التنين

قصة من الصين

التـنيـن

قصة محمود البدوى

استيقظ رشاد قبل شروق الشمس .. على صوت العصافير وهى تغرد فى حديقة الفندق ..

ولما نهض من الفراش ونظر من النافذة وجد البحيرة أمامه ساكنة ..

ورأى شابة صينية فى سترة مضمومة وبنطلون أزرق قد أخذت تكنس الطريق الساحلى .. وتجمع أوراق الشجر المتساقطة .. وكان هناك ثلاث سيارات كبيرة .. واقفة فى مدخل الفندق .. والعصافير تطير من فنن إلى فنن .. وهى تسقسق معبرة عن فرحتها بشروق الشمس ..

وظهر الشبان والشابات راكبين الدراجات فى الطريق .. وسقطت خيوط الشمس على سقوف البيوت الخزفية .. وفروع الأشجار العالية .. وسرت الحرارة فى مدينة هانتشو .. وأخذت تستيقظ من رقادها .. فبدت الحركة فى البيوت والشوارع ..

وأخذت الزوارق الصغيرة التى فى البحيرة تتحرك .. وظهرت فتاة تقود زورقا منها إلى الشاطىء .. وكانت واضعة على رأسها قبعة عريضة من الخوص .. وبدا شعرها الأسود الطويل وراء ظهرها وهى تحرك المجداف .. كأنها حورية من جنيات البحر .. ورآها رشاد تبتسم فى ندى الصباح عندما صافحت قلبها حرارة الشمس .. فأخذ يرقبها لحظات .. ثم انثنى عن النافذة ودخل الحمام .. فاغتسل وارتدى بدلته .. وكانت قد بقيت نصف ساعة على ميعاد الإفطار .. فخرج إلى شرفة الفندق الكبير المطلة على البحيرة .. وجلس يتمتع بالمناظر الساحرة التى حوله وأخرج سيجارة وأشعلها .. وهفا إلى سمعه صوت النـزلاء فى الغرف المجاورة .. وأخذ بعضهم يخرج إلى الشرفة مثله .. وكان الجو منعشا .. والصباح خاليا من الطل .. ولاحظ أن باب الشرفة ليس به زجاج كما كان يتصور وإنما هو سلك رفيع محبوك .. كالنسيج .. وأدرك أن الشتاء غير قاس .. وأن الثلج لايثلج المدينة ..

وشعر بالوحدة .. ومرارتها على نفسه .. فتململ فى كرسيه .. ثم نهض .. واعتمد بيديه على سياج الشرفة الحديدية .. وكانت الزوارق كلها قد أخذت تتهادى فى عرض البحيرة .. وسمع صوتا ناعما خلفه .. فتلفت فلم يجد صاحبته وأدرك أنها فى داخل الغرفة المجاورة .. وتحرك بضع خطوات ليقترب من باب الشرفة ولكنه عندما اقتـرب جدا .. ورأى الفراش واللحاف الحريرى المطوى .. خجل من نفســه وتراجــع .. إلى مكانه سريعا .. وأشعل سيجارة أخرى ..

وكانت الساعة قد أخذت تدق الثامنة .. فمشى إلى قاعة الطعام .. ورأى النـزلاء جالسين إلى الموائد .. فى حلقة مستديرة .. ورأى فيهم بعض الروسيين .. والألمان الذين التقى بهم من قبل فى مدينة بكين ..

وجلس إلى طرف مائدة صغيرة وحده .. وطلب من الخادم عصيدة ساخنة وسمكا مشويا .. وفنجانا من الشاى ..

وقدمـت له الفتــاة العصيدة مع زجاجة من عصير الليمون ..

وكانت الفتاة جميلة المحيا نظيفة الثوب .. وساءه أنها لاتعرف غير اللغة الصينية ، فقد كان يود أن يتحدث مع أى إنسان ..

وبعد أن شرب الشاى .. نزل إلى الدور الأول فى الفندق .. واتصل تليفونيا بالمصحة ..

ثم ركب السيارة إلى هناك ..

