الحياة في شرنقة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الحياة في شرنقة
د.إيهاب عبد الرحيم محمد
هناك حالة غريبة بين الموت والحياة، لكنها قد تنقذ حياتك...
حدّق الطبيب في الجسد البارد الذي لا يتحرك للقرد المسجى على الطاولة الحديدية أمامه .. لم يكن لدى الحيوان نبض، أو دم، أو نشاط كهربي في مخه، كما أن أنسجته لم تكن تستهلك أية كمية من الأكسجين. ظل الحيوان على تلك الحالة لساعتين ونصف الساعة. كان القرد يبدو ميتاً. قال الطبيب أنه قد يبدو كذلك، لكنك تستطيع إعادته إلى الحياة ثانية.. لكن كيف؟ يقوم الطبيب بتشغيل مفتاح، وهنا يبدأ الدم في التدفق عبر شرايين الحيوان، مما يعيد إليه حرارته وحيويته بالتدريج. وعند وصول درجة حرارة الجسم إلى 25ْم، يبدأ قلب القرد في النبض بسرعته الاعتيادية ويقفز الحيوان عائداً إلى الحياة.
وطبيبنا هذا جراح للطوارئ بمستشفى تعليمي كبير في الولايات المتحدة، ويقوم باختبار طريقة يمكن بها إنقاذ حياة مرضاه الذين يوشكون على الموت، بتحويلهم إلى حالة من "الحياة المعلّقة" Suspended animation. ويمكن للأطباء الاحتفاظ بمرضاهم في هذه الحالة "الشرنقية" بين الحياة والموت لساعات، أثناء قيامهم بإصلاح الجروح والكسور، ومن ثم إعادة الجسم لحيويته. يمكن لهذه الطريقة أن تنقذ حياة ضحايا حوادث الطلقات النارية، أو حوادث السيارات، وغيرهم من المرضى المصابين بجروح مُهدِّدة للحياة والتي تتسبب في فقد كمية كبيرة من الدم.
وهناك العديد من الباحثين الذين يجرون تجاربهم على حالة الحياة المعلّقة ؛ وتتراوح استراتيجياتهم ما بين استخلاص كامل الأكسجين من الجسم إلى إيقاظ ما يعتقد بعض العلماء أنه قدرتنا الكامنة على الدخول في حالة تشبه البيات الشتوي Hibernation. وبرغم وجود تقنيات إكلينيكية لتحريض الغيبوبة، فهي لا تؤدي سوى إلى تعليق نشاط المخ وحده، لكن بعض الباحثين يدرسون إمكانية تعطيل وظائف كافة أعضاء الجسم. ولا زالوا يستكشفون الآلية الدقيقة المستبطنة لكيف ولماذا يمكن بصورة روتينية " إيقاف" الحياة في المختبر وفي الحيوانات. لكن بعد تجارب لا حصر لها، يخلص أولئك العلماء إلى نتيجة واحدة، وهي أن "هذا الأمر يمكن تحقيقه".
وبرغم أن تجربة القرد هذه وحشية، لكنها بالغة الأهمية إذا أراد طبيبنا أن يحصل على التصريح باستخدام تقنيته على المرضى من البشر؛ فهو يقوم أولاً بتخدير الحيوان لتقليل احتمال شعوره بالألم إلى الحد الأدنى، ثم يشق بطنه بالمبضع. وتصمم القطوع Cuts بحيث تستثير العديد من النزوف إلى صدر وبطن المصاب. يكون النزف سريعاً وشديداً – نحو 50% من الدم الموجود في الجسم- لذا يدلف المريض/ الحيوان سريعاً إلى حالة متقدمة من الصدمة. يقوم الطبيب بعدئذ بنزح دماء القرد وحفظها. وفي النهاية، يقوم بضخ سائل لحفظ الأعضاء – وهو خليط من المغذيات وكانسات Scavengers الجذور الحرة التي تستخدم بصورة روتينية لحفظ الأعضاء المستخدمة في عمليات زراعة الأعضاء – المبرد حتى درجة 2 درجة مئوية في جهازه الدوري لتعويض الدم ولتبريد جسم الحيوان بالكامل. خلال 20 دقيقة، تنخفض درجة حرارة جسم القرد من 37 درجة مئوية إلى 10ْم فقط. وهو ما يسميه أطباء الطوارئ بانخفاض الحرارة العميق.
يحفظ الطبيب القرد في حالة الحياة المعلقة على مدى 90 دقيقة، وهي فترة كافية لإصلاح أوعيته الدموية المعطوبة. ويقوم بعد ذلك بتدفئة دم القرد المخزن سابقاً، ويعيد حقنه في عروقه، ليعيد إلى الحيوان حيويته السابقة.
