الخصائص/باب في اللفظين على المعنى الواحد يردان عن العالم متضادين
→ باب في إسقاط الدليل | الخصائص ابن جني |
الدور والوقوف منه على أول رتبة ← |
وذلك عندنا على أوجه: احدها أن يكون أحدهما مرسلاً والآخر معللاً. فإذا اتفق ذلك كان المذهب الأخذ بالمعلل ووجب مع ذلك أن يتأول المرسل. وذلك كقول صاحب الكتاب - في غير موضع - في التاء من " بنت وأخت ": إنها للتأنيث وقال أيضاً مع ذلك في باب ما ينصرف وما لا ينصرف: إنها ليست للتأنيث. واعتل لهذا القول بأن ما قبلها ساكن وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكناً إلا أن يكون ألفاً كقناة وفتاة وحصاة والباقي كله مفتوح كرطبة وعنبة وعلامة ونسابة. قال: ولو سميت رجلاً ببنت وأخت لصرفته. وهذا واضح. فإذا ثبت هذا القول الثاني بما ذكرناه وكانت التاء فيه إنما هي عنده على ما قاله بمنزلة تاء " عفريت " و " ملكوت " وجب أن يحمل قوله فيها: إنها للتأنيث على المجاز وأن يتأول ولا يحمل القولان على التضاد.
ووجه الجمع بين القولين أن هذه التاء وإن لم تكن عنده للتأنيث فإنها لما لم توجد في الكلمة إلا في حال التأنيث استجاز أن يقول فيها: إنها للتأنيث ألا ترى أنك إذا ذكرت قلت "ابن" فزالت التاء كما تزول التاء من قولك: ابنة. فلما ساوقت تاء بنت تاء ابنة وكانت تاء ابنة للتأنيث قال في تاء بنت ما قال في تاء ابنة. وهذا من أقرب ما يتسمح به في هذه الصناعة ألا ترى أنه قال في عدة مواضع في نحو "حمراء" و "أصدقاء" و "عشراء" وبابها: إن الألفين للتأنيث وإنما صاحبة التأنيث منهما الأخيرة التي قلبت همزة لا الأولى وإنما الأولى زيادة لحقت قبل الثانية التي هي كألف " سكرى" و "عطشى" فلما التقت الألفان وتحركت الثانية قلبت همزة. ويدل على أن الثانية للتأنيث وأن الأولى ليست له أنك لو اعتزمت إزالة العلامة للتأنيث في هذا الضرب من الأسماء غيرت الثانية وحدها ولم تعرض للأولى. وذلك قولهم "حمراوان" و"عشراوات" و"صحراوي". وهذا واضح.
قال أبو علي -رحمه الله-: «ليس بنت من ابن كصعبة من صعب إنما تأنيث ابن على لفظه ابنة». والأمر على ما ذكر.
فإن قلت: فهل في بنت وأخت علم تأنيث أو لا؟ قيل: بل فيهما علم تأنيث. فإن قيل: وما ذلك العلم؟ قيل: الصيغة "فيهما علامة تأنيثهما" وذلك أن أصل هذين الاسمين عندنا فعل: بنو وأخو بدلالة تكسيرهم إياهما على أفعال في قولهم: أبناء وآخاء. قال بشر بن المهلب:
فلما عدلاعن فَعل إلى فِعل وفُعل وأبدلت لاماهما تاء فصارتا بنتا وأختا كان هذا العمل وهذه الصيغة علماً لتأنيثهما ألا تراك إذا فارقت هذا الموضع من التأنيث رفضت هذه الصيغة البتة فقلت في الإضافة إليهما: بنوي وأخوي كما أنك إذا أضفت إلى ما فيه علامة تأنيث أزلتها البتة نحو حمراوي وطلحي وحبلوي. فأما قول يونس: بنتي وأختي فمردود عند سيبويه. وليس هذا الموضع موضوعاً للحكم بينهما وإن كان لقول يونس أصول تجتذبه وتسوغه.
وكذلك إن قلت: إذا كان سيبويه لا يجمع بين ياءي الإضافة وبين صيغة بنت وأخت من حيث كانت الصيغة علماً لتأنيثهما فلم صرفهما علمين لمذكر وقد أثبت فيهما علامة تأنيث بفكها ونقضها مع ما لا يجامع علامة التأنيث: من ياءي الإضافة في بنوي وأخوي؟ فإذا أثبت في الاسمين بها علامة للتأنيث فهلا منع الاسمين الصرف بها مع التعريف كما تمنع الصرف باجتماع التأنيث إلى التعريف في نحو طلحة وحمزة وبابهما فإن هذا أيضاً مما قد أجبنا عنه في موضع آخر.
وكذلك القول في تاء ثنتان وتاء ذيت وكيت وكلتى: التاء في جميع ذلك بدل من حرف علة كتاء بنت وأخت وليست للتأنيث. إنما التاء في ذية وكية واثنتان وابنتان للتأنيث.
فإن قلت: فمن أين لنا في علامات التأنيث ما يكون معنى لا لفظاً؟ قيل: إذا قام الدليل لم يلزم النظير. وأيضاً فإن التاء في هذا وإن لم تكن للتأنيث فإنها بدل خص التأنيث والبدل وإن كان كالأصل لأنه بدل منه فإن له أيضاً شبهاً بالزائد من موضع آخر وهو كونه غير أصل كما أن الزائد غير أصل ألا ترى إلى ما حكاه عن أبي الخطاب من قول بعضهم في راية: راءة بالهمز كيف شبه ألف راية -وإن كانت بدلاً من العين- بالألف الزائدة فهمز اللام بعدها كما يهمزها بعد الزائدة في نحو سقاء وقضاء. وأما قول أبي عمر: إن التاء في كلتى زائدة وإن مثال الكلمة بها "فِعتل" فمردود عند أصحابنا لما قد ذكر في معناه من قولهم: إن التاء لا تزاد حشواً إلا في "افتعل" وما تصرف منه "و" لغير ذلك غير أني قد وجدت لهذا القول نحواً ونظيراً. وذلك فيما حكاه الأصمعي من قولهم للرجل القواد: الكلتبان وقال مع ذلك: هو من الكَلَب وهو القيادة. فقد ترى التاء على هذا زائدة حشواً ووزنه فعتلان. ففي هذا شيئان: أحدهما التسديد من قول أبي عمر والآخر إثبات مثال فائت للكتاب. وأمثل ما يصرف إليه ذلك أن يكون الكلب ثلاثياً والكلتبان رباعياً كزرم وازرأم وضفد واضفأد وكزغَّب الفرخ وازلَغب ونحو ذلك من الأصلين الثلاثي والرباعي المتداخلين. وهذا غور عرض فقلنا فيه ولنعد.
ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين على غير هذا الوجه. وهو أن يحكم في شيء بحكم ما ثم يحكم فيه نفسه بضده غير أنه لم يعلل أحد القولين. فينبغي حينئذ أن ينظر إلى الأليق بالمذهب والأجرى على قوانينه فيجعل هو المراد المعتزم منهما ويتأول الآخر إن أمكن.
وذلك كقوله: حتى الناصبة للفعل وقد تكرر من قوله أنها حرف من حروف الجر وهذا ناف لكونها ناصبة له من حيث كانت عوامل الأسماء لا تباشر الأفعال فضلاً عن أن تعمل فيها. وقد استقر من قوله في غير مكان ذكر عدة الحروف الناصبة للفعل وليست فيها حتى. فعلم بذلك وبنصه عليه في غير هذا الموضع أن " أن " مضمرة عنده بعد حتى كما تضمر مع اللام الجارة في نحو قوله سبحانه «لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ» ونحو ذلك. فالمذهب إذاً هو هذا.
ووجه القول في الجمع بين القولين بالتأويل أن الفعل لما انتصب بعد حتى ولم تظهر هناك "أن" وصارت حتى عوضاً منها ونائبة عنها نسب النصب إلى "حتى" وإن كان في الحقيقة لـ "أن".
ومثله معنى لا إعراباً قول الله سبحانه: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فظاهر هذا تناف بين الحالتين لأنه أثبت في أحد القولين ما نفاه قبله: وهو قوله ما رميت إذ رميت. ووجه الجمع بينهما أنه لما كان الله أقدره على الرمي ومكنه منه وسدده له وأمره به فأطاعه في فعله نسب الرمي إلى الله وإن كان مكتسباً للنبي صلى الله عليه وسلم مشاهداً منه.
ومثله معنىً قولهم: أذن ولم يؤذن وصلى ولم يصل ليس أن الثاني ناف للأول لكنه لما لم يعتقد الأول مجزئاً لم يثبته صلاة ولا أذاناً.
وكلام العرب لمن عرفه وتدرب بطريقها فيه جار مجرى السحر لطفاً وإن جسا عنه أكثر من ترى وجفا. ومن ذلك أن يرد اللفظان عن العالم متضادين غير أنه قد نص في أحدهما على الرجوع عن القول الآخر فيعلم بذلك أن رأيه مستقر على ما أثبته ولم ينفه وأن القول الآخر مطرح من رأيه.