وبلغ المصحة فى الساعة العاشرة .. وصعد إلى الطابق الثانى .. ودخل على زوجته .. وكانت سعاد فى الفراش .. ووجهها إلى النافذة .. ولما أحست به استقبلته صامتة ..

وأخذها بين ذراعيه .. ـ ما أجملك اليوم .. فلم تفتح فمها ورأى فى عينيها الدمع المتحيـر .. فتأثر ولكنه كتم عواطفه ..

وسألته بعد مدة .. ـ اتصلت بالسفارة ..؟ ـ أجل .. وسأبقى هنا إلى يوم الخميس .. ـ وتتركنى وحدى .. فى هذه المدينة ..؟ ـ لست بالصغيرة يا سعاد .. ولسنا فى نـزهة أو أجازة صيف .. وبعد اسبوعين ستشفين تماما .. وسأجىء لآخذك .. ـ لماذا لم تأخذ إجازة أخرى من المعهد ..؟ ـ لقد أخذت إجازات كثيرة هذا العام .. وكانوا مثال الشهامة .. والمروءة .. وأحب أن أكون حساسا .. ولا أثقل عليهم بالطلبات .. وقد قبلوا علاجك فى هذه المصحة بربع الأجر .. وفى هذا الكفاية .. ـ الحمد لله .. كنا نحمل هم هذه المصاريف .. لقد سببت لك الارتباك المالى والتعب النفسى .. يا رشاد .. ـ لاتقولى هذا الكلام .. المهم هو أن ترجعى إلى صحتك ..

كيف حال الصداع ؟ ـ زال والحمد لله .. ـ والنوم ..؟ ـ أنام الآن طول الليل .. ـ حسن .. النـوم هو أهم شىء .. لأنه سيعيد اليك أعصابك ..

ودخل الدكتور لى .. الغرفة وخلفه ممرضة .. فحيا بأدب .. ونظر إلى سعاد .. وإلى رشاد مبتسما .. وسأل سعاد بالإنجليزية .. ـ هل ينقصك شىء .. هل هناك شكوى ..؟ ـ أشكرك .. إن العناية بى فوق زيادة المستزيد .

وظل الطبيب يحادثها لحظات .. ويحث سعاد على أن تخرج إلى الحديقة وتتجول فى قاعات المصحة .. حتى لاتشعر بالسأم والملال .. ثم خرج ..

وقال رشاد لسعاد بعد أن خرج الطبيب .. ـ لماذا لاتخرجين إلى الشرفة .. الجو دافىء .. ـ إنى خارجة .. من جلسة كهرباء .. ـ وتعبانه ..؟ ـ تخدير بسيط يجلب النعاس .. ولكنى سأبقى صاحية .. من أجلك .. ـ إن الرقة هى أجمل صفاتك .. وقد زادت الرقة صفاء فى الصين . ـ صحيح .. ولهذا تود أن تبقى ثلاثة سنوات أخرى .. ـ بالطبع ..

ودخلت عليها الممرضة تحمل بعض الدواء .. وكانت فى ثوب أزرق جميل .. ووجهها أكثر نضارة من ثوبها .. وكانت الرقة والجمال فى كل حركاتها ..

وقالت سعاد لزوجها : ـ جميلة .. ـ تقصدين لطيفة .. ـ جميلة .. قلها ولاتخف ..

وضحك ..

وبعد الظهر خرج بها إلى الشرفة ..

وكانت المصحة على ربوة عالية .. تحيط بها مناظر طبيعية خلابة .. وكانت التلال حولها مكسوة بالسندس .. والأشجار العالية تزيد من روعة المكان .. والبحيرة على مسافة قريبة .. والهدوء شاملا .. والسكون عميقا .. فلاتحس حركة .. ولا تسمع شيئا يثير الأعصاب ..

وكانت سعاد قد استرخت فى الشمس .. وراحت فى سبات .. ونظر اليها رشاد وهى نائمة فى وداعة كالطفل .. وأدركه الأسى لحالها ..

وكانا قد قدما إلى مدينة البحيرات منذ شهر لينعما بأجازة قصيرة فى فترة الأعياد فى الصين ..

