الخصائص/باب في حكم المعلول بعلتين

من معرفة المصادر

<الخصائص لابن جني

حكم المعلول بعلتين
باب في حكم المعلول بعلتين

وهو على ضربين‏:‏ أحدهما ما لا نظر فيه والآخر محتاج إلى النظر‏.‏

الأول منهما نحو قولك‏:‏ هذه عشري وهؤلاء مسلمي‏.‏ فقياس هذا على قولك‏:‏ عشروك ومسلموك أن يكون أصله عشروي ومسلموي فقلبت الواو ياء لأمرين كل واحد منهما موجب للقلب غير محتاج إلى صاحبه للاستعانة به على قلبه‏:‏ أحدهما اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون والآخر أن ياء المتكلم أبداً تكسر الحرف الذي قبلها إذا كان صحيحاً نحو هذا غلامي ورأيت صاحبي وقد ثبت فيما قبل أن نظير الكسر في الصحيح الياء في هذه الأسماء نحو مررت بزيد ومررت بالزيدين ونظرت إلى العشرين‏.‏ فقد وجب إذاً ألا يقال‏:‏ هذه عشروي بالواو كما لا يقال‏:‏ هذا غلامي بضم الميم‏.‏ فهذه علة غير الأولى في وجوب قلب الواو ياء في عشروي وصالحوي ونحو ذلك وأن يقال عشري بالياء البتة كما يقال هذا غلامي بكسر الميم البتة‏.

ويدل على وجوب قلب هذه الواو إلى الياء في هذا الموضع من هذا الوجه ولهذه العلة لا للطريق الأول -من استكراههم إظهار الواو ساكنة قبل الياء- أنهم لم يقولوا‏:‏ رأيت فاي وإنما يقولون‏:‏ رأيت في‏.‏ هذا مع أن هذه الياء لا ينكر أن تأتي بعد الألف نحو رحاي وعصاي لخفة الألف فدل امتناعهم من إيقاع الألف قبل هذه الياء على أنه ليس طريقه طريق الاستخفاف والاستثقال وإنما هو لاعتزامهم ترك الألف والواو قبلها كتركهم الفتحة والضمة قبل الياء في الصحيح، نحو غلامي وداري‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأصل هذا إنما هو لاستثقالهم الياء بعد الضمة لو قالوا‏:‏ هذا غلامي قيل‏:‏ لو كان لهذا الموضع البتة لفتحوا ما قبلها لأن الفتحة على كل حال أخف قبل الياء من الكسرة فقالوا‏:‏ رأيت غلامَى‏.‏ فإن قيل‏:‏ لما تركوا الضمة هنا وهي علم للرفع أتبعوها الفتحة ليكون العمل من موضع واحد كما أنهم لما استكرهوا الواو بعد الياء نحو يعد حذفوها أيضاً بعد الهمزة والنون والتاء في نحو أعد ونعد وتعد قيل‏:‏ يفسد هذا من أوجه‏.‏ وذلك أن حروف المضارعة تجري مجرى الحرف الواحد من حيث كانت كلها متساوية في جعلها الفعل صالحاً لزمانين‏:‏ الحال والاستقبال فإذا وجب في أحدها شيء أتبعوه سائرها وليس كذلك علم الإعراب‏:‏ ألا ترى أن موضوع الإعراب على مخالفة بعضه بعضاً من حيث كان إنما جيء به دالاً على اختلاف المعاني‏.‏

فإن قلت‏:‏ فحروف المضارعة أيضاً موضوعة على اختلاف معانيها لأن الهمزة للمتكلم والنون للمتكلم إذا كان معه غيره وكذلك بقيتها قيل‏:‏ أجل إلا أنها كلها مع ذلك مجتمعة على معنى واحد وهو جعلها الفعل صالحاً للزمانين على ما مضى‏.‏ فإن قلت‏:‏ فالإعراب أيضاً كله مجتمع على جريانه على حرفه قيل‏:‏ هذا عمل لفظي والمعاني أشرف من الألفاظ‏.‏

وأيضاً فتركهم إظهار الألف قبل هذه الياء مع ما يعتقد من خفة الألف حتى إنه لم يسمع منهم نحو فاى ولا أباى ولا أخاى وإنما المسموع عنهم رأيت أبي وأخي وحكى سيبويه كَسَرت فِيَ أدل دليل على أنهم لم يراعوا حديث الاستخفاف والاستثقال حسب وأنه أمر غيرهما‏.‏ وهو اعتزامهم ألا تجيء هذه الياء إلا بعد كسرة أو ياء أو ألف لا تكون علماً للنصب‏:‏ نحو هذه عصاي وهذا مصلاي‏.‏

وعلى أن بعضهم راعى هذا الموضع أيضاً فقلب هذه الألف ياء فقال‏:‏ عصي ورحي ويا بشري ‏"هذا غلام‏"‏ وقال أبو داود‏:‏

فأبلوني بليتكم لعلي
 
أصالحكم وأستدرج نويا

وروينا أيضاً عن قطرب‏:‏

يطوف بي عكب في معد
 
ويطعن بالصملة في قفيا
فإن لم تثأراني من عكب
 
فلا أرويتكما أبدا صديا

وهو كثير‏.‏ ومن قال هذا لم يقل في هذان غلاماي‏:‏ ‏"غلامَي‏"‏ بقلب الألف ياء لئلا يذهب علم الرفع‏.‏ ومن المعلول بعلتين قولهم‏:‏ سيُ وريُ‏.‏ وأصله سوي وروي فانقلبت الواو ياء -إن شئت-؛ لأنها ساكنة غير مدغمة وبعد كسرة و-إن شئت-؛ لأنها ساكنة قبل الياء‏.‏ فهاتان علتان إحداهما كعلة قلب ميزان والأخرى كعلة طيا وليا مصدري طويت ولويت وكل واحدة منهما مؤثرة‏.‏

فهذا ونحوه أحد ضربي الحكم المعلول بعلتين الذي لا نظر فيه‏.‏

والآخر منهما ما فيه النظر وهو باب ما لا ينصرف‏.‏ وذلك أن علة امتناعه من الصرف إنما هي لاجتماع شبهين فيه من أشباه الفعل‏.‏ فأما السبب الواحد فيقل عن أن يتم علة بنفسه حتى ينضم إليه الشبه الآخر من الفعل‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان في الاسم شبه واحد من أشباه الفعل أله فيه تأثير أم لا؟ فإن كان له فيه تأثير؟ فماذا التأثير وهل صرف زيد إلا كصرف كلب وكعب؟ وإن لم يكن للسبب الواحد إذا حل الاسم تأثير فيه فما باله إذا انضم إليه سبب آخر أثرا فيه فمعناه الصرف؟ وهلا إذا كان السبب الواحد لا تأثير له فيه لم يؤثر فيه الآخر كما لم يؤثر فيه الأول؟ وما الفرق بين الأول والآخر؟ فكما لم يؤثر الأول هلا لم يؤثر الآخر؟ فالجواب أن السبب الواحد وإن لم يقو حكمه إلى أن يمنع الصرف فإنه لا بد في حال انفراده من تأثير فيما حله وذلك التأثير الذي نوميء إليه وندعي حصوله هو تصويره الاسم الذي حله على صورة ما إذا انضم إليه سبب آخر اعتونا معاً على منع الصرف ألا ترى أن الأول لو لم تجعله على هذه الصفة التي قدمنا ذكرها لكان مجيء الثاني مضموماً إليه لايؤثر أيضاً كما لم يؤثر الأول ثم كذلك إلى أن تفنى أسباب منع الصرف فتجتمع كلها فيه وهو مع ذلك منصرف‏.‏ لا بل دل تأثير الثاني على أن الأول قد كان شكل الاسم على صورة إذا انضم إليه سبب آخر انضم إليها مثلها وكان من مجموع الصورتين ما يوجب ترك الصرف.

