الخصائص/باب القول على البناء
وهو لزوم آخر الكلمة ضرباً واحداً: من السكون أو الحركة، لا لشيء أحدث ذلك من العوامل. وكأنهم إنما سموه بناء لأنه لما لزم ضرباً واحداً فلم يتغير تغير الإعراب سمي بناء، من حيث كان البناء لازماً موضعه، لا يزول من مكان إلى غيره، وليس كذلك سائر الآلآت المنقولة المبتذلة، كالخيمة، والمظلة، والفسطاط، والسرادق، ونحو ذلك. وعلى أنه قد أوقع على هذا الضرب من المستعملات المزالة من مكان إلى مكان لفظ البناء، تشبيهاً لذلك -من حيث كان مسكوناً، وحاجزاً، ومظلاً-، بالبناء من الآجر، والطين، والجص، ألا ترى إلى قول أبي مارد الشيباني:
أي لو اتصل الغيث، لأكلأت الأرض وأعشبت، فركب الناس خيلهم للغارات، فأبدلت الخيل الغني الذي كان له قبة من قبته سحق بجاد، فبناه بيتاً له بعد ما كان يبني لنفسه قبة. فنسب ذلك البناء إلى الخيل، لما كانت هي الحاملة للغزاة الذين أغاروا على الملوك فأبدلوهم من قبابهم.
ونظير معنى هذا البيت، ما أخبرنا به أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى من قول الشاعر:
ومثله أيضاً ما رويناه عنه عنه أيضاً، من قول الآخر:
قالوا في تفسيره: إن النعال جمع نعل وهي الحرة، أي إذا اخضرت الأرض بطروا وأشروا، فنزا بعضهم على بعض.
وبنحو من هذا فسر أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال » أي إذا ابتلت الحرار. ومن هذا اللفظ والمعنى ما حكاه أبو زيد من قولهم: «المعزى تبهى ولا تبنى». فتبهى تفعل من البهو، أي تتقافز على البيوت من الصوف فتخرقها، فتتسع الفواصل من الشعر، فيتباعد ما بينها حتى يكون في سعة البهو. ولا تبنى أي لا ثلة لها، وهي الصوف فهي لا يجز منها الصوف ثم ينسجونه، ثم يبنون منه بيتاً. هكذا فسره أبو زيد. قال: ويقال أبنيت الرجل بيتا، إذا أعطيته ما يبني منه بيتاً.
ومن هذا قولهم: قد بنى فلان بأهله، وذلك أن الرجل كان إذا أراد الدخول بأهله بنى بيتاً من أدم، أو قبة، أو نحو ذلك من غير الحجر والمدر، ثم دخل بها فيه فقيل لكل داخل بأهله: هو بان بأهله، وقد بنى بأهله. وابتنى بالمرأة هو افتعل من هذا اللفظ، وأصل المعنى منه. فهذا كله على التشبيه لبيوت الأعراب ببيوت ذوي الأمصار.
ونحو من هذه الاستعارة في هذه الصناعة، استعارتهم ذلك في الشرف والمجد، قال لبيد:
وقال غيره:
وقال الآخر:
ومن الضرب الأول قول المولد:
وهذا واسع غير أن الأصل فيه ما قدمناه.