البداية والنهاية - الجزء الثاني -2
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وثوب لخنيعة ذي شناتر على ملك اليمن
وقد ملكها سبعاً وعشرين سنة. قال ابن إسحاق: فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت الملك، يقال له: لخنيعة ينوف ذو شناتر، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، وكان مع ذلك امرءاً فاسقاً يعمل عمل قوم لوط، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك. (ج/ص: 2/ 206)
ثم يطلع من شربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده، قد أخذ مسواكاً فجعله في فيه ليعلمهم أنه قد فرغ منه، حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان، وكان صبياً صغيراً حين قتل أخوه حسان، ثم شب غلاماً جميلاً وسيماً ذا هيئة وعقل، فلما أتاه رسوله، عرف ما يريد منه، فأخذ سكيناً جديداً لطيفاً فخبأه بين قدميه ونعله ثم أتاه.
فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله، ثم حزَّ رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها، ووضع مسواكه في فيه، ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذا نواس أرطب أم يباس؟ فقال: سل نحماس استرطبان ذو نواس، استرطبان لا بأس، فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع، فخرجوا في أثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا: ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث.
فملكوه عليهم، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير وتسمى يوسف، فأقام في ملكه زماناً، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام على الإنجيل أهل فضل واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له: عبد الله بن الثامر.
ثم ذكر ابن إسحاق سبب دخول أهل نجران في دين النصارى، وأن ذلك كان على يدي رجل يقال له: فيميون، كان من عُبَّاد النصارى بأطراف الشام، وكان مجاب الدعوة. (ج/ص: 2/ 207)
وصحبه رجل يقال له صالح، فكان يتعبدان يوم الأحد، ويعمل فيميون بقية الجمعة في البناء، وكان يدعوا للمرضى والزمنى وأهل العاهات فيشفون، ثم استأسره وصاحبه بعض الأعراب فباعوهما بنجران، فكان الذي اشترى فيميون يراه إذا قام في مصلاه بالبيت الذي هو فيه في الليل، يمتلي عليه البيت نوراً فأعجبه ذلك من أمره.
وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة لها عيد كل سنة، يعلقون عليها حُليّ نسائهم ويعكفون عندها، فقال فيميون لسيده: أرأيت إن دعوت الله على هذه الشجرة فهلكت أتعلمون أن الذي أنتم عليه باطل؟ قال: نعم.
فجمع له أهل نجران، وقام فيميون إلى مصلاه فدعا الله عليها، فأرسل الله عليها قاصفاً فجعفها من أصلها، ورماها إلى الأرض، فاتبعه أهل نجران على دين النصرانية، وحملهم على شريعة الإنجيل، حتى حدثت فيهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران من أرض العرب.
ثم ذكر ابن إسحاق قصة عبد الله بن الثامر حين تنصر على يدي فيميون، وكيف قتله وأصحابه ذو نواس وخدَّ لهم الأُخدود.
وقال ابن هشام: وهو الحفر المستطيل في الأرض مثل الخندق، وأجج فيه النار وحرقهم بها، وقتل آخرين حتى قتل قريباً من عشرين ألفاً، كما قدمنا ذلك مبسوطاً في أخبار بني إسرائيل، وكما هو مستقصى في تفسير سورة {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} من كتابنا التفسير، ولله الحمد.
خروج الملك باليمن من حمير إلى الحبشة السودان
كما أخبر بذلك شق وسطيح الكاهنان، وذلك أنه لم ينج من أهل نجران إلا رجل واحد يقال له: دوس ذو ثعلبان على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر ملك الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما بلغ منهم، وذلك لأنه نصراني على دينهم. (ج/ص: 2/ 208)
فقال له: بعدت بلادك منا، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك. فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر، فبعث معه سبعين ألفاً من الحبشة، وأمر عليهم رجلاً منهم، يقال له: أرياط، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس، وسار إليه ذو نواس في حمير، ومن أطاعه من قبائل اليمن.
فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه، وجَّه فرسه في البحر، ثم ضربه فدخل فيه، فخاض به ضحضاح البحر، حتى أفضى به إلى غمرة، فأدخله فيها فكان آخر العهد به، ودخل أرياط اليمن وملكها. (ج/ص: 2/ 209) [كلها هوامش] (ج/ص: 2/ 210)
وقد ذكر ابن إسحاق هاهنا، أشعاراً للعرب فيما وقع من هذه الكائنة الغريبة، وفيها فصاحة، وحلاوة، وبلاغة، وطلاوة، ولكن تركنا إيرادها خشية الإطالة، وخوف الملالة، وبالله المستعان.
خروج أبرهة الأشرم على أرياط واختلافهما
قال ابن إسحاق: فأقام أرياط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعة أبرهة الحبشي - و كان في جنده - حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل منهما طائفة منهم، ثم سار أحدهما إلى الآخر.
فلمَّا تقارب الناس، أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لن تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض، حتى تفنيها شيئاً شيئاً، فأبرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط: أنصفت.
فخرج إليه أبرهة وكان رجلاً قصيراً لحيماً حادراً، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلاً جميلاً عظيماً طويلاً وفي يده حربة له، وخلف أبرهة غلام - يقال له عتودة - يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته فبذلك سمى أبرهة الأشرم.
وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وودى أبرهة أرياط، فلما بلغ ذلك النجاشي ملك الحبشة الذي بعثهم إلى اليمن غضب غضباً شديداً على أبرهة، وقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري، ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته، فحلق أبرهة رأسه وملأ جراباً من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه:
أيها الملك: إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك وكل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة، واضبط لها وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب تراب من أرضي ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه فيَّ. (ج/ص: 2/ 211)
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه، وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن.
سبب قصر أبرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1-5].
قيل: أول من ذلل الفيلة إفريدون بن أثفيان، الذي قتل الضحاك، قاله: الطبري، وهو أول من اتخذ للخيل السرج.
وأما أول من سخر الخيل وركبها: فطهمورث، وهو الملك الثالث من ملوك الدنيا.
ويقال: إن أول من ركبها إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ويحتمل أنه أول من ركبها من العرب، والله تعالى أعلم.
ويقال: إن الفيل مع عظمة خلقه يفرق من الهر، وقد احتال بعض أمراء الحروب في قتال الهنود بإحضار سنانير إلى حومة الوغى، فنفرت الفيلة.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء، كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.
فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة الخسيسة، وسخرهم فيها أنواعاً من السخر. وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة، وجعل ينقل إليها من قصر بلقيس رخاماً، وأحجاراً، وأمتعة عظيمة، وركب فيها صلباناً من ذهب وفضة، وجعل فيها منابر من عاج وأبنوس، وجعل ارتفاعها عظيماً جداً، واتساعها باهراً.
فلما هلك بعد ذلك أبرهة وتفرقت الحبشة، كان من يتعرض لأخذ شيء من بنائها وأمتعتها، أصابته الجن بسوء، وذلك لأنها كانت مبنية على اسم صنمين: كعيب وامرأته، وكان طول كل منهما ستون ذراعاً، فتركها أهل اليمن على حالها. (ج/ص: 2/ 212)
فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح أول خلفاء بني العباس، فبعث إليها جماعة من أهل العزم والحزم والعلم، فنقضوها حجراً حجراً، ودرست آثارها إلى يومنا هذا.
قال ابن إسحاق: فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة من كنانة، الذين ينسئون شهر الحرام إلى الحل بمكة أيام الموسم، كما قررنا ذلك عند قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ..} الآية [التوبة: 37].
قال ابن إسحاق: فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها، أي أحدث حيث لا يراه أحد، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك، فقال: من صنع هذا؟
فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا. فغضب فجاء فقعد فيها، أي: أنه ليس لذلك بأهل.
فغضب أبرهة عند ذلك وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقاً عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر. فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريده من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نقر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر، فأتي به أسيراً. فلما أراد قتله قال له ذو نفر: يا أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيراً لك من القتل. فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق.
وكان أبرهة رجلاً حليماً، ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي، في قبيلتي خثعم، وهما شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيراً فأتى به. (ج/ص: 2/ 213)
فلما همَّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فأني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم - شهران وناهس - بالسمع والطاعة، فخلى سبيله.
وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف، فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك، سامعون لك، مطيعون ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم.
قال ابن إسحاق: واللات بيت لهم بالطائف، كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة. قال: فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس. فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.
وقد تقدم في قصة ثمود أن أبا رغال كان رجلاً منهم، وكان يمتنع بالحرم، فلما خرج منه، أصابه حجر فقتله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
((وآية ذلك أنه دفن معه غصنان من ذهب)).
فحفروا فوجدوهما.
قال: وهو أبو ثقيف.
قلت: والجمع بين هذا وبين ما ذكر ابن إسحاق؛ أن أبا رغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى، ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضاً، والله أعلم. وقد قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه * كرجمكم لقبر أبي رُغال
الظاهر أنه الثاني.
قال ابن إسحاق: فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود، على خيل له حتى انتهى إلى مكة. فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم - وهو يومئذ كبير قريش وسيدها - فهمَّت قريش وكنانة وهذيل، ومن كان بذلك الحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك. (ج/ص: 2/ 214)
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فائتني به.
فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر، وكان له صديقاً، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟
فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدواً أو عشياً؟ ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيساً سائس الفيل صديق لي. فسأرسل إليه، وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، فقال: حسبي.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل.
فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، وهو الذي يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، فائذن له عليك فليكلمك في حاجته و أحسن إليه. فأذن له أبرهة.
قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس، وأعظمهم، وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجلَّه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان.
فقال: حاجتي أن يرد على الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟
فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه، فقال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك. فرد على عبد المطلب إبله. (ج/ص: 2/ 215)
قال ابن إسحاق: ويقال إنه كان قد دخل مع عبد المطلب على أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة سيد بني بكر، وخويلد بن وائلة سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى عليهم ذلك، فالله أعلم أكان ذلك أم لا.
فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في رؤوس الجبال، خوفاً عليهم من معرة الجيش.
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يمنع * رحله فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم * ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم * وقبلتنا فأمر ما بدا لك
قال ابن هشام: هذا ما صح له منها. وقال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال يتحرزون فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبى جيشه، وكان اسم الفيل: محموداً. (ج/ص: 2/ 216)
فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود، وارجع راشداً من حيث أتيت، فإنك في بلد الله الحرام. وأرسل أُذنه فبرك الفيل.
قال السهيلي: أي سقط إلى الأرض، وليس من شأن الفيلة أن تبرك، وقد قيل: إن منها ما يبرك كالبعير، فالله أعلم.
وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فادخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحداً إلا هلك، وليس كلهم أصابت.
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل في ذلك:
ألا حييت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت فلا تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتني وحمدت أمري * ولم تاسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينا
قال ابن إسحاق: فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل. وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة اتبعتها منه مدة تمت قيحاً ودماً حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون. (ج/ص: 2/ 217)
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام.
قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كان مما يعدد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].
ثم شرع ابن إسحاق، وابن هشام يتكلمان على تفسير هذه السورة والتي بعدها، وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى، وله الحمد والمنة.
قال ابن هشام: الأبابيل الجماعات، ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه. قال: وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي، وأبو عبيدة أنه عند العرب: الشديد الصلب. (ج/ص: 2/ 218)
قال: وزعم بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وأنها سنج وجل، فالسنج الحجر، والجل الطين. يقول: الحجارة من هذين الجنسين الجر والطين. قال: والعصف ورق الزرع الذي لم يقصب.
وقال الكسائي: سمعت بعض النحويين يقول: واحد الأبابيل أبيل.
وقال كثيرون من السلف: الأبابيل الفرق من الطير التي يتبع بعضها بعضا من ههنا وههنا.
وعن ابن عباس: كان لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
وعن عكرمة: كانت رؤوسها كرؤوس السباع خرجت عليهم من البحر وكانت خضراً.
وقال عبيد بن عمير: كانت سوداً بحرية في مناقيرها وأكفها الحجارة.
وعن ابن عباس: كانت أشكالها كعنقاء مغرب.
وعن ابن عباس: كان أصغر حجر منها كرأس الإنسان، ومنها ما هو كالإبل. وهكذا ذكره يونس بن بكير، عن ابن إسحاق. وقيل: كانت صغاراً والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير قال: لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيراً أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف، كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار: حجرين في رجليه، وحجراً في منقاره.
قال: فجاءت حتى صفت على رؤوسهم. ثم صاحت وألقت ما في رجليها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره، ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر، وبعث الله ريحاً شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعاً.
وقد تقدم أن ابن إسحاق قال: وليس كلهم أصابته الحجارة - يعني بل رجع منهم راجعون إلى اليمن - حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال، وذكروا أن أبرهة رجع وهو يتساقط أنملة أنملة، فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره، فمات لعنه الله. (ج/ص: 2/ 219)
وروى ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن سمرة، عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان، وتقدم أن سائس الفيل كان اسمه أنيساً، فأما قائده فلم يسم، والله أعلم.
وذكر النقاش في تفسيره: أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر، قال السهيلي: وكانت قصة الفيل أول المحرم من سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين.
قلت: وفي عامها ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشهور، وقيل: كان قبل مولده بسنين كما سنذكر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.
ثم ذكر ابن إسحاق ما قالته العرب من الأشعار في هذه الكائنة العظيمة التي نصر الله فيها بيته الحرام الذي يريد أن يشرفه ويعظمه، ويطهره، ويوقره ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وما يشرع له من الدين القويم الذي أحد أركانه الصلاة بل عماد دينه، وسيجعل قبلته إلى هذه الكعبة المطهرة.
ولم يكن ما فعله بأصحاب الفيل نصرة لقريش إذ ذاك على النصارى الذين هم الحبشة، فإن الحبشة إذ ذاك كانوا أقرب لها من مشركي قريش، وإنما كان النصر للبيت الحرام وإرهاصاً وتوطئه لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك ما قاله عبد الله بن الزبعري السهمي:
تنكلوا عن بطن مكة إنها * كانت قديماً لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالي حرمت * إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الحبش عنها ما رأى * فلسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يؤبوا أرضهم * بل لم يعش بعد الأياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم * والله من فوق العباد يقيمها
ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت الأنصاري المدني: (ج/ص: 2/ 220)
ومن صنعه يوم فيل الحبوش * إذ كلما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه * وقد شرموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه مغولاً * إذا يمموه قفاه كلم
فولى وأدبر أدراجه * وقد باء بالظلم من كان ثم
فأرسل من فوقهم حاصبا * فلفهم مثل لف القزم
تحض على الصبر أحبارهم * وقد ثأجوا كثؤاج الغنم
ومن ذلك قول أبي الصلت ربيعة بن أبي ربيعة وهب بن علاج الثقفي قال: ابن هشام ويروى لأمية بن أبي الصلت
إن آيات ربنا ثاقبات * ما يمارى فيهن إلا الكفور
خلق الليل والنهار فكل * مستبين حسابه مقدور
ثم يجلو النهار رب رحيم * بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى * صار يحبو كأنه معقور
لازماً حلقة الجران كما قد * من صخر كبكب محدور
حوله من ملوك كندة أبطال * ملاويث في الحروب صقور
خلفوه ثم ابذعروا جميعا * كلهم عظم ساقه مكسور
كل دين يوم القيامة عند الله * إلا دين الحنيفة بور
ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت أيضاً: (ج/ص: 2/ 221)
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا *بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمشي ورجله * على القاذفات في رؤس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله ملحبش غير عصائب
ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرقيات في عظمة البيت وحمايته بهلاك من أراده بسوء:
كاده الأشرم الذي جاء بالفيل * فولى وجيشه مهزوم
واستهلت عليهم الطير بالجندل * حتى كأنه مرجوم
ذاك من يغزه من الناس يرجع * وهو فل من الجيوش ذميم
قال ابن إسحاق وغيره: فلما هلك أبرهة ملك الحبشة بعده ابنه يكسوم، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة وهو آخر ملوكهم، وهو الذي انتزع سيف بن ذي يزن الحميري الملك من يده بالجيش الذين قدم بهم من عند كسرى أنوشروان كما سيأتي بيانه.
وكانت قصة الفيل في المحرم سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين، وهو الثاني إسكندر بن فلبس المقدوني الذي يؤرخ له الروم، ولما هلك أبرهة وابناه وزال ملك الحبشة عن اليمن، هجر القليس الذي كان بناه أبرهة وأراد صرف حج العرب إليه لجهله وقلة عقله، وأصبح يباباً لا أنيس له.
وكان قد بناه على صنمين وهما كعيب وامرأته، وكانا من خشب طول كل منهما ستون ذراعاً في السماء، وكانا مصحوبين من الجان، ولهذا كان لا يتعرض أحد إلى أخذ شيء من بناء القليس وأمتعته إلا أصابوه بسوء، فلم يزل كذلك إلى أيام السفاح أول خلفاء بني العباس.
فذكر له أمره وما فيه من الأمتعة والرخام الذي كان أبرهة نقله إليه من صرح بلقيس الذي كان باليمن، فبعث إليه من خربه حجراً حجراً، وأخذ جميع ما فيه من الأمتعة والحواصل، هكذا ذكره السهيلي، والله أعلم.
خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن
قال محمد بن إسحاق رحمه الله: فلما هلك أبرهة ملك الحبشة يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، فلما هلك يكسوم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة، قال: فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري، وهو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ. (ج/ص: 2/ 222)
وكان سيف يكنى أبا مرة، حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكى إليه ما هو فيه وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو، ويخرج إليهم من شاء من الروم فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه ولم يجد عنده شيئاً مما يريد.
فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق، فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان: إن لي على كسرى وفادة في كل عام، فأقم عندي حتى يكون ذلك، ففعل ثم خرج معه فأدخله على كسرى، وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه، وكان تاجه مثل القنقل العظيم فيما يزعمون، يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة، معلقاً بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك.
وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر عليه بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك، ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشف عنه الثياب فلا يراه أحد لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له، فلما دخل عليه سيف طأطأ رأسه، فقال الملك: إن هذا الأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه، فقيل ذلك لسيف فقال: إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء.
ثم قال: أيها الملك غلبتنا على بلادنا الأغربة، قال كسرى: أي الأغربة الحبشة أم السند؟ قال: بل الحبشة، فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك.
فقال له كسرى: بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشاً من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف، وكساه كسوة حسنة، فلما قبض ذلك منه سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس، فبلغ ذلك الملك فقال: إن لهذا لشأناً.
ثم بعث إليه فقال: عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس؟ قال: وما أصنع بحباك ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة يرغبه فيها مما رأى من زهادته فيها إنما جئت الملك ليمنعني من الظلم ويدفع عني الذل. (ج/ص: 2/ 223)
فجمع كسرى مرازبته فقال لهم: ما ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له؟ فقال قائل: أيها الملك إن في سجونك رجالاً قد حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم، وإن ظفروا كان ملكاً أزددته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه، وكانوا ثمانمائة رجل، واستعمل عليهم وهرز كان ذا سن فيهم، وأفضلهم حسباً وبيتاً، فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان، ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن، فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له: رجلي ورجلك حتى نموت جميعاً أو نظفر جميعاً.
فقال له وهرز: أنصفت، وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنده فأرسل إليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم، فقتل ابن وهرز، فزاده ذلك حنقاً عليهم، فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز: أروني ملكهم، فقالوا له: أترى رجلاً على الفيل عاقداً تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء؟ قال: نعم.
قالوا: ذلك ملكهم، فقال: اتركوه.
قال: فوقفوا طويلاً ثم قال: علام هو؟
قالوا: قد تحول على الفرس.
قال: اتركوه. فتركوه طويلاً، ثم قال: علام هو؟
قالوا: على البغلة.
قال وهرز: بنت الحمار ذل وذل ملكه، إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم، فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا به ولاهوا فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم، ثم وتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها، وأمر بحاجبيه فعصبا له.
ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه، وتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه، ونكس عن دابته، واستدارت الحبشة ولاثت به، وحملت عليهم الفرس فانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه.
وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكسة أبداً اهدموا هذا الباب، فهدم ثم دخلها ناصباً رايته، فقال سيف بن ذي يزن الحميري:
يظن الناس بالملكين * أنهما قد التأما
ومن يسمع بلأ مهما * فإن الخطب قد فقما
قتلنا القيل مسروقا * وروينا الكثيب دما
وإن القيل قيل الناس * وهرز مقسم قسما
يذوق مشعشعا حتى * نفيء السبي والنعما
(ج/ص: 2/ 224)
ووفدت العرب من الحجاز وغيرها على سيف يهنئونه بعود الملك إليه وامتدحوه، فكان من جملة من وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم، فبشره سيف برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما يعلم من أمره، وسيأتي ذلك مفصلاً في باب البشارات به عليه الصلاة والسلام.
قال ابن إسحاق: وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي قال: ابن هشام، ويروى لأمية بن أبي الصلت:
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن * ريّم في البحر للأعداء أحوالا
يمم قيصرا لما حان رحلته * فلم يجد عنده بعض الذي سالا
ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة * من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم * إنك عمري لقد أسرعت قلقالا
لله درهم من عصبة خرجوا * ما إن أرى لهم في الناس أمثالا
غلباً مرازبة بيضاً أساورة * أسداً تربب في الغيضات أشبالا
يرمون عن سدف كأنها غبط * بزمخر يعجل المرميَّ إعجالا
أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد * أضحى شريدهم في الأرض فُلاّلا
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقا * في رأس غمدان دارا منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم * وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
يقال - إن غمدان - قصر باليمن بناه يعرب بن قحطان، وملكه بعده، واحتله وائلة بن حمير بن سبأ، ويقال: كان ارتفاعه عشرين طبقة، فالله أعلم. (ج/ص: 2/ 225)
قال ابن إسحاق: وقال عدي بن زيد الحميري، وكان أحد بني تميم:
ما بعد صنعاء كان يعمرها * ولاة ملك جزل مواهبها
رفعها من بني لذي قزع المزن * وتندى مسكاً محاربها
محفوقة بالجبال دون عرى الكائد * ما يرتقى غواربها
يأنس فيها صوت النهام إذا * جاوبها بالعشى قاصبها
ساقت إليها الأسباب جند بني * الأحرار فرسانها مواكبها
وفوزت بالبغال توسق بالحتف * وتسعى بها توالبها
حتى يراها الأقوال من طرف المنقل * مخضرة كتائبها
يوم ينادون آل بربر واليكسوم * لا يفلحن هاربها
فكان يوماً باقي الحديث وزالت * أمة ثابت مراتبها
وبدل الهيج بالزرافة والأيام * خون جم عجائبها
بعد بني تبع نخاورة * قد اطمأنت بها مرازبها
قال ابن هشام: وهذا الذي عنى سطيح بقوله: يليه إرم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن، والذي عنى شق بقوله: غلام ليس بدني ولا مدن يخرج من بيت ذي يزن.
قال ابن إسحاق: وأقام وهرز والفرس باليمن، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم.
وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة، وأخرجت الحبشة اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما آل إليه أمر الفرس باليمن
قال ابن هشام: ثم مات وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن، ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان ثم مات فأمر ابن التينجان، ثم عزله عن اليمن، وأمر عليها باذان وفي زمنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 2/ 226)
قال ابن هشام: فبلغني عن الزهري أنه قال: كتب كسرى إلى باذان أنه بلغني أن رجلاً من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا، فلما أتى باذان الكتاب وقف لينتظر، وقال: إن كان نبياً فسيكون ما قال، فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: على يدي ابنه شيرويه، قلت: وقال بعضهم: بنوه تمالؤوا على قتله. وكسرى هذا هو أبرويز بن هرمز بن أنو شروان بن قباز، وهو الذي غلبت الروم في قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 1-3] كما سيأتي بيانه.
قال السهيلي: وكان قتله ليلة الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع من الهجرة. وكان والله أعلم لما كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام فغضب ومزق كتابه، كتب إلى نائبه باليمن يقول له ما قال.
وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرسول باذان:
((إن ربي قد قتل الليلة ربك)).
فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل تلك الليلة بعينها، قتله بنوه لظلمه بعد عدله بعد ما خلعوه وولوا ابنه شيرويه، فلم يعش بعد قتله أباه إلا ستة أشهر أو دونها، وفي هذا يقول خالد بن حق الشيباني:
وكسرى إذ تقسمه بنوه * بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخضت المنون له بيوم * ألا ولكل حاملة تمام
قال الزهري: فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الرسل: إلى من نحن يا رسول الله؟ قال: أنتم منا وإلينا أهل البيت. (ج/ص: 2/ 227)
قال الزهري: ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((سلمان منا أهل البيت)).
قلت: والظاهر أن هذا كان بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولهذا بعث الأمراء إلى اليمن لتعليم الناس الخير، ودعوتهم إلى الله عز وجل، فبعث أولاً خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب، ثم أتبعهما أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، ودانت اليمن وأهلها للإسلام، ومات باذان فقام بعده ولده شهر بن باذان، وهو الذي قتله الأسود العنسي حين تنبأ، وأخذ زوجته كما سيأتي بيانه.
وأجلى عن اليمن نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قتل الأسود عادت اليد الإسلامية عليها.
وقال ابن هشام: وهذا هو الذي عنى به سطيح بقوله: نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي، والذي عنى شق بقوله: بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.
قال ابن إسحاق: وكان في حجر باليمن فيما يزعمون كتاب بالزبور، كتب بالزمان الأول، لمن ملك ذمار؟ الحمير الأخيار، لمن ملك ذمار، للحبشة الأشرار، لمن ملك ذمار؟ لفارس الأحرار، لمن ملك ذمار؟ لقريش التجار.
وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى فيما ذكره المسعودي:
حين شدت ذمار قيل لمن أنت * فقالت لحمير الأخيار
ثم سينت من بعد ذاك فقالت * أنا للحبش أخبث الأشرار
ثم قالوا من بعد ذاك لمن أنت * فقالت لفارس الأحرار
ثم قالوا من بعد ذاك لمن أنت * فقالت إلى قريش التجار
ويقال: إن هذا الكلام الذي ذكره محمد بن إسحاق وجد مكتوباً عند قبر هود عليه السلام، حين كشفت الريح عن قبره بأرض اليمن، وذلك قبل زمن بلقيس بيسير في أيام مالك بن ذي المنار، أخي عمرو ذي الأذعار بن ذي المنار.
ويقال: كان مكتوباً على قبر هود أيضاً، وهو من كلامه عليه السلام، حكاه السهيلي، والله أعلم. (ج/ص: 2/ 228)
قصة الساطرون صاحب الحضر
وقد ذكر قصته هاهنا عبد الملك بن هشام لأجل ما قاله بعض علماء النسب: إن النعمان بن المنذر الذي تقدم ذكره في ورود سيف بن ذي يزن عليه، وسؤاله في مساعدته في رد ملك اليمن إليه، إنه من سلالة الساطرون صاحب الحضر، وقد قدمنا عن ابن إسحاق: إن النعمان بن المنذر من ذرية ربيعة بن نصر، وأنه روى عن جبير بن مطعم أنه من أشلاء قيصر بن معد بن عدنان.
فهذه ثلاثة أقوال في نسبه، فاستطرد ابن هشام في ذكر صاحب الحضر.
والحضر حصن عظيم بناه هذا الملك - وهو الساطرون - على حافة الفرات، وهو منيف مرتفع البناء، واسع الرحبة والفناء، دوره بقدر مدينة عظيمة، وهو في غاية الإحكام والبهاء والحسن والسناء، وإليه يجبي ما حوله من الأقطار والأرجاء.
واسم الساطرون: الضيزن بن معاوية بن عبيد بن أجرم من بني سليح بن حلوان بن الحاف بن قضاعة، كذا نسبه ابن الكلبي.
وقال غيره: كان من الجرامقة، وكان أحد ملوك الطوائف، وكان يقدمهم إذا اجتمعوا لحرب عدو من غيرهم، وكان حصنه بين دجلة والفرات.
قال ابن هشام: وكان كسرى سابور ذو الأكتاف، غزا الساطرون ملك الحضر.
وقال غير ابن هشام: إنما الذي غزا صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان، أذل ملوك الطوائف، ورد الملك إلى الأكاسرة.
وأما سابور ذو الأكتاف بن هرمز فبعد ذلك بدهر طويل، والله أعلم، ذكره السهيلي.
قال ابن هشام: فحصره سنتين، وقال غيره: أربع سنين. وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته بأرض العراق، فأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة، فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، وكان جميلاً، فدست إليه أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر؟
فقال: نعم. (ج/ص: 2/ 229)
فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر، وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه، وبعثت بها مع مولى لها، ففتح الباب، ويقال: بل دلتهم على نهر يدخل منه الماء متسع، فولجوا منه إلى الحضر.
ويقال: بل دلتهم على طلسم كان في الحضر، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل، فإذا وقعت على سور الحضر سقط ذلك الطلسم، فيفتح الباب، ففعل ذلك فانفتح الباب.
فدخل سابور فقتل ساطرون، واستباح الحضر وخربه وسار بها معه فتزوجها، فبينا هي نائمة على فراشها ليلاً إذ جعلت تململ لا تنام، فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس، فقال لها سابور: أهذا الذي أسهرك؟ قالت: نعم. قال: فما كان أبوك يصنع بك؟ قالت: كان يفرش لي الديباج، ويلبسني الحرير، ويطعمني المخ، ويسقيني الخمر.
قال: أفكان جزاء أبيك ما صنعت به أنت إلي بذلك أسرع. فربطت قرون رأسها بذنب فرس، ثم ركض الفرس حتى قتلها، ففيه يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
ألم ترَ للحضر إذ أهله * بنعمى وهل خالد من نعم
أقام به شاهبور الجنود * حولين تضرب فيه القدم
فلما دعا ربه دعوة * أناب إليه فلم ينتقم
فهل زاده ربه قوة * ومثل مجاوره لم يقم
وكان دعا قومه دعوة * هلموا إلى أمركم قد صرم
فموتوا كراما بأسيافكم * أرى الموت يجشمه من جشم
وقال عدي بن زيد في ذلك:
والحضر صابت عليه داهية * من فوقه أيد مناكبها
ربية لم توق والدها * لحينها إذا أضاع راقبها
إذ غبقته صهباء صافية * والخمر وهل يهيم شاربها
فأسلمت أهلها بليلتها * تظن أن الرئيس خاطبها
فكان حظ العروس إذ جشر * الصبح دماء تجري سبائبها
وخرب الحضر واستبيح وقد * أحرق في خدرها مشاجبها
(ج/ص: 2/ 230)
وقال عدي بن زيد أيضاً:
أيها الشامت المعير بالدهر * أأنت المبرا الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام * بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدن أم * من ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنو * شروان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك * الروم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة * تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فبان * الملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ * أشرف يوماً وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما * يملك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال وما غبطة * حي إلى الممات يصير
ثم أضحوا كأنهم ورق جف * فألوت به الصبا والدبور
قلت: ورب الخورنق الذي ذكره في شعره رجل من الملوك المتقدمين، وعظه بعض علماء زمانه في أمره الذي كان قد أسرف فيه، وعتا وتمرد فيه، وأتبع نفسه هواها، ولم يراقب فيها مولاها، فوعظه بمن سلف قبله من الملوك والدول، وكيف بادوا ولم يبق منهم أحد.
وأنه ما صار إليه عن غيره إلا وهو منتقل عنه إلى من بعده، فأخذته موعظته وبلغت منه كل مبلغ، فارعوى لنفسه وفكر في يومه وأمسه، وخاف من ضيق رمسه، فتاب وأناب، ونزع عما كان فيه، وترك الملك ولبس ذي الفقراء، وساح في الفلوات، وحظى بالخلوات.
وخرج عما كان الناس فيه من اتباع الشهوات، وعصيان رب السموات، وقد ذكر قصته مبسوطة الشيخ الإمام موفق بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتاب (التوابين)
وكذلك أوردها بإسناد متين الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتاب (الروض الأنف) المرتب أحسن ترتيب وأوضح تبيين.
خبر ملوك الطوائف
وأما صاحب الحضر وهو ساطرون، فقد تقدم أنه كان مقدماً على سائر ملوك الطوائف. (ج/ص: 2/ 231)
وكان من زمن إسكندر بن فلبيس المقدوني اليوناني، وذلك لأنه لما غلب على ملك الفرس دارا بن دارا وأذل مملكته، وخرب بلاده، واستباح بيضة قومه، ونهب حواصله، ومزق شمل الفرس شذر مذر، عزم أن لا يجتمع لهم بعد ذلك شمل، ولا يلتئم لهم أمر، فجعل يقر كل ملك على طائفة من الناس في أقليم من أقاليم الأرض ما بين عربها وأعاجمها، فاستمر كل ملك منهم يحمي حوزته، ويحفظ حصته، ويستغل محلته.
فإذا هلك قام ولده من بعده أو أحد قومه فاستمر الأمر كذلك قريبا من خمسمائة سنة، حتى كان أزدشير بن بابك من بني ساسان بن بهمن بن أسفنديار بن يشتاسب بن لهراسب، فأعاد ملكهم إلى ما كان عليه، ورجعت الممالك برمتها إليه، وأزال ممالك مملوك الطوائف، ولم يبق منهم تالد ولا طارف، وكان تأخر عليه حصار صاحب الحضر الذي كان أكبرهم، وأشدهم، وأعظمهم، إذ كان رئيسهم ومقدمهم.
فلما مات أزدشير تصدى له ولده سابور، فحاصره حتى أخذه كما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر بني إسماعيل وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان البعثة
تقدم ذكر إسماعيل نفسه عليه السلام مع ذكر الأنبياء، وكيف كان من أمره حين احتمله أبوه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع أمه هاجر، فأسكنها بوادي مكة بين جبال فاران حيث لا أنيس به ولا حسيس، وكان إسماعيل رضيعاً، ثم ذهب وتركهما هنالك عن أمر الله له بذلك، ليس عند أمه سوى جراب فيه تمر، ووكاء فيه ماء.
فلما نفد ذلك، أنبع الله لهاجر زمزم التي هي طعام طعم وشفاء سقم، كما تقدم بيانه في حديث ابن عباس الطويل، الذي رواه البخاري رحمه الله، ثم نزلت جرهم: وهي طائفة من العرب العاربة من أمم العرب الأقدمين عند هاجر بمكة، على أن ليس لهم في الماء شيء إلا ما يشربون منه وينتفعون به، فاستأنست هاجر بهم، وجعل الخليل عليه السلام يطالع أمرهم في كل حين.
يقال: إنه كان يركب البراق من بلاد بيت المقدس في ذهابه وإيابه، ثم لما ترعرع الغلام وشب وبلغ مع أبيه السعي، كانت قصة الذبح كما تقدم بيان أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح، ثم لما كبر تزوج من جرهم امرأة، ثم فارقها وتزوج غيرها، وتزوج بالسيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي. (ج/ص: 2/ 232)
وجاءته بالبنين الاثني عشر، كما تقدم ذكرهم: وهم نابت، وقيذر، ومنشا، ومسمع، وماشي، ودما، وأذر، ويطور، ونيشى، وطيما، وقيذما، هكذا ذكره محمد بن إسحاق، وغيره، عن كتب أهل الكتاب.
وله ابنة واحدة اسمها نسمة، وهي التي زوجها من ابن أخيه العيصو بن إسحاق بن إبراهيم، فولد منها الروم وفارس والأشبان أيضاً في أحد القولين.
ثم جميع عرب الحجاز على اختلاف قبائلهم يرجعون في أنسابهم إلى ولديه نابت وقيذر، وكان الرئيس بعده والقائم بالأمور الحاكم في مكة والناظر في أمر البيت وزمزم: نابت بن إسماعيل، وهو ابن أخت الجرهميين.
ثم تغلبت جرهم على البيت طمعاً في بني أختهم، فحكموا بمكة وما والاها عوضاً عن بني إسماعيل مدة طويلة، فكان أول من صار إليه أمر البيت بعد نابت مضاص بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن عيبر بن نبت بن جرهم.
وجرهم بن قحطان، ويقال: جرهم بن يقطن بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح الجرهمي، وكان نازلاً بأعلى مكة بقعيقعان. (ج/ص: 2/ 233)
وكان السميدع سيد قطوراء نازلاً بقومه في أسفل مكة، وكل منهما يعشر من مر به مجتازاً إلى مكة، ثم وقع بين جرهم وقطوراء فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل السميدع واستوثق الأمر لمضاض وهو الحاكم بمكة والبيت، لا ينازعه في ذلك ولد إسماعيل مع كثرتهم وشرفهم وانتثارهم بمكة وبغيرها، وذلك لخؤلتهم له ولعظمة البيت الحرام أن يكون به بغي أو قتال.
ثم صار الملك بعده إلى ابنه الحارث، ثم إلى عمرو بن الحارث.
ثم بغت جرهم بمكة وأكثرت فيها الفساد، وألحدوا بالمسجد الحرام، حتى ذكر أن رجلاً منهم يقال له: إساف بن بغى، وامرأة يقال لها: نائلة بنت وائل اجتمعا في الكعبة، فكان منه إليها الفاحشة، فمسخهما الله حجرين فنصبهما الناس قريباً من البيت ليعتبروا بهما، فلما طال المطال بعد ذلك بمدد عبدا من دون الله في زمن خزاعة، كما سيأتي بيانه في موضعه. فكانا صنمين منصوبين يقال لهما: إساف ونائلة.
فلما أكثرت جرهم بالبغي بالبلد الحرام، تمالأت عليهم خزاعة الذين كانوا نزلوا حول الحرم، وكانوا من ذرية عمرو بن عامر، الذي خرج من اليمن لأجل ما توقع من سيل العرم، كما تقدم. (ج/ص: 2/ 234)
وقيل: إن خزاعة من بني إسماعيل، فالله أعلم.
والمقصود أنهم اجتمعوا لحربهم وآذنوهم بالحرب واقتتلوا، واعتزل بنو إسماعيل كلا الفريقين، فغلبت خزاعة وهم بنو بكر بن عبد مناة وغبشان وأجلوهم عن البيت، فعمد عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي - وهو سيدهم - إلى غزالي الكعبة - وهما من ذهب - وحجر الركن وهو الحجر الأسود، وإلى سيوف محلاة وأشياء أخر، فدفنها في زمزم، وعلم زمزم وارتحل بقومه فرجعوا إلى اليمن.
وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن مضاض:
وقائلة والدمع سكب مبادر * وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت لها والقلب مني كأنما * يلجلجه بين الجناحين طائر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا * صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت * نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت * بعز فما يحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا * فليس لحي غيرنا ثم فاخر
ألم تنكحوا من خير شخص علمته * فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
فإن تنثني الدنيا علينا بحالها * فإن لها حالاً وفيها التشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة * كذلك يا للناس تجري المقادر
(ج/ص: 2/ 235)
أقول إذا نام الخلي ولم أنم * أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منها أو جهالا أحبها * قبائل منها حمير ويحابر
وصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة * بذلك عضتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكي لبلدة * بها حرم أمن وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه * يظل به أمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة * إذا خرجت منه فليس تغادر
قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن الحارث بن مضاض أيضاً يذكر بني بكر وغبشان الذين خلفوا بعدهم بمكة:
يا أيها الناس سيروا إن قصاركم * أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطي وأرخوا من أزمتها * قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا * دهر فأنتم كما صرنا تصيرونا
قال ابن هشام: هذا ماصح له منها. وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب، وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم قائلها.
وذكر السهيلي لهذه الأبيات أخوة، وحكى عندها حكاية معجبة وإنشادات معربة. قال: وزاد أبو الوليد الأزرقي في كتابه (فضائل مكة) على هذه الأبيات المذكورة المنسوبة إلى عمرو بن الحارث بن مضاض:
قد مال دهر علينا ثم أهلكنا * بالبغي فينا وبز الناس ناسونا
واستخبروا في صنيع الناس قبلكم * كما استبان طريق عنده الهونا
كنا زمانا ملوك الناس قبلكم * بمسكن في حرام الله مسكونا
قصة خزاعة وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للأصنام
قال ابن إسحاق: ثم أن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة. (ج/ص: 2/ 236)
وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة. قالوا: وإنما سميت خزاعة خزاعة لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به، قال عون بن أيوب الأنصاري ثم الخزرجي في ذلك:
فلما هبطنا بطن مر تخزعت * خزاعة منا في حلول كراكر
حمت كل واد من تهامة واحتمت * بصم القنا والمرهفات البواتر
وقال أبو المطهر إسماعيل بن رافع الأنصاري الأوسي:
فلما هبطنا بطن مكة أحمدت * خزاعة دار الآكل المتحامل
فحلت أكاريسا وشتت قنابلا * على كل حي بين نجد وساحل
نفوا جرهما عن بطن مكة واحتبوا * بعز خزاعي شديد الكواهل
فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي، الذي تزوج قصي بن كلاب ابنته حبى، فولدت له بنيه الأربعة: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا.
ثم صار أمر البيت إليه كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحواً من ثلاثمائة سنة. وقيل: خمسمائة سنة، والله أعلم. وكانوا سوس في ولايتهم وذلك لأن في زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز، وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحي لعنه الله، فإنه أول من دعاهم إلى ذلك وكان ذا مال جزيل جداً.
يقال: إنه فقأ أعين عشرين بعيراً وذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير، وكان من عادة العرب أن من ملك ألف بعير فقأ عين واحد منها، لأنه يدفع بذلك العين عنها. (ج/ص: 2/ 237)
وممن ذكر ذلك الأزرقي، وذكر السهيلي: أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة، وكسى عشرة آلاف حلة، في كل سنة يطعم العرب، ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل، ويلت لهم السويق.
قالوا: وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم، ومحلته عندهم، وكرمه عليهم.
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم: أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق، ويقال: ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟
قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنماً يقال له: هبل، فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.
قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم، والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم، فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم حتى خلفت الخلوف، ونسوا ما كانوا عليه.
وفي الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجراً جمعنا حثية من التراب، وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها.
قال ابن إسحاق: واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم عليه السلام يتمسكون بها من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفات والمزدلفة، وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه.
فكانت كنانة وقريش إذا هلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده. يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] أي: ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكاً من خلقي. (ج/ص: 2/ 238)
وقد ذكر السهيلي وغيره: أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحي، وأن إبليس تبدى له في صورة شيخ فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه، ويقول كما يقول، واتبعه العرب في ذلك.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمعهم يقولون: لبيك لا شريك لك، يقول: ((قدِ قدِ)).
أي: حسب حسب.
وقد قال البخاري: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يحيى بن آدم، نا إسرائيل عن أبي حفص، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار)).
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وهذا يقتضي أن عمرو بن لحي هو أبو خزاعة الذي تنسب إليه القبيلة بكمالها، كما زعمه بعضهم من أهل النسب، فيما حكاه ابن إسحاق وغيره. ولو تركنا مجرد هذا لكان ظاهراً في ذلك بل كالنص، ولكن قد جاء ما يخالفه من بعض الوجوه.
فقال البخاري، وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب قال: البحيرة: التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء.
قال: وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب)).
وهكذا رواه البخاري أيضاً، ومسلم من حديث صالح بن كيسان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة به.
ثم قال البخاري: ورواه ابن الهاد عن الزهري.
قال الحاكم: أراد البخاري رواه ابن الهاد، عن عبد الوهاب بن بخت، عن الزهري، كذا قال.
وقد رواه أحمد، عن عمرو بن سلمة الخزاعي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب، وبحر البحيرة)).
ولم يذكر بينهما عبد الوهاب بن بخت كما قال الحاكم، فالله أعلم. (ج/ص: 2/ 239)
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الرازق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب)).
وهذا منقطع من هذا الوجه.
والصحيح: الزهري عن سعيد عنه. كما تقدم.
وقوله في هذا الحديث، والذي قبله الخزاعي يدل على أنه ليس والد القبيلة، بل منتسب إليها، مع ما وقع في الرواية من قوله أبو خزاعة تصحيف من الراوي، من أخو خزاعة، أو أنه كان يكنى بأبي خزاعة، ولا يكون ذلك من باب الإخبار بأنه أبو خزاعة كلهم، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعي:
((يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به ولا بك منه)).
فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟
قال: ((لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي)).
ليس في الكتب من هذا الوجه.
وقد رواه ابن جرير، عن هناد بن عبدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، أو مثله وليس في الكتب أيضاً.
وقال البخاري: حدثني محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً، ورأيت عمراً يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب)).
تفرد به البخاري.
وروى الطبراني من طريق صالح، عن ابن عباس مرفوعاً في ذلك. والمقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غير بها دين الخليل، فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً بيناً فظيعاً شنيعاً.
وقد أنكر الله تعالى عليهم في كتابه العزيز في غير ما آية منه فقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ..} الآية [النحل: 116].
وقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 106] وقد تكلمنا على هذا كله مبسوطاً وبينا اختلاف السلف في تفسير ذلك، فمن أراد فليأخذه من ثم، ولله الحمد والمنة.
وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]. (ج/ص: 2/ 240)
وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 136-137].
و قال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 138-140].
وقال البخاري في صحيحه:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
باب جهل العرب
حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.
وقد ذكرنا تفسير هذه الآية، وما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة، التي ظنها كبيرهم عمرو بن لحي قبحه الله، مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم، وهو كاذب مفتر في ذلك، ومع هذا الجهل والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام فيه، بل قد تابعوه فيما هو أطم من ذلك وأعظم بكثير، وهو عبادة الأوثان مع الله عز وجل.
وبدلوا ما كان الله بعث به إبراهيم خليله من الدين القويم والصراط المستقيم، من توحيد عبادة الله وحده لا شريك له، وتحريم الشرك، وغيروا شعائر الحج ومعالم الدين بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف، واتبعوا في ذلك من كان قبلهم من الأمم المشركين، وشابهوا قوم نوح، وكانوا أول من أشرك بالله وعبد الأصنام.
ولهذا بعث الله إليهم نوحاً، وكان أول رسول بعث ينهى عن عبادة الأصنام كما تقدم بيانه في قصة نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ...} الآية [نوح: 23-24]. (ج/ص: 2/ 241)
قال ابن عباس: كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم. وقد بينا كيفية ما كان من أمرهم في عبادتهم بما أغنى عن إعادته ههنا.
قال ابن إسحاق وغيره: ثم صارت هذه الأصنام في العرب بعد تبديلهم دين إسماعيل، فكان ود لبني كلب بن مرة بن غتلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكان منصوباً بدومة الجندل.
وكان سواع لبني هذيل بن إلياس بن مدركة بن مضر، وكان منصوباً بمكان يقال له رهاط.
وكان يغوث لبني أنعم من طيء ولأهل جرش من مذحج، وكان منصوباً بجرش.
وكان يعوق منصوباً بأرض همدان من اليمن لبني خيوان بطن من همدان، وكان نسر منصوباً بأرض حمير لقبيلة يقال لهم: ذو الكلاع.
قال ابن إسحاق: وكان لخولان بأرضهم صنم يقال له: عم أنس، يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسماً بينه وبين الله فيما يزعمون، فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي قسموه له تركوه له وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، وفيهم أنزل الله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً}.
قال: وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له: سعد، صخرة بفلاة من أرضهم طويلة، فأقبل رجل منهم بإبل له مؤبلة ليقفها عليه، التماس بركته فيما يزعم، فلما رأته الإبل وكانت مرعية لا تركب، وكان الصنم يهراق عليه الدماء نفرت منه، فذهبت في كل وجه، وغضب ربها الملكان وأخذ حجراً فرماه به، ثم قال: لا بارك الله فيك، نفرت عليَّ إبلي، ثم خرج في طلبها، فلما اجتمعت له، قال: (ج/ص: 2/ 242)
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا * فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة * من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد
قال ابن إسحاق: وكان في دوس صنم لعمرو بن حممة الدوسي. قال ابن إسحاق: وكانت قريش قد اتخذت صنماً على بئر في جوف الكعبة يقال له: هبل. وقد تقدم فيما ذكره ابن هشام أنه أول صنم نصبه عمرو بن لحي لعنه الله.
قال ابن إسحاق: واتخذوا إسافاً ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما، ثم ذكر أنهما كانا رجلاً وامرأة فوقع عليها في الكعبة فمسخهما الله حجرين.
ثم قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة أنها قالت: سمعت عائشة تقول: ما زلنا نسمع أن إسافاً ونائلة كانا رجلاً وامرأة من جرهم، أحدثا في الكعبة، فمسخهما الله عز وجل حجرين، والله أعلم.
وقد قيل: إن الله لم يمهلهما حتى فجرا فيها، بل مسخهما قبل ذلك، فعند ذلك نصبا عند الصفا والمروة، فلما كان عمرو بن لحي نقلهما فوضعهما على زمزم وطاف الناس بهما، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم * بمفضي السيول من أساف ونائل
وقد ذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكسر نائلة يوم الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها، وتدعو بالويل والثبور.
وقد ذكر السهيلي أن أجا وسلمى وهما جبلان بأرض الحجاز، إنما سميا باسم رجل اسمه أجا بن عبد الحي، فجر بسلمى بنت حام فصلبا في هذين الجبلين، فعرفا بهما. قال: وكان بين أجا وسلمى صنم لطي، يقال له: قلس.
قال ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنماً يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفراً تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله.
قال: فلما بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، قالت قريش: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. (ج/ص: 2/ 243)
قال ابن إسحاق: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي مع ذلك تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ومسجده.
وكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، وقد خربها خالد بن الوليد زمن الفتح، كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكانت سدنتها وحجابها بني معتب من ثقيف، وخربها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة بعد مجيء أهل الطائف كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل المدينة على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد. وقد خربها أبو سفيان أيضاً. وقيل: علي بن أبي طالب كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. وكان يقال له: الكعبة اليمانية، ولبيت مكة الكعبة الشامية، وقد خربه جرير بن عبد الله البجلي كما سيأتي.
قال: وكان قلس لطي ومن يليها بجبلي طي بين أجا وسلمى، وهما جبلان مشهوران كما تقدم.
قال: وكان رآم بيتاً لحمير وأهل اليمن، كما تقدم ذكره في قصة تبع أحد ملوك حمير، وقصة الحبرين حين خرباه وقتلا منه كلباً أسود.
قال: وكانت رضاء بيتاً لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولها يقول المستوغر واسمه كعب بن ربيعة بن كعب حين هدمها:
ولقد شددت على رضاء شدة * فتركتها قفرا بقاع أسحما
وأعان عبد الله في مكروهها * وبمثل عبد الله أغشى المحرما
(ج/ص: 2/ 244)
ويقال: إن المستوغر هذا عاش ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة، وكان أطول مضر كلها عمراً، وهو الذي يقول:
ولقد سئمت من الحياة وطولها * وعمرت من عدد السنين مئينا
مائة حدتها بعدها مائتان لي * وازددت من عدد الشهور سنينا
هل ما بقي إلا كما قد فاتنا * يوم يمر وليلة تحدونا
قال ابن هشام: ويروى هذه الأبيات لزهير بن جناب بن هبل.
قال السهيلي: ومن المعمرين الذين جازوا المائتين والثلاثمائة زهير هذا، وعبيد بن شربة، ودغفل بن حنظلة النسابة، والربيع بن ضبع الفزاري، وذو الأصبع العدواني، ونصر بن دهمان بن أشجع بن ريث بن غطفان، وكان قد اسود شعره بعد ابيضاضه، وتقوم ظهره بعد اعوجاجه.
قال ابن إسحاق: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب بن وائل وإياد بسنداد، وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
بين الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذي الشرفات من سنداد
وأول هذه القصيدة
ولقد علمت وأن تطاول بي المدى * أن السبيل سبيل ذي الأعواد
ماذا أؤمل بعد آل محرق * تركوا منازلهم وبعد إياد
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم * ماء الفرات يجيء من أطواد
أرض الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذي الكعبات من سنداد
جرت الرياح على محل ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد
وأرى النعيم وكلما يلهى به * يوما يصير إلى بلى ونفاد
قال السهيلي: الخورنق قصر بناه النعمان الأكبر لسابور ليكون ولده فيه عنده، وبناه رجل يقال له: سنمار في عشرين سنة، ولم ير بناء أعجب منه، فخشي النعمان أن يبنى لغيره مثله، فألقاه من أعلاه فقتله، ففي ذلك يقول الشاعر: (ج/ص: 2/ 245)
جزاني جزاه الله شر جزائه * جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رضفه البنيان عشرين حجة * يعد عليه بالقرامد والسكب
فلما انتهى البنيان يوماً تمامه * وآض كمثل الطود والباذخ الصعب
رمى بسنمار على حق رأسه * وذاك لعمر الله من أقبح الخطب
قال السهيلي: أنشده الجاحظ في كتاب (الحيوان) والسنمار من أسماء القمر، والمقصود أن هذه البيوت كلها هدمت لما جاء الإسلام، جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بيت من هذه سرايا تخربه، وإلى تلك الأصنام من كسرها، حتى لم يبق للكعبة ما يضاهيها، وعُبد الله وحده لا شريك له، كما سيأتي بيانه وتفصيله في مواضعه، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
خبر عدنان جد عرب الحجاز
لا خلاف أن عدنان من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، واختلفوا في عدة الآباء بينه وبين إسماعيل على أقوال كثيرة، فأكثر ما قيل أربعون أباً، وهو الموجود عند أهل الكتاب، أخذوه من كتاب رخيا كاتب أرميا بن حلقيا على ما سنذكره.
وقيل: بينهما ثلاثون. وقيل: عشرون. وقيل: خمسة عشر. وقيل: عشرة. وقيل: تسعة. وقيل: سبعة. وقيل: إن أقل ما قيل في ذلك أربعة، لما رواه موسى بن يعقوب عن عبد الله بن وهب بن زمعة الزمعي، عن عمته، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((معد بن عدنان بن أدد بن زند بن اليرى بن أعراق الثرى)).
قالت أم سلمة: فزند هو الهميسع، واليرى هو نابت، وأعراق الثرى هو إسماعيل، لأنه ابن إبراهيم، وإبراهيم لم تأكله النار، كما أن النار لا تأكل الثرى.
قال الدارقطني: لا نعرف زنداً إلا في هذا الحديث، وزند بن الجون وهو أبو دلامة الشاعر
قال الحافظ أبو القاسم السهيلي وغيره من الأئمة: مدة ما بين عدنان إلى زمن إسماعيل أكثر من أن يكون بينهما أربعة أباء أو عشرة أو عشرون، وذلك أن معد بن عدنان كان عمره زمن بخت نصر ثنتي عشرة سنة.
وقد ذكر أبو جعفر الطبري وغيره أن الله تعالى أوحى في ذلك الزمان إلى أرمياء بن حلقيا، أن اذهب إلى بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على العرب، وأمر الله أرميا أن يحمل معه معد بن عدنان على البراق كي لا تصيبه النقمة فيهم، فإني مستخرج من صلبه نبياً كريماً أختم به الرسل. (ج/ص: 2/ 246)
ففعل أرميا ذلك، واحتمل معداً على البراق إلى أرض الشام، فنشأ مع بني إسرائيل ممن بقي منهم بعد خراب بيت المقدس، وتزوج هناك امرأة اسمها: معانة بنت جوشن من بني دب بن جرهم، قبل أن يرجع إلى بلاده. ثم عاد بعد أن هدأت الفتن وتمحضت جزيرة العرب.
وكان رخيا كاتب أرمياء قد كتب نسبه في كتاب عنده ليكون في خزانة أرمياء، فيحفظ نسب معد كذلك والله أعلم، ولهذا كره مالك رحمه الله رفع النسب إلى ما بعد عدنان.
قال السهيلي: وإنما تكلمنا في رفع هذه الأنساب على مذهب من يرى ذلك ولم يكرهه، كابن إسحاق، والبخاري، والزبير بن بكار، والطبري، وغيرهم من العلماء.
وأما مالك رحمه الله فقد سُئل عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك وقال له: من أين له علم ذلك؟ فقيل له: فإلى إسماعيل. فأنكر ذلك أيضاً. وقال: ومن يخبره به؟ وكره أيضاً أن يرفع في نسب الأنبياء، مثل أن يقال: إبراهيم بن فلان بن فلان، هكذا ذكره المعيطي في كتابه.
قال: وقول مالك هذا نحو مما روي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان وإسماعيل.
وعن ابن عباس أنه قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه كان إذا بلغ عدنان يقول: كذب النسابون مرتين أو ثلاثاً. والأصح عن ابن مسعود مثله.
وقال عمر بن الخطاب: إنما تنسب إلى عدنان.
وقال أبو عمر ابن عبد البر في كتابه الأنباه في معرفة قبائل الرواه): روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يقول: ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء عدنان، ولا ما وراء قحطان إلا تخرصاً.
وقال أبو الأسود: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وكان من أعلم قريش بأشعارهم وأنسابهم يقول: ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر، ولا علم عالم.
قال أبو عمر: وكان قوم من السلف منهم عبد الله بن مسعود، وعمرو بن ميمون الأزدي، ومحمد بن كعب القرظي، إذا تلوا: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] قالوا: كذب النسابون.
قال أبو عمر رحمه الله: والمعنى عندنا في هذا غير ما ذهبوا، والمراد أن من ادعى إحصاء بني آدم فإنهم لا يعلمهم إلا الله الذي خلقهم.
وأما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها وأنسابها قد وعوا، وحفظوا جماهيرها وأمهات قبائلها، واختلفوا في بعض فروع ذلك. (ج/ص: 2/ 247)
قال أبو عمر: والذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان، قالوا: عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وهكذا ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة.
قال ابن هشام: ويقال عدنان بن أد، يعني: عدنان بن أد بن أدد. ثم ساق أبو عمر بقية النسب إلى آدم. كما قدمناه في قصة الخليل عليه السلام.
وأما الأنساب إلى عدنان من سائر قبائل العرب فمحفوظة شهيرة جداً، لا يتمارى فيها اثنان، والنسب النبوي إليه أظهر وأوضح من فلق الصبح، وقد ورد حديث مرفوع بالنص عليه، كما سنورده في موضعه بعد الكلام على قبائل العرب، وذكر أنسابها، وانتظامها في سلك النسب الشريف، والأصل المنيف، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وما أحسن ما نظم النسب النبوي الإمام أبو العباس عبد الله بن محمد الناشىء في قصيدته المشهورة المنسوبة إليه وهي قوله:
مدحت رسول الله أبغي بمدحه * وفور حظوظي من كريم المآرب
مدحت امرءاً فاق المديح موحداً * بأوصافه عن مبعد ومقارب
نبيا تسامى في المشارق نوره * فلاحت هواديه لأهل المغارب
أتتنا به الأنباء قبل مجيئه * وشاعت به الأخبار في كل جانب
وأصبحت الكهان تهتف باسمه * وتنفي به رجم الظنون الكواذب
وأنطقت الأصنام نطقا تبرأت * إلى الله فيه من مقال الأكاذب
وقالت لأهل الكفر قولاً مبيناً * أتاكم نبي من لؤي بن غالب
ورام استراق السمع جن فزيلت * مقاعدهم منها رجوم الكواكب
هدانا إلى ما لم نكن نهتدي له * لطول العمى من واضحات المذاهب
وجاء بآيات تبين أنها * دلائل جبار مثيب معاقب
فمنها انشقاق البدر حين تعممت * شعوب الضيا منه رؤوس الأخاشب
ومنها نبوع الماء بين بنانه * وقد عدم الوراد قرب المشارب
فروى به جما غفيرا وأسهلت * بأعناقه طوعا اكف المذانب
وبئر طغت بالماء من مس سهمه * ومن قبل لم تسمح بمذقة شارب (ج/ص: 2/ 248)
وضرع مراه فاستدَّر ولم يكن * به درة تصغي إلى كف حالب
ونطق فصيح من ذراع مبينة * لكيد عدو للعداوة ناصب
وإخباره بالأمر من قبل كونه * وعند بواديه بما في العواقب
ومن تلكم الآيات وحي أتي به * قريب المآني مستجم العجائب
تقاصرت الأفكار عنه فلم يطع * بليغاً ولم يخطر على قلب خاطب
حوى كل علم واحتوى كل حكمة * وفات مرام المستمر الموارب
أتانا به لا عن رؤية مرتىء * ولا صُحْف مُسْتَمُل ولا وصف كاتب
يواتيه طوراً في إجابة سائل * وإفتاء مستفت ووعظ مخاطب
وإتيان برهان وفرض شرائع * وقص أحاديث ونص مآرب
وتصريف أمثال وتثبيت حجة * وتعريف ذي جحد وتوقيف كاذب
وفي مجمع النادي وفي حومة الوغى * وعند حدوث المعضلات الغرائب
فيأتي على ما شئت من طرقاته * قويم المعاني مستدر الضرائب
يصدق منه البعض بعضاً كأنما * يلاحظ معناه بعين المراقب
وعجز الورى عن أن يجيئوا بمثل ما * وصفناه معلوم بطول التجارب
تأتى بعبد الله أكرم والد * تبلج منه عن كريم المناسب
وشيبة ذي الحمد الذي فخرت به * قريش على أهل العلى والمناصب
ومن كان يستسقي الغمام بوجهه * ويصدر عن آرائه في النوائب
وهاشم الباني مشيد افتخاره * بغر المساعي وامتنان المواهب
وعبد مناف وهو علم قومه اشتطاط * الأماني واحتكام الرغائب
وإن قصياً من كريم غراسه * لفي منهل لم يدن من كف قاضب
به جمع الله القبائل بعد ما * تقسمها نهب الأكف السوالب
وحل كلاب من ذرى المجد معقلاً * تقاصر عنه كل دان وغائب
ومرة لم يحلل مريرة عزمه * سفاه سفيه أو محوبة حائب
وكعب علا عن طالب المجد كعبه * فنال بأدنى السعي أعلا المراتب
وألوى لؤي بالعداة فطوعت * له همم الشم الأنوف الأغالب
وفي غالب بأس أبي البأس دونهم * يدافع عنهم كل قرن مغالب
وكانت لفهر في قريش خطابه * يعوذ بها عند اشتجار المخاطب
وما زال منهم مالك خير مالك * وأكرم مصحوب وأكرم صاحب
(ج/ص: 2/ 249)
وللنضر طول يقصر الطرف دونه * بحيث التقى ضوء النجوم الثواقب
لعمري لقد أبدى كنانه قبله * محاسن تأبى إن تطوع لغالب
ومن قبله أبقى خزيمة حمده * تليد تراث عن حميد الأقارب
ومدركة لم يدرك الناس مثله * أعف وأعلى عن دني المكاسب
وإلياس كان إلياس منه مقارناً * لأعدائه قبل اعتداد الكتائب
وفي مضر يستجمع الفخر كله * إذا اعتركت يوماً زحوف المقانب
وحل نزار من رياسة أهله * محلاً تسامى عن عيون الرواقب
وكان معد عدة لولية * إذا خاف من كيد العدو المحارب
ومازال عدنان إذا عد فضله * توحد فيه عن قرين وصاحب
وأد تأدي الفضل منه بغاية * وأرث حواه عن قروم أشايب
وفي أدد حلم تزين بالحجا * إذا الحلم أزهاه قطوب الحواجب
ومازال يستعلي هميسع بالعلى * ويتبع آمال البعيد المراغب
ونبت بنته دوحة العز وابتنى * معاقله في مشمخر الأهاضب
وحيزت لقيذار سماحة حاتم * وحكمة لقمان وهمه حاجب
هموا نسل إسماعيل صادق وعده * فما بعده في الفخر مسعى لذاهب
وكان خليل الله أكرم من عنت * له الأرض من ماش عليها وراكب
وتارح مازالت له أريجة * تبين منه عن حميد المضارب
وناحور نحار العدى حفظت له * مآثر لما يحصها عد حاسب
وأشرع في الهيجاء ضيغم غابة * يقد الطلى بالمرهفات القواضب
وأرغو ناب في الحروب محكم * ضنين على نفس المشح المغالب
وما فالغ في فضله تلو قومه * ولا عابر من دونهم في المراتب
وشالخ وأرفخشذ وسام سمت بهم * سجايا حمتهم كل ذار و عائب
و ما زال نوح عندي ذي العرش فاضلاً * يعدده في المصطفين الأطايب
ولملك أبوه كان في الروع رائعاً * جريئاً على نفس الكمي المضارب
ومن قبل لملك لم يزل متوشلخ * يذود العدى بالذائدات الشوازب
وكانت لإدريس النبي منازل * من الله لم تقرن بهمة راغب
ويارد بحر عند آل سراته * أبى الخزايا مستدق المآرب
وكانت لمهلاييل فهم فضائل * مهذبة من فاحشات المثالب
وقينان من قبل اقتنى مجد قومه * وفاد بشأو الفضل وخد الركائب
وكان أنوش ناش للمجد نفسه * ونزهها عن مرديات المطالب
(ج/ص: 2/ 250)
ومازال شيث بالفضائل فاضلاً * شريفاً بريئاً من ذميم المعائب
وكلهم من نور آدم أقبسوا * وعن عوده أجنوا ثمار المناقب
وكان رسول الله أكرم منجب * جرى في ظهور الطيبين المناجب
مقابلة آباؤه أمهاته * مبرأة من فاضحات المثالب
عليه سلام الله في كل شارق * ألاح لنا ضوءاً وفي كل غارب
هكذا أورد القصيدة الشيخ أبو عمر ابن عبد البر، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه من شعر الأستاذ أبي العباس عبد الله بن محمد الناشي المعروف بابن شرشير، أصله من الأنبار، ورد بغداد، ثم ارتحل إلى مصر، فأقام بها حتى مات سنة ثلاث وتسعين ومائتين. وكان متكلماً معتزلياً يحكي عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه (المقالات) فيما يحكي عن المعتزلة.
وكان شاعراً مطبقاً حتى أن من جملة اقتداره على الشعر كان يعاكس الشعراء في المعاني، فينظم في مخالفتهم، ويبتكر ما لا يطيقونه من المعاني البديعة، والألفاظ البليغة، حتى نسبه بعضهم إلى التهوس والاختلاط.
وذكر الخطيب البغدادي أن له قصيدة على قافية واحدة قريباً من أربعة آلاف بيت، ذكرها الناجم وأرخ وفاته كما ذكرنا.
قلت: وهذه القصيدة تدل على فضيلته، وبراعته، وفصاحته، وبلاغته، وعلمه، وفهمه، وحفظه، وحسن لفظه، واطلاعه، واضطلاعه، واقتداره على نظم هذا النسب الشريف في سلك شعره، وغوصه على هذه المعاني، التي هي جواهر نفيسة من قاموس بحره، فرحمه الله وأثابه وأحسن مصيره وإيابه.
أصول أنساب عرب الحجاز إلى عدنان
وذلك لأن عدنان ولد له ولدان: معد، وعك.
قال السهيلي: ولعدنان أيضاً ابن اسمه الحارث، وآخر يقال له: المذهب.
قال: وقد ذكر أيضاً في بنيه الضحاك. وقيل: إن الضحاك ابن لمعد لا ابن عدنان. قال: وقيل: إن عدن الذي تعرف به مدينة عدن، وكذلك أبين، كانا ابنين لعدنان. حكاه الطبري، فتزوج عك في الأشعريين، وسكن في بلادهم من اليمن، فصارت لغتهم واحدة. (ج/ص: 2/ 251)
فزعم بعض أهل اليمن أنهم منهم، فيقولون: عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد بن يغوث. ويقال: عك بن عدنان بن الذيب بن عبد الله بن الأسد. ويقال: الريث بدل الذيب. والصحيح ما ذكرنا من أنهم من عدنان. قال عباس بن مرداس:
وعك بن عدنان الذين تلعبوا * بغسان حتى طردوا كل مطرد
وأما معد: فولد له أربعة: نزار، وقضاعة، وقنص، وإياد، وكان قضاعة بكره، وبه كان يكنى، وقد قدمنا الخلاف في قضاعة، ولكن هذا هو الصحيح عند ابن إسحاق وغيره، والله أعلم.
وأما قنص فيقال إنهم هلكوا ولم يبق لهم بقية إلا أن النعمان بن المنذر، الذي كان نائباً لكسرى على الحيرة، كان من سلالته على قول طائفة من السلف، وقيل: بل كان من حمير كما تقدم، والله أعلم.
وأما نزار فولد له ربيعة، ومضر، وأنمار، قال ابن هشام: وإياد بن نزار، كما قال الشاعر:
وفتو حسن أوجههم * من إياد بن نزار بن معد
قال ابن هشام: وإياد ومضر شقيقان، أمهما سودة بنت عك بن عدنان، وأم ربيعة وأنمار شقيقة بنت عك بن عدنان. ويقال: جمعة بنت عك بن عدنان.
قال ابن إسحاق: فأما أنمار فهو والد خثعم وبجيلة قبيلة جرير بن عبد الله البجلي. قال: وقد تيامنت فلحقت باليمن.
قال ابن هشام: وأهل اليمن يقولون أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. قلت: والحديث المتقدم في ذكر سبأ يدل على هذا. والله أعلم.
قالوا: وكان مضر أول من حدا، وذلك لأنه كان حسن الصوت، فسقط يوماً عن بعيره فوثبت يده، فجعل يقول: وايدياه وايدياه، فأعنقت الإبل لذلك. (ج/ص: 2/ 252)
قال ابن إسحاق: فولد مضر بن نزار رجلين: إلياس وعيلان. وولد لإلياس مدركة، وطابخة، وقمعة، وأمهم خندف بنت عمران بن إلحاف بن قضاعة.
قال ابن إسحاق: وكان اسم مدركة عامراً، واسم طابخة عمرا، ولكن اصطاد صيداً فبيناهما يطبخانه إذ نفرت الإبل، فذهب عامر في طلبها حتى أدركها وجلس الآخر يطبخ، فلما راحا على أبيهما ذكرا له ذلك، فقال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة.
قال: وأما قمعة فيزعم نساب مضر أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس. قلت: والأظهر أنه منهم لا والدهم، وأنهم من حمير كما تقدم، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فولد مدركة خزيمة، وهذيل، وأمهما امرأة من قضاعة، وولد خزيمة كنانة، وأسداً، وأسدة، والهون، وزاد أبو جعفر الطبري في أبناء كنانة على هؤلاء الأربعة: عامراً والحارث، والنضير، وغنما، وسعدا، وعوفا، وجرولا، والحدال، وغزوان.
قال ابن إسحاق: وولد كنانة النضر، ومالكاً، وعبد مناة، وملكان.
قريش نسباً واشتقاقاً وفضلاً وهم بنو النضر بن كنانة
قال ابن إسحاق: وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر وسائر بنيه لامرأة أخرى.
وخالفه ابن هشام فجعل برة بنت مرام النضر ومالك وملكان، وأم عبد مناة هالة بنت سويد بن الغطريف من أزد شنوءة.
قال ابن هشام: النضر هو قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي. وقال: ويقال فهر بن مالك هو قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي. (ج/ص: 2/ 253)
وهذان القولان قد حكاهما غير واحد من أئمة النسب، كالشيخ أبي عمر ابن عبد البر، والزبير بن بكار، ومصعب، وغير واحد. قال أبو عبيد، وابن عبد البر: والذي عليه الأكثرون أنه النضر بن كنانة، لحديث الأسعد بن قيس، قلت: وهو الذي نص عليه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وهو جادة مذهب الشافعي رضي الله عنه.
ثم اختار أبو عمر أنه فهر بن مالك، واحتج بأنه ليس أحد اليوم ممن ينتسب إلى قريش إلا وهو يرجع في نسبه إلى فهر بن مالك. ثم حكى اختيار هذا القول عن الزبير بن بكار، ومصعب الزبيري، وعلي بن كيسان. قال: وإليهم المرجع في هذا الشأن.
وقد قال الزبير بن بكار: وقد أجمع نساب قريش وغيرهم أن قريشاً إنما تفرقت من فهر بن مالك، والذي عليه من أدركتُ من نساب قريش أن ولد فهر بن مالك قرشي، وأن من جاوز فهر بن مالك بنسبه فليس من قريش، ثم نصر هذا القول نصراً عزيزاً، وتحامى له بأنه ونحوه أعلم بأنساب قومهم وأحفظ لمآثرهم.
وقد روى البخاري من حديث كليب بن وائل قال: قلت لربيبة النبي صلى الله عليه وسلم - يعني: زينب بنت أبي سلمى - في حديث ذكره أخبريني عن النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ قالت: فممن كان إلا من مضر. من بني النضر بن كنانة. (ج/ص: 2/ 254)
وقال الطبراني: ثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، ثنا الحسن بن صالح، عن أبيه، عن الجشيش الكندي قال: جاء قوم من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنت منا وادعوه.
فقال: ((لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا، ولا ننتفي من أبينا)).
وقال الإمام أبو عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد: ثنا أبي، ثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: جاء رجل من كندة يقال له الجشيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نزعم أن عبد مناف منا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال مثل ذلك، ثم أعرض عنه، ثم عاد فقال مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفُ أمنا ولا ننتفي من أبينا)).
فقال الأشعث: ألا كنت سكت من المرة الأولى، فأبطل ذلك قولهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا غريب أيضاً من هذا الوجه، والكلبي ضعيف، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا: ثنا حماد بن سلمة قال: ثني عقيل بن أبي طلحة، وقال عفان: عقيل بن طلحة السلمي، عن مسلم بن الهيصم، عن الأشعث بن قيس أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، قال عفان: لا يروني أفضلهم قال فقلت يا رسول الله: إنا نزعم أنكم منا.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا)).
قال: فقال الأشعث بن قيس: فوالله لا أسمع أحداً نفى قريشاً من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد. وهكذا رواه ابن ماجه من طرق عن حماد بن سلمة به. وهذا إسناد جيد قوي. وهو فيصل في هذه المسألة فلا التفات إلى قول من خالفه، والله أعلم ولله الحمد والمنة.
وقد قال جرير بن عطية التميمي يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان:
فما الأم التي ولدت قريشاً * بمُقْرِفَة النجار ولا عقيم
وما قِرْمٌ بأنجبَ من أبيكم * ولا خالٌ بأكرم من تميم
قال ابن هشام: يعني أم النضر بن كنانة وهي برة بنت مر أخت تميم بن مر.
وأما اشتقاق قريش فقيل من التقرش وهو: التجمع بعد التفرق وذلك في زمن قصي بن كلاب، فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم كما سيأتي بيانه، وقد قال حذافة بن غانم العدوي: (ج/ص: 2/ 255)
أبوكم قصي كان يدعى مجمعاً * به جمع الله القبائل من فِهْر
وقال بعضهم: كان قصي يقال له قريش قيل: من التجمع.
والتقرش: التجمع، كما قال أبو خلدة اليشكري:
إخوة قرشوا الذنوب علينا * في حديث من دهرنا وقديم
وقيل: سميت قريش من التقرش، وهو: التكسب والتجارة. حكاه ابن هشام رحمه الله. وقال الجوهري: القرش الكسب والجمع، وقد قرش يقرش. قال الفراء: وبه سميت قريش وهي قبيلة وأبوهم النضر بن كنانة، فكل من كان من ولده فهو قرشي دون ولد كنانة فما فوقه.
وقيل: من التفتيش. قال هشام بن الكلبي: كان النضر بن كنانة تسمى قريشاً لأنه كان يقرش عن خلة الناس وحاجتهم فيسدها بماله. والتقريش هو: التفتيش، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيرفدونهم بما يبلغهم بلادهم فسموا بذلك من فعلهم، وقرشهم قريشاً، وقد قال الحارث بن حلزة في بيان أن التقرش التفتيش:
أيها الناطق المقرش عنا * عند عمرو فهل له إبقاء
حكى ذلك الزبير بن بكار.
وقيل: قريش تصغير قرش، وهو دابة في البحر قال بعض الشعراء:
وقريش هي التي تسكن البحر * بها سميت قريش قريشا
قال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني، حدثنا محمد بن الحسن بن الخليل النسوي أن أبا كريب حدثهم، حدثنا وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي ركانة العامري أن معاوية قال لابن عباس: فلم سميت قريش قريشاً؟ فقال: لدابة تكون في البحر تكون أعظم دوابه، فيقال لها: القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته. قال فأنشدني في ذلك شيئاً فأنشدته شعر الجمحي إذ يقول:
وقريش هي التي تسكن البحر * بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا * تتركن لذي الجناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش * يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي * يكثر القتل فيهم والخموشا
وقيل: سموا بقريش بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة، وكان دليل بني النضر وصاحب ميرتهم، فكانت العرب تقول: قد جاءت عير قريش. (ج/ص: 2/ 256)
قالوا: وابن بدر بن قريش هو الذي حفر البئر المنسوبة إليه التي كانت عندها الوقعة العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والله أعلم.
ويقال في النسبة إلى قريش قرشي وقريشي، قال الجوهري وهو القياس. قال الشاعر:
لكل قريشي عليه مهابة * سريع إلى داعي الندا والتكرم
قال فإذا أردت بقريش الحي صرفته وإن أردت القبيلة منعته، قال الشاعر في ترك الصرف: * وكفى قريش المعضلات وسادها
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي قال: حدثني شداد أبو عمار، حدثني واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى هاشماً من قريش، واصطفاني من بني هاشم)).
قال أبو عمر بن عبد البر: يقال بنو عبد المطلب فصيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنو هاشم فخذه، وبنو عبد مناف بطنه، وقريش عمارته، وبنو كنانة قبيلته، ومضر شعبه، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.
ثم قال ابن إسحاق: فولد النضر بن كنانة مالكاً ومخلداً، قال ابن هشام والصلت: وأمهم جميعاً بنت سعد بن الظرب العدواني.
قال كثير بن عبد الرحمن وهو كثير عزة أحد بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة: (ج/ص: 2/ 257)
أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي * لكل هجان من بني النضر أزهرا
رأيت ثياب العصب مختلط السدي * بنا وبهم والحضرمي المخصرا
فإن لم تكونوا من بني النضر فاتركوا * أراكا بأذناب الفواتج أخضرا
قال ابن هشام: وبنو مليح بن عمرو يعزون إلى صلت بن النضر.
قال ابن إسحاق: فولد مالك بن النضر فهر بن مالك، وأمه جندلة بنت الحارث بن مضاض الأصغر، وولد فهر غالباً ومحاربا والحارث وأسداً وأمهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة.
قال ابن هشام: وأختهم لأبيهم جندلة بنت فهر.
قال ابن إسحاق: فولد غالب بن فهر لؤي بن غالب وتيم بن غالب، وهم الذين يقال لهم بنو الأدرم، وأمهما سلمى بنت عمرو الخزاعي.
قال ابن هشام: وقيس بن غالب وأمه سلمى بنت كعب بن عمرو الخزاعي، وهي أم لؤي.
قال ابن إسحاق: فولد لؤي بن غالب أربعة نفر: كعباً وعامراً وسامة وعوفا.
قال ابن هشام ويقال: والحارث، وهم جشم بن الحارث في هزان من ربيعة، وسعد بن لؤي وهما بنانة في شيبان بن ثعلبة وبنانة حاضنة لهم، وخزيمة بن لؤي، وهم عايذة في شيبان بن ثعلبة. (ج/ص: 2/ 258)
ثم ذكر ابن إسحاق خبر سامة بن لؤي وأنه خرج إلى عُمان، فكان بها. وذلك لشنآن كان بينه وبين أخيه عامر فأخافه عامر فخرج عنه هارباً إلى عمان، وأنه مات بها غريباً وذلك أنه كان يرعى ناقته فعلقت حية بمشفرها فوقعت لشقها، ثم نهشت الحية سامة حتى قتلته، فيقال: إنه كتب بأصبعه على الأرض:
عين فابكي لسامة بن لؤي * علقت ما بسامة العلاَّقه
لا أرى مثل سامة بن لؤي * يوم حلوا به قتيلا لناقه
بلّغا عامرا وكعبا رسولا * أن نفسي إليهما مشتاقه
إن تكن في عمان داري فإني * غالبيّ خرجت من غير فاقه
رب كأس هرقت يا ابن لؤي * حذر الموت لم تكن مهراقه
رمتَ دفع الحتوف يا بن لؤي * ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة
وخروس السرى تركت رزيا * بعد جِد وحِدَّة ورشاقه
قال ابن هشام: وبلغني أن بعض ولده أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتسب إلى سامة بن لؤي.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آلشاعر؟)).
فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله؟
رب كأس هرقت يا ابن لؤي * حذر الموت لم تكن مهراقه
فقال: ((أجل)).
وذكر السهيلي عن بعضهم أنه لم يعقب. وقال الزبير: ولد أسامة بن لؤي غالباً والنبيت والحارث قالوا: وكانت له ذرية بالعراق يبغضون علياً ومنهم: علي بن الجعد كان يشتم أباه لكونه سماه علياً، ومن بني سامة بن لؤي محمد بن عرعرة بن اليزيد شيخ البخاري. (ج/ص: 2/ 259)
وقال ابن إسحاق: وأما عوف بن لؤي فإنه خرج - فيما يزعمون - في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، أبطئ به، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد، وهو أخوه في نسب بني ذبيان، فحبسه وزوجه والتاطه وآخاه. فشاع نسبه في ذبيان. وثعلبة - فيما يزعمون -
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين أن عمر بن الخطاب قال: لو كنت مدعياً حياً من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف، إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع، يعني عوف بن لؤي.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب قال لرجال منهم من بني مرة: إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه.
قال ابن إسحاق: وكان القوم أشرافاً في غطفان هم سادتهم وقادتهم، قوم لهم صيت في غطفان وقيس كلها، فأقاموا على نسبهم قالوا: وكانوا يقولون إذا ذكر لهم نسبهم: ما ننكره وما نجحده وإنه لأحب النسب إلينا، ثم ذكر أشعارهم في انتمائهم إلى لؤي.
قال ابن إسحاق: وفيهم كان البسل، وهو تحريم ثمانية أشهر لهم من كل سنة من بين العرب، وكانت العرب تعرف لهم ذلك ويأمنونهم فيها ويؤمنونهم أيضاً، قلت: وكانت ربيعة ومضر إنما يحرمون أربعة أشهر من السنة وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، واختلفت ربيعة ومضر في الرابع وهو رجب.
فقالت مضر: هو الذي بين جمادى وشعبان. وقالت ربيعة: هو الذي بين شعبان وشوال. (ج/ص: 2/ 260)
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع:
((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)). فنص على ترجيح قول مضر لا ربيعة.
وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] فهذا رد على بني عوف بن لؤي في جعلهم الأشهر الحرم ثمانية، فزادوا على حكم الله وأدخلوا فيه ما ليس منه. وقوله في الحديث: ثلاث متواليات رد على أهل النسيء الذين كانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر. وقوله فيه: ورجب مضر رد على ربيعة.
قال ابن إسحاق: فولد كعب بن لؤي ثلاثة: مرة، وعديا، وهصيصا. وولد مرة ثلاثة أيضاً: كلاب بن مرة، وتيم بن مرة، ويقظة بن مرة، من أمهات ثلاث. قال: وولد كلاب رجلين: قصي بن كلاب، وزهرة بن كلاب، وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد بني الجُدّرَة من جعثمة الأسد من اليمن، حلفاء بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وفي أبيها يقول الشاعر:
ما نرى في الناس شخصاً واحداً * من علمناه كسعد بن سيل
فارساً أضبط فيه عسرة * وإذا ما واقف القِرن نزل
فارساً يستدرج الخيل كما استدرج * الحر القطامي الحجل
قال السهيلي: سيل اسمه خير بن جمالة، وهو أول من طليت له السيوف بالذهب والفضة.
قال ابن إسحاق: وإنما سمو الجدرة، لأن عامر بن عمرو بن خزيمة بن جعثمة تزوج بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، وكانت جرهم إذ ذاك ولاة البيت، فبنى للكعبة جداراً فسمى عامر بذلك الجادر، فقيل لولده الجدرة لذلك. (ج/ص: 2/ 261)
خبر قصي بن كلاب وارتجاعه ولاية البيت إلى قريش وانتزاعه ذلك من خزاعة
وذلك أنه لما مات أبوه كلاب تزوج أمه ربيعة بن حرام من عذرة، وخرج بها وبه إلى بلاده، ثم قدم قصي مكة وهو شاب فتزوج حبى ابنة رئيس خزاعة خليل بن حبشية. فأما خزاعة فزعم أن حليلاً أوصى إلى قصي بولاية البيت لما رأى من كثرة نسله من ابنته، وقال أنت أحق بذلك مني.
قال ابن إسحاق: ولم نسمع ذلك إلا منهم، وأما غيرهم فإنهم يزعمون أنه استغاث بإخوته من أمه، وكان رئيسهم رزاح بن ربيعة، وأخوته، وبني كنانة وقضاعة، ومن حول مكة من قريش وغيرهم، فأجلاهم عن البيت، واستقل هو بولاية البيت لأن إجازة الحجيج كانت إلى صوفة وهم: بنو الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر.
فكان الناس لا يرمون الجمار حتى يرموا، ولا ينفرون من منى حتى ينفروا، فلم يزل كذلك فيهم حتى انقرضوا، فورثهم ذلك بالقُعْدَد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم، فكان أولهم صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وكان ذلك في بيته حتى قام على آخرهم الإسلام وهو كرب بن صفوان.
وكانت الإجازة من المزدلفة في عدوان حتى قام الإسلام على آخرهم وهو: أبو سيارة عميلة بن الأعزل، وقيل: اسمه العاص، واسم الأعزل خالد، وكان يجيز بالناس على أتان له عوراء، مكث يدفع عليها في الموقف أربعين سنة. وهو أول من جعل الدية مائة، وأول من كان يقول أشرق ثبير كيما نغير.
حكاه السهيلي. (ج/ص: 2/ 262)
وكان عامر بن الظرب العدواني لا يكون بين العرب نائرة إلا تحاكموا إليه، فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه مرة في ميراث خنثى، فبات ليلته ساهراً يتروى ماذا يحكم به، فرأته جارية له كانت ترعى عليه غنمه اسمها سخيلة، فقالت له: ما لك لا أبالك؟ الليلة ساهراً؟ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت: ابتع القضاء المبال، فقال: فرجتها والله يا سخيلة وحكم بذلك.
قال السهيلي: وهذا الحكم من باب الاستدلال بالإمارات والعلامات، وله أصل في الشرع، قال الله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] حيث لا أثر لأنياب الذئب فيه.
وقال تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26-27].
وفي الحديث: ((انظروها فإن جاءت به أورق جعداً جمالياً فهو الذي رميت به)).
قال ابن إسحاق: وكان النسيء في بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.
قال ابن إسحاق: وكان أول من نسأ الشهور على العرب، القَلمَّسْ وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي، ثم قام بعده ابنه عباد، ثم قلع بن عباد، ثم أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم كان آخرهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن قلع بن عباد بن حذيفة وهو القلمس، فعلى أبي ثمامة قام الإسلام.
وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فخطبهم فحرم الأشهر الحرم، فإذا أراد أن يحل منها شيئاً أحل المحرم، وجعل مكانه صفرا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيقول: اللهم إني أحللت أحد الصفرين الصفر الأول، وانسأت الآخر للعام المقبل. فتتبعه العرب في ذلك.
ففي ذلك يقول عمير بن قيس أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، ويعرف عمير بن قيس هذا بجدل الطعان:
لقد علمت معد أن قومي * كرام الناس أن لهم كراما
فأي الناس فاتونا بوتر * وأي الناس لم نعلك لجاما
ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما
وكان قصي في قومه سيداً رئيساً مطاعاً معظماً، والمقصود أنه جمع قريشاً من متفرقات مواضعهم من جزيرة العرب، واستعان بمن أطاعه من أحياء العرب على حرب خزاعة وإجلائهم عن البيت، وتسليمه إلى قصي، فكان بينهم قتال كثيرة ودماء غزيرة.
ثم تداعوا إلى التحكيم، فتحاكموا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فحكم بأن قصياً أولى بالبيت من خزاعة، وإن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع بشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابته خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين قصي وبين مكة والكعبة، فسمي يعمر يومئذ الشداخ. (ج/ص: 2/ 263)
قال ابن إسحاق: فولي قصي البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، إلا أنه أقر العرب على ما كانوا عليه، لأنه يرى ذلك ديناً في نفسه لا ينبغي تغييره، فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله.
قال ابن إسحاق: فكان قصي أول بني كعب أصاب ملكاً أطاع له به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة رباعاً بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة.
قلت: فرجع الحق إلى نصابه، ورد شارد العدل بعد إيابه، واستقرت بقريش الدار، وقضت من خزاعة المراد والأوطار، وتسلمت بيتهم العتيق القديم لكن بما أحدثت خزاعة من عبادة الأوثان، ونصبها إياها حول الكعبة، ونحرهم لها وتضرعهم عندها، واستنصارهم بها، وطلبهم الرزق منها، وأنزل قصي قبائل قريش أباطح مكة، وأنزل طائفة منهم ظواهرها، فكان يقال قريش البطاح، وقريش الظواهر.
فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة من حجابة البيت وسدانته واللواء، وبنى داراً لإزاحة الظلمات وفصل الخصومات سماها دار الندوة، إذا أعضلت قضية اجتمع الرؤساء من كل قبيلة فاشتوروا فيها وفصلوها، ولا يعقد عقد لواء ولا عقد نكاح إلا بها، ولا تبلغ جارية أن تدرع فتدرع إلا بها، وكان باب هذه الدار إلى المسجد الحرام. (ج/ص: 2/264)
ثم صارت هذه الدار فيما بعد إلى حكيم بن حزام بعد بني عبد الدار، فباعها في زمن معاوية بمائة ألف درهم، فلامه على بيعها معاوية وقال: بعت شرف قومك بمائة ألف؟ فقال: إنما الشرف اليوم بالتقوى، والله لقد ابتعتها في الجاهلية بزق خمر، وها أنا قد بعتها بمائة ألف، وأشهدكم أن ثمنها صدقة في سبيل الله فأينا المغبون.
ذكره الدارقطني في أسماء رجال الموطأ، وكانت إليه سقاية الحجيج فلا يشربون إلا من ماء حياضه، وكانت زمزم إذ ذاك مطموسة من زمن جرهم، قد تناسوا أمرها من تقادم عهدها ولا يهتدون إلى موضعها.
قال الواقدي: وكان قصي أول من أحدث وقيد النار بالمزدلفة ليهتدي إليها من يأتي من عرفات. والرفادة وهي: إطعام الحجيج أيام الموسم إلى أن يخرجوا راجعين إلى بلادهم.
قال ابن إسحاق: وذلك أن قصياً فرضه عليهم فقال لهم: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وأن الحجاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك في كل عام من أموالهم خرجاً فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام منى.
فجرى ذلك من أمره في الجاهلية حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا. فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج.
قلت: ثم انقطع هذا بعد ابن إسحاق، ثم أمر بإخراج طائفة من بيت المال فيصرف في حمل زاد وماء لأبناء السبيل القاصدين إلى الحج، وهذا صنيع حسن من وجوه يطول ذكرها، ولكن الواجب أن يكون ذلك من خالص بيت المال، من أحل ما فيه، والأولى أن يكون من جوالي الذمة لأنهم لا يحجون البيت العتيق، وقد جاء في الحديث:
((من استطاع الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا)).
وقال قائلهم في مدح قصي وشرفه في قومه:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
همو ملؤوا البطحاء مجداً وسؤدداً * وهم طردوا عنا غواة بني بكر
قال ابن إسحاق: ولما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح بن ربيعة إلى بلاده بمن معه وإخوته من أبيه الثلاثة: وهم حن ومحمود وجلهمة. (ج/ص: 2/ 265)
قال رزاح في إجابته قصياً:
ولما أتى من قصي رسول * فقال الرسول أجيبوا الخليلا
نهضنا إليه نقود الجياد * ونطرح عنا الملول الثقيلا
نسير بها الليل حتى الصباح * ونكمي النهار لئلا نزولا
فهن سراع كورد القصا * يجبن بنا من قصي رسولا
جمعنا من السر من اشمذين * ومن كل حي جمعنا قبيلا
فيالك حلبة ما ليلة * تزيد على الألف سيبا رسيلا
فلما مررن على عسجر * وأسهلن من مستناخ سبيلا
وجاوزن بالركن من ورقان * وجاوزن بالعرج حياً حلولا
مررن على الحلي ما ذقنه * وعالجن من مر ليلاً طويلا
ندني من العوذ أفلاءها * إرادة أن يسترقن الصهيلا
فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيلا قبيلا
نعاورهم ثم حد السيوف * وفي كل أوب خلسنا العقولا
نخبّزهم بصلاب النسور * خبز القوي العزيز الذليلا
قتلنا خزاعة في دارها * وبَكرا قتلنا وجيلا فجيلا
نفيناهم من بلاد المليك * كما لا يحلون أرضا سهولا
فأصبح سيبهم في الحديد * ومن كل حي شفينا الغليلا
قال ابن إسحاق: فلما رجع رزاح إلى بلاده نشره الله ونشر حنا، فهما قبيلا عذرة إلى اليوم. (ج/ص: 2/ 266)
قال ابن إسحاق: وقال قصي بن كلاب في ذلك:
أنا ابن العاصمين بني لؤي * بمكة منزلي وبها ربيت
إلى البطحاء قد علمت معد * ومروتها رضيت بها رضيت
فلست لغالب أن لم تأثل * بها أولاد قيذر والنبيت
رزاح ناصري وبه أسامي * فلست أخاف ضيما ما حييت
وقد ذكر الأموي عن الأشرم عن أبي عبيدة، عن محمد بن حفص: أن رزاحاً إنما قدم بعدما نفى قصي خزاعة، والله أعلم.
فصل: تفويض قصي أمر الوظائف لابنه عبد الدار.
ثم لما كبر قصي فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه عبد الدار، وكان أكبر ولده، وإنما خصصه بها كلها لأن بقية أخوته عبد مناف، وعبد الشمس، وعبداً كانوا قد شرفوا في زمن أبيهم، وبلغوا في قوتهم شرفاً كبيراً، فأحب قصي أن يلحق بهم عبد الدار في السؤدد فخصصه بذلك، فكان أخوته لا ينازعونه في ذلك.
فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا: إنما خصص قصي عبد الدار بذلك ليلحقه بإخوته، فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه. وقال بنو عبد الدار: هذا أمر جعله لنا قصي فنحن أحق به، واختلفوا اختلافاً كثيراً.
وانقسمت بطون قريش فرقتين: ففرقة بايعت عبد الدار وحالفتهم، وفرقة بايعت بني عبد مناف وحالفوهم على ذلك، ووضعوا أيديهم عند الحلف في جفنة فيها طيب، ثم لما قاموا مسحوا أيديهم بأركان الكعبة فسموا حلف المطيبين.
وكان منهم من قبائل قريش: بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، وكان مع بني عبد الدار بنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي. واعتزلت بنو عامر بن لؤي ومحارب بن فهر الجميع، فلم يكونوا مع واحد منهما. ثم اصطلحوا واتفقوا على أن تكون الرفادة والسقاية لبني عبد مناف، وأن تستقر الحجابة واللواء والندوة في بني عبد الدار، فانبرم الأمر على ذلك واستمر.
وحكى الأموي، عن الأشرم، عن أبي عبيدة قال: وزعم قوم من خزاعة أن قصياً لما تزوج حبى بنت حليل، ونقل حليل عن ولاية البيت جعلها إلى ابنته حبى، واستناب عنها أبا غبشان سليم بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي بن حارثة بن عمرو بن عامر، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وقعود، فكان يقال أخسر من صفقة أبي غبشان. (ج/ص: 2/ 267)
ولما رأت خزاعة ذلك اشتدوا على قصي فاستنصر أخاه، فقدم بمن معه وكان ما كان، ثم فوض قصي هذه الجهات التي كانت إليه من السدانة، والحجابة، واللواء، والندوة، والرفادة، والسقاية إلى ابنه عبد الدار كما سيأتي تفصيله وإيضاحه، وأقر الإجازة من مزدلفة في بني عدوان، وأقر النسيء في فقيم، وأقر الإجازة وهو النفر في صوفة، كما تقدم بيان ذلك كله مما كان بأيديهم قبل ذلك.
قال ابن إسحاق: فولد قصي أربعة نفر وامرأتين: عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبداً، وتخمر، وبرة، وأمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي وهو آخر من ولي البيت من خزاعة، ومن يده أخذ البيت قصي بن كلاب.
قال ابن هشام: فولد عبد مناف بن قصي أربعة نفر: هاشماً، وعبد شمس، والمطلب، وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال. ونوفل بن عبد مناف وأمه واقدة بنت عمرو المازنية.
قال ابن هشام: وولد لعبد مناف أيضاً أبو عمرو، وتماضر، وقلابة، وحية، وريطة، وأم الأخثم، وأم سفيان.
قال ابن هشام: وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر، وخمس نسوة: عبد المطلب، وأسداً، وأبا صيفي، ونضلة، والشفا، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وحية، فأم عبد المطلب ورقية: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار من المدينة، وذكر أمهات الباقين.
قال: وولد عبد المطلب عشرة نفر، وست نسوة وهم: العباس، وحمزة، وعبد الله، وأبو طالب - واسمه عبد مناف - لا عمران، والزبير، والحارث، وكان بكر أبيه وبه كان يكنى، وجحل، ومنهم من يقول حجل، وكان يلقب بالغيداق لكثرة خيره، والمقوم، وضرار، وأبو لهب - واسمه عبد العزى - وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة.
وذكر أمهاتهم إلى أن قال: وأم عبد الله، وأبي طالب، والزبير، وجميع النساء إلا صفية فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
قال ابن هشام: فولد عبد الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. (ج/ص: 2/ 268)
ثم ذكر أمهاتها فأغرق إلى أن قال: فهو أشرف ولد آدم حسباً وأفضلهم نسباً من قبل أبيه وأمه، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.
وقد تقدم حديث الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى هاشماً من قريش، واصطفاني من بني هاشم)).
رواه مسلم وسيأتي بيان مولده الكريم، وما ورد فيه من الأخبار والآثار وسنورد عند سرد النسب الشريف فوائد أخر ليست هاهنا إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.
ذكر جمل من الأحداث في الجاهلية
قد تقدم ما كان من أخذ جرهم ولاية البيت من بني إسماعيل، طمعوا فيهم لأنهم أبناء بناتهم، وما كان من توثب خزاعة على جرهم وانتزاعهم ولاية البيت منهم، ثم ما كان من رجوع ذلك إلى قصي وبنيه، واستمرار ذلك في أيديهم إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأقر تلك الوظائف على ما كانت عليه.
ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية
خبر خالد بن سنان العبسي الذي كان في زمن الفترة وقد زعم بعضهم أنه كان نبياً، والله أعلم.
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور الرازي، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا قيس بن الربيع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها ثوبه وقال:
((بنت نبي ضيعه قومه)).
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، عن يحيى بن المعلى بن منصور، عن محمد بن الصلت، عن قيس، عن سالم، عن سعيد، عن ابن عباس قال: ذكر خالد بن سنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
((ذاك نبي ضيعه قومه)).
ثم قال: ولا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وكان قيس بن الربيع ثقة في نفسه، إلا أنه كان رديء الحفظ، وكان له ابن يدخل في أحاديثه ما ليس منها، والله أعلم.
قال البزار: وقد رواه الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير مرسلا ً. (ج/ص: 2/ 269)
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا المعلى بن مهدي الموصلي قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي يونس، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلاً من عبس يقال له خالد بن سنان قال لقومه: إني أطفئ عنكم نار الحرتين، فقال له رجل من قومه: والله يا خالد ما قلت لنا قط إلا حقاً، فما شأنك وشأن نار الحرتين تزعم أنك تطفئها؟
فخرج خالد ومعه أناس من قومه فيهم عمارة بن زياد فأتوها، فإذا هي تخرج من شق جبل، فخط لهم خالد خطة فأجلسهم فيها فقال: إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضاً، فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه وهو يقول: بدا بدا بدا كل هدى زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثيابي بيدي، حتى دخل معها الشق فأبطأ عليهم فقال لهم عمارة بن زياد: والله إن صاحبكم لو كان حياً لقد خرج إليكم بعد قالوا فادعوه باسمه.
قال فقالوا: إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه، فدعوه باسمه فخرج وهو آخذ برأسه فقال: ألم أنهكم أن تدعوني باسمي، فقد والله قتلتموني فادفنوني، فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فانبشوني فإنكم تجدوني حياً، فدفنوه فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر فقلنا انبشوه فإنه أمرنا أن ننبشه.
فقال لهم عمارة: لا تنبشوه، لا والله لا تحدث مضر أنا ننبش موتانا، وقد كان قال لهم خالد: إن في عكن امرأته لوحين فإن أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما فإنكم ستجدون ما تسألون عنه، قال: ولا يمسهما حائض، فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما إليهم وهي حائض، فذهب ما كان فيهما من علم.
قال أبو يونس: قال سماك بن حرب: سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
((ذاك نبي أضاعه قومه)).
قال أبو يونس: قال سماك بن حرب: إن ابن خالد بن سنان أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مرحباً بابن أخي)).
فهذا السياق موقوف على ابن عباس، وليس فيه أنه كان نبياً، والمرسلات التي فيها أنه نبي لا يحتج بها هاهنا، والأشبه أنه كان رجلاً صالحاً له أحوال وكرامات، فإنه إن كان في زمن الفترة.
فقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((إن أولى الناس بعيسى بن مريم أنا لأنه ليس بيني وبينه نبي))، وإن كان قبلها فلا يمكن أن يكون نبياً لأن الله تعالى قال: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة: 3].
وقد قال غير واحد من العلماء: إن الله تعالى لم يبعث بعد إسماعيل نبياً في العرب إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء الذي دعا به إبراهيم الخليل باني الكعبة المكرمة التي جعلها الله قبلة لأهل الأرض شرعاً، وبشرت به الأنبياء لقومهم حتى كان آخر من بشر به عيسى بن مريم عليه السلام.
وبهذا المسلك بعينه يرد ما ذكره السهيلي وغيره، من إرسال نبي من العرب يقال له شعيب بن ذي مهذم بن شعيب بن صفوان صاحب مدين، وبعث إلى العرب أيضاً حنظلة بن صفوان فكذبوهما، فسلط الله على العرب بخت نصر فنال منهم من القتل والسبي نحو ما نال من بني إسرائيل، وذلك في زمن معد بن عدنان. (ج/ص: 2/ 270)
والظاهر أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين يدعون إلى الخير، والله أعلم. وقد تقدم ذكر عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف في أخبار خزاعة بعد جرهم.
حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية
وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم بن أبي أحزم واسمه هرومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء أبو سفَّانة الطائي والد عدي بن حاتم الصحابي، كان جواداً ممدحاً في الجاهلية، وكذلك كان ابنه في الإسلام، وكانت لحاتم مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه يطول ذكرها، ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، وإنما كان قصده السمعة والذكر.
قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا عبيد بن واقد القيسي، حدثنا أبو نصر هو الناجي عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: ذكر حاتم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
((ذاك أراد أمراً فأدركه)).
حديث غريب.
قال الدارقطني: تفرد به عبيد بن واقد عن أبي نصر الناجي، ويقال: إن اسمه حماد.
قال ابن عساكر: وقد فرق أبو أحمد الحاكم بين أبي نصر الناجي، وبين أبي نصر حماد ولم يسم الناجي، ووقع في بعض روايات الحافظ ابن عساكر عن أبي نصر شيبة الناجي، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن سماك بن حرب، عن مري بن قطري، عن عدي بن حاتم قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل ويفعل فهل له في ذلك؟ يعني من أجر.
قال: ((إن أباك طلب شيئاً فأصابه)).
وهكذا رواه أبو يعلى عن القواريري عن غندر، عن شعبة، عن سماك به.
وقال: ((إن أباك أراد أمراً فأدركه)).
يعني الذكر.
وهكذا رواه أبو القاسم البغوي، عن علي بن الجعد، عن شعبة به سواء.
وقد ثبت في الصحيح في الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم منهم: الرجل الذي ينفق ليقال إنه كريم فيكون جزاؤه أن يقال ذلك في الدنيا، وكذا في العالم والمجاهد.
وفي الحديث الآخر في الصحيح أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة فقالوا له: كان يقري الضيف، ويعتق ويتصدق فهل ينفعه ذلك؟ فقال:
((إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)).
هذا وقد كان من الأجواد المشهورين أيضاً، المطعمين في السنين الممحلة والأوقات المرملة. (ج/ص:/271)
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر محمد بن عبد الله بن يوسف العماني، حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، حدثنا ضرار بن صرد، حدثنا عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي قال:
قال علي بن أبي طالب: يا سبحان الله! ما أزهد كثيراً من الناس في خير عجباً لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح.
فقام إليه رجل وقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وما هو خير منه: لما أتى بسبايا طيء وقعت جارية حمراء لعساء زلفا عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خدلجة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.
قال: فلما رأيتها أعجبت بها وقلت: لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعلها في فيئي، فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها، فقالت: يا محمد: إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم طيء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
((يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مؤمناً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله تعالى يحب مكارم الأخلاق.
فقام أبو بردة بن ينار فقال يا رسول الله: والله يحب مكارم الأخلاق؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق)).
وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثني عمر بن بكر، عن أبي عبد الرحمن الطائي - هو القاسم بن عدي - عن عثمان، عن عركي بن حليس الطائي، عن أبيه، عن جده، وكان أخا عدي بن حاتم لأمه قال: قيل لنوار امرأة حاتم حدثينا عن حاتم قالت:
كل أمره كان عجباً، أصابتنا سنة حصت كل شيء فاقشعرت لها الأرض واغبرت لها السماء، وضنت المراضع على أولادها، وراحت الإبل حدباً حدابير ما تبض بقطرة، وحلقت المال، وأنا لفي ليلة صنّبر بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغى الأصبية من الجوع: عبد الله، وعدي، وسفانة، فوالله إن وجدنا شيئاً نعللهم به، فقام إلى أحد الصبيان فحمله وقمت إلى الصبية فعللتها، فوالله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل. (ج/ص: 2/ 272)
ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد، ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل، فأضجعنا الصبيان عليها، ونمت أنا وهو في حجرة والصبيان بيننا، ثم أقبل علي يعللني لأنام وعرفت ما يريد فتناومت، فقال: مالك أنمت؟ فسكت. فقال: ما أراها إلا قد نامت، وما بي نوم.
فلما ادلهم الليل، وتهورت النجوم، وهدأت الأصوات، وسكنت الرجل، إذ جانب البيت قد رفع فقال من هذا؟ فولى حتى قلت إذاً قد أسحرنا أو كدنا. عاد فقال من هذا؟ قالت: جارتك فلانة يا أبا عدي، ما وجدت على أحد معولاً غيرك، أتيتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع.
قال: أعجليهم عليّ. قالت النوار: فوثبت فقلت ماذا صنعت أضطجع والله لقد تضاغى أصبيتك فما وجدت ما تعللهم فكيف بهذه وبولدها؟ فقال: اسكتي فوالله لأشبعنك إن شاء الله.
قالت: فأقبلت تحمل اثنين، وتمشي جنبتيها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ بحربته في لبته، ثم قدح زنده وأورى ناره، ثم جاء بمدية فكشط عن جلده، ثم دفع المدية إلى المرأة، ثم قال: دونك.
ثم قال: ابعثي صبيانك فبعثتهم، ثم قال: سوءة أتأكلون شيئاً دون أهل الصرم، فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه، والتفع في ثوبه ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا، والله ما ذاق مزعة وإنه لأحوجهم إليه، فأصبحنا وما على الأرض منه إلا عظم وحافر.
وقال الدارقطني: حدثني القاضي أبو عبد الله المحاملي، حدثنا عبد الله بن أبي سعد، وحدثنا عثيم بن ثوابة بن حاتم الطائي، عن أبيه، عن جده قال: قالت امرأة حاتم لحاتم: يا أبا سفانة أشتهي أن آكل أنا وأنت طعاماً وحدنا ليس عليه أحد، فأمرها فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ، وأمر بالطعام فهيأ وهي مرخاة ستورها عليه وعليها، فلما قارب نضج الطعام كشف عن رأسه ثم قال:
فلا تطبخي قدري وسترك دونها * علي إذن ما تطبخين حرام
ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي * بجزل إذا أوقدت لا بضرام
قال: ثم كشف الستور، وقدم الطعام، ودعى الناس فأكل وأكلوا، فقالت: ما أتممت لي ما قلت فأجابها لا تطاوعني نفسي، ونفسي أكرم علي من أن يثنى علي هذا، وقد سبق لي السخاء ثم أنشأ يقول:
أمارس نفسي البخل حتى أعزها * وأترك نفس الجود ما أستثيرها
ولا تشتكيني جارتي غير أنها * إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع بعلها * إليها ولم تقصر عليها ستورها
ومن شعر حاتم: (ج/ص: 2/ 273)
إذا ما بت أشرب فوق ري * لسكر في الشراب فلا رويت
إذا ما بت أختل عرس جاري * ليخفيني الظلام فلا خفيت
أأفضح جارتي وأخون جاري * فلا والله أفعل ما حييت
ومن شعره أيضاً:
ما ضر جاراً لي أجاوره * أن لا يكون لبابه ستر
أغضي إذا ما جارتي برزت * حتى يواري جارتي الخدر
ومن شعر حاتم أيضاً:
وما من شيمتي شتم ابن عمي * وما أنا مخلف من يرتجيني
وكلمة حاسد من غير جرم * سمعت وقلت مري فأنقذيني
وعابوها علي فلم تَعِبْني * ولم يعرَق لها يوما جبيني
وذي وجهين يلقاني طليقاً * وليس إذا تغيب يأتسيني
ظفرت بعيبه فكففت عنه * محافظة على حسبي وديني
ومن شعره:
سلي البائس المقرور يا أم مالك * إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
أأبسط وجهي إنه أول القِرى * وأبذل معروفي له دون مُنْكَري
وقال أيضاً:
وإنك إن أعطيت بطنك سؤله * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أبو العباس المبرد، أخبرني الثوري، عن أبي عبيدة قال: لما بلغ حاتم طيء قول المتلمس:
قليل المال تصلحه فيبقى * ولا يبقى الكثير على الفساد
وحفظ المال خير من فناه * وعسف في البلاد بغير زاد
قال: ماله قطع الله لسانه حمل الناس على البخل فهلا قال:
فلا الجود يفني المال قبل فنائه * ولا البخل في مال الشحيح يزيد
فلا تلتمس مالاً بعيش مقتر * لكل غد رزق يعود جديد
ألم ترَ أن المال غاد ورائح * وأن الذي يعطيك غير بعيد
قال القاضي أبو الفرج ولقد أحسن في قوله: وإن الذي يعطيك غير بعيد، ولو كان مسلماً لرجي له الخير في معاده، وقد قال الله في كتابه: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]. (ج/ص: 2/ 274)
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وعن الوضاح بن معبد الطائي قال: وفد حاتم الطائي على النعمان بن المنذر فأكرمه وأدناه، ثم زوده عند انصرافه جملين ذهباً، وورقاً غير ما أعطاه من طرائف بلده فرحل، فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طيء، فقالت: يا حاتم أتيت من عند الملك وأتينا من عند أهالينا بالفقر! فقال حاتم: هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه، فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه.
فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته فقالت له: اتق الله وأبق ِعلى نفسك، فما يدع هؤلاء ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً. فأنشأ يقول:
قالت طريفة ما تبقي دراهمنا * وما بنا سرف فيها ولا خرق
إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا * ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق
ما يألف الدرهم الكاري خِرقَتَنا * إلا يمر عليها ثم ينطلق
إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا * ظلت إلى سبل المعروف تستبق
وقال أبو بكر ابن عياش: قيل لحاتم هل في العرب أجود منك؟ فقال: كل العرب أجود مني. ثم أنشأ يحدث قال: نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة، وكانت له مائة من الغنم، فذبح لي شاة منها وأتاني بها، فلما قرّب إليّ دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ!
قال: فذهب فلم يزل يأتيني منه حتى قلت: قد اكتفيت، فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة شاة وبقي لا شيء له؟ فقيل: فما صنعت به؟ فقال: ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء. قال: على كل حال فقال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي.
وقال محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب (مكارم الأخلاق): حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني حماد الراوية، ومشيخة من مشيخة طيء قالوا: كانت عنترة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس أم حاتم طيء لا تمسك شيئاً سخاءً وجوداً. (ج/ص: 2/275)
وكان إخوتها يمنعونها فتأبى، وكانت امرأة موسرة فحبسوها في بيت سنة، يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع، ثم أخرجوها بعد سنة وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق، فدفعوا إليها صرمة من مالها وقالوا: استمتعي بها، فأتتها امرأة من هوازن وكانت تغشاها فسألتها فقالت: دونك هذه الصرمة، فقد والله مسني من الجوع ما آليت أن لا أمنع سائلاً ثم أنشأت تقول:
لعمري لقِدماً عضني الجوع عضة * فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا
فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني * وان أنت لم تفعل فعض الأصابعا
فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم * سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا
وماذا ترون اليوم إلا طبيعة * فكيف بتركي يا ابن أمي الطبائعا
وقال الهيثم بن عدي، عن ملحان بن عركي بن عدي بن حاتم، عن أبيه، عن جده قال: شهدت حاتماً يكيد بنفسه فقال لي: أي بني إني أعهد من نفسي ثلاث خصال، والله ما خاتلت جارة لريبة قط، ولا أوتمنت على أمانة إلا أديتها، ولا أوتي أحد من قبلي بسوء.
وقال أبو بكر الخرائطي: حدثنا علي بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العدوي، حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي مسكين - يعني جعفر بن المحرر بن الوليد - عن المحرر مولى أبي هريرة قال: مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيء فنزلوا قريباً منه، فقام إليه بعضهم يقال له: أبو الخيبري فجعل يركض قبره برجله. ويقول: يا أبا جعد اقرنا. فقال له بعض أصحابه: ما تخاطب من رمة وقد بليت؟ وأجنهم الليل فناموا، فقام صاحب القول فزعاً يقول: يا قوم عليكم بمطيكم فإن حاتماً أتاني في النوم وأنشدني شعراً وقد حفظته يقول:
أبا الخيبري وأنت امرؤ * ظلوم العشيرة شتّامها
أتيت بصحبك تبغي الِقرى * لدى حفرة قد صَدَت هَامَها
أتبغي لي الذنب عند المبيت * وحولك طيء وأنعامها
وإنا لنشبع أضيافنا * وتأتي المطي فنعتامها
قال: وإذا ناقة صاحب القول تكوس عقيراً فنحروها، وقاموا يشتوون ويأكلون. (ج/ص: 2/ 276)
وقالوا: والله لقد أضافنا حاتم حياً وميتاً. قال: وأصبح القوم وأردفوا صاحبهم وساروا، فإذا رجل ينوه بهم راكباً جملاً ويقود آخر. فقال: أيكم أبو الخيبري؟ قال: أنا. قال: إن حاتماً أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك، وأمرني أن أحملك وهذا بعير فخذه، ودفعه إليه.
شيء من أخبار عبد الله بن جدعان
هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة سيد بني تيم، وهو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وكان من الكرماء الأجواد في الجاهلية، المطعمين للمسنتين، وكان في بدء أمره فقيراً مملقاً، وكان شريراً يكثر من الجنايات حتى أبغضه قومه وعشيرته وأهله وقبيلته، وأبغضوه حتى أبوه، فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائراً بائراً، فرأى شقاً في جبل فظن أن يكون به شيئاً يؤذي، فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه.
فلما اقترب منه إذا ثعبان يخرج إليه ويثب عليه، فجعل يحيد عنه ويثب فلا يغني شيئاً، فلما دنا منه إذا هو من ذهب وله عينان هما ياقوتتان، فكسره وأخذه ودخل الغار، فإذا فيه قبور لرجال من ملوك جرهم، ومنهم الحارث بن مضاض الذي طالت غيبته فلا يدرى أين ذهب، ووجد عند رؤسهم لوحاً من ذهب فيه تاريخ وفاتهم، ومدد ولايتهم، وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة شيء كثير.
فأخذ منه حاجته، ثم خرج وعلم باب الغار، ثم انصرف إلى قومه، فأعطاهم حتى أحبوه، وسادهم وجعل يطعم الناس، وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك الغار فأخذ حاجته، ثم رجع. فممن ذكر هذا عبد الملك بن هشام في كتاب (التيجان) وذكره أحمد بن عمار في كتاب (ري العاطش وأنس الواحش) وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره، ووقع فيها صغير فغرق.
وذكر ابن قتيبة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عُمِيٍّ)).
أي: وقت الظهيرة.
وفي حديث مقتل أبي جهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
((تطلبوه بين القتلى وتعرفوه بشجة في ركبته، فإني تزاحمت أنا وهو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت، فأثرها باق في ركبته)) فوجدوه كذلك.
وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق، ويسقي اللبن، حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت: (ج/ص: 2/ 277)
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم * فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم * لا ما يعللنا بنو جدعان
فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير وعادت تحمل البر والشهد والسمن، وجعل منادياً ينادي كل ليلة على ظهر الكعبة أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان، فقال أمية في ذلك:
له داع بمكة مشمعل * وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشيزي ملاءٍ * لباب البر يلبك بالشهاد
ومع هذا كله فقد ثبت في الصحيح لمسلم أن عائشة قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟
فقال: ((لا إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)).
امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب إحدى المعلقات
وهي أفخرهن وأشهرهن التي أولها:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل *
قال الإمام أحمد: حدثنا هشام، حدثنا أبو الجهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار)).
وقد روى هذا الحديث عن هشام جماعة كثيرون منهم: بشر بن الحكم، والحسن بن عرفة، وعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، المأمون أخو الأمين، ويحيى بن معين.
وأخرجه ابن عدي من طريق عبد الرزاق، عن الزهري به. وهذا منقطع ورديء من وجه آخر عن أبي هريرة، ولا يصح من غير هذا الوجه. (ج/ص: 2/ 278)
وقال الحافظ ابن عساكر: هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة. أبو يزيد، ويقال: أبو وهب، ويقال: أبو الحارث الكندي. كان بأعمال دمشق وقد ذكر مواضع منها في شعره فمن ذلك قوله:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُها * لما نسجتها من جنوب وشمأل
قال: وهذه مواضع معروفة بحوران.
ثم روى من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي، حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل وفد من اليمن، فقالوا: يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس. قال: وكيف ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق، فمكثنا ثلاثاً لا نقدر على الماء، فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر، ليموت كل رجل منا في ظل شجرة، فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:
ولما رأت أن الشريعة همُّها * وأن البياض من فرائضها دامي
تيممتِ العين التي عند ضارج * يفيء عليها الظل عرمضها طامي
فقال الراكب: ومن يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد؟ قال قلنا: امرؤ القيس بن حجر، قال: والله ما كذب هذا ضارج عندكم، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعاً، فحبونا إليه على الركب، فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيء عليه الظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار)).
وذكر الكلبي: أن امرأ القيس أقبل براياته يريد قتال بني أسد حين قتلوا أباه، فمر بتبالة وبها ذو الخلصة - وهو صنم - وكانت العرب تستقسم عنده، فاستقسم فخرج القدح الناهي، ثم الثانية، ثم الثالثة كذلك، فكسر القداح وضرب بها وجه ذي الخلصة وقال: عضضت بأيرأبيك لو كان أبوك المقتول لما عوقتني. ثم أغار على بني أسد فقتلهم قتلاً ذريعاً.
قال ابن الكلبي: فلم يستقسم عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام. وذكر بعضهم أنه امتدح قيصر ملك الروم يستنجد في بعض الحروب ويسترفده، فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك، فيقال: إنه سقاه سماً فقتله، فألجأه الموت إلى جنب قبر امرأة عند جبل يقال له عسيب، فكتب هنالك: (ج/ص: 2/ 279)
أجارتَنا إن المزار قريب * وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان ههنا * وكل غريبٍ للغريب نسيب
وذكروا أن المعلقات السبع كانت معلقة بالكعبة، وذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش، فإن أجازوها علقوها على الكعبة تعظيماً لشأنها، فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع، فالأولى لامرئ القيس بن حجر الكندي كما تقدم وأولها:
قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والثانية للنابغة الذبياني: واسمه زياد بن معاوية، ويقال زياد بن عمرو بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وأولها:
يا دار مية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الأبد
والثالثة لزهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني وأولها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلَّم * بِحَوْمانة الدَّراج فالمُتَثَلَّم
والرابعة لطرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضُبَيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وأولها:
لخولة أطلال ببرقة ثهْمد * تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
والخامسة لعنترة بن شداد بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس العبسي وأولها:
هل غادر الشعراء من متردّم * أم هل عرفت الدار بعد توهم
والسادسة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس أحد بني تميم وأولها:
طحا بك قلبٌ في الحسان طروب * بعيد الشباب عصر حان مشيب (ج/ص: 2/ 280)
والسابعة - ومنهم من لا يثبتها في المعلقات وهو قول الأصمعي وغيره - وهي للبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وأولها
عفت الديار محلُّها فمقامها * بمنى تأبد غولها فرجامها
فأما القصيدة التي لا يعرف قائلها فيما ذكره أبو عبيدة والأصمعي والمبرد وغيرهم فهي قوله:
هل بالطلول لسائل رد * أم هل لها بتكلم عهد
وهي مطولة وفيها معاني حسنة كثيرة.
أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي
قال الحافظ ابن عساكر: هو أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عزة بن عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن أبو عثمان. ويقال: أبو الحكم الثقفي شاعر جاهلي قدم دمشق قبل الإسلام.
وقيل: إنه كان مستقيماً، وإنه كان في أول أمره على الإيمان، ثم زاغ عنه، وأنه هو الذي أراده الله تعالى بقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175].
قال الزبير بن بكار: فولدت رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف أمية الشاعر ابن أبي الصلت، واسم أبي الصلت: ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن ثقيف، وقال غيره: كان أبوه من الشعراء المشهورين بالطائف وكان أمية أشعرهم.
وقال عبد الرزاق قال الثوري: أخبرني حبيب بن أبي ثابت أن عبد الله بن عمرو قال في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} هو أمية بن أبي الصلت.
وكذا رواه أبو بكر بن مردويه، عن أبي بكر الشافعي، عن معاذ بن المثنى، عن مسدد، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن عاصم بن مسعود قال: إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}.
فقال: هل تدرون من هو؟
فقال بعضهم: هو صيفي بن الراهب.
وقال آخر: بل هو بلعم رجل من بني إسرائيل.
فقال: لا.
قال: فمن؟
قال: هو أمية بن أبي الصلت.
وهكذا قال أبو صالح، والكلبي، وحكاه قتادة عن بعضهم.
وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن شبيب الربعي، حدثنا محمد بن مسلمة بن هشام المخزومي، حدثنا إسماعيل بن الطريح بن إسماعيل الثقفي، حدثني أبي، عن أبيه، عن مروان بن الحكم، عن معاوية بن أبي سفيان، عن أبيه قال:
خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجاراً إلى الشام، فكلما نزلنا منزلاً أخذ أمية سفراً له يقرؤه علينا، فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فجاؤه وأكرموه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيوتهم، ثم رجع في وسط النهار، فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما، وقال لي: هل لك يا أبا سفيان في عالم من علماء النصارى إليه يتناهي علم الكتاب تسأله.
قلت: لا إرب لي فيه، والله لئن حدثني بما أحب لا أثق به، ولئن حدثني بما أكره لأجدن منه. قال: فذهب وخالفه شيخ من النصارى فدخل عليّ فقال: ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ؟ قلت: لست على دينه. قال: وإن فإنك تسمع منه عجباً وتراه. ثم قال لي: أثقفي أنت؟ قلت: لا، ولكن قرشي.
قال: فما يمنعك من الشيخ، فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم.
قال: فخرج من عندنا، ومكث أمية عندهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح كئيباً حزيناً ساقطاً غبوقة على صبوحه ما يكلمنا ولا نكلمه.
ثم قال: ألا ترحل؟ قلت: وهل بك من رحيل؟ قال: نعم. فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين، ثم قال في الليلة الثالثة: ألا تحدث يا أبا سفيان؟ قلت: وهل بك من حديث، والله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك.
قال: أما إن ذلك لشيء لست فيه، إنما ذلك لشيء وجلت منه من منقلبي، قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: أي والله، لأموتن ثم لأحيين، قال: قلت: هل أنت قابل أمانتي؟
قال: على ماذا؟ قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب، قال: فضحك، ثم قال: بلى! والله يا أبا سفيان لنبعثن، ثم لنحاسبن، وليدخلن فريق الجنة، وفريق النار.
قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك، لا فيّ ولا في نفسه. قال: فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه، حتى قدمنا غوطة دمشق فبعنا متاعنا، وأقمنا بها شهرين، فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم، فما جاء إلا بعد منتصف النهار، فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاء بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه، ورمى بنفسه على فراشه، فوالله ما نام ولا قام، وأصبح حزيناً كئيباً لا يكلمنا ولا نكلمه.
ثم قال: ألا ترحل؟ قلت: بلى إن شئت، فرحلنا كذلك في بثه وحزنه ليالي. ثم قال لي: يا أبا سفيان هل لك في المسير لنتقدم أصحابنا؟ قلت: هل لك فيه؟ قال: نعم. فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال: هيا صخر. فقلت: ما تشاء؟
قال: حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المظالم والمحارم؟ قلت: إي والله، قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟ قلت: إي والله.
قال: وكريم الطرفين وسط في العشيرة؟ قلت: نعم. قال: فهل تعلم قرشياً أشرف منه؟ قلت: لا والله لا أعلم. قال: أمحوج هو؟ قلت: لا، بل هو ذو مال كثير.
قال: وكم أتى عليه من السن؟ فقلت: قد زاد على المائة. قال: فالشرف والسن والمال أزرين به. قلت: ولم ذاك يزري به، لا والله بل يزيده خيراً. (ج/ص: 2/ 282)
قال: هو ذاك. هل لك في المبيت؟ قلت: لي فيه. قال: فاضطجعنا حتى مر الثقل، قال: فسرنا حتى نزلنا في المنزل وبتنا به، ثم ارتحلنا منه، فلما كان الليل قال لي: يا أبا سفيان قل ما تشاء، قال: هل لك في مثل البارحة؟ قلت: هل لك فيه؟ قال: نعم.
فسرنا على ناقتين بختيتين حتى إذا برزنا قال: هيا صخر، هيه عن عتبة بن ربيعة قال: قلت: هبها فيه، قال: أيجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرحم، ويأمر بصلتها، قلت: إي والله إنه ليفعل. قال: وذو مال قلت: وذو مال.
قال: أتعلم قرشياً أسود منه، قلت: لا والله ما أعلم. قال: كم أتى له من السن، قلت: قد زاد على المائة. قال: فإن السن والشرف والمال أزرين به، قلت: كلا والله ما أزرى به ذلك. وأنت قائل شيئاً فقله.
قال لا تذكر حديثي يأتي منه ما هو آت. ثم قال: فإن الذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء، ثم قلت: أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر. قال: هو رجل من العرب. قلت: قد علمت أنه من العرب، فمن أي العرب هو؟ قال: من أهل بيت تحجه العرب. قلت: وفينا بيت تحجه العرب؟
قال: هو من إخوانكم من قريش، فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط. وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة. وكنت أرجو أن أكون إياه. قلت: فإذا كان ما كان فصفه لي.
قال: رجل شاب حين دخل في الكهولة. بدوّ أمره يجتنب المظالم والمحارم، ويصل الرحم، ويأمر بصلتها، وهو محوج كريم الطرفين، متوسط في العشيرة، أكثر جنده من الملائكة.
قلت: وما آية ذلك؟ قال: قد رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عليه السلام ثمانين رجفة كلها فيها مصيبة، وبقيت رجفة عامة فيها مصائب.
قال أبو سفيان: فقلت: هذا والله الباطل. لئن بعث الله رسولاً لا يأخذه إلا مسناً شريفاً. قال أمية: والذي حلفت به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان تقول إن قول النصراني حق. هل لك في المبيت؟
قلت: نعم لي فيه. قال: فبتنا حتى جاءنا الثقل، ثم خرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة مرحلتان ليلتان أدركنا راكب من خلفنا فسألناه فإذا هو يقول: أصابت أهل الشام بعدكم رجفة دمرت أهلها، وأصابتهم فيها مصائب عظيمة.
قال أبو سفيان: فأقبل على أمية فقال: كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان؟ قلت: أرى وأظن والله إن ما حدثك به صاحبك حق. قال أبو سفيان: فقدمنا مكة فقضيت ما كان معي، ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجراً فكنت بها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة فبينا أنا في منزلي، جاءني الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم، حتى جاءني محمد بن عبد الله وهند عندي تلاعب صبيانها، فسلم عليّ ورحب بي، وسألني عن سفري ومقامي، ولم يسألني عن بضاعته.
ثم قام. فقلت لهند: والله إن هذا ليعجبني، ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها، وما سألني هذا عن بضاعته. فقالت لي هند: أو ما علمت شأنه؟ فقلت وأنا فزع: ما شأنه؟ قالت: يزعم أنه رسول الله فوقذتني، وتذكرت قول النصراني فرجفت حتى قالت لي هند: مالك؟ فانتبهت فقلت: إن هذا لهو الباطل، لهو أعقل من أن يقول هذا.
قالت: بلى، والله إنه ليقولن ذلك ويدعو إليه، وإن له لصحابة على دينه، قلت: هذا هو الباطل. (ج/ص: 2/ 283)
قال: وخرجت فبينا أنا أطوف بالبيت إذ بي قد لقيته فقلت له: إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا، وكان فيها خير، فأرسل من يأخذها، ولست آخذ منك فيها ما آخذ من قومي، فأبى علي وقال: إذن لا آخذها.
قلت: فأرسل فخذها، وآنا آخذ منك مثل ما آخذ من قومي، فأرسل إلي بضاعته فأخذها وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره.
قال أبو سفيان: فلم أنشب أن خرجت إلى اليمن، ثم قدمت الطائف، فنزلت على أمية بن أبي الصلت، فقال لي: يا أبا سفيان ما تشاء هل تذكر قول النصراني؟ فقلت: أذكره، وقد كان. فقال: ومن؟ قلت: محمد بن عبد الله.
قال: ابن عبد المطلب؟ قلت: ابن عبد المطلب. ثم قصصت عليه خبر هند. قال: فالله يعلم؟ وأخذ يتصبب عرقاً ثم قال: والله يا أبا سفيان لعله. إن صفته لهي، ولئن ظهر وأنا حي لأطلبن من الله عز وجل في نصره عذراً.
قال: ومضيت إلى اليمن، فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله، وأقبلت حتى نزلت على أمية بن أبي الصلت بالطائف، فقلت: يا أبا عثمان قد كان من أمر الرجل ما قد بلغك وسمعته، فقال: قد كان لعمري. قلت: فأين أنت منه يا أبا عثمان؟ فقال: والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبداً.
قال أبو سفيان: وأقبلت إلى مكة، فوالله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة، فوجدت أصحابه يضربون ويحقرون. قال أبو سفيان: فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة؟ قال: فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة.
وقد رواه الحافظ البيهقي في كتاب (الدلائل) من حديث إسماعيل بن طريح به. ولكن سياق الطبراني الذي أوردناه أتم وأطول، والله أعلم.
وقال الطبراني: حدثنا بكر بن أحمد بن نفيل، حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا مجاشع بن عمرو الأسدي، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير، عن معاوية بن أبي سفيان، عن أبي سفيان بن حرب: أن أمية بن أبي الصلت كان بغزة أو بإيلياء، فلما قفلنا قال لي أمية: يا أبا سفيان هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث. قلت: نعم.
قال: ففعلنا. فقال لي: يا أبا سفيان: إيه عن عتبة بن ربيعة. قلت: كريم الطرفين، ويجتنب المحارم والمظالم. قلت: نعم.
قال: وشريف مسن؟ قلت: وشريف مسن. قال: السن والشرف أزريا به. فقلت له: كذبت ما ازداد سناً إلا ازداد شرفاً.
قال يا أبا سفيان: إنها كلمة ما سمعت أحداً يقولها لي منذ تبصرت، فلا تعجل علي حتى أخبرك. قال: قلت: هات. قال: إني كنت أجد في كتبي نبياً يبعث من حرتنا هذه، فكنت أظن بل كنت لا أشك أني أنا هو، فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحداً يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة. فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الأربعين ولم يوح إليه.
قال أبو سفيان: فضرب الدهر ضربه، فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته.
قال: أما إنه حق فاتبعه. قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني إلا الاستحياء من نساء ثقيف، إني كنت أحدثهن أني هو، ثم يرينني تابعاً لغلام من بني عبد مناف.
ثم قال أمية: كأني بك يا أبا سفيان قد خالفته، ثم قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه، فيحكم فيك بما يريد. (ج/ص: 2/ 284)
وقال عبد الرازق: أخبرنا معمر عن الكلبي قال: بينا أمية راقد ومعه ابنتان له إذ فزعت إحداهما فصاحت عليه، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: رأيت نسرين كشطا سقف البيت، فنزل أحدهما إليك فشق بطنك، والآخر واقف على ظهر البيت فناداه فقال: أوعى؟ قال: نعم، قال: أزكى؟ قال: لا. فقال: ذاك خير أريد بأبيكما فلم يفعله.
وقد روي من وجه آخر بسياق آخر فقال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وعثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وكانت ذات لب، وعقل، وجمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بها معجباً فقال لها ذات يوم: يا فارعة هل تحفظين من شعر أخيك شيئاً؟
فقالت نعم، وأعجب من ذلك ما قد رأيت قالت: كان أخي في سفر فلما انصرف بدأني فدخل عليَّ، فرقد على سريري وأنا أحلق أديماً في يدي، إذ أقبل طائران أبيضان أو كالطيرين أبيضين، فوقع على الكوة أحدهما، ودخل الآخر فوقع عليه فشق الواقع عليه ما بين قصه إلى عانته، ثم أدخل يده في جوفه فأخرج قلبه فوضعه في كفه ثم شمه، فقال له الطائر الآخر: أوعى؟
قال: وعى. قال: أزكى؟ قال أبي: ثم رد القلب إلى مكانه فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين ثم ذهبا. فلما رأيت ذلك دنوت منه فحركته فقلت: هل تجد شيئاً؟ قال: لا، إلا توهيناً في جسدي - وقد كنت ارتعبت مما رأيت - فقال: مالي أراكي مرتاعة؟ قالت: فأخبرته الخبر، فقال: خير أريد بي، ثم صرف عني، ثم أنشأ يقول:
باتت همومي تسري طوارقها * أكفّ عيني والدمع سابقها
مما أتاني من اليقين ولم * أوت براة يقص ناطقها
أم من تلظى عليه واقدة النار * محيط بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التي وعد * الأبرار مصفوفة نمارقها
لا يستوي المنزلان ثم ولا * الأعمال لا تستوي طرائقها
هما فريقان فرقة تدخل الجنة * حفت بهم حدائقها
وفرقة منهم قد أدخلت * النار فساءتهم مرافقها
تعاهدت هذه القلوب إذا * همت بخير عاقت عوائقها
وصدها للشقاء عن طلب الجنة * دنيا ألله ماحقها
عبد دعا نفسه فعاتبها * يعلم أن البصير رامقها
ما رغب النفس في الحياة وإن * تحيى قليلاً فالموت لاحقها
يوشك من فر من منيته * يوماً على غرة يوافقها
إن لم تمت غبطة تمت هرما * للموت كأس والمرء ذائقها
قال: ثم انصرف إلى رحله فلم يلبث إلا يسيراً حتى طعن في حيارته، فأتاني الخبر فانصرفت إليه، فوجدته منعوشاً قد سجى عليه، فدنوت منه فشهق شهقة وشق بصره، ونظر نحو السقف ورفع صوته. وقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذر مال فيفدني، ولا ذو أهل فتحميني. (ج/ص: 2/ 285)
ثم أغمى عليه، إذ شهق شهقة فقلت: قد هلك الرجل. فشق بصره نحو السقف فرفع صوته. فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذو براءة فأعتذر، ولا ذو عشيرة فأنتصر.
ثم أغمى عليه، إذ شهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السقف. فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، بالنعم محفود، وبالذنب محصود.
ثم أغمى عليه، إذ شهق شهقة فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما
إن تغفر اللهم تغفر جماً * وأي عبد لك لا ألما
ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة فقال:
كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا
قالت: ثم مات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها)) الآية.
وقد تكلم الخطابي على غريب هذا الحديث.
وروى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال: قال أمية بن أبي الصلت:
ألا رسول لنا منا يخبرنا * ما بعد غايتنا من رأس مجراني
قال: ثم خرج أمية بن أبي الصلت إلى البحرين، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام أمية بالبحرين ثماني سنين، ثم قدم الطائف فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله؟ قالوا: يزعم أنه نبي هو الذي كنت تتمنى.
قال: فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه فقال: يا ابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول؟ قال: أقول إني رسول الله، وأن لا إله إلا هو. قال: إني أريد أن أكلمك فعدني غداً. قال: فموعدك غدا. قال: فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي، وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ذلك شئت. قال: فإني آتيك في جماعة، فأت في جماعة. قال: فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش، قال: وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة.
قال: فبدأ أمية فخطب، ثم سجع، ثم أنشد الشعر، حتى إذا فرغ الشعر قال: أجبني يا ابن عبد المطلب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((بسم الله الرحمن الرحيم {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ})). حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه قال: فتبعته قريش يقولون: ما تقول يا أمية؟
قال: أشهد أنه على الحق.
فقالوا: هل تتبعه؟
قال: حتى أنظر في أمره.
قال: ثم خرج أمية إلى الشام، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما قتل أهل بدر، قدم أمية من الشام حتى نزل بدراً، ثم ترحل يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: يا أبا الصلت ما تريد؟
قال: أريد محمدا.
قال: وما تصنع؟
قال: أؤمن به، وألقي إليه مقاليد هذا الأمر.
قال: أتدري من في القليب؟
قال: لا.
قال: فيه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما ابنا خالك - وأمه ربيعة بنت عبد شمس - قال: فجدع أذني ناقته، وقطع ذنبها، ثم وقف على القليب يقول:
ما ذا ببدر فالعقنقل * من مرازبة جحاجح
القصيدة إلى آخرها، كما سيأتي ذكرها بتمامها في قصة بدر إن شاء الله. ثم رجع إلى مكة والطائف وترك الإسلام. (ج/ص: 2/ 286)
ثم ذكر قصة الطيرين، وقصة وفاته، كما تقدم، وأنشد شعره عند الوفاة:
كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا
فاجعل الموت نصب عينيك واحذر * غولة الدهر إن للدهر غولا
نائلاً ظفرها القساور والصد * عان والطفل في المناور الشكيلا
وبغاث النياف واليعفر النافر * والعوهج البرام الضئيلا
فقوله: القساور، جمع قسورة، وهو الأسد. والصدعان: ثيران الوحش، واحدها صدع. والطفل: الشكل من حمرة العين. والبغاث: الرخم. والنياف: الجبال. واليعفر: الظبي. والعوهج: ولد النعامة، يعني أن الموت لا ينجو منه الوحوش في البراري، ولا الرخم الساكنة في رؤس الجبال، ولا يترك صغيراً لصغره، ولا كبيراً لكبره.
وقد تكلم الخطابي وغيره على غريب هذه الأحاديث. وقد ذكر السهيلي في كتابه (التعريف والإعلام) أن أمية بن أبي الصلت أول من قال باسمك اللهم، وذكر عند ذلك قصة غريبة وهو أنهم خرجوا في جماعة من قريش في سفر، فيهم حرب بن أمية والد أبي سفيان.
قال: فمروا في مسيرهم بحية فقتلوها، فلما أمسوا جاءتهم امرأة من الجان فعاتبتهم في قتل تلك الحية، ومعها قضيب فضربت به الأرض ضربة نفرت الإبل عن آخرها، فذهبت وشردت كل مذهب، وقاموا فلم يزالوا في طلبها حتى ردوها، فلما اجتمعوا جاءتهم أيضاً فضربت الأرض بقضيبها، فنفرت الإبل فذهبوا في طلبها.
فلما أعياهم ذلك قالوا: والله هل عندك لما نحن فيه من مخرج؟ فقال: لا والله، ولكن سأنظر في ذلك. قال: فساروا في تلك المحلة لعلهم يجدو أحداً يسألونه عما قد حلَّ بهم من العناء، إذا نار تلوح على بعد، فجاؤها فإذا شيخ على باب خيمة يوقد ناراً، وإذا هو من الجان في غاية الضآلة والدمامة فسلموا عليه فسألهم عما هم فيه.
فقال: إذا جاءتكم فقل: بسمك اللهم فإنها تهرب فلما اجتمعوا وجاءتهم الثالثة والرابعة، قال في وجهها أمية: بسمك اللهم، فشردت ولم يقر لها قرار، لكن عدت الجن على حرب بن أمية فقتلوه بتلك الحية، فتبره أصحابه هنالك حيث لا جار ولا دار، ففي ذلك يقول الجان:
وقبر حرب بمكان قفر * وليس قرب قبر حرب قبر
وذكر بعضهم أنه كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوانات، فكان يمر في السفر على الطير فيقول لأصحابه: إن هذا يقول كذا وكذا، فيقولون: لا نعلم صدق ما يقول.
حتى مروا على قطيع غنم قد انقطعت منه شاة ومعها ولدها، فالتفتت إليه فثغت كأنها تستحثه، فقال: أتدرون ما تقول له؟ قالوا: لا.
قال: إنها تقول أسرع بنا لا يجيء الذئب فيأكلك كما أكل الذئب أخاك عام أول. فأسرعوا حتى سألوا الراعي: هل أكل له الذئب عام أول حملاً بتلك البقعة؟ فقال: نعم.
قال: ومر يوماً على بعير عليه امرأة راكبة، وهو يرفع رأسه إليها ويرغو.
فقال: إنه يقول لها: إنك رحلتيني وفي الحداجة مخيط، فأنزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرحل، فإذا فيه مخيط كما قال. (ج/ص: 2/ 287)
وذكر ابن السكيت أن أمية بن أبي الصلت بينما هو يشرب يوماً إذ نعب غراب. فقال له: بفيك التراب مرتين. فقيل له: ما يقول؟ فقال: إنه يقول إنك تشرب هذا الكأس الذي في يدك ثم تموت. ثم نعب الغراب فقال: إنه يقول: وآية ذلك أني أنزل على هذه المزبلة فآكل منها، فيعلق عظم في حلقي فأموت.
ثم نزل الغراب على تلك المزبلة فأكل شيئا، فعلق في حلقه عظم فمات. فقال أمية: أما هذا فقد صدق في نفسه، ولكن سأنظر هل صدق في أم لا؟ ثم شرب ذلك الكأس الذي في يده، ثم اتكأ فمات.
وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مهدي، عن الثوري، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)).
وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.
فقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا زكرياء بن إسحاق، حدثنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول: قال الشريد: كنت ردفاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟
قلت: نعم.
قال: فأنشدني فأنشدته بيتا، فلم يزل يقول كلما أنشدته بيتاً إيه، حتى أنشدته مائة بيت.
قال: ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم وسكت.
وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي تميم بن ميسرة به. ومن غير وجه عن عمرو بن الشريد، عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات فقال رسول الله:
((أن كاد يسلم)).
وقال يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا حاتم بن أبي صفرة، عن سماك بن حرب، عن عمرو بن نافع، عن الشريد الهمداني وأخواله ثقيف قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فبينا أنا أمشي ذات يوم، إذا وقع ناقة خلفي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: ((الشريد؟))
فقلت: نعم.
قال: ((ألا أحملك؟))
قلت: بلى وما من إعياء، ولكني أردت البركة في ركوبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأناخ فحملني.
فقال: ((أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت؟)).
قلت: نعم.
قال: ((هات)).
فأنشدته قال: أظنه قال مائة بيت.
فقال: ((عند الله علم أمية بن أبي الصلت)).
ثم قال ابن صاعد: هذا حديث غريب.
فأما الذي يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أمية: ((آمن شعره وكفر قلبه)) فلا أعرفه، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة عن ابن عباس:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق أمية في شيء من شعره قال: (ج/ص: 2/ 288)
زحل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تبدو كل آخر ليلة * حمراء يصبح لونها يتورد
تأبى فما تطلع لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق)).
وفي رواية أبي بكر الهذلي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: إن الشمس لا تطلع حتى ينخسها سبعون ألف ملك، يقول لها اطلعي اطلعي فتقول: لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فإذا همت بالطلوع، أتاها شيطان يريد أن يثبطها فتطلع بين قرنيه وتحرقه، فإذا تضيفت للغروب عزمت لله عز وجل، فيأتيها شيطان يريد أن يثبطها عن السجود فتغرب من قرنيه وتحرقه. أورده ابن عساكر مطولاً.
ومن شعره في حملة العرش:
فمن حامل إحدى قوائم عرشه * ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانون تحته * فرائصهم من شدة الخوف ترعد
رواه ابن عساكر.
وروي عن الأصمعي أنه كان ينشد من شعر أمية:
مجدوا الله فهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الناس * وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا ما يناله بصر العين * ترى دونه الملائك صورا
ثم يقول الأصمعي: الملائك: جمع ملك. والصور: جمع أصور، وهو المائل العنق، وهؤلاء حملة العرش.
ومن شعر أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان التيمي:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إن شيمتك الحياء
وعلمك بالحقوق وأنت فرع * لك الحسب المهذب والسناء
كريم لا يغيره صباح * عن الخلق الجميل ولا مساء
يباري الريح مكرمة وجودا * إذا ما الكلب أحجره الشتاء
وأرضك أرض مكرمة بنتها * بنو تيم وأنت لها سماء
إذا أثنى عليك المرء يوماً * كفاه من تعرضه الثناء
وله فيه مدائح أخر. وقد كان عبد الله بن جدعان هذا من الكرماء الأجواد الممدحين المشهورين، وكان له جفنة يأكل الراكب منها وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها، وكان يملأها لباب البر يلبك بالشهد والسمن، وكان يعتق الرقاب، ويعين على النوائب، وقد سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم أينفعه ذلك؟
فقال: ((إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)).
ومن شعر أمية البديع:
لا ينكثون الأرض عند سؤالهم * كتطلب العلات بالعيدان
بل يسفرون وجوههم فترى لها * عند السؤال كأحسن الألوان
وإذا المقل أقام وسط رحالهم * ردوه رب صواهل وقيان
وإذا دعوتهم لكل ملمة * سدوا شعاع الشمس بالفرسان
آخر ترجمة أمية بن أبي الصلت. (ج/ص: 2/ 289)
بحيرا الراهب
الذي توسم في رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة وهو مع عمه أبي طالب حين قدم الشام في تجار من أهل مكة، وعمره إذ ذاك اثني عشرة سنة، فرأى الغمامة تظله من بينهم، فصنع لهم طعاماً ضيافة واستدعاهم كما سيأتي بيان ذلك في السيرة.
وقد روى الترمذي في ذلك حديثاً بسطنا الكلام عليه هنالك.
وقد أورد له الحافظ ابن عساكر شواهد وسائغات في ترجمة بحيرا، ولم يورد ما رواه الترمذي وهذا عجب.
وذكر ابن عساكر أن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفر، بينها وبين بصرى ستة أميال، وهي التي يقال لها دير بحيرا، قال: ويقال: إنه كان يسكن قرية يقال لها منفعة بالبلقاء وراء زيرا، والله أعلم.
ذكر قس بن ساعدة الإيادي
قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب (هواتف الجان): حدثنا داود القنطري، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو عبد الله المشرقي، عن أبي الحارث الوراق، عن ثور بن يزيد، عن مورق العجلي، عن عبادة بن الصامت قال: لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الإيادي)).
قالوا: هلك يا رسول الله.
قال: ((لقد شهدته يوماً بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه)).
فقام إليه أعرابي من أقاصي القوم فقال: أنا أحفظه يا رسول الله.
قال: فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: فكان بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول:
يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات، وكل شيء آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحر عجاج، نجوم تزهر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، أقسم قس بالله قسماً لا ريب فيه إن لله ديناً هو أرضى من دينكم هذا، ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها * يمضي الأصاغر والأكابر
لا من مضى يأتي إليك * ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر
وهذا إسناد غريب من هذا الوجه. (ج/ص: 2/ 290)
وقد رواه الطبراني من وجه آخر فقال في كتابه (المعجم الكبير): حدثنا محمد بن السري بن مهران بن الناقد البغدادي، حدثنا محمد بن حسان السهمي، حدثنا محمد بن الحجاج، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
((أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي)).
قالوا: كلنا يعرفه يا رسول الله.
قال: ((فما فعل؟)).
قالوا: هلك.
قال: ((فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: يا أيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، وأقسم قس قسماً حقاً لئن كان في الأمر رضى ليكون بعده سخط، إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا)).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفيكم من يروي شعره؟ فأنشده بعضهم
في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر
ما رأيت موارداً * للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها * يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي * ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر
وهكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) من طريق محمد بن حسان السلمي به.
وهكذا رويناه في الجزء الذي جمعه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه في أخبار قس قال: حدثنا عبد الكريم بن الهيثم الدير عاقولي، عن سعيد بن شبيب، عن محمد بن الحجاج، عن إبراهيم الواسطي نزيل بغداد، ويعرف بصاحب الفريسة، وقد كذبه يحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، والدارقطني واتهمه غير واحد منهم ابن عدي بوضع الحديث.
وقد رواه البزار، وأبو نعيم من حديث محمد بن الحجاج هذا.
ورواه ابن درستويه، وأبو نعيم من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهذه الطريق أمثل من التي قبلها، وفيه: إن أبا بكر هو الذي أورد القصة بكمالها نظمها ونثرها، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث أحمد بن موسى بن إسحاق الحطمي، حدثنا علي بن الحسين بن محمد المخزومي، حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثنا وهب بن جرير، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس قال: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم:
((ما فعل حليف لكم يقال له قس بن ساعدة الإيادي)). وذكر القصة مطولة.
وأخبرنا الشيخ المسند الرحلة أحمد بن أبي طالب الحجار إجازة إن لم يكن سماعاً قال: أجاز لنا جعفر بن علي الهمداني قال: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي سماعاً، وقرأت على شيخنا الحافظ أبي عبد الله الذهبي أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن أبي بكر الخلال سماعاً. (ج/ص: 2/291)
قال: أنا جعفر بن علي سماعاً، قال: أنا السلفي سماعاً، أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، أنا أبو الفضل محمد بن أحمد عيسى السعدي، أنا أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي المقرئ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال:
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أحمد السعدي قاضي فارس، حدثنا أبو داود سليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائي من أهل حران، حدثنا أبو عمرو سعيد بن يربع، عن محمد بن إسحاق، حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال:
كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي نصرانياً حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها، عالماً بسير الفرس وأقاويلها، بصيراً بالفلسفة والطب، ظاهر الدهاء والأدب، كامل الجمال ذا ثروة ومال، وأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافداً في رجال من عبد القيس، ذوي أراء وأسنان وفصاحة وبيان وحجج وبرهان، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وقف بين يديه وأشار إليه، وأنشأ يقول:
يا نبي الهدى أتتك رجال * قطعت فدفدا وآلا فآلا
وطوت نحوك الصحاصح تهوي * لا تعد الكلال فيك كلالا
كل بهماء قصر الطرف عنها * أرقلتها قلاصنا أرقالا
وطوتها العتاق يجمح فيها * بكماة كأنجم تتلالا
تبتغي دفع بأس يوم عظيم * هائل أوجع القلوب وهالا
ومزادا لمحشر الخلق طرا * وفراقا لمن تمادى ضلالا
نحو نور من الإله وبرهان * وبر ونعمة أن تنالا
خصك الله يا ابن آمنة الخير * بها إذ أتت سجالا سجالا
فاجعل الحظ منك يا حجة الله * جزيلا لا حظ خلف أحالا
قال فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب مجلسه وقال له:
((يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك)).
فقال الجارود: فداك أبي وأمي أما من تأخر عنك فقد فاته حظه وتلك أعظم حوبة، وأغلظ عقوبة، وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك، واتبع سواك، وإني الآن على دين قد علمت به قد جئتك وها أنا تاركه لدينك، أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب، ويرضى الرب عن المربوب.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أنا ضامن لك ذلك، وأخلص الآن لله بالوحدانية، ودع عنك دين النصرانية)).
فقال الجارود: فداك أبي وأمي، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك محمد عبده ورسوله.
قال: فأسلم وأسلم معه أناس من قومه، فسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، وأظهر من إكرامهم ما سروا به وابتهجوا به.
ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
((أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي)).
فقال الجارود: فداك أبي وأمي كلنا نعرفه، وإني من بينهم لعالم بخبره، واقف على أمره، كان قس يا رسول الله سبطاً من أسباط العرب.
عمر ستمائة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار، يضج بالتسبيح على مثال المسيح، لا يقره قرار، ولا تكنه دار، ولا يستمتع به جار، كان يلبس الأمساح ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته يتحسى في سياحته بيض النعام ويأنس بالهوام، ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيختبر. (ج/ص: 2/ 292)
فصار لذلك واحداً تضرب بحكمته الأمثال، وتكشف به الأهوال، أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب، ووحد وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت، وسلم بالقضا على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالأشعار، وفكر في الأقدار.
وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار وعرف الآثار، وخطب راكباً، ووعظ دائباً، وحذر من الكرب، ومن شدة الغضب، ورسل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه وبين في كتبه، وخوف الدهر، وحذر الأزر، وعظم الأمر، وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية.
وهو القائل في يوم عكاظ: شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وإناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وأشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب وأصنام.
لقد ضل الأنام، نشوّ مولود، ووأد مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن ومسيء، تباً لأرباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والأنثى، رب الآخرة والأولى.
أما بعد: فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ وأين العليل والعواد؟ كل له معاد، يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن على الانفراد، في يوم التناد، إذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، وأشرقت الأرض، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط، وأبصر اللاحظ.
فويل لمن صدف عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، ففريق في الجنة، وفريق في السعير.
وهو القائل:
ذكر القلب من جواه أد كار * وليال خلالهن نهار
وسجال هواطل من غمام * ثرن ماء وفي جواهن نار
ضوءها يطمس العيون وأرعاد * شداد في الخافقين تطار
وقصور مشيدة حوت الخير * وأخرى خلت بهن قفار
وجبال شوامخ راسيات * وبحار ميهاههن غزار
ونجوم تلوح في ظلم الليل * نراها في كل يوم تدار
ثم شمس يحثها قمر الليل * وكل متابع موار
وصغير وأشمط وكبير * كلهم في الصعيد يوما مزار
وكبير مما يقصر عنه * حدسه الخاطر الذي لا يحار
فالذي قد ذكرت دل على الله * نفوسا لها هدى واعتبار
(ج/ص: 2/ 293)
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((مهما نسيت فلست أنساه بسوق عكاظ، واقفاً على جمل أحمر يخطب الناس: اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا وقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام.
إن في السماء خبراً، وإن في الأرض عبراً، يحار فيهن البصرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس، ووزن القسطاس.
أقسم قس قسماً لا كاذباً فيه ولا آثماً، لئن كان في هذا الأمر رضي، ليكونن سخط. ثم قال: أيها الناس إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه، وهذا زمانه وأوانه. ثم قال: ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟)).
والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض أصحابه فقال: ((وأيكم يروي شعره لنا؟))
فقال أبو بكر الصديق: فداك أبي وأمي، أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول:
في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً * للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها * يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي * ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر
قال: فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخ من عبد القيس عظيم الهامة، طويل القامة، بعيد ما بين المنكبين فقال: فداك أبي وأمي، وأنا رأيت من قس عجباً.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما الذي رأيت يا أخا بني عبد القيس؟))
فقال: خرجت في شبيبتي أربع بعيراً لي فدعني أقفو أثره في تنائف قفاف، ذات ضغابيس وعرصات جثجاث، بين صدور جذعان وغمير حوذان، ومهمه ظلمان، ورصيع ليهقان، فبينا أنا في تلك الفلوات أجول بسبسبها وأرنق فدفدها، إذا أنا بهضبة في نشزاتها أراك كباث مخضوضلة، وأغصانها متهدلة، كأن بريرها حب الفلفل وبواسق أقحوان، وإذا بعين خرارة، وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة وبيده قضيب.
فدنوت منه، وقلت له: أنعم صباحاً.
فقال: وأنت فنعم صباحك، وقد وردت العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه، ضربه قس بالقضيب الذي بيده، وقال: اصبر حتى يشرب الذي قبلك، فذعرت من ذلك ذعراً شديداً، ونظر إليّ فقال: لا تخف.
وإذا بقبرين بينهما مسجد، فقلت: ما هذا القبران؟
قال: قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع، فأنا مقيم بين قبريهما عبد الله حتى ألحق بهما، فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم، وتباينهم على شرهم؟
فقال لي: ثكلتك أمك، أو ما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم، واتبعوا الأضداد، وعظموا الأنداد، ثم أقبل على القبرين وأنشأ يقول: (ج/ص: 2/ 294)
خليلي هبَّا طالما قد رقدتما * أجدكما لا تقضيان كراكما
أرى النوم بين الجلد والعظم منكما * كأن الذي يسقي العقار سقاكما
أمن طول نوم لا تجيبان داعياً * كأن الذي يسقي العقار سقاكما
ألم تعلما أني بنجران مفرداً * وما لي فيه من حبيب سواكما
مقيم على قبريكما لست بارحاً * إياب الليالي أو يجيب صداكما
أأبكيكما طول الحياة وما الذي * يرد على ذي لوعة أن بكاكما
فلو جعلت نفس لنفس امرئ فدى * لجدت بنفسي أن تكون فداكما
كأنكما والموت أقرب غاية * بروحي في قبريكما قد أتاكما
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله قساً أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة واحدة)).
وهذا الحديث غريب جداً من هذا الوجه، وهو مرسل إلا أن يكون الحسن سمعه من الجارود، والله أعلم.
وقد رواه البيهقي، والحافظ أبو القاسم ابن عساكر من وجه آخر من حديث محمد بن عيسى بن محمد بن سعيد القرشي الأخباري: ثنا أبي، ثنا علي بن سليمان بن علي، عن علي بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم الجارود بن عبد الله فذكر مثله، أو نحوه مطولاً بزيادات كثيرة في نظمه ونثره، وفيه ما ذكره عن الذي ضل بعيره فذهب في طلبه.
قال: فبت في واد لا آمن فيه حتفي، ولا أركن إلى غير سيفي، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب، حتى إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول:
يا أيها الراقد في الليل الأجم * قد بعث الله نبياً في الحرم
من هاشم أهل الوفاء والكرم * يجلو دجيات الدياجي والبهم
قال: فأدرت طرفي فما رأيت له شخصاً، ولا سمعت له فحصاً، قال: فأنشأت أقول:
يا أيها الهاتف في داجي الظُّلم * أهلاً وسهلاً بك من طيف ألم
بين هداك الله في لحن الكلم * ماذا الذي تدعو إليه يغتنم
قال: فإذا أنا بنحنحة وقائلاً يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمداً بالحبور، صاحب النجيب الأحمر، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر، والحاجب الأقمر، والطرف الأحور، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله، وذلك محمد المبعوث إلى الأسود والأبيض، أهل المدر والوبر، ثم أنشأ يقول:
الحمد لله الذي * لم يخلق الخلق عبث
لم يخلنا يوماً سدى * من بعد عيسى واكترث
أرسل فينا أحمداً * خير نبي قد بعث
صلى عليه الله ما * حج له ركب وحث
وفيه من إنشاء قس بن ساعدة: (ج/ص: 2/ 295)
يا ناعي الموت والملحود في جدث * عليهم من بقايا قولهم خِرَق
دعهم فإن لهم يوماً يصاح بهم * فهم إذا انتبهوا من نومهم أرقوا
حتى يعودوا بحال غير حالهم * خلقاً جديداً كما من قبله خلقوا
منهم عراة ومنهم في ثيابهم * منها الجديد ومنها المنهج الخلق
ثم رواه البيهقي، عن محمد بن عبد الله بن يوسف بن أحمد الأصبهاني: حدثنا أبو بكر أحمد بن سعيد بن فرضخ الأخميمي بمكة، ثنا القاسم بن عبد الله بن مهدي، ثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي حمزة الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
فذكر القصة، وذكر الإنشاد قال: فوجدوا عند رأسه صحيفة فيها:
يا ناعي الموت والأموات في جدث * عليهم من بقايا نومهم خرق
دعهم فإن لهم يوماً يصاح بهم * كما تنبه من نوماته الصعق
منهم عراة وموتى في ثيابهم * منها الجديد ومنها الأزرق الخلق
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((والذي بعثني بالحق لقد آمن قس بالبعث)).
وأصله مشهور، وهذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة. وقد تكلم أبو محمد ابن درستويه على غريب ما وقع في هذا الحديث، وأكثره ظاهر إن شاء الله تعالى، وما كان فيه غرابة شديدة، نبهنا عليه في الحواشي.
وقال البيهقي: أنا أبو سعيد ابن محمد بن أحمد الشعيثي، ثنا أبو عمرو ابن أبي طاهر المحمد آباذي لفظاً، ثنا أبو لبابة محمد بن المهدي الأموردي، ثنا أبي، ثنا سعيد بن هبيرة، ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس بن مالك قال: قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
((ما فعل قس بن ساعدة؟))
قالوا: هلك.
قال: ((أما إني سمعت منه كلاماً أرى أني أحفظه)).
فقال بعض القوم: نحن نحفظه يا رسول الله.
قال: ((هاتوا)).
فقال قائلهم: إني واقف بسوق عكاظ فقال: يا أيها الناس استمعوا واسمعوا وعوا، كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية، إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟
أقسم قس قسماً بالله لا آثم فيه، إن لله ديناً هو أرضى مما أنتم عليه، ثم أنشأ يقول:
في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر
لما رأيت مصارعاً * للقوم ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها * يمضي الأكابر والأصاغر
أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر
ثم ساقه البيهقي من طرق أخر قد نبهنا عليها فيما تقدم، ثم قال بعد ذلك كله: وقد روي هذا الحديث عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس بزيادة ونقصان. (ج/ص: 2/ 296)
وروي من وجه آخر عن الحسن البصري منقطعاً، وروي مختصراً من حديث سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة. قلت: وعبادة بن الصامت كما تقدم، وعبد الله بن مسعود كما رواه أبو نعيم في كتاب (الدلائل) عن عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي، عن أبي الوليد طريف بن عبيد الله مولى علي بن أبي طالب بالموصل، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود فذكره.
وروى أبو نعيم أيضاً حديث عبادة المتقدم، وسعد بن أبي وقاص. ثم قال البيهقي: وإذا روي الحديث من أوجه أخر، وإن كان بعضها ضعيفاً، دل على أن للحديث أصلاً، والله أعلم.
زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي بن رياح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي، وكان الخطاب والد عمر بن الخطاب عمه، وأخاه لأمه، وذلك لأن عمرو بن نفيل كان قد خلف على امرأة أبيه بعد أبيه، وكان لها من نفيل أخوه الخطاب. قاله الزبير بن بكار، ومحمد بن إسحاق.
وكان زيد بن عمرو قد ترك عبادة الأوثان وفارق دينهم، وكان لا يأكل إلا ما ذبح على اسم الله وحده.
قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم، ثم يسجد على راحلته.
وكذا رواه أبو أسامة، عن هشام به. وزاد: وكان يصلي إلى الكعبة، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، وكان يحيي الموؤدة، ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، ادفعها إلي أكفلها، فإذا ترعرعت فإن شئت فخذها وإن شئت فادفعها. أخرجه النسائي من طريق أبي أسامة.
وعلقه البخاري فقال: وقال الليث: كتب إلى هشام بن عروة، عن أبيه به.
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، وقد كان نفر من قريش زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وعبد الله بن جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن برة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسعد بن أسد بن خزيمة، وأمه أميمة بنت عبد المطلب وأخته زينب بنت جحش التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مولاه زيد بن حارثة، كما سيأتي بيانه.
حضروا قريشاً عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمن والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤا دين إبراهيم وخالفوه، ما وثن يعبد؟ لا يضر ولا ينفع، فابتغوا لأنفسكم، فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى، والملل كلها، الحنيفية دين إبراهيم. (ج/ص: 2/ 297)
فأما ورقة بن نوفل فتنصر واستحكم في النصرانية، وابتغى الكتب من أهلها، حتى علم علماً كثيراً من أهل الكتاب، ولم يكن فيهم أعدل أمراً، وأعدل ثباتاً من زيد بن عمرو بن نفيل، اعتزل الأوثان، وفارق الأديان، من اليهود والنصارى والملل كلها، إلا دين الحنيفية دين إبراهيم، يوحد الله ويخلع من دونه، ولا يأكل ذبائح قومه، فإذا هم بالفراق لما هم فيه قال: وكان الخطاب قد آذاه أذى كثيراً حتى خرج منه إلى أعلى مكة، ووكل به الخطاب شباباً من قريش، وسفهاء من سفهائهم.
فقال: لا تتركوه يدخل، فكان لا يدخلها إلا سراً منهم، فإذا علموا به أخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم، أو يتابعه أحد إلى ما هو عليه.
وقال موسى بن عقبة: سمعت من أرضى يحدث عن زيد بن عمرو بن نفيل: كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض، لم تذبحوها على غير اسم الله؟ إنكاراً لذلك وإعظاماً له.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: وقد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد عزم على الخروج من مكة، فضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم، وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده، آدنت الخطاب بن نفيل، فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الأول دين إبراهيم، ويسأل عنه، ولم يزل في ذلك فيما يزعمون، حتى أتى الموصل والجزيرة كلها.
ثم أقبل حتى أتى الشام، فجال فيها حتى أتى راهباً ببيعة من أرض البلقاء، كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال له الراهب: إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درس من علمه وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أظل خروج نبي وهذا زمانه.
وقد كان شام اليهودية والنصرانية، فلم يرض شيئاً منها، فخرج سريعاً حين قال له الراهب ما قال يريد مكة، حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه.
فقال ورقة يرثيه:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنوراً من النار حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله * وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه * ولو كان تحت الأرض ستينا واديا
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن طارق الوابشي، ثنا عمرو بن عطية، عن أبيه، عن ابن عمر، عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يتأله في الجاهلية، فانطلق حتى أتى رجلاً من اليهود فقال له: أحب أن تدخلني معك في دينك.
فقال له اليهودي: لا أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من غضب الله.
فقال: من غضب الله أفر.
فانطلق حتى أتى نصرانياً فقال له: أحب أن تدخلني معك في دينك.
فقال: لست أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من الضلالة.
فقال: من الضلالة أفر.
قال له النصراني: فإني أدلك على دين إن تبعته اهتديت.
قال: أي دين.
قال: دين إبراهيم.
قال: فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، عليه أحيى وعليه أموت.
قال: فذكر شأنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: هو أمة وحده يوم القيامة.
وقد روى موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر نحو هذا.
وقال محمد بن سعد، حدثنا علي بن محمد بن عبد الله بن سيف القرشي، عن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: (ج/ص: 2/ 298)
قال زيد بن عمرو بن نفيل شاممت اليهودية والنصرانية فكرهتهما، فكنت بالشام وما والاها، حتى أتيت راهباً في صومعة فذكرت له اغترابي عن قومي، وكراهتي عبادة الأوثان، واليهودية والنصرانية، فقال له: أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكة، إنك لتطلب ديناً ما يوجد اليوم أحد يدين به، وهو دين أبيك إبراهيم، كان حنيفاً لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك، فالحق ببلدك فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية، وهو أكرم الخلق على الله.
وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل: إن زيداً كان إذا دخل الكعبة قال: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم وهو قائم إذ قال: إلهي أنفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا أنحال، ليس مهجر كمن قال.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، عن أبيه، عن جده: أن زيد بن عمرو، وورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل فقال لزيد بن عمرو: من أين أقبلت يا صاحب البعير؟ فقال: من بنية إبراهيم. فقال: وما تلتمس؟ قال: ألتمس الدين.
قال: ارجع، فإنه يوشك أن يظهر في أرضك.
قال: فأما ورقة فتنصر، وأما أنا فعزمت على النصرانية فلم يوافقني، فرجع وهو يقول:
لبيك حقا حقا * تعبدا ورقا
البر أبغي لا أنحال * فهل مهجر كمن قال
آمنت بما آمن به إبراهيم وهو يقول: أنفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، ثم يخر فيسجد.
قال: وجاء ابنه يعني سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إن أبي كما رأيت وكما بلغك فاستغفر له.
قال: نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة.
قال: وأتى زيد بن عمرو بن زيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما فقال زيد بن عمرو: يا ابن أخي أنا لا آكل مما ذبح على النصب.
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمرو، حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن ابن أبي مليكة، عن حجر بن أبي أهاب قال: رأيت زيد بن عمرو وأنا عند صنم بوانة، بعد ما رجع من الشام، وهو يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة فصلى ركعة سجدتين.
ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجراً، ولا أصلي له، ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم الأزلام، وإنما أصلي لهذا البيت حتى أموت، وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي فيقول: لبيك لا شريك لك ولا ند لك. ثم يدفع من عرفة ماشياً وهو يقول: لبيك متعبدا مرقوقاً
وقال الواقدي: حدثني علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك. (ج/ص: 2/ 299)
قلت: هلم! قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكان من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول زيد بن عمرو، وأقرائه منه السلام، فرد عليه السلام وترحم عليه، وقال: ((قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً)).
وقال البخاري في صحيحه ذكر زيد بن عمرو بن نفيل: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها.
ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض، ثم يذبحونها على غير اسم الله إنكاراً لذلك وإعظاما له.
قال موسى بن عقبة: وحدثني سالم بن عبد الله ولا أعلمه إلا يحدث به، عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالماً من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني. فقال: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله.
قال زيد: وما أفر إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئاً ولا أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟
قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً. قال زيد: وما الحنيف؟
قال: دين إبراهيم عليه السلام، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا يعبد إلا الله.
فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى فذكر مثله. فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من على غيره. قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.
قال: وقال الليث كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري.
وكان يحيي الموؤدة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها. انتهى ما ذكره البخاري.
وهذا الحديث الأخير قد أسنده الحافظ ابن عساكر من طريق أبي بكر بن أبي داود، عن عيسى بن حماد، عن الليث، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء فذكر نحوه.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء قالت: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل وهو مسند ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش إياكم والزنا، فإنه يورث الفقر. (ج/ص: 2/ 300)
وقد ساق ابن عساكر هاهنا أحاديث غريبة جداً، وفي بعضها نكارة شديدة.
ثم أورد من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يبعث يوم القيامة أمة واحدة)).
فمن ذلك ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، ويسجد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((يحشر ذاك أمة وحده، بيني وبين عيسى بن مريم)).
إسناده جيد حسن.
وقال الواقدي: حدثني موسى بن شيبة، عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك قال: سمعت سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل فقال: توفي وقريش تبني الكعبة، قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.
ولقد نزل به وإنه ليقول: أنا على دين إبراهيم، فأسلم ابنه سعيد بن زيد واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال:
((غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم)).
قال: فكان المسلمون بعد ذلك اليوم لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحم عليه واستغفر له. ثم يقول سعيد بن المسيب رحمه الله وغفر له.
وقال محمد بن سعد عن الواقدي: حدثني زكريا بن يحيى السعدي عن أبيه قال: مات زيد بن عمرو بن نفيل بمكة، ودفن بأصل حراء. وقد تقدم أنه مات بأرض البلقاء من الشام لما عدا عليه قوم من بني لخم، فقتلوه بمكان يقال له ميفعة، والله أعلم.
وقال الباغندي عن أبي سعيد الأشج، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين)).
وهذا إسناد جيد، وليس هو في شيء من الكتب.
ومن شعر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله، ما قدمناه في بدء الخلق من تلك القصيدة:
إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رضيا لا يني الدهر باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا
وقد قيل: إنها لأمية بن أبي الصلت، والله أعلم.
ومن شعره في التوحيد ما حكاه محمد بن إسحاق، والزبير بن بكار وغيرهما:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها * سواء وأرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سيقت إلى بلدة * أطاعت فصبت عليها سجالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الريح تصرف حالا فحالا
وقال محمد بن إسحاق: حدثني هشام بن عروة قال: روى أبي أن زيد بن عمرو قال: (ج/ص: 2/ 301)
أرب واحد أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعاً * كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني عمرو أزور
ولا غنما أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي يسير
عجبت وفي الليالي معجبات * وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالاً * كثيرا كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم * فيربل منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يعثر ثاب يوماً * كما يتروح الغصن النضير
ولكن أعبد الرحمن ربي * ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى الله ربكم احفظوها * متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان * وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا * يلاقوا ما تضيق به الصدور
هذا تمام ما ذكره محمد بن إسحاق من هذه القصيدة.
وقد رواه أبو القاسم البغوي عن مصعب بن عبد الله، عن الضحاك بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: قال هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال زيد بن عمرو بن نفيل:
عزلت الجن والجنان عني * كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني طسم أدير
ولا غنما أدين وكان رباً * لنا في الدهر إذ حلمي صغير
أرباً واحداً أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الأمور
ألم تعلم بأن الله أفنى * رجالا كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم * فيربو منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن النضير
قالت: فقال ورقة بن نوفل:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنوراً من النار حاميا
لدينك ربا ليس ربا كمثله * وتركك جنان الجبال كما هيا
أقول إذا أهبطت أرضا مخوفة * حنانيك لا تظهر علي الأعاديا
حنانيك أن الجن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا ورجائيا
لتدركن المرء رحمة ربه * وإن كان تحت الأرض سبعين واديا
أدين لرب يستجيب ولا أرى * أدين لمن لا يسمع الدهر واعيا
أقول إذا صليت في كل بيعة * تباركت قد أكثرت باسمك داعيا
(ج/ص: 2/ 302)
تقدم أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام، هو وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش فتنصروا، إلا زيداً، فإنه لم يدخل في شيء من الأديان، بل بقي على فطرته من عبادة الله وحده لا شريك له، متبعاً ما أمكنه من دين إبراهيم على ما ذكرناه.
وأما ورقة بن نوفل فسيأتي خبره في أول المبعث.
وأما عثمان بن الحويرث فأقام بالشام حتى مات فيها عند قيصر، وله خبر عجيب ذكره الأموي، ومختصره:
أنه لما قدم على قيصر فشكى إليه ما لقي من قومه، كتب له إلى ابن جفنة ملك عرب الشام ليجهز معه جيشاً لحرب قريش، فعزم على ذلك فكتبت إليه الأعراب تنهاه عن ذلك، لما رأوا من عظمة مكة وكيف فعل الله بأصحاب الفيل. فكساه ابن جفنة قميصاً مصبوغاً مسموماً فمات من سمه، فرثاه زيد بن عمرو بن نفيل بشعر ذكره الأموي تركناه اختصاراً. وكانت وفاته قبل المبعث بثلاث سنين أو نحوها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
شيء من الحوادث في زمن الفترة فمن ذلك بنيان الكعبة
وقد قيل: إن أول من بناه آدم. وجاء في ذلك حديث مرفوع عن عبد الله بن عمرو، وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف. وأقوى الأقوال أن أول من بناه الخليل عليه السلام، كما تقدم.
وكذلك رواه سماك بن حزب، عن خالد بن عرعرة، عن علي بن أبي طالب قال: ثم تهدم فبنته العمالقة، ثم تهدم فبنته جرهم، ثم تهدم فبنته قريش. قلت: سيأتي بناء قريش له، وذلك قبل المبعث بخمس سنين، وقيل بخمس عشرة سنة.
وقال الزهري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الحلم. وسيأتي ذلك كله في موضعه إن شاء الله وبه الثقة.
كعب بن لؤي
روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة، عن محمد بن طلحة التيمي، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة قال: كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة، وكانت قريش تسميه العروبة، فيخطبهم فيقول:
أما بعد فاسمعوا، وتعلموا، وافهموا، واعلموا، ليل ساج، ونهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، والأنثى والذكر والروح، وما يهيج إلى بلى، فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، فهل رأيتم من هالك رجع، أو ميت نشر، الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، حرمكم زينوه وعظموه وتمسكوا به، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم.
ثم يقول:
نهار وليل كل يوم بحادث * سواء علينا ليلها ونهارها
يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا * وبالنعم الضافي علينا ستورها
على غفلة يأتي النبي محمد * فيخبر أخباراً صدوق خبيرها
ثم يقول: والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل، ولأرقلت بها إرقال العجل، ثم يقول: (ج/ص: 2/ 303)
يا ليتني شاهدا نجواء دعوته * حين العشيرة تبغي الحق خذلانا
قال: وكان بين موت كعب بن لؤي ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة عام وستون سنة.
تجديد حفر زمزم
على يدي عبد المطلب بن هاشم، التي كان قد درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه.
قال محمد بن إسحاق: ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر، وكان أول ما ابتدأ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رزين الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها.
قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال لي: احفر طيبة. قال: قلت وما طيبة؟ قال ثم ذهب عني. قال فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فجاءني فقال: احفر برة. قال: قلت وما برة؟ قال ثم ذهب عني.
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت، فجاءني فقال: احفر المضنونة. قال: قلت وما المضنونة؟ قال ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني قال: احفر زمزم. قال: قلت وما زمزم؟
قال: لا تنزف أبداً ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل. قال: فلما بين لي شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ ولد غيره، فحفر، فلما بدا لعبد المطلب الطمي كبَّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته.
فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم. قالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم. قال: نعم وكانت بأشراف الشام.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم.
فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلاً واحداً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه.
فقالوا: نعما أمرت به. فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: ألقينا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض، لا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى أن يرزقنا ماء ببعض البلاد.
فارتحلوا حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستسقوا حتى ملئوا أسقيتهم. ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال، فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاؤوا فشربوا واستقوا كلهم. (ج/ص: 2/ 304)
ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا والله ما نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم.
قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم. قال ابن إسحاق: وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم:
ثم ادع بالماء الروي غير الكدر * يسقي حجيج الله في كل مبر
ليس يخاف منه شيء ما عمر
قال: فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش، فقال: تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم، قالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال: لا. قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يك حقا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك.
فرجع ونام فأتى فقيل له: احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم، وهي تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبداً ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم، وينذر فيها نادر بمنعم تكون ميراثاً وعقداً محكم، ليست لبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم.
قال ابن إسحاق: فزعموا أن عبد المطلب حين قيل له ذلك قال: وأين هي؟ قيل له: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال: فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره. زاد الأموي: ومولاه أصرم، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين أساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما، فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش وقالت: والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما.
فقال عبد المطلب لابنه الحارث: زد عنى حتى احفر فوالله لأمضين لما أمرت به. فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيراً حتى بدا له الطمي، فكبر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهم، ووجد فيها أسيافاً قلعية وأدرعاً.
فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق. قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له.
قالوا: أنصفت. فجعل للكعبة قدحين أصفرين، وله أسودين، ولهم أبيضين، ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل، وهبل أكبر أصنامهم، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل، يعني هذا الصنم. وقام عبد المطلب يدعو الله.
وذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل يقول: (ج/ص: 2/ 305)
اللهم أنت الملك المحمود * ربي أنت المبدئ المعيد
وممسك الراسية الجلمود * من عندك الطارف والتليد
إن شئت ألهمت كما تريد * لموضع الحلية والحديد
فبين اليوم لما تريد * إني نذرت العاهد المعهودا
أجعله رب لي فلا أعود
قال: وضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حلية للكعبة فيما يزعمون.
ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحاج. وذكر ابن إسحاق وغيره أن مكة كان فيها أبيار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبد المطلب. ثم عددها ابن إسحاق وسماها، وذكر أماكنها من مكة وحافريها إلى أن قال: فعفت زمزم على البئار كلها.
وانصرف الناس كلهم إليها، لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب.
وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث إسلام أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زمزم:
((إنها لطعام طعم وشفاء سقم)).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ماء زمزم لما شرب منه)).
وقد رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن المؤمل، وقد تكلموا فيه ولفظه: ((ماء زمزم لما شرب له)).
ورواه سويد بن سعيد عن عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ماء زمزم لما شرب له)).
ولكن سويد بن سعيد ضعيف، والمحفوظ عن ابن المبارك، عن عبد الله بن المؤمل، كما تقدم.
وقد رواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعاً: ((ماء زمزم لما شرب له)).
وفيه نظر، والله أعلم.
وهكذا روى ابن ماجه أيضاً، والحاكم عن ابن عباس أنه قال لرجل: إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة، واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثاً، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم)).
وقد ذُكر عن عبد المطلب أنه قال: اللهم إني لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل. وقد ذكره بعض الفقهاء عن العباس بن عبد المطلب، والصحيح أنه عن عبد المطلب نفسه، فإنه هو الذي جدد حفر زمزم كما قدمنا، والله أعلم.
وقد قال الأموي في مغازيه: حدثنا أبو عبيد، أخبرني يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أن عبد المطلب بن هاشم حين احتفر زمزم قال: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل. وذلك أنه جعل لها حوضين: حوضاً للشرب، وحوضاً للوضوء، فعند ذلك قال: لا أحلها لمغتسل لينزه المسجد عن أن يغتسل فيه.
قال أبو عبيد: قال الأصمعي قوله: وبل اتباع، قال أبو عبيد: والإتباع لا يكون بواو العطف، وإنما هو كما قال معتمر بن سليمان: أن بل بلغة حمير مباح.
ثم قال أبو عبيد: حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، أنه سمع ردا، أنه سمع العباس يقول: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل.
وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن علقمة، أنه سمع ابن عباس يقول ذلك، وهذا صحيح إليهما، وكأنهما يقولان ذلك في أيامهما على سبيل التبليغ والإعلام بما اشترطه عبد المطلب عند حفره لها، فلا ينافي ما تقدم، والله أعلم. (ج/ص: 2/ 306)
وقد كانت السقاية إلى عبد المطلب أيام حياته، ثم صارت إلى ابنه أبي طالب مدة، ثم اتفق أنه أملق في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف إلى الموسم الآخر، وصرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء، فقال لأخيه العباس: أسلفني أربعة عشر ألفاً أيضاً إلى العام المقبل، أعطيك جميع مالك.
فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لي أكفكها، فقال: نعم. فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطي العباس، فترك له السقاية فصارت إليه، ثم من بعده صارت إلى عبد الله ولده، ثم إلى علي بن عبد الله بن عباس، ثم إلى داود بن علي، ثم إلى سليمان بن علي، ثم إلى عيسى بن علي، ثم أخذها المنصور، واستناب عليها مولاه أبا رزين، ذكره الأموي.
نذر عبد المطلب ذبح ولده
قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب فيما يزعمون نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم، لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أحدهم لله عند الكعبة، فلما تكامل بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه: وهم الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله، جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله عز وجل بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟
قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحاً، ثم يكتب فيه اسمه، ثم ائتوني ففعلوا، ثم أتوه فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة، وهي الأزلام التي يتحاكمون إليها إذا أعضل عليهم أمر من عقل، أو نسب، أو أمر من الأمور جاؤوه فاستقسموا بها، فما أمرتهم به أو نهتهم عنه امتثلوه.
والمقصود أن عبد المطلب لما جاء يستقسم بالقداح عند هبل، خرج القدح على ابنه عبد الله وكان أصغر ولده وأحبهم إليه، فأخذ عبد المطلب بيد ابنه عبد الله وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا: ما تريد يا عبد المطلب؟
قال: أذبحه. فقالت له قريش، وبنوه أخوة عبد الله: والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يجيء بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا.
وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: أن العباس هو الذي اجتذب عبد الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه، فيقال: إنه شج وجهه شجاً لم يزل في وجهه إلى أن مات.
ثم أشارت قريش على عبد المطلب أن يذهب إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع، فيسألها عن ذلك، ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه فاذبحه، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه مخرج قبلته، فانطلقوا حتى أتوا المدينة فوجدوا العرافة - وهي سجاح - فيما ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق بخيبر، فركبوا حتى جاؤها فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه.
فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا من عندها، فلما خرجوا قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها. (ج/ص: 2/ 307)
فقالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل، وكانت كذلك.
قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم، وقربوا عشراً من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم، ونجا صاحبكم، فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل.
ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشراً، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشراً، فلم يزالوا يزيدون عشراً عشراً، ويخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت عند ذلك قريش لعبد المطلب وهو قائم عند هبل يدعو الله: قد انتهى رضي ربك يا عبد المطلب.
فعندها زعموا أنه قال: لا، حتى أضرب عليها بالقداح ثلاث مرات، فضربوا ثلاثاً، ويقع القدح فيها على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع.
قال ابن هشام: ويقال: ولا سبع.
وقد روي أنه لما بلغت الإبل مائة، خرج على عبد الله أيضاً فزادوا مائة أخرى حتى بلغت مائتين، فخرج القدح على عبد الله فزادوا مائة أخرى، فصارت الإبل ثلاثمائة، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فنحرها عند ذلك عبد المطلب، والصحيح الأول والله أعلم.
وقد روى ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب: أن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الإبل، وذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب، وسألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشيء بل توقف.
فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال: إنهما لم يصيبا الفتيا، ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير، ونهاها عن ذبح ولدها، ولم يأمرها بذبح الإبل، وأخذ الناس بقول مروان بذلك، والله أعلم.
تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية
قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذاً بيد ابنه عبد الله، فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أم قنال أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهي عند الكعبة، فنظرت إلى وجهه فقالت: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي. قالت: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن.
قال: أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، فخرج به عبد المطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو يومئذ سيد بني زهرة سناً وشرفاً، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة نساء قومها، فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه، فوقع عليها فحملت منه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس.
قالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك حاجة، وكانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - أنه كائن في هذه الأمة نبي فطمعت أن يكون منها، فجعله الله تعالى في أشرف عنصر، وأكرم محتد، وأطيب أصل كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام: 124]. (ج/ص: 2/ 308)
وسنذكر المولد مفصلاً، ومما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الأمر الذي رامته، وذلك فيما رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق رحمه الله:
عليك بآل زهرة حيث كانوا * وآمنة التي حملت غلاما
ترى المهدي حين نزا عليها * ونورا قد تقدمه أماما
إلى أن قالت:
فكل الخلق يرجوه جميعا * يسود الناس مهتدياً إماما
يراه الله من نور صفاه * فأذهب نوره عنا الظلاما
وذلك صنع ربك إذ حباه * إذا ما سار يوماً أو أقاما
فيهدي أهل مكة بعد كفر * ويفرض بعد ذلكم الصياما
وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي: حدثنا علي بن حرب، حدثنا محمد بن عمارة القرشي، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، حدثنا ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟
فقال عبد الله:
أما الحرام فالممات دونه * والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه * يحمي الكريم عرضه ودينه
ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة نبت وهب بن عبد مناف بن زهرة فأقام عندها ثلاثاً، ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة فأتاها فقالت: ما صنعت بعدي فأخبرها، فقالت: والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكني رأيت في وجهك نوراً فأردت أن يكون في، وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، ثم أنشأت فاطمة تقول:
إني رأيت مخيلة لمعت * فتلألأت بحناتم القطر
فلمأتها نوراً يضيء له * ما حوله كإضاءة البدر
ورجوتها فخراً أبوء به * ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهرية سلبت * ثوبيك ما استلبت وما تدري
وقالت فاطمة أيضاً: (ج/ص: 2/ 309)
بني هاشم قد غادرت من أخيكم * أمينة إذ للباه يعتركان
كما غادر المصباح عند خموده * فتائل قد ميثت له بدهان
وما كل ما يحوي الفتى من تلاده * بحزم ولا ما فاته لتواني
فأجمل إذا طالبت أمراً فإنه *سيكفيكه جدان يعتلجان
سيكفيكه إما يد مقفللة * وإما يد مبسوطة ببنان
ولما حوت منه أمينة ما حوت * حوت منه فخراً ما لذلك ثان
وروى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب (دلائل النبوة) من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن جعفر، عن ابن عون، عن المسور بن مخرمة، عن ابن عباس قال: إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود، قال: فقال لي رجل من أهل الديور - يعني أهل الكتاب - يا عبد المطلب: أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك.
قال: نعم إذا لم يكن عورة.
قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكاً، وفي الأخرى نبوة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة فكيف ذلك؟
قلت: لا أدري.
قال: هل لك من شاغة؟
قلت: وما الشاغة؟
قال: زوجة.
قلت: أما اليوم فلا.
قال: فإذا رجعت فتزوج فيهم.
فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت حمزة، وصفية. ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة: فلج أي: فاز وغلب عبد الله على أبيه عبد المطلب.
بسم الله الرحمن الرحيم: كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ولما سأل هرقل ملك الروم لأبي سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نسبه فيكم؟
قال: هو فينا ذو نسب.
قال: كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها - يعني في أكرمها أحساباً، وأكثرها قبيلة - صلوات الله عليهم أجمعين.
فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة أبو القاسم، وأبو إبراهيم، محمد، وأحمد، والماحي: الذي يمحى به الكفر، والعاقب: الذي ما بعده نبي، والحاشر: الذي يحشر الناس على قدميه، والمقفى، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، وخاتم النبيين، والفاتح، وطه، ويس، وعبد الله.
قال البيهقي: وزاد بعض العلماء فقال: سماه الله في القرآن رسولاً نبياً أميناً شاهداً مبشراً نذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، ورؤوفاً رحيماً، ومذكراً، وجعله رحمة ونعمة، وهادياً.
وسنورد الأحاديث المروية في أسمائه عليه الصلاة والسلام في باب نعقده بعد فراغ السيرة، فإنه قد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، اعتنى بجمعها الحافظان الكبيران أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم ابن عساكر. (ج/ص: 2/ 310)
وأفرد الناس في ذلك مؤلفات، حتى رام بعضهم أن يجمع له عليه الصلاة والسلام ألف اسم، وأما الفقيه الكبير أبو بكر ابن العربي المالكي، شارح الترمذي بكتابه الذي سماه (الأحوذي) فإنه ذكر من ذلك أربعة وستين اسماً، والله أعلم.
وهو ابن عبد الله، وكان أصغر ولد أبيه عبد المطلب، وهو الذبيح الثاني المفدى بمائة من الإبل كما تقدم.
قال الزهري: وكان أجمل رجال قريش، وهو أخو الحارث، والزبير، وحمزة، وضرار، وأبي طالب، واسمه: عبد مناف، وأبي لهب: واسمه عبد العزى، والمقوم: واسمه عبد الكعبة، وقيل: هما اثنان، وحجل: واسمه المغيرة، والغيداق: وهو كبير الجود، واسمه: نوفل، ويقال: إنه حجل. فهؤلاء أعمامه عليه الصلاة والسلام.
وعماته ست وهن: أروى، وبرة، وأميمة، وصفية، وعاتكة وأم حكيم - وهي البيضاء - وسنتكلم على كل منهم فيما بعد إن شاء الله تعالى.
كلهم أولاد عبد المطلب واسمه: شيبة. يقال: لشيبة كانت في رأسه، ويقال: له شيبة الحمد لجوده، وإنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشماً لما مر بالمدينة في تجارته إلى الشام، نزل على عمرو بن زيد بن لبيد بن حرام بن خداش بن خندف بن عدي بن النجار الخزرجي النجاري، وكان سيد قومه فأعجبته ابنته سلمى فخطبها إلى أبيها فزوجها منه، واشترط عليه مقامها عنده.
وقيل: بل اشترط عليه أن لا تلد إلا عنده بالمدينة، فلما رجع من الشام بنى بها، وأخذها معه إلى مكة، فلما خرج في تجارة أخذها معه وهي حبلى، فتركها بالمدينة ودخل الشام، فمات بغزة ووضعت سلمى ولدها فسمته شيبة، فأقام عند أخواله بني عدي بن النجار سبع سنين، ثم جاء عمه المطلب بن عبد مناف فأخذه خفية من أمه فذهب به إلى مكة، فلما رآه الناس ورأوه على الراحلة قالوا من هذا معك؟
فقال: عبدي. ثم جاؤا فهنؤه به، وجعلوا يقولون له: عبد المطلب لذلك، فغلب عليه وساد في قريش سيادة عظيمة، وذهب بشرفهم ورآستهم، فكان جماع أمرهم عليه، وكانت إليه السقاية والرفادة بعد المطلب، وهو الذي جدد حفر زمزم بعد ما كانت مطمومة من عهد جرهم، وهو أول من طلى الكعبة بذهب في أبوابها من تينك الغزالتين اللتين من ذهب، وجدهما في زمزم مع تلك الأسياف القلعية. (ج/ص: 2/ 311)
قال ابن هشام: وعبد المطلب أخو أسد، وفضلة، وأبي صيفي، وحية، وخالدة، ورقية، والشفاء، وضعيفة، كلهم أولاد هاشم واسمه: عمرو، وإنما سمي هاشماً: لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل، كما قال: مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته، وقيل: للزبعري والد عبد الله:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما * سفر الشتاء ورحلة الأصياف
وذلك لأنه أول من سن رحلتي الشتاء والصيف، وكان أكبر ولد أبيه.
وحكى ابن جرير: أنه كان تؤام أخيه عبد شمس، وأن هاشماً خرج ورجله ملتصقة برأس عبد شمس، فما تخلصت حتى سال بينهما دم، فقال الناس: بذلك يكون بين أولادهما حروب، فكانت وقعة بني العباس مع بني أمية بن عبد شمس سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة.
وشقيقهم الثالث: المطلب، وكان المطلب أصغر ولد أبيه، وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال.
ورابعهم: نوفل من أم أخرى وهي: واقدة بنت عمرو المازنية، وكانوا قد سادوا قومهم بعد أبيهم، وصارت إليهم الرياسة، وكان يقال لهم المجيرون، وذلك لأنهم أخذوا لقومهم قريش الأمان من ملوك الأقاليم ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم، فكان هاشم قد أخذ أماناً من ملوك الشام والروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس من النجاشي الأكبر ملك الحبشة، وأخذ لهم نوفل من الأكاسرة، وأخذ لهم المطلب أماناً من ملوك حمير، ولهم يقول الشاعر:
يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبد مناف
وكان إلى هاشم السقاية والرفادة بعد أبيه، وإليه وإلى أخيه المطلب نسب ذوي القربى، وقد كانوا شيئاً واحداً في حالتي الجاهلية والإسلام لم يفترقوا، ودخلوا معهم في الشعب وانخذل عنهم بنو عبد شمس ونوفل، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل
ولا يعرف بنو أب تباينوا في الوفاة مثلهم، فإن هاشماً مات بغزة من أرض الشام. (ج/ص: 2/ 312)
وعبد شمس مات بمكة، ونوفل مات بسلامان من أرض العراق، ومات المطلب وكان يقال له القمر لحسنه بريمان من طريق اليمن، فهؤلاء الأخوة الأربعة المشاهير وهم: هاشم، وعبد شمس، ونوفل، والمطلب، ولهم أخ خامس ليس بمشهور - وهو أبو عمرو واسمه: عبد، وأصل اسمه: عبد قصي.
فقال الناس: عبد بن قصي درج ولا عقب له، قاله الزبير بن بكار وغيره.
وأخوات ست وهن: تماضر، وحية، وريطة، وقلابة، وأم الأخثم، وأم سفيان، كل هؤلاء أولاد عبد مناف، ومناف اسم صنم، وأصل اسم عبد مناف المغيرة، وكان قد رأس في زمن والده، وذهب به الشرف كل مذهب، وهو أخو عبد الدار الذي كان أكبر ولد أبيه، وإليه أوصى بالمناصب كما تقدم.
وعبد العزى، وعبد، وبرة، وتخمر، وأمهم كلهم: حبى بنت حليل بن حبشي بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي، وأبوها آخر ملوك خزاعة، وولاة البيت منهم، وكلهم أولاد قصي واسمه: زيد. وإنما سمي بذلك لأن أمه تزوجت بعد أبيه بربيعة بن حزام بن عذرة فسافر بها إلى بلاده وابنها صغير فسمى قصيا لذلك.
ثم عاد إلى مكة وهو كبير، ولم شعث قريش وجمعها من متفرقات البلاد، وأزاح يد خزاعة عن البيت وأجلاهم عن مكة، ورجع الحق إلى نصابه، وصار رئيس قريش على الإطلاق، وكانت إليه الوفادة والسقاية، وهو سنها، والسدانة، والحجابة، واللواء، وداره دار الندوة كما تقدم بسط ذلك كله، ولهذا قال الشاعر:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
وهو أخو زهرة كلاهما ابنا كلاب أخي تيم، ويقظة أبي مخزوم ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي وهصيص، وهم أبناء كعب وهو الذي كان يخطب قومه كل جمعة، ويبشرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد في ذلك أشعاراً كما قدمنا، وهو أخو عامر، وسامة، وخزيمة، وسعد، والحارث، وعوف، سبعتهم أبناء لؤي أخي تيم الأدرم، وهما ابنا غالب أخي الحارث، ومحارب ثلاثتهم أبناء فهر، وهو أخو الحارث، وكلاهما ابن مالك، وهو أخو الصلت ويخلد، وهم بنو النضر الذي إليه جماع قريش على الصحيح كما قدمنا الدليل عليه.
وهو أخو مالك، وملكان، وعبد مناة وغيرهم، كلهم أولاد كنانة أخي أسد، وأسدة، والهون، أولاد خزيمة - وهو أخو هذيل - وهما: ابنا مدركة، واسمه: عمرو أخو طابخة، واسمه: عامر وقمعة، ثلاثتهم أبناء إلياس.
وأخي إلياس هو غيلان والد قيس كلها، وهما ولدا مضر أخي ربيعة. (ج/ص: 2/ 313)
ويقال لهما: الصريحان من ولد إسماعيل وأخواهما أنمار وإياد تيامناً، أربعتهم أبناء نزار أخي قضاعة في قول طائفة ممن ذهب إلى أن قضاعة حجازية عدنانية، وقد تقدم بيانه كلاهما أبناء معد بن عدنان.
وهذا النسب بهذه الصفة لا خلاف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتهون إلى هذا النسب. ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم، وصدق ابن عباس رضي الله عنه فيما قال وأزيد مما قال.
وذلك أن جميع قبائل العرب العدنانية تنتهي إليه بالآباء، وكثير منهم بالأمهات أيضاً، كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره في أمهاته وأمهات آبائه وأمهاتهم، ما يطول ذكره، وقد حرره ابن إسحاق رحمه الله، والحافظ ابن عساكر.
وقد ذكرنا في ترجمة عدنان نسبه، وما قيل فيه، وأنه من ولد إسماعيل لا محالة، وإن اختلف في كم بينهما أبا على أقوال قد بسطناها فيما تقدم، والله أعلم.
وقد ذكرنا بقية النسب من عدنان إلى آدم، وأوردنا قصيدة أبي العباس الناشئ المتضمنة ذلك، كل ذلك في أخبار عرب الحجاز، ولله الحمد.
وقد تلكم الإمام أبو جعفر ابن جرير رحمه الله في أول (تاريخه) على ذلك كلاماً مبسوطاً جيداً محرراً نافعاً، وقد ورد حديث في انتسابه عليه السلام إلى عدنان وهو على المنبر، ولكن الله أعلم بصحته.
كما قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ - ببغداد - حدثنا أبو عيسى بكار بن أحمد بن بكار، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى بن سعد - إملاء سنة ست وتسعين ومائتين - قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان القلانسي قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي قال:
حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن أنس بن مالك، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: (ج/ص: 2/ 314)
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالاً من كندة يزعمون أنهم منه وأنه منهم، فقال:
((إنما كان يقول ذلك العباس وأبو سفيان ابن حرب إذا قدما المدينة فيأمنا بذلك، وإنا لن ننتفي من آبائنا، نحن بنو النضر بن كنانة)).
قال وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نذار، وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرها، فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً)).
وهذا حديث غريب جداً من حديث مالك، تفرد به القدامى - وهو ضعيف - ولكن سنذكر له شواهد من وجوه أخر.
فمن ذلك قوله: ((خرجت من نكاح لا من سفاح)).
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي جعفر الباقر في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح)).
وهذا مرسل جيد.
وهكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، عن يحيى بن أبي بكير، عن عبد الغفار بن القاسم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله أخرجني من النكاح ولم يخرجني من السفاح)).
وقد رواه ابن عدي موصولاً فقال: حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا محمد بن أبي عمرو العدني المكي، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: أشهد على أبي، حدثني عن أبيه عن جده، عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء)).
هذا غريب من هذا الوجه، ولا يكاد يصح.
وقال هشيم: حدثنا المديني، عن أبي الحويرث، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ما ولدني من نكاح أهل الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام)).
وهذا أيضاً غريب أورده الحافظ ابن عساكر، ثم أسنده من حديث أبي هريرة، وفي إسناده ضعف والله أعلم.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن عمه الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ولدت من نكاح غير سفاح)).
ثم أورد ابن عساكر من حديث أبي عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 129] قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبياً.
ورواه عن عطاء.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحاً ولا شيئاً مما كان من أمر الجاهلية. (ج/ص: 2/ 315)
وثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه)).
وفي صحيح مسلم من حديث الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)).
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة قال: قال العباس بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس، فصعد المنبر فقال: ((من أنا؟))
قالوا: أنت رسول الله.
قال: ((أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً)). صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً إلى يوم الدين.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله إن قريشاً إذا التقوا لقي بعضهم بعضاً بالبشاشة، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك غضباً شديداً، ثم قال:
((والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله)).
فقلت: يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله عز وجل يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم، ثم لما فرقهم قبائل جعلني في خيرهم قبيلة، ثم حين جعل البيوت جعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً)). (ج/ص: 2/ 316)
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن ربيعة بن الحارث قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحو ما تقدم، ولم يذكر العباس.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثني يحيى بن عبد الحميد، حدثني قيس بن عبد الله، عن الأعمش، عن عليلة بن ربعي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً فذلك قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ..} و{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ..} فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثاً فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله تعالى: و{أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين.
ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة، فذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر.
ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً وذلك قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب)).
وهذا الحديث فيه غرابة ونكارة.
وروى الحاكم، والبيهقي من حديث محمد بن ذكوان - خال ولد حماد بن زيد - عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: إنا لقعود بفناء النبي صلى الله عليه وسلم، إذ مرت به امرأة فقال بعض القوم: هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو سفيان: مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال:
((ما بال أقوام تبلغني عن أقوام، إن الله خلق السماوات سبعاً فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم)).
هذا أيضاً حديث غريب.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)). (ج/ص: 2/ 317)
وروى الحاكم والبيهقي أيضاً: من حديث موسى بن عبيدة: حدثنا عمرو بن عبد الله بن نوفل، عن الزهري، عن أبي أسامة، أو أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((قال لي جبريل قلبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم)).
قال الحافظ البيهقي: وهذه الأحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به، فبعضها يؤكد بعضاً، ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع، والله أعلم.
قلت: وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي صلى الله عليه وسلم:
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها
فإن حصلت أشراف عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً * هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديماً لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
ونحمي حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أجحارها من يرومها
بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها
وقال أبو السكن زكريا بن يحيى الطائي في الجزء المنسوب إليه المشهور: حدثني عمر بن أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب قال: قال جدي خريم بن أوس هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه منصرف من تبوك، فأسلمت فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((قل لا يفضض الله فاك)).
فأنشأ يقول:
من قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر أنت * ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض * وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النور * وسبل الرشاد نخترق
وقد روي هذا الشعر لحسان بن ثابت. (ج/ص: 2/ 318)
فروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر من طريق أبي الحسن ابن أبي الحديد، أخبرنا محمد بن أبي نصر، أنا عبد السلام بن محمد بن أحمد القرشي، حدثنا أبو حصين محمد بن إسماعيل بن محمد التميمي، حدثنا محمد بن عبد الله الزاهد الخراساني، حدثني إسحاق بن إبراهيم بن سنان، حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني، حدثنا ورقاء بن عمر، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة؟
قال: فتبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: ((كنت في صلبه، وركب بي السفينة في صلب أبي نوح، وقذف بي في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق أبواي على سفاح قط، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة، صفتي مهدي لا ينشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما.
وقد أخذ الله بالنبوة ميثاقي، وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري، وبين كل نبي صفتي، تشرق الأرض بنوري، والغمام بوجهي، وعلمني كتابه، وزادني شرفاً في سمائه، وشق لي اسماً من أسمائه، فذو العرش محمود، وأنا محمد، وأحمد، ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر)).
قال ابن عباس: فقال حسان بن ثابت في النبي صلى الله عليه وسلم:
قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع يوم يخصف الورق
ثم سكنت البلاد لا بشر أنت * ولا نطفة ولا علق
مطهر تركب السفين وقد * ألجم نسراً وأهله الغرق
تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى طبق بدا طبق
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله حسانا)).
فقال علي بن أبي طالب: وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة.
ثم قال الحافظ ابن عساكر هذا حديث غريب جداً.
قلت: بل منكر جداً، والمحفوظ أن هذه الأبيات للعباس رضي الله عنه، ثم أوردها من حديث أبي السكن زكريا بن يحيى الطائي كما تقدم.
قلت: ومن الناس من يزعم أنها للعباس بن مرداس السلمي، فالله أعلم.
(تنبيه) قال القاضي عياض في كتابه (الشفاء): وأما أحمد الذي أتى في الكتب، وبشرت به الأنبياء فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره، ولا يدعى به مدعو قبله، حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب، أو شك. (ج/ص: 2/ 319)
وكذلك محمد لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم، إلى أن شاع قبل وجوده وميلاده أن نبياً يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك، رجاء أن يكون أحدهم هو {اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
وهم: محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن سلمة الأنصاري، ومحمد بن البراء الكندي، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمران الجعفي، ومحمد بن خزاعى السلمي. لا سابع لهم.
ويقال: إن أول من سمي محمداً محمد بن سفيان بن مجاشع. واليمن تقول: بل محمد بن ليحمد من الأزد، ثم إن الله حمى كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها له أحد، أو يظهر عليه سبب يشكل أحداً في أمره، حتى تحققت الشيمتان له صلى الله عليه وسلم لم ينازع فيهما، هذا لفظه.
باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولد صلوات الله عليه وسلامه يوم الاثنين لما رواه مسلم في صحيحه من حديث غيلان بن جرير بن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة أن أعرابياً قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الاثنين؟
فقال: ((ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه)).
وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن
خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين. تفرد به أحمد.
ورواه عمرو بن بكير، عن ابن لهيعة وزاد: نزلت سورة المائدة يوم الاثنين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به. وزاد أيضاً وكانت وقعة بدر يوم الاثنين.
وممن قال هذا يزيد بن حبيب، وهذا منكر جداً.
قال ابن عساكر: والمحفوظ أن بدراً، ونزول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يوم الجمعة. وصدق ابن عساكر.
وروى عبد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين.
وهكذا روي من غير هذا الوجه عن ابن عباس أنه ولد يوم الاثنين، وهذا ما لا خلاف فيه أنه ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وأبعد بل أخطأ من قال: ولد يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من ربيع الأول. نقله الحافظ ابن دحية فيما قرأه في كتاب (أعلام الروي بأعلام الهدى) لبعض الشيعة. (ج/ص: 2/ 320)
ثم شرع ابن دحية في تضعيفه وهو جدير بالتضعيف إذ هو خلاف النص، ثم الجمهور على أن ذلك كان في شهر ربيع الأول، فقيل: لليلتين خلتا منه، قاله ابن عبد البر في (الاستيعاب) ورواه الواقدي، عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني.
وقيل: لثمان خلون منه، حكاه الحميدي، عن ابن حزم، ورواه مالك، وعقيل، ويونس بن يزيد، وغيرهم، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، ونقل ابن عبد البر عن أصحاب التاريخ أنهم صححوه، وقطع به الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي، ورجحه الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه (التنوير في مولد البشير النذير)
وقيل: لعشر خلون منه، نقله ابن دحية في كتابه، ورواه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر، ورواه مجالد عن الشعبي كما مر.
وقيل: لثنتي عشرة خلت منه، نص عليه ابن إسحاق، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن عفان، عن سعيد بن مينا، عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثامن عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات، وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم.
وقيل: لسبعة عشر خلت منه، كما نقله ابن دحية عن بعض الشيعة.
وقيل: لثمان بقين منه، نقله ابن دحية من خط الوزير أبي رافع بن الحافظ أبي محمد بن حزم عن أبيه. والصحيح عن ابن حزم الأول أنه: لثمان مضين منه، كما نقله عنه الحميدي وهو أثبت.
والقول الثاني: أنه ولد في رمضان، نقله ابن عبد البر عن الزبير بن بكار، وهو قول غريب جداً، وكان مستنده أنه عليه الصلاة والسلام أوحى إليه في رمضان بلا خلاف، وذلك على رأس أربعين سنة من عمره، فيكون مولده في رمضان، وهذا فيه نظر والله أعلم.
وقد روى خيثمة بن سليمان الحافظ، عن خلف بن محمد كردوس الواسطي، عن المعلى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول، وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول، وهذا غريب جداً، رواه ابن عساكر.
قال الزبير بن بكار: حملت به أمه في أيام التشريق في شعب أبي طالب، عند الجمرة الوسطى. وولد بمكة بالدار المعروفة بمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عثمان بن عقبة بن مكرم، عن المسيب بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء في المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.
وذكر غيره أن الخيزران وهي أم هارون الرشيد لما حجت أمرت ببناء هذه الدار مسجداً، فهو يعرف بها اليوم.
وذكر السهيلي أن مولده عليه الصلاة والسلام كان في العشرين من نيسان، وهذا أعدل الزمان والفصول وذلك لسنة اثنتين وثمانين وثمانمائة لذي القرنين، فيما ذكر أصحاب الزيج. وزعموا أن الطالع كان لعشرين درجة من الجدي، وكان المشتري وزحل مقترنين في ثلاث درج من العقرب، وهي درجة وسط السماء، وكان موافقاً من البروج الحمل، وكان ذلك عند طلوع القمر أول الليل. نقله كله ابن دحية والله أعلم. (ج/ص: 2/ 321)
قال ابن إسحاق: وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل، وهذا هو المشهور عن الجمهور.
قال إبراهيم بن المنذر الحزامي - وهو الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا - أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل، وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل.
وقد رواه البيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كنا لدين قال: وسأل عثمان رضي الله عنه قباث بن أشيم أخا بني يعمر بن ليث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أقدم منه في الميلاد.
ورأيت خزق الفيل أخضر محيلاً.
ورواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق به.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عكاظ ابن عشرين سنة.
وقال ابن إسحاق: كان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة، وكان بناء الكعبة بعد الفجار بخمسة عشر سنة، والمبعث بعد بنائها بخمس سنين.
وقال محمد بن جبير بن مطعم: كانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وبناء الكعبة بعد عكاظ بعشر سنين، والمبعث بعد بنائها بخمس عشرة سنة.
وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد العزيز بن أبي ثابت المديني: حدثنا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه.
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلاً أعقله، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال، حدثنا نعيم يعني - ابن ميسرة - عن بعضهم، عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا لدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدت عام الفيل.
قال البيهقي: وقد روي عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين.
قال يعقوب: وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت بعده عكاظ بخمس عشرة سنة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة من الفيل.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل على قول الجمهور، فقيل: بعده بشهر، وقيل: بأربعين يوماً، وقيل: بخمسين يوماً - وهو أشهر -.
وعن أبي جعفر الباقر: كان قدوم الفيل للنصف من المحرم، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة.
وقال آخرون: بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، قاله ابن أبزى، وقيل: بثلاث وعشرين سنة. (ج/ص: 2/ 322)
رواه شعيب بن شعيب عن أبيه، عن جده كما تقدم.
وقيل: بعد الفيل بثلاثين سنة. قاله موسى بن عقبة عن الزهري رحمه الله، واختاره موسى بن عقبة أيضاً رحمه الله.
وقال أبو زكريا العجلاني: بعد الفيل بأربعين عاماً. رواه ابن عساكر، وهذا غريب جداً. وأغرب منه ما قال خليفة بن خياط: حدثني شعيب بن حبان، عن عبد الواحد بن أبي عمرو، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة.
وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضاً، قال خليفة بن خياط والمجتمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل.
صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام
قد تقدم أن عبد المطلب لما ذبح تلك الإبل المائة عن ولده عبد الله حين كان نذر ذبحه، فسلمه الله تعالى لما كان قدر في الأزل من ظهور النبي الأمي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وسيد ولد آدم من صلبه، فذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية. فحين دخل بها وأفضى إليها حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور، فودت أن يكون ذلك متصلاً بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه قال بعضهم ليتزوجها وهو أظهر والله أعلم.
فامتنع عليها، فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنه تندم على ما كانت عرضت عليه، فتعرض لها لتعاوده فقالت: لا حاجة لي فيك، وتأسفت على ما فاتها من ذلك، وأنشدت في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ.
قصة بحيرا
حكى السهيلي عن سير الزهري أن بحيرى كان حبراً من أحبار اليهود.
قلت: والذي يظهر من سياق القصة أنه كان راهباً نصرانياً، والله أعلم.
وعن المسعودي أنه كان من عبد القيس، وكان اسمه جرجيس. وفي كتاب (المعارف) لابن قتيبة: سمع هاتف في الجاهلية قبل الإسلام بقليل يهتف ويقول: ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة: بحيرى، ورئاب بن البراء الشني، والثالث المنتظر. وكان الثالث المنتظر هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قتيبة: وكان قبر رئاب الشني وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش، وهو المطر الخفيف.
فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام.
في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله له وحياطته وكيف كان يتيماً فآواه وعائلاً فأغناه.
قال محمد بن إسحاق: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزهاً وتكرماً، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال:
((لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شدَّ عليه إزارك.
قال: فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي)).
وهذه القصة شبيهة بما في (الصحيح) عند بناء الكعبة، حين كان ينقل هو وعمه العباس، فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم. (ج/ص: 2/ 350)
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة، فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء.
ثم قام فقال: ((إزاري)).
فشد عليه إزاره.
أخرجاه في (الصحيحين) من حديث عبد الرزاق.
وأخرجاه أيضاً: من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن جابر بنحوه.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، حدثني ابن عباس، عن أبيه: أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت، حين بنت قريش البيت.
قال: وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشيد، قال: فكنت أنا وابن أخي، وكنا نحمل على رقابنا، وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس أئتزرنا، فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي، قال: فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء فقلت:، ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره قال:
((إني نهيت أن أمشي عرياناً)).
قال: وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون.
وروى البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ج/ص: 2/351)
((ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما، قلت: ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها - فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي، حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى. قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفاً بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟
قالوا: تزوج فلان فلانة.
فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟
فقلت: ما فعلت شيئاً، ثم أخبرته بالذي رأيت.
ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة ففعل، فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت: فقيل نكح فلان فلانة فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي.
فقال: ما فعلت؟
فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته)).
وهذا حديث غريب جداً، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في آخره:
((حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته)) مقحماً، والله أعلم.
وشيخ ابن إسحاق هذا، ذكره ابن حبان في الثقات، وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح. قال شيخنا في تهذيبه: ولم أقف على ذلك، والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي: حدثني أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة قال:
كان صنم من نحاس، يقال له: أساف ونائلة، يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمسه)).
قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تنه)).
قال البيهقي: زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده، قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنماً قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه، وأنزل عليه.
وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرى حين سأله باللات والعزى: ((لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئاً بغضهما))
فأما الحديث الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد ابن عدي الحافظ، حدثنا إبراهيم بن أسباط، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن سفيان الثوري، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (ج/ص: 2/ 352)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم قال: فسمع ملكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام؟
قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم.
فهو حديث أنكره غير واحد من الأئمة على عثمان بن أبي شيبة، حتى قال الإمام أحمد فيه: لم يكن أخوه يتلفظ بشيء من هذا.
وقد حكى البيهقي عن بعضهم أن معناه: أنه شهد مع من يستلم الأصنام، وذلك قبل أن يوحى إليه، والله أعلم.
وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه الله برسالته. وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة، بل كان يقف مع الناس بعرفات، كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير قال:
لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه، حتى يدفع معهم توفيقاً من الله عز وجل له.
قال البيهقي: معنى قوله: (على دين قومه) ما كان بقي من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في حجهم و مناكحهم و بيوعهم دون الشرك، ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائماً.
قلت: ويفهم من قوله هذا أيضاً أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه. وهذا توفيق من الله له.
ورواه الإمام أحمد عن يعقوب، عن محمد بن إسحاق به، ولفظه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه، وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات، حتى يدفع معهم توفيقاً من الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أضللت بعيراً لي بعرفة، فذهبت أطلبه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف فقلت: إن هذا من الحمس ما شأنه ههنا؟ وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة به. (ج/ص: 2/ 353)
شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار
قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وإنما سمي يوم الفجار بما استحل فيه هذان الحيان - كنانة وقيس عيلان - من المحارم بينهم.
وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس.
وقال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة - أو خمس عشرة سنة - فيما حدثني به أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء: هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة، وبين قيس عيلان، وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة - أي تجارة - للنعمان بن المنذر.
فقال له البراض بن قيس - أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة -: أتجيزها على كنانة؟ قال: نعم، وعلى الخلق. فخرج فيها عروة الرحال، وخرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية، غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمي الفجار.
وقال البراض في ذلك:
وداهية تهم الناس قبلي * شددت لها بني بكر ضلوعي
هدمت بها بيوت بني كلاب * وأرضعت الموالي بالضروع
رفعت له بذي طلال كفي * فخر يميد كالجذع الصريع
(ج/ص: 2/ 354)
وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب:
وأبلغ - إن عرضت - بني كلاب * وعامر والخطوب لها موالي
وأبلغ - إن عرضت - بني نمير * وأخوال القتيل بني هلال
بأن الوافد الرحال أمسى * مقيماً عند تيمن ذي طلال
قال ابن هشام: فأتى آت قريشاً، فقال: إن البراض قد قتل عروة، وهو في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم، ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، فدخلوا الحرم فأمسكت هوازن عنهم، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياماً، والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم.
قال: وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كنت أنبل على أعمامي)) أي: أرد عليهم نبل عدوهم، إذا رموهم بها.
قال ابن هشام: وحديث الفجار طويل، هو أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال السهيلي: والفجار بكسر الفاء، على وزن: قتال، وكانت الفجارات في العرب أربعة، ذكرهن المسعودي، وآخرهن فجار البرض هذا. وكان القتال فيه في أربعة أيام: يوم شمطة، ويوم العبلاء، وهما عند عكاظ، ويوم الشرب - وهو أعظمها يوماً - وهو الذي حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قيدا رئيس قريش وبني كنانة: وهما حرب بن أمية، وأخوه سفيان أنفسهما لئلا يفروا.
وانهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر، فإنهم ثبتوا، ويوم الحريرة عند نخلة، ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ، فلما توافوا الموعد، ركب عتبة بن ربيعة جمله ونادى: يا معشر مضر علام تقاتلون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح. قالوا: وكيف؟ قال: ندي قتلاكم، ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا.
قالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: أنا. قالوا: ومن أنت؟ قال: عتبة بن ربيعة، فوقع الصلح على ذلك، وبعثوا إليهم أربعين رجلاً فيهم حكيم بن حزام، فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم، عفوا عن دياتهم وانقضت حرب الفجار.
وقد ذكر الأموي حروب الفجار، وأيامها، واستقصاها مطولاً، فيما رواه عن الأثرم - وهو المغيرة بن علي - عن أبي عبيدة معمر بن المثنى فذكر ذلك.
فصل شهود رسول الله عليه الصلاة والسلام حلف المطيبين مع عمومته.
قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، حدثنا يحيى بن علي بن هاشم الخفاف، حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي، حدثنا إسماعيل بن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال: (ج/ص: 2/ 355)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه - أو كلمة نحوها - وإن لي حمر النعم)).
قال: وكذلك رواه بشر بن المفضل عن عبد الرحمن.
قال: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، حدثنا أبو عمرو ابن مطر، حدثنا أبو بكر ابن أحمد بن داود السمناني، حدثنا معلى بن مهدي، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما شهدت حلفاً لقريش إلا حلف المطيبين وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته)).
قال: والمطيبون: هاشم، وأمية، وزهرة، ومخزوم.
قال البيهقي: كذا روى هذا التفسير مدرجاً في الحديث، ولا أدري قائله، وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين.
قلت: هذا لا شك فيه، وذلك أن قريشاً تحالفوا بعد موت قصي، وتنازعوا في الذي كان جعله قصي لابنه عبد الدار من السقاية، والرفادة، واللواء، والندوة، والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف، وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش وتحالفوا على النصرة لحزبهم، فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا، فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت، فسموا المطيبين كما تقدم.
وكان هذا قديماً، ولكن المراد بهذا الحلف حلف الفضول، وكان في دار عبد الله بن جدعان، كما رواه الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله، عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وألا يعد ظالم مظلوما)).
قالوا: وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي القعدة، وكان بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وذلك لأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة، وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب. (ج/ص: 2/ 356)
وكان سببه أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار، ومخزوماً، وجمحاً، وسهماً، وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه أي: انتهروه.
فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس -وقريش في أنديتهم حول الكعبة - فنادى بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته * يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن أثت كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا متروك؟ فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاماً وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وما رسى ثبير وحراء مكنهما، وعلى التأسي في المعاش.
فسمت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.
وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك:
حلفت لنعقدن حلفاً عليهم * وإن كنا جميعاً أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا * يعزبه الغريب لذي الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا * أباة الضيم نمنع كل عار
وقال الزبير أيضاً:
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا * ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا * فالجار والمعتر فيهم سالم
وذكر قاسم بن ثابت في - غريب الحديث - أن رجلاً من خثعم قدم مكة حاجاً - أو معتمراً - ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه.
فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل؟ (ج/ص: 2/ 357)
فقيل له: عليك بحلف الفضول.
فوقف عند الكعبة ونادى: يا آل حلف الفضول، فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم، يقولون: جاءك الغوث فما لك؟
فقال: إن نبيهاً ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسراً، فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم فقالوا له: أخرج الجارية ويحك فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه، فقال: أفعل ولكن متعوني بها الليلة. فقالوا: لا والله ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم وهو يقول:
راح صحبي ولم أحيي القتولا * لم أودعهم وداعاً جميلا
إذ أجد الفضول أن يمنعوها * قد أراني ولا أخاف الفضولا
لا تخالي أني عشية راح الركب * هنتم علي أن لا يزولا
وذكر أبياتاً أخر غير هذه، وقد قيل: إنما سمي هذا حلف الفضول لأنه أشبه حلفاً تحالفته جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظالمه، وكان الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم، اسم كل واحد منهم فضل، وهم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث، هذا قول ابن قتيبة.
وقال غيره: الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة. وقد أورد السهيلي هذا رحمه الله.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: وتداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكان حلفهم عنده بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها، وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى يرد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعي به في الإسلام لأجبت)).
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه: أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير المدنية أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان - منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه.
فقال له الحسين: احلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول. (ج/ص: 2/ 358)
قال: فقال عبد الله بن الزبير - وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال - وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعاً.
قال: وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد
قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال على مالها مضاربة، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجراً إلى الشام، وتعطيه أفضل ما تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة.
فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم.
فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته - يعني تجارته - التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريباً.
وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها، فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها، بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له - فيما يزعمون - يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، وكانت أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً، كل قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه.
فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام. (ج/ص: 2/ 359)
قال ابن هشام: فأصدقها عشرين بكرة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
قال ابن إسحاق: فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم: القاسم - وكان به يكنى - والطيب، والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
قال ابن هشام: أكبرهم القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر.
وأكبر بناته: رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة.
قال البيهقي، عن الحاكم: قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: أكبر ولده عليه الصلاة والسلام: القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وكان أول من مات من ولده القاسم مات بمكة، ثم عبد الله.
وبلغت خديجة خمساً وستين سنة، ويقال خمسين وهو أصح.
وقال غيره: بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة، ثم مات بعد النبوة، وقيل مات وهو رضيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن له مرضعاً في الجنة يستكمل رضاعه)).
والمعروف أن هذا في حق إبراهيم.
وقال يونس بن بكير: حدثنا إبراهيم بن عثمان، عن القاسم، عن ابن عباس قال: ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع نسوة: القاسم، وعبد الله، وفاطمة، وأم كلثوم، وزينب، ورقية.
وقال الزبير بن بكار: عبد الله هو الطيب، وهو الطاهر، سمي بذلك لأنه ولد بعد النبوة، فماتوا قبل البعثة. (ج/ص: 2/ 360)
وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الإسلام، وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: وأما إبراهيم فمن مارية القبطية، التي أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية من كورة أنصنا، وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك، في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قال ابن هشام: وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة، فيما حدثني غير واحد من أهل العلم منهم: أبو عمرو المدني.
وقال يعقوب بن سفيان كتبت عن إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني غير واحد: أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره خمساً وعشرين سنة، وقريش تبني الكعبة.
وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم: أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة، وكان عمرها إذ ذاك خمساً وثلاثين، وقيل: خمساً وعشرين سنة.
وقال البيهقي:
باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن عبد الله، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عمرو بن أبي يحيى بن سعيد القرشي، عن جده سعيد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم)).
فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟
قال: ((وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط)).
رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي، عن عمرو بن يحيى به. (ج/ص: 2/ 361)
ثم روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر - وهو ضعيف - عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص)).
وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو - أظنه - قال: سكران.
ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين ابن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني عبد الله بن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن مقسم بن أبي القاسم - مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل - أن عبد الله بن الحارث حدثه:
أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت له ترباً، وكنت له إلفاً وخدناً.
وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة، أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة.
قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته، فقال: ((بل لعمري)).
فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا أبا خديجة حلة وصفرت لحيته، وكلمت أخاها، فكلم أباه، وقد سقى خمراً، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه، وسألته أن يزوجه فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاماً فأكلنا منه.
ونام أبوها ثم استيقظ صاحياً فقال: ما هذه الحلة؟ وما هذه الصفرة وهذا الطعام؟
فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عماراً: هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة، فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء الحجر، وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاؤه فكلموه.
فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة؟ فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته.
وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران، وذكر نحو ما تقدم، حكاه السهيلي.
قال المؤملي: المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه، وهذا هو الذي رجحه السهيلي، وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت: (ج/ص: 2/ 362)
وكان خويلد مات قبل الفجار، وهو الذي نازع تبعاً حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش، ثم رأى تبع في منامه ما روعه، فنزع عن ذلك وترك الحجر الأسود مكانه.
وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة: أن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم.
==فصل ذكر خديجة لورقة بن نوفل عن النبي عليه الصلاة والسلام==
قال ابن إسحاق: وقد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي - وكان ابن عمها وكان نصرانياً قد تتبع الكتب، وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه - فقال ورقة: لئن كان هذا حقاً يا خديجة، إن محمداً لنبي هذه الأمة قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه - أو كما قال - فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى؟ وقال في ذلك:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لهمٍّ طالما ما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف * فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس * من الرهبان أكر أن يعوجا
بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور * يقوم به البرية أن تموجا
فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتني إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا
(ج/ص: 2/ 363)
وَلوجاً في الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجي بالذي كرهوا جميعاً * إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
وهل أمر السفالة غير كفر * بمن يختار من سمك البروجا
فإن يبقوا وأبق يكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى * من الأقدار متلفة خروجا
وقال ورقة أيضاً فيما رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عنه:
أتبكر أم أنت العشية رائح * وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم * كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد * يخبرها عنه إذا غاب ناصح
أتاك الذي وجهت يا خير حرة * بغور وبالنجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت * وهن من الأحمال تعص دوالح
فيخبرنا عن كل خير بعلمه * وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل * إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤي وغالب * شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الأرض العريضة سائح
وزاد الأموي:
فمتبع دين الذي أسس البنا *وكان له فضل على الناس راجح
وأسس بنيانا بمكة ثابتا * تلألأ فيه بالظلام المصابح
مثاباً لأفناء القبائل كلها * تخب إليه اليعملات الطلائح
حراجيج أمثال القداح من السرى * يعلق في أرساغهن السرايح
(ج/ص: 2/364)
ومن شعره فيما أورده أبو القاسم السهيلي في (روضه)
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم * أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم * فإن دعوكم فقولوا بيننا حداد
سبحان ذي العرش سبحاناً يدوم له * وقبلنا سبح الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له * لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد
لا شيء مما نرى تبقى بشاشته * يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح به * والجن والإنس فيما بينها مرد
أين الملوك التي كانت لعزتها * من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب * لا بد من ورده يوماً كما وردوا
ثم قال: هكذا نسبه أبو الفرج إلى ورقة قال: وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت.
قلت: وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستشهد في بعض الأحيان بشيء من هذه الأبيات، والله أعلم.
فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين
ذكر البيهقي في بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة، والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين. (ج/ص: 2/ 365)
ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته، وأورد حديث ابن عباس المتقدم في صحيح البخاري، وذكر ما ورد من الإسرائيليات في بنائه في زمن آدم ولا يصح ذلك.
فإن ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم أول من بناه مبتدئاً، وأول من أسسه، وكانت بقعته معظمة قبل ذلك، معتنى بها مشرفة في سائر الأعصار والأوقات. قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 96-97].
وثبت في الصحيحين عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع أول؟
قال: ((المسجد الحرام)).
قلت: ثم أي؟
قال: ((المسجد الأقصى)).
قلت: كم بينهما؟
قال: ((أربعون سنة)).
وقد تكلمنا على هذا فيما تقدم. وإن المسجد الأقصى أسسه إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام -
وفي الصحيحين أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن مهران، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: كان البيت قبل الأرض بألفي سنة {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] قال: من تحته مدت.
قال: وقد تابعه منصور عن مجاهد.
قلت: وهذا غريب جداً، وكأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك، وكان فيهما إسرائيليات يحدث منها، وفيهما منكرات وغرائب.
ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثنا أبو صالح الجهني، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتاً، فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به، وقيل له أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه)).
قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعاً.
قلت: وهو ضعيف، ووقفه على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت، والله أعلم. (ج/ص: 2/ 366)
وقال الربيع بن سليمان: أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان، عن ابن أبي لبيد، عن محمد بن كعب القرظي - أو غيره - قال: حج آدم فلقيته الملائكة فقالوا: بر نسكك يا آدم، لقد حججنا قبلك بألفي عام.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني بقية - أو قال ثقة - من أهل المدينة، عن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح.
قلت: وقد قدمنا حجهما إليه، والمقصود الحج إلى محله وبقعته، وإن لم يكن ثم بناء، والله أعلم.
ثم أورد البيهقي حديث ابن عباس المتقدم في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله وتمامه، وهو في صحيح البخاري.
ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال: سأل رجل علياً عن قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} أهو أول بيت بني في الأرض؟
قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس والهدى ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا، وإن شئت نبأتك كيف بناؤه:
إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتاً في الأرض، فضاق به ذرعاً، فأرسل إليه السكينة، وهي ريح خجوج لها رأس فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت، ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية، فبنى إبراهيم وكان يبني هو ساقاً كل يوم حتى بلغ مكان الحجر قال لابنه: ابغني حجراً، فالتمس حجراً حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد ركب، فقال لأبيه: من أين لك هذا؟
قال: جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء فأتمه، قال فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ رجل شاب، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: نحكِّم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط، ثم ترفعه جميع القبائل كلهم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، وقيس، وسلام كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي بن أبي طالب قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه.
قال يعقوب بن سفيان: أخبرني أصبغ بن فرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم جمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها، حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن، اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه، فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا. (ج/ص: 2/ 367)
فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه، فكان لا يزداد على السن الأرضي حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا لا ينحرون جزوراً إلا التمسوه، فيدعو لهم فيها.
وهذا سياق حسن وهو من سير الزهري، وفيه من الغرابة قوله: فلما بلغ الحلم، والمشهور أن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمره خمس وثلاثون سنة، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله.
وقال موسى بن عقبة: كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة، وهكذا قال مجاهد، وعروة، ومحمد بن جبير بن مطعم وغيرهم، فالله أعلم.
وقال موسى بن عقبة: كان بين الفجار، وبين بناء الكعبة خمس عشرة سنة.
قلت: وكان الفجار وحلف الفضول في سنة واحدة، إذ كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة، وهذا يؤيد ما قال محمد بن إسحاق، والله أعلم.
قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشاً على بنائها أن السيول كانت تأتي من فوقها، من فوق الردم الذي صفوه، فخر به فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له: مليح، سرق طيب الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها، وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا، فأعدوا لذلك نفقة وعمالاً، ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم الذي أرادوا، فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئاً هو الوليد بن المغيرة.
فلما رأوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها فأعجبهم ذلك، فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم، فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم، فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها، فأشفقوا منها شفقة شديدة، وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة.
وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس، وشرفاً لهم، فلما سقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم، قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان من نصحه لهم، وأمره إياهم أن لا يتشاجروا، ولا يتحاسدوا في بنائها، وأن يقتسموها أرباعاً، وأن لا يدخلوا في بنائها مالاً حراماً. (ج/ص: 2/ 368)
وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء، وتغيبت عنهم، ورأوا أن ذلك من الله عز وجل. قال: ويقول بعض الناس: إنه اختطفها طائر، وألقاها نحو أجياد.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة، فقطعت قريش يده، وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها.
قال الأموي: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم، تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد، سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس للحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة، بعث الله عليها ريحاً فحطمتها.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى إليها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها.
فبينما هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رقيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
وحكى السهيلي عن رزين: أن سارقاً دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها، فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه، وأخذوا منه ما كان أخذه، ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي، وبطنها أبيض، وظهرها أسود، فأقامت فيها خمسمائة عام، وهي التي ذكرها محمد بن إسحاق.
قال محمد بن إسحاق: فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها، قام أبو وهب عمرو بن عابد بن عبد بن عمران بن مخزوم - وقال ابن هشام - عابد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجراً، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم. (ج/ص: 2/ 369)
ثم رجح ابن إسحاق أن قائل ذلك: أبو وهب بن عمرو، قال: وكان خال أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شريفاً ممدحاً.
وقال ابن إسحاق: ثم أن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى، ولبني عدي بن كعب - وهو الحطيم -
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا من هدمها.
فأصبح الوليد غدياً على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة أخذ بعضها بعضاً - ووقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان كأسنمة الإبل -
قال السهيلي: وأرى رواية السيرة كالألسنة وهماً، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس.
وقال موسى بن عقبة: وزعم عبد الله بن عباس: أن أولية قريش كانوا يحدثون أن رجلاً من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة وانتهوا إلى تأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، عمد رجل منهم إلى حجر من الأساس الأول، فرفعه وهو لا يدري أنه من الأساس الأول. (ج/ص: 2/ 370)
فأبصر القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل، ونزا الحجر من يده فوقع في موضعه، وفزع الرجل والبناة.
فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه، عادوا إلى بنيانهم وقالوا: لا تحركوا هذا الحجر، ولا شيئاً بحذائه.
قال ابن إسحاق: وحُدثت أن قريشاً وجدوا في الركن كتاباً بالسريانية فلم يعرفوا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها - قال ابن هشام: يعني جبلاها - مبارك لأهلها في الماء واللبن.
قال ابن إسحاق: وحُدثت أنهم وجدوا في المقام كتاباً فيه: مكة بيت الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.
قال: وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة - إن كان ما ذكر حقاً -مكتوباً فيه: من يزرع خيراً يحصد غبطة، ومن يزرع شراً يحصد ندامة، يعملون السيئات ويجزون الحسنات؟! أجل، كما يجتنى من الشوك العنب.
وقال سعيد بن يحيى الأموي: حدثنا المعتمر بن سليمان الرقي، عن عبد الله بن بشر الزهري - يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال: وجد في المقام ثلاثة أصفح:
في الصفح الأول: إني أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لأهلها في اللحم واللبن.
وفي الصفح الثاني: إني أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته.
وفي الصفح الثالث: إني أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر وقدرته، فطوبى لمن أجريت الخير على يديه، وويل لمن أجريت الشر على يديه.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحارروا أو تحالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً. ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم.
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلها - قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أول داخل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ج/ص: 2/ 371)
فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلموا إلي ثوباً)).
فأُتي به، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال:
((لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً)).
ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأمين).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت - يعني أبا يزيد - حدثنا هلال - يعني ابن حبان - عن مجاهد، عن مولاه - وهو السائب بن عبد الله - أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال: وكان لي حجر - أنا نحته أعبده من دون الله - قال: وكنت أجيء باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي، فأصبه عليه، فيجيء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول عليه.
قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر، ولا يرى الحجر أحد، فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل، يكاد يترايا منه وجه الرجل. فقال: بطن من قريش نحن نضعه. وقال آخرون: نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكماً. فقالوا: أول رجل يطلع من الفج.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الأمين، فقالوا له فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة ذراعاً، وكانت تكسى القباطي، ثم كسيت بعد البرور، وأول من كساها الديباج: الحجاج بن يوسف.
قلت: وقد كانوا أخرجوا منها الحجر - وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام - قصرت بهم النفقة أي: لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم. (ج/ص: 2/ 372)
وجعلوا للكعبة باباً واحداً من ناحية الشرق، وجعلوه مرتفعاً لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا.
وقد ثبت في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة، ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها باباً شرقياً، وباباً غربياً، وأدخلت فيها الحجر)).
ولهذا لما تمكن ابن الزبير، بناها على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت في غاية البهاء والحسن والسناء كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملتصقان بالأرض شرقياً وغربياً، يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر.
فلما قتل الحجاج ابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان - وهو الخليفة يومئذ - فيما صنعه ابن الزبير، واعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه، فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه، وأخرجوا منه الحجر ورصوا حجارته في أرض الكعبة، فارتفع باباها، وسدوا الغربي، واستمر الشرقي على ما كان عليه.
فلما كان في زمن المهدي - أو ابنه المنصور - استشار مالكاً في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير، فقال مالك رحمه الله: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة، فتركها على ما هي عليه فهي إلى الآن كذلك.
وأما المسجد الحرام: فأول من أخَّر البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشتراها من أهلها وهدمها، فلما كان عثمان اشترى دوراً وزادها فيه، فلما ولي ابن الزبير أحكم بنيانه، وحسن جدرانه، وأكثر أبوابه، ولم يوسعه شيئاً آخر.
فلما استبد بالأمر عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه، وأمر بالكعبة فكسيت الديباج، وكان الذي تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف.
وقد ذكرنا قصة بناء البيت والأحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة، عند قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} وذكرنا ذلك مطولاً مستقصى، فمن شاء كتبه هاهنا، ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من البنيان، وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت تكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء وقد نهاب
فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب تتلئب لها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب
غداة يرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي * فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزاً * وعند الله يلتمس الثواب
(ج/ص: 2/ 373)
وقد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقذار الجاهلية، أنه كان هو والعباس عمه ينقلان الحجارة، وأنه عليه الصلاة والسلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهي عن خلع إزاره، فأعاده إلى سيرته الأولى.
فصل تعظيم قريش للحرم تعظيما زائداً أدى إلى الابتداع
وذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس، وهو الشدة في الدين والصلابة، وذلك لأنهم عظموا الحرم تعظيماً زائداً، بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة.
وكانوا يقولون: نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله، فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام، حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة.
وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطاً ولا سمناً، ولا يسلون شحماً وهم حرم، ولا يدخلون بيتاً من شعر، ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت من أدم.
وكانوا يمنعون الحجيج والعمار - ما داموا محرمين - أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة، طاف عرياناً ولو كانت امرأة، ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك، وضعت يدها على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله * وبعد هذا اليوم لا أحله
فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسي فطاف في ثياب نفسه، فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك، وليس له ولا لغيره أن يمسها، وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقي. (ج/ص: 2/ 374)
قال بعض الشعراء:
كفى حزناً كرى عليه كأنه * لقي بين أيدي الطائفين حريم
قال ابن إسحاق: فكانوا كذلك حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن رداُ عليهم فيما ابتدعوه. فقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي: جمهور العرب من عرفات {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].
وقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقاً من الله له، وأنزل الله عليه رداً عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...} الآية [الأعراف: 31-32]
وقال زياد البكائي عن ابن إسحاق: ولا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده.
مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً وذكر شيء من البشارات بذلك
قال محمد بن إسحاق رحمه الله: وكانت الأحبار من اليهود والكهان من النصارى ومن العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، لما تقارب زمانه.
أما الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته، وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ...} الآية [الأعراف: 157].
وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ...} [الصف: 6].
وقال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ...} الآية [الفتح: 29].
وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].
وفي (صحيح البخاري): عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه. يعلم من هذا أن جميع الأنبياء بشروا وأمروا باتباعه. (ج/ص: 2/ 375)
وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ...} الآية [البقرة: 129].
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟
قال: ((دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام)).
وقد روى محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه مثله. ومعنى هذا أنه أراد بدء أمره بين الناس، واشتهار ذكره، وانتشاره، فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل كما تقدم، يدل هذا على أن من بينهما من الأنبياء بشروا به أيضاً.
أما في الملأ الأعلى فقد كان أمره مشهوراً مذكوراً معلوماً من قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إني عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين)).
وقد رواه الليث عن معاوية بن صالح وقال: إن أمه رأت حين وضعته نوراً أضاءت منه قصور الشام.
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا منصور بن سعد، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبياً؟
قال: ((وآدم بين الروح والجسد)).
تفرد بهن أحمد. (ج/ص: 2/ 376)
وقد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب (دلائل النبوة) من حديث أبي هريرة فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - يعني أبا القاسم البغوي - حدثنا أبو همام الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، حدثني يحيى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة؟
قال: ((بين خلق آدم ونفخ الروح فيه)).
ورواه من وجه آخر عن الأوزاعي به:وقال: ((وآدم منجدل في طينته)).
وروي عن البغوي أيضاً: عن أحمد بن المقدام، عن بقية بن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي هريرة مرفوعاً في قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث)).
ومن حديث أبي مزاحم عن قيس بن الربيع، عن جابر، عن الشعبي، عن ابن عباس قيل: يا رسول الله متى كنت نبياً؟
قال: ((وآدم بين الروح والجسد)).
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره، ولا يلقي العرب لذلك فيه بالاً، حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها.
فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر زمان مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تعقد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم فعرفت الشياطين أن ذلك لأمر حدث من أمر الله عز وجل.
قال: وفي ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً....} [الجن: 1-28] إلى آخر السورة.
وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا التفسير، وكذا قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ...} [الأحقاف: 29-30] الآيات، ذكرنا تفسير ذلك كله هناك.
قال محمد بن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها - هذا الحي من ثقيف - وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج، وكان أدهى العرب وأمكرها، فقالوا له: يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟
قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر، ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمي بها، فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق، وإن كانت نجوماً غيرها وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو؟ (ج/ص: 2/ 377)
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم يقال لها الغيطلة، كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي، فانقض تحتها ثم قال: أدر ما أدر يوم عقر ونحر. قالت قريش حين بلغها ذلك: ما يريد؟
ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها، ثم قال: شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب الجنوب، فلما بلغ ذلك قريشاً قالوا: ماذا يريد إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو؟ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب، فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته.
قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنباً - بطناً من اليمن - كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشر في العرب قالت له جنب: انظر لنا في أمر هذا الرجل، واجتمعوا له في أسفل جبله.
فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائماً متكئاً على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلاً، ثم جعل ينزو، ثم قال: أيها الناس إن الله أكرم محمداً واصطفاه، وطهر قلبه وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل، ثم اشتد في جبله راجعاً من حيث جاء.
ثم ذكر ابن إسحاق قصة سواد بن قارب، وقد أخرناها إلى هواتف الجان.
فصل طلب اليهود من الله تعالى أن يبعث لهم نبياً يحكم بينهم وبين الناس
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام - مع رحمة الله تعالى وهداه لنا - أن كنا نسمع من رجل من يهود - وكنا أهل شرك أصحاب أوثان - وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم.
فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
وقال ورقاء عن ابن أبي نجيح عن علي الأزدي: كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون به - أي يستنصرون به على الناس - رواه البيهقي. (ج/ص: 2/ 378)
ثم روي من طريق عبد الملك بن هارون بن عنبرة، عن أبيه، عن جده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت اليهود بخيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم.
قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله عز وجل: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا...} الآية.
وروى عطية، عن ابن عباس نحوه.
وروي عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضاً.
وقال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلام بن وقش - وكان من أهل بدر - قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوماً من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً، علي فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار.
قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا؟ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟
قال: نعم، والذي يحلف به ويود أن له تحطة من تلك النار أعظم تنور في الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً.
قالوا له: ويحك يا فلان، فما آية ذلك؟
قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى نحو مكة واليمن.
قالوا: ومتى نراه؟
قال: - فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً - فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمداً رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً.
قال: فقلنا له: ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟
قال: بلى، ولكن ليس به. رواه أحمد، عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن عباس.
ورواه البيهقي، عن الحاكم بإسناده من طريق يونس بن بكير.
وروى أبو نعيم في (الدلائل) عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن سلمة قال: (ج/ص: 2/ 379)
لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع، فسمعته يقول - وإني لغلام في إزار - قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثم أشار بيده إلى بيت الله، فمن أدركه فليصدقه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا وهو بين أظهرنا لم يسلم حسداً وبغياً.
وقد قدمنا حديث أبي سعيد، عن أبيه في أخبار يوشع هذا عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفته، ونعته وإخبار الزبير بن باطا عن ظهور كوكب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه الحاكم عن البيهقي بإسناده من طريق يونس بن بكير عنه.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد - نفر من بني هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام -
قال: قلت: لا.
قال: فإن رجلاً من اليهود من أرض الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة. فنقول له: كم؟
فيقول: صاعاً من تمر، أو مدين من شعير.
قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا، فيستسقي لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب، ويسقي، قد فعل ذلك غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثاً.
قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع.
قال: قلنا: أنت أعلم.
قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء فيمن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية - وكانوا شباباً أحداثاً - يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان، قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم، وأموالهم، وأهليهم.
قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود.
قلت: وقد قدمنا في قدوم تبع اليماني - وهو أبو كرب تبان أسعد - إلى المدينة ومحاصرته إياها، وإنه خرج إليه ذانك الحبران من اليهود فقالا له: إنه لا سبيل لك عليها، إنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فثناه ذلك عنها.
وقد روى أبو نعيم في (الدلائل) من طريق الوليد بن مسلم: حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: قال عبد الله بن سلام: (ج/ص: 2/ 380)
إن الله لما أراد هدي زيد بن سعية قال زيد: لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً.
قال: فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه وسلم مالاً في ثمرة. قال: فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه - وهو في جنازة مع أصحابه - ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل.
قال: فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم.
ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزد عشرين صاعاً من تمر. فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه، وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي عام تبوك رحمه الله.
ثم ذكر ابن إسحاق رحمه الله إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه فقال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي - من فيه - قال:
كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري.
قال: فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها.
ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟
قالوا: بالشام. (ج/ص: 2/ 381)
فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي، وشغلته عن أمره كله، فلما جئت قال: أي بني أين كنت، ألم أكن أعهد إليك ما عهدته؟
قال: قلت: يا أبة مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه.
قال: قلت: كلا والله، إنه لخير من ديننا.
قال: فخافني، فجعل في رجلي قيداً ثم حبسني في بيتي.
قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام فجاءني النصارى فأخبروني بهم. فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني.
قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علماً؟
قالوا: الأسقف في الكنيسة. قال: فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك فأصلي معك.
قال: ادخل. فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئاً كنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات واجتمعت له النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً.
قال: فقالوا لي: وما علمك بذلك؟
قال: فقلت لهم: أنا أدلكم على كنزه. قالوا: فدلنا عليه.
قال: فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وورقا، فلما رأوها قالوا لا ندفنه أبدا. قال: فصلبوه ورجموه بالحجارة، وجاؤا برجل آخر فوضعوه مكانه.
قال سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه، قال: فأحببته حباً لم أحب شيئاً قبله مثله.
قال: فأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة فقلت له: إني قد كنت معك، وأحببتك حباً لم أحبه شيئاً قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى من توصى بي وبم تأمرني به؟
قال: أي بني، والله ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه، لقد هلك الناس، وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه، فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلاناً أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصى بي، وبم تأمرني؟
قال: يا بني، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري وما أمرني به صاحباي. (ج/ص: 2/ 382)
فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي، وبم تأمرني؟
قال: يا بني، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فائته فإنه على أمرنا، فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري فقال: أقم عندي. فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة.
قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان، فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي، وبم تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلم أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى الأرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
قال: ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه. قالوا: نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبداً، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي.
فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي لها، فأقمت بها، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام، ولا أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال يا فلان: قاتل الله بني قيلة، والله إنهم لمجتمعون الآن بقباء على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي.
قال سلمان: فلما سمعتها أخذتني الرعدة، حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه: ماذا تقول، ماذا تقول؟
قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك.
قال: فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال.
قال: وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم.
قال: فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل. (ج/ص: 2/ 383)
فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئاً، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته فقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها.
قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان ثنتان.
قال: ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي.
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحول)). فتحولت بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذاك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد.
قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كاتب يا سلمان)).
فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
((أعينوا أخاكم)).
فأعانوني في النخل: الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشرة، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي)).
قال: ففقرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، حتى إذا فرغنا فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي على المال.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال:
((ما فعل الفارسي المكاتب؟))
قال: فدعيت له.
قال: ((خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان)).
قال: قلت: وأين تقع هذه مما علي يا رسول الله؟
قال: ((خذها فإن الله سيؤدي بها عنك)).
قال: فأخذتها فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتق سلمان، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حراً، ثم لم يفتني معه مشهد. (ج/ص: 2/ 384)
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن رجل من عبد القيس، عن سلمان أنه قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله؟ أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه، ثم قال: ((خذها فأوفهم منها)).
فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، حدثني من لا أتهم، عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال: حدثت عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره أن صاحب عمورية قال له: إيت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلاً بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة مستجيزاً يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه.
قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصف لي، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، حتى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزاً من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه.
قال: فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إليّ، قال: قلت: يرحمك الله، أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، قال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فأته فهو يحملك عليه، ثم دخل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان: ((لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم)).
هكذا وقع في هذه الرواية، وفيها رجل مبهم - وهو شيخ عاصم بن عمر بن قتادة - وقد قيل: إنه الحسن بن عمارة، ثم هو منقطع بل معضل بين عمر بن عبد العزيز، وسلمان رضي الله عنه.
قوله: لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم، غريب جداً بل منكر. فإن الفترة أقل ما قيل فيها أنها أربعمائة سنة وقيل: ستمائة سنة بالشمسية، وسلمان أكثر ما قيل إنه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.
وحكى العباس بن يزيد البحراني إجماع مشايخه على أنه عاش مائتين وخمسين سنة، واختلفوا فيما زاد إلى ثلاثمائة وخمسين سنة، والله أعلم.
والظاهر أنه قال: لقد لقيت وصي عيسى بن مريم فهذا ممكن بالصواب.
وقال السهيلي: الرجل المبهم هو الحسن بن عمارة، وهو ضعيف، وإن صح لم يكن فيه نكارة، لأن ابن جرير ذكر أن المسيح نزل من السماء بعد ما رفع فوجد أمه وامرأة أخرى يبكيان عند جذع المصلوب فأخبرهما أنه لم يقتل، وبعث الحواريين بعد ذلك.
قال: وإذا جاز نزوله مرة جاز نزوله مراراً، ثم يكون نزوله الظاهر حين يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويتزوج حينئذ امرأة من بني جذام، وإذا مات دفن في حجرة روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البيهقي في كتاب (دلائل النبوة) قصة سلمان هذه من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق كما تقدم. (ج/ص: 2/ 385).
ورواها أيضاً عن الحاكم، عن الأصم، عن يحيى بن أبي طالب: حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حاتم بن أبي صفرة، عن سماك بن حرب، عن يزيد بن صوحان أنه سمع سلمان يحدث كيف كان أول إسلامه، فذكر قصة طويلة وذكر أنه كان من رامهرمز، وكان له أخ أكبر منه غني، وكان سلمان فقيراً في كنف أخيه، وأن ابن دهقانها كان صاحباً له، وكان يختلف معه إلى معلم لهم، وأنه كان يختلف ذلك الغلام إلى عباد من النصارى في كهف لهم.
فسأله سلمان أن يذهب به معه إليهم، فقال له: إنك غلام وأخشى أن تنم عليهم فيقتلهم أبي، فالتزم له أن لا يكون منه شيء يكرهه، فذهب به معه فإذا هم ستة أو سبعة، كأن الروح قد خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار، ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا، فذكر عنهم أنهم يؤمنون بالرسل المتقدمين، وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته، أيده بالمعجزات.
وقالوا له: يا غلام إن لك رباً، وإن لك معاداً، وإن بين يديك جنة وناراً، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دينه.
ثم جعل يتردد مع ذلك الغلام إليهم، ثم لزمهم سلمان بالكلية، ثم أجلاهم ملك تلك البلاد، وهو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن أرضه، واحتبس الملك ابنه عنده، وعرض سلمان دينهم على أخيه الذي هو أكبر منه فقال: إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة، فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسة الموصل فسلم عليهم أهلها.
ثم أرادوا أن يتركوني عندهم فأبيت إلا صحبتهم، فخرجوا حتى أتوا وادياً بين جبال، فتحدر إليهم رهبان تلك الناحية يسلمون عليهم، واجتمعوا إليهم، وجعلوا يسألونهم عن غيبتهم عنهم، ويسألونهم عني، فيثنون علي خيراً.
وجاء رجل معظم فيهم فخطبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وذكر الرسل وما أيدوا به، وذكر عيسى بن مريم وأنه كان عبد الله ورسوله، وأمرهم بالخير ونهاهم عن الشر، ثم لما أرادوا الانصراف تبعه سلمان ولزمه.
قال: فكان يصوم النهار، ويقوم الليل من الأحد إلى الأحد، فيخرج إليهم ويعظهم ويأمرهم وينهاهم، فمكث على ذلك مدة طويلة، ثم أراد أن يزور بيت المقدس فصحبه سلمان إليه.
قال: فكان فيما يمشي يلتفت إلي ويقبل علي فيعظني، ويخبرني أن لي رباً، وأن بين يدي جنة وناراً وحساباً، ويعلمني ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد. قال فيما يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولاً اسمه أحمد يخرج من تهامة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب.
فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه، قلت له: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه؟ قال: وإن أمرك فإن الحق فيما يجيء به ورضى الرحمن فيما قال.
ثم ذكر قدومهما إلى بيت المقدس، وأن صاحبه صلى فيه هاهنا وهاهنا، ثم نام وقد أوصاه أنه إذا بلغ الظل مكان كذا أن يوقظه، فتركه سلمان حيناً آخر أزيد مما قال ليستريح. (ج/ص: 2/ 386)
فلما استيقظ ذكر الله، ولام سلمان على ترك ما أمره من ذلك، ثم خرجا من بيت المقدس فسأله مقعد، فقال: يا عبد الله سألتك حين وصلت فلم تعطني شيئاً وها أنا أسألك، فنظر فلم يجد أحداً فأخذ بيده وقال: قم بسم الله، فقام وليس به بأس ولا قلبة، كأنما نشط من عقال.
فقال لي: يا عبد الله احمل علي متاعي حتى أذهب إلى أهلي فأبشرهم، فاشتغلت به ثم أدركت الرجل فلم ألحقه، ولم أدر أين ذهب، وكلما سألت عنه قوماً قالوا: أمامك، حتى لقيني ركب من العرب من بني كلب، فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني خلفه، حتى أتوا بي بلادهم، فباعوني فاشترتني امرأة من الأنصار، فجعلتني في حائط لها.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ذهابه إليه بالصدقة والهدية ليستعلم ما قال صاحبه، ثم تطلب النظر إلى خاتم النبوة، فلما رآه آمن من ساعته، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره الذي جرى له.
قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق فاشتراه من سيده فأعتقه، ثم قال: سألته يوماً عن دين النصارى فقال: لا خير فيهم، قال: فوقع في نفسي من أولئك الذين صحبتهم، ومن ذلك الرجل الصالح الذي كان معي ببيت المقدس، فدخلني من ذلك أمر عظيم حتى أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].
فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت وأنا خائف، فجلست بين يديه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ..} الآيات.
ثم قال: يا سلمان أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى كانوا مسلمين.
فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لهو أمرني باتباعك.
فقلت له: فإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه، قال: نعم فاتركه فإن الحق وما يرضي الله فيما يأمرك.
وفي هذا السياق غرابة كثيرة، وفيه بعض المخالفة لسياق محمد بن إسحاق، وطريق محمد بن إسحاق أقوى إسناداً، وأحسن اقتصاصاً، وأقرب إلى ما رواه البخاري في (صحيحه) من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب، أي: من معلم إلى معلم ومرب إلى مثله، والله أعلم.
قال السهيلي: تداوله ثلاثون سيداً من سيد إلى سيد، فالله أعلم.
وكذلك استقصى قصة إسلامه الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) وأورد لها أسانيد وألفاظاً كثيرة، وفي بعضها أن اسم سيدته التي كاتبته حلبسة، فالله أعلم.
وهذه الصيانة لعبد الله ليست له، وإنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى: {اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.
وقد تقدم الحديث المروي من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة والسلام:
((ولدت من نكاح لا من سفاح)).
والمقصود أن أمه حين حملت به توفي أبوه عبد الله، وهو حمل في بطن أمه على المشهور.
قال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي، وحدثنا سعيد بن أبي زيد، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات، ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض.
فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً. ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجداً شديداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل، ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة. (ج/ص: 2/ 323)
قال الواقدي: هذا هو أثبت الأقاويل في وفاة عبد الله وسنه عندنا.
قال الواقدي: وحدثني معمر عن الزهري أن عبد المطلب بعث عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمراُ فمات، قال محمد بن سعد: وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن عوانة بن الحكم قالا: توفي عبد الله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرين شهراً. وقيل: سبعة أشهر.
وقال محمد بن سعد: والأول أثبت، أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن حسن، عن عبد السلام، عن ابن خربوذ قال: توفي عبد الله بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات جده وهو ابن ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب.
والذي رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد أنه عليه الصلاة والسلام توفي أبوه وهو جنين في بطن أمه، وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه.
وقد تقدم في الحديث: ((ورؤيا أمي الذي رأت حين حمل بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام)).
وقال محمد بن إسحاق: فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي:
أعيذه بالواحد من شر كل حاسد
من كل بر عاهد وكل عبد رائد
يذود عني ذائد فإنه عند الحميد الماجد
حتى أراه قد أتى المشاهد
وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمداً، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في القرآن محمد، وهذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، ثم لما وضعته رأت عياناً تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا، والله أعلم.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري.
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن عبدة، عن أخيه ومحمد بن كعب القرظي، وحدثني عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمته أم بكر بنت المسود، عن أبيها. وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني، وزياد بن حشرج، عن أبي وجزة. وحدثنا معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد. وحدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء عن ابن عباس:
دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن آمنة بنت وهب قالت: لقد علقت به - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمداً على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.
وقال بعضهم: وقع جاثياً على ركبتيه، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى، رافعاً رأسه إلى السماء. (ج/ص: 2/ 324)
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن إسماعيل قال: أنبأنا محمد بن إسحاق، حدثنا يونس بن مبشر بن الحسن قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص قال:
حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولدته، قالت: فما شيء أنظره في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول ليقعن علي.
وذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف، أنها كانت قابلته، وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل، سمعت قائلاً يقول: يرحمك الله، وإنه سطع منه نور رؤيت منه قصور الروم.
قال محمد بن إسحاق: فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها - وقد هلك أبوه وهي حبلى، ويقال: إن عبد الله هلك والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمانية وعشرين شهراً، فالله أعلم أي ذلك كان - فقالت: قد ولد لك غلام فانظر إليه، فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه، فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو ويشكر الله عز وجل ويقول:
الحمد لله الذي أعطاني * هذا الغلام الطيب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان * أعيذه بالبيت ذي الأركان
حتى يكون بلغة الفتيان * حتى أراه بالغ البنيان
أعيذه من كل ذي شنآن * من حاسد مضطرب العنان
ذي همة ليس له عينان * حتى أراه رافع اللسان
أنت الذي سميت في القرآن * في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوب على اللسان
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابودي - بمرو- قال: حدثنا أبو عبد الله البوشنجي، حدثنا أبو أيوب سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي - بمصر - حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال:
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً، قال: فأعجب به جده عبد المطلب، وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن. وهذا الحديث في صحته نظر.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر من حديث سفيان بن محمد المصيصي، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من كرامتي على الله أني ولدت مختوناً، ولم ير سوأتي أحد)).
ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به. (ج/ص: 2/ 325)
ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان - هو الباغندي - حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي، حدثني خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسروراً مختوناً.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكي، حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء، حدثنا الحكم بن أبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً، فأعجب ذلك جده عبد المطلب وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن، فكان له شأن.
وقد ادعى بعضهم صحته، لما ورد له من الطرق، حتى زعم بعضهم أنه متواتر، وفي هذا كله نظر. ومعنى مختوناً: أي مقطوع الختان، ومسروراً: أي مقطوع السرة من بطن أمه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني السلمي، حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد، عن أبيه، عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه. وهذا غريب جداً.
وقد روي أن جده عبد المطلب ختنه، وعمل له دعوة جمع قريشاً عليها، والله أعلم.
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأني محمد بن كامل القاضي - شفاها - أن محمد بن إسماعيل حدثه - يعني السلمي - حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال:
كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح، يكفأن عليه برمة، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة، فكفأن عليه برمة فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين، ووجدنه مفتوح العينين، شاخصاً ببصره إلى السماء، فأتاهن عبد المطلب فقلن له ما رأينا مولوداً مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحاً عينيه، شاخصاً ببصره إلى السماء.
فقال: احفظنه، فإني أرجو أن يكون له شأن أو أن يصيب خيراً، فلما كان اليوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشاً، فلما أكلوا قالوا يا عبد المطلب: أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته؟ قال: سميته محمداً. قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله تعالى في السماء، وخلقه في الأرض.
قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يسمى محمداً، كما قال بعضهم:
إليك أبيت اللعن أعملت نافتي * إلى الماجد القرم الكريم المحمد
وقال بعض العلماء: ألهمهم الله عز وجل أن سموه محمداً لما فيه من الصفات الحميدة، ليلتقي الاسم والفعل، ويتطابق الاسم والمسمى في الصورة والمعنى، كما قال عمه أبو طالب، ويروى لحسان:
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
(ج/ص: 2/ 326)
وسنذكر أسماءه عليه الصلاة والسلام وشمائله، وهي صفاته الظاهرة، وأخلاقه الطاهرة، ودلائل نبوته، وفضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الحبلى، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا زهير، عن محارب بن دثار، عن عمرو بن يثربي، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال.
قال: ((إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش)).
ثم قال: تفرد به الليثي، وهو مجهول.
فصل فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام
قد ذكرنا في باب هواتف الجان ما تقدم من خرور كثير من الأصنام ليلتئذ لوجوهها وسقوطها عن أماكنها، وما رآه النجاشي ملك الحبشة، وظهور النور معه حتى أضاءت له قصور الشام حين ولد، وما كان من سقوطه جاثياً رافعاً رأسه إلى السماء، وانفلاق تلك البرمة عن وجهه الكريم، وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه ودنو النجوم منهم وغير ذلك.
حكى السهيلي عن تفسير بقي بن مخلد الحافظ، أن إبليس رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط، وحين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت الفاتحة.
قال محمد بن إسحاق: وكان هشام بن عروة يحدث عن أبيه، عن عائشة قالت: كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟
فقال القوم: والله ما نعلمه. فقال: الله أكبر أما إذا أخطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم: ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس، لا يرضع ليلتين، وذلك أن عفريتاً من الجن أدخل أصبعه في فمه فمنعه الرضاع، فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه.
فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله، فقالوا: قد والله ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمداً. فالتقى القوم، فقالوا: هل سمعتم حديث اليهودي، وهل بلغكم مولد هذا الغلام؟
فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر، قال: فاذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة فقالوا: أخرجي إلينا ابنك فأخرجته، وكشفوا له عن ظهره، فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشياً عليه، فلما أفاق قالوا له: مالك ويلك؟
قال: قد ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل، فرحتم بها يا معشر قريش، والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب. (ج/ص: 2/ 327)
وقال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم، عن يحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال: حدثني من شئت من رجال قومي ممن لا أتهم، عن حسان بن ثابت قال: إني لغلام يفعة ابن سبع سنين - أو ثمان سنين - أعقل ما رأيت وسمعت، إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه - وأنا أسمع - فقالوا: ويلك ما لك؟ قال: قد طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة.
وروى الحافظ أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة) من حديث أبي بكر بن عبد الله العامري، عن سليمان بن سحيم، وذريح بن عبد الرحمن كلاهما، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوماً لأتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظل خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم.
فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به: ما صفته؟ فقال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره.
قال: فرجعت إلى قومي بني خدرة، وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلاً منا يقول، ويوشع يقول هذا وحده؟! كل يهود يثرب يقولون هذا.
قال أبي مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بني قريظة، فأجد جمعاً، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلى لخروج نبي أو ظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره.
قال أبو سعيد: فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أسلم الزبير لأسلم ذووه من رؤساء اليهود إنما هم له تبع)).
وقال أبو نعيم: حدثنا عمر بن محمد، حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا إسماعيل بن قيس بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع سمعت زيد بن ثابت يقول: كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي وأنه لا نبي بعده، واسمه أحمد، ومهاجره إلى يثرب، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنكروا، وحسدوا، وكفروا.
وقد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه من طرق أخرى ولله الحمد.
وقال أبو نعيم ومحمد بن حبان: حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل: قال لي حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبي - أو هو خارج - قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه.
ذكر ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط الشرفات، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وغير ذلك من الدلالات
قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب (هواتف الجان): حدثنا علي بن حرب، حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران - من آل جرير بن عبد الله البجلي - حدثني مخزوم بن هاني المخزومي، عن أبيه - وأتت عليه خمسون ومائة سنة - قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام. (ج/ص: 2/ 328)
وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، فتصبر عليه تشجعاً، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك ذلك.
فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران، فازداد غماً إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، فقال الموبذان - وأنا أصلح الله الملك - قد رأيت في هذه الليلة رؤيا، ثم قصَّ عليه رؤياه في الإبل. فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟
قال: حدث يكون في ناحية العرب - وكان أعلمهم من أنفسهم - فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد: فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن نفيلة الغساني.
فلما ورد عليه قال له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ فقال: لتخبرني، أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم. فأخبره بالذي وجه به إليه فيه.
قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام، يقال له: سطيح، قال فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره.
فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيح جواباً، فأنشأ يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن * أم فاد فاز لم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن * أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن * أزرق نهم الناب صرار الأذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن * رسول قيل العجم يسري للوسن
يجوب بي الأرض علنداة شزن * لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
ترفعني وجناً وتهوي بي وجن * حتى أتى عاري الجآجي والقطن
تلفه في الريح بوغاء الدمن * كأنما حثحث من حضني ثكن
قال: فلما سمع سطيح شعره، رفع رأسه يقول: عبد المسيح على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكلما هو آت آت، ثم قضى سطيح مكانه، فنهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول: (ج/ص: 2/ 329)
شمر فإنك ماضي العزم شمير * لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم * فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة * يخاف صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وشابور وسابور
والناس أولاد علات فمن علموا * أن قد أقل فمحقور ومهجور
ورب قوم لهم صحبان ذي أذن * بدت تلهيهم فيه المزامير
وهم بنو الأم إما إن رأوا نشباً * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرن * فالخير متبع والشر محذور
قال: فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح، فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً، كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه.
ورواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، عن علي بن حرب الموصلي بنحوه.
قلت: كان آخر ملوكهم الذي سلب منه الملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وهو الذي انشق الإيوان في زمانه، وكان لأسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة وستون سنة، وكان أول ملوكهم خيومرت بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح.
أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه: هو الربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب ابن عدي بن مازن بن الأزد. ويقال: الربيع بن مسعود، وأمه ردعا بنت سعد بن الحارث الحجوري. وذكر غير ذلك في نسبه. قال: وكان يسكن الجابية.
ثم روي عن أبي حاتم السجستاني قال: سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا: وكان من بعد لقمان بن عاد. ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذي نواس، وذلك نحو من ثلاثين قرناً، وكان مسكنه البحرين، وزعمت عبد القيس أنه منهم، وتزعم الأزد أنه منهم، وأكثر المحدثين يقولون هو من الأزد. ولا ندري ممن هو، غير أن ولده يقولون إنه من الأزد.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لم يكن شيء من بني آدم يشبه سطيحاً، إنما كان لحماً على وضم، ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه، وكان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه.
وقال غيره: إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس.
ثم ذكر ابن عباس أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم منهم عبد شمس، وعبد مناف أبناء قصي، فامتحنوه في أشياء، فأجابهم فيها بالصدق، فسألوه عما يكون في آخر الزمان فقال: خذوا مني ومن إلهام الله إياي: أنتم الآن يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشو من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم، ويتبعون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم.
ثم قال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد نبي مهتد، يهدي إلى الرشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ عن عبادة الضدد، يعبد رباً انفرد، ثم يتوفاه الله بخير دار محموداً من الأرض مفقوداً، وفي السماء مشهوداً. (ج/ص: 2/ 330)
ثم يلي أمره الصديق، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف، مجرب غطريف، قد أضاف المضيف، وأحكم التحنيف، ثم ذكر عثمان ومقتله، وما يكون بعد ذلك من أيام بني أمية ثم بني العباس، وما بعد ذلك من الفتن والملاحم، ساقه ابن عساكر بسنده عن ابن عباس بطوله.
وقد قدمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن حين أخبره برؤياه قبل أن يخبره بها، ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن وتغيير الدول، حتى يعود إلى سيف بن ذي يزن، فقال له: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟
قال: نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي. قال: وممن هذا النبي؟ قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟
قال: نعم، والشفق والغسق والقمر إذا اتسق، إن ما أنبأتك عليه لحق، ووافقه على ذلك شق سواء بسواء بعبارة أخرى كما تقدم.
ومن شعر سطيح قوله:
عليكم بتقوى الله في السر والجهر * ولا تلبسوا صدق الأمانة بالغدر
وكونوا لجار الجنب حصناً وجنة * إذا ما عرته النائبات من الدهر
وروى ذلك الحافظ ابن عساكر.
ثم أورد ذلك المعافي بن زكريا الجريري فقال: وأخبار سطيح كثيرة، وقد جمعها غير واحد من أهل العلم. والمشهور أنه كان كاهناً، وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن نعته، ومبعثه.
وروي لنا بإسناد الله به أعلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سطيح فقال: نبي ضيعه قومه.
قلت: أما هذا الحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة، ولم أره بإسناد أصلاً.
ويروي مثله في خبر خالد بن سنان العبسي، ولا يصح أيضاً، وظاهر هذه العبارات تدل على علم جيد لسطيح، وفيها روائح التصديق، لكنه لم يدرك الإسلام كما قال الجريري، فإنه قد ذكرنا في هذا الأثر أنه قال لابن أخته: يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانه، وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر- أو شية - أي أقل منه، وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق، فالله أعلم بأمره وما صار إليه.
وذكر ابن طرار الحريري أنه عاش سبعمائة سنة. وقال غيره: خمسمائة سنة، وقيل: ثلاثمائة سنة، فالله أعلم.
وقد روى ابن عساكر أن ملكاً سأل سطيحاً عن نسب غلام اختلف فيه، فأخبره على الجلية في كلام طويل مليح فصيح، فقال له الملك: يا سطيح ألا تخبرني عن علمك هذا؟ فقال: إن علمي هذا ليس مني ولا بجزم ولا بظن، ولكن أخذته عن أخ لي قد سمع الوحي بطور سيناء.
فقال له: أرأيت أخاك هذا الجني أهو معك لا يفارقك؟ فقال إنه ليزول حيث أزول، ولا أنطق إلا بما يقول. وتقدم أنه ولد هو وشق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن بسر بن عقبة الكاهن الآخر، ولدا في يوم واحد. (ج/ص: 1/ 331)
فحملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحسين الحميدية، فتفلت في أفواههما فورثا منها الكهانة وماتت من يومها. وكان نصف إنسان. ويقال إن خالد بن عبد الله القسري من سلالته، وقد مات شق قبل سطيح بدهر.
وأما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن نفيلة الغساني النصراني فكان من المعمرين. وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه، وقال: هو الذي صالح خالد بن الوليد على .... وذكر له معه قصة طويلة، وأنه أكل من يده سم ساعة فلم يصبه سوء، لأنه لما أخذه قال: بسم الله وبالله، رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه أذى. ثم أكله فعلته غشية فضرب بيديه على صدره ثم عرق وأفاق رضي الله عنه.
وذكر لعبد المسيح أشعاراً غير ما تقدم.
وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا المسيب بن شريك، حدثنا محمد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى: عيصاً من أهل الشام، وكان متخفراً بالعاص بن وائل.
وكان الله قد آتاه علماً كثيراً، وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طيب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له، ويدخل مكة في كل سنة، فيلقى الناس ويقول: إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة، يدين له العرب، ويملك العجم، هذا زمانه ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته، وبالله ما تركت أرض الخمر والخمير والأمن، ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف، إلا في طلبه.
وكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول: ما جاء بعد. فيقال له: فصفه. فيقول: لا. ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لاق من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الأذى يوماً.
ولما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتي عيصاً، فوقف في أصل صومعته ثم نادى: يا عيصاه، فناداه من هذا؟ فقال: أنا عبد الله فأشرف عليه فقال: كن أباه، فقد ولد المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين.
قال: فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود؟ قال: فما سميته؟ قال: محمداً. قال: والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها منها: أن نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد. انطلق إليه فإن الذي كنت أخبركم عنه ابنك. قال: فما يدريك أنه ابني ولعله أن يولد في هذا اليوم مولود غيره؟
قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع، فيشتكي أياماً ثلاثة، فيظهر به الجوع ثلاثاً ثم يعافى، فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد أحد حسده قط، ولم يبغ على أحد كما يبغي عليه، إن تعش حتى يبدو مقاله، ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر، وعلى ذلك فاحفظ لسانك ودار عنه.
قال: فما عمره؟ قال: إن طال عمره وإن قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين، أو ثلاث وستين، في أعمار جل أمته.
قال: وحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في عاشر المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل. هكذا رواه أبو نعيم، وفيه غرابة. (ج/ص: 2/ 332)
حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام
كانت أم أيمن واسمها: بركة، تحضنه، وكان قد ورثها عليه الصلاة والسلام من أبيه، فلما كبر أعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهم وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام مولاة عمه أبي لهب ثويبة قبل حليمة السعدية.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان - ولمسلم عزة بنت أبي سفيان - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أو تحبين ذلك)).
قلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإن ذلك لا يحل لي)).
قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة - وفي رواية درة بنت أبي سلمة -.
قال: ((بنت أم سلمة)).
قلت: نعم.
قال: ((إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن)).
زاد البخاري: قال عروة.
وثويبة مولاة لأبي لهب، أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة، فقال له: ماذا لقيت؟
فقال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم خيراً، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة - وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع -.
وذكر السهيلي وغيره: أن الرائي له هو أخوه العباس، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر، وفيه: أن أبا لهب قال للعباس: إنه ليخفف عليَّ في مثل يوم الاثنين.
قالوا: لأنه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته، فجوزي بذلك لذلك. (ج/ص: 2/ 333)
رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية
وما ظهر عليه من البركة وآيات النبوة
قال محمد بن إسحاق: فاسترضع له عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر.
قال: واسم أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرضعه - يعني زوج حليمة - الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن. وأخوته عليه الصلاة والسلام - يعني من الرضاعة - عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة بنت الحارث وهي الشيماء، وذكروا أنها كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه إذ كان عندهم.
قال ابن إسحاق: حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب، ويقال له: مولى الحارث بن حاطب. قال: حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: حدثت عن حليمة بنت الحارث أنها قالت:
قدمت مكة في نسوة، وذكر الواقدي بإسناده أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء من بني سعد، نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء، فقدمت على أتان لي قمراء، كانت أذّمت بالركب ومعي صبي لنا، وشارف لنا والله ما تبض بقطرة.
وما ننام ليلتنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج. (ج/ص: 2/ 334) فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل إنه يتيم تركناه، قلنا ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غيري، فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
فقال: لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة. فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره، فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة.
فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه؟ فلم يزل الله عز وجل يزيدنا خيراً، ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا، فوالله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟
فأقول: نعم والله إنها لهي، فقلن: والله إن لها لشأناً، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعاً لبناً فتحلب ما شئنا، وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعاً، حتى إنهم ليقولون لرعاتهم أو لرعيانهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فتروح أغنامهم جياعاً ما فيها قطرة لبن، وتروح أغنامي شباعاً لبناً نحلب ما شئنا.
فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين، فكان يشب شباباً لا تشبه الغلمان، فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاماً جفراً، فقدمنا به على أمه ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه قلت لها: دعينا نرجع بابننا هذه السنة الأخرى، فإنا نخشى عليه وباء مكة، فوالله ما زلنا بها حتى قالت نعم، فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة.
فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا، جاء أخوه ذلك يشتد فقال: ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائماً منتقعاً لونه، فأعتنقه أبوه وقال: يا بني ما شأنك؟
قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض أضجعاني وشقا بطني، ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه، ثم رداه كما كان، فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب، فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف. (ج/ص: 2/ 335)
قالت حليمة: فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به، فقدمنا به عليها فقالت: ما ردكما به يا ظئر، فقد كنتما عليه حريصين؟ فقالا: لا والله إلا أن الله قد أدى عنا وقضينا الذي علينا، وقلنا نحشى الإتلاف والأحداث نرده إلى أهله، فقالت: ما ذاك بكما فأصدقاني شأنكما؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره.
فقالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله إنه لكائن لابني هذا شأن، ألا أخبركما خبره، قلنا: بلى.
قالت: حملت به، فما حملت حملاً قط أخف علي منه، فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعاً ما يقعه المولود، معتمداً على يديه، رافعاً رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما.
وهذا الحديث قد روي من طرق أخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي.
وقال الواقدي: حدثني معاذ بن محمد بن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجدت البهم تقيل، فوجدته مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حراً، رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع.
وقال ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: أخبرنا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.
واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخ لي في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب مملوء ثلجاً، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا ألقياه رداه كما كان.
ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بعشرة فوزنتهم، ثم قال زنه بمائة من أمته، فوزنني بمائة فوزنتهم، ثم قال زنه بألف من أمته، فوزنني بألف فوزنتهم، فقال دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم. وهذا إسناد جيد قوي. (ج/ص: 2/ 336)
وقد روى أبو نعيم الحافظ في (الدلائل) من طريق عمر بن الصبح - وهو أبو نعيم - عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جداً، ولكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب، متهم بالوضع، فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به.
ثم قال: وحدثنا أبو عمر بن حمدان، حدثنا الحسن بن نفير، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية بن الوليد، عن بحير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد الله أنه حدثه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟
قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل إلي طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فقال: نعم.
فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين. فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد فغسلا به قلبي. ثم قال: ائتني بالسكينة فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوة.
فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفاً من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخر علي بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا فتركاني وفرقت فرقاً شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيراً لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يرعها وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام.
ورواه أحمد من حديث بقية بن الوليد به. وهكذا رواه عبد الله بن المبارك وغيره عن بقية بن الوليد به.
وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي، حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، أخبرني عمير بن عمر بن عروة بن الزبير قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كيف علمت أنك نبي حين علمت ذلك، واستيقنت أنك نبي؟
قال: ((يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما على الأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟
قال: هو هو.
قال: زنه برجل، فوزنني برجل فرجحته...)).
وذكر تمامه، وذكر شق صدره وخياطته، وجعل الخاتم بين كتفيه، قال: فما هو إلا أن وليا عني فكأنما أعاين الأمر معاينة. (ج/ص: 2/ 337)
ثم أورد ابن عساكر، عن أبي بن كعب بنحو ذلك. ومن حديث شداد بن أوس بأبسط من ذلك.
وثبت في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، واستخرج منه علقة سوداء فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.
قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.
وقد رواه ابن عساكر من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن ثابت البناني، عن أنس: أن الصلاة فرضت بالمدينة، وأن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم، فشقا بطنه فأخرجا حشوته في طشت من ذهب فغسلاه بماء زمزم، ثم لبسا جوفه حكمة وعلماً.
ومن طريق ابن وهب أيضاً، عن يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عامر بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال قال: خذوا خيرهم وسيدهم، فأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمد به إلى زمزم، فشق جوفه ثم أتى بتور من ذهب فغسل جوفه ثم ملئ حكمة وإيماناً.
وثبت من رواية سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس وفي الصحيحين من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس، وعن الزهري، عن أنس، عن أبي ذر، وقتادة، عن أنس، وعن مالك بن صعصعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء.
كما سيأتي قصة شرح الصدر ليلتئذ، وإنه غسل بماء زمزم، ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين: مرة وهو صغير، ومرة ليلة الإسراء، ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى ولمناجاة الرب عز وجل، والمثول بين يديه تبارك وتعالى.
وقال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: ((أنا أعربكم، أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد بن بكر)).
وذكر ابن إسحاق أن حليمة لما أرجعته إلى أمه بعد فطامه، مرت به على ركب من النصارى فقاموا إليه عليه الصلاة والسلام فقلبوه، وقالوا: إنا سنذهب بهذا الغلام إلى ملكنا فإنه كائن له شأن، فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد. (ج/ص: 2/ 338)
وذكر أنها لما ردته حين تخوفت عليه أن يكون أصابه عارض، فلما قربت من مكة افتقدته فلم تجده، فجاءت جده عبد المطلب فخرج هو وجماعة في طلبه فوجده ورقة بن نوفل، ورجل آخر من قريش فأتيا به جده، فأخذه على عاتقه، وذهب فطاف به يعوذه، ويدعو له، ثم رده إلى أمه آمنة.
وذكر الأموي من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي - وهو ضعيف - عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قصة مولده عليه الصلاة والسلام، ورضاعه من حليمة على غير سياق محمد بن إسحاق.
وذكر أن عبد المطلب أمر ابنه عبد الله أن يأخذه فيطوف به في أحياء العرب ليتخذ له مرضعة، فطاف حتى استأجر حليمة على رضاعه، وذكر أنه أقام عندها ست سنين، تزيره جده في كل عام، فلما كان من شق صدره عندهم ما كان، ردته إليهم فأقام عند أمه حتى كان عمره ثماني سنين ماتت، فكفله جده عبد المطلب فمات وله عليه الصلاة والسلام عشر سنين، فكفله عماه شقيقا أبيه: الزبير، وأبو طالب.
فلما كان له بضع عشرة سنة خرج مع عمه الزبير إلى اليمن، فذكر أنهم رأوا منه آيات في تلك السفرة، منها أن فحلاً من الإبل كان قد قطع بعض الطريق في واد ممرهم عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم برك حتى حك بكلكله الأرض، فركبه عليه الصلاة والسلام.
ومنها أنه خاض بهم سيلاً عرماً فأيبسه الله تعالى حتى جاوزوه، ثم مات عمه الزبير وله أربع عشرة سنة، فانفرد به أبو طالب.
والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير، ثم عادت على هوازن بكمالهم، فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر، فمتوا إليه برضاعه فأعتقهم وتحنن عليهم، وأحسن إليهم، كما سيأتي مفصلاً في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن إسحاق: في وقعة هوازن، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك.
وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين ثم أنشد: (ج/ص: 2/ 339)
امنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء نرجوه وندخر
امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير
أبقت لنا الدهر هتافاً على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلماً حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
وقد رويت هذه القصة من طريق عبيد الله بن رماحس الكلبي الرملي، عن زياد بن طارق الجشمي، عن أبي صرد زهير بن جرول - وكان رئيس قومه - قال: لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فبينا هو يميز بين الرجال والنساء وثبت حتى قعدت بين يديه، وأسمعته شعراً أذكّره حين شب ونشأ في هوازن حيث أرضعوه:
امنن علينا رسول الله في دعة * فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير
أبقت لنا الحرب هتافاً على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلماً حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه * من أمهاتك إن العفو مشتهر
إنا نؤمل عفواً منك تلبسه * هذي البرية إذ تعفو وتنتصر
فاغفر عفا الله عما أنت راهبه * يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
قال: (ج/ص: 2/ 340)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم)).
فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاماً وأناسي كثيراً.
حتى قال أبو الحسين ابن فارس: فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة ألف ألف درهم، فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة؟
فصل ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة.
قال ابن إسحاق: بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة، بعد رضاعة حليمة له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب، وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتاً حسناً لما يريد به من كرامته، فلما بلغ ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة توفيت وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة.
وذكر الواقدي بأسانيده: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرجت به أمه إلى المدينة، ومعها أم أيمن وله ست سنين، فزارت أخواله. قالت أم أيمن: فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة، فقالا لي: أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه، فنظرا إليه وقلباه، فقال أحدهما لصاحبه: هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون بها من القتل والسبي أمر عظيم، فلما سمعت أمه خافت وانصرفت به، فماتت بالأبواء وهي راجعة.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أيوب بن جابر، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بودَّان قال:
((مكانكم حتى آتيكم)).
فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال: ((إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة - يعني لها - فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن الأشربة في هذه الأوعية فاشربوا ما بدا لكم)).
وقد رواه البيهقي: من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن يزيد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال:
انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبر، فجلس وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فاستقبله عمر فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟
قال: ((هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رقتها فبكيت)).
قال فما رؤيت ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة. تابعه محارب بن دثار، عن بريدة، عن أبيه. (ج/ص: 2/ 341)
ثم روى البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب: حدثنا ابن جريج، عن أيوب بن هاني، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلاً، ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل علينا، فتلقاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ما الذي أبكاك لقد أبكانا وأفزعنا؟
فجاء فجلس إلينا فقال: ((أفزعكم بكائي)).
قلنا: نعم.
قال: ((إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، و، إني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، واستأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه، ونزل علي:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113-114] فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني)).
غريب ولم يخرجوه.
وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال:
((استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت)).
وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟
قال: ((في النار)).
فلما قفا دعاه فقال: ((إن أبي وأباك في النار)).
وقد روى البيهقي من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان فأين هو؟
قال: ((في النار)).
قال: فكأن الأعرابي وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله أين أبوك؟
قال: ((حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار)). قال: فأسلم الأعرابي بعد ذلك. (ج/ص: 2/ 342)
فقال لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار. غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد - هو ابن أبي أيوب - حدثنا ربيعة بن سيف المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة لا يظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
((ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟)).
فقالت: أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم وعزيتهم.
قال: ((لعلك بلغت معهم الكدى)).
قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها معهم، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر.
قال: ((لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك)).
ثم رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي من حديث ربيعة بن سيف بن مانع المعافري الصنمي الإسكندري.
وقد قال البخاري: عنده مناكير.
وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال مرة: صدوق. وفي نسخة: ضعيف.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطئ كثيراً.
وقال الدارقطني: صالح.
وقال ابن يونس في (تاريخ مصر) في حديثه مناكير.
توفي قريباً من سنة عشرين ومائة، والمراد بالكدى: القبور، وقيل: النوح.
والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية، خلافاً لفرقة الشيعة فيه، وفي ابنه أبي طالب على ما سيأتي في وفاة أبي طالب.
وقد قال البيهقي بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه (دلائل النبوة) وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة، وقد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام، لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم، فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن، إذا كان مثله يجوز في الإسلام، وبالله التوفيق انتهى كلامه.
قلت: وأخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار، لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سنداً ومتناً في تفسيرنا عند قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب، فلا منافاة، ولله الحمد والمنة. (ج/ص: 2/ 343)
وأما الحديث الذي ذكره السهيلي، وذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزناد، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما وآمنا به، فإنه حديث منكر جداً، وإن كان ممكناً بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه، والله أعلم.
==فصل كفالة عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام==
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم - يعني بعد موت أمه آمنة بنت وهب - فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني فوالله إن له لشأناً، ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري. وحدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله. وحدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي، عن المنذر بن جهم. وحدثنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبي الحويرث. وحدثنا ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع، عن ابن جبير - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب، وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني إنه يؤسس ملكاً.
وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم الذي في المقام منه. فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به.
وقال عبد المطلب لأم أيمن - وكانت تحضنه - يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا يقول: علي بابني فيؤتى به إليه.
فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته، ثم مات عبد المطلب ودفن بالحجون.
وقال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين هلك جده عبد المطلب بن هاشم. (ج/ص: 2/ 344)
ثم ذكر جمعه بناته وأمره إياهن أن يرثينه، وهن: أروى، وأميمة، وبرة، وصفية، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وذكر أشعارهن، وما قلن في رثاء أبيهن وهو يسمع قبل موته. وهذا أبلغ النوح، وبسط القول في ذلك. وقد قال ابن هشام: ولم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر.
قال ابن إسحاق: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي السقاية وزمزم بعده ابنه العباس، وهو من أحدث إخوته سناً، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام، وأقرها في يده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب، لوصية عبد المطلب له به، ولأنه كان شقيق أبيه عبد الله، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
قال: فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، وكان إليه ومعه.
وقال الواقدي: أخبرنا معمر، عن ابن نجيح، عن مجاهد. وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء، عن ابن عباس. وحدثنا محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة - دخل حديث بعضهم في حديث بعض -
قالوا: لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حباً شديداً، لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط، وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا.
فكان إذا أراد أن يغديهم قال: كما أنتم حتى يأتي ولدي، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن منهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك، وكان الصبيان يصبحون رمصاً شعثاً، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهيناً كحيلاً.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا علي بن ثابت، عن طلحة بن عمرو، سمعت عطاء بن أبي رباح، سمعت ابن عباس يقول: كان بنو أبي طالب يصبحون رمصاً عمصاً، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صقيلاً دهيناً، وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم أول البكرة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلا ينتهب معهم، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة.
وقال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه، أن رجلاً من لهب كان عائفاً، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم. (ج/ص: 2/ 345)
قال: فأتي أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام مع من يأتيه، قال: فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شغله عنه شيء، فلما فرغ قال: الغلام عليَّ به.
فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول: ويلكم ردوا على الغلام الذي رأيته آنفاً، فوالله ليكونن له شأن. قال وانطلق به أبو طالب.
فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه بي طالب إلى الشام.
في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام وقصته مع بحيرى الراهب.
قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجراً إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبداً - كما قال - فخرج به، فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون، يتوارثونه كابراً عن كابر.
فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم - حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريباً من صومعته، صنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم.
ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم، وصغيركم، وعبدكم، وحركم.
فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأناً اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم؟
قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً فتأكلون منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة.
فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده، فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي. (ج/ص: 2/ 346)
قالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سناً فتخلف في رحالنا.
قال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
قال: فقال رجل من قريش مع القوم واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.
فلما رأى بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له يا غلام: أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئاً، فوالله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما.
فقال له بحيرى: فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال بحيرى: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به.
قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
قال ابن إسحاق: فزعموا فيما روى الناس أن زريراً وثماماً ودريسماً - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما رأى بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى.
فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.
وقد ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن أبا طالب قال في ذلك ثلاث قصائد. هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير إسناد منه. وقد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع.
فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي: حدثنا عباس بن محمد الدوري، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا يونس عن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال: (ج/ص: 2/ 347)
خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب - يعني بحيرى - هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم، قال: فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيد العالمين.
وفي رواية البيهقي زيادة: هذا رسول رب العالمين، بعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: وما علمك؟ فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به -وكان هو في رعية الإبل - فقال: أرسلوا إليه.
فأقبل وغمامة عليه تظله، فلما دنا من القوم قال: انظروا إليه عليه غمامة، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه. فالتفت فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا.
قال: فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره فبعثنا إلى طريقك هذه. قال لهم: فهل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: لا، إنما أخبرناه خبره إلى طريقك هذه. قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ فقالوا: لا. قال: فبايعوه، وأقاموا معه عنده.
قال: فقال الراهب: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت.
هكذا رواه الترمذي عن أبي العباس الفضل بن سهل الأعرج عن قراد أبي نوح به. والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، عن عباس بن محمد الدوري به.
وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم، ويقال له: الضبي، ويعرف بقراد، سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ، ولم أر أحداً جرحه، ومع هذا في حديثه هذا غرابة. (ج/ص: 2/ 348)
قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال عباس الدوري: ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد أبي نوح، وقد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله، ويحيى بن معين لغرابته وانفراده، حكاه البيهقي وابن عساكر.
قلت: فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة، فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة، ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة، وعلى كل تقدير فهو مرسل.
فإن هذه القصة كانت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهوراً مذكوراً أخذه من طريق الاستفاضة.
الثاني: أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا.
الثالث: أن قوله وبعث معه أبو بكر بلالاً، إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك ثنتي عشرة سنة، فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك؟ ثم أين كان بلال؟ كلاهما غريب، اللهم إلا أن يقال إن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم كبيراً.
إما بأن يكون سفره بعد هذا، أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتي عشرة سنة غير محفوظ، فإنه إنما ذكره مقيداً بهذا الواقدي.
وحكى السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين، والله أعلم.
قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قالوا: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة، ونزلوا بالراهب بحيرى، فقال لأبي طالب بالسر ما قال، وأمره أن يحتفظ به، فرده معه أبو طالب إلى مكة.
وشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب يكلؤه الله عز وجل، ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية ومعائبها، لما يريد به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، فكان أبو طالب يحفظه، ويحوطه، وينصره، ويعضده حتى مات. (ج/ص: 2/ 349)
وقال محمد بن سعد: أخبرنا خالد بن معدان، حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب - أو أبا طالب شك خالد - قال: لما مات عبد الله عطف على محمد، فكان لا يسافر سفراً إلا كان معه فيه، وإنه توجه نحو الشام فنزل منزلاً فأتاه فيه راهب، فقال: إن فيكم رجلاً صالحاً.
ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال: فقال ها أنا ذا وليه - أو قيل هذا وليه - قال: احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود حسَّد، وإني أخشاهم عليه. قال: ما أنت تقول ذلك، ولكن الله يقوله فرده، وقال: اللهم إني أستودعك محمداً، ثم إنه مات.