وكانت وحدها فى غرفة الفندق عندما حمل اليها الخادم برقية من بكين فيها نعى والدها .. سقطت به الطائرة وهو عائد إلى القاهرة .. من بيروت ..

ولم تقو أعصابها على تحمل الصدمة .. وسقطت بالبرقية على الأرض ..

ولما أفاقت كان لسانها قد أصابه الشلل .. وذاكرتها قد ذهبت عنها .. ولم تعد تعرف شيئا .. فنقلوها إلى هذه المصحة ..

وكان رشاد قد قضى شهرا كاملا فى عذاب لايوصف .. وتلفت أعصابه .. وكان يخشى .. أن تموت وينقلها فى صنــدوق إلى الطائرة .. كان مجرد تصور المنظر يفطر فؤاده ..

ونال منه الحزن .. ثم فكر فى رحمة الله .. ورآها تتحسن .. ورأى المرضى فى المصحة .. أحسن حالا منه .. فشعر بالأمل الكبير يعاوده .. ونفى عن ذهنه فكرة الموت ..

ولما فتحت سعاد عينيها وهى جالسة فى الشرفة صحبها إلى غرفتها وظل معها حتى تغدت واستراحت ثم تركها .. وعاد إلى المدينة ..

وكان من عادته أن يتجول فى المدينة .. ثم يركب الأتوبيس إلى الفندق وبعد العشاء يجلس فى البهو .. يطالع الصحف والمجلات .. أو يكتب رسائل إلى أهله فى القاهرة .. أو إلى مقر عمله فى بكين ..

وبعد الساعة التاسعة .. ينام إذا أحس بالنوم .. أو يظل ساهرا يطالع .. حتى يشعر بالنعاس ..

وذات ليلة ذهب إلى المسرح .. وعاد بعد نصف الليل .. وصعد درجات الفندق ومشى فى البهو الطويل .. وكانت الإضاءة فى البهو قد خفتت .. وخيم السكون ورأى وهو يقترب من باب غرفته .. سيدة واقفة على الباب الذى بجواره تعالج الأكرة فاستعصت عليها وأخذت تتلفت حائرة .. باحثة عن الخادم لينقذها ..

فتقدم إليها .. وكانت هذه الحالة قد اعترضته عندما جاء إلى الفندق أول ليلة وعرف من الخادم كيف يدير الأكرة .. وأدار الأكرة .. وفتح الباب .. وعلمها الطريقة فابتسمت وانحنت له شاكرة ودخلت .. وردت الباب وراءها ..

ودخل غرفته وأشعل النور .. واستراح قليلا .. على الكرسى الطويل ذى المساند الحريرية ثم فتح باب الشرفة .. وخرج إلى الشرفة .. وفى يده سيجارة .. ووجد السيدة التى فتح لها الباب منذ لحظات هناك .. فى الشرفة وفى يدها سيجارة مثله .. ولما أحست به دخلت سريعا إلى غرفتها ..

وبقى فى مكانه .. وهو يشعر بشعور غامض .. لم يتبين منه أسر من وجود انثى معه فى جناح واحد أو استاء .. ولكنه بقى فى مكانه أكثر من ساعة على أمل أن تخرج مرة أخرى إلى الشرفة ولكنها لم تخرج ..

وفى الصباح عاد إلى زوجته فى المصحة ووجدها شاردة وتكاد لاتعرفه .. فخرج حزينا .. ومشى على غير وجهة فى المدينة ..

وفى الليل ذهب إلى السينما .. ولما عاد إلى الفندق كان الجو ممتعا فخرج إلى الشرفة .. ووجد جارته فيها ..

وقال معتذرا بالإنجليزية وقد شعر بالارتبـاك .. ـ فى هذا الصف .. شرفة واحدة لكل غرفتين .. ـ نعم لاحظت هذا .. ـ هل يضايقك وجودى .. ؟ ـ لماذا بالعكس لقد وجدت من أحادثه .. ـ أعجبتك هانتشو .. ـ رائعة .. إنها فوق كل تصورات الخيال .. ـ إنها مدينة مشهورة بجمال المناظر الطبيعية .. ـ سمعت عنها كثيرا وأنا فى برلين .. ومن سنة 1948 وأنا أرغب فى زيارة الصين ، لقد تحقق الحلم بعد عشر سنوات .. ـ هذا رائع .. ويدل على المثابرة ..

وقالت ببساطة : ـ كان لابد لى أن أقتصد المبلغ الذى يساعدنى على الرحلة ..

ونظر اليها فى سكون .. كان كما قدر فى الثانية والثلاثين .. من عمرها .. أنيقة طويلة العود ..

وكانت معتمدة على سياج الشرفة الحديدى .. وعيناها إلى البحيــرة والدخان الأزرق .. يعلو عن جبينها فى خيوط ..

وقالت : ـ ما أجمل البحيرة ؟ ـ إنها توحى بالشعر وهنـاك شاعر صينى عاش فى وسط البحيرة حتى مات .. وكل من يجىء إلى هنا يهبط عليه الوحى .. ويصبح شاعرا .. ـ حتى أنت .. ـ حتى أنا .. ـ ولكننا .. لسنا الآن فى عصر الشعراء .. اننا فى عصر القنابل الصاروخية .. ـ ولكن هذا .. لايغنى عن الشعر .. والأحلام .. إن الحقائق المجردة تميت .. ـ هذا صحيح .. وجميل أن أجد من أحادثه بالإنجليزية هنا .. انهم لايحبون الحديث بها .. ـ هل ستبقين هنا طويلا ..؟ ـ ربما اسبوعا .. اننى أراسل صحيفة المانية .. وسأكتب كتـابا عن الصين .. ـ ورأيت شنغهاى .. ـ سأراها .. وأنت هل تعمل هنا .. ـ لا إننى أعمل فى بكين .. ـ تعيش فى الصين .. إذن .. ـ جئت منذ ثلاث سنوات .. ـ واستطبت الحياة فيها .. ـ إن برد بكين قارس .. ولكن أين هى مدينة الأحلام .. ـ يمكن أن توجد فى القمر .. عندما تغزو الفضاء .. ـ ربما .. يتحقق هذا الحلم .. لقد أطلق الروس اليوم قمرهم الصناعى الثانى ..

ونظر اليها .. ربما تكون أصغر سنا من مظهرها .. فإنها لاتزال شابة .. رغم خيوط الشعر البيضاء .. ورغم الأسى على الشفة ..

وسألت : ـ أخشى أن أكون قد حملتك على السهر .. أرجو المعذرة .. لقد انقضى نصف الليل ..

وانحنت برقة وذهبت .. وشيعها ببصره حتى دخلت من الشرفة .. ومشى إلى غرفته ..

وعندما اضطجع على السرير ..كان يفكر فيها .. فمنذ جاء إلى هانتشو وهو يقاس من مرارة الوحدة .. بعد مرض زوجته .. كان يرغب فى رفيقة تؤنسه .. ولم يصادف امرأة .. غير ما يشاهده فى المصحة من الطبيبات والممرضات ..

وكان الفندق نفسه خاليا تقريبا من النـزلاء .. وإذا جاء فوج .. وفيه بعض النسوة .. الأجنبيات كان لايمكث أكثر من ليلة .. وفى الصبـاح يذهب .. ولهذا شعر بالارتياح لوجود هذه السيدة بجواره .. ووجد أنه التقى أخيرا بمن يؤنسه فى وحدته ويخفف عنه ألم ما يعانيه من مرض زوجته ..

وفى الصباح بحث عنها فى غرفة الطعام فلم يجدها .. وعاد إلى غرفته لأنه نسى علبة السجاير .. وفى نفسه خاطر أن يلاقيها أو .. أو يسمع حسها .. ولكنه لم يرها .. فامتعض .. وأخذ طريقه إلى المصحة ..

وكانت زوجتـه قد تحسنت .. عن الأمس فسر .. وبقى معها مدة طويلة ..

وعاد إلى الفندق فى ميعاد الغداء .. وكان فى الواقع يحب أن يرى السيدة الألمانية فى غرفة الطعام .. ولكنه لم يجدها .. وخرج إلى المدينة .. وعاد قرب الغروب يتمشى على ساحل البحيرة .. فرآها من بعيد مقبلة فى ثوب وردى بسيط .. وكانت عارية الشعر ..وفى رجليها نعل خفيف .. فأقبلت وكأنها لما رأته أسرعت نحوه وتناول يدها .. ثم مشيا على الساحل ..

وكان قد رأى شيئا عجيبا منذ يومين ورغب أن يريه لها .. فقادها إلى هناك واستقبلتهما فتاة صينية فى الرابعة عشرة من عمرها بابتسامة مشرقة ..

وقال للفتاة باللغة الصينية .. ـ إن السيدة المانية .. وتحب أن ترى براعتك ..

وسألت الفتاة : ـ ما اسم السيدة ؟

فتلفت رشاد إلى السيدة الألمانية .. ـ انها تسأل عن اسمك .. ـ أوه .. كارولين .. ـ اسم جميل .. وضحكوا ثلاثتهم ..

وجاءت الفتاة الصينية سريعا بحلة وضعتها على نضد .. وملأت الحلة بالماء حتى الحافة .. وأخذت تضع فيها أشــياء ثقيلة فلم يزد الماء ملليمترا واحدا ولم تسل منه قطرة ..

ونظرت كارولين متعجبة ..

ثم أخذت الفتاة تنقر على حافة الحلة بيديها نقرا بارعا .. وتخرج منها أرق الألحان والماء يعلو من الوسط ولا يسيل على الأرض .. وكانت كارولين ورشاد ينظران فى عجب ..

وأخيرا سألت الفتاة الصينية رشاد .. ـ هل السيدة زوجتك ..؟ ـ نعم .. ـ انها جميلة جدا ..

وسألته كارولين .. ـ ماذا تقول لك ..؟ ـ تقول أنك جميلة جدا ..

وسرت كارولين وضحكت .. وأخرجت بعض النقود من جيبها للفتاة .. فرفضت هذه ..

فقال رشاد .. ـ انها لاتقبل أى نقود .. ـ حقا .. ؟ ـ حقا .. ـ ما أعجب الصينيين ..

ومشيا إلى البحيرة .. ولما وجدا زورقا راسيا .. واقترح عليها نزهة قبلت مسرورة ..

وكانت المرأة التى تقود الزورق شابة جميلة .. فحركت المجداف برقة ولما بعدا عن أسوار المدينة .. رأيا زورقا آخر يسير بجانبهما ويسبقهما .. وكان فيه شاب سائح وفتاة .. واغتاظت كارولين وقالت ضاحكة : ـ لابد أن نسبقه ..

وأمسكت بالمجداف الصغير .. وأخذت تجدف .. وأمسك رشاد بمجداف آخر وجدفوا بحماسة .. وسبق زورقهم الزورق الآخر وصفقوا ..

ولما أخذت كارولين تعود إلى مكانها .. اهتـز الزورق الصغير .. وكاد ينقلب وتسقط هى فى الماء فتلقاها رشاد على صدره وأجلسها برفق .. فاحمر وجهها من هذه الحركة .. كأنها بنت العشرين ..

وخرجا من الزورق .. وجلسا فى الجزيرة الصغيرة .. وأحس بالجمال حوله .. ولما انطلقا بين الأشجار الملتفة .. تركت يدها فى يده .. وأحس بالسعادة ونسى زوجته .. ونسى مرضها .. وكان الحرمان الطويل قد هز أعصابه ..

وسألها : ـ هل تقومين بهذه الرحلة وحدك ؟ ـ أجل .. اننى وحيدة .. وأنت ..؟ ـ وأنا كذلك .. وحيد .. ـ وتعيش وحدك فى بكين ..؟ ـ أجل .. وأقيم فى فندق ..

واصفر لونه وهو يكذب .. ولكنها لم تلاحظ هذا ..

وقالت بأسى : ـ لقد فقدت والدى ووالدتى فى الحرب .. وأختى الكبرى .. ماتوا جميعا .. فى الهول والجحيم الذى مر بنا .. كالعاصفة .. وفى فترة الاحتلال فقدت ما بقى لى من كرامة .. ـ دعك من هذا الحديث الآن ..

وضغط على يدها .. ورجعا إلى الزورق .. وخرجا منه توا إلى الفندق ..

وقال لها برقة .. ـ سنتعشى .. ثم نذهب إلى المسرح ..

فهزت رأسها .. موافقة .. وأكلا وشربا النبيذ الصينى .. ثم خرجا إلى المسرح .. وضحكا كثيرا .. وكانت الرواية ممتعة .. والاخراج رائعا .. ولما عادا إلى الفندق .. كان الليل قد انتصف ..

وودعها على باب حجرتها .. ودخل إلى غرفته .. وعندما أصبح وحيدا مرة أخرى أحس بأنه محموم فخرج إلى الشرفة .. واعتمد على السياج .. ووقف فى الظلام .. أكثر من خمس دقائق وكأنه ينتظرها .. كان يتوقع خروجها اليه ..

وقف دون أن يدخن .. وكان النبيذ الذى شربه على العشاء .. لايزال يشعل رأسه ..

وسمع صوت أقدامها الخفيفة فأغلق عينيه ..

وأخرج كرسيا إلى الشرفة دون أن ينظر إليها فقالت برقة : ـ سأظل واقفة .. أحس بصداع .. ـ هل أطلب لك فنجانا من القهوة ..؟ ـ لاداعى لذلك .. لماذا نوقظ الخادمة فى هذه الساعة من الليل .. لقد نام الجميع .. ـ هناك من هو ساهر .. ـ سأشرب كأسا من الخمر انها تريح أعصابى ..

وتلفت فى حيرة .. من أين يأتى لها بالخمر فى هذه الساعة من الليل .. فابتسمت لحيرته وقالت برقة .. ـ عندى نصف زجاجة .. وأحب أن تشرب معى .. ـ سآخذ كأسا .. ودخل معها غرفتها ..

وظلت تشرب .. وكلما شربت شرب .. ونظرت اليه وقالت : ـ سأكتب كتابا عن رحلتى إلى الصين .. وستكون فى أول صفحاته .. ـ ماذا تقولين عنى ..؟ ـ سأقول بأننى التقيت بشاب عربى .. إنسان .. جميل الصفات أنسانى كل ما لقيته فى السفر الطويل من مشقة .. وأخرجنى من وحدتى المرة .. وجعلنى أعود صبية .. ـ أنت صبية .. وأجمل وأنضر من كل الصبايا اللواتى التقيت بهن فى حياتى .. ـ حقا ..؟

وضحكت .. وتناول يدها وهى جالسة على الكرسى ونظر إلى عينيها .. كان فيهما زرقة خالصة .. وصفاء آسر .. وعجب للتقارب السريع الذى حدث بينهما كأنه التقى بها من زمن طويل .. لقد أحبها وافتتن بها .. رغم تفاوت السن .. إنها تكبره بسنوات وسنوات .. وعجب لأنه نسى معها زوجته ..

وظلا أكثر من ساعة يتحدثان .. وكأنهما يتناجيان .. ثم نهض وقال : ـ إلى اللقاء فى الصباح .. سنخرج فى نزهة جبـلية .. وسأنقر على بابك ..

فوقفت لتودعه .. وهى تنظر اليه .. نظرة صامتة .. ولكنها معبرة ..

وعلى باب الشرفة رآها كأنها تفتح ذراعيها له فاقترب منها وضمها إلى صدره بقوة .. فراحت فى أحضانه .. تغمره بقبلاتها ..

وأغلق باب شرفتها من الداخل ..

وفى الصباح .. خرج رشاد من الفندق مبكرا .. ولم يمر على كارولين .. وذهب إلى المصحة .. فوجد زوجته فى أحسن حال .. وأحس أنها ليست فى حاجة إلى العلاج بالكهرباء أو بالشمع ..

ورآها تطيل النظر اليه باسمة .. فاصفر لونه .. ثم تماسك وخجل من ارتباكه .. واضطراب أعصابه .. وسألها .. ـ انك اليوم فى أحسن حال يا سعاد .. ـ صحيح ..؟ ـ أسألى مس تشن .. ـ لقد سهرنا أمس فى مسرح المصحة .. شاهدت مسرحية رائعة من تأليف وتمثيل المرضى .. ـ واشتركت فى التمثيل ..؟ ـ المرة القادمة .. سأشترك .. ـ وما هو موضوع الرواية .. ـ فكرة بديعة .. رجل ترك زوجته فى فراش المرض .. وارتمى فى أحضان امرأة أخرى فنال الجزاء العادل .. ـ ماذا حدث له ..؟ ـ أكله التنين .. ـ لابد أن تكون المؤلفة امرأة .. هذا هو خيالها ..

وضحكت سعاد .. ـ ألا يعجبك ..؟ ـ إن فيه قسوة بشعة .. ـ فى المرة القادمة .. سنعطى الرجل خاتم سليمان ..

وتصور أنها تغمز بعينيها وهى تتحدث فاصفر لونه .. ـ مالك ..؟ ـ تعبت من صعود التل .. ـ انك تصعد كل يوم .. ولم تشعر بالتعب .. ـ ولكننى تعبت اليوم .. لماذا تضحكين ..؟ ـ فكرة الرواية أعجبتنى .. ـ هذا خيال مريض .. وأين هو التنين ..؟ ـ فى كل الصين .. لماذا تأخذ المسألة جد .. ـ أبدا ..

وضحك .. ثم عاد واصفر لونه .. وبقى مع سـعاد بعض الوقت ثم خرج .. مضطرب الفكر .. كان يحب زوجته حـب جنـون .. ولا يدرى لماذا ..

وعندما رجع إلى الفندق .. وجد كارولين فى مائدة الطعام .. فجلس يتغدى معها على مائدة واحدة .. وجاءه الخادم أثناء الطعام وقال له بالإنجليزية .. ـ إن زوجته تطلبه فى التليفون من المصحة ..

فنظرت إليه كارولين .. بعيون مفتوحة ..

وامتقع لونه .. ونهض إلى التليفون .. ولما عـاد .. وجـدها تدخن بشراهة .. ويدها ترتعش .. وابتدرته قائلة .. ـ إذن أنت متـزوج ..؟ وأجاب هامسا .. ـ أجل .. ـ وزوجتك هنا فى هانتشو .. ومريضة فى المصحة .. ولماذا كذبت علىّ .. لماذا لم تقل الحقيقة .. ـ كان لابد أن .. ـ كذبت لأكون لك سلوى .. ولتتخذ من جسمى متعة عابرة .. وزوجتك تموت هناك .. إنك حقير .. ـ أنت مخطئة ..

ونهضت بانفعال ودخلت غرفتها وأغلقت عليها الباب ..

وفى الصباح رآها رشاد خارجة من الفندق وركبت السيارة إلى المحطة .. وكان رشاد يود أن يلحق بها ويسمعها كلمة .. ولكنه سمر فى مكانه ..

ولما ذهبت السيارة .. صعـد إلى غرفته .. وجلس معتمدا برأسه على يديه .. وهو يحس بأن شيئا ثقيلا قد حط على صدره وجذبه إلى الأرض ..

وقضى ليلة .. قلقة .. وفى الصباح ذهب إلى المصحة .. ليرى سعاد قبل عودته إلى بكين ..

وودعها وركب القطار .. وفى بكين عاش فى عذاب لايوصف .. وقرر أن يعترف لسعاد بخيانته .. عندما يرجع إلى هانتشو ..

ولكنه لما ذهب إلى هانتشو .. وقابل سعاد .. خشى أن يعترف لها فيقتلها لأنها كانت تحبه إلى درجة الجنون .. وتغار عليه من النسيم .. فكيف يقول لها أنه ضعف وارتمى فى أحضان امرأة ..

وكتم لواعجه .. وعاد بزوجته إلى بيته فى بكين ..

وكان يرى التنين أينما تحرك .. أنه شعار الصين .. على كل الدور والمبانى يقف التنين .. فاتحا فمه ..

وفى بيته .. بل فى غرفة نومه .. تمثال من الفحم .. وعليه تنين هائل .. لقد أصبحت المسرحية حقيقة مميته .. وسيأكله التنين ..

وكان يود أن يحطم التنين الذى فى غرفته .. أو يحدث زوجته لترفعه من هذا المكان ..

ولكنه خشى أن تتذكر المسرحية .. وتقف على سره .. فتراجع ..

ولاحظت زوجته شروده واضطراب أعصابه .. فتصورت أن مرضها أرهقه بالمصاريف وأثقله بالديون .. فحزنت لحاله .. وازداد تعلقها به وحبها له وتفانيها فى خدمته ..

وكانت تستقبله بالابتسامة المشرقة والضحكة الناعمه ودلال الصبا .. ويقابلها بالجفاء .. والشرود ..

وعاشا فى عذاب .. وأحس بالفجوة التى حدثت فى البيت وكادت تقوضة .. وتدمره ..

وقرر أن يفاتحها فى الأمر بطريقة مخففة ليخفف عن نفسه العذاب .. فقد كانت هذه هى زلته الأولى منذ تزوجا .. ويريد أن يتطهر من رجسها ولكنه كلما هم بالكلام تردد فازداد قلقه وعذابه ..

ومرت شهور وحل الشتاء وكان قارس البرد .. وأصيب رشاد .. بالتهاب رئوى حاد ..

ولكنه ظل يعالج فى البيت .. وأخذ المرض معه كل أدواره ..

وذات ليلة اشتد هذيانه وكانت زوجته ساهرة بجواره كعادتها ..

وفى الصباح سألته برقة .. ـ من هى كاروليـن .. التى كنت تردد اسمها .. وأنت تهذى ..؟ ـ كارولين .. ؟ ـ آه .. ـ انها فتاة المانية بائسة .. التقيت بها منذ سنوات فى ميونخ .. قبل أن نتزوج .. وكانت جائعة .. فتعشينا وذهبنا إلى السينما .. ـ ولا زلت تذكرها بعد كل هذه السنين .. ـ ربما لأن حياتهــا كانت مأساة .. مات والداها فى الحرب ..

ووضعت سعاد يدها على فم زوجها .. ـ أنسها ..

وكانت تود أن تعانقه .. لولا أن دخلت خادمتها الصينية .. لتنظف الغرفة وأخذت تمسح على الأشياء والتماثيل وتنفضها بالمنفضة ..

وصعدت على الكرسى لتمسح تمثـال الفحم الذى فوقه التنين .. كعادتها .. وبدت منها حركة فسقط التمثال وتناثرت أجزاؤه .. على أرض الغرفة .. وطار جزء من التنين وحط على صدغ رشاد .. كانت الضربة شديدة ولكنها ليست قاتلة .. وسال الدم غزيرا .. وغاب رشاد عن وعيه .. ولما استفاق شعر بالألم الحاد .. ولكنه فرح فى أعماقه لأنه نال جزاءه .. وذعرت الفتاة على السيد وعلى التمثال العزيز .. ولكن السيدة سكنت روعها ..

وجرت سعاد تمسح جرح زوجها .. بيدها الرقيقة .. ونظر رشاد إلى التنين الذى تحطم وشعر بفرحة كبرى .. شعر بأن المعركة انتهت .. وأن التنين الذى كان يعيش فى رأسه قد اندثر ..

وتناول يد زوجته .. وقبلها بحرارة ..

وقال هامسا : ـ انها آخر مرة ..

ولم تفهم سعاد شيئا .. ولكنها طوقته بذراعيها .. كأنها تحميه من كل ما يدور فى الخارج .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت القصة لأول مرة بصحيفة الشعب المصرية فى 20|3|1958 وأعيد نشرها بمجموعة ليلة فى الطريق سنة 1962 ================================='