الخروج من الهامش

من معرفة المصادر

الخروج من الهامش

قصة قصيرة بقلم :محمد همام فكري mhmmamf@gmail.com ( نشرت في المجموعة القصصية بعنوان : الخروج من الهامش , 1993)


أدار مفتاح باب غرفته مرتين ..

مرة عندما فتحه ومرة عندما أعاده إلى حالته الأولى..

بعدها أسلم جسده إلى الكرسي الحديدي القابع خلف الباب وكأنه أكتمل بأجزءه مع نفسه والكرسي ..

بينما كان صدره يعلو ويهبط تحت ذقنه وهو يضغط بكفه المرتعش على صدره محاولاً أعادة قلبه إلى سكينته لكنه لم يفلح إذ كانت خفقات قلبه قد تمردت عليه وغدا صدره كدف يتهاوى في أيدي مجذوب ...

وكادت أن تدمع عيناه عندما اختلطت مشاعره بين الرهبة والفرحة وهو لايصدق ما حدث له اليوم .وهويحدث نفسه : - شيء لايصدقه عقل .. كأنه حلم ..

ماأقسي أن تختلط الأحاسيس وتقع بين .. بين , ويغدو الأبيض أسود والأسود أبيض فيلدا لونًا رماديًا لاهو هذا ولاذاك لكنه شيء آخر ..بين .. بين

- ليس هذا وقت الفلسفة ياعثمان ..

قالها لنفسها معنفاً وكأنه أراد أن يعيش واقع اللحظة عندما هم من مقعده الحديدي ليقف أمام المرآه يستلهم الحقيقة وهو يخطو في زهو قائلاً

- المدير بنفسه بشحمه ولحمه سلم على اليوم ..

وقال لي أمام الجميع :

- كيف حالك ياعم عثمان ؟

لو سمحت مر على باكر ..

- نعم قالها بمليء فمه بعد ثلاثين سنة خدمة أمام الباب الرئيسي للوزارة

- كيف حالك ياعم عثمان لو سمحت مر على باكر

لو سمحت ..نعم لو سمحت .. مر على باكر .. ولكن كيف عرف أنني أنا عثمان .. أقصد الأستاذ عثمان .. لا عم عثمان ..

- لا أنه يعرفني جيدًا لقد توقف عندي أنا بالذات .. عندما التصق ظهري بجدار المدخل الرئيسي وأنا افسح له الطريق ..

أنه يخصني أنا شخصياً ، إضافة إلى أن الوزارة كاملة ليس فيها عم عثمان غيري كما أن الجميع بعده سلم على باهتمام

حسين أفندي والأستاذ عزيز وتوفيق بيه .. حتي عم شعبان الساعي ..

الجميع ردد في صوت واحد ..

- كيف حالك ياعم عثمان ؟

- كيف حالك ياعم عثمان ؟

- كيف حالك ياعم عثمان ؟

وحسين أفندي سلم على أمام المدير وكأنه لم يرني منذ زمن بعيد ..

وهو الذي طردني أمس من مكتبه عندما ذكرته بموضوع الترقية .. ...............سبحان الله ..

أخذ يمشط شعره في المرآه .. وهو يستعيد الحادث بكل تفاصيله مع خطوات رشيقة للأمام وللخلف واضعاً يده في جيبه تارة .. وفي خصره تارة أخرى.. رافعاً حاجبه الأيمن مستكملاً ..

-لكن كيف عرف اسمي ؟

وأنا الذي لم أدخل مكتبه أو اسلم عليه طيلة مدة خدمتي .. أكيد حسين أفندي..

نعم .. فقد مال على أذنه وهو ينظر إلى وهم يهبطون الدرج الرئيسي في البهو ..عندما تسمرت بجوار ساعة التوقيع من هول المفاجأة .. ولاحظ سرعتي في ترتيب ملابسي ومحاذاتي لجدار المدخل في خطوتين خفيفتين رشيقتين للخلف مفسحًا لسيادته الطريق .

- والله فيك الخير ياحسين أفندي ..

ومن يدري .. لعله قد أخبر المدير بأنني الذي أعددت التقرير السنوي للهيئة .

