الخصائص/باب في إصلاح اللفظ
→ باب من غلبة الفروع على الأصول | الخصائص ابن جني |
باب في تلاقي اللغة ← |
باب في إصلاح اللفظ اعلم أنه لما كانت الألفاظ للمعاني أزمة وعليها أدلة وإليها موصلة وعلى المراد منها محصلة عنيت العرب بها فأولتها صدراً صالحاً من تثقيفها وإصلاحها. فمن ذلك قولهم: أما زيد فمنطلق ألا ترى أن تحرير هذا القول إذا صرحت بلفظ الشرط فيه صرت إلى أنك كأنك قلت: مهما يكن من شيء فزيد منطلق قتجد الفاء في جواب الشرط في صدر الجزأين مقدمة عليهما. وأنت في قولك: أما زيد فمنطلق إنما تجد الفاء واسطة بين الجزأين ولا تقول: أما فزيد منطلق كما تقول فيما هو في معناه: مهما يكن من شيء فزيد منطلق. وإنما فعل ذلك لإصلاح اللفظ. ووجه إصلاحه أن هذه الفاء وإن كانت جواباً ولم تكن عاطفة فإنها على مذهب لفظ العاطفة وبصورتها فلو قالوا: أما فزيد منطلق كما يقولون: مهما يكن من شيء فزيد منطلق لوقعت الفاء الجارية مجرى فاء العطف بعدها اسم وليس قبلها اسم إنما قبلها في اللفظ حرف وهو أما. فتنكبوا ذلك لما ذكرنا ووسطوها بين الحرفين ليكون قبلها اسم وبعدها آخر فتأتي على صورة العاطفة فقالوا: أما زيد فمنطلق كما تأتي عاطفة بين الاسمين في نحو قام زيد فعمرو. وهذا تفسير أبي علي رحمه الله تعالى. وهو الصواب. ومثله امتناعهم أن يقولوا: انتظرتك وطلوع الشمس أي مع طلوع الشمس فينصبوه على أنه مفعول معه كما ينصبون نحو قمت وزيداً أي مع زيد. قال أبو الحسن: وإنما ذلك لأن الواو التي بمعنى مع لا تستعمل إلا في الموضع الذي لو استعملت فيه عاطفة لجاز. ولو قلت: انتظرتك وطلوع الشمس أي و " انتظرتك طلوع الشمس " لم يجز. أفلا ترى إلى إجرائهم الواو غير العاطفة في هذا مجرى العاطفة فكذلك أيضاً تجري الفاء غير العاطفة في نحو أما زيد فمنطلق مجرى العاطفة فلا يؤتى بعدها بما لا شبيه له في جواز العطف عليه قبلها. ومن ذلك قولهم في جمع تمرة وبسرة ونحو ذلك: تمرات وبسرات فكرهوا إقرار التاء تناكراً لاجتماع علامتي تأنيث في لفظ اسم واحد فحذفت وهي في النية - مرادة البتة - لا لشيء إلا لإصلاح اللفظ لأنها في المعنى مقدرة منوية لا غير ألا تراك إذا قلت " تمرات " لم يعترض شك في أن الواحدة منها تمرة وهذا واضح. " والعناية " إذاً في الحذف إنما هي بإصلاح اللفظ إذ المعنى ناطق بالتاء مقتض لها حاكم بموضعها. ومن ذلك قولهم: إن زيداً لقائم فهذه لام الابتداء وموضعها أول الجملة وصدرها لا آخرها وعجزها فتقديرها أول: لَئنّ زيداً منطلق فلما كره تلاقي حرفين لمعنى واحد - وهو التوكيد - أخرت اللام إلى الخبر فصار إن زيداً لمنطلق. فإن قيل: هلا أخرت " إن " وقدمت اللام قيل: لفساد ذلك من أوجه: أحدها أن اللام لو تقدمت وتأخرت " إن " لم يجز أن تنصب " إن " اسمها الذي من عادتها نصبه من قبل أن لام الابتداء إذا لقيت الاسم المبتدأ قوت سببه وحمت من العوامل جانبه فكان يلزمك أن ترفعه فتقول: لَزيدٌ إنَّ قائم ولم يكن إلى نصب " زيد " - وفيه لام الابتداء - سبيل. ومنها أنك لو تكلفت نصب زيد - وقد أخرت عنه " إن " - لأعملت " إن " فيما قبلها وإن لا تعمل أبداً إلا فيما بعدها. ومنها أن " إن " عاملة واللام غير عاملة والمبتدأ لا يكون إلا اسماً وخبره قد يكون جملة وفعلاً وظرفاً وحرفاً فجعلت اللام فيه لأنها غير عاملة ومنعت منه " إن " لأنها لا تعمل في الفعل ولا في الجملة كلها النصب إنما تعمله في أحد جزأيها ولا تعمل أيضاً في الظرف ولا في حرف الجر. ويدل على أن موضع اللام في خبر " إن " أول الجملة قبل " إن " أن العرب لما جفا عليها اجتماع هذين الحرفين قبلوا الهمزة هاء ليزول لفظ " إن " فيزول أيضاً ما كان مستكرهاً من ذلك فقالوا " لهِنّك قائم " أي لئنك قائم. وعليه قوله - فيما رويناه عن محمد بن سلمة عن أبي العباس -: فإن قلت: فما تصنع بقول الآخر: ثمانين حولاً لا أرى منك راحة لهنك في الدنيا لباقية العمر وما هاتان اللامان قيل: أما الأولى فلام الابتداء على ما تقدم. وأما الثانية في قوله: " لباقية العمر " فزائدة كزيادتها في قراءة سعيد بن جبير {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} ونحوه ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر: ألم تكن حلفت بالله العلي أن مطاياك لمن خير المطي بفتح أن في الآية وفي البيت. وروينا عن أحمد بن يحيى - وأنشدناه أبو علي رحمه الله تعالى -: مروا عجالاً وقالوا: كيف صاحبكم! قال الذي سألوا: أمسى لمجهودا فزاد اللام. وكذلك اللام عندنا في لعل زائدة ألا ترى أن العرب قد تحذفها قال: عل صروف الدهر أو دولاتها يدلننا اللمة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها وكذلك ما أنشده ابن الأعرابي من قول الراجز: ثمت يغدو لكأن لم يشعر رخو الإزار زمح التبختر لهنك في الدنيا لباقية العمر زائدة. فإن قلت: فلم لا تكون الأولى هي الزائدة والأخرى غير زائدة قيل: يفسد ذلك من جهتين: إحداهما أنها قد ثبتت في قوله " لهنك من برق علي كريم " هي لام الابتداء لا زائدة فكذلك ينبغي أن تكون في هذا الموضع أيضاً هي لام الابتداء. والأخرى أنك لو جعلت الأولى هي الزائدة لكنت قد قدمت الحرف الزائد والحروف إنما تزاد لضرب من ضروب الاتساع فإذا كانت للاتساع كان آخر الكلام أولى بها من أوله ألا تراك لا تزيد " كان " مبتدأة وإنما تزيدها حشواً أو آخراً وقد تقدم ذكر ذلك. فأما قول من قال: إن قولهم " لهنك " إن أصله " لله إنك " فقد تقدم ذكرنا ذلك مع ما عليه فيه في موضع آخر وعلى أن أبا علي قد كان قواه بأَخَرةٍ وفيه تعسف. ومن إصلاح اللفظ قولهم: كأن زيداً عمرو. اعلم أن أصل هذا الكلام: زيد كعمرو ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه " إن " فقالوا: إن زيداً كعمرو ثم إنهم بالغوا في توكيد التشبيه فقدموا حرفه إلى أول الكلام عناية به وإعلاماً أن عقد الكلام عليه فلما تقدمت الكاف وهي جارّة لم يجز أن تباشر " إن " لأنها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل فوجب لذلك فتحها فقالوا: كأن ومن ذلك أيضاً قولهم: لك مال وعليك دين فالمال والدين هنا مبتدآن وما قبلهما خبر عنهما إلا أنك لو رمت تقديمهما إلى المكان المقدر لهما لم يجز لقبح الابتداء بالنكرة في الواجب فلما جفا ذلك في اللفظ أخروا المبتدأ وقدموا الخبر وكان ذلك سهلاً عليهم ومصلحاً لما فسد عندهم. وإنما كان تأخره مستحسناً من قبل أنه لما تأخر وقع موقع الخبر ومن شرط الخبر أن يكون نكرة فلذلك صلح به اللفظ وإن كنا قد أحطنا علماً بأنه في المعنى مبتدأ. فأما من رفع الاسم في نحو هذا بالظرفية فقد كفي مئونة هذا الاعتذار لأنه ليس مبتدأ عنده. فإن قلت: فقد حكى عن العرب " أمتٌ في حجر لا فيك " وقولهم: " شرٌ أهرَّ ذا ناب " وقولهم: {سَلَامٌ عَلَيْكَ} قال الله سبحانه وتعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} وقال: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} ونحو ذلك. والمبتدأ في جميع هذا نكرة مقدمة. قيل: أما قوله سلام عليك وويل له وأمت في حجر لا فيك فإنه جاز لأنه ليس في المعنى خبراً إنما هو دعاء ومسألة أي ليسلم الله عليك وليلزمه الويل وليكن الأمت في الحجارة لا فيك. والأمت: الانخفاض والارتفاع والاختلاف قال الله عز وجل: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} أي اختلافاً. ومعناه: أبقاك الله بعد فناء الحجارة وهي مما توصف بالخلود والبقاء ألا تراه كيف قال: وقال: بقاء الوحي في الصم الصلاب وأما قولهم " شر أهر ذا ناب " فإنما جاز الابتداء فيه بالنكرة من حيث كان الكلام عائداً إلى معنى النفي أي ما أهر ذا ناب إلا شر وإنما كان المعنى هذا لأن الخبرية عليه أقوى ألا ترى أنك لو قلت: أهر ذا ناب شر لكنت على طرف من الإخبار غير مؤكد فإذا قلت: ما أهر ذا ناب إلا شر كان ذلك أوكد ألا ترى أن قولك: ما قام إلا زيد أوكد من قولك: قام زيد. وإنما احتيج إلى التوكيد في هذا الموضع من حيث كان أمراً عانياً مهماً. وذلك أن قائل هذا القول سمع هرير كلب فأضاف منه وأشفق لاستماعه أن يكون لطارق شر فقال: شر أهر ذا ناب أي ما أهر ذا ناب إلا شر تعظيماً عند نفسه أو عند مستمعه. وليس هذا في نفسه كأن يطرق بابه ضيف أو يلم به مسترشد. " فلما عناه وأهمه وكد الإخبار عنه " وأخرج القول مخرج الإغلاظ به والتأهيب لما دعا إليه. ومن ذلك امتناعهم من الإلحاق بالألف إلا أن تقع آخراً نحو أرطىً ومعزىً وحبنطىً وسرندىً وزبعرىً وصلخدىً وذلك أنها إذا وقعت طرفاً وقعت موقع حرف متحرك فدل ذلك على قوتها عندهم وإذا وقعت حشواً وقعت موقع الساكن فضعفت لذلك فلم تقو فيعلم بذلك إلحاقها بما هي على سمت متحركه ألا ترى أنك لو ألحقت بها ثانية فقلت: خاتم ملحق بجعفر لكانت مقابلة لعينه وهي ساكنة فاحتاطوا للفظ بأن قابلوا بالألف فيه الحرف المتحرك ليكون أقوى لها وأدل على شدة تمكنها وليعلم بتنوينها أيضاً وكون ما هي في على وزن أصل من الأصول له أنها للإلحاق به. وليست كذلك ألف قبعثرى وضبغطرى لأنها وإن كانت طرفاً ومنونة فإن المثال الذي فيه لا مصعد للأصول إليه فيلحق هذا به لأنه لا أصل لها سداسياً فإنما ألف قبعثرى قسم من الألفات الزوائد في أواخر الكلم ثالث لا للتأنيث ولا للإلحاق. فاعرف ذلك. ومن ذلك أنهم لما أجمعوا الزيادة في آخر بنات الخمسة - كما زادوا في آخر بنات الأربعة - خصوا بالزيادة فيه الألف استخفافاً لها ورغبة فيها هناك دون أختيها: الياء والواو. وذلك أن بنات الخمسة لطولها لا ينتهي إلى آخرها إلا وقد ملت فلما تحملوا الزيادة في آخرها طلبوا أخف الثلاث - وهي الألف - فخصوها بها وجعلوا الواو والياء حشواً في نحو عضرفوط وجعفليق لأنهم لو جاءوا بهما طرفاً وسداسيين مع ثقلهما لظهرت الكلفة في تجشمهما وكدت في احتمال النطق بهما كل ذلك لإصلاح اللفظ. ومن ذلك باب الادغام في المتقارب نحو ود في وتد ومن الناس " ميقول " في " من يقول " ومنه ومن ذلك تسكينهم لام الفعل إذا اتصل بها علم الضمير المرفوع نحو ضربت وضربن وضربنا. وذلك أنهم أجروا الفاعل هنا مجرى جزء من الفعل فكره اجتماع الحركات " الذي لا يوجد " في الواحد. فأسكنوا اللام إصلاحاً للفظ فقالوا: ضربت ودخلنا وخرجتم. نعم وقد كان يجتمع فيه أيضاً خمس متحركات نحو: خرجتما فالإسكان إذاً أشد وجوباً. وطريق إصلاح اللفظ كثير واسع فتفطن له. ومن ذلك أنهم لما أرادوا أن يصفوا المعرفة بالجملة كما وصفوا بها النكرة " ولم " يجز أن يجروها عليها لكونها نكرة أصلحوا اللفظ بإدخال " الذي " لتباشر بلفظ حرف التعريف المعرفة فقالوا: مررت بزيد الذي قام أخوه ونحوه.