الدماغ الثاني ... في أمعائنا

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الدماغ الثاني ... في أمعائنا

د.إيهاب عبد الرحيم محمد

في أعماق أحشائك، تقبع ذات حركية معقدة- وهي جهاز عصبي كامل يحتوي على خلايا عصبية أكثر من تلك التي يضمها الحبل الشوكي، بل وأكثر من الخلايا التي يحتوي عليها بقية الجهاز العصبي الطرفي- هناك أكثر من 100 مليون خلية عصبية في الأمعاء الدقيقة وحدها!

على الرغم من أن البعض كانوا يعتبرونه مجرد تجمع بسيط من العقد العصبية، يعرف الجهاز العصبي المعوي (Enteric Nervous System; ENS) حاليا لكونه دماغا ثانيا مستقلا بذاته. وبرغم أننا لا نزال غير قادرين على الربط بين السلوكيات المعقدة مثل حركة الأمعاء والإفرازات المعوية، وبين خلايا عصبية محددة، إلا أن الأبحاث الجارية في هذا المجال تتقدم بسرعة هائلة، مما سيؤدي لحدوث تطورات مهمة في تدبير الأمراض الوظيفية للأمعاء.

من الناحيتين التركيبية والكيميائية، يعد الجهاز العصبي المعوي دماغا بحد ذاته، فبين تلافيف الأمعاء التي يبلغ طولها عدة أمتار، تقبع شبكة معقدة من الخلايا العصبية التي يتحكم في أنشطتها عدد من الناقلات العصبية Neurotransmitters والمعدِّلات العصبية Neuromodulators ، أكبر بكثير مما يوجد في أي مكان آخر من الجهاز العصبي الطرفي، مما يسمح للجهاز العصبي المعوي بممارسة أنشطته بصورة مستقلة عن الجهاز العصبي المركزي- وهي صفة فريدة أتاحت لعلماء البيولوجيا العصبية المعوية دراسة تطور الخلايا العصبية والوسائط الكيميائية للسلوك المنعكس داخل بيئة المختبر، مما أدى لظهور فرع علمي مستقل هو طب أعصاب الجهاز الهضمي Neurogastroenterology.

نبذة تاريخية:

يرجع البحث في طب أعصاب الجهاز الهضمي للقرن التاسع عشر، حيث أظهر الباحثان البريطانيان وليام بايلس Bayliss وإرنست ستارلنج Starling أن الضغط على تجويف البطن في الكلاب المخدَّرَة يؤدي إلى انقباض الفم وارتخاء الشرج، يليها حدوث موجة دافعة (وهو ما أطلق عليه وقتها اسم "قانون الأمعاء"، ويعرف الآن باسم منعكس التمعج Peristaltic reflex) ، بقوة تكفي لدفع الطعام عبر السبيل الهضمي. ونظرا لأن هذا المنعكس يظل فاعلا حتى بعد قطع الأعصاب الخارجية الواصلة إلى الأمعاء. وقد استنتج بايلس وستارلنج – محقين- أن الجهاز العصبي المعوي عبارة عن محور ذاتي من النشاط العصبي يعمل بصورة مستقلة بدرجة كبيرة عن الجهاز العصبي المركزي. وبعد ذلك بثمانية عشر عاما، أثبت العالم الألماني ترندلنبرج Trendlenburg صحة هذه الاكتشافات بإظهار إمكانية إحداث منعكس التمعج خارج الجسم الحي في الأمعاء المعزولة لحيوانات التجارب، دون مشاركة من الدماغ، أو الحبل الشوكي، أو العقد القحفية. كان ترندلنبرج على علم بأن هذه الاكتشافات فريدة من نوعها؛ فليس هناك عضو طرفي آخر يمتلك مثل هذا الجهاز العصبي الداخلي المعقد؛ فإذا تم قطع الاتصالات العصبية بين الدماغ وبين المثانة أو العضلات الهيكلية على سبيل المثال، فستتوقف جميع الأنشطة الحركية لهذه الأعضاء؛ أما إذا تم قطع الاتصالات العصبية إلى الأمعاء، فستظل وظيفتها كما هي دون تغير. تم نشر أبحاث ترندلنبرج عام 1917، ويبدو أن هناك عددا من معاصريه كانوا يشاركونه الرأي، كما يتضح من وصف الجهاز العصبي المعوي داخل كتاب جون لانجلي Langley الكلاسيكي عن الجهاز العصبي المستقل، والمنشور عام 1921. وقد توقع لانجلي أن هناك الملايين من الخلايا العصبية في الأمعاء، وأنها تؤلف أحد الأجزاء الثلاثة التي وضعها للجهاز العصبي المستقل؛ الودي (السمبتاوي)، واللاودي (الباراسمبتاوي)، والمعوي. كان لانجلي صاحب ومحرر المجلة الفيزيولوجية (مجلة علم وظائف الأعضاء)، ولسوء الحظ فقد كانت علاقته سيئة بالكثيرين من زملائه. ولذلك، فبعد وفاته، قامت هيئة التحرير الجديدة للمجلة الفيزيولوجية بإعادة تصنيف العصبونات المعوية Enteric neurons على أنها جزء من الإمداد العصبي للعصب الحائر (المبهم vagus)، والذي يتحكم في حركة الأمعاء. وبرغم أن هذا التصنيف صحيح إلى حد ما، إلى أنه أدى إلى إهمال مفهوم وجود جهاز عصبي معوي مستقل- فقد انشغل الباحثون بمتابعة التطورات المتلاحقة في مجال الناقلات العصبية؛ حيث تم التعرف على الإبينفرين epinephrine والأستيل كولين acetylcholine كناقلات عصبية في الجهازين السمبتاوي والباراسمبتاوي (برغم أن النقال العصبي الفعلي للجهاز السبمتاوي قد اكتشف لاحقا أنه النور إبينفرين). وقد ظلت هذه النظرية سائدة حتى عام 1965، عندما أثبت الباحث الأمريكي مايكل جيرشون Gershon وجود ناقل عصبي ثالث، وهو السيروتونين؛ يستهدف الجهاز العصبي المعوي. ولتجدد الاهتمام بالجهاز العصبي المعوي جذور تاريخية قوية، فمنذ ما يقرب من 100 عام، أجرى الطبيب الأمريكي بايرون روبنسون Robinson أبحاثا متعمقة عن الموضوع، ضَمَّنَها كتابه المثير للإعجاب بعنوان "الدماغ البطني والحوضي"، والمنشور عام 1907. ويخلص كتاب روبنسون هذا إلى أن الأحشاء البطنية تحتوي على جهاز عصبي هائل ومعقد، يقوم بالتحكم وتنظيم العمليات الحيوية للأحشاء البطنية. ولم يكن روبنسون و لانجلي وحيدين في اهتمامهما بالجهاز العصبي للبطن، فقد كان إدجار كايس Cayce، والذي أطلق عليه اسم أبو الطب الشمولي ، من كبار المتحمسين لفكرة وجود جهاز عصبي بطني مستقل. كان كايس يعتقد بأن الأنماط "المجهولة المنشأ" من بعض المتلازمات العصبية ، مثل الصَرَع والشقيقة (الصداع النصفي)، تنتج عن أسباب بطنية. وقد اقترح كايس عددا كبيرا من المعالجات الطبيعية لهذه المتلازمات.

الدماغ الثاني…كيف تفكر الأمعاء؟

يبدو الهضم عملية مألوفة لدرجة أن أغلب الناس يفضلون عدم التفكير فيها. ولحسن الحظ، فليس عليهم أن يفكروا بذلك- على الأقل باستخدام أدمغتهم التي في رؤوسهم! وبرغم أن قليلين على علم بذلك، فالبشر (والحيوانات الأخرى) يمتلكون دماغا ثانيا يتحكم في أغلب الوظائف الهضمية. في أعماق أحشائك، تقبع ذات حركية معقدة- وهي جهاز عصبي كامل يحتوي على خلايا عصبية أكثر من تلك التي يضمها الحبل الشوكي، بل وأكثر من الخلايا التي يحتوي عليها بقية الجهاز العصبي الطرفي- هناك أكثر من 100 مليون خلية عصبية في الأمعاء الدقيقة وحدها! قد تسهم اضطرابات "الدماغ المعوي" هذا في حدوث متلازمة القولون العصبي ، وهي حالة مرضية تصيب نحو 20 % من سكان البلدان الصناعية، ويعتقد أنها مسؤولة عن خسائر تقدر بنحو 8 مليار دولار من أموال الرعاية الصحية سنويا في الولايات المتحدة وحدها. ويعاني ضحايا هذا المرض من نوبات من الإسهال أو الإمساك المزمن أو كليهما بالتبادل في بعض الأحيان. ويعد تشخيص القولون العصبي أكثر تشخيص يتوصل إليه أطباء الجهاز الهضمي. إن وظيفة الجهاز الهضمي معقدة للغاية، فإذا كان على الدماغ أن يتحكم فيها، لتوجب عليه أن يخصص عددا هائلا من الخلايا العصبية لهذا الغرض وحده؛ ولذلك يرى العلماء أن وظيفة الجهاز العصبي المعوي مستقلة عن الجهاز العصبي المركزي. وعلى الرغم من ذلك، فمن الممكن أن يؤثر الجهاز العصبي المعوي على الجهاز العصبي المركزي عن طريق كل من المنعكسات العصبية neurological reflexes والببتيدات العصبية neuropeptides. ويقدر الباحثون أن 80% من ألياف العصب المبهم تعد واردات حشوية visceral afferents، وأظهرت الأبحاث الحديثة وجود تراكب هائل بين نشاط الببتيدات العصبية في كل من الأمعاء والدماغ. ويعد الجهاز العصبي المعوي مجالا خصبا للأبحاث حاليا، حيث نشرت أكثر من 600 مقالة علمية في الموضوع منذ عام 1985!

الصَرَع البطني:

تم التعرف على وجود ارتباط بين الأعراض البطنية وبين الصَرَع epilepsy منذ زمن بعيد؛ فعلى سبيل المثال، كانت "الاضطرابات المعدية والمعوية" ينظر إليها كعوامل سببية رئيسية من قبل الأطباء في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتعد الأورة aura مثالا آخر على الارتباط البطني للصَرَع، وهي شائعة في بعض أنواع الصَرَع ، فنوبات صَرَع الفص الصدغي تبدأ بالأورة. ومن وجهة نظر طب الأعصاب، فهذه الأورة هي في الواقع نوبة خفيفة تسبق النوبة الصَرَعية الأولية، ويمكن اعتبارها تحذيرا بقرب حدوث النوبة. وفي أغلب الأحيان، تظهر الأورة في صورة اضطراب مبهم في المعدة وينتقل إلى الصدر. وقد أعاد الطب الحديث اكتشاف الصلة بين الصَرَع وبين البطن، وهناك عدد قليل من الأبحاث التي نشرت في الستينات من القرن العشرين، والتي لفتت الأنظار إلى الملامح البطنية المتعلقة بالصَرَع. وخلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، ذكرت تقارير كثير من الأطباء الممارسين الجوانب المتعددة للصَرَع البطني، والتي تشمل: ألم البطن، والغثيان، والانتفاخ، والإسهال؛ مع مظاهر متعلقة بالجهاز العصبي المركزي مثل الصداع، والتخليط، والإغماء. وعلى الرغم من أن الأعراض البطنية قد تتشابه مع تلك الموجودة في حالة القولون العصبي، إلا أنه من الممكن التفريق بينهما بوجود بعض التغير في مستوى الوعي أثناء النوبة، مع تغيرات شاذة في تخطيط كهربية الدماغ (EEG). ومن أهم المشكلات التي تواجهنا في محاولتنا لفهم الصَرَع البطني، نجد التحديد الدقيق للعلاقة بين الأعراض البطنية وبين النشاط العصبي الشاذ في الدماغ. كما تلقى دور العصب المبهم اهتماما خاصا يتمثل في إجراء جراحي يتم فيه زراعة ناظمة pacemaker في العصب المبهم بأعلى الصدر. وقد أدى التنبيه المنتظم للعصب المبهم بواسطة الناظمة إلى تقليل أو إزالة الاختلاجات في بعض المرضى المستعصين على العلاج. فإذا كان تنبيه الجهاز العصبي الطرفي، ممثلا في هذه الحالة بالعصب المبهم، يمكنه تقليل النشاط العصبي الشاذ في الدماغ، فربما كانت الاستثارة المرضية لهذا العصب ، أو غيره من الأعصاب الطرفية، تلعب دورا في سببيات بعض أنواع الصَرَع.


الشقيقة البطنية:

من وجهة النظر الطبية، تظهر الشقيقة (الصداع النصفي: migraine) كمرض جهازي مركب، يظهر على هيئة توليفات متباينة من الأعراض العصبية، والهضمية ، والمستقلة (الأوتونومية). وبرغم أن المكونات العصبية تستأثر بمعظم الاهتمام في التشخيص والعلاج الطبي، فإن وجهات النظر التاريخية- والمعاصرة أحيانا- تخلع على الأعراض الهضمية مكانة مميزة. ويميل المنظور التاريخي لمتلازمة مثل الشقيقة لوضع جميع الأعراض في الاعتبار نحو تفسير أكثر شمولا للمرض. ولذلك، فقد تلقت الملامح الهضمية الرئيسية للشقيقة اهتماما أكثر بكثير، فيما يتعلق بكل من السببيات والعلاج. وقد ركزت معالجات الشقيقة في الماضي على الملامح الهضمية مباشرة ، من خلال مجموعة كبيرة من المعالجات شبه الطبيعية بهدف تحسين وظائف الهضم، والتمثيل الغذائي، والإخراج عبر الأمعاء. أما العلوم الطبية الحديثة ، فقد اعترفت بإعادة اكتشاف الارتباط البطني بالشقيقة بعدة صور؛ أهمها الاعتراف بوجود صورة إكلينيكية مستقلة، أطلق عليها اسم "الشقيقة البطنية" abdominal migraine ، والتي يتم تشخيصها في الأطفال أكثر من الكبار. وقد خلصت الأبحاث المتعددة التي أجريت بهذا الخصوص إلى وجود أدلة مؤكدة على أن الألم البطني المتكرر يعد واحدا من الملامح المبكرة للشقيقة، ويدعم بقوة وجود ارتباط سببي بين الألم البطني الراجع recurrent وبين الشقيقة. وقد اكتشفت العلاقة بين الجهاز الهضمي والشقيقة أيضا في صورة حساسية لبعض أنواع الأغذية؛ فكان المتخصصون في الحساسية يرون أن التعب، والعوامل العصبية والعاطفية، تحدث تغيرات في الأنشطة الحركية للجهاز الهضمي، مما يؤدي لركود الطعام في الاثنا عشري duodenum. ويؤدي ذلك لتشجيع امتصاص مولدات الحساسية ، ويستجيب الجسم لذلك بالشعور بالصداع النصفي (الشقيقة). ويذكر أولئك العلماء أن الأنظمة الغذائية الخاصة بالحساسية تؤدي إلى شفاء 5% من المرضى، وإلى تحسن جزئي في 45% من المصابين بالشقيقة.

التوحد ذو الملامح المعوية:

يظهر المصابون بالتوحد autism ثلاثة أنواع من الأعراض؛ تعطل التفاعل مع المجتمع ، ومشكلات متعلقة بالتواصل والتخيل اللفظي وغير اللفظي، ووجود أنشطة واهتمامات شاذة أو محدودة للغاية. وعادة ما تظهر أعراض التوحد خلال السنوات الثلاث الأولى من العمر، وتستمر طوال الحياة. وعلى الرغم من أن هذا المرض لا علاج له حتى الآن، إلا أن التدبير المناسب له قد يساعد على النمو الطبيعي للطفل، ويقلل من السلوكيات غير المرغوب فيها. وقد أضافت الأبحاث الطبية الحديثة مرض التوحد إلى القائمة المتنامية دوما للأمراض العصبية ذات الملامح البطنية؛ حيث تؤكد تلك الأبحاث على وجود نمط مميز من التهاب الأمعاء في نسبة كبيرة من الأطفال المصابين بالتوحد . وقد يؤدي فهم العلاقة بين الأمعاء وبين الدماغ في مرضى التوحد إلى مزيد من الفهم لهذا المرض المعوِّق. وقد ظهرت أدلة جديدة على دور العامل المعوي في مرضى التوحد، عندما وجد أن مادة السيكريتين secretin فعالة بصورة مدهشة في علاج التوحد لدى بعض الأطفال؛ وهي مادة طبيعية يفرزها الجهاز الهضمي لجميع الثدييات. وعادة ما يتم إعطاء السيكريتين عن طريق الحقن الوريدي البطيء، وهو ما يعرف بالتسريب infusion. وقد حصلت هذه المادة على موافقة هيئة الأغذية والأدوية FDA ، وهي الجهة المسؤولة عن منح التراخيص للأدوية الجديدة في الولايات المتحدة، وذلك لعلاج الاضطرابات الهضمية، على أنها تعتبر علاجا لا يجوز صرفه إلا بموجب وصفة طبية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المضامين الإكلينيكية:

إن احتمال كون أمراض عصبية مثل الصَرَع، والشقيقة، والتوحد، قد تكون ناجمة عن اضطرابات الجهاز الهضمي ، يطرح بعض الأسئلة المحيرة فيما يتعلق بالممارسة الطبية الإكلينيكية والأبحاث الأكاديمية. وتتضمن هذه الأسئلة: ما هي طبيعة المرض؟ وهل يمكن قياسها؟ وإذا ظهر (أو افترض) وجود المرض؛ فما هي أفضل السبل العلاجية المتاحة؟ وهل هناك أي دليل يدعم المعالجات التي تركز على العوامل المرضية في الجهاز الهضمي؟… وأخيرا…هل يمكن شفاء هذه الأمراض؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة؛ يدلنا التاريخ على أن العلاج الطبي للصَرَع والشقيقة في الماضي كثيرا ما كان يضم معالجات موجهة للملامح البطنية لهذه الأمراض. وبصورة خاصة، كان لأبحاث روبنسون تأثير كبير على بعض ممارسي "الطب البديل" – والذي كان لا يزال في مهده- في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وعلى الرغم من أن المعالجة بتقويم العظام osteopathy قد أصبحت جزءا معروفا من الممارسة الطبية المعاصرة، إلا أن المبادئ والأساليب المعتمدة من قبل الممارسين التقليديين للمعالجة بتقويم العظام (مثل المعالجة اليدوية manipulative therapy، والحمية الغذائية، والمعالجة المائية hydrotherapy) قد استخدمت أيضا من قبل العديد من ممارسي بعض فروع الطب البديل، مثل تقويم العمود الفقري باليد chiropractic ، والمعالجة الطبيعية naturopathy. وقد تلقت هذه الأنماط العلاجية اهتماما متزايدا كمعالجات مكملة للطب التقليدي؛ فقد استخدمت المعالجة اليدوية في علاج الشقيقة والصَرَع، واستخدمت الحمية الغذائية في علاج الشقيقة. ويستخدم العلاج المولد للكيتونات ketogenic بصورة متزايدة في علاج الصَرَع، كما استخدمت المعالجة المائية وكمادات زيت الخروع على البطن في علاج الصَرَع والشقيقة.

ماذا بعد؟:

يمكن تناول الأمراض العصبية ذات الملامح الجهازية (وخصوصا ذات الملامح الهضمية المهمة) من منظور الطب التكميلي، والذي يدرك دور الجهاز العصبي البطني من حيث السببيات والعلاج. وعن طريق التوفيق بين المقاربات التاريخية والإكلينيكية المبنية على أجهزة الجسم المختلفة، وبين الأبحاث الحديثة المتعلقة بالجهاز العصبي المعوي، يمكن خلق أسلوب تكميلي يجمع بين أفضل خصائص الممارسة الطبية الحديثة ، مع الأنظمة العلاجية التقليدية والبديلة، والمتوافقة مع الحقائق المؤكدة لعلمي التشريح والفيزيولوجيا (علم وظائف الأعضاء). وعلى الرغم من أن الصَرَع والشقيقة من بين الأمراض الشائعة، فإن النمط البطني لكل منهما نادر بصورة عامة. وبناء على المعطيات التاريخية والحديثة المتوافرة لدينا، يمكن القول بأن الصَرَع والشقيقة المجهولي المنشأ يمكن فهمهما بصورة أكبر إذا تم استقصاء الأعراض البطنية لكل منهما بصورة أكثر تفصيلا. وقد لا يكون الصَرَع والشقيقة البطنيان نادرين في الحقيقة، لكن الطب الحديث يعتبرهما نادري الحدوث لأن قليلا فقط من الاهتمام قد أعطي لفهم معنى الأعراض البطنية المرتبطة بهذه الحالات المرضية.

وربما كانت الأنماط المجهولة المنشأ لكلا المرضين تنطوي على أسباب بطنية. وبالمثل، فإن الجوانب البطنية لمرض التوحد تمثل علامات مميزة لمجموعة فرعية مهمة من هذا الاضطراب الذي يسبب كثيرا من الإعاقة للمصابين به والكثير من الضيق لذويهم. ويجب أن تركز الأبحاث المستقبلية المتعلقة بمسببات وعلاج هذه الحالات المرضية على اكتناف الجهاز العصبي المعوي فيها. ومن وجهة النظر الإكلينيكية، فقد يشير وجود ملامح بطنية مؤثرة إلى ضرورة أن تشتمل الخطة العلاجية على عناصر تقليدية (مثل الحمية، والمعالجة المائية للقولون العصبي، والمعالجة اليدوية)، والتي قد تؤثر بصورة إيجابية على الدماغ البطني والجهاز العصبي المعوي.