- وماأدراني ربما أخبره أيضا بأنني صاحب القلم البليغ الذي يكتب المذكرات وخطط مشاريع المصلحة وأنني ايضاً الذي يرد علي الحالات التي ترد إلى الهيئة بأكملها ..

ووجدها حسين أفندي فرصة أن يعرفه بي .. ويعطيني حقي وكنت أظنه ينسب كل ما فعلت لنفسه عندما يتسلمه مني ليعرضه على سعادة المدير .

ولكن لماذا لم يعطني هذا الحق في حينه ..

لا.. لا .. لا حسين لايفعلها ..

ربما يكون توفيق بيه هو الذي أخبره .. خاصة وأنه استغاث بي في المذكرة الأخيرة التي وضعت فيها بصمتي العثمانية ..وقلت له بكبرياء الواثق

- خذها لا يقدر عليها إلا العبد الفقير

بعدها التقطها من يدي قائلا :

- سلمت يداك ياعثمان .. مذكرة صحيح لايكتبها إلا عثمان .. سوف ابلغ المدير بموضوعك ..

لا تنس أن تذكرني باكر.. يا عثمان

هاهو لايزال يذكر الموضوع ..دون أن اذكره ..رغم ما مر من أيام وليالي لأنه سلم على بحرارة وهو ينظر للمدير نظرة لها معنى الوفاء وكأنه يذكره بأنني الذي حدثه عنه .. أصيل ياتوفيق بيه .. أبن ناس صحيح ..محترم ولكن لماذا سكت كل هذا الوقت وتركها لظروفها الله أعلم .. المهم أن الرجل كان مهذبًا للغاية عندما التقط يدي بعد أن سلم على المدير لانه ليس من المعقول أن يكون عم شعبان الساعي فماأدراه بعملي ..

-الله أعلم ..

أخذ نفسًا عميقًا وهو يحاول أن يعيد توازنه بعد أن تزاحمت الأفكار في رأسه وتناقضت .. ولم يجد بدًا من أن يرتبها ويستعد للقاء الغد العظيم ومايتطلبه الموقف من أناقة في المظهر وثقة في النفس اسرع إلى خزانة الملابس وأخرج البذلة السوداء ورباط العنق والحذاء الابيض .. وهو يرددفي نشوة

-غدا سوف أضع النقاط فوق الحروف

- بكل تواضع أنا يافندم ..

حتي لو كان في ذلك إحراج للاستاذ حسين أو توفيق بيه فلا شأن لي بهما كاذبان ينسبان جهدي لهما .. وجاءت الفرصة لتظهر الحقيقة وجها لوجه .. وعندها سوف أخبر سيادة المدير بموقفي الوظيفي من الترقية والظلم الذي وقع على من جراء وشاية حسين أفندي .. وافترائه على مع المدير السابق عندما قال له أنني متطرف والله مصيبة - أنا متطرف .. أنا .. قالها بصوت عال...واخذ يكررها .. أنا متطرف .. « ولكن المصيبة أن تقول الحقيقة أو تسكت عليها فهي إن بانت جرحت وإن حجبت أعمت ..» لام نفسه ثانية على التفلسف وعنفها كثيرًا فالأمر لايحتمل أكثر من بعض الكلمات البسيطة التي تنم عن ذكاء .. واحترام لتقاليد السلم الوظيفي .. لو سأل

- هل أنت الذي كتب المذكرة الأخيرة ؟

سأقول له

-نعم يافندم والتي قبلها وأيضا التقرير السنوي و.. و.. ..واسكت

وعندما يثني .. أزيد بقدر وثقة.. ليعرف أنني أهم موظف عنده وعندها سوف يفاجئني بالترقية ..إضافة إلى النقل الأكيد من الأرشيف إلى السكرتارية العامة حيث الأضواء الوهاجه والهواء البارد والوجوه المشرقة وعبير الروائح الفواحة والأبتسامات المحسوبة والأحذية اللامعة ومكتب ...وساعي.. وجرس وهلمّ .. والكل ياأستاذ عثمان .. أستاذ عثمان .. عثمان بك .. وانا طبعا ولا بيه ولا حاجة .. لكنهم سيقولون لي لم يدر كم مر عليه من الوقت ..كأن عقارب الساعة قد دارت دورة وهو يروح ويجيء بين المرآة والنافذة .. وخزانة الملابس .. والتقاط لقمة من هنا ولقمة من هناك .. وكلمة متحفزة وفلسفة عابثة .. معها ذهب الليل دون أن تغفو عينيه أو يهدأ باله أو يرتاح جسده .. حتي دخلت أشعة الشمس من النافذة إلى منتصف الحجرة.. تنبؤه بيوم جديد .. -نعم هذا يوم جديد .. إما أنْ .. أو .. لا داعي للإستغراق في التفكير والتدبير .. المهم الآن أن يتم اللقاء ..يا واد يا عثمان ... وقبل الموعد كان على أهبة الأستعداد يزرع بخطواته الرشيقة الأرض من بيته إلى الهيئة يعيد الأفكار ويختار الألفاظ والإيماءات .. كل شيء محسوب .. الفرصة لا تأتي مرتين ..واللباقة مفتاح السعادة الحمد لله هانت .. ها أنا أمسك بالمفتاح ولم يبق إلا دقائق معدودة واقف وجها لوجه أمام المدير وكان الطريق المؤدي إلى مكتب المدير طويلا ..أو بدا له ..وبدأ الخوف يزداد كلما قطع خطوة في اتجاه مكاتب السكرتارية العامة .. ودقات قلبه لايلاحق بعضها الآخر.. وصوت المدير في أذنيه

- كيف حالك ياعم عثمان .. مر على باكر ..

- كيف .. ياعم عثمان .. مر على باكر ..

- كيف ....ياعم .... باكر ..

- نعم هو الذي طلبني ..

قالها للسكرتيرة التي رحبت به في عذوبة ..

وبابتسامة محسوبة

وإيماءة خفيفة فتحت له الباب ..وهي تقول في حياء رقيق:

- تفضل ياعم عثمان .. سعادة المدير في انتظارك ..

بحذر شديد تمالك قدميه .. وهو ينقلها الواحدة تلو الأخري ثقيلة حتي وجد نفسه حقيقة مع المدير يتبادلان التحية .. وفي أدب شديد قال :

- نعم يافندم ..

- اجلس ياعم عثمان .. هنا قريب ..

- نعم يافندم ..اشكرك يا افندم على ثقتك يافندم أنا فعلا الذي أكتب المذكرات

قالها وهو يجلس على طرف المقعد

- يارجل لننسى الشغل الآن .. أنا أريدك في موضوع آخر .. وبصراحة هو موضوع شخصي.. موضوع يخصني أنا..ولقد أخبرني حسين وتوفيق وسميحة أن مفتاح هذا الموضوع معك أنت ..يا عم عثمان

- نعم يافندم ..العفو .سعادتك .أنا في الخدمة سعادتك وأيضا التقارير سعادتك

"يقولها بثقة ولباقة " ..

- الموضوع كما قلت لك شخصي .. يهمني أنا وبالتحديد بخصوص إبنتي الكبرى ..

-يافندم وأنا في الخدمة ..سعادتك يافندم

- إبنتي ستتزوج الأسبوع القادم ..

- مبروك يافندم ..بالرفاء والبنين يافندم أنا ممكن سعادتك أشهد على عقد القران ..سعادتك

- أنا أريدك في شيء أهم ..يارجل

- العفو .. يافندم ..سعادتك...

-بصراحة موضوع السكر ..وأنت تعلم طبعاً .. الفرح ولوازم الفرح .. المهم نريد عشرة كيلو سكر لزوم الفرح .. وطبعاً أنت لك خبرتك الطويلة مع الطوابير وال... جمعيات .. و شهد لك الجميع .الحقيقة .....وانا كما تعرف لا.....

- مفهوم يافندم ..وأنا يافندم بصراحة أستاذ في موضوع السكر .. باكر يافندم سوف يكون عندك السكر يافندم لا تشغل بالك سعادتك

بدل العشرة عشرين يافندم ..

- على البيت ياعم شعبان .

- عثمان يافندم ..

- على البيت يا عثمان .

- على البيت يافندم ..