فإن تعارض القولان مرسلين غير مبان أحدهما من صاحبه بقاطع يحكم عليه به بحث عن تاريخهما فعلم أن الثاني هو ما اعتزمه وأن قوله به انصراف منه عن القول الأول إذ لم يوجد في أحدهما ما يماز به عن صاحبه.
فإن استبهم الأمر فلم يعرف التاريخ وجب سبر المذهبين وإنعام الفحص عن حال القولين. فإن كان أحدهما أقوى من صاحبه وجب إحسان الظن بذلك العالم وأن ينسب إليه أن الأقوى منهما هو قوله الثاني الذي به يقول وله يعتقد وأن الأضعف منهما هو الأول منهما الذي تركه إلى الثاني. فإن تساوى القولان في القوة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له فإن الدواعي إلى تساوي القولان في القوة وجب أن يعتقد فيهما أنهما رأيان له فإن الدواعي إلى تساويهما فيهما عند الباحث عنهما هي الدواعي التي دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلاً منهما.
هذا بمقتضى العرف وعلى إحسان الظن فأما القطع البات فعند الله علمه. وعليه طريق الشافعي في قوله بالقولين فصاعداً. وقد كان أبو الحسن ركاباً لهذا الثبج آخذاً به غير محتشم منه وأكثر كلامه في عامة كتبه عليه. "وكنت إذا ألزمت عند أبي علي -رحمه الله- قولاً لأبي الحسن شيئاً لا بد للنظر من إلزامه إياه يقول لي: مذاهب أبي الحسن كثيرة".
ومن الشائع في الرجوع عنه من المذاهب ما كان أبو العباس تتبع به كلام سيبويه وسماه مسائل الغلط. فحدثني أبو علي عن أبي بكر أن أبا العباس كان يعتذر منه ويقول: هذا شيء كنا رأيناه في أيام الحداثة فأما الآن فلا. وحدثنا أبو علي قال: كان أبو يوسف إذا أفتى بشيء أو أمل شيئاً فقيل له: قد قلت في موضع كذا غير هذا يقول: هذا يعرفه من يعرفه أي إذا أنعم النظر في القولين وجدا مذهباً واحداً. وكان أبو علي -رحمه الله- يقول في هيهات: أنا أفتي مرة بكونها اسماً سمي به الفعل كصه ومه وأفتى مرة أخرى بكونها ظرفاً على قدر ما يحضرني في الحال. وقال مرة أخرى: إنها وإن كانت ظرفاً فغير ممتنع أن تكون مع ذلك اسماً سمي به الفعل كعندك ودونك. وكان إذا سمع شيئاً من كلام أبي الحسن يخالف قوله يقول: عكر الشيخ. وهذا ونحوه من خلاج الخاطر وتعادي المناظر هو الذي دعا اقواماً إلى أن قالوا بتكافؤ الأدلة واحتملوا أثقال الصغار والذلة.
وحدثني أبو علي: قال: قلت لأبي عبد الله البصري: أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارة ومغيبه اخرى. وهذا يدل على أنه من عند الله. فقال: نعم هو من عند الله إلا أنه لا بد من تقديم النظر ألا ترى أن حامداً البقال لا يخطر له.
ومن طريف حديث هذا الخاطر أنني كنت منذ زمان طويل رأيت رأياً جمعت فيه بين معنى آية ومعنى قول الشاعر:
ولم أثبت حينئذ شرح حال الجمع بينهما ثقة بحضوره متى استحضرته ثم إني الآن -وقد مضى له سنون- أعان الخاطر وأستثمده وأفانيه وأتودده على أن يسمح لي بما كان أرانيه من الجمع بين معنى الآية والبيت وهو معتاص متأب وضنين به غير معط.
وكنت وأنا أنسخ التذكرة لأبي علي إذا مر بي شيء قد كنت رأيت طرفاً منه أو ألممت به فيما قبل أقول له: قد كنت شارفت هذا الموضع وتلوح لي بعضه ولم أنته إلى آخره وأراك أنت قد جئت به واستوفيته وتمكنت فيه فيبتسم -رحمه الله- له ويتطلق إليه سروراً باستماعه، ومعرفة بقدر نعمة الله عنده فيه، وفي أمثاله.
وقلت مرة لأبي بكر أحمد بن علي الرازي -رحمه الله- وقد أفضنا في ذكر أبي علي ونبل قدره ونباوة محله: أحسب أن أبا علي قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا فأصغى أبو بكر إليه ولم يتبشع هذا القول عليه.
وإنما تبسطت في هذا الحديث ليكون باعثاً على إرهاف الفكر واستحضار الخاطر والتطاول إلى ما أوفى نهده وأوعر سمته وبالله سبحانه الثقة.