الخصائص/باب في نقض المراتب إذا عرض هناك عارض
→ باب متى يكون المحذوف في حكم الملفوظ | الخصائص ابن جني |
باب من غلبة الفروع على الأصول ← |
من ذلك امتناعهم من تقديم الفاعل في نحو ضرب غلامه زيداً. فهذا لم يمتنع من حيث كان الفاعل ليس رتبته التقديم وإنما امتنع لقرينة انضمت إليه وهي إضافة الفاعل إلى ضمير المفعول وفساد تقدم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى. فلهذا وجب إذا أردت تصحيح المسئلة أن تؤخر الفاعل فتقول: ضرب زيداً غلامه وعليه قول الله سبحانه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} وأجمعوا على أن ليس بجائز ضرب غلامه زيداً لتقدم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى. وقالوا في قول النابغة: جزى ربه عني عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات وقد فعل إن الهاء عائدة على مذكور متقدم كل ذلك لئلا يتقدم ضمير المفعول عليه مضافاً " إلى الفاعل " فيكون مقدماً عليه لفظاً ومعنى. وأما أنا فأجيز أن تكون الهاء في قوله: جزى ربه عني عدي بن حاتم عائدة على عدي خلافاً على الجماعة. فإن قيل: ألا تعلم أن الفاعل رتبته التقدم والمفعول رتبته التأخر فقد وقع كل منهما الموقع الذي هو أولى به فليس لك أن تعتقد في الفاعل وقد وقع مقدماً أن موضعه التأخير وإنما المأخوذ به في ذلك أن يعتقد في الفاعل إذا وقع مؤخراً أن موضعه التقديم فإذا وقع مقدماً فقد أخذ مأخذه ورست به قدمه. وإذا كان كذلك فقد وقع المضمر قبل مظهره لفظاً ومعنى. وهذا ما لا يجوزه القياس. قيل: الأمر وإن كان ظاهره ما تقوله فإن هنا طريقاً آخر يسوغك غيره وذلك أن المفعول قد شاع عنهم واطرد من مذاهبهم كثرة تقدمه على الفاعل حتى دعا ذاك أبا علي إلى أن قال: إن تقدم المفعول على الفاعل قسم أيضاً قائم برأسه وإن كان تقديم الفاعل أكثر وقد جاء به الاستعمال مجيئاً واسعاً نحو قول الله عز وجل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} وقول ذي الرمة: أستحدث الركب من أشياعهم خبراً أم عاود القلب من أطرابه طرب وقول معقر بن حمار البارقي: أجد الركب بعد غد خفوف وأمست من لبانتك الألوف وقول دُرنى بنت عبعبة: وقول لبيد: فمدافع الريان عُرِّيَ رسمها خلقاً كما ضمن الوُحِيَّ سِلامها ومن أبيات الكتاب: اعتاد قلبك من سلمى عوائده وهاج أهواءك المكنونة الطلل فقدم المفعول في المصراعين جميعاً وللبيد أيضاً: رزقت مرابيع النجوم وصابها ودق الرواعد جودها فرهامها وله أيضاً: لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها وقال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وقال الآخر: أبعدك الله من قلب نصحت له في حب جمل ويأبى غير عصياني وقال المرقش الأكبر: لم يشج قلبي مِلحوادث إل لا صاحبي المتروك في تغلم وفيها: في باذخات من عماية أو يرفعه دون السماء خيم والأمر في كثرة تقديم المفعول على الفاعل في القرآن وفصيح الكلام متعالم غير مستنكر فلما كثر وشاع تقديم المفعول على الفاعل كان الموضع له حتى إنه إذا أخر فموضعه التقديم فعلى ذلك كأنه قال: جزى عديَّ بن حاتم ربُّه ثم قدم الفاعل على أنه قد قدره مقدماً عليه مفعوله فجاز ذلك ولا تستنكر هذا الذي صورته لك ولا يجف عليك فإنه مما تقبله هذه اللغة ولا تعافه ولا تتبشعه ألا ترى أن سيبويه أجاز في جر الوجه من قولك: هذا الحسن الوجهِ أن يكون من موضعين: أحدهما بإضافة الحسن إليه والآخر تشبيه له بالضارب الرجل هذا مع أنا قد أحطنا علماً بأن الجر في الرجل من قولك: هذا الضارب الرجل إنما جاءه وأتاه من جهة تشبيههم إياه بالحسن الوجه لكن لما اطرد الجر في نحو هذا الضارب الرجل والشاتم الغلام صار كأنه أصل في بابه حتى دع ذاك سيبويه إلى أن عاد " فشبه الحسن الوجه " بالضارب الرجل - من الجهة التي إنما صحت للضارب الرجل تشبيهاً بالحسن الوجه - وهذا يدلك على تمكن الفروع عندهم حتى إن أصولها التي أعطتها حكماً من أحكامها قد حارت فاستعادت من فروعها ما كانت هي أدته إليها وجعلته عطية منها لها فكذلك أيضاً يصير تقديم المفعول لما استمر وكثر كأنه هو الأصل وتأخير الفاعل كأنه أيضاً هو الأصل. فإن قلت إن هذا ليس مرفوعاً إلى العرب ولا محكياً عنها أنها رأته مذهباً وإنما هو شيء رآه سيبويه واعتقده قولاً ولسنا نقلد سيبويه ولا غيره في هذه العلة ولا غيرها فإن الجواب عن هذا حاضر عتيد والخطب فيه أيسر وسنذكره في باب يلي هذا بإذن الله. ويؤكد أن الهاء في " ربه " لعدي بن حاتم من جهة المعنى عادة العرب في الدعاء ألا تراك لا تكاد تقول: جزى رب زيد عمراً وإنما يقال: جزاك ربك خيراً أو شراً. وذلك أوفق لأنه إذا كان مجازيه ربه كان أقدر على جزائه وأملأ به. ولذلك جرى العرف بذلك فاعرفه. ومما نقضت مرتبته المفعول في الاستفهام والشرط فإنهما يجيئان مقدمين على الفعلين الناصبين لهما وإن كانت رتبة المعمول أن يكون بعد العامل فيه. وذلك قوله سبحانه وتعالى {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ف " أي منقلب " منصوب على المصدر ب " ينقلبون " لا ب " سيعلم " وكذلك قوله تعالى " أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي " وقال {أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} فهذا ونحوه لم يلزم تقديمه من حيث كان مفعولاً. وكيف يكون ذلك وقد قال عز اسمه {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} وقال تعالى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ} وقال {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} وقال {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وهو ملء الدنيا كثرة وسعة لكن إنما وجب تقديمه لقرينة انضمت إلى ذلك وهي وجوب تقدم الأسماء المستفهم بها والأسماء المشروط بها. فهذا من النقض العارض. ومن ذلك وجوب تأخير المبتدأ إذا كان نكرة وكان الخبر عنه ظرفاً نحو قولهم: عندك مال وعليك دين وتحتك بساطان ومعك ألفان. فهذه الأسماء كلها مرفوعة بالابتداء ومواضعها التقديم على الظروف قبلها التي هي أخبار عنها إلا أن مانعاً منع من ذلك حتى لا تقدمها عليها ألا ترى أنك لو قلت: غلام لك أو بساطان تحتك ونحو ذلك لم يحسن لا لأن المبتدأ ليس موضعه التقديم لكن لأمر حدث وهو كون المبتدأ هنا نكرة ألا تراه لو كان معرفة لاستمر وتوجه تقديمه فتقول: البساطان تحتك والغلام لك. أفلا ترى أن ذلك إنما فسد تقديمه لما ذكرناه: من قبح تقديم المبتدأ نكرة في الواجب ولكن لو أزلت الكلام إلى غير الواجب لجاز تقديم النكرة كقولك: هل غلام عندك وما بساط تحتك فجنيت الفائدة من حيث كنت قد أفدت بنفيك عنه كون البساط تحته واستفهامك عن الغلام: أهو عنده أم لا إذ كان هذا معنى جلياً مفهوماً. ولو أخبرت عن النكرة في الإيجاب مقدمة فقلت: رجل عندك كنت قد أخبرت عن منكور لا يعرف وإنما ينبغي أن تقدم المعرفة ثم تخبر عنها بخبر يستفاد منه معنى منكور نحو زيد عندك ومحمد منطلق وهذا واضح. فإن قلت: فلم وجب مع هذا تأخير النكرة في الإخبار عنها بالواجب قيل لما قبح ابتداؤها نكرة لما ذكرناه رأوا تأخيرها وإيقاعها في موقع الخبر الذي بابه أن يكون نكرة فكان ذلك إصلاحاً للفظ كما أخروا اللام لام الابتداء مع " إن " في قولهم: إن زيداً لقائم لإصلاح اللفظ. وسترى ذلك في بابه بعون الله وقدرته. فاعلم إذاً أنه لا تنقض مرتبة إلا لأمر حادث فتأمله وابحث عنه.