التعريب والتغريب
التعريب والتغريب، سلسلة مقالات : زهور من بستان التعريب ألقي هذا البحث في الجلسة الخامسة من جلسات مؤتمر المجمع في دورته السبعين صباح يوم الأربعاء 3 من صفر سنة 1425 هـ الموافق 24 من مارس ( آذار ) سنة 2004 م. منقول عن مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، عدد 102، ص 75-88. المحتويات
للأستاذ الدكتور عوض بن حمد القوزي
تميزت العصور الذهبية للغة العربية بالنشاط الواعي لاكتساب اللغة وتوسيع معجماتها، وَحَرصَ أبناؤها على التغذية اللغوية الرافدة والراجعة، فاتجه أبناء هذه الأمة نحو اللغات الأجنبية المعاصرة يترجمون معارفها، ويضيفونها إلى مكتسباتهم الفكرية والثقافية، ولم يجدوا حرجًا في ذلك، لأن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنَّى وجدها، وكما نشطت الترجمة وكثر المترجمون، نشطت علوم العربية باتساع ثقافات أهلها، وأصبحت المكتبات ودور الحكمة تعج بطلاب العلم من كل حدب وصوب، وانتشرت صناعات الوراقة والترجمة، وكثر المؤدبون، ونشطت الرحلة لطلب المعرفة من كل مكان، إذ صارت حواضر العالم الإسلامي يومذاك قبلة المتعلمين من جميع أصقاع المعمورة، ينهلون من علومها، وينقلونها إلى بلادهم، ناهيك عن الحركة الداخلية المتمثلة في الرحلات العلمية التي يقوم بها الطلاب المسلمون من الأندلس والمغرب إلى مصر والشام والعراق، وما كان يواجه به أولئك الوافدون من حسن استقبال وضيافة، ومن عطف ورعاية حتى سرى حب العلم في الصغير والكبير والوزير والأمير ناهيك عن حب الخلفاء وتشجيعهم لحلقات العلم وتدارس المعارف، والإغداق على المعلمين والمتعلمين، بتذليل كل صعوبة تعترضهم، وإزالة كل ما يشغلهم من أمور الدنيا إلا أمور الكتاب وشؤون المعرفة.
وبسبب ذلك الحماس والاهتمام والحكمة في نشر العربية وعلومها، وفي النهضة الفكرية للأمة، لم تجد البلاد المفتوحة حرجًا من تعلم العربية، بل وجدت شعوبها حماسًا يدفعها إلى هذه اللغة، لا لأنها لغة القرآن الكريم فحسب، بل لأنها لغة فكر وثقافة وأدب، وقد تسابق الأعاجم إلى تعلم العربية حتى إن بعضهم كان يقرئ طلابه بها تارة فيخيل إليك أنه لا يعرف سواها، ثم يلتفت إلى مجموعة أخرى من طلابه فيقرئهم بلغتهم الأعجمية، فيخيَّل إليك أنه لا يجيد غيرها من اللغات، حتى إنه لا يُدرى بأي لسان هو أبين. [ انظر مثالاً على ذلك: موسى بن سيار الأسواري، الجاحظ: البيان والتبيين، ج1 ، ص368 ] . وما قيل عن الأسواري يقال عن لُغْدَةَ الأصبهاني أحد معاصري أبي حنيفة الدينوري ( ت282 هـ) الذي كان يلفت أنظار معاصريه في بغداد، ويبهرهم بفصاحته، ومعرفته لغة العرب [ انظر: ياقوت: معجم الأدباء، ج3، ص82 ]. ولقد بلغت بعض الشعوب الأعجمية من الفصاحة والحذق للعربية ما جعل المقدسي يشبه عربية إقليم ما بين النهرين بعربية العراق حسنًا في السمع، وبلغ به الإعجاب أن ادعى أن أصح العربية يُتكلم بها في الإقليم اللغوي الفارسي، لأنهم يتكلفونها تكلفًا، ويتعلمونها تعلمًا. [ المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ص 128، 146 ].
لقد وصف المقدسي أهل خوزستان بـ : " أنهم يمزجون العربية والفارسية؛ إذ يحسنون اللغتين على السواء، وأحسن ما تراهم يتكلمون بالفارسية حتى ينقلوا إلى العربية " [ المصدر السابق، ص 418 ].
ولو سئلنا عن السبب المحرِّك للشعوب، وما الدافع لهم إلى تعلم العربية، لوجدنا الجواب عند غير العرب، وهو أن لهذه اللغة ميزة ظاهرة، فهي منطقية في تعبيرها أكثر من أية لغة أخرى.[ انظر هاملتون جب: تعليق على محاضرة الدكتور إبراهيم مدكور: "منطق أرسطو والنحو العربي " ألقيت في مجمع اللغة العربية بالقاهرة الدورة (15) عام 1949م محاضر جلسات الدورة الخامسة عشرة، ص 371 ].
وهي في جملتها فن منظوم، منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه ولو لم يكن من كلام الشعراء، وهذه الخاصة ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيدة " [ انظر: العقاد: الشعر ديوان العرب، ص 8 ].
يقول الكرملي: " إن لسان العرب فوق كل لسان، ولا تدانيها ألسن أخرى من ألسنة العالم جمالاً ولا تركيبًا ولا أصولاً" [ الكرملي: نشوء اللغة العربية ونموها واكتمالها، ص1 ] ويمتدح ابن جني تراكيب هذه اللغة وأساليبها وبعض خصائصها فيقول: "إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك عليَّ جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلْوَة السحر " [ ابن جني: الخصائص، ج1 ، ص47 ].
وليس ما قصدناه في هذا البحث من " التعريب " تلك المفاهيم الاصطلاحية التي فرغ الباحثون من دراستها وإقرار مدلولاتها، وجعلوا بعضها خاصًّا وبعضها عامًّا مفرقين بين مصطلحات " المعرَّب، والدخيل، والمولَّد، والمحدث"، فتلك أمور فرغ من بحثها والخوض فيها من جديد، واتخذت مجامع اللغة العربية قرارات فيها. [ انظر بحث الأستاذ محمد شوقي أمين، المقدم إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة، (جلسة يوم الاثنين 30 من صفر عام 1396 هـ الموافق الأول من مارس (آذار) سنة 1976م)] حيث تقرر أن:
المعرَّب: لفظ أجنبي غيَّره العرب.
والدخيل: لفظ أجنبي دخل العربية دون تغيير.
والمولّد: ما استعمله الناس قديمًا بعد عصر الرواية.
والمحدث: ما استعمله الناس في العصر الحديث.
أو حدودًا قريبة من هذه [ وانظر: الموضوع نفسه، بقلم الدكتور شوقي ضيف – عضو المجمع – تعقيبًا على بحث الأستاذ محمد شوقي أمين، الجزء الثالث من كتاب ( في أصول اللغة ) الذي أصدره المجمع في عيده الخمسين، ص 378 – 381 ].
ولكنا نعني بالتعريب اتشار العربية خارج الجزيرة، ودخولها مع الإسلام في البلاد المفتوحة شرقًا وغربًا.
ومعروف أن الدول التي انضوت تحت راية الإسلام كانت لها لغاتها وثقافاتها، ولم يكن بالسهولة المطلقة أن تنتشر العربية في تلك الأقطار، ولا أن تبلغ ما بلغته من انتشار، لكن العربية دخلت في صراع مع تلك اللغات جميعها، وكانت حدّة الصراع وقوته تتفاوت بين لغة وأخرى، فالفارسية مثلاً كانت قوية في موقفها ضد تيار العربية، وذلك لشدة نفوذها في منطقة بلاد فارس، ولما تحمله من ثقافة وما تحتفظ به من حضارة لا تزال ماثلة إلى اليوم.
إلاّ أن العوامل السياسية والاقتصادية والدينية فضلاً عن عامل الهيبة والتفوق الذاتي للغة كانت وراء غلبة العربية على تلك اللغات [ انظر: أحمد مختار عمر: من قضايا اللغة والنحو، ص 62-71 ].