فإن قلت‏:‏ ما تقول في اسم أعجمي علم في بابه مذكر متجاوز للثلاثة نحو يوسف وإبراهيم ونحن نعلم أنه الآن غير مصروف لاجتماع التعريف والعجمة عليه فلو سميت به من بعد مؤثناً ألست قد جمعت فيه بعد ما كان عليه - من التعريف والعجمة - التأنيث فليت شعري أبالأسباب الثلاثة منعته الصرف أم باثنتين منها فإن كان بالثلاثة كلها فما الذي زاد فيه التأنيث الطاريء عليه فإن كان لم يزد فيه شيئاً فقد رأيت أحد أشباه الفعل غير مؤثر وليس هذا من قولك‏.‏ وإن كان أثر فيه التأنيث الطاريء عليه شيئاً فعرفنا ما ذلك المعنى‏.‏

فالجواب هو أنه جعله على صورة ما إذا حذف منه سبب من أسباب الفعل بقي بعد ذلك غير مصروف أيضاً ألا تراك لو حذفت من يوسف اسم امرأةٍ التأنيث فأعدته إلى التذكير لأقررته أيضاً على ما كان عليه من ترك الصرف وليس كذلك امرأة سميتها بجعفر ومالك ألا تراك لو نزعت عن الاسم تأنيثه لصرفته لأنك لم تبق فيه بعد إلا شبهاً واحداً من أشباه الفعل‏.‏ فقد صار إذاً المعنى الثالث مؤثراً أثراً ما كما كان السبب الواحد مؤثراً أثراً ما على ما قدمنا ذكره فاعرف ذلك‏.

وأيضاً فإن ‏"‏ يوسف ‏"‏ اسم امرأة أثقل منه اسم رجل كما أن ‏"عقرب‏"‏ اسم امرأة أثقل من ‏"هند‏"‏ ألا تراك تجيز صرفها ولا تجيز صرف ‏"‏ عقرب ‏"‏ علماً‏.‏ فهذا إذاً معنى حصل ليوسف عند تسمية المؤنث به وهو معنى زائد بالشبه الثالث‏.‏ فأما قول من قال‏:‏ إن الاسم الذي اجتمع فيه سببان من أسباب منع الصرف فمنعه إذا انضم إلى ذلك ثالث امتنع من الإعراب أصلاً ففاسد عندنا من أوجه‏:‏ أحدها أن سبب البناء في الاسم ليس طريقه طريق حديث الصرف وترك الصرف إنما سببه مشابهة الاسم للحرف لا غير‏.‏ وأما تمثيله ذلك بمنع إعراب حذام وقطام وبقوله فيه‏:‏ إنه لما كان معدولاً عن حاذمة وقاطمة وقد كانتا معرفتين لا ينصرفان وليس بعد منع الصرف إلا ترك الإعراب البتة فلاحق في الفساد بما قبله لأنه منه وعليه حذاه‏.‏ وذلك أن علة منع هذه الإعراب إنما هو شيء أتاها من باب دراك ونزال ثم شبهت حذام وقطام ورقاش بالمثال والتعريف والتأنيث بباب دراك ونزال على ‏"‏ما بيناه‏"‏ هناك‏.‏ فأما أنه لأنه ليس بعد منع الصرف إلا رفع الإعراب أصلاً فلا‏.‏

ومما يفسد قول من قال‏:‏ إن الاسم إذا منعه السببان الصرف فإن اجتماع الثلاثة فيه ترفع عنه الإعراب أنا نجد في كلامهم من الأسماء ما يجتمع فيه خمسة أسباب من موانع الصرف وهو مع ذلك معرب غير مبني‏.‏ وذلك كامرأة سميتها ‏"‏بأذربيجان‏"‏ فهذا اسم قد اجتمعت فيه خمسة موانع‏:‏ وهو التعريف والتأنيث والعجمة والتركيب والألف والنون وكذلك إن عنيت ‏"بأذربيجان‏"‏ البلدة والمدينة لأن البلد فيه الأسباب الخمسة وهو مع ذلك معرب كما ترى‏.‏ فإذا كانت الأسباب الخمسة لا ترفع الإعراب فالثلاثة أحجى بألا ترفعه وهذا بيان‏.‏ ولتحامي الإطالة ما أحذف أطرافاً من القول على أن فيما يخرج إلى الظاهر كافياً بإذن الله‏.