يؤدي التبريد المفرط إلى تخطي الخطر الرئيسي الذي يتعرض له الحيوان – والإنسان – الذي فقد كثيراً من دمه؛ فالدم يقوم بصورة مستمرة بتوصيل الدم إلى أعضاء الجسم . ويؤدي انخفاض جريان الدم كنتيجة للنزف أو لنوبة قلبية إلى حالة تسمى بالصدمة Shock؛ فبدون الأكسجين، يموت المخ- على سبيل المثال 5 خلال دقائق فقط. ولذلك يعتقد أن التبريد يمنع حدوث الوفاة نتيجة لتقليل اعتماد الجسم على الأكسجين بدرجة كبيرة. ومقابل كل انخفاض قدره 10 درجات مئوية في درجة الجسم، تنخفض معدلات الاستقلاب في الجسم بمعدل النصف.
ويفسر هذا التعافي شبه الإعجازي لآنا باجنهولم، والتي سقطت برأسها عبر شرخ في الجليد إلى نهر متجمد أثناء ممارستها لرياضة التزلج على الجليد. وكما ذكر تقرير مجلة Lancet الطبية، قام أصدقاء آنا بإخراجها من المياه بعد 80 دقيقة كاملة من سقوطها فيه، حيث كانت درجة حرارة جسمها قد انخفضت إلى 13.7ْم فقط. تم نقلها على الفور بالطائرة إلى المستشفى حيث تم " استخراج" دمها، وتدفئته، ثم أعيد حقنه في شرايينها. قضت المرأة 60 يوماً في العناية المركزة، لكنها تعافت بعد ذلك بصورة كاملة. لكنها كانت محظوظة للغاية، فثلاثين بالمائة فقط من البالغين الذين تنخفض درجة حرارة أجسامهم بصورة غير محكومة إلى ما دون 28ْم يبقون على قيد الحياة. لكن تبريد الأنسجة بصورة محكومة يمثل طريقة معروفة لحفظها.
ويعود تاريخ استخدام تلك الطريقة إكلينيكياً إلى ستينات القرن العشرين؛ عندما اقترح بيتر سَفَر، وهو أحد رواد الإنعاش القلبي الرئوي، أن يتم تبريد الجسم بعد توقف القلب لمنع حدوث التلف المخي. أما اليوم؛ فيمثل خفض درجة حرارة الجسم إلى نحو 18ْم لمدة 45 دقيقة إجراء معيارياً خلال جراحات القلب المفتوح. وفي التجربة التي تمت على القرد، على أية حال، يتحمّل الحيوان الرضح بأفضل صورة عندما يتم تبريد جسمه إلى أكثر من ذلك، وصولاً إلى 10 درجات مئوية. لكن الآثار الجانبية لتبريد الجسم إلى هذا الحد ليست معروفة تماماً، ولذلك تستمر التجارب على الحيوانات للتعرف على تلك التأثيرات. وقد أجربت التجارب على القرود نحو 200 مرة، وبلغت نسبة النجاح في إعادة الحيوان إلى الحياة حوالي 90%.
- نحو إجراء التجارب على البشر:
إن العقبة الرئيسية المتعلقة ببدء التجارب الإكلينيكية هي أخلاقية بالأساس؛ وأفضل المرشحين لتلك التجارب سيكون المرضى فاقدي النبض الذين نزفوا جزءاً كبيراً من دمائهم، والذين أدخلوا لتوهم إلى غرفة الطوارئ ، والذين يتوقع موتهم لا محالة باتباع الإجراءات الطبية التقليدية. لكن المشكلة مع أولئك المرضى هي أنهم سيكونون غير قادرين على الموافقة الواعية على الاشتراك في التجربة العلاجية، لذا يريد بعض الأطباء اعتبار موافقة جميع أولئك المرضى قد تم الحصول عليها تلقائياً بمجرد دخولهم إلى المستشفى، ولكن ذلك الأمر يحتاج لكثير من الجهد والتوعية على مستوى المدارس، ودور العبادة، وإدارة المستشفيات قبل أن يتم السماح بذلك.
وهناك فريق آخر من جامعة بتيسبرج الأمريكية على وشك الدخول في تجارب علاجية من هذا النوع على مرضى بشريين؛ فقد أعلن الباحثون هناك أنهم نجحوا في إبقاء الكلاب في حالة الحياة المعلقة لمدة ثلاث ساعات باستخدام تقنية شبيهة بما ذكرنا أعلاه، ويخططون لإجراء التجارب على البشر في غضون 18-24 شهراً. لكن المشكلة هي أننا لا نعلم حتى الآن طول المدة التي يمكن فيها لحيوان ناهيك عن البشر- البقاء في حالة الحياة المعلقة بأمان، برغم أن الباحثيين يتوقعون أن تصل هذه المدة إلى 6 ساعات، وهو الزمن الذي يمكن فيه نقل الجندي المصاب في منطقة جبلية وعرة، على سبيل المثال، إلى أقرب مستشفى عسكري مجهز للتعامل مع مثل هذه الحالات.
وللبحث في إطالة مدة حالات الحياة المعلقة، يبحث العلماء عن أمثلة في المملكة الحيوانية؛ فبعض الحيوانات التي تدخل في فترة السبات الشتوي، مثل السناجب، يمكنها البقاء على قيد الحياة عند درجات حرارة منخفضة لأجسامها، ويسري الدم في عروقها لأيام، بل ولأسابيع، عند تلك الحرارة المنخفضة دون أن تصاب أنسجتها أو أدمغتها بأذى .
وعند حدوث هذه التغيرات الفيزيولوجية العنيفة في البشر نتيجة للإصابة، تكون النتيجة مميتة في معظم الأحيان. وعلى سبيل المثال، يؤدي الثقب الناتج عن طلق ناري إلى تقليل جريان الدم بسرعة، وبالتالي تنقص بشدة إمدادات الأكسجين إلى الأنسجة. لكن خلايا الجسم تستمر في العمل بمعدلات استقلابية عالية، مما يجعل الطلب على الأكسجين مرتفعاً. ويؤدي عدم التوازن هذا بين إمدادات ومتطلبات الأكسجين إلى زيادة إنتاج الجذور الحرة، وبالتالي تدمير الخلايا. وعلى العكس من ذلك، فحيوانات البيات الشتوي تخفض معدلاتها الاستقلابية وحرارة أجسامها كثيراً عن عمد تماماً بحيث تتوافق مع الانخفاض الحادث في مستويات الأكسجين وجريان الدم لديها ، وبالتالي تتجنب حدوث هذه المشكلة.
وقد يساعدنا فهم ظاهرة البيات الشتوي على تطوير أدوية تجعل بالإمكان وضع البشر في حالة مماثلة عن طريق تناول عقار ما بالفم، أو بالحَقن. ويقوم الباحثون في كلية الطب البيطري بجامعة ويسيكونسين في ماديسون بالولايات المتحدة بدراسة الكيفية التي ينتقل بها سنجاب الأرض المخطط من حالة اليقظة النشطة إلى البيات الشتوي في غضون ساعات قلائل. ومن المعروف أن معظم حيوانات البيات الشتوي لا تقضي الشتاء كله وهي نائمة، بل تقضي موسم الشتاء في حالة دورية من فترات النشاط القصيرة،والتي تمتد أحياناً لبضع ساعات فقط، المتناوبة مع نوع خاص من النوم المنخفض المعدلات الاستقلابية هو البيات الشتوي - وهو قضاء أيام أو أسابيع من انخفاض درجة حرارة الجسم، ومتطلبات الأكسجين المنخفضة، وجريان الدم المنخفض.
وفي مختبر جامعة ويسيكونسين، تدلف السناجب إلى البيات الشتوي في غرفة تصل حرارتها إلى 4 درجات مئوية، حيث تنخفض معدلات الاستقلاب لديها إلى 2-4% فقط من المعدلات الطبيعية؛ فتنخفض سرعة ضربات القلب من 200- 300 / الدقيقة في الحالات السوية إلى 3-5 فقط؛ بينما تنخفض مرات التنفس من 100-200 / الدقيقة إلى 4-6 . ويعتقد الباحثون أن السر في هذه القدرات التي تمكّن الحيوانات من خفض معدلاتها الاستقلابية إلى هذا الحد يمكن في جيناتها؛ فإذا أمكننا تحديد أي الجينات ينشط خلال البيات الشتوي وأيها لا يعمل، فسيعطينا ذلك تلميحات عن كيفية تحريض هذه الحالة في البشر عند الحاجة. وباعتبار أن الحيوانات المعروف كونها تدلف إلى حالة البيات الشتوي بعيدة تماماً عن البشر من الناحية الوراثية، ظلت هذه الآمال بعيدة إلى حد ما، لكن في عام 2004، تعرّف الباحثون في جامعة فيليبس الألمانية على أول حيوان من الرئيسات Primates يدخل في البيات الشتوي، وهو نوع من قرود الليمور القزمة. ويعكف الباحثون حالياً على دراسة جينات قرود الليمور هذه أثناء البيات الشتوي، لعلها تزودنا بأفكار يمكن تطبيقها بنجاح على البشر في المستقبل القريب.