وحيث كانت القوة السياسية في أيدي العرب في تلك الأقطار، فقد بذلوا جهودًا في تعريب البلاد الإسلامية، وذلك باستثمار نشر الإسلام بين مواطنيها، وأخذت العربية تسير جنبًا إلى جنب مع الإسلام حيث حلّ، لاسيما حين عُرِّبت الدواوين، وأصبحت المكاتبات الرسمية بين تلك الأقاليم وعاصمة الخلافة الإسلامية باللغة العربية، وكان من حرص الولاة العرب تشجيع ذويهم على الانتشار في البلاد الإسلامية، وهذا الانتشار كان له نتائجه اللغوية؛إذ ظهرت في البداية لغة هجين بين القادمين العرب وبين الأهالي فلا هي بالعربية الخالصة، ولا هي لغة أهل تلك الأقاليم وحدها، إلا أن الدافع الديني كان له دوره في نشر العربية، خاصة عند أولئك الذين يتطلعون إلى فرص العمل التي لا يتمتع بها غير المسلمين، وهي المتمثلة في القيادة والسيادة، والتخلص من الضرائب التي كانت مفروضة على غير المسلمين، وكان للإسلام دوره في تقوية مركز اللغة العربية حيث نزل، فالقرآن عربي وبه يكون تعبدهم، والعربية مصدر للتعايش مع العرب الفاتحين، ومؤهل للحصول على مركز في الدولة الجديدة، الأمر الذي أكسب اللغة العربية قوة ذاتية، سارع بانتشارها في تلك الأقاليم، ناهيك عما في هذه اللغة من ثقافة وأدب وقدرة على استيعاب اللغات والثقافات الأخرى، والاستفادة من ثقافاتها وحضارة شعوبها، فهي لغة ليست مغلقة على نفسها، بل تتمتع بالطواعية والقدرة على الاكتساب والاتساع للدخيل، وكان لطبيعة الإسلام في المساواة بين معتنقيه – لا فرق بين عربيهم وعجميهم إلا بالتقوى – آثارها في إفشاء روح المحبة والأخوة بين الجميع، وتعاونهم في نشر الرسالة، واجتذاب الأعاجم لتعلم العربية، وبدأ انصهار الشعوب تحت مظلة واحدة هي مظلة الإسلام، وكان من نتائجه إصهار بعض العرب إلى المسلمين من غير العرب مما نتج عنه جيل جديد ولد مسلمًا، عربيًّا في الغالب، أو كانت العربية عليه أسهل، لسماعه إياها في البيت والمسجد والكتَّاب. وكان لبعض خلفاء الدولة الإسلامية دور في إرساء دعائم العربية في تلك الأقطار بما اتبعوا من أساليب تعريب الدواوين، وإسناد مسؤولياتها إلى عرب أو من يجيدون العربية، وكان للذميين من هؤلاء مكان في الوظائف الرسمية، حتى جاء عمر بن عبد العزيز، الذي أمر ولاة الأقاليم بألا يولوا أمور المسلمين أحدًا من أهل الذمة، فانصهر جلُّهم في الإسلام إما عن قناعة ورغبة، وإمَّا خوفًا من ضياع فرص العمل التي تحصلوها، إضافة إلى مشروعه المتضمن إلغاء ضريبة الرؤوس على غير المسلمين إذا هم اعتنقوا الإسلام ومقولته في هذا الخصوص مشهورة: " إنَّ الله إنما بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هاديًا ولم يبعثه جابيًا ".
