البحر والبركان، أحمد عبد المعطي حجازي
البحر والبركان، للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي.
البحر والبركان
أحمد عبد المعطي حجازي
شدوان !
صوت البحر يأتي من بعيد ،
وارتعاشات النجوم علي المياه
يتواثب اللمعان في نغم يشب ويختفي
ويرف طير لا نراه
يتوالد الزبد المفضض في سباق المد ،
ويتم مصباح الفنارة دورة أخري ،
ويبدأ من جديد
وصفير غليون يلوح من بعيد للجزيرة!
شدوان
مدينة طفت علي وجه الزمن
سكنتها وحدي
وهأنا أدفع من دمي الثمن
بيني وبينك كل هذا الليل يا أمي ،
وآماد الظهيرة
وضجيج آلات الرحيل
وتقاطع الطرقات ، لا ندري إلي أين المسيرة
بيني وبينك هذه المدن الكبيرة
وتفرس الأغراب فينا قبل أن يلقوا لنا إذن الدخول
بيني وبينك كل هذا الملح أيتها الحقول
ووجوه أبناء القري الأخري، القتيل
يمشون في آثارنا
متعممين بثوبه الدامي ونظرته الأخيرة
بيني وبينك كل هذا الحب يا أمي.
وكل دم العشيرة
كل الذي من أجله لذنا بستر الخوف أعواما مريرة
كل الذي ينهار في نفسي ،
فأدرك بعد ما طال الزمان
أني استطعت النوم ، أبعد ما أكون عن الأمان !
شدوان !
منفي ، وبندقيتي وطن !
شدوان !
منذ متي نفضت البحر عن صحرائك الغرقي ،
وآويت السفن !
ومن الذي أعطاك هذا الاسم .. ملاح شريد
أم خارج حمل السلاح علي المدن
إني أمد الطرف لا ألقي سواي ،
ولا أشم سوي الرياح
بكر سماء الفجر ، صوت البحر ، أنفاس المياه
والرمل مبتل ، وريح البحر مغسول ،
أضواء الفنارة
بكر ،
كأن الله منذ هنيهة خلق الحياة
بكر أنا !
أمشي علي أرض البكارة
أرض أنا فيها مواطنها السعيد
ومليكها الشاكي السلاح
بكر مواويل الجنود
تنساب من أحلامهم في الفجر ،
تصبح أوجها وقري صغيرة
وأليفة أشياؤهم في الرمل نائمة نثيرة
كانت بنادقهم معلقة علي أكتافهم
وهمو علي الخلجان يصطادون في ألق الصباح
وهمو عراة ، يغسلون ثيابهم
ويطاردون عقارب الشطآن في شمس الظهيرة
بكر صرير الكائنات وشدوها الجياش في الصمت الفريد
تتفتح الأصداف هذا الوقت ،
تلقي نفسها فوق الرمال
ينهل نور البدر أمطارا غزيرة
ويصيح صوت بالرجال
يحمر في فم حارس طرف اللفافة ،
يلمع النصل الحديد
في بندقيته، ويلمع جسم وحش القرش في البقع المنيرة!
شدوان !
هي الوطن !
يأتي المساء محملا بروائح الذكري ونشوتها القريره بوجوهنا الأولي ،
ونحن نغيب في الحلم القديم
ونظل ننشق عطره ، ونغط في أعماقه الخضر الوثيرة !
حتي تعود لنا محبتنا لأنفسنا ، ويضنينا تعطشنا الخطر
يأتي المساء ! فتعتم الآفاق من حول الجزيرة
تتكاثف الظلمات فوق البحر ضاربة علي الأرض الحصار
وكأنما كان النهار وأمنه وهما من الأوهام ، وانقشع النهار
تتوغل الجزر البعيدة في الظلام وترحل السفن الأخر
ونظل نحن ، كأنما جئنا ليكشف كل إنسان مصيره
يأتي المساء ! فيقطع الكلمات فيما بيننا
ويلف أوجهنا ظلام الليل ،
يوقد في السريرة
مصباحها الباكي فنعرق في توحدنا الحميم
يأتي المساء ! فيستحيل البحر وحشا هائجا ،
تتقذف الأمواج فوق وجوهنا ملحا وعشبا ميتا
وتشدنا هوج الرياح ،
وتمعن الأصوات بعدا والنجوم
يأتي المساء محملا بمخاوف الليل العدائي البهيم
نترقب الخطر المداهم من وراء الليل ،
نلمس في الظلام رفيفه المنسل ، فوق جلودنا
يتشبث الدم بالتراب ، وتنشب الأعضاء صورتها
علي صدر الحفر
يتزاوج الدم والوعورة
يتزاوج الدم والخطر !
شدوان !
البحر والبركان
والنجم بالنجم اقترن !
شدوان لاتفضي لأرض غيرها ،
والليل لا يفضي سوي لليل ،
والأعداء للأعداء، والبحر المحيط إلي سواه
فاحفر علي أرض الجزيرة بيت أمك ،
واحتمل ضرب الغزاة
أو لذ بأذيال الفرار فلن تصير إلي قرار
ستظل طول العمر تبحث في النهار عن الظلام ،
وفي الظلام عن النهار
عن مخبأ تخفي به آثار وجهك ،
لا تري إلا وحوش القرش والجثث الغفيرة
وتظل تنكر أنت نفسك خائفا ممن تحب ،
فأي محبوب تلوذ له بأذيال الفرار !
وهل عرفت الحب حقا ؟
ما الذي صنعته أيدينا لنعطي أمهات
وقري يعيث بها الطغاه ؟
لا !
نحن لم نعشق ، ولم نعرف سوي الحب الضرورة
والعيش والموت الضرورة
ننزو بلا شغف
كما تنزو الثعالب في البراري والأرانب في الحظيرة
وننام في أعضائنا المرضي الكسيرة
ونموت ، نسرق غفلة ، دون اختيار
فاثبت علي أرض الجزيرة
أثبت علي الأرض التي منحتك مملكة ، وجرب
لفظة الرفض النبيل
قل «لا» هنا ،
لتقولها في كل مملكة سواها
لتقولها في كل مملكة سواها
لتقولها يوم الحساب ، إذا أتي يوم الحساب
وعادت الأشلاء تسأل من رماها للكلاب
ومن اشتراها وافتداها !
الموت ؟
كنه أنت !
فهو فتي في مثل سنك يرتدي ذات الثياب
اخرج له موتا لموت ،
مَن مِنَ الموتين يغلب ؟ من يذود عن التراب
واذكر هنا موتاك ، واذكر وجه أمك ،
هل تري أحببتها يوما كما أحببتها في ساعة الموت
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .