء.

وفي وصف هذه الحالة، يقول المؤرخ النجدي، حسين بن غنام: "كان أكثر المسلمين، في مطلع القرن الثاني الهجري، قد ارتكسوا في الشرك، وارتدّوا إلى الجاهلية. وانطفأ في نفوسهم نور الهدى، لغلبة الجهل عليهم، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال. فنبذوا كتاب الله ـ تعالى ـ وراء ظهورهم. واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم، من الضلالة؛ وقد ظنوا أن آباءهم أدرى بالحق، وأعلم بالصواب". ثم يقول: "وعكف أكثر الناس على دعوة الأولياء والصالحين، أمواتهم وأحيائهم، وفُتنوا بالاعتقاد بقدرتهم على تقديم النفع، وصرف السوء، من دون الله ... ولقد انتشر هذا الضلال، حتى عم ديار المسلمين كافة. فقد كان في بلدان نجد، من ذلك، أمر عظيم وهول مقيم. كان الناس يقصدون قبر زيد بن الخطاب، في الجبيلة، يدعونه لتفريج الكرب، وكشف النوب وقضاء الحاجات. وكانوا يزعمون أن في قريوة، في الدرعية، قبور بعض الصحابة. فعكفوا على عبادتها، وصار أهلها أعظم، في صدورهم، من الله، خوفاً ورهبة ...".

ولذلك، برزت الحاجة إلى حركة دينية إصلاحية، واعية. توضح للناس ما تركوه من أمور دينهم وأحكامه، وتُعِيدهم إلى جادة الدين الصحيح، وتأمرهم بالصلاة والزكاة والصوم، وبكل معروف، وتنهاهم عن كل منكر، وتقضي على كل أعمال الشرك والبدع.

وسهل من نجاح هذه الدعوة، في نجد، خلوها من الطرق الصوفية وبدعها، وعدم وجود أي مذهب آخر غير السُّنة ولهذا، لم تجد مقاومة من أي نحلة دينية أخرى.

أما بالنسبة إلى الوضع الأمني، في شبه الجزيرة العربية عامة، فلا توجد فيها منطقة، تمتعت بوضع أمني أفضل من غيرها. فقد كانت شبه الجزيرة العربية، في غياب السلطة العثمانية، في حاجة إلى حركة سياسية قوية، توحد الإمارات المتنازعة، وتجمع شتات القبائل المتناحرة، وتنشر الأمن والاستقرار، اللذَين افتقدتهما هذه البقعة، قروناً طويلة.

فكانت القبائل البدوية تغِير على قوافل الحجاج، فتسلبهم أموالهم ومؤنهم، وتقتل من تشاء منهم. وتفرض إتاوات (أو الخاوة) على رؤساء تلك القوافل. وكانت الدولة العثمانية، تفرض لها، مع رؤساء المحمَلين، المصري والشامي، نصيباً من المال، نظير مرور الحجاج، سالمين، عبر ديار تلك القبائل. 5. العلاقة بين نجد والحجاز قبل الدولة السعودية الأولى

كانت نجد عرضة لغزوات أشراف الحجاز. فقد غزوها، عام 986هـ/ 1578م، بقيادة الشريف حسن بن أبي نمي، صاحب مكة، وهاجموا بلدة معكال، ومعه خمسون ألفاً من الجنود. وقتل في هذه الغزوة رجالاً ونهب أموالاً وأخذ أسرى من أهلها. كما سار الشريف حسن نفسه، بعد ثلاثة أعوام (989هـ) إلى نجد، وفتح بلدان البديع والخرج، والسلمية، واليمامة. واستولى على حصونها، وعين لها رؤساء من قبله. ثم تقابل مع جيش من بني خالد. وانهزم الخالديون. وغنم منهم الشريف غنائم كثيرة.

واستمر أشراف الحجاز يغزون الأراضي النجدية، على فترات متباعدة، خلال القرن الحادي عشر الهجري، حتى ضعفت قوة الأشراف في الحجاز.

ففي عام 1011هـ/ 1602م، غزا الشريف أبو طالب بن حسن بن أبي نمي، مناطق نجد. كذلك، غزا الشريف محسن بن حسين بن حسن، منطقة القصيب، وقتل أهلها، في عام 1015هـ/ 1606م. كما غزا هذا الشريف، في عام 1032هـ/1622م، نجداً، وسار حتى الأحساء.

وفي عام 1057هـ/ 1647م، سار الشريف زيد بن محسن، أمير مكة، غازياً نجداً. ونزل روضة سدير، وقتل رئيسها، محمد بن ماضي. وولى عليها رميزان بن غشام، من آل بوسعيد. وفي السنة عينها، نزل بنبان، في العارض، شمالي الرياض الحالية، وغنم من أهل العيينة.

وفي عام 1105هـ/1693م، سار الشريف سعد بن زيد، صاحب مكة، إلى نجد. ووصل منطقة الحمادة، ثم رجع. ثم غزاها، مرة أخرى، في رمضان عام 1107هـ/1696م، ونزل في بلدة أُشيقر، وحاصر أهلها.

هكذا، اقتصرت العلاقات بين نجد والحجاز، على غزوات، تشن في فترات متقطعة، وما يعقبها من معارك وقتل، وغنائم، تؤخذ من أهل نجد.


الفصل الأول: ميثاق الدرعية، وتأسيس الدولة السعودية الأولى

1. أصل أسرة آل سعود، ونشأة إمارة الدرعية

تنسب بعض المصادر آل سعود إلى قبيلة عنزة، المعروفة بهذا الاسم، في الوقت الحاضر. وهذا شائع، أيضاً، لدى الناس. وذكر بعض المؤرخين أن آل سعود، هم من بني حنيفة. ومن المعلوم أن عنزة، وبني حنيفة، هم من وائل. ومن ثَم، فآل سعود وائليون.

وكانت الأسرة السعودية، تدعى آل مقرن، نسبة إلى مقرن بن مرخان، جد محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى.

وكان أحد أجداد آل سعود، يسمى مانع بن ربيعة المريدي، يقيم بمكان، يقال له الدرعية، قرب بلدة القطيف، على ساحل الخليج العربي، وذلك في النصف الأول من القرن التاسع الهجري.

وكان لمانع المريدي هذا، قريب، يسمى ابن درع، يقيم بمنطقة حجر اليمامة، قريباً من موقع مدينة الرياض الحالية. وكان ابن درع صاحب نفوذ في تلك الجهة. فقدم إليه مانع المريدي، من القطيف، في عام 850هـ/1446م. ومنحه موضعَي غصيبة والمليبيد، في وادي حنيفة[1]. (انظر خريطة وادي حنيفة وروافده، وخريطة الرياض وفروع وادي حنيفة)

وأطلق مانع المريدي، وأتباعه، اسم "الدرعية" على موطنهم الجديد؛ إما إحياء لاسم بلدتهم القديمة، التي هاجروا منها، أو نسبة لقريبه ابن درع، الذي منحهم هذا الموطن، اعترافاً بفضله، وتخليداً لذكره.

وقد قويت هذه الأسرة، وازداد نفوذها في المنطقة، وتوسعت على حساب جيرانها، من آل يزيد، الحنفيين. وكان أمير الدرعية، محمد بن مقرن بن مرخان، جد آل سعود، قد توفي عام 1106هـ/ 1694م. وفي عام 1121هـ/ 1709م، أصبح موسى بن ربيعة بن وطبان، أميراً على البلدة. ثم خلع، فتوجه إلى العيينة. وتولى الإمارة سعود بن محمد بن مقرن، الذي توفي عام 1137هـ/ 1724م. ولم يتول، من بعده، ابنه، محمد بن سعود بن محمد أمارة الدرعية، بل تولاها زيد بن مرخان بن وطبان، لكن محمد بن سعود كان له تأثير قوي على سير الأحداث في البلدة.

وفي عام 1138هـ/1725م، حاول أمير الدرعية، زيد بن مرخان، الاستفادة من ظهور الوباء في العيينة، الذى مات فيه أمير العيينة المشهور، عبدالله بن معمر، وعدد كبير من رجالها. فبدأ يخطط، مع فريق من قبيلة سُبيع، لمهاجمة هذه البلدة المزدهرة. ولكن أمير العيينة الجديد، محمد بن حمد بن عبدالله بن معمر، المعروف بلقب خرفاش، اتخذ خطة، أنقذته مما يخطَّط ضده؛ إذ دعا أمير الدرعية، زيد بن مرخان إلى التفاوض واعداً إياه، أن يستجيب ما أراده منه. وحينما قدم زيد إليه مع أربعين من رجاله، ومنهم محمد بن سعود، غدر به محمد بن معمر وقتله. وقد تحصن محمد بن سعود، بمن معه، بموضع، ولم يخرجوا، إلا بأمان من الجوهرة بنت عبدالله بن معمر، وكان ذلك عام 1139هـ/1726م. وكان أمير الدرعية المخلوع، موسى بن ربيعة حاضراً تلك الواقعة، في منزل خرفاش، فأصيب برصاصة، توفي على أثرها.

وعاد محمد بن سعود وجماعته إلى الدرعية. واستقل بإدارتها. وأصبح أميراً لها. وبذلك، مضى أكثر من مائتَين وثمانين عاماً، على تأسيس مانع المريدي للدرعية، ولإمارة آل سعود فيها.

واستمرت إمارة محمد بن سعود قرابة أربعين عاماً، من عام 1139 هـ/1726م إلى وفاته، في عام 1179هـ/1765م.

وكانت إمارة الدرعية، قد اكتسبت موقعاً مهماً، بين إمارات العارض، بدليل أنها تعرضت لهجوم من حكام الأحساء، بني خالد، عام 1133هـ/ 1720م. وتمكنت من صده.

وشهدت استقراراً داخلياً، بعد تولي محمد بن سعود إمرتها. وفي العقود التالية، نمت أحياء البلدة، واتسعت في جنبات وادي حنيفة وصارت تمتد من المَلْقَى، شمالاً، إلى حدود بلدة عِرقة، جنوباً. وشملت حدودها مناطق من الوادي مثل: العلب، وسمحة، وغبيراء، وقليلقل، وكتلة، والرفايع، وخيس نصرالله، والسهل، والقرين.

وضمت البلدة أحياء عديدة مثل: الطريف، حيث مساكن آل سعود، والبجيري، والبليدة، والطوالع، والسهل، وملوي، وغيرها.

وأسست حصون وقلاع وأبراج على سورها، مثل: حصن الرفايع في قرى عمران، وحصن سمحة، وحصن شمالي الطريف، وحصن شُديّد اللوح في ظهرة ناظرة، وحصن المغترة.

وشيدت، في الدرعية، قصور لآل سعود، مثل قصر الطريف، وقصر البليدة، وقصر الشعراء. وقصر ابن طوق في السريحة.

وبعد قيام الدولة السعودية، وتوليها مهمة الدعوة الإصلاحية، التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ أطلق أمراء الدرعية على أنفسهم لقب إمام، وهو لقب الحاكم، السياسي والديني، للدولة.

وخلف الإمامَ محمد بن سعود، ابنُه، الأمير عبدالعزيز، الذي ولد عام 1133هـ/1720م. واغتيل في أواخر رجب من عام 1218هـ/نوفمبر1803م. بعد حكم دام 38 سنة، ما بين عامَي 1179هـ ـ 1218هـ/1765-1803م . وكان يقود الغزوات والحملات، في عهد والده. وفتح غير بلدة، بعد معارك فاصلة. وواصل سيرة والده، في التوسع وفتح البلدان، حتى العراق. وصد الغزوات، الموجهة ضد الدرعية. واغتاله، في مسجد الطريف، في الدرعية، رجل كردي، قدم لهذه الغاية، من العمادية، في الموصل. ولقد تزوج الإمام عبدالعزيز بن محمد من ابنة الشيخ محمد بن عبدالوهاب.

وبعد الإمام عبدالعزيز، جاء ابنه، الإمام سعود بن عبدالعزيز. ولقب، بعد وفاته، بسعود الكبير. وحكم قرابة 11 سنة، ما بين عامَي 1218 ـ 1229هـ/ 1803 ـ 1813م، إذ توفي ليلة الإثنين 11 من جمادى الأولى 1229هـ/مايو 1814م. وكان والده، والشيخ محمد بن عبدالوهاب، قد أخذا البيعة له من أهل نجد، بولاية العهد، في عام 1202هـ/ 1787م. وكان هذا الأمير، أيضاً، يقود الحملات، في عهد والده. فسار في أول غزوة له، عام 1181هـ/ 1767م، فهاجم بلدة العودة، من أعمال منطقة سدير.

ثم خلفه ابنه، الأمير عبدالله بن سعود. وحكم 5 سنوات، بدأت عام 1229هـ/1814م. وفي عهده، سقطت الدولة السعودية الأولى، باستسلامه لقوات إبراهيم باشا، في 8 ذي القعدة عام 1233هـ/9 سبتمبر 1818م. وأعدم، في الآستانة، في صفر عام 1234هـ/ديسمبر 1818م. 2. ظهور الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبدء الدعوة الوهابية الإصلاحية

ينتمي الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى أسرة آل مُشرف، من فروع آل وُهَبَة، أحد بطون قبيلة تميم. فهو محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي بن أحمد بن راشد بن بُريد بن محمد بن بُريد بن مشرف. كان جده، سليمان، عالماً من علماء نجد، في القرن الحادي عشر الهجري. وتولى القضاء في روضة سدير. كما كان والده، عبدالوهاب، قاضياً في بلدة العيينة، ثم عُزل عام 1139هـ، وعين قاضياً لبلدة حريملاء.

ولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في بيت علم، في بلدة العيينة، سنة 1115هـ /1703م. وتلقى تعليمه الأولي على يد والده، وحفظ القرآن الكريم، في صغره. كما درس الفقه والتفسير والحديث. ثم ذهب للحج. ومن مكة المكرمة، توجه إلى المدينة المنورة، ثم عاد إلى العيينة.

وتميز محمد بن عبدالوهاب بقوة الذاكرة، والتعلق بالعلم. فانطلق طالباً المزيد منه. فرحل إلى مكة المكرمة، ثانية، ومنها إلى المدينة المنورة، حيث حضر حلقات الدرس، في الحرم النبوي، للشيخ النجدي، عبدالله بن إبراهيم بن سيف، الذي شجعه على القراءة في الفقه الحنبلي. وتلقى العلم، أيضاً، من عالم الحديث، الشيخ محمد حياة السندي المدني (توفي عام 1165هـ)، الذي تأثر به محمد بن عبدالوهاب، في الدعوة إلى التجديد، ومحاربة البدع في الدين، وما يؤدي إلى الشرك من الأعمال.

وعاد محمد بن عبدالوهاب إلى بلدته، العيينة. ومكث بها عاماً. وتوجه إلى البصرة، ليرضي نهمه في العلم. وفيها درس الفقه، وعلوم الحديث، وقواعد اللغة العربية.

وفي البصرة، التي كانت، آنذاك، تعج بالمذاهب والفِرق، آنس في نفسه القدرة على معارضة الأمور، التي كانت تجري على خلاف الشرع؛ وأن ينكر ما يرتكب، هناك، من البدع التي تفضي إلى الشرك؛ وأن يشترك في النقاش، حول التوحيد والعقيدة، مما أثار عليه بعض الأهلين، وآذوه. ولهذا، أجبر على مغادرة البصرة، فتوجه إلى الزبير، ومنها إلى الأحساء، حيث مكث بعض الوقت، واستفاد من علمائها، مثل عبدالله بن فيروز، ومحمد بن عفالق، وعبدالله بن محمد بن عبداللطيف الشافعي الأحسائي.

وخلال طلبه العلم، عكف الشيخ محمد بن عبدالوهاب، على دراسة كتب شيخ الإسلام، تقي الدين أحمد ابن تيمية (المتوفي عام 728هـ/1327م ). ودرس آثار تلميذه، ابن قيم الجوزية (المتوفي 751هـ/1350م). وتأثر بهما كل التأثر، خاصة رأي ابن تيمية في ضرورة العودة، في أمور الدين، إلى الكتاب والسُّنة، وما صح عن الصحابة من آثار؛ وتصحيح العقيدة وتنقيتها من بدع المتصوفة والمتكلمة. وتأثر به في محاربته للبدع والمنكرات، التي تؤدي إلى الشرك، مثل الاستغاثة بغير الله، والتوسل بالأولياء والموتى، والاعتقاد أنهم يجلبون النفع، ويدفعون الضر. وكذلك، التبرك بالأضرحة والأشجار، وغير ذلك. وكان الشيخ محمد بن عبدالوهاب، دائم التمثل بآراء ابن تيمية، في كتبه ورسائله.

ورجع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، إلى بلدة حريملاء، التي عُيّن أبوه قاضياً لها. وكان وصوله إلى نجد بين عامَي 1144هـ ـ 1149هـ/ 1731 ـ 1736م.

وقد استنكر الشيخ ما كان عليه الناس، في منطقته، من جهل بأمور عقيدتهم، وشيوع البدع والخرافات بينهم. فصح منه العزم على دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة، وإلى التوحيد الخالص لله، وتنقية معتقداتهم مما شابها، من أعمال الشرك. فألف كتابه، "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد"، الذي لاقى رواجاً كبيراً بين الناس، في نجد[2].

وأهم ما جاء في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، إحياء عقيدة التوحيد، وإخلاص العبادة لله، وإفراده ـ سبحانه ـ بها؛ ومحاربة الشرك، بأنواعه، وسد الذرائع المؤدية إليه، والتصدي للبدع، التي أحدثت في الدين، والقضاء عليها؛ وتطبيق الشريعة، في كل أمور الحياة. وفي الحقيقة أن هذا هو جوهر الإسلام، ولم يكن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، مبتدعاً في ما دعا قومه إليه. ولم يأت بمذهب جديد. ولا هو دعا إلى تشريع مختلف. إنما جدد ما اندرس من أمور الدين، ودعا للعودة إلى النبع الصافي للعقيدة الإسلامية[3].

وقد انقسم الناس، إزاء هذه الدعوة بين مؤيد ومعارض. فوجدت لها أنصاراً، ممن شرح الله صدورهم لمعرفة الحق. ولاقت معارضة الجهال، من العامة، الذين رفضوا أن يتركوا ما نشأوا عليه. وعارضتها فئة من العلماء، الذين كانت لهم مصالح دنيوية. وكان عبدالوهاب بن سليمان، والد الشيخ محمد، معارضاً لأسلوب ابنه في الدعوة، وليس للدعوة نفسها. وبعد وفاة والده، عام 1153هـ / 1740م، اشتد الشيخ في دعوته. وازداد إنكاره لما يراه باطلاً. وانتشرت الدعوة الإصلاحية في أرجاء المنطقة. وتوافد على الشيخ المؤيدون، ومنهم أمير بلدة العيينة، عثمان بن حمد بن عبدالله بن معمر. خروج الشيخ محمد بن عبدالوهاب، من حريملاء إلى العيينة

انتقل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، في عام 1154هـ/1741م، من بلدة حريملاء، إلى بلدة العيينة. وكان في حريملاء قبيلتان متنازعتان. ولإحداهما عبيد يقال لهم الحمّيان، كثر منهم الفسق والفساد. فأراد الشيخ محمد أن يمنعهم من ذلك، وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهمّ العبيد أن يفتكوا به ويقتلوه، في الليل، سراً. فلما تسوروا عليه الجدار، انكشف أمرهم، فهربوا. وانتقل الشيخ، بعدها، إلى العيينة.

وربما يكون السبب الأهم في انتقاله، هو قبول أمير العيينة، عثمان بن حمد بن عبدالله بن معمر، دعوته الإصلاحية. يضاف إلى ذلك، أن العيينة، هي مسقط رأس الشيخ، ومكان نشأته الأولى.

ووجد في العيينة، كل ترحيب وحفاوة من أميرها. وتزوج الشيخ محمد الجوهرة بنت عبدالله بن معمر، عمة الأمير عثمان، مما زاد من الأواصر بين الشيخ والأمير. وعرض الشيخ على الأمير عثمان، ما قام به، ودعا إليه. وقال له: "إني أرجو، إن قمت بنصر لا إله إلا الله، أن يظهرك الله ـ تعالى ـ وتملك نجداً وأعرابها". فساعده الأمير عثمان بن معمر على ذلك.

وسار الشيخ قدماً في التطبيق الفعلي لدعوته، بعد دعم الأمير له. فقام، مع أنصاره، بقطع الأشجار، التي كان العامة يتوسلون بها. وهدم القبة، التي كانت على قبر، يظن أنه لزيد بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في الجبيلة؛ وكان العامة يتبركون بها، ويقدمون إليها النذور.

كما قام الشيخ بمعاقبة من لا يؤدون الصلاة مع الجماعة، في المساجد. وأرسل الدعاة إلى البلدان المجاورة، في نجد، لنشر دعوته. ولكن أعظم الأعمال، التي قام بها، فهزت المجتمع، واشتهر بها أمره، في الآفاق، إقامة حد الرجم على امرأة، اعترفت بأنها ارتكبت جريمة الزنا، وهي محصنة. وكان يعلن، بذلك، دخول دعوته مرحلة جديدة مهمة.

فقد أدت هذه الأنشطة إلى زيادة المعارضة للدعوة الإصلاحية، من قبل بعض العلماء، في نجد، الذين رأوا فيها زعزعة لمكانتهم الاجتماعية وبخاصة أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أنكر على بعضهم أخذ أجر من المتخاصمين، مقابل الفصل بينهم، وعدّ ذلك من الرشوة. فقام بعض هؤلاء العلماء بإرسال الرسائل، إلى علماء البصرة والأحساء، يستنهضونهم للرد على دعوة الشيخ.

كل ذلك، لم يمنع الدعوة الوهابية من الانتشار، وإقبال الناس عليها، مما أثار حفيظة الأمراء، خاصة زعماء بني خالد، في الأحساء، التي كانت مصدراً للتجارة، في نجد.

ولهذا، كتب زعيم بني خالد، وحاكم الأحساء والقطيف، سليمان بن محمد بن غرير آل حميد، رسالة إلى صديقه، أمير العيينة، عثمان بن معمر، يطلب منه، أن يتخلص من الشيخ محمد بن عبدالوهاب، بالقتل. وهدد، في رسالته، بأنه سوف يقطع الخراج أو المعونة الاقتصادية، وهي كثيرة، عن ابن معمر، ويمنعه من استلام دخل مزرعته، في الأحساء؛ وأنه لن يسمح لتجار بلدته، بدخول الأحساء واستخدام موانئها. انتقال الشيخ محمد، من العيينة إلى الدرعية

ما كان في وسع أمير العيينة مخالفة حاكم الأحساء، فطلب من الشيخ محمد، أن يغادر العيينة، بعد أن أخبره بأمر رسالة زعيم الأحساء، وطلبه أن يقتله. ولم تفلح محاولات الشيخ في إقناع الأمير بالصمود، أمام تهديدات حاكم الأحساء، ورفض أوامره.

واختار الشيخ محمد بن عبدالوهاب بلدة الدرعية، التي كان يحكمها محمد بن سعود. ووصلها، عصر اليوم، الذي غادر فيه العيينة، في عام 1157هـ/1744م. وحل ضيفاً على رجل من تلاميذه، يدعى محمد بن سويلم العريني، في أعلى الواحة. وخشي المضيف من سطوة الأمير محمد، خاصة بعد أن أقبل الناس، من مريدي الشيخ، ليأخذوا عنه أمور دينهم، ومن بينهم ثنيان بن سعود، ومشاري بن سعود، شقيقا الأمير محمد بن سعود. وقد بذل الأخوان، ثنيان ومشاري، جهدهما في إقناع الأمير بمقابلة الشيخ. وتروى قصة، مفادها، أن موضي بنت أبي وطبان، زوجة الأمير محمد بن سعود، كانت ذات عقل ومعرفة، سعت لدى زوجها، ليقف إلى جانب الشيخ ويعاضده، بعد ما علمت من أخباره، وما يأمر به وينهى عنه، قائلة: "إن هذا الرجل، أتى إليك، وهو غنيمة ساقها الله لك. فأكرمْه، وعظمْه، واغتنم نصرته". فاقتنع الأمير بقولها، ودعا أخاه، مشاري، وطلب منه أن يدعو الشيخ لمقابلته. ولكن مشاري، استعطف أخاه الأمير، أن يسير بنفسه لمقابلة الشيخ، وقال له: "سرْ إليه برِجلك، وأظهر تعظيمه وتوقيره، ليسلم من أذى الناس". 3. ميثاق الدرعية، وقيام الدولة السعودية الأولى

سار الأمير محمد بن سعود، إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب، في بيت ابن سويلم. ورحب به قائلاً: "أبشر ببلاد خير من بلادك. وأبشر بالعز والمنعة". فقال الشيخ: "وأنا أبشرك بالعز والتمكين. وهذه كلمة لا إله إلا الله، من تمسك بها، وعمل بها، ونصرها، ملك بها البلاد والعباد. وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم".

ولا تذكر المصادر تاريخاً لهذه المقابلة المهمة. ولكنها كانت بعد قدوم الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى الدرعية، بفترة قصيرة.

ولقد خشي الأمير محمد بن سعود أمرَين، إن قام بنصرة دعوة الشيخ:

أولهما: أن يهجره الشيخ إلى مكان آخر، ويستبدل به غيره.

ثانيهما: أن يقف الشيخ في وجه ما يأخذه من مال، من أهل الدرعية.

لذلك، أراد الأمير، أن يكون بينه وبين صاحب الدعوة، عهد وميثاق، فقال له:

"يا شيخ، إن هذا دين الله ورسوله، الذي لا شك فيه. وأبشر بالنصرة لك، ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد. ولكن أريد أن أشرط عليك شرطَين اثنَين:

الأول: نحن إذا قمنا بنصرتك، والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا.

الثاني: إن لي على الدرعية قانوناً (أي ما يدفعه الضعيف إلى القوي، ليحميه ويدافع عنه) آخذه منهم، في وقت الثمار، وأخاف أن تقول، لا تأخذ منهم شيئاً".

فأجاب الشيخ: "أيها الأمير، أما الأول، فابسط يدك. الدم بالدم والهدم بالهدم.

وأما الثاني، فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات، فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها".

ثم بسط محمد بن سعود يده، وبايع الشيخ محمد بن عبدالوهاب على نصرة دين الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وإقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول المؤرخ حسين بن غنام: "وقد بقي الشيخ، بيده الحلّ والعقد، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير. ولايركب جيش، ولا يصدر رأي من محمد بن سعود، ولا من ابنه، عبدالعزيز، إلا عن قوله ورأيه. فلما فتح الله الرياض، واتسعت ناحية الإسلام، وأمنت السبل، وانقاد كل صعب، من باد وحاضر، جعل الشيخ الأمر بيد عبدالعزيز بن محمد بن سعود، وفوض أمور المسلمين وبيت المال إليه...".

وصارت الدرعية مركزاً لنشر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية، تقاطر إليها طلاب العلم في الدين، الذين صاروا، فيما بعد، أنصاراً للدعوة، وللدولة. وبدأ الشيخ يبعث برسائله إلى أمراء البلاد المجاورة، وزعماء القبائل، يبلغهم ما يدعو إليه، من إحياء للدين، ومحاربة للبدع. ولقد تكاثر مؤيدو الدعوة، وتوافدوا على الدرعية، حتى ضاقت بهم. ولكن الله، فتح لها، من أبواب الخير والرزق، الكثير من الزكاة والغنائم، مما أدى إلى تحسن أوضاع الناس المعيشية.

توفي الشيخ محمد بن عبدالوهاب، يوم الإثنين، آخر شوال سنة 1206هـ/ يونيه 1792م. وله من العمر نحو اثنَين وتسعين عاماً. وترك أربعة من الأبناء، كلهم أخذ العلم عنه، وهم حسين وعبدالله وعلي وإبراهيم. وكانت لهم مجالس ومحافل للتدريس، في الدرعية. وقد تولى ابنه، الشيخ حسين مكانه، كما كان قاضياً في الدرعية. وتوفي في ربيع الثاني عام 1224هـ/ مايو 1809م.


[1] وادي حنيفة يمتد بشكل متعرج من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي تحفه الجبال من جانبيه. وينبسط ويضيق حسب تكويناته الطبيعية وأرضه. وتغذيه في مواسم الأمطار روافد تنحدر من الجبال، وتكثر فيه المياه الجوفية التي تغذي بساتين النخيل والعنب والأشجار المتنوعة ممتدة من العمارية والملقى في شمال الدرعية حتى الحائر (حائر سبيع) في الجنوب منها.

[2] من مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب الأخرى: مختصر السيرة النبوية، وكشف الشبهات، وأصول الإيمان، وفضائل الإسلام، وأحاديث الفتن، ومختصر زاد المعاد، ومسائل الجاهلية، مختصر صحيح البخاري، ومجموعة الحديث، فيه كتاب للشيخ بعنوان نصيحة المسلمين، وكتاب الكبائر، واستنباط القرآن، ورسائل عدة ذكرها ونقل بعضها حسين بن غنام في تاريخه.

[3] أطلق عليها علماء الدولة العثمانية لقب الوهابية وعدوها مذهباً جديداً، ووصفوا أتباع الشيخ بالروافض والخوارج، ليُنِّفروا الناس منها، وهذا غير صحيح، إنما كان ذلك نوعاً من الكيد السياسي.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الثاني: توسع الدولة السعودية في أرجاء نجد، وانتشار الدعوة الإصلاحية

قضت الدولة السعودية الأولى قرابة أربعين عاماً، تعمل من أجل نشر الدعوة الإصلاحية، وتوحيد نجد. وخاضت في هذا السبيل، حروباً طويلة، مع القوى السياسية المحلية، المجاورة للدرعية، في نجد. وهي القوى التي رفضت مبادئ الدعوة الإصلاحية، وقاومت الدخول في طاعة إمارة الدرعية. وقد أعلن معظم البلدان، في إقليم العارض، طاعتها، لما علمت بأن الجهاد، هو السبيل إلى إرغام من صد عن الدين. ومنها العيينة ومنفوحة، وضرما، وحريملاء، والعمارية، والقويعية، والحوطة، والجنوبية، والمحمل، وثادق، والقصب، والفرعة.

ولكن هذه البلدان، كانت دائمة التردد في ولائها للدرعية ومعاداتها. وبعضها كان في حالة مناهضة دائمة للنفوذ السعودي. فما تكاد الجيوش السعودية تغادر تلك البلدة، حتى تفاجأ بارتدادها. وكانت الغزوات السعودية مستمرة ضد جهات متعددة، في آن واحد. فهي اليوم ضد الرياض، وبعده ضد الخرج، وفي وقت ثالث، ضد القصيم أو الأحساء. ونرى حملات سعودية، تشن على العراق، في أقصى الشمال الشرقي. وفي السنة نفسها، تعد حملات، للتوجه نحو الحجاز، في الغرب. ولذلك، من الصعب ترتيب هذه الغزوات، في مراحل. ولكن يمكن القول، إن الدولة السعودية، بدأت بضم مناطق إقليم نجد، وسطه وشماليه وجنوبيه، ثم الأحساء، ثم الحجاز والجنوب، إلى حدود اليمن.

ولم تكن القوى المعادية للدرعية مؤتلفة؛ إنما كان يفرقها تقاسم المصالح، وبروز النزاعات بينها، بين حين وآخر. 1. ضم الرياض

كان دهام بن دواس بن عبدالله الشعلان[1]، هو أكبر خصم للدعوة الإصلاحية، وللنفوذ السعودي. فلما استولى على إمارة الرياض، بحجة النيابة عن ابن أخته الصغير، ابن الأمير السابق، زيد بن موسى أبا زرعة، وأجلاه عن البلدة ـ ثار عليه أهل الرياض، فطلب النجدة من الأمير محمد بن سعود، الذي أنجده بجند، بقيادة أخيه، مشاري بن سعود. فتمكن من تثبيت حكمه. ومكث مشاري بن سعود بجانبه عدة أشهر. ولم يتركه، حتى استتب الأمر لدهام، في الرياض.

إلا أن دهام بن دواس، لم يعتنق مبادئ الدعوة السلفية، بل استنكرها. وخاضت الدرعية سبع عشرة موقعة، مع الرياض، على مدى سبعة وعشرين عاماً. وكان دهام، يلجأ في الحرب إلى سلاح الدسائس والفتن، حيناً، والمصالحة أحياناً. فعاهد إمارة الدرعية أربع مرات، ولكنه نكث عهده فيها جميعاً.

لقد كانت بداية الصراع العسكري، بين الدرعية والرياض، بعد انضمام منفوحة إلى الدعوة، عام 1159هـ/1746م. إذ قام دهام بن دواس بالهجوم عليها، وضمها إلى الرياض، وربما كان دافعه، أنه كان، هو وإخوته، في منفوحة، وأُجلوا عنها، وأنه شعر بقوة مركزه في الرياض مما يتيح له استردادها وضمها إلى حكمه. لكنه فشل بسبب المقاومة العنيدة من أمير منفوحة، علي بن مزروع، ومن سكانها. وأصيب دهام بجرحَين، أثناء الاشتباكات بينه وبين أهاليها.

وعلى أثر هذه الحادثة، جهز الإمام محمد بن سعود حملة صغيرة على دهام، استطاعت الوصول داخل الرياض، ومهاجمة قصره فيها، وعادت إلى الدرعية.

وهاجم دهام العمارية، وقتل أميرها، عبدالله بن علي، وعقر إبله. فلما بلغ ذلك الإمام محمد بن سعود، جمع أهل الدرعية وعرقة، وأراد أن يرصد عودة جيش دهام من العمارية، ويكمن له. وكان دهام بن دواس قد كمن في الموضع نفسه. فالتقى الفريقان، واقتتلوا قتالاً شديداً، انهزم فيه دهام، وأهل الدرعية في أثره. ولكنهم فوجئوا بخروج فرقة لابن دواس، من جهة العمارية، فوقع القتل، وانكسر جيش آل سعود.

وأخذت الدرعية بثأرها، حينما قام الإمام محمد بن سعود بحملة على دهام، وجرت موقعة في مكان، يقال له الوشام. انهزمت فيها قوات الرياض. ودعيت بوقعة "الشياب"؛ لأنه قتل فيها شايبان من آل شمس، من أهل الرياض.

أراد الإمام محمد بن سعود، أن يلاحق دهاماً، ويلحق به هزيمة منكرة. فقام بحملة أخرى على الرياض. كانت نتيجتها هزيمة دهام، مرة أخرى، وسميت هذه الوقعة "وقعة العبيد"؛ لأن معظم من قتل من رجال دهام، كانوا من العبيد.

جهز دهام جيشاً، وهاجم الدرعية. ولما اندفعت نحوه قواتها، تظاهر بالتقهقر. فظن جيش الدرعية، أن جيش دهام قد انهزم. إلا أن جيش الرياض كان قد نصب كميناً لجيش الدرعية. فكانت الهزيمة لجيش الدرعية. وقتل فيها الأميران فيصل وسعود، ابنا الإمام محمد بن سعود. وكل هذه الحروب، كانت في عام 1159هـ/1746م.

ورداً على هذه الأحداث، جهزت الدرعية جيشاً قوياً، للهجوم على الرياض. إلا أن أحد أهالي بلدة حريملاء، من آل داود، يدعى أبو شيبة، كان قد أفشى للرياض سر المعلومات، التي هيأتها الدرعية لمهاجمة الرياض. فكانت النتيجة متكافئة بين الجيشَين. وعرفت هذه الوقعة باسم "وقعة الشراك"، وكانت في عام 1160هـ/1747م.

وفي عام 1161هـ/1748م، حدثت معركة أخرى، تدعى بوقعة "البنية". قاد فيها جيش الدرعية، عثمان بن معمر، أمير العيينة، الذي عاهد الأمير محمد بن سعود، على الحرب معه. وانهزمت فيها قوات الدرعية، بعد قتال شديد، قتل فيه أناس كثيرون.

ثم حدثت وقعة أخرى، سار فيها عبدالعزيز بن محمد بن سعود، بأهل الدرعية وضرما. وتولى عثمان بن معمر قيادة قوات العيينة وحريملاء. كما أنه كان الأمير عليهم جميعاً. واشتبك مع جيش الرياض في مكان، يدعى "الخريزة"، قرب الرياض. وكانت النتيجة متكافئة. وتلت ذلك معارك كثيرة، بين الدرعية والرياض، كان أسلوب الكر والفر، ونصب الكمائن، هو الفن القتالي فيها، مثل وقعة الحبونية، عام 1162هـ/1749م، ووقعة البطحاء، عام 1163هـ/ 1749م.

وفي عام 1167هـ/1754م، اجتمع، في الدرعية، الشيخ محمد بن عبدالوهاب والإمام محمد بن سعود، إلى كبار أنصار الدعوة، الذين قدموا من مختلف البلدان، للتباحث في شؤون الدعوة، والمواقف اللازم اتخاذها ضد أعدائها. وكان دهام بن دواس، قد تضجر من الحرب مع آل سعود. فلما سمع بهذا التجمع، مال إلى المهادنة. وطلب من الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والإمام محمد بن سعود، عقد صلح بينه وبين الدرعية. وتعهد باعتناق مبادئ الدعوة السلفية. إلا أنه نكث هذا العهد، في العام التالي، سنة 1168هـ/1755م، وسانده على ذلك محمد بن فارس، رئيس منفوحة.

وهكذا، تجددت الاشتباكات بين الدرعية والرياض. ولم تخل سنة من غزوة بينهما. وأخيراً، طلب دهـام الصلح من الشيخ، والإمـام محمد بن سعود، عام 1177هـ/1763م. ومع علمهما بأنه لا يفي بوعده، فقد وافقت الدرعية، بشروط، منها:

أ. أن يقبل دهام بعودة أنصار الدعوة إلى الرياض، بعد أن كان قد اضطرهم إلى الهجرة منها.

ب. أن يرد دهام إلى المهاجرين، الأموال التي صادرها منهم، في الرياض، حين هاجروا منها.

ج. أن يسوق إلى الدرعية ألفَي (ريال) أحمر معجلة.

والتزم دهام بهذا الصلح، إلى وفاة الإمام محمد بن سعود، عام 1179هـ/1765م. وحضر مع الإمام عبدالعزيز بن محمد، الحرب التي شنتها الدرعية ضد عشائر الظفير، في وقعة "جراب"، بالقرب من سدير. وكانت هذه أول غزوة، ينضم فيها دهام إلى لواء الدرعية.

واستغل دهام فرصة وفاة الإمام محمد بن سعود، ليجرب سياسة الأحلاف، ضد الدرعية. فعقد حلفاً مع زيد بن زامل، حاكم الدِلَم والخرج. فسارع الإمام عبدالعزيز بن محمد إلى مهاجمة الرياض. وغزا أخوه، الأمير عبدالله بن محمد، قبيلة سبيع، المتحالفة مع دهام. إلا أن هذا العمل، لم يضعف جانب أمير الرياض.

وبادرت حكومة الدرعية إلى تقوية وضعها العسكري، فأقام الإمام عبدالعزيز بن محمد حصناً، يدعى حصن "الغذوانة"، في وادي حنيفة، غربي الرياض، عام 1171هـ/1757م. ورابطت فيه حامية سعودية قوية، ليكون نقطة انطلاق ضد الرياض. وكثفت الدرعية من غزواتها ضد دهام بن دواس، بخاصة في الفترة الواقعة ما بين عامَي 1181هـ ـ 1187هـ/1767م ـ 1773م، مما تسبب بإضعاف قواته.

ففي عام 1185هـ/1771م، قاد الإمام عبدالعزيز بن محمد الجيوش بنفسه، نحو الرياض. وإذا لم يحقق مراده منها، قفل راجعاً بجيشه. فلما بلغوا بلدة "عرقة"، أسفل الدرعية، فوجئوا بأن دهاماً، قد سار إليها، غازياً، من دون علمهم، ومهدداً عاصمة آل سعود. إلا أن القوات السعودية، استطاعت أن تحول الموقف في مصلحتها، فطاردت قوات دهام، واشتبكت معها في قتال، سقط فيه دواس وسعدون، ابنا دهام، صريعَين.

وفي سنة 1186هـ/ 1772م، واصل الإمام عبدالعزيز هجماته الشديدة، ضد دهام. وغزا الرياض مرتَين.

واستطاع الإمام عبدالعزيز، في صفر 1187هـ/1773م، أن يستولي على بعض بروج بلدة الرياض، فهدمها وهدم برج المرقب الشامخ فيها[2].

وما أن حل شهر ربيع الآخر عام 1187هـ/1773م، حتى كان دهام قد ضج من القتال، وعزم على الفرار من الرياض، مع أتباعه، إلى الخرج. وفي منتصف الشهر، غزا الإمام عبدالعزيز، بجيشه، يريد حرب الرياض وتدميرها. فلما وصلوا قرب عرقة، جاءهم البشير بانهزام دهام وهربه إلى الدلم. واستسلمت الرياض، ودخلها الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود. وانتهى القتال الذي استمر سبعاً وعشرين سنة، بينها وبين الدرعية. وقدرت خسائر الجانبَين بأربعة آلاف قتيل. كانت خسائر دهام ألفَين وثلاثمائة، من أهل الرياض. وخسائر الجانب السعودي ألفاً وسبعمائة. وبهذا، انتشرت مبادئ الدعوة الإصلاحية في الرياض، وتخلصت الدولة من أكبر مناهض، كان يقف في وجه توسعها في نجد. 2. ضم العيينة

رحب أمير العيينة، عثمان بن حمد بن معمر، بالشيخ محمد بن عبدالوهاب، واعتنق دعوته، في بدايتها. وشارك في هدم كثير من القباب، وقطع الأشجار، التي كان الناس يتبركون بها. ومن العيينة أذيعت، أول مرة، مبادئ الدعوة السلفية. لكنه بضغط من حاكم الأحساء، سليمان بن محمد، زعيم بني خالد، أخرج الشيخَ من بلدته. وبعد خروج الشيخ محمد من العيينة، إلى الدرعية، ندم عثمان على فعلته، حينما رأى ما اكتسبته الدرعية من عزة وسمعة، بعد انتقال الشيخ إليها، واتفاقه مع أميرها على نشر الدعوة، ذهب عثمان بن معمر إلى الدرعية، وحاول إقناع الشيخ بالعودة إلى العيينة. لكن الشيخ رفض مطلبه. ولم يجد ابن معمر بداً، في بداية الأمر، من إعلان خضوعه للدرعية. وعلى الرغم من أنه شارك في حروب الدولة، ضد دهام بن دواس، حاكم الرياض، وتولى قيادة الجيش السعودي غير مرة ـ إلا أن أحداثاً بدرت منه، أثبتت أنه لم يكن صادقاً، ولا مخلصاً في ولائه للدعوة والدولة. ومن ذلك تقاعسه عن المشاركة في غزوة "دلقة"، عام 1160هـ/1747م، ضد دهام بن دواس. فجعل يكيد لها، ثم رأى أن هذه المحاولة، لم تفلح. فعاد نادماً، وطلب الصفح من الشيخ، والإمام محمد بن سعود. فصفحا عنه، واستجابا إلى طلبه. ومع ذلك، استمر عثمان بن معمر في عدائه للدولة، لأنه شعر بفقد مركزه وسلطته. فعقد اتفاقاً سرياً مع أمير ثرمداء، وأمير الرياض، دهام بن دواس، ضد الدولة. ولما تزايد مكر عثمان، وتأكد ذلك، بالقرائن، قام بعض المؤيدين للدعوة، من أهل العيينة، بقتله، في رجب عام 1163هـ/يونيه 1750م، بعد خروجه من صلاة الجمعة.

وبعدها، توجه الشيخ محمد بن عبدالوهاب بنفسه إلى العيينة. وعيّن مشاري بن معمر أميراً عليها. وبعد عشر سنوات من حكم مشاري للعيينة، عزل عنها بسبب عدم ولائه، وعُيّن بدلاً منه سلطان بن محيسن المعمري. وهكذا، استطاعت الدولة أن تنجح في القضاء على مقاومة أمير العيينة، التي انضمت، بعد ذلك، إلى الدعوة، وأصبحت ضمن سيادة الدولة. ففقدت أسرة آل معمر الزعامة السياسية في العيينة، واختفى دورها السياسي في نجد. 3. ضم حريملاء

أما حريملاء، الواقعة إلى الشمال من العيينة، فقد أعلنت خضوعها للدولة السعودية، في أول الأمر. ولكن، في عام 1165هـ/1751م، قام بعض أهلها، بتحريض من قاضيها، سليمان بن عبدالوهاب، شقيق الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الذي كان معارضاً لآراء أخيه ـ بنقض عهدهم للدعوة والدولة. وأخرجوا من البلدة من لم يستجب دعواهم، ومن بينهم الأمير محمد بن عبدالله، وأخوه، عثمان. فقصد هؤلاء المطرودون بلدة الدرعية، ونزلوا ضيوفاً على أميرها. ولما خشي المتمردون من رد الدرعية عليهم، أرسلوا وفداً، لاسترضاء المطرودين وإرجاعهم إلى بلدتهم. ولما عادوا إليها، إذا بقبيلة آل راشد، من أهل حريملاء، تهجم على هؤلاء العائدين، وتفتك ببعضهم. فقتل الأمير محمد بن عبدالله، وثمانية من أتباعه. وكان من الناجين مبارك بن عدوان، الذي فر، وطلب النجدة من الدرعية. فسيّر الإمام محمد بن سعود جيشاً، بقيادة ابنه، الأمير عبدالعزيز، تمكن من الاستيلاء على حريملاء، وأعلن الأمان لسكانها. وعين مبارك بن عدوان أميراً عليها، من قبل آل سعود. وبذلك، توسعت حدود الدولة السعودية، إلى حريملاء.

وحينما أراد أمير الرياض، دهام بن دواس، وحلفاؤه، الهجوم على حريملاء، بادرت جيوش آل سعود إلى انقاذ البلدة، وهزيمة الحلف، في موقعة "الدار"، في ذي القعدة عام 1168هـ/ أغسطس 1755م.

ولكن الأمر، لم يستتب للدولة السعودية في حريملاء. إذ سرعان ما تنكر أميرها، مبارك بن عدوان، لأمير الدرعية، ونسي ما قدم إليه من عون ونصرة. وقام بمناصبة الدولة العداء. فأمر الإمام محمد بن سعود بعزله، وعين بدلاً منه أحمد بن ناصر بن عدوان. وحاول مبارك أن يستعيد إمارته على حريملاء مستنجداً بأهل المجمعة، وأهل سدير والوشم وثرمداء، فجمع منهم جيشاً كبيراً. إلا أن قوات الأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود، تصدت لهم، وأفسدت عليهم تحالفهم، وشتتهم. وظل مبارك بن عدوان طريداً، حتى توفي، مفلوجاً (أي مشلولاً)، في المجمعة، عام 1174هـ/ 1760م. وهكذا تخلصت الدولة من كل مناهض، وقف في وجه الدعوة والدولة، في إقليم العارض. 4. ضم منطقة الوشم

قررت الدولة نشر مبادئ الدعوة، في منطقة الوشم. فكانت بلدة شقراء من أولى المدن والبلدات، التي دخلت في الدعوة، وانضمت إلى الدرعية. أمّا بلدة القويعية، فقد انضمت إلى الدعوة والدولة، في عام 1169هـ/1755م، بعد أن أعلن أهلها الطاعة، وبايعوا الشيخ، والإمام محمد بن سعود.

وأرسلت إمارة الدرعية عدة غزوات، بقيادة الأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود، إلى بلاد المنطقة. ومنها غزوة عام 1161هـ/1748م، بقيادة عثمان بن معمر، والأمير عبدالعزيز بن محمد، إلى ثرمداء، لنشر الدعوة، وإخضاع البلدة للدولة السعودية الناشئة. ومع أن الجيش السعودي، انتصر على جيش ثرمداء، إلا أنه لم يستول عليها. وفي عام 1163هـ/1750م، حاولت الدولة إقناع أهالي ثرمداء بالدخول في الدعوة، والانضمام إليها، إلا أنهم رفضوا ذلك. وظلت الغزوات مستمرة بين الدرعية وثرمداء، إلى ما بعد عام 1173هـ/1759م، حين انضمت ثرمداء إلى الدولة، بعد أن قاد الأمير عبدالعزيز بن محمد، عدة حملات عسكرية ضدها.

أما بلدة أُشيقر، فقد انضمت إلى الدعوة والدولة، بعد حملات عسكرية ضدها، بين عامَي 1170هـ ـ 1182هـ / 1756 ـ 1768م.

وكذلك، بلدة القصب. فقد بايعت الشيخ، والإمام محمد بن سعود، بعد غزوة قام بها الأمير عبدالعزيز ضدها، عام 1172هـ/1758م. وبعدها انضمت بلدة مراة (وتنطق مرات)، وبلدة الفرعة، إلى الدعوة والدولة، بعد قيام الأمير عبدالعزيز بغزوات ضدهما، في عام 1175هـ/1761م. 5. ضم منطقة سدير

قامت الدولة بعدة غزوات، ضد بلدان منطقة سدير، التي رفضت الدعوة، ورفضت الانضواء تحت لواء الدولة السعودية الناشئة. وقد بدأت الدولة غزواتها للمنطقة، ابتداء من عام 1164هـ/1751م، واستمرت حتى عام 1177هـ/1764م. وفي هذه الفترة استطاعت الدولة نشر مبادئ الدعوة، في كل من الزلفي وجلاجل والحوطة والجنوبية والروضة والتويم والغاط والداخلة والعودة وحرمة، وغيرها من المدن والبلدان، في هذه المنطقة.

وفي عام 1196هـ/1782م، رأى أهل الروضة، من أعمال سدير، حاكم الأحساء، سعدون بن عريعر، عائداً، بجيشه، من القصيم؛ وقد فشل في حصاره لبريدة، فأعلنوا خروجهم على نفوذ آل سعود. وانضم إليهم زعماء سدير، المنفيون إلى الزبير. كذلك، انضم أمير الخرج، زيد بن زامل، الذي كان، في ذلك الوقت، مناهضاً للحكم السعودي، إلى قوات سعدون. وتحصنت القوات السعودية الموجودة فيها بالقلعة. وقرر هذا التحالف الهجوم على بلدة الروضة، فاستولوا عليها ومعهم آل ماضي، زعماء المقاومة في الروضة. واستسلمت القوات السعودية.

وكان الجيش، الذي أعدته الدرعية، للقضاء على عصيان أهل القصيم، معسكراً في بلدة ثادق، يرقب الأحداث عن كثب. ولما واتت الأوضاع ذلك الجيش، تقدم نحو الروضة، واشتبك مع قوات آل ماضي، التي بقيت، بعد ارتحال جيش سعدون بن عريعر. وفي تلك الأثناء، وصل الأمير سعود بن عبدالعزيز، بجيشه، من الدرعية. فاشتد القتال. واستسلمت القوات المقاومة، بشروط، منها دفع مبالغ مالية، تعويضاً عن الضرر الذي أصاب البلدة، وطرد آل ماضي من الروضة، ومؤيديهم وأتباعهم. وأمّر عليها عبدالله بن عمر. 6. ضم منطقة الخرج

قادت الدولة عدة غزوات، ضد منطقة الخرج، التي كانت شديدة المقاومة للنفوذ السعودي، بزعامة أميرها، زيد بن زامل الديلمي. وكان يتولى قيادة الجيوش السعودية، الأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود. ففي عام 1165هـ/1752م، أرسلت الدولة غزوة، بقيادة مشاري بن معمر إلى الدلم. وفي عام 1173هـ/1759م، أرسلت غزوة أخرى، بقيادة الأمير عبدالعزيز بن محمد. وظل الأمر كذلك، حتى بعد دخول السعوديين الرياض. بعدها، انقادت الدلم للدعوة والدولة. وفي عام 1175هـ/1761م، دخلت نعجان ضمن نطاق الدولة السعودية.

لقد ظل هذا الولاء في عهد الإمام محمد بن سعود. ولكن، بعد وفاته، نقض زيد بن زامل، أمير الدلم، العهد، وعقد الأحلاف ضد الدرعية. فتحالف مع حويل الوداعين الدوسري. زعيم وادي الدواسر، ومع آخرين، من زعماء جنوبي نجد. وطلب المتحالفون العون من أهل نجران وقبائلها، نظير مبلغ من المال، قدم لزعماء نجران. وحشد زيد بن زامل جيشاً كبيراً، سار به نحو العارض، للقضاء على الدرعية وتقليص نفوذها. واشتبكت القوات المتحالفة، وهي في طريقها، مع أهالي بلدة الحائر، ثم أهالي بلدة ضرما. ولما اشتبكت مع القوات السعودية، منيت بخسائر فادحة؛ لأن القتال دار بين النخيل، مما جعل الزعماء النجرانيين يعودون إلى بلادهم. وبهذا الأسلوب، انفض عقد الحلف. ونتيجة لهذا كله، أدرك زيد بن زامل عدم جدوى مواصلة القتال ضد السعوديين. فاضطر إلىعقد صلح مع الدرعية، عام 1189هـ/1775م، أعلن فيه خضوعه لها. إلا أن هذا الصلح لم يدم أمده طويلاً؛ لأن زيداً، خرج على شروط الصلح، في العام التالي. فأصدر الإمام عبدالعزيز بن محمد، حاكم الدولة، آنذاك، أمره بتنحية زيد عن إمارة الدلم، وعين بدلاً منه سليمان بن إبراهيم بن عفيصان، أميراً من قبل آل سعود.

وظل زيد بن زامل يعقد التحالفات، مع زعماء اليمامة، ضد الدولة، ويؤلب أهالي الجنوب عليها. وتمكن من إجبار سليمان بن عفيصان، والحامية السعودية، على الانسحاب من الدلم. فقادت الدولة ضده، وضد حلفائه عدة حملات تأديبية. وعبأت الدرعية قواتها، بقيادة الإمام عبدالعزيز بن محمد، وابنه، الأمير سعود بن عبدالعزيز. وأمرت ببناء "حصن البدع"، الواقع إلى الشرق من الدلم، والقريب من بلدة السلمية. وقد وضعت في هذا الحصن حامية سعودية، ظلت تراقب الوضع العسكري في الجنوب. فأدرك أهل الدلم خطر هذا الحصن، فاستنجدوا بسعدون بن عريعر، زعيم بني خالد، في الأحساء، وقاموا بهجومَين على الحصن، من دون جدوى.

وفي عام 1198هـ/1784م، تمكنت فرقة دورية سعودية، من قتل زيد بن زامل، أثناء عودته من غزو قبيلة سبيع. وخلفه ابنه، براك بن زيد، في قيادة أهل الخرج.

وأرسلت الدرعية، في سنة 1199هـ/1785م، حملة، بقيادة الأمير سعود بن عبدالعزيز، إلى الخرج. وسلبت قافلة، كانت متجهة إلى الحوطة. وقتلت زامل بن زيد، الابن الثاني لزيد بن زامل.

وحدث حادث أفاد الدولة السعودية، هو قيام نزاع أسري بين أفراد الأسرة الحاكمة في الخرج، حين قُتل براك بن زيد بن زامل، حاكم الخرج، على يد أبناء عمه، الذين لجأوا إلى الدرعية. فواصل الأمير سعود بن عبدالعزيز حملاته على الخرج.

وفي عام 1200هـ/1785م، شنت القوات السعودية هجوماً كاسحاً على الدلم. واستولت عليها، وأخضعتها للدولة السعودية. وأعلنت بلدان الخرج الانضمام إلى الدولة ومبايعتها للدعوة. وامتدت حدود الدولة السعودية إلى الجنوب والشرق.

ومع أن معظم البلدان، نقضت عهدها مع الدولة، بعد وفاة الإمام محمد بن سعود، عام 1179هـ/ 1765م، إلا أن الإمام عبدالعزيز، استطاع أن يعيد هذه البلدان إلى سلطة الدولة السعودية، بعد أن عاهدت وبايعت، من جديد. 7. ضم منطقة القصيم

تطلعت إمارة الدرعية إلى بسط سلطانها على شمالي نجد، بعد أن تمكنت من قرى وبلدان نجد، الوسطى والجنوبية والشرقية.

وكانت بريدة أعلنت ولاءها للدعوة وللدولة، عام 1182هـ/1768م، حين دعمت حكومة الدرعية أمير بريدة، حمود الدريبي، ضد أمير عنيزة، عبدالله بن أحمد بن زامل، بقوات، قادها الأمير سعود بن عبدالعزيز.

إلا أن راشد الدريبي، الذي تولى إمارة بريدة، بعد حمود الدريبي، بدعم من حاكم الأحساء، تنكر للدرعية، وغيّر موقفه منها. فثار أبناء عمومته عليه، وأخرجوه من بريدة. وأعلنوا انضمامهم إلى الدرعية. ومع هذا، عادت بريدة فانتفضت ضد الدرعية، التي أرسلت قوات سعودية، بقيادة الأمير سعود بن عبدالعزيز. فحاصرها حتى استسلمت، عام 1189هـ/1775م. وفي عام 1190هـ/1776م، أسندت الدرعيةُ إمارةَ بريدة، إلى حجيلان بن حمد العُليان.


الفصل الثالث: توسع الدولة السعودية، خارج منطقة نجد

1. ضم الأحساء

كان نفوذ الدولة العثمانية وقوتها، في الأحساء، ضعيفاً مما شجع بني خالد على العصيان ضدها، واستطاع زعيمهم براك بن عريعر آل حميد، أن يخرج الحامية العثمانية من الأحساء، ويستولي عليها، سنة 1080هـ، فأخذ بنو خالد يتوسعون، ويمدون نفوذهم إلى الأقاليم المجاورة للأحساء، كلما سنحت لهم الفرصة. وقد وصل نفوذهم إلى إقليم العارض، في وسط نجد، في مطلع القرن الثاني عشر الهجري.

وواجهت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، معارضة من بني خالد، في الأحساء. ورأوا في قوة إمارة آل سعود، التي برزت بعد اتفاق الدرعية، قوة جديدة، تضر بمصالح بني خالد، في نجد، وبخاصة المصالح الاقتصادية، القائمة على التجارة وأنها ستسعى إلى توسيع نفوذها وسلطانها إلى الأحساء.

ولعل أهم عوامل الصراع، بين الدولة السعودية ونجد والأحساء، يكمن في ما يلي:

أ. الخلاف المذهبي بين الدرعية، التي تدعو إلى السلفية، والأحساء التي ينتشر فيها المذهب الشيعي. وانعكس هذا في أمر حاكم الأحساء، سليمان بن محمد بن عريعر، أمير الدرعية، بالتخلص من الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وقد زاد هذا العامل من حدّة الصراع، بمرور الوقت، حينما اكتسبت الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب مزيداً من الأنصار والقوة.

ب. هروب بعض القبائل النجدية، المقاومة للنفوذ السعودي، نحو الأحساء، وسعي إمارة الدرعية إلى تأديبهم ومطاردتهم في ملجئهم. وكذلك العون والمساعدة، اللذَين كان يقدمهما حكام الأحساء، بين الفترة والأخرى، إلى القوى المناهضة للنفوذ السعودي؛ كما حدث في مساعدتهم أمراء الوشم وبريدة والخرج والرياض وسدير.

ج. العامل الاقتصادي، كان محركاً أساسياً للحملات السعودية على الأحساء، نظراً إلى توسع رقعة الدولة، وزيادة الأعباء على بيت المال، وحاجتها إلى زيادة مواردها، للإنفاق على مقاتليها، وعلى أوجه عديدة. فالأحساء، الغنية بالمياه وبالمزارع وبساتين النخيل، وبحركة تجارية واسعة، عبر موانيها على الخليج ـ كانت مطمحاً لكل القبائل النجدية، والقوى السياسية فيها.

لذا، بدأ التصادم بين النفوذ السعودي وحكم بني خالد، مبكراً. فأول اصطدام وقع بين إمارة الدرعية وبني خالد، بدأ في عهد الإمام محمد بن سعود، وفي عهد حاكم الأحساء، سليمان بن محمد. وكان سليمان بن محمد، وقتذاك، من أصحاب النفوذ الواسع في المنطقة. وكان في مقدوره أن يؤثر في الأحداث فيها. إلا أن سليمان، كان له منافسون أقوياء، في الداخل، من زعماء بني خالد، مثل دجين بن سعدون ومنيع بن سعدون. وانتهت هذه المنافسة بطرد سليمان من الأحساء، إلى الخرج، حيث توفي، وخلفه في الحكم عريعر بن دجين.

ولم تكن للحكم السعودي، في بدايته، القدرة على شن غارات على الأحساء؛ فسيطرته غير كاملة على نجد. لذا، اكتفى بصد حملات بني خالد وحلفائهم على البلدان، الواقعة تحت السيطرة السعودية.

ففي سنة 1172هـ/1759م، بدأ زعيم بني خالد، عريعر بن دجين، يعد العدة لحرب الدرعية، والقضاء على نفوذها، الديني والسياسي. فتحالف مع عدد كبير من أمراء مناطق نجد. فأخذت الدرعية أهبتها، لصد هجماتهم. واتجه عريعر بقواته وحلفائه، صوب الدرعية. ووصل إلى بلدة الجبيلة، في شمال وادي حنيفة. لكن بعض الحلفاء، تخلى عنه، وطلب الصلح مع الدرعية، والخضوع لها. فتصدع الحلف، واضطر عريعر إلى العودة إلى الأحساء، من دون تحقيق أي هدف.

وعلى الرغم من هذا الفشل، الذي مُنِيَ به عريعر، فإنه استنفر بني خالد، في عام 1178هـ/1765م، لحرب الدرعية. وراسل حسن بن هبة الله المكرمي، زعيم نجران، الذي يجمعه هدف مشترك معه، ضد الدرعية. وكذلك دهام بن دواس، أمير الرياض، خصم الدرعية العنيد. وشاركت في هذا الحلف عناصر أخرى، من نجد. واستطاع أمير نجران، أن يوجه ضربة قوية إلى قوات الدرعية، ويلحق بها هزيمة، هددت الدولة الناشئة بالسقوط. ولكن الإمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبدالوهاب، استطاعا تلافي الخسارة، بعقد صلح مع أمير نجران، ومنعاه من مواصلة هجماته على الدرعية. ولما وصلت قوات عريعر بن دجين قريباً من الدرعية، كان الصلح قد تم بين الدرعية وصاحب نجران. وعلى الرغم من استياء عريعر من عمل حسن بن هبة الله، فإنه حاصر الدرعية، بقواته وبالقوات المتحالفة معه، لمدة شهر. واضطر إلى فك الحصار، بعد خروج القوات السعودية، بقيادة عبدالعزيز بن محمد بن سعود، إلى خارج البلدة، والاشتباك مع قواته. ورحل عريعر إلى الأحساء، مخلفاً أربعين قتيلاً من رجاله.

ولما تولى الحكم عبدالعزيز بن محمد بن سعود، سير الحملات، بقيادة ابنه، سعود، نحو الحدود النجدية مع العراق والأحساء. وأدرك عريعر بن دجين، أن الخطر يحيق بإقليم الأحساء. فقرر أن يقوم بعمليات عسكرية، ضد الدرعية، محاولة منه لإبعاد هذا الخطر عن بلاده.

ففي ربيع 1188هـ/1774م، شن عريعر هجوماً عاصفاً على منطقة القصيم، وركز هجومه في بلدة بريدة. ونجح في إقصاء أميرها، عبدالله بن حسن، وأسرته، الموالين للدرعية. وعين عليها راشد الدريبي، المناهض لآل سعود. وتشجع عريعر على مهاجمة الدرعية نفسها. إلا أنه توفي في الخابية، قرب النبقية، بعد شهرَين من انسحابه من بريدة.

ويعتبر موت هذا الزعيم من زعماء بني خالد، الحد الفاصل بين فترتَي القوة والضعف، في تاريخ بني خالد. إذ دب النزاع، بعده، بين أفراد الأسرة الحاكمة، وأدى إلى ضعف أمرائها وعدم سيطرتهم على أمور الجند والحكم في بلادهم.

وتولى، بعده، ابنه الأكبر، بطين، ولقي حتفه، مخنوقاً، في بيته، على يد أخوَيه، دجين وسعدون، ليخلفه دجين. وما لبث سعدون أن دس له السم، ليخلص له الحكم.

وكثف سعدون بن عريعر، في الأعوام التالية، من نشاطه ضد الدولة السعودية، ليحول دون قيام دولة قوية في نجد، ومؤملاً، من وراء ذلك، أيضاً، استعادة مكانة أسرته، أمام سكان الأحساء، بعد الضعف الذي حل بها، خاصة مع كثرة الفتن التي انتابتها.

ففي عام 1192هـ/1778م، تحالف مع زيد بن زامل الديلمي، أمير الخرج، للقيام بأعمال عسكرية ضد الدرعية. وفي عام 1193هـ/1779م، حاول سعدون، أن يحرض بعض البلدان النجدية، ضد نفوذ الدرعية، بالتحالف مع حرمة والزلفي. وهاجموا بلدة المجمعة، التي كانت تمثل مركز الحماسة للحكم السعودي. ولكن هذه الحملة، فشلت.

وفي عام 1195هـ/ 1781م، قدّم سعدون مساعداته العسكرية إلى أهل الدلم، ضد الحامية السعودية، الموجودة في حصن "البدع" السعودي. كما سار، في عام 1197هـ/1783م، بقواته، إلى منطقة القصيم، لمساعدة أهلها، ضد بريدة، الموالية لآل سعود. إلا أن جميع هذه المحاولات، لم تنجح في تحقيق أهدافها.

ورداً على العداء السافر من بني خالد لآل سعود، بدأت العمليات العسكرية السعودية، ضد الأحساء، على يد الإمام سعود بن عبدالعزيز، حينما سار، بقواته، في عام 1198هـ/1784م، حتى وصل قرية العيون، في الأحساء. فغنم جيشه الغنائم الكثيرة، وقفل راجعاً إلى بلاده.

وفي عام 1199هـ/1785م، واصل الإمام سعود عملياته الاستفزازية، ضد الأحساء. فاعترض قافلة لأهل الخرج، قادمة من الأحساء، فسلبها، وقتل رجالها. وكل هذه العمليات، كانت من قبيل الاستطلاع العسكري لقوة العدو.

ولما تفاقم الصراع داخل أسرة بني خالد، هُزم سعدون بن عريعر. هزمه زعماء أسرته، الذين استنجدوا بشيخ المنتفق، ثويني بن عبدالله. فلجأ سعدون إلى الدرعية. واستفاد الإمام عبدالعزيز بن محمد من الوضع المتردي في الأحساء، وأصدر أمره إلى قائده، سليمان بن عفيصان، بمهاجمتهما. فغزا بلدة الجشة، ثم ميناء العقير، وأشعل النيران فيه، بعد أن استولى على ما فيه من أموال.

وفي عام 1204هـ/ 1789م، جرت موقعة غريميل (جبل صغير، تحته ماء، قرب الأحساء) حيث التقت القوات السعودية، بقيادة الإمام سعود بن عبدالعزيز، قوات بني خالد، بقيادة عبد المحسن بن سرداح، وابن أخته، دويحس بن عريعر. وبعد نزال، استمر ثلاثة أيام، انهزم جيش بني خالد. وهرب عبد المحسن إلى المنتفق، وغنم الجيش السعودي غنائم كثيرة. واستعمل الإمام سعود زيد بن عريعر، أميراً على بني خالد.

وفي عام 1206هـ/ 1791م، تحرك الإمام سعود، بقواته، غازياً القطيف. وحاصر "سيهات"، وأخذها عنوة. ثم احتل بلدة "عنك". وقتل زيد بن عريعر، وإخوته، ورئيسَ بني خالد، عبد المحسن بن سرداح، بعد أن وعدوه بالأمان، فعاد إلى الأحساء من المنتفق، التي فرّ إليها، بعد وقعة "الغريميل"، فقتلوه في مجلسهم.

وظل الوضع العسكري كذلك، حتى عام 1207هـ/1792م. وقد توحدت أغلب بلدان نجد، تحت الحكم السعودي. فقويت شوكته وتعززت. وفي المقابل، ساءت الأحوال في الأحساء، التي آلت الأمور فيها إلى براك بن عبد المحسن بن سرداح. فسار الجيس السعودي نحو الأحساء، واشتبك مع أهلها في معارك عدة. وانكسر براك بن عبد المحسن، وجيشه، في معركة "الشيط"، شرقي "اللصافة". ودخل، على إثرها، الإمام سعود بن عبدالعزيز، بقواته، الأحساء. وبايعه أهلها على السمع والطاعة. وافتتح المساجد، وأقام العلماء لتدريس التوحيد وأصول الإسلام وشروطه. وفي الأحساء، أمر الإمام سعود بهدم القباب والأضرحة، ومظاهر الشرك. وعين محمد بن سليمان أميراً على القوات السعودية في الأحساء، ومحمد الحملي أميراً إدارياً في المنطقة. وعين حسين أبو سبيت مسؤولاً عن بيت المال في الإقليم.

لكن الأهالي في الأحساء، نقضوا العهد بعد عودة الإمام سعود إلى الدرعية. وقتلوا الأمير الإداري، محمد الحملي، وكذلك مدير بيت المال والوعاظ. وقدم زيد بن عريعر، وتزعم ثورتهم ضد الحكم السعودي.

وأرسلت الدولة، رداً على هذا العصيان، قوات ضخمة، بقيادة الإمام سعود، عام 1208هـ/1793م. فهاجم بلدة الشقيق واحتلها. ثم دخل بلدة القرين، ثم المبرز، وألحق الهزيمة بزيد بن عريعر. ثم نازل أهل الجبيل. وفي هذه الأثناء، عاد برّاك بن عبد المحسن، من المنتفق، وانضم إلى الإمام سعود، مناوئاً لخصمه زيد بن عريعر. وتوجه برّاك بنفسه إلى الدرعية، ليطلب من الإمام عبدالعزيز بن محمد الأمان لأهل الأحساء، فأجيب إلى طلبه، وانسحب الجيش السعودي، بعد أن بايعوا على السمع والطاعة.

وعلى الرغم من انقسام أهل المنطقة، بين مؤيد للدولة ومعارض، فقد تمكن برّاك بن عبد المحسن من فرض سيطرته على البلاد، بمساعدة النجدة السعودية، التي وصلته، بقيادة إبراهيم بن عفيصان. وانهزم أولاد عريعر من الأحساء. وصار برّاك نائباً فيها عن الأمير عبدالعزيز بن محمد. وزالت عنها ولاية آل حُميد، زعماء بني خالد عام 1208هـ، بزوال ولاية زيد بن عريعر.

وقد ثار أهل الأحساء، بتحريض من براك بن عبد المحسن نفسه. ولكن قضت على ثورتهم نجدة، قادها إبراهيم بن عفيصان، ثم قوات كبيرة، بقيادة الإمام سعود بن عبدالعزيز، الذي أخضعهم للحكم السعودي. وسميت بغزوة الرقيّقة، محلة بالهفوف، وذلك في أواخر عام 1210هـ/1796م. وعاد إلى الدرعية، ومعه عدد من زعماء بني خالد. وولى على المنطقة أميراً من عامة أهلها، يدعى ناجم بن دهينيم.

وكان لاستيلاء آل سعود على الأحساء نتائج مهمة منها:

أ. وصول حدود الدولة السعودية إلى الخليج العربي، وامتلاكها موانئ بحرية، مما يمكنها من الاتصال التجاري بالعالم الخارجي، وفتح باب للعمل لأنصارها.

ب. تحقيق ثروة من المحاصيل الزراعية والمواد الغذائية، التي تنتجها مزارع الأحساء الواسعة.

ج. انتشار الدعوة الإصلاحية بين سكان الأحساء، واكتساب أنصار جدد للدعوة، على حساب المذهب الشيعي، الذي كانت له السيادة هناك.

د. مجاورة حدود الدولة السعودية، لحدود الدولة العثمانية، التي تمثلها باشوية بغداد، وما يستتبع ذلك من احتكاك، سياسي وعسكري. وبداية علاقاتها بإمارات الخليج، مثل قطر وعُمان والبحرين والكويت.

هـ. إثارة اهتمام الدول الكبرى، ذات المصالح، التجارية والعسكرية، في الخليج العربي، مثل بريطانيا وإيران. 2. التوسع في الحجاز

لم يكن موقف أشراف الحجاز بأفضل من غيره، بالنسبة إلى الدولة السعودية الأولى، ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لما كان لأشراف مكة من نفوذ في بعض الأقاليم النجدية. وبرزت نقاط احتكاك بينهم وبين السعوديين.

وتمثل أول موقف عدائي، من قبل أشراف مكة، لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، في منع الشريف مسعود بن سعيد، أنصار دعوة الشيخ، من أداء فريضة الحج.

وسار خليفته، أخوه، الشريف مساعد، على نهجه. ولكن، في عام 1183هـ/ 1769م، عثرت كتيبة سعودية، في عالية نجد، على جماعة من الحجازيين، بقيادة الشريف منصور. وحين أحضروا إلى الدرعية، أكرمهم الإمام عبدالعزيز بن محمد، وأطلقهم، من دون فدية. وبعد ذلك، قدم الشريف منصور، ومعه إذن من شريف مكة للسعوديين، بالحج.

وفي عام 1185هـ/1771م، طلب الشريف أحمد بن سعيد، من قادة الدرعية، أن يرسلوا عالماً دينياً، ليوضح لعلماء الحجاز حقيقة ما يدعون إليه. فأرسلت الدرعية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الحُصّين، ومعه رسالة من الشيخ محمد بن عبدالوهاب، توضح مبادئ الدعوة (اُنظر ملحق رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والإمام عبدالعزيز بن محمد إلى شريف مكة).

ويمكن القول، إن الموقف، بدأ يسير إلى التحسن، حينما اقتنع الشريف، وعلماء مكة، بمبادئ الدعوة. ولم يدم ذلك طويلاً. فقد أبعد الشريف أحمد عن الحكم، وحل محله ابن أخيه، الشريف سرور بن مساعد. وفي عهده أرسلت الدرعية طلباً للشريف، كي يسمح للحجاج السعوديين بزيارة مكة، لأداء فريضة الحج. إلا أنه اشترط دفع ضريبة، مقابل هذه الزيارة، ما دعا السعوديين إلى رفض مطلبه. وبعد سنتَين، أي عام 1197هـ/ 1782م، دخل الحجاج السعوديون مكة، بعد أن تودد قادة الدرعية إلى الشريف سرور، بالهدايا الثمينة.

وحين توفي الشريف سرور، عام 1202هـ/ 1787م، خلفه أخوه، الشريف غالب بن مساعد بن سعيد. وبعد سنتَين، أراد الشريف أن يحدد سياسته تجاه الدولة السعودية، التي تحقق انتصارات في كل اتجاه، فطلب من الإمام عبدالعزيز، والشيخ محمد بن عبدالوهاب، أن يرسلا إليه عالماً، ليطلعه على حقيقة ما يدعوان إليه. فأرسلت الدرعية، مرة أخرى، العالم عبدالعزيز بن عبدالله الحُصّين، إلى مكة المكرمة، ومعه رسالة من الشيخ محمد بن عبدالوهاب. إلا أن المناظرات والمناقشات، لم تصل إلى حدّ إقناع الشريف غالب، وعلماء مكة المكرمة، بمبادئ الدعوة. فعاد إلى سيرة من قبله، فمنع الحجاج السعوديين من دخول مكة المكرمة، خوفاً من تسرب مبادئ دعوتهم. وبهذا، فإن حدّة التوتر، أخذت تزداد بين السعوديين والأشراف.

وكانت أول حملة عسكرية، جهزها الشريف غالب، عام 1205هـ/1790م، ضد الدولة السعودية، بقيادة أخيه، الشريف عبدالعزيز بن مساعد، وقوامها عشرة آلاف رجل، في طريقها إلى الدرعية. ووصلت إلى منطقة "السر"، وانضمت إليها قبيلتا شمر ومطير. وحاصرت حصن "قصر بسام"، الذي كانت فيه حامية سعودية قليلة العدد. ولم تستطع تلك الحملة اقتحام الحصن. وأقامت أربعة أشهر على هذا الحال.

وعلى الرغم من أن الدولة السعودية، كانت، في ذلك الوقت، ترمي بكل ثقلها، ضد بني خالد، في الأحساء، في الشرق ـ إلا أن الإمام عبدالعزيز بن محمد، أرسل قوة عسكرية، بقيادة الإمام سعود، وتحت إمرته مجموعة من أمراء المناطق، إلى رمحين. وأخذت هذه القوة تلاحق القوات الحجازية، التي انتقلت من منطقة "السر" إلى بلدة "الشعراء"، في عالية نجد، مما جعل الشريف عبدالعزيز، يطلب النجدة من أخيه، الشريف غالب، الذي جاء على رأس جيش حجازي، في رمضان 1205هـ / مايو 1791م، وحاصر بلدة الشعراء، لمدة شهر. ولكن مجيء هذا الجيش، لم يحرز أي نصر. فعادت القوات الحجازية إلى بلادها، خاصة أن موسم الحج، قد اقترب، ووجود الشريف في مكة، أمر ضروري. وقام الإمام سعود بن عبدالعزيز، عقب ذلك، بتأديب القبيلتَين، اللتَين انضمتا إلى حملة الشريف، مما أثار الفزع في نفوس القبائل الأخرى.

وقد نتج من فشل الغزوة الحجازية على الدولة السعودية، والانتصارات التي تحققت، وقتئذ، في الأحساء ـ ازدياد هيبة الدولة السعودية بين القبائل، التابعة للأشراف، فانضمت إليها.

وحاول الشريف غالب، أن يعيد إلى طاعته القبائل الحجازية، التي انضمت إلى الدرعية. فأخذ يرسل الحملات العسكرية ضدها، مما أدى إلى إضعاف جبهته.

وجمع الشريف قوات كبيرة، عام 1210هـ/1795م، بقيادة الشريف فهيد، وهاجم عشائر قحطان، الموالية للدولة السعودية، وعلى رأسها هادي بن قرملة، عند ماء ماسل، في عالية نجد. وأحدث فيهم مقتلة عظيمة.

وهذا الانتصار، جعل الشريف يرسل حملة أخرى، في العام نفسه، بقيادة الشريف ناصر بن يحيى، ضد هادي بن قرملة، وقبيلته، قحطان، في مكان قرب ماء الجمانية، في عالية نجد. ولما علم الإمام عبدالعزيز بن محمد بذلك، أرسل تعزيزات من بوادي نجد، عتيبة ومطير والسهول وسبيع والعجمان، ومن الدواسر، لمساندة قحطان، ضد هجوم الأشراف عليها. وجرى قتال عنيف بين الفريقَين، حققت فيه القوات السعودية، والمتحالفة معها، نصراً كبيراً.

لقد اغتنم الشريف غالب فرصة انشغال الدولة، في الشمال. فجهز حملة كبيرة، في شوال عام 1212هـ/ مارس 1798م، ضد القبائل، التي اعتنقت الدعوة، وأيدت الدولة السعودية، في مناطق رنية وبيشة وتربة. ونزل بقواته في بلدة "الخرمة". وقد حقق جيش الشريف، في بداية الأمر، انتصاراً على القبائل المؤيدة للدعوة. فأرسلت الدولة مدداً، تقابل مع جيش الشريف، في الخرمة. وبعد قتال شرس، انهزم جيش الشريف، تاركاً غنائم كثيرة.

وعلى إثر هذه الواقعة، طلب الشريف غالب الصلح مع الدولة السعودية. واتفق الطرفان على عقد هدنة، مدتها ستة أعوام، يسمح، خلالها، للسعوديين بالحج. واتفقا على تحديد القبائل التابعة لكل منهما.

وخرق هذا الصلح، عام 1217هـ / 1802م، بسبب انضمام بعض القبائل، الموالية للشريف، إلى الدولة السعودية. فأرسل الشريف وفداً مفاوضاً إلى الدرعية، برئاسة صهره، ووزيره، عثمان بن عبدالرحمن المضايفي. وبعد عودة عثمان المضايفي إلى الحجاز، شق عصا الطاعة على الشريف، وأعلن الانضمام إلى الدولة السعودية. وكان هذا كسباً للدولة، وعامل ضعف في قوة الشريف غالب. واتخذ عثمان المضايفي من بلدة العبيلاء، بين تربة والطائف، مركزاً له، وانضمت إليه القبائل الحجازية التي لا تميل إلى شريف مكة. ولما هاجمه الشريف غالب، تمكن من صده. وسارعت إليه نجدة من القبائل الموالية للسعوديين. فزحف على الطائف، واستولى عليها، بعد انسحاب الشريف غالب إلى مكة المكرمة، عام 1217هـ / 1802 م. وعينت الدرعية المضايفي أميراً، من قبلها، على الطائف والمناطق التابعة لها.

وبعد الاستيلاء على الطائف، قرر الإمام سعود وضع حد للصراع مع الشريف. ولهذا اتجهت قوات الدرعية، بقيادته نحو الحجاز. وانضم إليها عثمان المضايفي، بقواته، في الطائف. وزحفت الجيوش السعودية نحو مكة، وكان ذلك قبيل موسم الحج، عام 1217هـ/1803م. وكاتب الشريف غالب الدولة العثمانية، يستنجدها. ولكنه، لم يجد له مجيباً. وحاول إغراء الحجاج، ودفعهم إلى محاربة السعوديين معه. وقد انتظر الإمام سعود، بجيشه، حتى انقضى الحج، وانصرف الحجاج إلى بلادهم. ولما شعر الشريف غالب بعدم قدرته على مقابلة هذا الجيش، ترك مكة، وتوجه إلى جدة، تاركاً الأمر في مكة لأخيه، الشريف عبدالمعين بن مساعد، الذي أعلن طاعته، واستعداده لتسليم مكة، على أن يبقى في شرافتها. فقبل الإمام سعود، الذي كان يعسكر في وادي السيل، بين مكة والطائف. وهكذا، دخل السعوديون مكة، في محرم 1218هـ/1803م. وقرئ على منبر الحرم الشريف، كتاب الأمان العام لأهل مكة (اُنظر ملحق نص كتاب الأمان من الإمام سعود بن عبدالعزيز إلى وفد الشريف عبد المعين). وأمر بتطبيق مبادىء الدعوة الإصلاحية، وتدريسها في حلقات الدرس، في الحرم. وهدمت القباب والشواهد على القبور.

وزحف الإمام سعود إلى جدة، وحاصرها. ولكنه عجز عن دخولها، لمناعة أسوارها. فرفع عنها الحصار، وعاد إلى الدرعية، بعد أن رتب حامية سعودية في مكة. وبعد رحيل القوات السعودية، هاجم الشريف غالب مكة، فدخلها، من دون مقاومة، عام 1218هـ/1803م. وأعطى الأمان للحامية السعودية. ثم تقدم إلى الطائف، فحاصرها، وكان فيها عثمان المضايفي وأتباعه.

وأثناء ذلك، اغتيل الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، على يد أحد الأكراد، في الدرعية، عام 1218هـ/1803م. وبويع ابنه، سعود، أميراً للدولة السعودية.

ولما وصل نبأ استعادة الشريف غالب مكة، أمر الإمام سعود بن عبدالعزيز ببناء قلعة عسكرية، في وادي فاطمة، لتكون نقطة رصد ومراقبة لتحركات الشريف غالب، اكتملت في عام 1220هـ/1805م . وأصدر أوامره إلى عبدالوهاب أبو نقطة، أمير ألمع وعسير ونواحي تهامة، الموالين للدولة السعودية، بأن يسير إلى جدة، ليكون قائداً عاماً للجيوش السعودية، المعدة لحرب الشريف. ثم أرسلت الدرعية قوات كبيرة، صوب مكة، فحاصرتها، وسدت على الشريف جميع الطرق، مما أثر في الوضع الاقتصادي فيها. فأدرك الشريف غالب، أنه لا طاقة له بالصمود. واضطر إلى طلب الصلح، على أن يبقى في إمارته على مكة، تابعاً للدرعية. وبهذا، دخلت مكة تحت الحكم السعودي. وفي العام نفسه، تقدمت القوات السعودية نحو المدينة المنورة، فدخلتها. وتم، بذلك، للسعوديين، الاستيلاء على الحجاز.

وبدأت الدولة السعودية بممارسة سلطتها في الحجاز. فأصدرت أوامرها بمنع دخول المحمل الشامي، القادم للحج، بقيادة عبدالله باشا العظم، في عام 1221هـ/1806م.

ولأن الدولة العثمانية، لم تكن راضية عن الشريف غالب، فلم تلتفت إلى طلبه العون منها، ضد الهجمات السعودية. ولم تأخذ تحذيراته لها مأخذ الجد.

يقول أحمد زيني، المؤرخ الحجازي المعاصر، في كتابه، "خلاصة الكلام في أمراء البيت الحرام"، الصفحة 266 ما يلي:

"أرسل مولانا الشريف غالب، للدولة العليا، يخبرهم بظهور أمر الوهابية. وأرسل، لذلك، السيد محسن بن عبدالله الحمود، والسيد حسيناً، مفتي الملكية. فلم تكترث الدولة لهذا، ولم تلتفت إليه".

ومن نتائج ضم الحجاز إلى الدولة السعودية:

أ. امتداد حدود الدولة، من الخليج العربي حتى ساحل البحر الأحمر، مما أعطاها، بعداً جغرافياً وسياسياً، كبيراً.

ب. توقف حملات الحج، القادمة من بعض الدول الإسلامية، لعدم رضا زعمائها عن الإجراءات السعودية في الحج، مثل منع الطبول والمزامير، والاحتفالات المصاحبة لتلك المحامل.

ج. اتخاذ الدولة العثمانية موقفاً حازماً من النفوذ السعودي، بعد دخول الدولة السعودية الطائف ومكة والمدينة، وتبعية جدة لها. ومن هنا، بدأ احتكاك الدولة العثمانية بالدولة السعودية، من طريق ولاتها في الشام، في محاولة للقضاء عليها. ولما أيقنت الدولة العثمانية، أن ولاة الشام، لا يستطيعون عمل أي شيء، كما حصل مع ولاة بغداد، من قبل، قررت الاتصال بواليها، محمد علي باشا، في مصر.

ويمكن القول، إن الدولة العثمانية، ظلت تواجه الدولة السعودية الأولى، مواجهة غير جادة، بل ظلت تركز في حصر الدولة السعودية في إقليم نجد. إلا أن هذا الموقف تغير تماماً، بعد وصول القوات السعودية إقليم الحجاز. وعدّت هذا التوسع السعودي خطراً وتحدياً، دينياً وسياسياً، لزعامتها. فقد فقدت تبعية المناطق، التي دخلتها الدولة السعودية، من جهة. وبذلك خسر السلطان العثماني لقب "الحرمَين الشريفَين"، الذي كان يمنحه مركزاً دينياً مهماً، في جميع أنحاء العالم الإسلامي، من جهة ثانية. ولذا، فإن رد الفعل العثماني، تجاه هذا الموقف، اتصف بالعنف. ويختلف في مرحلته هذه، عن مراحل النزاع العثماني ـ السعودي السابق، الذي جرى في أطراف العراق. 3. التوسع في جهات عسير وجازان ونجران أ. عسير

بدأ نشاط السعوديين في عسير، في عام 1211هـ/1796م، حينما أرسلوا جيشاً، بقيادة ربيع بن زيد الدوسري، فأغار على جماعات من شهران. وسار في العام التالي(1212هـ) إلى بيشة، وحاصرها، حتى بايع أهلها على السمع والطاعة للدولة السعودية. مما حدا بالشريف غالب، أن يجهز حملة كبيرة، في العام نفسه. واستعاد البلدة. وفي طريق عودة الشريف من بيشة، واجهته القوات السعودية، في الخرمة، فهزمته.

وفي عام 1213هـ/ 1798م، أعاد ربيع بن زيد الدوسري الكرة، مهاجماً بيشة، واستولى عليها. وصارت تابعة للحكم السعودي. وعين الإمام عبدالعزيز بن محمد أحد زعماء تلك المنطقة، وهو سالم سكبان، أميراً عليها. وصار الطريق ممهداً، أمام الدولة السعودية، لنشر نفوذها نحو الجنوب. وقد أدى اقتناع عبدالوهاب أبي نقطة، وأخيه، محمد، من زعماء عسير، بالدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب، إلى انضمام منطقة عسير إلى الدولة السعودية.

ولقد أسهم عبدالوهاب أبو نقطة بجهود عظيمة، في دخول القوات السعودية الحجاز، وامتدادها في الجهات الجنوبية الغربية من شبه الجزيرة العربية. ب. المخلاف السليماني (جازان)

وصلت أخبار الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب، إلى منطقة المخلاف السليماني، في الفترة التي وصلت فيها إلى اليمن. ولكن بداية انتشارها الفعلي، كان في عام 1215هـ/1800م، على يد أحمد بن حسين الفلقي، من أهالي صبيا، وعلى يد عرار بن شار، أمير بني شعبة. ولقد التقى الفلقي أتباع الدعوة السلفية، في موسم الحج، عام 1214هـ/1799م. وأعجب بما يدعون الناس إليه. ثم وفد إلى الدرعية، لمزيد من العلم، وللاتصال بزعمائها. وعينه الإمام عبدالعزيز بن محمد داعية له في بلاده. ووفق الفلقي في نشر الدعوة بين السكان. ولكن، ظهر بين الزعماء المحليين من عارض هذه الدعوة. فنشب القتال بين المؤيدين والمعارضين، مما دعا الدولة السعودية إلى إرسال تعزيزات لمؤيديها.

وكان هناك تنافس في إمارة أبي عريش، بين الأمير على بن حيدر، وعمه، الشريف حمود بن محمد، المعروف بأبي مسمار، الذي دعم معارضي الدعوة الإصلاحية، بما حقق لها النصر. ولما رحلت التعزيزات السعودية عن منطقة المخلاف السليماني، تغلب الشريف حمود على أخيه، وتولى إمارة أبي عريش. فبدأ بمقاومة النفوذ السعودي، في منطقته، بمحاربة أتباع الدعوة حتى أضعفهم.

فهبت الدولة السعودية، ترسل نجدات من عسير، بقيادة عبدالوهاب أبي نقطة. ولإدراك الشريف حمود عدم قدرته على الصمود أمام هذه القوات، طلب العون من إمام صنعاء، الذي فضل البقاء خارج هذا الصراع. وأمام هذا الخذلان له، من إمام صنعاء، اضطر الشريف حمود إلى إعلان طاعته للدولة، وتمسكه بمباديء الدعوة، وأبقي أميراً على منطقته، مع ربطه، إدارياً، بأمير عسير وتهامة، عبدالوهاب أبي نقطة.

ولكن الشريف حمود، وجه قواته نحو الأراضي اليمنية، رداً على خذلان إمام صنعاء له. واستولى، في حملته تلك، على مور واللحيّة. وبعد هذا النجاح العسكري، أرسل إلى زعماء الدرعية، يطلب منهم استقلاله، إدارياً، عن إمارة عسير، فأجيب إلى طلبه.

هذا الانفصال الإداري، أدى إلى نشوب صراع بين أمير عسير، أبي نقطة وأمير أبي عريش، الشريف حمود. وعلى الرغم من محاولة الدرعية للصلح بينهما، إلا أن ذلك التنافس استمر، وبقي الوضع الإداري للأميرَين كما هو.

واستطاع الشريف حمود، أن يضم مناطق من الأراضي اليمنية إلى النفوذ السعودي، مثل الحديدة وزبيد. وتوغلت قواته إلى قرب عدن، في الجنوب.

وطلب الإمام سعود بن عبدالعزيز، من الشريف حمود، مهاجمة صنعاء. ولكنه تقاعس، بحجة صعوبة الهجوم عليها، وخشيته من هجوم أمير عسير عليه، من الخلف.

هنا، قام الإمام سعود بالإيعاز إلى عبدالوهاب أبي نقطة، بمهاجمة الشريف حمود. فزحف بقواته إلى المخلاف السليماني. ودارت بينهما معركة عنيفة، عام 1224هـ/ 1809م، قتل فيها أبو نقطة. وبعد أن حققت قواته النصر، انسحب الشريف حمود إلى قلعة أبي عريش.

وتولى إمارة عسير طامي بن شعيب. وتمكن من انتزاع اللحية والحديدة، من الشريف حمود، الذي طلب الصفح من الإمام سعود، على أن يتنازل له عن بعض المناطق التابعة له، ويدفع خراجاً سنوياً إلى خزينة الدولة السعودية. فوافق الإمام سعود على ذلك الطلب، عام 1226هـ/ 1811م.

وعلى الرغم من أن النفوذ السعودي، امتد إلى المخلاف السليماني، إلا أن الوضع هناك، ظل قلقاً، ومضطرباً، بين مد وجزر. ج. العلاقة بنجران

ساءت العلاقة بين الدولة السعودية وزعماء نجران، المكارمة، في وقت مبكر، بسبب دعمهم للمعارضين للدعوة، وللحكم السعودي. وشكلت القوات النجرانية تهديداً للدولة السعودية، في أكثر من موقعة. فلما اتجه الإمام عبدالعزيز بن محمد، بقوات الدرعية، في رمضان 1177هـ/ مارس 1764م، إلى "قذلة"، لتأديب العجمان على مهاجمتهم قبيلة سبيع، الموالية للدولة، وانتصر عليهم، اتصلوا بحاكم نجران، حسن بن هبة الله المكرمي، الشيعي المذهب، وطلبوا منه مساعدته ضد الدرعية. وجمع حاكم نجران جيشاً كبيراً، وسار به إلى الحائر، جنوب وادي حنيفة. وشدد الحصار عليها. ولما علمت الدرعية بهذا الهجوم، أرسلت جيشاً كبيراً، قاده الإمام عبدالعزيز بن محمد. فانهزم جيش الدرعية، وقتل منه حوالي أربعمائة محارب. ووقع من رجاله في الأسر ثلاثمائة، وكان ذلك في ربيع الآخر عام 1178هـ/ سبتمبر 1764م. ولقد استطاع السعوديون عقد صلح مع حاكم نجران، استعادوا بموجبه الأسرى.

وفي سنة 1202هـ/1787م، استنجد المعارضون للدولة السعودية، في وادي الدواسر، برئيس نجران، فأمدهم بنجدة، هو على رأسها. ولكنه انسحب أمام صمود مؤيدي الدولة.

وفي عام 1210هـ / 1795م، غزا مبارك بن هادي بن قرملة، نواحي نجران، وقاتل باديتها، وانتصر عليهم.

وفي عام 1220هـ/1805م، غزت نجران قواتٌ سعودية ضخمة، بقيادة عبدالوهاب أبي نقطة، أمير عسير، وفهاد بن شكبان، زعيم بيشة، وإبراهيم بن مبارك، رئيس الوداعين، من الدواسر. ووقع قتال شديد من جيش السعوديين. وعادت القوات إلى بلادها، بعد أن بنى عبدالوهاب أبو نقطة، هناك، قصراً، ووضع فيه مرابطين، لمضايقة النجرانيين، عسكرياً واقتصادياً.

وفي عام 1224هـ/1809م، حارب النجرانيون مع الشريف حمود أبي مسمار، ضد عبدالوهاب أبي نقطة.

وعلى الرغم من أن زعماء نجران، أرسلوا ممثلاً عنهم إلى الإمام سعود بن عبدالعزيز، وأن الإمام أرسل إليهم رسالة مع ممثلهم، شرح لهم فيها مبادئ الدعوة، وما تسير عليه الدولة السعودية ـ إلا أن منطقة نجران، لم تخضع للحكم السعودي خضوعاً تاماً.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الرابع: العلاقات السعودية بالقوى، الإقليمية والأجنبية

أولاً: العلاقات السعودية ـ الإقليمية، في الجزيرة العربية

بعد أن أخضعت الدولة السعودية الأحساء، أصبحت تشرف على مياه الخليج العربي. ومنها انطلقت لكي تنشر مبادئ الدعوة الإصلاحية في المناطق الواقعة على الخليج، والاستفادة من الإمكانات التجارية الواسعة، التي تموج بها. وأصبحت الدولة السعودية، بعد دخولها الأحساء، قوة وطنية محلية، تصارع القوى السياسية الأخرى في المنطقة. وقد اتجهت أنظار الدولة، أولاً، نحو قطر، بإيعاز من القائد السعودي، إبراهيم بن عفيصان. 1. العلاقات السعودية بقطر

يسكن قطر ثلاث قبائل عربية، هي آل مسلم، ويسكنون في قرى فريحة والقويرط؛ وآل أبي حسن، ويقيمون باليوسفية؛ والمعاضيد، ويسكنون في الرويضة والطبيخ. ثم استقر المقام بآل خليفة، من العتوب[1]، في الزبارة، على الساحل، تجاه البحرين، بعد أن انفصلوا عن التحالف، الذي كان قائماً بينهم وبين آل صباح والجلاهمة، عام 1128هـ/1716م.

وكان إبراهيم بن عفيصان، هو القائد السعودي الأول، الذي غزا قطر، في أواخر عام 1207هـ/1793م. واستطاع إخضاع معظم قراها: فريحة والحويلة واليوسفية والرويضة، وغيرها. وكتب إلى الدرعية، يطلب السماح له بمهاجمة الزبارة، فجاءته الموافقة من الإمام عبدالعزيز بن محمد. وحاصر إبراهيم بن عفيصان فيها العتوب (آل خليفة وجماعتهم). وشدد هجماته عليها، حتى استولى على قلعتها. فاضطر العتوب إلى الرحيل، وساروا إلى البحرين، بوساطة البحر، مقتنعين بأن رحيلهم هذا، ما هو إلا رحيل مؤقت، يدوم لفترة قصيرة، هي فترة بقاء القوات السعودية في قطر، ظناً منهم، أن الحكم السعودي فيها لم يتعد كونه حملة عابرة، بعدها، تنسحب القوات السعودية، وعندها، يعود العتوب إليها، ثانية. وهكذا، دخل السعوديون قطر، التي أصبحت جزءاً من الدولة السعودية الأولى، التي أخذت تنشر فيها مبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. 2. العلاقات السعودية بالبحرين

كانت جزيرة البحرين تحت سيادة آل خليفة، الذين كانوا يقيمون بالزبارة، في قطر. ومنها كانوا يديرون شؤون الجزيرة، منذ عام 1196هـ/1782م. وقد تركوا الزبارة، على أثر دخول القائد السعودي، إبراهيم بن عفيصان إليها، وتوجهوا إلى البحرين. وسكن سليمان آل خليفة وأسرته، في قرية جوا، في البحرين، عام 1212هـ /1797م. ولم تدم إقامتهم بها؛ لأن البحرين، خضعت لحكم السيد سلطان بن أحمد، حاكم مسقط، عام 1215 هـ/1800م. وعين أخاه، سعيداً، حاكماً عليها من قبله. واضطر آل خليفة إلى العودة إلى بلدتهم القديمة، "الزبارة"، بعد أن أعطاهم آل سعود الأمان.

وقد طلب آل خليفة من الإمام سعود بن عبدالعزيز، مساعدتهم على استرجاع البحرين من حاكم مسقط. فسارع إلى إرسال جيش، بقيادة القائد إبراهيم بن عفيصان، استولى على البحرين، وطرد قوات حاكم مسقط منها، عام 1224هـ/1809م. لكن إبراهيم بن عفيصان، لم يسلم زمام الأمور فيها لآل خليفة، بل أعلن ضمها إلى آل سعود. وحينما حاول آل خليفة إجلاء القوات السعودية عن البحرين، ردت هذه القوات بمهاجمة الزبارة، وساقت رؤساء آل خليفة، كرهاً، إلى الدرعية. وعُين فهد بن سليمان بن عفيصان، قائداً للحامية السعودية في البحرين، وعُين إبراهيم بن عفيصان أميراً عليها.

ولم يستسلم آل خليفة، وطلبوا المساعدة من سعيد، حاكم مسقط، ومن الفرس، وأقاربهم من العتوب. وهاجموا الحامية السعودية في البحرين، وطردوا أميرها، إبراهيم بن عفيصان ورجاله. واعتقلوا قائد الحامية، فهد بن سليمان بن عفيصان، ومعه ستة عشر رجلاً من السعوديين، واتخذوهم رهينة حتى تطلق الدرعية آل خليفة المعتقلين فيها.

وقد حاول إبراهيم بن عفيصان، بمساعدة رحمة بن جابر الجلاهمة (من العتوب)، استرداد البحرين. إلا أنه فشل في ذلك، وحلت الهزيمة بقواته، في واقعة خكيكيرة، عام 1225هـ/1810م. واضطر الإمام سعود بن عبدالعزيز إلى إطلاق زعماء آل خليفة، وعادوا إلى البحرين. ولم يعاود السعوديون محاولاتهم غزو البحرين، لانشغالهم بالحروب، ضد قوات محمد علي باشا، في الحجاز.

ولهذا، فإن الحكم السعودي في البحرين، لم يكن حكماً مستقراً. كما أن قبضة الدولة السعودية على البحرين، لم تكن كقبضتها على قطر. وهذا له من الأسباب ما يبرره. منها صعوبة المواصلات البحرية، وقتذاك، وبخاصة أن الدولة السعودية، لم يكن لديها أسطول بحري عسكري؛ وإنما كانت تستخدم مراكب الغوص، إذا دعت الضرورة إليها. أما قطر، فهي امتداد طبيعي للأحساء. ولا توجد بينهما حواجز طبيعية، كما هو الحال مع البحرين. إضافة إلى الخلاف المذهبي، بين أتباع الدولة السعودية، وبعض سكان البحرين الشيعة، بعكس قطر، التي يعتنق سكانها المذهب الحنبلي، السائد في الدولة السعودية. هذا إلى جانب أهمية موقع البحرين، ومدى التنافس، الدولي والمحلي، فيه. 3. العلاقات السعودية بالكويت

تتمتع الكويت[2] بأهمية تجارية ممتازة. فهي مفتاح الخليج العربي، في الشمال. تتحول إليها جميع السفن، التي تحمل البضائع، القادمة من الهند إلى بغداد، أو إلى بلاد الشام، أو إلى الأناضول.

وغدت الكويت مركزاً، يقيم به ممثل شركة الهند الشرقية البريطانية، بعد أن نقل مركزه من البصرة. وهي، كذلك، من أكبر مراكز تجمع البضائع، التي ترد إلى نجد ومناطق غربي شبه الجزيرة.

كانت الكويت تتبع حكم بني خالد، وتسمى كوت بني عريعر، قبل قدوم آل صباح، العتوب، إليها. وتختلف المراجع في تحديد عام التأسيس. ومن التواريخ التي تذكرها المصادر، الأعوام التالية: 1701، 1702، 1712، 1713، 1716. وقد ظل العتوب تابعين لبني خالد، حتى ضعفت سيادة بني خالد على الأحساء والمنطقة التابعة لها. وقام الشيخ صباح بسفارة إلى الباشا العثماني، في بغداد، ليوضح له أنهم نزحوا طلباً للرزق، ولا يريدون ضرراً بأحد. وطلب منه إقرارهم على حكم الكويت، مقابل إعلانهم التبعية السياسية للدولة العثمانية، تحت إمرة والي بغداد. وهكذا، نجح جد آل صباح في إقناع والي بغداد، بقبول سيادتهم على الكويت، تحت تبعية الدولة العثمانية.

وكان هناك حلف ثلاثي بين آل صباح وأقاربهم، آل خليفة، والجلاهمة، عام 1159هـ/1746م، أساسه أن يُعهد بشؤون الحكم إلى آل صباح، وشؤون التجارة والمال إلى آل خليفة، وشؤون العمل في البحر إلى الجلاهمة. على أن توزع الأرباح والواردات على المتحالفين، بالتساوي.

وأدركت الدولة السعودية أهمية الكويت، التي تعد ميناء لتموين نجد. فقاد القائد إبراهيم بن عفيصان، في عام 1208 هـ/1793م، حملة عسكرية، يبدو أنها بسبب إيوائها زعماء بني خالد، الفارين من آل سعود. وقد غنم إبراهيم بن عفيصان الغنائم الكثيرة في هذه الحملة. لكنه لم يكن في مقدوره، أن يخضع الكويت للسيادة السعودية. وقد ردت الكويت على الحملة بإرسال سرية، للانتقام من آل سعود، بمهاجمة القبائل النجدية، المتاخمة لحدودها. إلا أن هذه الحملة، لم تعط النتائج، التي أرادتها الكويت، وعادت دون أن تفعل شيئاً. كما تعاون الكويتيون مع حملة رئيس المنتفق، ثويني بن عبدالله، ضد الدولة السعودية، عام 1212هـ/1797م.

وتحت ضغط التهديد السعودي على للكويت، من جهة، وهجوم قبائل المنتفق عليها، من جهة أخرى. اضطر آل صباح إلى أن يحيطوها بسور منيع، حتى تستطيع صد الحملات العسكرية، الموجهة ضدها، وذلك عام 1213هـ/1798م.

وقاد الإمام سعود بن عبدالعزيز حملة عسكرية ضد الكويت، عام 1219 هـ/1804 م. وعسكر بقواته في قرية الجهراء. ولكنه انسحب، قبل أن يشتبك الكويتيين مع أهالي الكويت. وكان الإنجليز يراقبون الموقف عن كثب، فاستغلوا هذه الأحداث، ليعرضوا حمايتهم على حاكم الكويت، الأمير عبدالله الأول آل الصباح، عام 1220هـ/1805م. إلا أن هذا الأمير، رفض العرض الإنجليزي، وآثر الاستقلال، مع الاحتفاظ بالتبعية العثمانية، من طريق ولايتَي بغداد والبصرة. 4. العلاقات السعودية بعُمان

إقليم عُمان، يحتل قسماً كبيراً من شبه جزيرة العرب. يقع بين ساحل خليج عُمان وساحل شبه الجزيرة العربية الشرقي وساحلها الجنوبي، في اتجاه جزيرة مصيرة. وينقسم إلى ثلاث مناطق رئيسية، هي: الظاهرة، وأهم مدنها نزوى وبهلى وبلدان جعلان؛ والحجر، وفيه مدن وقرى كثيرة، مثل رستاق والجبل الأخضر وسمائل وأزكى؛ وما يلي البحر، يسمى الباطنة، وفيه بلدان صحار وشناص ومضلعة، ومسقط، عاصمة أئمة عُمان.

وتقطن في عُمان مجموعة قبائل، هي: بنو ياس،المناصير، العوامر، النعيم، العجمان، بنو كتب، بنو كعب، الدروع، آل وهيب، بنو مهير، المطاريش. وانقسم هؤلاء السكان إلى طائفتَين، هما:

· القبائل الهناوية، وتنتمي إلى مذهب الإباضية.

· القبائل الغفارية، وتنتمي إلى أهل السُّنة.

ولما وصل نفوذ الدولة السعودية الأولى منطقة الأحساء، بدأت تتطلع إلى نشر مبادئ دعوتها في عُمان. فأمر الإمام عبدالعزيز بن محمد قائده، مطلق المطيري، بغزو عُمان الصير، حيث تقطن قبيلة بني ياس. إلا أن مطلق المطيري، لم يوفق في الاستيلاء على المنطقة. عندها، رأى الإمام السعودي، أن يكل الأمر إلى قائده، إبراهيم بن عفيصان، الذي قاد معظم الحملات السعودية، في نواحي شرقي شبه الجزيرة. فقاد جيشاً كبيراً إلى منطقة عُمان الصير، ضد بني ياس. وقاتلهم، حتى طلبوا الأمان من الدرعية. ثم تبعتهم قبيلة نعيم، التي تقطن في البريمي.

لقد أرسلت الدرعية إليهم عالماً، ليعلمهم أمر الدين ومبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ويدرسهم مؤلفاته، ككتاب التوحيد وغيره.

وكانت هاتان القبيلتان من القبائل الغفارية، السُّنية، التي قد ترى في قوة آل سعود ما يعينها على صراعها ضد القبائل الهناوية الإباضية.

تقدم إبراهيم بن عفيصان إلى واحة البريمي، عام 1210 هـ/1795 م. وبنى فيها قصر الصبارة، في منتصف الطريق، الواصل بين البريمي وحماسا، ليكون قاعدة للقوات السعودية في المنطقة.

وأرسلت سلطات الدرعية القائد سالم بن بلال الحرق، إلى منطقة البريمي، عام 1214هـ/1800م، أميراً عليها، بدلاً من ابن عفيصان. وسيطرعلى واحة البريمي، وبدأ يوسع نفوذ الدولة السعودية في عُمان، بين القبائل القريبة من البريمي، في اتجاه الساحل. ومن ثم، فإن جميع قبائل، النعيم والظواهر وبني قتب، خضعت للدولة السعودية، ودفعت إليها الزكاة. وحذت حذوها قبيلتا بني علي وبني راسب.

هكذا، امتد نفوذ الدولة السعودية الأولى إلى عُمان والساحل، مما أثار القبائل الهناوية ضد القبائل الغفارية، المؤيدة لآل سعود، والمدعومة من قبلهم.

وتحت ضغط العمليات العسكرية السعودية المتواصلة، في عُمان، وبخاصة تلك الحملات، التي وصلت إلى سهل الباطنة ـ اضطر السيد سلطان بن أحمد، حاكم عُمان، إلى أن يطلب الصلح من الإمام عبدالعزيز بن محمد، قبيل اغتياله. وعقدت هدنة، مدتها ثلاث سنوات. وقُدِّرت الإتاوة السنوية، التي سيدفعها السيد سلطان، بخمسة آلاف ريال، سنوياً، وذلك نظير حماية أراضيه.

وتجدر الإشارة إلى أن السيد بدر بن سيف البوسعيد، الذي خلف السيد سلطان، في حكم البلاد، كان قد أيد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، قبل أن يتولى الحكم وبعده. إلا أن هذا الموقف لم يعجب أسرة آل بوسعيد، الذين ثاروا عليه وقتلوه، عام 1221هـ / 1806م. وتولى أمر عُمان، من بعده، السلطان سعيد بن سلطان، الذي حارب القوات السعودية. وكان يساعده على موقفه، ابن عمه، قيس بن أحمد. وكان هم سعيد أن يخرج القوات السعودية من عُمان، وأن لا يدفع الزكاة إلى الدولة السعودية. لكن قوات الأمير مطلق المطيري، ردت الهجوم، وهزمت قوات حاكم عُمان. وقتل قيس بن أحمد، في موقعة خور، على ساحل خليج عُمان. وبعد فشل حاكم مسقط في هذه الموقعة، صارت الطريق مفتوحة أمام القوات السعودية، لدخول جميع عُمان والسيطرة عليها. وقد استفاد مطلق المطيري من هزيمة حاكم مسقط وأتباعه، فتقدم ودخل مطرح، وواصل زحفه، حتى وصل مدينة مسقط نفسها. وأعلن معظم مدن عُمان وقراها وبلدانها، الخضوع للسيادة السعودية.

وقد عاد حاكم عُمان، السلطان سعيد بن سلطان، إلى دفع الإتاوة إلى الدولة السعودية، في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز.

وقد أثارت هذه الأحداث مخاوف بريطانيا على مصالحها في الخليج العربي. فأرسلت قوة بحرية، جاءت من الهند، واستولت على رأس الخيمة، عام 1224هـ/1809م . وتحت إلحاح من حاكم مسقط، قامت هذه القوة البحرية الإنجليزية ببعض أعمال التهديد العسكرية، في ميناء شناص، ثم عادت إلى الهند.

وقد تحدى القائد السعودي، مطلق المطيري، هذه الإجراءات. فهاجم قوات حاكم مسقط، وأنزل بها هزيمة، قرب شناص. ثم قام ببعض الأعمال العسكرية الخاطفة، في سهل الباطنة. وعاد، بعدها، إلى قاعدته، في البريمي.

وتواصلت الأعمال العسكرية السعودية، في إقليم عُمان. ففي عام 1225هـ/1810م، خرج ثلاثة من أبناء الإمام سعود بن عبدالعزيز، تركي وناصر وسعد، إلى عُمان، من دون علم والدهم. وانضموا إلى قوات مطلق المطيري. وتمكنوا، بمساعدة من قبائل الظواهر والجنبة وبني قتب والدروع، من القيام ببعض العمليات الحربية، والاستيلاء على مطرح، قرب الساحل، وعلى خلفان وجعلان وصور وصحار. وكان لهذه الأعمال أثر سيء في نفوس العُمانيين، مما جعل قبيلة بني ياس، تنقض عهدها مع الدرعية، وتثور على الحامية السعودية، وتفتك بها. فأرسل الإمام سعود قائده، مطلق المطيري، مرة أخرى، إلى عُمان، وأنزل الهزيمة بقوات سعيد بن سلطان. واستمر هذا القائد في عملياته الحربية، لإخماد الاضطرابات، إلى أن قتل، في جعلان، عام 1228هـ/1813م. وشغلت الدولة السعودية، عند ذاك، بقدوم قوات محمد علي باشا إلى الحجاز، مما دفع قواتها إلى التمركز في البريمي.

وعلى أي حال، فقد أسفرت هذه الجهود السعودية، عن اعتناق القبائل العُمانية، السُّنية، الدعوة الإصلاحية. وهي قبائل: النعيم وبني ياس وآل علي والعوامر وبني قتب وبني كعب والهشم والجنبة وبني راسب والقواسم. ونالت الدولة مكاسب مادية كبيرة، من الزكاة وغيرها[3]. وأقامت في المنطقة القرى والقصور والمساجد، وغير ذلك من المعالم، التي ما زالت باقية إلى يومنا هذا، في المنطقة. 5. علاقة الدولة السعودية ببقية بلدان ساحل الخليج العربي

إن دخول قبيلة النعيم العُمانية، في طاعة الدولة السعودية، وتطبيقها مبادئ دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، في المنطقة ـ كان قد عزز النفوذ السعودي في ساحل عُمان. وبدأ السعوديون بإقناع القبائل الأخرى في المنطقة بالإنضمام إليهم. ووجهوا نداءهم، إلى القواسم سكان رأس الخيمة، من طريق إقناع رئيسهم، الشيخ صقر بن راشد. إلا أنه رفض هذا النداء. وحينما لجأت الدولة إلى محاربته من طريق قبيلة النعيم، قاومها، وصمد في مقاومته. فأرسلت الدولة السعودية قوات عسكرية، بقيادة مطلق المطيري، حاصرت رأس الخيمة، وقطعت الطريق بين المدينة ومزارع نخيلها، فصار كالحصار الاقتصادي عليها. وظل المطيري يشدد في حصاره، حتى اضطرت المدينة إلى طلب الصلح منه، من طريق رئيس القواسم، الشيخ صقر بن راشد، عام 1212 هـ/1797م. وكان من بين بنود هذا الصلح، أن يقبل القواسم تعاليم الدعوة، وأن يدفعوا الزكاة إلى الدولة السعودية. وأعلن سلطان بن صقر القاسمي خضوعه للدرعية، واعتناق مبادئ الدعوة الإصلاحية، وتعهد بدفع الزكاة المقررة ، ما دامت الحكومة، لا تغير من وضعه، بوصفه زعيماً للقبيلة. 6. العلاقات السعودية بالعراق

اختلفت نظرة الدولة العثمانية إلى الدعوة الإصلاحية، والدولة السعودية الأولى، باختلاف المكان الذي تمتدان إليه. فنظرت الدول العثمانية إلى الدولة السعودية ودعوتها، في نجد، على أنهما انتفاضة بدوية، كعادة القبائل في المنطقة؛ لأن نجداً، في نظر الدولة العثمانية، إقليم بعيد عن مراكزها، الإستراتيجية والاقتصادية والعسكرية، في شبه جزيرة العرب وخارجها. ومع أن الدولة العثمانية، أحست بأن الدعوة والدولة السعودية، تحدٍ، ديني وسياسي، لها، إلا أن موقفها تجاههما كان مختلفاً. فحينما امتدتا إلى جبل شمر والأحساء، رأت الدولة العثمانية الوقوف في وجه هذا التحول، فاتخذت موقفاً معادياً لهما. ورأت أن تستخدم عدة قوى سياسية في ضربهما. أ. حملة ثويني بن عبدالله

بدأت تتجمع عوامل التصادم بين الدولة العثمانية، في العراق، والدولة السعودية الأولى. لقد أصبح العراق العثماني، وبخاصة جنوبيه، مركزاً لتجمع القوى المعارضة للدولة السعودية ودعوتها الإصلاحية. وبرزت عوامل الاحتكاك بين الطرفَين، بعد حملة قام بها ثويني بن عبدالله، رئيس قبائل المنتفق، على القصيم، عام 1201 هـ/1786م، ومعه حشود كبيرة من قبائل المنتفق وأهل المجرة والزبير وبوادي شمّر وغالب وطيء . وشن هجوماً على بلدة التنومة، واستولى عليها عنوة، وقتل الكثير من أهلها. ثم حاصر بريدة، ولكنه اضطر إلى رفع الحصار عنها، حينما سمع بوقوع الاضطرابات في بلاده، وقفل عائداً إلى وطنه. وقد صعّدت هذه الحملة من حدّة الموقف، وصارت سبباً قوياً من أسباب الاصطدام المباشر، بين الدولة السعودية وقبائل المنتفق والظفير، في جنوبي العراق. وأرسل الإمام عبدالعزيز بن محمد رسالة، إلى سليمان باشا الكبير، والي بغداد، مصحوبة بنسخة من كتاب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد"، وطلب منه أن يجمع علماء بغداد، للنظر في الكتاب، والإيمان بما جاء فيه. إلا أن الوالي، استخف بهذه الدعوة، وكان رده سلبياً، مقللاً من شأن الدعوة الإصلاحية. وبذلك، عدّت أرض العراق دار حرب، في نظر أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب (اُنظر ملحق نماذج من رسائل الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود).

وقامت قبائل المنتفق والظفير، وعشائر الخزاعل، الشيعية، في العراق، بدور فاعل في مساندة بني خالد والخارجين على النفوذ السعودي، من المدن النجدية. ولهذا، رأى الإمام عبدالعزيز بن محمد، أن يقوم بأعمال تأديبية ضد هذه العشائر، في جنوبي العراق. فقاد الإمام سعود بن عبدالعزيز، في عام 1203 هـ/1788م، جيشاً فاجأ قبائل المنتفق، في الموضع المعروف بالروضتَين، بين المطلاع وسفوان. فكانت هذه الحملة الاستطلاعية هي أول حملة سعودية تدخل حدود العراق. وظلت عشائر المنتفق تؤوي الهاربين من آل سعود فلجأ إليها عبد المحسن بن سرداح وأتباعه من آل خالد عام 1204هـ/1789م. وبعده لجأ ابنه براك بن عبد المحسن عام 1207هـ/1792م.

وفي عمل عسكري فعال، قاد الإمام سعود عام 1209 هـ/1794م الغزو ضد قبائل الظفير في مقاطعة الحجرة، على الحدود العراقية. وتمكنت الدولة السعودية من نقل ميدان الهجوم، إلى الأراضي العراقية الجنوبية. وأصبحت في مركز قوة، تستطيع منه تحدي ولاة العراق العثمانيين، وبخاصة بعد أن تمكنت من تثبيت حكمها في الأحساء. وكانت فرصة سانحة للدولة السعودية، لأن تؤدب قبائل المنتفق والظفير، والقوى المعارضة، التي هربت إلى هذه المنطقة.

وبعد هذا الغزو المتلاحق لجنوبي العراق، دارت مكاتبات بين السلطان العثماني ووالي بغداد، سليمان باشا الكبير، من أجل تسيير حملات عثمانية قوية، ضد الدرعية. إلا أن سليمان باشا، كان يقدر صعوبة قيام جيشه المنظم بحروب في الصحراء، لم يَعْتَدْ عليها، وليس لديه الخبرة الكافية بطبيعتها. كما قدر ما ستقوم به القبائل، الساكنة في جنوب البصرة، من انتفاضات وقلاقل، ضد الدولة.

رأى والي بغداد، سليمان باشا، أن يعمل على ضرب السعوديين بعرب العراق. فأفرج عن ثويني بن عبدالله، أمير المنتفق السابق، المعتقل، وأعاد إليه إمارة المنتفق، بدلاً من حمود بن ثامر، وعقد له لواء حرب آل سعود. وجدّ ثويني في جمع جيش كبير، يتكون من أهل المنتفق والزبير والبصرة، والعناصر الساخطة من بني خالد.

انطلق ثويني بحملته نحو الأحساء. ولم يتوجه نحو الدرعية مباشرة؛ لأن حملته، أولاً، كانت تضم زعيمَين من بني خالد، هما براك بن عبد المحسن، ومحمد بن عريعر ولهما أتباع في الحملة، مما يسهل فتح الأحساء. ثانياً، لأن الطريق إلى الإحساء أكثر سهولة، خاصة أنه يستطيع استعمال المراكب والسفن في نقل الجنود، ولا سيما الترك منهم، والمؤن والعتاد. وثالثاً، لأن ثويني أدرك أهمية الأحساء كمركز تموين سهل للقوات.

ومع هذا، فإن حملة ثويني، لم يقدر لها أن تحقق هدفها، لأنها كانت، في الواقع، تحوي عناصر متباينة، خاصة رؤساء بني خالد، ولأن ثويني، قائد الحملة، كان قد لقي مصرعه، على يد أحد عبيد بني خالد، قبل أن يقوم بأي عمل ناجح، ضد القوات السعودية، التي سيرتها الدرعية صوب الأحساء. فاضطربت صفوف الحملة العراقية، واضطرت إلى التراجع. فتعقبتها القوات السعودية، وأخذت تطارد فلولها حتى حدود الكويت. واستولت على الكثير من معداتها ومدافعها وعتادها، وغنمت الكثير من الغنائم. وانضم براك بن عبد المحسن إلى القوات السعودية.

وقام الإمام سعود بهجوم على جنوبي العراق، رداً على حملة ثويني. وغزا سوق الشيوخ والسماوة. ووصل قرية أم العباس. وشن، أثناء غارته، هجوماً على قبائل شمر والظفير وغيرهما من العربان، وقتل مطلق الجربا، رئيس بوادي شمر.

وجاءت أوامر مشددة من الباب العالي، إلى سليمان باشا، بأن يعد حملة قوية من الجنود النظاميين، ضد الخطرالسعودي. ب. حملة الكيخيا[4] علي باشا

بذل والي بغداد، سليمان باشا، ووكيله (أي الكيخيا)، علي بك، جهداً كبيراً في إعداد حملة على الأحساء، ضمت الجند المدربين، وقوة من العشائر، الكردية والعربية، وقبائل الخزاعل، الشيعية، عام 1213هـ/1798م.

انقسمت الحملة، في البصرة، إلى قسمَين: فريق الفرسان، بقيادة علي باشا، الذي سار بهم، براً، نحو الأحساء. وفريق من المشاة والمدفعية، ومعه المعدات الثقيلة، أبحر على السفن، التي استأجرتها الدولة العثمانية، من مناطق الخليج. وساهم العتوب، في الكويت والبحرين، في إعداد هذه الحملة.

وصلت الحملة إلى المبرز والهفوف، وحاصرت الحصنَين السعوديَّين فيهما. وكان على رأس حامية حصن المبرز، سليمان بن محمد بن ماجد. وكان على رأس حامية حصن الهفوف، إبراهيم بن سليمان بن عفيصان. وقد صمد الموجودون في الحصنين أمام هذا الحصار، مما ترك أثراً سيئاً في الجنود المهاجمين. وبدأ تناقص قوات الحملة، ونفق كثير من دواب النقل، ونقصت المؤن الغذائية. وجنود علي باشا، الذين أصابهم اليأس، يطالبونه بالرجوع . فاضطر، أخيراً، إلى العودة إلى بغداد، من دون أن يحرز نصراً. وأثناء عودته، كانت القوات السعودية، القادمة من الدرعية، قد وصلت إلى الأحساء، يقودها الإمام سعود. ولما علم الإمام سعود بانسحاب قوات علي باشا، قرر أن يتعقبها. وسبقها، فنزل بقواته على ماء "ثاج". وكان علي باشا قد عسكر في مكان، يدعى "الشباك"، بالقرب من ثاج. وقامت مناوشات بين الطرفَين، كانت دون جدوى، ولم يكتب النصر لأي من الفريقَين.

رأى علي باشا ضرورة مفاوضة الإمام سعود، بعد أن فشل في تحقيق انتصار على السعوديين. وقد اشترط علي باشا على الإمام سعود، عدة شروط، لتوقيع صلح بين علي باشا والسعوديين. منها:

(1). أن يخرج السعوديون من الأحساء، ويرحلوا عنها.

(2). أن يدفع السعوديون نفقات الحملة العثمانية.

(3). أن يعيد السعوديون كل ما غنموه من القوات العراقية، أثناء حملة ثويني.

(4). أن لا يتعرض السعوديون لقوافل الحجاج، الذين يأتون من العراق، ويمرون بالأراضي التابعة لهم. ويتعهد السعوديون بالمحافظة على الأمن وسلامة الطرق، في أراضيهم.

وكانت شروط الصلح، التي طلبها علي باشا من السعوديين، شروطاً غير واقعية، خاصة أنها جاءت في ظرف فشل الحملة وتراجعها. وأراد علي باشا، الذي طالب بهذه الشروط، أن يبرر بها عدة أمور. منها:

(1). أن يقلل من حدّة الصدمة العثمانية، الناتجة من الموقف العسكري للحملة، ومدى الصعوبات التي اعترضتها، حتى اضطرتها إلى الانسحاب من الأحساء، والعودة إلى العراق، من دون أن تحقق هدفها.

(2). أن يبين للمسؤولين العثمانيين، أن عودته إلى العراق، كانت بعد أن اشترط على السعوديين عدة شروط، كلها في جانب العثمانيين. والشروط، التي طلبها، تمثل الشروط، التي تمليها السلطة المتنفذة على السلطة التابعة.

(3). أن يقنع قواته بأنه لم يهزم، على الرغم من تناقضات الموقف وصعوباته.

ومع أن السعوديين كانوا في وضع عسكري، هو أفضل من وضع حملة علي كيخيا، إلا أن الإمام سعود، ردّ على رسالة علي باشا، التي تحمل شروط الصلح، برسالة لا يستشف منها قبول الشروط؛ وإنما أرجأ ذلك لما يراه والده، الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود. وهو يعلم تماماً بأن والده، لن يوافق على شرط واحد من هذه الشروط؛ وإنما هي فرصة لكسب الوقت، من جهة، ولضمان انسحاب القوات العثمانية من الأحساء، من جهة أخرى . وهذا في حد ذاته مكسب كبير للسعوديين، لأنه يخفف عنهم أعباء العمليات العسكرية وضغطها. وقد ردّ سعود على شروط علي باشا، برسالة جاء فيها:

"جـاءنا كتابكم، وفهمنا معناه. فأما الحسا، فهي قرية خارجة عـن حكـم الـروم (أي الترك)، ولا تساوي التعب. وما في شيء يوجب الشقاق. وأما الأطواب (الأسلاب)، فهي عند والدي، في الدرعية، إذا صدرتُ إليه، أعرض الحال بين يديه. والوزير سليمان باشا أيضاً يكتب له. فإن صحت المصالحة وارتفع الشقاق من الطرفَين، فهي لكم، وأنا الكفيل بها، حتى أوصلها إلى البصرة. وأما مصاريفكم، فإني لا أملك من الأمر شيئاً، والشورى في يد والدي . وأما الأمنية (الأمن)، فهي التي لا زلنا نقاتل الناس عليها، حتى جعلنا الأرض كلها، وجميع المسلمين، مشتركين فيها. وصار الذئب لا يقدر يضر الشاة، في أحكامنا".

ويمكن تعرف أسباب فشل حملة علي باشا، من خلال ما تحويه من عناصر عسكرية متباينة، والتنافس الذي دب في صفوف شيوخ العشائر البدوية، التي شاركت في الحملة المذكورة. هذا إلى جانب استبسال الحاميتَين السعوديتَين، في الهفوف والمبرز، ضد قوات الحملة. إضافة إلى هذا كله، خبرة القوات السعودية بحروب الصحراء، وتحمّلها ما ينتج من هذه الحروب، من صعوبات. وفي الجانب الآخر، فإن قوات علي باشا، لم تكن لديها الخبرة الكافية بحروب الصحراء. ولم يكن لديها الاستعداد لتحمّل متاعب هذه الحروب. أضف إلى هذا قلة خبرة علي باشا نفسه بمثل هذه الحروب، وسوء إدارته، في معامله قواته، خاصة قوات العشائر، التي تؤدي دوراً كبيراً في مثل هذه الحروب.

وقد أثبت فشل حملة علي باشا على الأحساء، أنه ليس في مقدور ولاة بغداد عمل أي شيء، يمكن به القضاء على الدولة السعودية الأولى، أو على الأقل، إضعافها بشكل، لا تقوى معه على الامتداد خارج نجد. وقد أدى هذا الأمر إلى اقتناع السلطات العثمانية، في الآستانة، بأن العراق العثماني، لا يصلح، بحال من الأحوال، أن يقود الحركة الهجومية العثمانية، ضد السعوديين. وهذا، بدوره، أدى إلى استعانة السلطات العثمانية بالولايات العثمانية الأخرى، غير العراق، وإسناد مهمة القضاء على الدولة السعودية إليها. ج. وقعة كربلاء

ولم يدم الصلح، الذي جرى بين الإمام سعود وعلي باشا، طويلاً. فقد تصدت قبيلة الخزاعل، الشيعة، لبعض أتباع الدولة السعودية، وقتلت حوالي ثلاثمائة رجل منهم، عام 1214هـ/ 1799م قرب النجف. وقد احتج السعوديون، لدى والي بغداد، وطالبوا بدفع دية المقتولين. فكلف الوالي عبدالعزيز بن عبدالله الشاوي، بالمرور على الدرعية، في أثناء عودته من الحج، والتباحث مع الإمام عبدالعزيز بن محمد، لتسوية الأمر. ولم ينجح هذا المبعوث، وأخبر والي بغداد عن نية الدرعية، أن يكون لها بلاد غرب الفرات، من عانة إلى البصرة.

ولم يكن من السهل على آل سعود، نسيان قتلاهم. فهاجمت القوات السعودية، بقيادة الإمام سعود، في عام 1216هـ/1801م، جنوبي العراق، وهدمت القباب والأضرحة والمزارات الشيعية، وهدمت قبة قبر الحسين، في كربلاء، انتقاماً من الشيعة. وعادت القوات السعودية، بسرعة، إلى الدرعية، ولم تلحق بها قوات علي باشا.

هذا ما جعل الدولة العثمانية، ترسل أوامرها المشددة، إلى والي بغداد، ليعمل على إيقاف الحملات السعودية . كما أن الشاه الفارسي، الذي استاء مما حدث في الأماكن المقدسة عند الشيعة، أخذ يضغط على والي بغداد، ويطلب منه أن يسمح لقواته بعبور العراق، لمحاربة السعوديين.

واستمرت الحملات السعودية على مناطق جنوبي العراق. وقد وصلت، مرة ثانية، في عام 1223هـ/1808م، إلى كربلاء، ولم تتمكن من دخولها.

وتوقفت حملات الدولة السعودية على جنوبي العراق، لانشغالها بالإعداد لمواجهة خطر الزحف العسكري، القادم من ولاية مصر، من طريق واليها، محمد علي باشا، الذي نفذ أوامر السلطان، فأعد الحملات ضد الدرعية.

وعلى الرغم من أن التحركات السعودية ضد العراق، استمرت فترة طويلة، استغرقت حوالي ربع قرن (1202 ـ 1226هـ / 1788 ـ 1811م)، فإن النفوذ السعودي، لم يستطع أن يوطد قدمه في أي جزء من الأراضي العراقية، ولم تستطع الدرعية أن تعين لها عمالاً، في أي بلدة عراقية. 7. علاقات الدولة السعودية بالشام

تشير المصادر النجدية، إلى أن الإمام عبدالعزيز بن محمد، أمر بعض قواته، سنة 1208هـ/1793م، بالتوجه إلى دومة الجندل، على أطراف الشام، ومنازلة أهلها؛ وقد يكون ذلك من قبيل الاستطلاع لقوة الولاة العثمانيين في الشام. وفي عام1212 هـ/1797م، قاد حجيلان بن حمد، أمير القصيم، جيشاً من أهل القصيم، فأغار على بوادي الشرارات، وقتل عدداً من رجالهم، وسلب كثيراً من أموالهم ومتاعهم.

وتمكنت هذه الحملات من نشر مبادئ الدعوة الإصلاحية، في المنطقة، وأخذ الزكاة من سكانها. ووصلت، من بوادي أهل الشام، في عام 1218هـ، ست نجائب، محملة بالريالات. ويفهم من ذلك أن أهل بوادي الشام أصبح ولاؤهم السياسي والديني للدرعية، وليس لولاة الشام.

وعندما شمل النفوذ السعودي بلاد الحجاز، أصبحت في وضع، جعلها على احتكاك مباشر بالسلطة العثمانية. وكانت بداية تحدي الدولة السعودية لوالي الشام، عام 1221هـ/1806م، حينما منع الإمام سعود بن عبدالعزيز. أمير الحج الشامي، عبدالله باشا العظم، من الوصول إلى الحرمَين، للحج، بالمحمل، ترافقه الطبول والمزامير. وكادت تقع اصطدامات بين الجند السعوديين وجند عبدالله باشا العظم، الذي لم يكن في موقف عسكري، يسمح له بمقابلة السعوديين. وعلى أثر ذلك، عزل السلطان سليم الثالث، عبدالله باشا العظم، عن منصبه، بسبب تقاعسه عن مواجهة القوات السعودية، ورجوعه بالحجاج، بناء على أمر من الإمام سعود. وعين بدلاً منه يوسف باشا كنج. وأصدر السلطان أوامره المشددة إلى يوسف باشا كنج، بضرورة محاربة السعوديين. إلا أنه لم يقم بأي عمل إيجابي، وانصرف إلى جمع الأموال لنفسه وممطالة الدولة. واكتفى، في رده على السلطان، بإرسال الخطط الحربية، التي كان يراها كفيلة بتحقيق رغبة السلطان. كما أن يوسف كنج، كان قد اقترح أن تشترك معه ولايتا مصر وبغداد، في إعداد الحملات، للقيام بالمهمة الموكلة إليه.

وفي تلك الأثناء، قام الإمام سعود بحملة عسكرية ضد الشام. وتمكن من الوصول إلى ما وراء جبل الشيخ. وتنقلت قوات السعوديين في سهل حوران، وهاجمت حصن المزيريب وبصرى.

كاتب الإمام سعود ولاة الشام، ودعا سكانها إلى الدخول في الطاعة، واعتناق مبادئ الدعوة السلفية (انظر ملحق نماذج من رسائل الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود والرد عليها). وانسحبت قواته من الشام محملة بالغنائم. وأصدر السلطان محمود الثاني أوامره بعزل يوسف كنج، لعدم كفاءته. وعين سليمان باشا، والياً على الشام. وطلب منه الاتصال بوالي مصر، محمد علي باشا، لتنسيق جهودهما ضد الدرعية.

إلا أن سليمان باشا، ومحمد علي باشا، لم يكونا على وفاق. لذا، اتجهت الدولة بأنظارها إلى والي مصر لتحقيق هدفها. ثانياً: العلاقات الخارجية للدولة السعودية الأولى

كان لا بدّ من قيام اتصالات بين الدولة السعودية الأولى، والدول الكبيرة في منطقة الخليج العربي. وقد أدت العلاقة القائمة بين الدولة السعودية الأولى والقوى المحلية في الخليج العربي، خاصة تلك القوى المعارضة للدولة السعودية ـ دوراً بارزاً في حدوث مثل هذه الاتصالات، وذلك حينما قام بعض القوى المحلية في الخليج، بالاستنجاد ببريطانيا، وطلب المساعدة منها ضد الدولة السعودية . وقد حدث ذلك، حين طلبت سلطنة مسقط من بريطانيا، دعمها ضد الغزو السعودي. وفي بعض المناسبات، كانت تطلب العون من فرنسا. وأحياناً كانت تطلبه من دولة العجم، في إيران. وكانت البحرين، أحياناً، تطلب العون من دولة العجم، ضد الدولة السعودية.

وقد أسهمت حدة الصراع، القائم بين بريطانيا وفرنسا، في الشرق، في عهد الثورة الفرنسية وحروب نابليون ـ في حدوث مثل هذه الاتصالات، بين الدولة السعودية وكلٍّ من بريطانيا وفرنسا؛ لأن كلاً من الدولتَين الأجنبيتَين، كانت ترى ضرورة الاتصال بالقوى المحلية، ذات التأثير في أحداث الخليج. وقد أسهم التشابك المذهبي، في منطقة الخليج العربي، وما كان له من سلبيات، في إيجاد نوع من العلاقة السلبية، بين الدولة السعودية ودولة العجم. 1. العلاقة السعودية ـ البريطانية

لم تصل العلاقة بين الدولة السعودية الأولى وبريطانيا، إلى مستوى العلاقات الخارجية بين الدول، تلك العلاقات ذات المفهوم الدبلوماسي المعروف؛ وإنما كانت عبارة عن اتصالات بسيطة، جرت بين الدولتَين، في مناسبات وظروف معينة.

كان ثمة أحداث في المنطقة، أدت إلى الاتصال بين بريطانيا والدولة السعودية الأولى، كالتحالف القائم بين السعوديين والقواسم، الذين أصبحوا في عداء تقليدي، مع كلٍّ من حكام مسقط وبريطانيا. وكان العداء بين القواسم ومسقط وبريطانيا، قد جر الدولة السعودية الأولى، إلى خلافات مع بريطانيا، التي تتصرف من خلال مصالحها الاستعمارية في المنطقة، تلك المصالح المتركزة في مناطق الساحل، لا في المناطق الداخلية من شبه الجزيرة العربية.

وقد رأت بريطانيا ضرورة اتخاذ موقف لين، تجاه الدولة السعودية الأولى، حينما شعرت أن مصالحها الإستراتيجية، في الكويت وجنوب العراق، أصبحت معرضة للتأثير السعودي وضغطه، وبخاصة بعد وصول الحملات السعودية إلى تلك المناطق، وبعد نقل المراكز التجارية البريطانية، التابعة لشركة الهند الشرقية، من البصرة إلى الكويت.

لقد جامل رجال شركة الهند الشرقية البريطانية، المسؤولين السعوديين، حين قدموا إليهم الهدايا، وتقربوا منهم، حفاظاً على سلامة سير بريد الشركة الصحراوي، بين البصرة وحلب، المار في المناطق الشمالية الشرقية، من حدود الدولة السعودية الأولى.

وأرسلت بريطانيا رينود Reinaud، وهو أحد مساعدي الوكيل البريطاني، المستر مانيستي Manisty عام 1214هـ/1799م، إلى الدرعية رئيساً للبعثة البريطانية الرسمية إلى العاصمة السعودية، لإجراء محادثات مع المسؤولين السعوديين، حول إيجاد نوع من العلاقات الودية وحسن المعاملة بين الدولتَين، بعد ما اعترى هذه العلاقات من الخلافات، كان مردها اشتراك عدد من حراس الوكالة الإنجليزية في الكويت، مع القوات الكويتية، في رد هجوم سعودي ضد الكويت.

ولم يكن موقف بريطانيا هذا، هو الموقف الوحيد المعادي للدولة السعودية؛ وإنما كان هناك مواقف بريطانية مماثلة. فكانت بريطانيا تساند موقف مسقط، وموقف البحرين، ضد السعوديين، في عدة مناسبات. أضف إلى هذا كله موقفها العدائي ضد القواسم، حلفاء الدولة السعودية، في منطقة ساحل عُمان.

غادر رينود Reinaud الكويت إلي الدرعية، ماراً بالقطيف والهفوف. وقد استقبله السعوديون، في الدرعية، استقبالاً حسناً. وحاول، في محادثاته، الحصول من الإمام عبدالعزيز بن محمد، على وعد بتأمين سلامة بريد الشركة، الذي يمر من البصرة إلى حلب، عبر الطريق الصحرواي الذي تقطن فيه قبائل سعودية.

ويبدو أن بعثة رينود Reinaud لم تحقق نجاحاً ملموساً، في هذا الصدد. وكانت الحساسية التي تتميز بها الدولة السعودية الأولى، ضد الأجانب النصارى، كفيلة بأن تفشل مهمة البعثة البريطانية. كما أن موضوع الدبلوماسية بين الدولة السعودية الأولى، والدول الأجنبية النصرانية، لم يكن مفتوحاً، بل كانت الدولة السعودية، تحاول تجنبه، قدر المستطاع. وهذا أمر يفرضه عليها الموقف الداخلي، من جهة، والبنية، السياسية والدينية، التي قامت عليها الدولة السعودية، من جهة ثانية. ومما يفسر صحة هذا الاتجاه، أن الجانب البريطاني، كان، دائماً، هو البادئ بقيام عمليات الاتصالات بالجانب السعودي. وقد عبرت بعثة رينود Reinaud عن هذا الأمر. وكان الجانب البريطاني، هو الباديء، أيضاً، بقيام نوع من المراسلات بين الدولتَين. وقد عبرت عن ذلك الرسائل، التي كان يرسلها المعتمد البريطاني في بوشهر، إلى الحاكم السعودي في الدرعية، في مناسبة حدوث أمور طارئة، في العلاقات بين الدولتَين. وقد تمثل هذا النمط من المعاملة، في الرسالة، التي أرسلها المعتمد البريطاني في الخليج، إلى المسؤولين في الدرعية، بعد اشتراك بريطانيا، إلى جنب حاكم مسقط، ضد القواسم، في الساحل العماني. فأشارت الرسالة إلى سبب الموقف البريطاني، أن القواسم، نقضوا شروط معاهدة عام 1220 هـ/1806م، المعقودة بينهم وبين شركة الهند الشرقية. ومن هنا فإن بريطانيا تحمل القواسم مسؤولية تدهور الموقف. لذلك، كان على حلفائهم السعوديين، أن لا يظهروا استياءهم تجاه ما قامت به بريطانيا ومسقط، من عمل حربي ضدهم. كما أن على السعوديين أن لا يؤازروهم؛ لأنهم هم الذين نقضوا شروط الاتفاق، المبرم بينهم وبين بريطانيا.

ويبدو أن بريطانيا، كانت تتخذ مثل هذه الإجراءات اللينة، تجاه الدولة السعودية الأولى، لعدة اعتبارات. من أهمها:

· أن بريطانيا، كانت تتخذ مثل هذه المواقف اللينة، بعد أن تكون قد نفذت هدفها، وضربت ضربتها. وعندئذ، لا داعي للمواقف المتشددة، أو الموقف العنيف.

· أن بريطانيا، كانت مقتنعة بأن الدولة السعودية الأولى، تشكل قوة محلية مؤثرة في الخليج. ومن هنا، لا بدّ من التعامل معها بشكل لا يغضبها .

· أن بريطانيا، كانت تهدف من وراء مواقفها هذه، أن تبعد الدولة السعودية عن مراكز نفوذها في المنطقة.

· أن بريطانيا، كانت تحاول أن تجعل نفسها قوة محايدة في المنطقة، وفي إمكانها أن تقوم بدور الوسيط في النزاع بين القوى المحلية في المنطقة. وكانت مقتنعة بأن مثل هذا الموقف، سيكون له إيجابياته الكثيرة، بالنسبة إلى مصالحها في الخليج العربي.

وكانت بريطانيا تفضل أن تكون علاقتها بالدولة السعودية، علاقة ود وسلام، على الرغم من أنها تساعد، خفية، وعلناً أحياناً، القوى الخليجية المحلية، المعادية للدولة السعودية الأولى.

كما أن بريطانيا، كان يهمها أن ترى بريدها الصحراوي، يمر بسلام، عبر الحدود الشمالية للدولة السعودية، من جهة، وأن يتوقف القواسم عن مهاجمة السفن البريطانية في الخليج العربي، من جهة ثانية، وأن تبقى مراكز نفوذها في المنطقة، بعيدة عن الصراعات المحلية، لأن مثل هذه الصراعات، يعرقل إستراتيجيتها، من جهة ثالثة.

إن موقف بريطانيا من الدولة السعودية، كان غامضاً، دائماً، إلى أن انهارت، على يد إبراهيم باشا، عام 1233هـ/1818م.

وقد أفصحت بريطانيا عن كراهيتها للحكم السعودي، بعد سقوط الدرعية؛ وكانت لا ترغب أبداً، أن ترى دولة قوية محلية، تجاورها في الخليج العربي؛ لأن ذلك يشكل مصدر إزعاج لها ـ حين أرسلت الحاكم البريطاني العام في الهند، سادلر (G.F.Sadlier) .إلى الدرعية، ليهنئ إبراهيم باشا بنجاحه في القضاء على الدولة السعودية الأولى. كما اتضح هذا الموقف من السرور، الذي عبر عنه المسؤولون البريطانيون، بسبب سقوط الدولة السعودية الأولى، وما ألصقوه بها من تهم وصفات جارحة. 2. العلاقة السعودية ـ الفرنسية

لم يكن هناك علاقة واضحة، بين الدولة السعودية الأولى وفرنسا، في بداية عهد الثورة الفرنسية. وقد بدأت ملامح العلاقة بالظهور، بعد حملة نابليون على الشرق، بوصفها جزءاً من الصراع الفرنسي ـ الإنجليزي فيه.

حاول نابليون بونابرت( Napoleon Bonaparte )، أن يخطب ودّ حكام الشرق، ليستفيد منهم في دعم موقف فرنسا، ضد منافستها بريطانيا. ومع أن هذه المحاولة، لم تكن محاولة جادة، وقوية، في هذه المرحلة بالذات، إلا أنها كانت نافذة، تنظر منها فرنسا إلى القوى المحلية في شبه الجزيرة العربية، وبخاصة تلك القوى الموجودة في الخليج العربي، وذات التأثير فيه.

وازداد اهتمام فرنسا بالخليج العربي، في فترة حروب نابليون. وصارت فرنسا تحاول، جادة، الاتصال بالقوى المحلية في المنطقة، ومن بينها الدولة السعودية الأولى. فكلفت بعثة جاردان، عام 1223هـ/1808م، بالقيام بنشاط واسع، في فارس والخليج، والمناطق المجاورة، ودراسة الطرق، التي يمكن استخدامها إلى الهند، لضرب خط المواصلات الإمبراطوية في الشرق. وتفيد المصادر، أن الفرنسيين، بذلوا جهداً كبيراً، للوقوف في وجه المنافسة البريطانية؛ ومع هذا لم يكن في مقدورهم أن يفعلوا شيئاً ضدهم. ومن هنا، كانت كل محاولاتهم، قد باءت بالفشل.

ويذكر بعض المصادر، أن نابليون، أرسل بعثة فرنسية، برئاسة دي لاسكارس، وصلت إلى الدرعية، في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز، في نهاية عام 1226هـ/1811م، بحثت قيام علاقات بين الدولة السعودية وفرنسا. وتشير المصادر إلى أن البعثة، طلبت من الإمام السعودي، أن يساند رغبة نابليون في اكتساح الدولة العثمانية، للوصول إلى الهند. وفي المقابل، فإن الإمام السعودي، يصبح في إمكانه غزو ولاية الشام العثمانية. إلا أن الوكالات الإنجليزية، علمت بالمفاوضات الدائرة في الدرعية، فأرسلت بعثة إلى الإمام السعودي، تحذره من الانضمام إلى نابليون؛ مع وعد بأن تضمن له اعتراف السلطان العثماني بالحكم السعودي، إن هو وعد بعدم مهاجمة الدولة العثمانية. ولكن الاتفاق السعودي ـ الفرنسي، انتهى بفشل نابليون في حروبه، في الجبهة الروسية، عام 1227هـ/1812م.

وبمقارنة الأحداث، فإن الشك يحوط برواية البعثة الفرنسية إلى الدرعية؛ لأنه لو كانت هذه البعثة وصلت إلى الدرعية، لكان في الإمكان أن نجد ذكراً لها، في الكتب المعاصرة للأحداث، محلية أو غير محلية، أو أجنبية، وبخاصة في المنشورات الرسمية البريطانية. ولهذا، فإن مثل هذه المعلومات، يبقى مجرد أخبار مشكوك في صحتها.

هكذا، فإن العلاقات السعودية ـ الفرنسية، لم تكن واضحة، بالقدر الذي وصلت إليه العلاقات السعودية ـ البريطانية. ويعود ذلك إلى ضعف النفوذ الفرنسي في الخليج العربي، من جهة، وفي الشرق، من جهة أخرى. أضف إلى هذا كله، أن قوة فرنسا وعظمتها، بوصفها دولة أوروبية، ودولة استعمارية، كانتا قد تضررتا بشكل حاسم، بعد سقوط نابليون، وصارت فرنسا دولة ضعيفة، إذا ما قورنت ببريطانيا العظمى، التي ازدادت قوة، بعد سقوط نابليون. 3. العلاقة السعودية ـ الإيرانية

لم تكن علاقة الدولة السعودية الأولى بدولة العجم، في إيران، علاقة حسنة، للخلاف المذهبي بينهما. وقد ازدادت هذه العلاقة سوءاً، بعد غزو الدولة السعودية الأولى مناطق جنوبي العراق وهدم المزارات الشيعية، في كربلاء والنجف، عام 1216 هـ/1801م.

وبعد هذا الغزو، تحرك الشعور الإيراني تجاه الدولة السعودية، وقرر شاه العجم، أن يتدخل، وأبدى استعداده لغزو السعوديين. وأخبر بذلك الوالي العثماني في العراق، بل هدد بغزو العراق، إذا لم تستجب الدولة العثمانية مطلبه، وهو الانتقام من الدولة السعودية، من طريق إرسال حملة عسكرية عثمانية قوية، من العراق، ضد السعوديين.

وساعد شاه إيران حاكم مسقط، عام 1217 هـ/1802م، ضد آل خليفة في البحرين، الذين كان يدعمهم آل سعود لاسترداد البحرين. واستمرت إيران في تقديم المساعدات العسكرية إلى حاكم مسقط، وتمكنت قوات مسقط من هزيمة آل خليفة وحلفائهم السعوديين.

وعندما بدأت القوات السعودية تغزو عُمان وتهدد سلطان مسقط، أسرعت الحكومة الفارسية في تقديم المساعدات لسلطان مسقط للوقوف في وجه السعوديين. وساءت العلاقة بين الدولة السعودية وبين دولة الفرس، عام 1225هـ/1810م، حينما استعان آل خليفة بالفرس وحكام مسقط، على استرداد البحرين من القوات السعودية.

ويلاحظ أن الخلاف القائم بين السعودية ودولة العجم، كان قد استغله حكام مسقط، وغيرهم في مناطق الخليج العربي، في إقامة نوع من الوفاق بينهم وبين دولة الفرس. وقد عبرت البعثة الدبلوماسية، التي أرسلها السيد سعيد بن سلطان، برئاسة السيد سالم، إلى بلاط الشاه، عام 1226 هـ/1811م، عن هذا الوفاق؛ إذ كان هدفها إقامة معاهدة تحالف، بين مسقط وبين فارس. وقد نجحت هذه البعثة في تحقيق هدفها. وكان من ثمار ذلك، أن ساعدت فارس حكومة مسقط، بقوات عسكرية، بقيادة صادي خان، فحاربت إلى جانب قواتها ضد السعوديين، في عمان، واستردت حصون سمايل ونخل.

وتذكر سجلات حكومة بومباي، أن الإمام سعود بن عبدالعزيز، خشي قيام تعاون فارسي ـ عماني، فأسرع بإرسال مبعوث خاص إلى شاه إيران، لإقامة علاقات ودية بين الدولتَين، الهدف منها تضييع الفرصة على حاكم مسقط. إلا أن هذه البعثة لم تلق قبولاً لدى الشاه. وانحازت فارس إلى مسقط، على الرغم من الخلافات، التي كانت تحدث بينهما، من حين لآخر.

وغلب شاه إيران السرور من نجاح والي مصر، محمد علي باشا، في القضاء على الدولة السعودية الأولى، فأرسل إليه رسالة، يهنئه فيها بجهوده جاء فيها:

"فاطلعت على ما صنعت في قتال العرب، وصبرت في احتمال التعب. واجتهدت في تجهيز الكتائب، وتشمير القواضب، حتى وطئت أرجاء التهامة، بأقدام الشهامة. وخلصت أرض النجد. بالعز والمجد، وفتحت باب الأمنية، بفتح الدرعية. وبالغت في دفع البدع، ونفي الدين المخترع ... إلى آخر الرسالة".

وقد أهداه الشاه عباس سيفاً قديماً، كان قد توارثه ملوك العجم عن أجدادهم، لأن عمل محمد علي، هو في هذا المجال، وعزمه يشبه حدّة هذا السيف. وقد صحب هذا السيف هدية أخرى، هي خاتم من الفيروز.


[1] العتوب هم من رؤساء قبيلة عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ومنهم آل صباح حكام الكويت وآل خليفة حكام البحرين.

[2] كلمة الكويت تصغير لكلمة "الكوت". وهي كلمة، تعني القلعة الصغيرة أو الحصن، المبني بالقرب من الماء، في لهجة مناطق جنوبي العراق والبلدان العربية المجاورة له. ثم أصبح الاسم يطلق على القرية، التي تبني بالقرب من الماء. وفي إطار تعدد الآراء في شأن أصل الكلمة، فثمة من يؤكد أن كلمة ``كوت`` برتغالية الأصل، وهي تعني القلعة، أو الحصن. وقد خلفها البرتغاليون في المنطقة، بحكم وجودهم فيها لفترة طويلة، وهناك من يؤكد أن الكلمة هندية، وقد سُميت مدن كثيرة في الهند بهذا الاسم، أو باسم "قوت"، ومنها "قال قوت" بمعنى "قلعة قال"، وهي البلدة المعروفة، الآن، في الهند باسم "كلكاتا Calcutta".

[3] الإتاوة هي الخراج أو الرشوة، اُنظر الفيروز آبادي، "القاموس المحيط"، مادة "أتو".

[4] الكيخيا كلمة مستعملة في التركية ومحرفة من الكلمة الفارسية كتخدا وتعني النائب أو الوكيل عن الوالي.


الفصل الخامس: مواجهة الدولة العثمانية للدولة السعودية الأولى وإسقاطها

كان التوسع السعودي في شبه الجزيرة العربية، مصدر تهديد للدولة العثمانية ومكانتها في العالم الإسلامي، وبخاصة بعد سيطرة السعوديين على الحرمَين الشريفَين. وحرصت الدولة العثمانية على استعادة تلك المكانة، والقضاء على الدولة السعودية. فكلفت والي بغداد، الذي أرسل حملة ثويني بن عبدالله، وحملة الكيخيا علي باشا. وقد باءتا بالفشل.

ثم كان والي الشام، هو مناط آمال الدولة، في تخليص الحجاز من الحكم السعودي. ولكن هذا الوالي، لم يحرك ساكناً في هذا السبيل.

وأخيراً، لم يكن أمام الدولة العثمانية من خيار، سوى تكليف والي مصر، محمد علي باشا، القيام بمهمة القضاء على الدولة السعودية.

إن أول تكليف لمحمد علي باشا، كان من قبل السلطان العثماني، مصطفى الرابع، عام 1222هـ/1807م.

وقد أرسل محمد علي باشا إلى السلطان، يعتذر عن القيام بهذه المهمة الصعبة، بسبب الظروف الاقتصادية السيئة في مصر، الناتجة من انخفاض فيضان النيل، واستيلاء المماليك على الصعيد، والخشية من أطماع الدول الأوروبية في مصر.

ولما كرر السلطان تكليفه محمد علي باشا، خشي أن يكون هناك شرك تنصبه له الدولة. وأبدى، هذه المرة، عذره بأن قوته العسكرية غير كافية للقضاء على السعوديين؛ ولا بد من حشد طاقات عسكرية كبيرة، من ولايات العراق والشام، إلى جانب قوة مصر. كما أنه، منذ عام 1223هـ/1808م، بدأ يثير مشكله تخوفه من والي الشام، سليمان باشا، الذي يتهمه بالتعاون مع خصومه، المماليك، وربط قبوله هذه المهمة، بعزل هذا الوالي، وإسنادها إلى صديقه، والي الشام السابق، يوسف كنج، الذي لجأ إلى مصر، فاراً من الدولة. وبعد ذلك، بدأ يقترح على الدولة وجوب تسيير الجيوش البرية من الشام، بقيادة سليمان باشا نفسه، ليأمن جانب غدره به، أثناء تغيبه في الحجاز. وفي الحقيقة، كان محمد علي باشا، يطمع في أن تسند إليه ولاية الشام، إضافة إلى ولاية مصر.

ولما وجد محمد علي باشا، أن محاولاته للتخلص من تلك المهمة العسيرة، لا تنجح ـ جنّد طاقاته، وأعد الجيوش، البرية والبحرية، وعاونه، مالياً، على ذلك، رئيس تجار مصر، السيد المحروقي. ودبّ النشاط في مرافق بناء السفن، في السويس والقاهرة، لتجهيز السفن اللازمة لإبحار الجنود.

وحانت لمحمد علي باشا الفرصة، للتخلص من خصومه، أمراء المماليك، في مذبحة القلعة، التي دبّرها، في الجمعة 6 صفر 1226هـ/1 مارس 1811م، في مأدبة، أقامها لهم هناك، وغدر بهم.

وأرسل يطلب من الباب العالي، أن يمده بلوازم للجيش، تكفي لستة أشهر. وطلب مدافع ومهمات للسفن، وهدايا وخلعاً، لتقديمها إلى مشايخ القبائل، لاستمالتهم إلى جانبه. ولكن الدولة، لم تسعفه بشيء من هذا، سوى عدد قليل من المدافع.

وبلغ عدد رجال الحملة ثمانية آلاف رجل. منهم خمسة آلاف من المشاة والمدفعية، أقلتهم ثلاث وستون سفينة. وثلاثة آلاف من الفرسان، انطلقوا، براً، بقيادة أحمد طوسون، ابن محمد علي، عبر العقبة، نحو ينبع، حيث ستلتقى القوات جميعها. 1. الحملة الأولى، بقيادة أحمد طوسون، واسترداد الحجاز

كان محمد علي باشا، قد راسل الشريف غالب بن مساعد، من طريق تجار جدة وينبع، ليتأكد أنه سيقف إلى جانبه. ولمس منه الدعم له، مما سهل مهمته في الحجاز. كما أن الصدر الأعظم، طمأن الشريف بثقة الدولة به. وطلب منه أن يساند القوات القادمة إلى الحجاز.

تهيأت في الحجاز عوامل نجاح الحملة؛ فالشريف غالب، يتطلع إلى الخلاص من الدولة السعودية، وانقطاع الحجاج من الولايات العثمانية، الغنية، أضر بالتجار الحجازيين، كما أضر بزعماء القبائل، الذين كانوا يتقاضون إتاوات على قوافل الحج. ولهذا، فإن الفئات ذات النفوذ في المجتمع، كانت متوافقة مع زعامتها السياسية التقليدية، في المشاعر غير الودية، تجاه الحكم السعودي.

وبدأت قوات محمد علي باشا سفرها إلى الحجاز في 19 رجب 1226هـ/8 أغسطس 1811م، ووصلت إلى ميناء ينبع، الواقع تحت حماية قبيلة جهينة، المؤيدة للدرعية. فأخذ طوسون يستميل القبائل، القاطنة قرب ميناءَي المويلح وينبع، لتكون سنداً لقواته، وذلك بإغرائها بالأموال والهدايا.

وجرى أول اشتباك بين فرقة من القوات السعودية، وقوات طوسون. وكانت الفرقة السعودية بقيادة جابر بن جبارة، وسعود بن مضيان، من قبيلة حرب. ونزلت الهزيمة بها، وسارع قائداها في الانضمام إلى القوات السعودية الرئيسية. وواصلت الحملة المصرية سيرها نحو المدينة المنورة، تعاونها جموع من القبائل، التي استمالها طوسون بالهدايا والأموال. وتمكنت، بعد اشتباكات يسيرة مع الفرق السعودية، من الاستيلاء على قريتَي السويقة وبدر.

وفي ممر وادي الصفراء، تواجهت القوات السعودية، بقيادة عبدالله بن سعود، وسعود بن مضيان، في قتال حقيقي، مع قوات طوسون. وكانت القوات السعودية، قد تمكنت من احتلال الروابي المرتفعة في الوادي. وأنزلت قوات السعوديين هزيمة قاسية بقوات محمد علي، التي استولى عليها الرعب، ولاذ أحمد طوسون باشا بالفرار إلى ينبع، مع من بقي حياً من قواته. وأحصى طوسون باشا الذين وصلوا سالمين إلى ينبع من قواته، فوجدهم ثلاثة آلاف جندي، فأسرع يطلب المدد من والده.

وبعد هذه الهزيمة، استغل محمد علي باشا هذا الموقف، وكتب إلى السلطان، يصور له شراسة القوات السعودية، ويرسم له صورة مبالغاً فيها، لينال المدد العسكري من الباب العالي، ويطلب منه أن يضم إليه ولاية الشام، لأنه بدون هذه الولاية، لا يمكن قواته، أن تحقق أمل السلطان، استخلاص الحرمَين. واهتم الباب العالي بطلب محمد علي باشا إسناد ولاية الشام إليه، وعقد مجلس الشورى عدة اجتماعات لدراسته. وأدرك والي مصر تخوف الباب العالي من طلبه. لذا، غض الطرف عنه إلى حين، ورمى بكل ثقله في حرب الحجاز، وبذل جهده في إرسال المدد لابنه، طوسون.

ووصلت الإمدادات، بقيادة أحمد بونابرت (الخازندار)، عام 1227هـ/1812م. فتمكن طوسون، بعد وصولها، من نقل مركز قيادته إلى بدر، حيث نظم قواته ورتبها ترتيباً عسكرياً جيداً. وزحف بها إلى وادي الصفراء، فتمكن من احتلاله.

وبعد رحلة مضنية، تقدمت قوات طوسون إلى المدينة المنورة، وحاصرتها، وتمكنت من فتح ثغرات في سورها، بالمتفجرات. وبسبب طول مدة الحصار، وقطع الماء والطعام عن المدينة، وانتشار الأمراض، استسلمت القوات السعودية المتحصنة بالمدينة. ودخلتها قوات طوسون، في ذي القعدة 1227هـ/نوفمبر1812م. وأرسل طوسون البشارة إلى والده مصحوبة بثلاثة آلاف من آذان القتلى، ومفاتيح الحرم النبوي الشريف.

وبدخول طوسون المدينة المنورة، صارت قواته مسيطرة على المنطقة الشمالية من الحجاز. وارتفعت معنويات طوسون وجيشه. وسرت فيهم الحماسة. وكثر عدد المنضمين إليهم، من رجال القبائل. وفي المقابل، أصبح جهد القوات السعودية منصباً على الاحتفاظ بمكة المكرمة وما جاورها.

ووجد طوسون الطريق مفتوحة أمامه، للتوغل في الحجاز. وظهرت حاجة قواته إلى مرفأ، ليكون مركز تموين للجيش، في زحفه إلى مكة. فكانت عينه على جدة. فراسل طوسون باشا الشريف غالباً، سراً، ليسمح لبعض قواته بدخول مرفأ جدة. ووافق الشريف غالب، وسمح لقوات طوسون بدخول جدة، على الرغم من العهد، الذي جدده مع السعوديين، وكان ذلك في 12محرم عام 1228هـ /15 يناير عام 1813م. وأخذت قوات طوسون طريقها، زاحفة نحو مكة المكرمة.

وبمساعدة الشريف غالب، وبعض البدو، تمكنت القوات المصرية من دخول مكة، من دون قتال، بعد أن كانت قوات عبدالله بن سعود، قد انسحبت إلى قرية العبيلاء، قرب الطائف، واتخذتها معسكراً عاماً لها. وعم مصر والآستانة السرور بهذا الحدث.

وبعد أن استتب الأمر لطوسون في مكة، زحفت قواته، التي انضم إليها الأشراف، إلى العبيلاء، حيث كانت تعسكر القوات السعودية. وعلى أثر مناوشات بسيطة، أخلت القوات السعودية العبيلاء، وانسحبت إلى الخرمة، في 25 محرم 1228هـ/28 يناير 1813م. وقد دب اليأس في نفوس بعض القادة السعوديين، إزاء الموقف في الحجاز. وكان عثمان المضايفي، أحد هؤلاء القادة. فلم يقر به المقام في الطائف، بعد انسحاب عبدالله بن سعود، فتوجه إلى رنية. وأصبح فتح الطائف أمراً سهلاً، فدخلها طوسون، يصحبه الشريف غالب.

وهكذا، دخلت المدن الحجازية الكبيرة تحت سيطرة طوسون. وحققت القوات المصرية الهدف الأساسي للدولة العثمانية، وهو استعادة الحرمَين الشريفَين، من السعوديين. وإن كانت الدولة السعودية، قد فقدت الحجاز، فهي لا تزال قوية، ومحتفظة بالمناطق الأخرى، التي تثق بولاء سكانها.

وأحدثت القوات السعودية تغييراً في خططها العسكرية، يقوم على إخلاء مواقعها، تدريجياً، وتركيز قواتها في الأراضي النجدية، ثم استدراج قوات طوسون إلى نجد، حيث الصحارى والوديان، التي تجهلها هذه القوات، ولم تعتد الحرب فيها. وتكون، بذلك، أبعدتها عن مراكز تموينها وخطوط مواصلاتها، وعن مراكز قيادتها الرئيسية، فيسهل الإيقاع بها وهزيمتها.

ولتنفيذ هذه الخطة القتالية، أعدت الدرعية جيشَين كبيرَين. قاد الأول الإمام سعود بن عبدالعزيز نفسه، وزحف به صوب الحناكية، إلى الشرق من المدينة المنورة، للسيطرة على الطريق الرئيسي بين المدينة والقصيم. ونجح هذا الجيش في أسر القوة، التي أرسلها طوسون، لتكون طليعة جيشه الزاحف صوب نجد. قوامها ثلاثمائة رجل، أرسلوا مخفورين إلى العراق، تحت حراسة أمير جبل شمر، محمد بن عبد المحسن بن علي . ثم قام جيش سعود بعدد من الحملات التأديبية ضد البدو، الذين وقفوا مع جيش طوسون، وعاد إلى الدرعية.

وانطلق الجيش السعودي الآخر، من نجد، بقيادة فيصل بن سعود، ليدعم الجبهة الجنوبية. واتخذ من بلدة تربة مركزاً له. وتمكن هذا الجيش، مع النجدات التي أتت إليه، من بيشة، من إنزال هزيمة ساحقة بقوة من طلائع جيش طوسون، كانت بقيادة رئيس الفرسان، مصطفى بك، والشريف راجح.

وبدأ عثمان المضايفي، بعد هذا الظفر، بمهاجمة الطائف. واتخذ من بسل مركزاً له. ولكنه انهزم أمام الشريف غالب، بقواته الكبيرة. وقبض على عثمان وأرسله إلى مصر التي ساقته إلى الآستانة، حيث أعدم.

وأرسل طوسون إلى والده، يخبره بأمر هزيمة قواته في تربة، وأنه يجهل مصير الحامية في الحناكية، ورئيسها عثمان الكاشف، لسيطرة الإمام سعود على الطرق الموصلة إليها، وأنه خشى أن تنكث العربان عهودها، وتتحالف مع السعوديين. وألح على والده في سرعة إرسال نجدة إليه.

وكان للخسائر الكبيرة، التي منيت بها قوات طوسون، والأمراض التي فتكت بجنوده، والإرهاق الذي أصابهم من البيئة الصحراوية، التي لم يعتادوها، أثر في قرار طوسون، إنقاذ ما بقي من قواته، والاكتفاء بالحاميات، في كلٍّ من الطائف وجدة ومكة وينبع، إلى حين وصول إمدادات من مصر. وبخاصة أن الهدف من حملة طوسون وهو تخليص الحجاز من الحكم السعودي، قد تحقق.

وفي هذه الأثناء، برزت فكرة عقد الصلح بين الطرفَين. ولكنهما لم يتوصلا إلى تفاهم حول شروط الصلح، نظراً إلى إصرار محمد علي باشا، على أن يدفع سعود كل ما صرف على حملة الحجاز، وردّ النفائس، التي كانت في الحجرة النبوية الشريفة، وحضور سعود بنفسه لمقابلة محمد علي. وعدّ سعود بن عبدالعزيز هذه الشروط إهانة له. وانقطعت المباحثات، وقرر الطرفان مواصلة القتال.

وصمم محمد علي باشا على خوض القتال بنفسه، لإنقاذ قواته، ورفع سمعته لدى الباب العالي، في العالم الإسلامي.

وبنزول محمد علي باشا إلى ميدان القتال، يبدأ دور جديد في حرب محمد علي مع السعوديين . وعهد والي مصر إلى ولدَيه، إسماعيل وإبراهيم، بمسؤولية الحكم في مصر، في 28 شعبان 1228هـ/ 25 أغسطس 1813م. وتحرك إلى السويس، ومنها إلى جدة. أ. وصول محمد علي باشا إلى جدة

وصل محمد علي باشا جدة، في أول رمضان عام 1228 هـ /28 أغسطس 1813م. ووقف على حقيقة وضع قوات ابنه، طوسون. وبدأ بالتخطيط للمرحلة المقبلة من الحرب. فاتخذ عدداً من الإجراءات المهمة. فعمل على تخفيف الضرائب، المفروضة على العربان، ليقضي على أي تذمر بينهم، وصرف رواتب شهرية، لمن أسندت إليه منهم عمليات حفظ الأمن. وجعل ثغر جدة، هو المستودع الرئيسي للعتاد الحربي. ورتب وسائل نقل العتاد والمؤن، إلى الداخل. واتصل بسلطان مسقط، المعادي لآل سعود، واستأجر عشرين سفينة، لمدة سنة كاملة. وأقام مجموعة من الحاميات، في النقط المهمة، خشية عامل المفاجأة.

وبعد التخطيط للقتال، أرسل ابنه، طوسون، الذي اتخذ من الطائف مقراً لقيادته، على رأس جيش من المشاة والفرسان، ويصحبه الشريف راجح، أحد كبار الأشراف وشجعانهم. وتوجهوا نحو تربة، لملاقاة جيش الإمام سعود بن عبدالعزيز، الذي تحصن ببيشة ورنية. وتوجه محمد علي نفسه إلى مكة، لأداء فريضة الحج. وألقى القبض على الشريف غالب، لأنه ارتاب في مسلكه، ورأى أنه من أسباب تقدم السعوديين. وصادر أمواله، وبعث به إلى القاهرة، في ذي الحجة عام 1228هـ /ديسمبر 1813م. ومن القاهرة، نقل الشريف غالب إلى الآستانة، ثم نفي إلى سلانيك Salonika، وظل فيها حتى توفي عام 1232هـ/1816م. وعين مكانه ابن أخيه، يحيى بن سرور.

وعلى الرغم من التخطيط، الذي وضعه محمد علي، فإن قوات طوسون، فشلت في الاستيلاء على تربة. وانهزمت أمام الجيش السعودي، واضطرت إلى الانسحاب إلى الطائف، بعد أن تكبدت خسائر فادحة. ونتج ذلك الفشل من انشقاق الأشراف عن جانب محمد علي، بعد ما رأوا ما حل بالشريف غالب. وصاروا لا يثقون بمحمد علي، ولا يأمنون غدره. فانشق الشريف راجح، وانضم إلى القوات السعودية في تربة. ثم خرج الشريف يحيى بن سرور من مكة، مظهراً نيته غزو القبائل المعارضة له، وهرب إلى تهامة.

ولم تتمكن قوات محمد علي باشا، التي توجهت إلى القنفذة، من احتلالها، وهي مركز المقاومة السعودية في الجنوب، بسبب استبسال القائد السعودي، طامي بن شعيب، واستيلائه على آبار الماء، فاضطر قائد الحملة إلى إخلاء الثغر.

وفي تلك الأثناء، توفي الإمام سعود بن عبدالعزيز، في 11 جمادى الأولى عام 1229هـ/مايو 1814م. وقد خلفه في الحكم ابنه، الإمام عبدالله بن سعود، الذي لم تكن له صفات أبيه، الحربية أو الإدارية، ولم يكن مثله في سداد الرأي.

ورأى محمد علي خطر منطقة الجنوب على قواته في الحجاز، فأرسل قوة كبيرة، بقيادة عابدين بك، لإجلاء القوات السعودية المتحصنة بوادي زهران، ويقودها طامي بن شعيب. وضرب عابدين بك الحصار على تلك القوات، في حصن "بخروش علاش". لكنها تمكنت من فك الحصار، واتخذت موقف الهجوم. فانسحبت قوات عابدين بك، بسرعة، تاركة وراءها كثيراً من الخيام والذخائر. وتعقبت القوات السعودية قوات محمد علي باشا، إلى الطائف. وضربت حصارها على البلدة، التي يتمركز في داخلها طوسون باشا، بقواته. فأسرعت إلى نجدتهم قوات، يقودها محمد علي باشا بنفسه. ونجحت، بحيلة بارعة، في فك الحصار عن الطائف. وفي أعقاب هذه المعارك، اصطحب محمد علي باشا ابنه، طوسون، إلى مكة، في رجب عام 1229هـ/يونيه 1814م، ومنها إلى جدة، حيث أخذا يدربان الجيش تدريباً قاسياً، لمدة ثلاثة أشهر، استعداداً للمعارك القادمة.

وفي 28 محرم 1230هـ/11يناير 1815م، قامت بين قوات محمد علي باشا، الذي شارك في المعركة، وبين قوات السعوديين، بقيادة فيصل بن سعود، معركة حامية الوطيس، في بسل، الواقعة بين الطائف وتربة. وتمكنت قوات محمد علي باشا من احتلال هذا الموقع السعودي. وبعدها، زحفت هذه القوات المصرية، واحتلت تربة، التي أصبحت، فيما بعد، معسكراً عاماً لقوات محمد علي باشا.

وفي تلك الأثناء، صدرت الأوامر من الباب العالي إلى محمد علي باشا، تحثه على أن يتوجه إلى مقاتلة القبائل، الخاضعة لآل سعود، في عسير، ليسهل عليه مهاجمة الدرعية، وهو آمن الظهر. فزحفت قوات محمد علي باشا نحو الجنوب، فاحتلت بيشة، التي هي مفتاح الطريق إلى اليمن، من جهة الشمال الشرقي. وواصلت تقدمها في عسير، على الرغم من الصعوبات الجمة، التي واجهتها. وتمكنت من إلحاق الهزيمة بقوات سعودية، يقودها طامي بن شعيب، في وادي زهران، وأسرت قائدها، الذي أرسل إلى مصر، ومنها إلى الآستانة، حيث أعدم. ثم تقدمت القوات التابعة لمحمد علي في مناطق عسير وتهامة، فاحتلت ثغر القنفذة.

وبعد أن اطمأن محمد علي باشا إلى القضاء على القواعد السعودية، في الجنوب، عاد إلى مكة.

وجاءت الأنباء إلى محمد علي باشا عن حوادث عصيان، في مصر، من قبل المماليك. واضطربت الأحوال في أوروبا، بسبب إشاعة هروب نابليون من منفاه، في جزيرة هيلانة، واحتمال قيامه بحملة جديدة على مصر. وتحت ضغط هذه الظروف، الداخلية والخارجية، أسرع محمد علي باشا، في الرجوع إلى مصر. فأبحر من جدة في 5 جمادى الآخرة عام 1230هـ/16 مايو 1815م.

وفي تلك الأثناء، كان طوسون يتقدم في غربي نجد، ويحرز الانتصارات على القوات السعودية. ووصل بزحفه إلى بلدة الرس، في القصيم، وذلك قبل وصول قوات عبدالله بن سعود إليها، التي كانت متمركزة في بلدة الرويضة، بالقرب من الرس. وتمكن طوسون، بمساعدة بعض عشائر حرب ومطير، من الاستيلاء على عدد من بلدان منطقة القصيم، مثل الخبرا والشبيبة. ب. الصلح بين عبدالله بن سعود وطوسون باشا

أدرك طوسون أنه أخطأ، حربياً، بتوغله في نجد، حيث تجهل قواته المنطقة، ولا تتقن حروب الصحراء، التي تتقنها القوات السعودية، وتعرف دروبها وبلدانها، ومناطق الماء فيها. وتشاور مع قواده، حول إمكانية الانسحاب إلى المدينة المنورة. وكان عبدالله بن سعود عاجزاً عن إدارة المعركة، لاسترداد القصيم، متردداً في الخروج إلى طوسون، على الرغم من كثرة قواته، وإلحاحها عليه.

فكر طوسون، أن يعقد صلحاً مع الإمام عبدالله بن سعود. وكانت شروط الصلح، التي جرى التباحث حولها، هي:

(1). احتلال جيش طوسون الدرعية.

(2). إعادة آل سعود كل ما أخذوه من الحجرة النبوية الشريفة.

(3). وضع عبدالله بن سعود نفسه تحت تصرف جيش طوسون، فيسافر إلى الجهة التي يحددها له، في الوقت المناسب.

(4). خضوع عبدالله بن سعود لحاكم المدينة من قبل محمد علي باشا، إلى حين الموافقة على الصلح.

(5). نفاذ هذه الشروط، لا يتم إلا بعد إقرارها من محمد علي باشا.

وعدّ عبدالله بن سعود هذه الشروط إهانة له. لذا، قرر إرسال وفد من قبله، للتفاوض مع محمد علي باشا مباشرة. فأرسل القاضي عبدالعزيز بن حمد بن إبراهيم، وعبدالله بن محمد بن بنيان. ووصل الوفد إلى القاهرة، في شوال عام 1230هـ/ سبتمبر 1815م. كما أرسل عبدالله بن سعود رسائل إلى السلطان محمود الثاني، في الآستانة، وإلى محمد علي باشا، ليوضح وجهة نظره في الصلح. وألقى في هذه الرسائل تبعة ما حدث على الشريف غالب، واتهمه بتزوير رسائل على لسان والده، الإمام سعود، إلى الباب العالي، بقصد إثارة الفتنة.

وأثناء المفاوضات، توقف القتال، وأخلى طوسون منطقة القصيم، من دون سبب. وعاد إلى المدينة المنورة، ثم أرسل إلى أبيه، يطلب منه السماح له بالعودة إلى مصر، لسوء حالته الصحية . فاستأذن محمد علي باشا الباب العالي في ذلك، فوافق في شوال عام 1231هـ/1816م[1]، بعد تعهد والي مصر بالقضاء على قوة السعوديين، في الوقت المناسب.

يقول ابن بشر، عن طلب الصلح: "أرسل الإمام عبدالله، عام 1231هـ/1816م، حسن بن مزورع، وعبدالله بن عون، إلى محمد علي، في مصر، بهدايا ومراسلات بتقرير الصلح. فلما قدما عليه (محمد علي) في مصر، وجدوه قد تغير". ولم يتوصل الطرفان إلى صلح بينهما، لأنه فرض على الوفد السعودي شروط قاسية، تعني استسلام آل سعود، نهائياً، وحضور عبدالله بن سعود نفسه إلى مصر، ليرسل إلى السلطان، الذي يحدد مصيره.

ولكن بعد فشل مهمة الوفد، جرت الاستعدادات، في مصر ونجد، لجولة أخرى من الحرب النهائية. 2. الحملة الثانية على نجد، بقيادة إبراهيم باشا

بعد انسحاب طوسون وقواته من القصيم، قاد الإمام عبدالله بن سعود عدة حملات تأديبية، ضد القبائل والجماعات، التي ساعدت وأيدت قوات طوسون. فأعد جيشاً، شاركت فيه جموع من البدو والحضر، من أهل الأحساء وعمان ووداي الدواسر وجبل شمر والجوف. واتجه نحو القصيم، واستولى على البكيرية وغيرها من بلدان المنطقة. وواصل عملياته التأديبية إلى قرب المدينة المنورة.

وفي هذا الوقت، كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق، في مصر، للجولة التالية من الحرب، التي اختير لقيادتها ابن محمد علي، إبراهيم باشا. وشهدت الموانئ المصرية على البحر الأحمر، حركة متزايدة في نقل العساكر والمعدات والمؤن. وعمل محمد علي باشا على تلافي الأخطاء، التي وقعت في الجولة السابقة. فزود الحملة بمجموعة من الأطباء الإيطاليين، للإشراف الصحي على جنودها. وأرفقها بمجموعة من الخبراء العسكريين الأجانب، وعلى رأسهم المسيو فاسيير( Vassière )، الذي كان أركان حرب لإبراهيم باشا. وهو ضابط فرنسي، خدم في جيش نابليون.

وبعد أن استكملت الحملة جميع معداتها ولوازمها، اتجهت إلى ينبع، في الأول من ذي القعدة عام 1231هـ/23 سبتمبر 1816م. وفي ينبع بدأت قوات إبراهيم باشا تقوم بمناورات، لإرهاب من ينوي الخروج عن الطاعة، لإظهار الاستعداد الكبير، الذي أعد للقضاء على الدولة السعودية. وقد أدت هذه المناورات الهدف منها. فتسابقت الأخبار إلى القبائل، التي نزل بها الرعب، فجددت ولاءها لمحمد علي.

اتجه إبراهيم باشا بقوات إلى المدينة المنورة. وأخذ يضع خططه الحربية، متلافياً أخطاء الحملة السابقة. ثم بدأ زحفه نحو الأراضي النجدية. واستولى على بلدتَي الصويدرة والحناكية، إلى الشرق من المدينة المنورة. وجعل من الحناكية مقراً لمعسكره. ومنها بدأ بإرسال فرق استطلاعية، للتجسس.

وكانت القوات السعودية، قد بنت خطتها الحربية، على أساس استدراج قوات إبراهيم باشا إلى الصحراء، والقيام بعملية التفاف حولها، من الخلف، وقطع خطوط المواصلات بينها وبين مراكز تموينها، ومن ثم تطويقها والقضاء عليها. فقد انطلق الإمام عبدالله بن سعود، من الدرعية بجيشه، في 20 جمادى الأولى عام 1232هـ/أبريل 1817م، ونزل قرب بلدة الرس. ولحقت به قوات أهل القصيم، بقيادة حجيلان بن حمد. وسار الجيش إلى وادي الرُّمَة، حتى نزل بالماء، المعروف باسم "العلم"، ليهاجم البوادي المتعاونة مع إبراهيم باشا. فلما علموا بمقدم الإمام عبدالله بن سعود، رحلوا إلى بلدة الحناكية، والتحقوا بقوات إبراهيم باشا. ثم رجع الإمام عبدالله من "العلم"، ونزل قرية "مسكة"، في عالية نجد. وبعد أيام، ارتحل منها إلى نجخ القصر، المعروف في عالية نجد، وأقام به أياماً. وجاءته الأخبار، بأن علي أوزون، قائد القوات التركية، ومعه البوادي، نزل عند ماء "ماوية"، بالقرب من الحناكية.

وقام الجيش السعودي، المعد لعملية الاستدراج، بالاشتباك مع قوات إبراهيم باشا، عند ماء "ماوية"، في منتصف جمادى الآخرة عام 1232هـ/ أول مايو 1817م. ولكنه مني بخسارة فادحة، ووقع فيه القتل، وخسر كثيراً من السلاح، مما أدى إلى انهيار الخطة العسكرية السعودية. وزاد في تصدع الجبهة السعودية، انضمام فيصل الدويش، رئيس عربان مطير، إلى جانب إبراهيم باشا. وتراجعت القوات السعودية إلى بلدة الخبراء، ومنها إلى بلدة عنيزة، حيث تحصنت بها.

وانطلق إبراهيم باشا، بقواته، من ماوية، في طريقه إلى الرس. ونزلها في 5 شعبان1232هـ/ 21يونية 1817م. وحاصرها لمدة ثلاثة أشهر ونصف. وانتهى الحصار، في 12 ذي الحجة 1232هـ/24 أكتوبر 1817م. واستماتت الحامية السعودية في الدفاع عنها، على الرغم من طول مدة الحصار، وقوة وسائل الهجوم. وأرسل الإمام عبدالله بن سعود، الموجود في عنيزة، نجدات عسكرية إلى الرس، بقيادة حسن بن مزروع، والهزاني، صاحب "حريق نعام".

وأنذر إبراهيم باشا أمير الرس، محمد بن مزروع، بأنه إن لم يسلم البلدة، فإن القتال سوف يستمر. وفعلاً استمر القتال والحصار، حتى طلب أمير الرس الصلح مع إبراهيم باشا، الذي وضع شرطَين لإتمامه:

   * أن يقدم أهل الرس ألفَي رأس من الخيل، وألفين من الجمال، ومؤونة، تكفي جيشه ستة أشهر.
   * أن يقدم له اثنان من أبناء عبدالله بن سعود، رهينة لديه.

ورفض الجانب السعودي هذَين الشرطَين. وتجدد القتال.

ويذكر ابن بشر، أن أهالي الرس، طلبوا من الإمام عبدالله بن سعود، أن يأتي لنصرتهم، ومحاربة القوات الغازية، وكان الإمام، وقتذاك، في عنيزة، وإلا فليسمح لهم بطلب الصلح من إبراهيم باشا. وزاد إبراهيم باشا من شدة حصاره ومضايقته للرس. ولكنه لمس سوء حالة جنوده، فاضطر إلى قبول عقد الصلح مع أمير الرس، على شروط، منها:

   * رفع الحصارعن الرس.
   * وضع أهل الرس السلاح، والبقاء على الحياد.
   * منع دخول جنود إبراهيم باشا وضباطه، إلى الرس.
   * عدم إجبار أهل الرس على تقديم شيء من المؤن والذخيرة للجيش، أو على دفع غرامة أو ضريبة.
   * تسليم الرس لإبراهيم باشا، إذا استولى جيشه على عنيزة دون قتال. أما إذا لم ينجح في ذلك، فيعد القتال متجدداً بين الطرفَين.

ولم يكن إبراهيم باشا ليقبل هذه الشروط، لو لم تمتنع عليه الرس والحامية السعودية فيها.

واتبعت القوات السعودية خطة تقوم على توزيع قوات إبراهيم باشا، وإرهاقها بعمليات الحصار، متبعة في ذلك أسلوب حرب العصابات، لأنها وجدت نفسها في وضع، لا يمكنها من المواجهة المباشرة مع قوات إبراهيم باشا. فوزعت قواتها على عدد من الحصون.

تقدم إبراهيم باشا إلى عنيزة، وركز هجومه. ونجح في الاستيلاء عليها. واستسلمت الحامية السعودية الموجودة فيها، بقيادة الأمير محمد بن حسن بن مشاري بن سعود، عدا الحامية المقيمة بقصر الصفا، داخل المدينة. وظلت هذه الحامية تقاوم الهجوم، الذي تعرضت له، حتى رماها إبراهيم باشا بالقبوس والقنابر (أي المدافع والقنابل) رمياً هائلاً، في يوم وليلة . فلما رأى أهل القصر، أن البلد أطاعت له، وأن سور القصر هدم، طلبوا المصالحة من الباشا، فصالحهم على دمائهم وأموالهم وسلاحهم، فخرجوا من القصر.

وكانت شروط استسلام عنيزة:

   * عدم أسر حاميتها.
   * السماح للحامية بالذهاب أنّى شاءت.
   * تسليم الحامية ما لديها من الأسلحة والذخائر والمؤن، لجيش إبراهيم باشا.

وطبقاً للشرط الأخير من شروط الصلح مع أمير الرس، أرسل إبراهيم باشا فرقة من جيشه، لاستلام المدينة. ثم دخل بريدة، من دون قتال، بعد أن أمن حاميتها وأهلها، على أساس تسليمهم أسلحتهم، وقبل أميرها حجيلان بن حمد شرط إبراهيم باشا، فسلمها إياها.

وقد أدى سقوط مدن القصيم الرئيسية، الرس وعنيزة وبريدة، في يد إبراهيم باشا، وضياعها من السعوديين، إلى إذعان القبائل هناك لقيادته.

وكان الإمام عبدالله بن سعود، قد انسحب بجيشه، إلى شقراء، في الوشم. وتحصن بها للدفاع عن الدرعية.

وبعد شهرَين، قضاهما إبراهيم باشا في بريدة، انطلق إلى المذنب، ثم زحف، بقواته، إلى الوشم. ونزل بلدتَي أشيقر والفرعة، واستأمنه أهلهما فأعطاهم الأمان، ودخلوا في طاعته. وتحرك الباشا من أشيقر في 16 ربيع الأول عام 1233هـ/ 25يناير 1818م، وقصد بلدة شقراء، التي استعدت للقائه، بقيادة أميرها حمد بن يحيي. وهاجمها ودار قتال عنيف، لمدة ثلاثة أيام متواصلة، تهدمت فيه أسوار البلدة، مما اضطر أهلها إلى طلب الأمان، فخرج إلى الباشا عبدالعزيز بن إبراهيم بن عيسى، وغيهب بن زيد، نيابة عن عنهم. وعقد الصلح بالشروط التالية:

   * أن يسلِّم أهل شقراء المدافع الخمسة، الموجودة في قلعتها.
   * أن يسلموا الأسلحة، التي يحملها أربعمائة مقاتل، من رفاق عبدالله بن سعود، كانوا جاءوا لنجدة المدينة.
   * أن يلتزم أهل شقراء ببيع ما عندهم من الميرة والمؤن للجنود.
   * يذهب أهل البلدة، في مقابل ذلك، حيث يشاءون، شريطة عدم حملهم السلاح، واللجوء إلى القتال، ثانية.
   * أن لا يخلوا بالشروط السابقة، وإذا أخلوا فستحل دماؤهم.

وكان سقوط شقراء تمهيداً لسقوط إقليم الوشم، وانحسار نفوذ آل سعود عنه. وقد نزل الرعب بأهل الأقاليم المجاورة. فتوافد على إبراهيم باشا شيوخ وادي الدواسر، يطلبون الأمان، مقابل خضوعها لطاعة محمد علي باشا، فأجابهم إلى طلبهم. وأرسل جنوده، بقيادة رشوان أغا، نحو إقليم سدير والمحمل ومنيخ، للسيطرة عليها. وأعلن أهلها طاعتهم.

وسارت قوات إبراهيم باشا، من شقراء نحو منطقة العارض، فوصلت ضرما، في 14 ربيع الثاني 1233هـ/ 22 فبراير 1818م، ونزلت في المزاحميات شرقي البلدة. واعترضتها الحامية السعودية فيها، بقيادة سعود بن عبدالله بن محمد بن سعود، وأوقعت بعض الخسائر بها. ولم تصمد تلك الحامية طويلاً، فانسحبت منها، متوجهة إلى الدرعية. واستسلمت البلدة، بعد ثلاثة أيام، بعد أن قدمت تضحيات كبيرة.

وفي الوقت، الذي كانت تتقدم فيه قوات إبراهيم باشا نحو الدرعية، كان هناك قوات أخرى لمحمد علي، يقودها حسن باشا، تقوم بالقضاء على الجيوب السعودية، في عسير وتهامة ونجران. وتوطد حكم محمد علي في تلك الجهات بتعيين رؤساء جدد للقبائل، موالين له. 3. معارك الدرعية وسقوطها

غادرت قوات إبراهيم باشا ضرما، في طريقها إلى الدرعية، العاصمة السعودية. فاتبعت الطريق عبر الحيسية، ثم سلكت وادي حنيفة، ومرت بالعيينة والجبيلة.

وكان إبراهيم باشا، يدرك أن الدرعية محصنة، وقلاعها قوية، وهي المعقل الأخير للدولة السعودية. لذا، فإن مقاومتها ستكون قوية، وشديدة. فأرسل إلى والده، يطلب تزويده بالمال والمدافع والجنود.

كانت الدرعية تتألف من خمسة أحياء مستقلة، منها الطريف والبجيري والمغيصيبي والسهل. ولكل قسم منها أبواب، مثل باب سَمْحَان وباب الظَهَرَة. وتحيط بها أسوار، تتخللها الحصون والأبراج. وكان محيط البلدة حوالي اثني عشر كيلومتراً. وبنيت من الطين والآجرّ.

ولا مجال للمقارنة بين قوات الفريقَين. إذ كانت قوات إبراهيم باشا نحو 1950 فارساً و4300 جنـدي، من المشـاة الأرنـاؤوط (الألبان) والأتراك، و1300 جندي من الأفارقة (المغاربة)؛ ولا يدخل في هذا الإحصاء البدو والرجال غير النظاميين. وكان يصحب هذه القوات 400 من رجال المدفعية، وأربعة أطقم من المدفعية الثقيلة، وخمسة أطقم من المدفعية التركية. ويحمل مؤنهم عشرة آلاف بعير. وكانت تتّابع عليه القوافل، بالإمدادات والمؤن والعساكر والذخائر، بين وقت وآخر.

أما قوات عبدالله بن سعود، فكانت تنقصها المعدات، وفنية القتال. وكان عددها يقدر بثلاثة آلاف مقاتل في المتاريس الخارجية، خلاف المقاتلة، في داخل البلدة. وكان لديه عدد قليل من المدافع والمعدات الحربية.

اقتربت قوات إبراهيم من الدرعية، في غرة جمادى الأولى عام 1233هـ/9 مارس 1818م. ونزل إبراهيم باشا في "العِلْب"، حيث نخيل فيصل بن سعود. وتمكن، بمعونة من الضابط الفرنسي، فاسيير، من ترتيب عساكره، وإعداد خطة الهجوم، وبدأت قواته تحفر الخنادق، وتقيم المتاريس.

أما عبدالله بن سعود، فقد رتب قواته علىعدة جهات، في الدرعية. وجعل على رأس كل فرقة أحد أمراء آل سعود. ففي بطن الوادي، مقابل مقر الباشا وعساكره، يوجد فيصل بن سعود، وأخوه، فهد معهما رجال من أهل الدرعية. وعلى ميمنة الوادي، في الجانب الشمالي، فوق الجبال، سعد بن سعود، وأخوه، تركي بن سعود، على حافة الشعيب، المعروف بالمغيصيبي، ومعهما رجالهم من أهل الدرعية. ثم يليهم عبدالله بن مزروع، صاحب منفوحة، ورجاله. ويقف تركي الهزاني، صاحب حريق نعام، ومعه رجاله، بين القوات، التركية والسعودية. وعند باب البلدة، المسمى باب سمحان، تمركز الإمام عبدالله بن سعود، ومعه آل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ورجال من كبار البلدة، وعنده مدافع كبيرة. ورابط في قرى عمران، عند النخل المسمى الرفيعة، فهد بن عبدالعزيز بن محمد، ومعه رجال من أهل الدرعية وأهل سدير، برئاسة عبدالله بن القاضي أحمد بن راشد العويني، وعندهم عدة مدافع.

وفي أسفل الدرعية، في بطن الوادي، قرب جبل القُرَيْن، تمركز سعود بن عبدالله بن عبدالعزيز، ومعه رجال من أهل النواحي.

وفي المتاريس، رابط عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد، عند نخيل "سمحة"، في البرج، فوق الجبل. ورابط عمر بن سعود بن عبدالعزيز، ورجاله، على حافة شعيب الحريقة. ورابط فهد بن تركي بن عبدالله بن محمد ومحمد بن حسن بن مشاري بن سعود، في شعيب غبيراء.

ووقع أول هجوم على الدرعية، من الشمال. فصبت مدافع إبراهيم باشا نيرانها على أحياء البلدة، خاصة على مدخل شعيب المغيصيبي، وذلك لمدة عشرة أيام متواصلة، ولكن دون جدوى. ثم جرى القتال في جنوبي الوادي، جهة الحريقة. وأوقف إبراهيم باشا القتال، لكي يتخذ مواقع جديدة لهجومه. ووقع اختياره على غبيراء، وفيها المتاريس في جنوبي الوادي. وبهجوم مباغت، تمكن القائد التركي، علي أوزون من زحزحة القوة السعودية إلى الوراء. وجرت عدة معارك، في كلٍّ من سمحة والسلماني والبليدة، في جنوبي البلدة. وبعد ذلك، جرى القتال في شعيب قليقل، في شماليها.

وظلت قوات إبراهيم باشا، مدة شهرَين، وهي على حالها، لم تحرز أي تقدم ملموس. وسار إبراهيم باشا بقوة من عنده، للاستيلاء على بلدة عرقة، جنوب الدرعية، في شعبان عام 1233هـ/يونيه 1818م. وتمكن من السيطرة عليها، بعد أن أعطى الأمان لأهلها، واستفادت قواته من ثمار نخيلها.

وزاد الأمر سوءاً اندلاع النار في مستودع ذخيرتها، في 16 شعبان 1233هـ/21 يونيه 1818م. حاول السعوديون استغلال هذا الموقف، ولكن دون جدوى، وبخاصة بعد أن وصلت إمدادات عسكرية لقوات إبراهيم باشا، من مصر، كما وصلت إمدادات، من الأرز والحنطة والمؤن والتبغ لحاجات العسكر، من البصرة والزبير والقرى المجاورة، من أهل نجد، الذين أجلاهم آل سعود في السابق.

وطال حصار الدرعية مدة خمسة أشهر، مما أدى إلى قلة المؤن فيها، وجلب اليأس والسأم لنفوس الأهالي. فخرج بعضهم، وانضموا إلى جيش الباشا، ودلوه على الطرق والمسالك، وأفضوا إليه بمعلومات عن مواطن الضعف في متاريس الدرعية. وبناء على هذه المعلومات، دكت المدفعية حصون الدرعية ومتاريسها. وعلى الرغم من ذلك، فقد أبدى آل سعود، وسكان الدرعية، من البسالة في الدفاع، عنها ما يسجل لهم به الفخر.

وضعفت الجبهة الداخلية في الدرعية، بعد خروج أهلها منها، وتناقص عددهم، وطول الحصار، وارتفاع الأسعار، لقلة الوارد إليهم. وازداد الضعف بعد خروج رئيس الخيالة، غصاب العتيبي، وانضمامه إلى جيش إبراهيم باشا.

وتهيأت الظروف للهجوم الشامل من كل الجهات، بما لدى إبراهيم باشا من المعلومات والأعوان الفارين إليه. فكان الهجوم في معركة البجيري (حي من أحياء الدرعية، يسكنه آل الشيخ). نتج من هذا الهجوم الاستيلاء على السهل، واستسلام أهله، واضطر الإمام عبدالله بن سعود إلى نقل معسكره، من باب سمحان إلى الطريف (من أحياء الدرعية). ودكت مدفعية إبراهيم باشا مباني الطريف، لمدة يومين. وتفرق عن الإمام عبدالله أكثر من كان عنده. وتمكن بعض رجاله من الفرار، ومنهم ابن عمه، تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود.

فلما رأى عبدالله بن سعود ما وصل إليه القتال، بذل نفسه وفدى بها النساء والأطفال والأموال . فأرسل إلى إبراهيم باشا، يطلب الصلح، وخرج إلى معسكره، في 8 ذي القعدة 1233هـ/9 سبتمبر 1818م.

واستقبل إبراهيم باشا الإمام عبدالله بن سعود، بالحفاوة. واتفقا على الشروط التالية:

   * أن تُسلَّم الدرعية لجيش إبراهيم باشا.
   * أن يتعهد إبراهيم باشا بأن يبقي على البلدة وأن لا يوقع بأحد من سكانها.
   * أن يسافر عبدالله بن سعود إلى مصر، ومنها إلى الآستانة عملاً برغبة السلطان.

ووقع الاتفاق بين الطرفَين. وبه انتهى الدور الأول من حكم آل سعود.

ولم يكتف محمد علي باشا بهذا الانهيار، بل رفض الشرط الثاني من الاتفاق. وأمر ابنه إبراهيم، بأن يهدم الدرعية وحصونها وأسوارها، ويخرب منازلها. وقد نفذ إبراهيم باشا هذه الأوامر، وخرب الدرعية، وأشعل فيها النيران. فأصبحت أثراً بعد عين.

ووصل الإمام عبدالله بن سعود إلى مصر، في 17 محرم 1234هـ/16 نوفمبر 1818م. واستقبله محمد علي باشا في قصره، في شبرا بالبشاشة. وقال له: "ما هذه المطاولة؟ فرد الإمام: الحرب سجال. فقال الباشا: وكيف رأيت إبراهيم؟ فرد الإمام: ما قصّر. وبذل همته. ونحن كذلك. حتى كان ما قدره المولى". فقال محمد علي: "أنا ـ إن شاء الله ـ أترجى فيك عند مولانا السلطان". فقال الإمام: "المقدر يكون". فألبسه محمد علي خلعة. وقدم عبدالله بن سعود ما كان في حوزة أبيه، من نفائس الحجرة النبوية، وكان قد جلبها معه، في صندوق صغير. وفي 19 محرم 1234هـ/18 نوفمبر 1818م، سافر عبدالله بن سعود إلى الآستانة، حيث أعدم في صفر 1234هـ/نوفمبر 1818م، بعد محاكمة صورية (انظر ملحق وثيقة محضر التحقيق مع الإمام عبدالله بن سعود).

وفي أثناء حصار الدرعية، وبعد سقوطها، أرسل إبراهيم باشا فرقاً من جيشه، إلى نواحي نجد، ليستكمل إخضاعها. فأرسل حسين جوخدار إلى حوطة الجنوب والدلم. وقتل آل عفيصان، من قادة آل سعود. وأرسل أغا آخر، مع العسكر، إلى جبل شمر، حيث قتل أمير المنطقة، محمد بن عبد المحسن بن علي.

أما إبراهيم باشا، فقد مكث بالدرعية، بقواته، أكثر من تسعة أشهر. ثم ارتحل عنها إلى عدة مواضع. وغزا بعض المناطق، وتابع سيره، عائداً، حتى وصل القصيم، وأخذ معه أميرها، حجيلان بن حمد، قاصداً المدينة المنورة. وعاد إلى القاهرة، في 22 صفر 1235هـ/11 ديسمبر 1819م، بعد أن استكمل إخضاع المدن النجدية. (انظر خريطة حملة إبراهيم باشا)

وترتب على سقوط الدرعية عدة نتائج:

  • انتهاء الدور السعودي السياسي، لفترة مؤقتة، وإنْ بقيت مبادىء الدعوة السلفية راسخة في نفوس أتباعها.
  • ازدياد نفوذ محمد علي، وامتداد سيطرته حتى شبه الجزيرة العربية، وإعلاء مكانته لدى الدولة العثمانية.
  • ازدياد الأطماع الاستعمارية في الخليج العربي، وسعي بريطانيا إلى توطيد نفوذها في السواحل العربية.


[1] توفي طوسون بعدها بقليل في 7 ذي القعدة 1231هـ/29 سبتمبر 1816م.


الفصل السادس: ملامح نظام الحكم والإدارة، في الدولة السعودية الأولى

أولاً: نظام الحكم

كان نظام الحكم في الدولة السعودية الأولى، يستند إلى أحكام الشرع، الواردة في القرآن الكريم والسُّنة النبوية. وقامت بتطبيق الحدود الشرعية على المخالفين. 1. الإمام (الحاكم)

وهو في قمة النظام السياسي. وهو الرئيس الأعلى للدولة، وصاحب السلطات الفعلية فيها. ولقب الإمام يشتمل علي الزعامتَين، الدينية والسياسية. والإمامة ليست منصباً حديث العهد، بل هي سلطة سياسية دينية، جرى عليها المسلمون، منذ عهد الخلفاء الراشدين، بعد النبي ـ r. فالإمام هو القائد العام للمسلمين. وهو رئيسهم في أمورهم الدينية.

والإمام هو المشرف العام على جميع شؤون الدولة. فهو يشرف على الأمور الحربية. وبيده حق إبرام معاهدات الصلح، وإعلان الحرب ضد العدو. ويشرف على شؤون الأمن في البلاد. وتحل عنده مسائل الخلافات المعقدة. ويشرف على شؤون البلاد المالية. وهو المتصرف والمسؤول الأول عن بيت المال. ويشرف على شؤون التعليم. ويهتم بأمر الفقراء والمساكين.

ومما يدعم سلطان الإمام، اعتماد الإمامة، في حكمها، على مبادئ الشرع والدستور الإسلامي، الذي لا يجرؤ أحد على مخالفته. وهذا ما يعطي الإمام صلاحية مطلقـة في العمـل والإشراف، ما دام متماشياً مع الشرع وموافقاً لتعاليمه.

كان الإمام في الدولة السعودية الأولى، يقود الجيوش الغازية، في أكثر الأوقات، باستثناء حالات المرض أو السفر، أو الظروف التي تحول دون مشاركته في الغزو. وفي مثل هذه الحالات، كان ينوب عنه ولي عهده.

ويقيم الإمام، ويمارس مهام عمله، في الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى. وكان له ديوان في قصره، يجتمع فيه إلى مستشاريه وقضاته وأمرائه ورؤساء الأقاليم والشيوخ والعلماء. 2. ولي العهد

كانت ولاية العهد، في الدولة السعودية الأولى، وراثية. ويعهد بها الإمام الحاكم إلى أكبر أبنائه . ويذكر ابن بشر، أن "الشيخ محمد (ابن عبدالوهاب) ـ رحمه الله تعالى ـ أمر أهل بلدان نجد، وغيرهم، أن يبايعوا سعود بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ وأن يكون ولي العهد، بعد أبيه، وذلك بأمر عبدالعزيز. فبايعه جميعهم". وكان ذلك في عام 1202هـ/1787م.

وعلى المنوال نفسه، جرت البيعة لعبدالله بن سعود، ولياً للعهد، في زمن أبيه، الإمام سعود.

ومن سلطات ولي العهد وواجباته، أنه ينوب عن الإمام، في القيام بمهام الدولة، أثناء غيابه، في حالات الغزو أو المرض أو العجز. وكان الإمام يعهد إلى ولي العهد بقيادة الجيوش الغازية، ويعده القائد العام لقواته. وكثيراً ما كان يمارس ولي العهد الأمور الحربية والإدارية، أثناء عهد أبيه، وذلك من أجل تدريبه، وإعداده للمستقبل، ولكي يتعرف بالناس ومشكلاتهم. 3. أمراء الأقاليم

بعد توسع الدولة السعودية، وفرض سيطرتها على نواحي نجد، وغيرها من مناطق شبه الجزيرة، صار الإمام السعودي، يعين على أقاليم دولته أمراء، يطلق عليهم لقب أمراء الأقاليم، أو حكام الأقاليم. ولم يكن واحد منهم من أفراد الأسرة السعودية. وقد وجدت هذه المناصب العليا في المناطق، لتسد الحاجة الإدارية، بعد أن توسعت الدولة، فشملت العديد من المناطق.

وقد راعى الإمام، أن يكون حكام الأقاليم ممن التزموا بتعاليم الدعوة السلفية، وأخلصوا ولاءهم للدولة السعودية ونظامها. أضف إلى هذا، أن الإمام، كان يقدر الرؤساء المحليين، لما لهم من نفوذ قوي عند جماعتهم، وفي مناطقهم، من جهة، ولأنهم أدرى بمشكلات سكان مناطقهم من غيرهم، لأنهم على صلة قوية بهم، من جهة أخرى.

ومنصب الأمير أو حاكم الإقليم، منصب مهم وحساس؛ لأنه من أهم مراكز القيادة في الدولة. فالأمير هو الممثل الأول للإمام، في إقليمه، والمسؤول العام عن الإقليم، وهو المشرف على إدارته وماليته. وهو المسؤول الأول عن قيادة غزوه، وتجميعه عند الطلب، وتجهيز القوات. وهو المسؤول عن جمع الزكاة والأعشار، وعن توزيع ما يرسله الإمام، من عطايا، إلى إقليمه. فالأمير يتمتع بسلطات واسعة، في إقليمه.

وعلى الرغم من هذه السلطات الواسعة الممنوحة أمراء الأقاليم، إلا أن شخصيتهم، القيادية والاعتبارية، تظل في مستوى أقل بكثير من مستوى الإمام، أو ولي العهد.

ومهما يكن من نفوذ هؤلاء الأمراء (حكام الأقاليم)، إلا أن هذا لم يعصمهم من العزل أو النقل أو السجن أو المحاكمة أو النفي، في حال مخالفتهم لنظم الدولة، أو إذا ثبت تلاعبهم وغشهم في عملية جمع الزكاة. وإن فرض مثل هذا العقوبات على الأفراد وتطبيقها، يعد دلالة واضحة على مدى ما يتحلى به الإمام من سلطات قوية.

وقامت أسر معينة، في الدولة السعودية الأولى، بمد الدولة بحكام للأقاليم، مثل آل عفيصان، ومطلق المطيري.

وإلى جانب أمير الإقليم، فإن هناك قاضي الشرع، الذي يقوم بالفصل في المخاصمات بين المتنازعين، ويشرف على تطبيق أحكام الدين في المنطقة، إضافة إلى الأمور الأخرى، التي تهم الجانب الديني في الإقليم. وللقضاء كلمة مسموعة عند الحكام والناس.

وهناك، أيضاً، عمال الزكاة، ووظيفتهم جمع الزكاة من السكان، طبقاً لأحكام الشرع الإسلامي. وبعد عملية جمع الزكاة، يقوم أمير الإقليم بإرسالها إلى بيت المال، في العاصمة. 4. الشورى

بعد أن حالف الإمام محمد بن سعود الشيخ محمد بن عبدالوهاب، صار يستشيره في كل الأمور، ولا يأخذ بأمر، إلا عن إذنه. وظل الحال هكذا، في أول عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد. فكان يستشير الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كل أمور الدولة، وبخاصة القضايا الدينية منها. إلى جانب هذا، كان الإمامان يستشيران العلماء، وأصحاب الرأي في البلاد، وبخاصة أولئك الذين يقيمون بالدرعية. ولكن، بعد اتساع الدولة، وتعقد شؤونها، فوض الشيخ محمد كل الأمور، السياسية والعسكرية، إلى الإمام عبدالعزيز. وتفرغ هو للأمور الدينية.

وقد تطور أمر الشورى في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز، الذي كان يستشير العلماء والأمراء، وأبناء الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وشيوخ القبائل، وأصحاب الرأي في البلاد. وعند الحرب، كان الإمام يشكل مجلس شورى الحرب، من القادة، ورؤساء القبائل، وأصحاب الخبرة العسكرية. يقول ابن بشر، في سيرة الإمام سعود بن عبدالعزيز: "وكان ذا رأي باهر، وعقل وافر. ومع ذلك، إذا أهمه أمر، وأراد إنفاذ رأي، أرسل إلى خواصه، من رؤساء البوادي، واستشارهم. فإذا أخذ رأيهم، وخرجوا من عنده، أرسل إلى خواصه، وأهل الرأي من أهل الدرعية، ثم أخذ رأيهم. فإذا خرجوا من عنده، أرسل إلى أبناء الشيخ (محمد بن عبدالوهاب)، وأهل العلم من أهل الدرعية، واستشارهم. وكان رأيه يميل إلى رأيهم، ويظهر لهم ما عنده من الرأي".

وتنقسم الشورى إلى شورى خاصة، وأخرى عامة. فالشورى الخاصة، تضم عدداً من الأفراد والقضاة والفقهاء والقادة، وبعض أفراد الأسرة السعودية. وتجتمع هذه النخبة في العاصمة، حينما يأمر الإمام باجتماعها. ويكون لها دور كبير في حالات الحرب، أو عند تعيين ولي العهد، أخذاً بمبدأ الشورى.

والشورى العامة، كانت تعقد على شكل اجتماعات عامة، وفي مناسبات معينة، لدراسة بعض المشكلات، المتعلقة بالأقاليم، أو في حالة حدوث عصيان أو تمرد، من قبل بعض المناطق في الدولة. ثانياً: النظام الحربي

لم يكن للدولة السعودية الأولى جيش منظم، بالمفهوم الذي نعرفه عن الجيوش المنظمة، المتخصصة بالشؤون الحربية. وإنما كان لها جيش جهاد، ينعقد لواؤه، لدى أمر الإمام بذلك، ويعلن النفير العام. وكانت تعبئة جيش الجهاد، كما ذكرها ابن بشر، في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز، تتم بالطرق الآتية:

1. كان الإمام يرسل رجالاً (حواويش) من عنده، إلى القرى والمدن، والقبائل الخاضعة له، يحوشون (يجمعون) رجالها للغزو. ويأمر مشايخ هذه المناطق وعمالها، بأن يعد كل منهم العدد، الذي كان الإمام يحدده لكل قرية أو قبيلة أو منطقة، ومعهم رواحلهم ومؤنهم وذخيرتهم.

2. كان الإمام يحدد للجميع ميعاداً معيناً، في مكان معين. وعادة، يكون قرب ماء معروف لدى الجميع.

3. كان الإمام يرد إلى أهل القرية أو القبيلة من يقدمونه، ويعيدهم إذا تقاعسوا عن الوفاء بالعدد المطلوب، أو كان العدد الذي قدموه ضعيفاً، أو غير مجهز باللازم من المؤن والرواحل، أو تأخر العساكر عن موعدهم المضروب لهم. وبعد الغزو يبدأ بتأديب تلك القرية أو القبيلة.

4. كان الإمام يحدد للقرية أو القبيلة، المدة التي يستغرقها الغزو؛ ليعلم الجندي مقدار ما يكفيه من الزاد والذخيرة.

5. كان الإمام يَكِلُ الأمور في الدولة، إلى ولي عهده، أو أحد أبنائه، إذا حان وقت الخروج، بعد اكتمال الجموع. وكان خروجه، غالباً ما يكون يوم الخميس أو الإثنين.

ويصف المؤرخ النجدي، عثمان بن بشر، تنظيم القوات وطريقة القتال، في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز، فيقول:

"كان الإمام يرسل إلى جميع البوادي حواويش، (رجال يحوشون الناس أي يجمعونهم) من أقطار شبه الجزيرة، للغزو معه، ويواعدهم يوماً معلوماً، على ماء معلوم. فلا يتخلف أحد منهم عن ذلك اليوم، ولا لذلك الموضوع. ويواعد، أيضاً، جميع المسلمين من أهل البلدان، موضعاً معلوماً. فيسارع الجميع إليه قبله. ثم يركب من الدرعية، إما يوم الخميس أو يوم الإثنين... فإذا سار، وجد جميع المسلمين على مواعيدهم. فيسير بجميع المسلمين، الحاضر والباد. وينزل في المنزل، قبل غروب الشمس. ويرحل، قبل شروقها. ويقيل الهاجرة. ولا يرحل حتى يصلي صلاتَي الجمع، الظهر والعصر. ويجتمع الناس، للدرس عنده، بين العشاءين (أي المغرب والعشاء)، كل يوم، إلا قليلاً، وعند كل ناحية من نواحي المسلمين. ويرتب في كل ناحية إماماً، يصلي بعد الإمام الأول، الذي يصلي بالعامة. فيصلي الثاني بالمتخلفين عند المتاع، والطباخين وغيرهم، من الموكلين بإصلاح الأحوال، وذلك لئلا يصلوا فرادى. فإذا قرب من العدو نحو ثلاثة أيام بعث عيونه أمامه. ثم عـدا، فلا يلبث حتى يبغتهم، وينزل قريباً منهم..".

كان القتال يبدأ بعد صلاة الصبح. ويبدأ الأفراد قتالهم بالتكبير. وكانت الحرب تعتمد على الشجاعة والكثرة في العدد، لأن فنون الحرب ونظمها التدريبية، تكاد تكون معدومة لديهم. ولكنهم يجيدون الكر والفر، وحرب السيف، وقتال الصحراء، وتحمّل أهواله.

كانت أسلحة مقاتلي الدولة، لا تزيد على كونها أسلحة بدائية تقليدية، هي البنادق، التي تضرب بالفتيلة، والسيوف والخناجر والسهام والرماح.

كان الإمام يوزع على جيش الجهاد، الغنائم التي يحصل عليها الجيش، بعد انتصاره. فكان الإمام يأخذ خمس الغنائم لبيت المال، ثم تباع الأخماس الأربعة الباقية، وتوزع على الجند. فكانت حصة الفارس سهمَين، وحصة الرجل سهماً واحداً. وكانت القوات الغازية تظل في حالة النفير هذه، حتى يصدر الإمام أمراً بانصرافها إلى أوطانها.

وكان هناك حاميات سعودية، تدخل في عداد الجند الثابت في الوظيفة العسكرية. وظيفتها المحافظة على الأمن والنظام في البلدان. وكانت تستبدل، كل عام. وكانت توجد في الدرعية والقطيف والهفوف والبريمي ومكة والمدينة والطائف، بعد انضمام الحجاز إلى الدولة، إضافة إلى الحرس الخاص للإمام وولي عهده والأمراء الآخرين.

ولم يكن للدولة السعودية الأولى سفن حربية، تشكل أسطولاً حربياً، على الرغم من أنها كانت تسيطر على أجزاء واسعة، من منطقة الخليج العربي. وإنما كانت تستعين، عند الحاجة، بسفن الغوص، التابعة للقبائل القاطنة في الساحل، التي تعمل في صيد الأسماك واللؤلؤ. ثالثاً: النظام القضائي

قامت الدولة السعودية الأولى على أساس ديني، وسارت وفقاً لأحكام القرآن والسُّنة، واجتهادات السلف. لذا، فإن منصب القاضي، هو من المناصب الحساسة، والمهمة، في المنطقة، لأنها على احتكاك مباشر بالناس ومصالحهم الشخصية العامة.

ويشترط في من يتولى منصب القاضي، أن يكون من علماء الشرع، الذين لهم خبرة طويلة بممارسة العلوم الشرعية، كي يستطيع الفصل في المنازعات والشكاوى والقضايا، التي تعرض عليه، في منطقة عمله. وأن يكون من المشهود لهم بالنزاهة. وكان الإمام عبدالعزيز بن محمد، هو أول من عين قضاة في أقاليم الدولة السعودية وركز، في اختياره للقضاة، في أقدرهم وأشهرهم في ممارسة القضاء، وأعدلهم في الحكم والفصل في القضايا. وكانت تصرف للقضاة رواتب سنوية، من بيت المال.

وقد وزعت الدولة القضاة على جميع الأقاليم. والقاضي يأتي في الدرجة الأولى، من حيث الرتبة، بعد أمير الإقليم. ومنصب القاضي، يكاد يكون ثابتاً. وكثير من القضاة، خدموا الدولة مدة حياتهم. ويعود ذلك إلى كون منصب القاضي منصباً دينياً، يختلف تماماً عن المناصب، السياسية والإدارية، التي تتأثر، عادة، بالتغييرات، السياسية والإدارية. ويزيد في تثبيت القاضي عدله، وقوة شخصيته، وجرأته على تنفيذ أحكام الشرع، وبُعده عن الشبهات والأمور الضارة بمنصبه.

كانت الدولة السعودية الأولى، تنفذ أحكام الشرع في المخالفين والمجرمين. وكان القاضي يأخذ بالمذهب، الذي يراه أقرب إلى الصواب، وإن خالف ذلك مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وكان لهذا الإجراء التطبيقي، أثر كبير في تفاوت الأحكام، في الحالات المتشابهة، والمتقاربة.

وبفضل تطبيق أحكام الشرع على المجرمين والمخالفين، في كل مناطق الدولة، وعدم التساهل في موضوع الأمن، بوصفه ضرورة ملحة للمصلحة العامة ـ ساد شعور عام لدى الناس، أن تنفيذ العقاب، أمر لا تهاون فيه. فقلّت نسبة الجرائم والمخالفات، مما ساعد على استتباب الأمن والنظام، وعمت أرجاء الدولة الطمأنينة والأمن، الذي كان مفقوداً، قبيل الدولة السعودية. يقول ابن بشر: "وأما أمان الرعية … فكان الراكب والراكبان والثلاثة، يسيرون، بالأموال العظيمة، من الدرعية والوشم وغيرهما من النواحي، إلى أقصى اليمن وينبع، البر والبحر، وعُمان، وغير ذلك، لا يخشون أحداً إلا الله، لا مكابراً، ولا سارقاً". رابعاً: النظام المالي

كان للدولة السعودية بيت مال، موارده من:

1. الزكاة

زكاة الزروع والثمار، ومقدارها عشرة في المائة، إن سقيت بغير آلة، و5%، إن سقيت بآلة. وزكاة النقدَين: الذهب والفضة، وهي ربع العشر، أو 2.5%. وزكاة السائمة، من البقر والأغنام والإبل، فيدفع من يملك خمسة جمال شاة، أو ما يقابلها نقداً. وزكاة عروض التجارة، ومقدارها ربع العشر، أو 2.5%.

يقول ابن بشر، في صدد الزكاة، التي كانت تأخذها الدولة السعودية الأولى، في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز، ما يلي:

"وأما عماله، الذين يبعثهم لقبض زكاة الإبل والغنم، من بوادي شبه جزيرة العرب، مما وراء الحرمَين الشريفَين، وعُمان واليمن والعراق والشام، وما بين ذلك، من بوادي نجد ـ فذكر لي بعض خواص سعود، ممن قد صار كاتباً عنده، قال: كان يبعث إلى تلك البوادي بضعاً وسبعين عاملة، كل عاملة سبعة رجال. وهم أمير وكاتب وحافظ دفتر وقابض للدراهم، التي تباع بها إبل الزكاة والغنم، وثلاثة رجال خدام لهؤلاء الأربعة، لأوامرهم، وجمع الإبل والأغنام المقبوضة في الزكاة، وغير ذلك. وتلك من غير عمال نواحي البلدان، من الحضر، لخرص الثمار، وعمال زكاة العروض والأثمان، وغير ذلك. وأخبرني ذلك الرجل، أن سعوداً بعث عماله لبوادي الغز، المعروفين في ناحية مصر . وبعث عماله، أيضاً، لبوادي يام، في نجران. وقبضوا من الجميع الزكاة. قال: وأتوا عمال آل فدعان المعروفين، من بوادي عنزة، بزكاتهم. فبلغت أربعين ألف ريال، من غير خرج العمال، وثمان أفراس من الخيل الجياد . . . والذي يأخذه سعود على بندر اللحية، المعروفة في اليمن، مائة وخمسون ريال، وهو لا يأخذ إلا ربع العشر. ومن بندر الحديدة نحو ذلك. ويأتي من بوادي عنزة، أهل خيبر، شيء كثير. قال: والذي يحصل من بيت مال الأحساء، يقيم أثلاثاً، ثلث يدخره لثغوره وخراجاً لأهلها والمرابطة فيه، وثلث خراجاً لخيالته ونوابه، وما يخرجه لقصره وبيوت بنيه، وبيت آل الشيخ وغيرهم في الدرعية، وثلث يباع بدراهم، وتكون عند عماله، لعطاياه وولاته. قال: ويحصل بعد ذلك ثمانون ألف ريال، تظهر للدرعية. قلت وأما غير ذلك مما يجبى إلى الدرعية من الأموال، من القطيف والبحرين وعُمان واليمن وتهامة والحجاز وغير ذلك، وزكاة ثمار نجد وعروضها وأثمانها ـ لا يستطيع أحد عدّه، ولا يبلغه حصره، ولا حده وما ينقل إليها من الأخماس والغنائم أضعاف ذلك".

ويذكر بوكهارت، أن زكاة الدولة السعودية الأولى، كانت تصل إلى حوالي مليونَي ريال. وقد أورد ذلك، نقلاً عن بعض أّهالي مكة المكرمة. ويتفق ما رواه بوكهارت مع ما ذكره صاحب "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب"، أن زكاة الدولة السعودية الأولى وصلت إلى أكثر من مليونَي ريال.

وهذا جدول الزكاة، في عهد الإمام سعود بن عبدالعزيز:

المنطقة


مقدار الزكاة بالريالات

بوادي نجد


400 ألف

بوادي اليمن وتهامة وعمان


500 ألف

الأحساء


400 ألف

القطيف


200 ألف

البحرين


40 ألفاً

الحجاز


200 ألف

رأس الخيمة


120 ألفاً

عُمان


150 ألفاً

محاصيل الأملاك في نجد والأحساء


300 ألف

الجملة


2310000

2. خمس الغنائم

والمصدر الثاني لبيت المال، ما كان يصله من خمس الغنائم. وهو يشكل نسبة كبيرة من وارداته. الجدير بالذكر، أن خمس الغنائم، كان يصل من كل أقاليم الدولة، التي تقوم فيها غزوات، ترتب عليها وجود غنائم، كثرت هذه الغنائم أو قلت. فكان على أمير الإقليم، أن يجمع خمسها، ويرسله إلى الدرعية، ليوضع في بيت المال. ويمكن تعرف أهمية هذا المورد، عند النظر إلى ازدياد الغزوات. ومن الواضح، أن حجم هذا المورد يزداد ويقلّ، تبعاً لزيادة الغزوات وقلتّها.

3. الأموال المصادرة

كان النظام السعودي، يقضي بمصادرة أموال الخارجين عن الأمن، والعابثين به، وضمها إلى بيت المال، إضافة إلى العقاب الجسماني.

وكانت الدولة السعودية، تقوم بالإنفاق من بيت المال، على الأوجه الشرعية الآتية:

· كانت الدولة تدفع من بيت مالها إلى من لهم حق في الزكاة، من الفقراء والمساكين، بالقدر الذي يكفل الحياة.

· كانت الدولة تخصص مبلغاً من المال، ليصرف على أبناء السبيل. فتقدم إليهم الطعام والإقامة، وبعض الأموال اللازمة لسفرهم إلى بلادهم. وقد عممت ذلك في كل أقاليمها، بتخصيص مبلغ من المال لكل إقليم، ليصرف على هذا الباب.

· كانت الدولة تخصص مبالغ من بيت المال، لبناء المساجد، ولتصرف على حلقات الدروس فيها، وعلى علمائها وطلاب العلم، وعلى الأئمة والمؤذنين.

· كانت الدولة تدفع من بيت المال أجور العمال، الذين يقومون بجباية الزكاة. وكانت تدفع رواتب القضاة وأمراء المناطق، وجنود الحاميات السعودية، في المناطق، الذين يؤدون مهمة الأمن والحراسة والحسبة. إلى جانب مخصصات الأمراء، الذين يقودون الجيوش في القتال، ويشاركون في إدارة شؤون الدولة وأعمالها.

· كانت الدولة تخصص مبلغاً لمصروفات الضيافة، ولمساعدة المتضررين من جراء النكبات والكوارث، التي تحل بالبلاد، والتي تؤثر في السكان. كما خصصت الدولة مبلغاً من المال، لسد حاجات بعض الأقاليم، التي لا تكفي واردات بيت مال كلٍّ منها مصروفاته وحاجاته. إضافة إلى هذا كله، فقد خصصت الدولة مبلغاً من المال، للمشروعات الاجتماعية، والصدقات.


الملاحق

الخرائط

المصادر والمراجع

المصادر