وإذا كان القرن الأول الهجري قرن توطين للإسلام في البلاد المفتوحة، فإنه قرن ازدواج لغوي أيضًا في تلك البلدان، وقرن صراع بين الثقافات تفوقت فيه العربية أحيانًا في مكان، وعجزت في آخر بحسب ثقافة الشعوب وقلة الوافدين العرب إليها، وبمقدار قوة الإسلام أو ضعفه فيها، وقد استمر الصراع اللغوي، وتذبذب الألسنة بين لغة الدين والعبادة، وبين لغة الثقافة الأصلية، وواجهت العربية صعوبات كبيرة حتى سيطرت في النهاية على النشر والإبداع الأدبي والديني، ولم ينته القرن الهجري الثالث حتى كانت العربية هي اللغة الرسمية في معظم البلاد الإسلامية وظهرت سيطرتها على تلك اللغات التي أخذت تنحسر شيئًا فشيئًا، وتنزوي في الجبال والأودية البعيدة عن العمران، وقد ظهر مؤلفون وكتاب من غير العرب فحملوا لواء الثقافة الجديدة مع احتفاظ بعضهم بلغته الأصلية، وتخلي بعضهم الآخر عنها، حتى عدَّ بعضهم من الفصحاء ومن ذوي اللسانين.
والعربية في انتشارها هذا شرقًا وغربًا لم تخل من التأثر بلغات الشعوب المفتوحة، لما تمليه طبيعة التعايش بين السكان، إلا أن تأثيرها على اللغات الأخرى كان أشد لما يدعمها من أسباب أهمها الدين الإسلامي. وبين التأثير والتأثر ظهرت الحاجة إلى تعريب بعض الألفاظ الأعجمية، وإخضاعها لقوانين الصرف العربية، وإدخالها في الاستعمال الأدبي واللغوي فاقترضت العربية ثروة هائلة من الألفاظ، واستطاعت أن تلبي حاجات الكتاب والمبدعين برصيد لغوي كبير، أتاح لهم اقتحام الميادين الثقافية المختلفة، فأنتجوا زخمًا هائلاً من الكتب في شتى العلوم. وبانتشار الإسلام واتساع رقعة العربية احتاجت اللغة إلى مواجهة متطلبات التوسع والتطور، عندما نشأت علوم غير معروفة قبل الإسلام واحتاج القومة على اللغة إلى مواكبة عصرهم بتطوير لغتهم وتوسيعها. فكان أمامهم طرق لتوسيع لغتهم، ووسائل يرجعون إليها عند وضعهم لمصطلحاتهم الطارئة في العلوم العقلية والنقلية، من تلك الوسائل: الاشتقاق والنحت والتعريب " ووسيلة أخرى لدى علماء البيان هي " المجاز " وقد لجأت العربية إلى هذه الوسائل للتغذية الراجعة، ومعنى هذا أنها محتاجة لمواصلة نجاحها وهيمنتها على اللغات الأخرى في الأقاليم الإسلامية، تلبية لحاجات النجاح إلى رافد لغوي يستجيب لعوامل التطور مما لم تألفه العربية في جزيرتها، وكان لها ما أرادت إذ عرَّبت بعض الألفاظ الأعجمية، وأدخلتها في لسانها، واختط علماؤها قواعد تُخضع المعرَّبات لأبنية كلام العرب وأوزانه، وكان التعريب خير معين في عصر ظهرت فيه نواة التأليف والترجمة، وأخذت تتطور من عصر إلى آخر، حتى بلغت أوجها في عصر المأمون الذي يُعدّ العصر الذهبي لنقل العلوم العصرية إلى العربية كالطب والفلسفة والرياضيات والفلك والكيمياء، هذه العلوم وغيرها تستدعي مصطلحات جديدة كان على العربية خلقها ودمجها في ألفاظها، وقد حققت العربية تقدمًا في هذا الشأن مَكَّنَ العلماء – على اختلاف مشاربهم – من بلوغ الغاية في علومهم، واتسع معجم اللغة العربية بما عرَّبه العلماء من الألفاظ والمصطلحات الأجنبية، وبما وظفوه من ألفاظهم العربية، فنمت بذلك اللغة واتسعت، وسهلت للعلماء وسيلة التأليف وأداة التعبير المناسبة. وقد سلك نقلة اللغة والمترجمون سبلاً ناجعة للسيطرة على المصطلحات الجديدة سواء في العلوم النقلية أو العلوم العقلية وهي كما يأتي:
1- تحوير المعنى اللغوي القديم للكلمة العربية، وتضمينها المعنى العلمي الجديد.
2- اشتقاق كلمات جديدة من أصول عربية أو معربة للدلالة على المعنى الجديد.
3- ترجمة الكلمات الأعجمية بمعانيها.
4- تعريب كلمات أعجمية وعدّها صحيحة.
فلم يجمدوا في أداء مهمتهم، بل داوموا على الاشتقاق والتعريب لتنمو اللغة، وتتسع العلوم الجديدة، [ انظر: الأمير مصطفى الشهابي: المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث، ص 28 ].
ويستمر أمر التعريب لا تتجاهله العربية حتى عصرنا هذا، استجابة لحاجة العلوم الحديثة إليه، ويقوم عليه علماء العربية المعاصرون، ويكون لمجامع اللغة العربية الدور البارز في إقراره وسيرورته، ونظرًا لتعقد الحياة وتلونها في العصر الحديث وكثرة المخترعات، فقد أصبح لزامًا على العرب أن يواجهوا الزخم الهائل من المصطلحات الحديثة بما يناسبه من الألفاظ المعرَّبة أو المنحوتة أو أيَّا ما يكون، وإلا عاشوا خارج إطار الصورة الحيَّة، واضطروا أن يتقبلوا الدخيل مهما كانت سيطرته وشذوذه.
وإذا كان " التعريب " يعني باختصار سيطرة العربية على اللغات الأجنبية في البلاد المفتوحة إسلاميًّا، وقدرتها على الاكتساب من تلك اللغات والخروج في النهاية بثقافة إسلامية عربية قوية مازالت تقتات عليها الأجيال، فإن " التغريب " يعني كيف سحب البساط من تحت أهله وظهر الوجه الآخر للعملية اللغوية، وهو وجه سلبي – غالبًا – في الوقت الذي كان " التعريب " إيجابيًّا كله وفي جميع مراحله. فمنذ سقوط بغداد وخروج العرب من الأندلس أخذت العربية تتقهقر عن مكانتها في الشعوب المفتوحة شرقًا وغربًا، ولم يعد هناك الكتاب والشعراء والأدباء الذين عهدناهم إبان قوة الدولة الإسلامية، ولم يبق الحال عند انحسار اللغة العربية وتراجعها أو تقهقر سدنتها، بل أخذ الغزو الأجنبي – وخاصة الغربي – في مهاجمتها في عقر دارها، تارة بالهجوم عليها وعلى الشعوب الناطقة بها، في شكل استعمار عسكري وثقافي، وأخرى في شكل عكسي من أشكال الاقتراض اللغوي، فنال من العربية وهجَّن ألسنة أهلها طوعًا أو كرهًاعن طريق سيطرته على ميادين التعليم، والإنتاج العلمي والثقافي، ثم السلوك اللغوي في الحياة العامة [ انظر: كمال بشر: خواطر مؤتلفات في اللغة والثقافة، ص 144 وما بعدها ].
فعندما تعرضت الشعوب العربية للاستعمار الغربي، لم يقف الضرر عند السيطرة على الأوطان وحكم شعوبها، بل تعدى ذلك إلى لغتها وثقافتها، إذ أخذت بريطانيا وفرنسا خاصة في نشر ثقافتيهما ولغتيهما، وظهرت مع ذلك الدعاوى ضد العربية، وأنها لغة لا تنهض بمتطلبات العلوم الحديثة، وأن الإعراب الذي هو أهم مميزاتها يقف حائلاً ضد التفكير الحرّ بها، ورسم الأعداء طرقًا كثيرة للإطاحة بلغة البيان والفصاحة، فتارة يزينون لشعوبها الكتابة باللهجات المحلية، والتخلص من الإعراب، وتارة بالعدول عنها لفظًا وكتابة إلى اللغات الحديثة. وتارة بتشويه وجه العربية في نفوس أبنائها، وتارة بإيهامهم بصعوبتها وتعقيد قواعدها وإعرابها، وأخرى بعدم قدرتها على مواجهة المصطلحات العلمية الحديثة… إلى غير ذلك من أشكال الحروب النفسية على مستخدميها، وأخذت تنحسر في دارها متوارية خجلاً من الوافد الذي أخذ يزاحمها ويهدد كل ما ارتبط بها من مقومات "الهوية العربية"، وأخذ يعصف بشعوبها من كل جانب، فتارة بإحلال لغته الأصلية مكان العربية – كما هو الحال في شعوب المغرب العربي – وتارة بإفساح المجال لتعايش اللغتين معًا – كما هو الحال في مصر – مع إعطاء الفرصة للغة الأجنبية في التغلب والسيطرة، ثم بتشجيع البعثات إلى البلاد الغربية لاكتساب الثقافة الغربية لغة وسلوكًا، ومن ثم تطبيقها في شكل استعلائي يجذب الآخرين إليها وينفرهم من لغتهم الأصلية، ويشعرهم بحاجة مجالات العمل إلى اللغة الأجنبية، وضعف الفرص أمام من لا يجيدها فظهرت المدارس الأجنبية متظاهرة بتخريج جيل قادر على التعايش مع الحياة المعاصرة، وشرعت في مزاحمة المناهج التقليدية في التعليم العام والجامعي معًا، إذ كان للغة الأجنبية مساحة من المنهاج تزاحم المساحة المعطاة لتعلم قواعد العربية وعلومها الأخرى، حتى كادت العربية تصبح "لغة ثانوية" في وطنها. بعدما زاد انتشار هذه المدارس في بلد كمصر، وأصبح الالتحاق بها مطلب كل أسرة وحلم كل بيت، والشعور بالزهو والافتخار عندما يقول بعضهم: إن أبناءهم يدرسون في مدارس أجنبية، ذات نفقات باهظة في الوقت الذي يحسّ الآخرون بالحسرة والمرارة من عدم تمكين أبنائهم من فرص التعليم في هذه المدارس [المصدر السابق ص 149] هذا مثال حيّ على التغريب الموجه الذي تعاني منه اللغة العربية، بل "الهوية العربية" والأمة العربية كلها.
ناهيك عن التغريب في مجالات الإنتاج العلمي والثقافي الذي امتد إلى الصحافة الجماهيرية والمجلات الأدبية المتخصصة، بنزع الأصالة اللغوية منها، وإخراجها إلى شكل ذي مظهر براق، تشوبه العجمة، وتتخلله ألفاظها، رغبة في التباهي بإجادة اللغة الأجنبية والثقافة المعاصرة، وما عليها لو خرجت الجمل مشوهة، والصياغة اللغوية متغيرة، لأن ذلك كله من مقتضيات التطور والارتقاء، وأن "الحداثة" تتطلب مثل هذا الخروج المقصود، لا الانحراف غير المقصود، حتى إن بعض الكتابات التي نسميها عربية لم تعد مفهومة عند كثير من أبناء العروبة، وأضحت تحتاج إلى بيان أو ترجمة، ليسهل إدراك معانيها. ويرجع أستاذنا الدكتور كمال بشر هذا الأمر إلى خلوّ الساحة العربية من ثقافة عربية أصيلة تشبع حاجاتنا الفكرية والإنسانية في إطار العالم الغائر الثائر المملوء بالحركة والنشاط في شتى الاتجاهات، وإلى عدم القدرة أو ضعف الرغبة في الابتداع والابتكار، بالإضافة إلى العزوف عن الإنتاج الفكري العربي الأصيل إما لعدم القدرة على استيعابه وكثرته، وإما لصعوبة مادته اللغوية، وأساليبه التعبيرية، ونتيجة لذلك التفت الناس إلى منابع ثقافية أخرى تشبع حاجاتهم الفكرية وتفتح لهم منافذ جديدة تحرك الهواء الراكد وتنقيه من شوائب الجمود، وأن المحصول الفعلي لهذا كله هو "التغريب" الفكري واللغوي الذي هو أشبه بالزهور الصناعية التي لا طعم لها ولا رائحة [انظر المصدر السابق، ص 160 – 163]
ومن مظاهر "التغريب" ما يطفح على عبارات المتحدثين وكتابات المثقفين من استخدام لبعض الألفاظ الأجنبية في الوقت الذي يمكنهم تجنبها إلى ألفاظ عربية، لكن التباهي بالثقافة الغربية والشعور بالفوقية يدفع هؤلاء إلى تطعيم مقولاتهم المكتوبة أو المنطوقة بمصطلحات أجنبية، متظاهرين بأنها أسبق إلى ألسنتهم أو فهمهم من مماثلها العربي، وهو شعور لعمري يفصح عن الانهزام الداخلي للشخصية العربية، وتعلقها بالقشور، وانصرافها عن الجوهر، حتى إن صحافتنا العربية أصبحت لا تتحرج في عرض مثل هذه الأطروحات، وربما حرصت على استكتاب أولئك الذين يظهرون خبراتهم الأجنبية في انتقاء المصطلحات الأجنبية حتى مع علم القارئ العادي بالمماثل العربية، ولم يقف الأمر عند الصحافة أو الإذاعة، فهناك التلفاز الذي تعج برامجه بمثل هذه الممارسات، حتى إن العربية الفصحى أضحت في وسائل إعلامنا غريبة في ديارها. وانسياقًا وراء تيار "التغريب" تجاوز الإعجاب باللغات الغربية المثقفين إلى العامة، حتى أولئك الذين لا يجيدون تركيب جملة أجنبية واحدة، أو نطق بعض كلماتها، تراهم يقلدون ما يسمعون من ألفاظ وتعبيرات في السياسة والتجارة والأخلاق، لا فرق إن عدوها من التندر تارة أو من قبيل التظاهر باتساع الثقافة والمعرفة تارة أخرى، وأصبح من مظاهر العولمة الحديثة وهو هنا ما نسميه تغريبًا ما يعج به الشارع العام من لافتات بأسماء المحلات التجارية والخدمية بكتابات أجنبية بارزة، وإن هم عجزوا عن الحرف الأجنبي ترجموه بالحرف العربي، وكل ما يهمهم أن يحمل المكان الطابع الغربي سواء كتب اسمه بالحروف الأجنبية أو كتب بالحرف العربي، المهم أنه ممهور بالصبغة الأجنبية، وغالبًا ما تكون غربية.
ولم يقف أمر "التغريب" عند هذه الحدود وهذه الآثار ، فقد تجاوزها إلى التعليم ومناهجه، لاسيما في التعليم الجامعي، فالعلوم البحتة من طب وهندسة وكيمياء وفيزياء وما يتبعها من علوم تدرس في جامعاتنا العربية كلها باللغة الإنجليزية لا نستثني منها غير الجامعات السورية التى فرضت التعليم الجامعي بالعربية في هذه العلوم وفي سواها. وهو أمر عجب، وقد أثبت ضعف التحصيل في مقارنة التعلم بالعربية، والذي يدعو إلى العجب تمسك الأساتذة أنفسهم باللغات الأجنبية بالرغم من كونهم يعلمون طلابًا عربًا في بيئة عربية، والمستفيد من العملية كلها عربي، وليس من تفسير للإلحاح على تعلم الطب – مثلاً – باللغة الإنجليزية إلا الهزيمة الداخلية التي تعاني منها المجتمعات العربية أو الشعور بالفوقية الأجنبية، دعك من التبريرات التي يلجؤون إليها، فالتحصيل بالعربية يكون أسرع وأجدى وأسهل، وادّعاء السيطرة على المصطلحات الأجنبية في التعليم، ومتابعة مستجدات العلوم واختراعاتها، كل هذه الأمور في مقدور الجامعات السيطرة عليها عن طريق تنظيم دراسات مكثفة في اللغة الأجنبية لهذه الفئات بعد اكتمال دراستها، أو في أثنائها، لا أن تكون على حساب المعرفة الحقيقية أو على حساب اللغة القومية. ولو نظرنا إلى الشعوب ذات الشخصية القومية التي لم تعصف بها عاصفة "التغريب" لكفانا واعظًا، فهاك اليابانيون والصينيون، أتراهم يعلمون الطب بالإنجليزية؟! ثم الألمان والفرنسيون، أيعلمونه بالإنجليزية أيضاً؟! الأطباء الصينيون العاملون في البلاد العربية لا يقرؤون لغة غير لغتهم الصينية، ويلزمون الجهات الطبية المحتاجة لخدماتهم بإحضار مترجمين ليتم التفاهم بينهم وبين المرضى. ترى أيريد الطبيب العربي مترجمًا مثله وهو يعالج إخوته وبني جلدته؟!
ومن الأمثلة التي تدعونا للتفكر في قيمة الاعتزاز بالهوية والخروج من الوضع الانهزامي للنفس الإنسانية، ما نلحظه في الدولة العبرية، فهل تراها تعلم بلغة غير العبرية؟! ثم أين العبرية من العربية؟! إنها لغة أحياها أفراد بعد فناء وعادت للحياة حينما أرادت نفوس أبنائها ذلك.
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجساد
إن توطين العلم في مجتمعنا العربي لن يتحقق إلا إذا كان بلغة هذا المجتمع، وهذا يعني تعريب العلوم كلها، أما الخضوع للتعلم باللغات الأجنبية فسوف يبقي العلم محصورًا في نخبة محدَّدة قليلة، غير قادرة وحدها على النهوض بأعباء ثقافة عصرية فعالة. واللغة العربية أهل للاستقلالية بشخصيتها والسيطرة على المعارف بما أوتيت من مقومات، لا ندعيها نحن العرب، ولكن بإقرار العالم كله عالميتها. واعتمادها لغة رسمية من لغات الأمم المتحدة الست، ولكي تكون عالميتها حقيقية لا ادعاء كان على سدنتها والغُير من أبنائها المداومة على متابعة المستجدات العلمية والاختراعات بتعريب قوانينها وتقريب مفاهيمها لمتكلمي هذه اللغة، عن طريق الترجمة إليها تارة، ومنها تارة أخرى [انظر: ممدوح محمد خسارة: قضايا لغوية معاصرة، ص12 – 13]
وبعد : "فإن مكونات الثقافة جميعها، من قيم ومعتقدات، ومن إنتاج علمي وأدبي، لا يمكن أن تكون عربية وفعالة ومبدعة إلا إذا كتبت ونشرت وأنجزت باللغة العربية، الأمر الذي لا يتحقق إلا بتعريب تلك الجبهة المنسية من جبهات نزالنا مع الثقافات الأخرى "[المصدر السابق، ص 14]. "وإن مطلب المباشرة في تطبيق التعريب قد أصبح مطلبًا ملحًّا غير قابل للتأجيل بعد كل تلك الأبحاث والندوات، وفي ضوء اعتماد الأمم كبيرها وصغيرها اللغات القومية في تدريس العلوم الحديثة بجامعاتها دون تردد أو
تسويف " [محمد جابر الأنصاري: التعريب الجامعي وحتمية المقارنة الميدانية، مجلة رسالة الخليج العربي، العدد 24، ص 151 نقلاً عن المصدر السابق، ص 14].
ثم إن الغيرة على العربية والحماسة للتعريب لا تعني كراهة اللغات الأجنبية أو الدعوة إلى هجرها ومقاطعتها، فنحن من هذا الكون ولا نعيش بمعزل عن الآخرين، فكان علينا إذن مجاراته في علومه ومخترعاته، ومتابعة كل جديد من حولنا فى عالم كثرت تقنياته، وتضاعفت إنجازته العلمية والمعرفية، وألا نكون عالة على موائد القوم، خاضعين لسيطرة العولمة الثقافية.
والله من وراء القصد.
عوض بن حمد القوزي
عضو المجمع المراسل
من السعودية
منقول عن مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، عدد 102، ص 75-88.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .