الإمامة والسياسة

من معرفة المصادر

الإمامة والسياسة، هو عمل عربي، يشكك في نسبته إلى ابن قتيبة، ويدور عن تاريخ الإسلام. ويشتهر الكتاب باسم تاريخ الخلفاء.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الجزء الأول

فضل أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما

حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا وكيع، عن يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي، عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين عليهم السلام ولا تخبرهما يا علي (1)، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمامي رضي الله عنه، حدثنا أحمد بن حواش الحنفي، قال: حدثنا ابن المبارك، عن عمر بن سعيد، عن أبي مليكة (2)،

(هامش)

(1) الحديث أخرجه الترمذي في المناقب (16) وابن ماجة في المقدمة (11) وأحمد في مسنده 1 / 80. (2) هو زهير بن عبد الله بن جدعان، أبو مليكة التيمي، روى عنه أبو داود، وعبد الله بن أبي مليكة حفيده (التقريب - الكاشف). (*)

ص 18

قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: وضع عمر رضي الله عنه على سريره فتكنفه (1) الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع، فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت فإذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يترحم على عمر رضي الله عنه، وقال: والله ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله تعالى بمثل عمله منك يا عمر، وأيم الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبك، وذاك أني كنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وكنت أنا وأبو بكر وعمر، وإن كنت لأظن أن يجعلك الله تعالى معهما . وأخبرنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن الحباب، عن موسى بن عبيد، قال: أخبرني أبو معاذ وأبو الخطاب، عن علي رضي الله عنه، قال: بينما أنا جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: يا علي: هذان سيدا كهول (2) أهل الجنة، إلا ما كان من الأنبياء عليهم السلام، ولا تخبرهما (3). حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن عبد العلي بن القاسم بن أبي عبد الرحمن رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد هممت أن أبعث إلى الأمم رجالا يدعونهم إلى الإسلام ويرغبونهم في الدين، فأبعث أبي بن كعب، وسالما مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، كما فعل عيسى بن مريم عليهما السلام ، فقالوا: يا رسول الله أفلا تبعث أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هما لا بد لي منهما، هما مني بمنزلة السمع والبصر (4). سؤال عمر بن العزيز عن استخلاف الرسول لأبي بكر وحدثنا (5)، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا محمد بن الزبير، قال: أرسلني عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري، رحمهما الله تعالى، أسأله إن

(هامش)

(1) تكنفه الناس: أي أحاطوا به. (2) سيد الكهول: الكهل من خالطه الشيب، والمعنى هما سيدا من مات كهلا، وإلا فليس في الجنة كهل. (3) الحديث قد جاء بوجوه متعددة عن علي وغيره، ذكره الترمذي وقد حسنه من بعض الوجوه (زيادات ابن ماجة). (4) القسم الأخير من الحديث أخرجه الترمذي في المناقب (باب: 16). (5) يعني الوليد بن مسلم. (*)

ص 19

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر رضي الله عنه، فأتيته فاستوى جالسا، وقال: إي والذي لا إله إلا هو، استخلفه، وهو كان أعلم بالله تعالى، وأتقى لله تعالى، من أن يتوثب عليهم لو لم يأمره. استخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه عن ابن أبي مريم، قال: حدثنا العرياني، عن أبي عون بن عمرو بن تيم الأنصاري رضي الله عنه، وحدثنا سعيد بن كثير، عن عفير بن عبد الرحمن قال: حدثنا بقصة استخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وشأن السقيفة، وما جرى فيها من القول، والتنازع بين المهاجرين والأنصار وبعضهم يزيد على بعض في الكلام، فجمعت ذلك وألفته على معنى حديثهم، ومجاز لغتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الذي قبض فيه، متوكئا على الفضل بن العباس رضي الله عنهما، وغلام يقال له ثوبان (1) رضي الله عنه، ثم رجع صلى الله عليه وسلم فدخل منزله، وقال لغلامه: اجلس على الباب ولا تحجب أحدا من الأنصار رضي الله عنهم، فأحدقوا بالباب، وقالوا للغلام: ائذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عنده نساؤه رضي الله تعالى عنهن، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهم، فقال: من هؤلاء؟ فقيل له الأنصار رضي الله عنهم يبكون، فخرج صلى الله عليه وسلم متوكئا على علي والعباس رضي الله عنهما فدخل المسجد واجتمع الناس إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لم يمت نبي قط إلا خلف وراءه تركة وإن تركتي فيكم الأنصار رضي الله عنهم، وهم كرشي (2) التي آوي إليها، أوصيكم بتقوى الله تعالى، والإحسان إليهم، فقد علمتم أنهم شاطروكم (3) وواسوكم في العسر واليسر نصروكم في النشط والكسل، فاعرفوا

(هامش)

(1) ثوبان: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بن بجدد أبو عبد الله أصله من أهل السراة (بين مكة واليمن) اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعتقه خدم النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته، توفي في حمص سنة 54. (2) قال أبو عبيد في غريب الحديث عن أبي زيد الأنصاري: يقال عليه كرش من الناس يعني جماعة. وقال غيره: فكأنه أراد جماعتي وصحابتي الذين أثق بهم وأعتمد عليهم. وقال الأحمر: يقال: هم كرش منثورة (يعني صبيان صغار). (3) شاطروكم: من الشطر. قال المبرد في الكامل: وأصل هذا من التنصيف. وللشطر وجهان في = (*)

ص 20

لهم حقهم، واقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم . ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله وهو معصوب الرأس شديد الوجع، فلما كانت الصلاة أتى بلال المؤذن رضي الله عنه يدعو إلى الصلاة، ففتح صلى الله عليه وسلم عينيه، وقال للنساء: ادعون لي حبيبي، فعرفت عائشة رضي الله عنها أنه يريد أبا بكر، فقالت: أرسل إلى عمر، فإن أبا بكر رجل رقيق، وإن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم افتضح من البكاء، وعمر أقوى منه، فأرسلت إلى عمر رضي الله عنه، فأتى فسلم، ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم عينيه، فرد السلام، ثم أطرق عنه، فعرف عمر أنه لم يرده، فلما خرج أقبل صلى الله عليه وسلم عليهن وقال: ادعون لي حبيبي فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، أمرت عمر يصلي بالناس، فقال صلى الله عليه وسلم: إنكن صواحبات يوسف (1) عليه السلام، ادعون لي حبيبي إنما أفعل ما أومر فدعي أبو بكر رضي الله تعالى عنه (2). استخلاف أبي بكر رضي الله عنه في الصلاة بالناس فلما جاء قال له: اذهب مع المؤذن، فصل بالناس، فلم يزل أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس حتى كان اليوم الذي مات فيه رسول الله (3) وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين.

(هامش)

= كلام العرب فأحدهما النصف.. من ذلك قولهم: شاطرتك مالي، والوجه الآخر: القصد، يقال: خذ شطر زيد، أي قصده، قال الله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي قصده. (1) يريد كثرة التظاهر على ما يرون، وكثرة إلحاحهن في طلب ما يردنه ويملن إليه. (2) راجع ما ذكره البيهقي في دلائل النبوة - باب ما جاء في أمره، حين اشتد به المرض - أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يصلي بالناس ج 7 / 186 وما بعدها. (3) هذا يحتمل أن أبا بكر رضي الله عنه صلى بالناس طيلة فترة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قام بالصلاة بالناس، وانتهى ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم. في ذلك وردت عدة أحاديث ذكرها البيهقي في دلائل النبوة، باب ما جاء في آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس. ج 7 / 189. (*)

ص 21

اختلاف الصحابة على موضع دفنه صلى الله عليه وسلم فأتمروا فقال قائل: يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يصلي في مقامه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: معاذ الله أن نجعله وثنا نعبده! وقال قائل: ندفنه صلى الله عليه وسلم في البقيع (1)، حيث دفن أخوانه من المهاجرين والأنصار. فقال أبو بكر: إنا نكره أن نخرج قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا إلى البقيع، قالوا: فما ترى يا أبا بكر؟ قال: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي قط إلا دفن جسده حيث قبض روحه (2). قالوا: فأنت والله رضا ومقنع. وكان العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قد لقي عليا كرم الله وجهه، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقبض، فاسأله إن كان الأمر لنا بينه وإن كان لغيرنا أوصى بنا خيرا.

محاولة العباس مبايعة الإمام علي

فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أبسط يدك أبايعك، فيقال: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبايعك أهل بيتك، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل، فقال له علي كرم الله وجهه: ومن يطلب هذا الأمر غيرنا؟ وقد كان العباس رضي الله عنه لقي أبا بكر فقال: هل أوصاك رسول الله بشيء؟ قال: لا. ولقي العباس أيضا عمر، فقال له مثل ذلك. فقال عمر: لا. فقال العباس لعلي رضي الله عنه: ابسط يدك أبايعك ويبايعك أهل بيتك.

ذكر السقيفة وما جرى فيها من القول

وحدثنا، قال: حدثنا ابن عفير عن أبي عون، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري رضي الله عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قبض، اجتمعت

(هامش)

(1) البقيع: مقبرة أهل المدينة، وهي داخل المدينة (معجم البلدان). (2) نقله السيوطي في الخصائص الكبرى 2 / 278 عن ابن سعد والبيهقي وقال: له عدة طرق موصولة ومرسلة. وانظر طبقات ابن سعد 2 / 275. (*)

ص 22

الأنصاري رضي الله عنهم إلى سعد بن عبادة، فقالوا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض. فقال سعد لابنه قيس (1) رضي الله عنهما: إني لا أستطيع أن أسمع الناس كلاما لمرضي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهم، فكان سعد يتكلم، ويحفظ ابنه رضي الله عنهما قوله، فيرفع صوته، لكي يسمع قومه، فكان مما قال رضي الله عنه، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: يا معشر الأنصار إن لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة (2) من العرب، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في قومه بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأوثان (3)، فما آمن به من قومه إلا قليل (4)، والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفوا دينه، ولا يدفعوا عن أنفسهم (5)، حتى أراد الله تعالى لكم الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم، والمنع له ولأصحابه والإعزاز [له و] لدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على من تخلف عنه منكم، وأثقله على عدوكم من غيركم، حتى استقاموا لأمر الله تعالى طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داحرا حتى أثخن الله تعالى لنبيه بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله تعالى وهو راض عنكم [وبكم] قرير العين، فشدوا أيديكم بهذا الأمر، فإنكم أحق الناس وأولاهم به. فأجابوه جميعا: أن قد وفقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت توليتك هذا الأمر، فأنت مقنع ولصالح المؤمنين رضا (6). قال فأتى الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه، ففزع أشد الفزع، وقام معه عمر رضي الله عنهما،

(هامش)

(1) زيد في الطبري: أو بعض بني عمه . (2) كذا بالأصل والطبري، وفي الكامل لابن الأثير: لأحد من العرب. (3) في الطبري: وخلع الأنداد والأوثان. (4) في الطبري: إلا رجال قليل. (5) العبارة في الطبري: ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به. (6) وزيد في الطبري وابن الأثير: (النص من الطبري): ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعونا هذا الأمر بعده، فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا: منا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدا، فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن. (*)

ص 23

فخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة، فلقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فانطلقوا رضي الله عنهم جميعا، حتى دخلوا سقيفة بني ساعدة، وفيها رجال من الأشراف، معهم سعد بن عبادة رضي الله عنه، فأراد عمر رضي الله عنه أن يبدأ بالكلام، وقال: خشيت أن يقصر أبو بكر رضي الله عنه عن بعض الكلام. فلما تيسر عمر للكلام، تجهز أبو بكر رضي الله عنه وقال له: على رسلك، فستكفى الكلام، فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، وانتصب له الناس، فقال (1): إن الله جل ثناؤه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله تعالى بنواصينا وقلوبنا إلى ما دعا إليه، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما، والناس لنا فيه تبع، ونحن عشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابا، ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة. وأنتم أيضا والله الذين آووا ونصروا، وأنتم وزراؤنا في الدين، ووزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم إخواننا في كتاب الله تعالى وشركاؤنا في دين الله عز وجل وفيما كنا فيه من سراء وضراء، والله ما كنا في خير قط إلا كنتم معنا فيه، فأنتم أحب الناس إلينا، وأكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمر الله عز وجل ولما ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين رضي الله عنهم، وهم أحق الناس فلا تحسدوهم، وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين، وأنتم أحق الناس ألا يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم، وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم، وإنما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر، وكلاهما قد رضيت لكم ولهذا الأمر، وكلاهما له أهل. فقال عمر وأبو عبيدة رضي الله عنهما: ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر أنت صاحب الغار ثاني اثنين، وأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فأنت أحق الناس بهذا الأمر. فقال الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، وإنا لكما وصفت يا أبا بكر والحمد لله، ولا أحد من خلق الله تعالى أحب إلينا منكم، ولا أرضى عندنا ولا أيمن ولكنا نشفق مما بعد اليوم، ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلا منا ورجلا منكم بايعنا ورضينا، على أنه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار فإذا

(هامش)

(1) قارن مع الطبري - ابن الأثير - ابن كثير، باختلاف في الألفاظ والتعابير. (*)

ص 24

هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يعدل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأن يكون بعضنا يتبع بعضا، فيشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري، ويشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي. فقام أبو بكر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمته ليعبدوا الله ويوحدوه وهم إذ ذاك يعبدون آلهة شتى، يزعمون أنها لهم شافعة، وعليهم بالغة نافعة، وإنما كانت حجارة منحوتة، وخشبا منجورة، فاقرأوا إن شئتم (إنكم وما تعبدون من دون الله) [يونس: 18]، (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، وقالوا: *(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)* [الزمر: 3] فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله تعالى المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له والصبر معه على الشدة من قومهم، وإذلالهم وتكذيبهم إياهم وكل الناس مخالف عليهم (1)، زار لهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وإزراء (2) الناس بهم واجتماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض، وأول من آمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بالأمر من بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم في الإسلام، رضيكم الله تعالى أنصارا لدينه ولرسوله، وجعل إليكم مهاجرته فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لانفتات دونكم بمشورة، ولا تنقضي (3) دونكم الأمور. فقام الحباب بن المنذر بن زيد بن حرام رضي الله عنه، فقال: يا معشر الأنصار: املكوا عليكم أيديكم، فإنما الناس في فيئكم وظلالكم، ولن يجير مجير (4) على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة وأولو العدد والنجدة (5)، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا، فيفسد

(هامش)

(1) في الطبري: لهم مخالف. (2) في الطبري وابن الأثير: وشنف الناس لهم. وكلاهما بمعنى: البغض والتنكر والاحتقار. (3) في الطبري: ولا نقضي. وعند ابن الأثير: ولا تقضى. (4) في الطبري: ولن يجترئ مجترئ. (5) في الطبري: وأولو العدد والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة. (*)

ص 25

عليكم رأيكم، وتقطع أموركم، أنتم أهل الإيواء والنصرة، وإليكم كانت الهجرة، ولكم في السابقين الأولين مثل ما لهم، وأنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم، والله ما عبدوا الله علانية إلا في بلادكم، ولا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم، ولا دانت العرب للإسلام إلا بأسيافكم، فأنتم أعظم الناس نصيبا في هذا الأمر، وإن أبى القوم، فمنا أمير ومنهم أمير. فقام عمر رضي الله عنه، فقال: هيهات لا يجتمع (1) سيفان في غمد واحد، إنه والله لا يرضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم، وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة. فقام الحباب بن المنذر رضي الله عنه، فقال: يا معشر الأنصار: أملكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم، فإنه دان لهذا الأمر ما لم يكن يدين له بأسيافنا، أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة (2)، والله لا يرد علي أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف. قال عمر بن الخطاب: فلما كان الحباب هو الذي يجيبني، لم يكن لي معه كلام، لأنه كان بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاني عنه، فحلفت أن لا أكلمه كلمة تسوؤه أبدا (3). ثم قام أبو عبيدة، فقال: يا معشر الأنصار أنتم أول من نصر وآوى، فلا تكونوا أول من يبدل ويغير.

مخالفة بشير بن سعد، ونقضه لعهدهم

قال: وإن بشيرا لما رأى ما اتفق عليه قومه من تأمير سعد بن عبادة، قام حسدا لسعد، وكان بشير من سادات الخزرج، فقال: يا معشر الأنصار، أما والله

(هامش)

(1) في الطبري: لا يجتمع اثنان في قرن. (2) الجذعة: الفتية. والجذع من الإبل ما استكمل الأربع ودخل في السنة الخامسة من العمر. والأنثى جذعة. (عن غريب الهروي). (3) في الطبري وابن الأثير: فقال عمر: إذا ليقتلك الله! فقال: بل إياك يقتل. (*)

ص 26

لئن كنا أولى الفضيلة في جهاد المشركين، والسابقة في الدين، ما أردنا إن شاء الله غير رضا ربنا، وطاعة نبينا، والكرم لأنفسنا (1)، وما ينبغي أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغي به عوضا (2) من الدنيا فإن الله تعالى ولي النعمة والمنة علينا بذلك. ثم إن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من قريش، وقومه أحق بميراثه، وتولي سلطانه، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا فاتقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

قال: ثم إن أبا بكر قام على الأنصار، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم دعاهم إلى الجماعة، ونهاهم عن الفرقة، وقال: إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين: أبي عبيده بن الجراح، أو عمر فبايعوا من شئتم منهما، فقال عمر: معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا، أنت أحقنا بهذا الأمر، وأقدمنا صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل منا في المال، وأنت أفضل المهاجرين وثاني اثنين، وخليفته على الصلاة، والصلاة أفضل أركان دين الإسلام، فمن ذا ينبغي أن يتقدمك، ويتولى هذا الأمر عليك؟ أبسط يدك أبايعك. فلما ذهبا يبايعانه سبقهما إليه بشير الأنصاري فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير بن سعد، عقك عقاق ما اضطرك إلى ما صنعت؟ حسدت ابن عمك على الإمارة؟ قال: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا لهم. فلما رأت الأوس ما صنع قيس (3) بن سعد وهو من سادات الخزرج، وما دعوا إليه المهاجرين من قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير (4) رضي الله عنه: لئن وليتموها سعدا عليكم مرة واحدة، لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة، ولا جعلوا لكم نصيبا فيها أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر رضي الله عنه، فقاموا إليه فبايعوه؟ فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذه، فبادروا إليه فأخذوا سيفه منه، فجعل

(هامش)

(1) في الطبري: والكدح لأنفسنا. (2) في الطبري: عرضا. (3) كذا بالأصل، تحريف. والصواب بشير كما في الطبري وابن الأثير، وهذا ما يقتضيه السياق. (4) وهو أحد النقباء الاثنى العشر. وهو من سادات الأوس ورؤسائهم. (*)

ص 27

يضرب بثوبه وجوههم، حتى فرغوا من البيعة، فقال: فعلتموها يا معشر الأنصار، أما والله لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم، قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء. قال أبو بكر: أمنا تخاف يا حباب؟ قال: ليس منك أخاف، ولكن ممن يجئ بعدك (1). قال أبو بكر: فإذا كان ذلك كذلك، فالأمر إليك وإلى أصحابك، ليس لنا عليك طاعة، قال الحباب: هيهات يا أبا بكر، إذا ذهبت أنا وأنت، جاءنا بعدك من يسومنا الضيم.

تخلف سعد بن عبادة رضي الله عنه عن البيعة

فقال سعد بن عبادة: أما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض، لسمعتم مني في أقطارها زئيرا يخرجك (2): أنت وأصحابك، ولألحقتك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع، خاملا غير عزيز، فبايعه الناس جميعا حتى كادوا يطئون سعدا. فقال سعد: قتلتموني. فقيل (3): قتلوه قتله الله، فقال سعد: احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره وترك أياما، ثم بعث إليه أبو بكر رضي الله عنه: أن أقبل فبايع، فقد بايع الناس، وبايع قومك، فقال: أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب منكم سناني ورمحي (4)، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي، ولا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي، وأعلم حسابي. فلما أتي بذلك أبو بكر من قوله، قال عمر: لا تدعه حتى يبايعك، فقال لهم بشير بن سعد: إنه قد أبى ولج، وليس يبايعك حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه، وأهل بيته وعشيرته، ولن تقتلوهم حتى تقتل الخزرج، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس، فلا تفسدوا على أنفسكم أمرا قد استقام لكم، فاتركوه فليس تركه بضاركم، وإنما هو رجل واحد، فتركوه وقبلوا مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه لما بدا لهم منه. فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع (5)

(هامش)

(1) قال الجوهري في كتاب السقيفة: لقد صدقت فراسة الحباب، فإن الذي خافه وقع يوم الحرة (سنة 63) وأخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر (شرح النهج 1 / 313). (2) في الطبري: يجحرك وأصحابك يعني يدخلكم المضايق. (3) القائل هو عمر بن الخطاب. قاله في الطبري. (4) في الطبري: سنان رمحي. (5) أي لا يصلي الجمعة معهم. (*)

ص 28

بجمعتهم، ولا يفيض بإفاضتهم، ولو يجد عليهم أعوانا لصال بهم، ولو بايعه أحد على قتالهم لقاتلهم، فلم يزل كذلك حتى توفي أبو بكر رحمه الله، وولي عمر بن الخطاب، فخرج إلى الشام، فمات بها، ولم يبايع لأحد، رحمه الله (1). وإن بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير بن العوام رضي الله عنه، وكانت أمه صفية بنت عبد المطلب، وإنما كان يعد نفسه من بني هاشم، وكان علي كرم الله وجهه يقول: ما زال الزبير منا حتى نشأ بنوه، فصرفوه عنا، واجتمعت بنو أمية على عثمان، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين، فلما أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة وقد بايع الناس أبا بكر قال لهم عمر: ما لي أراكم مجتمعين حلقا شتى (2)، قوموا فبايعوا أبا بكر، فقد بايعته وبايعه الأنصار، فقام عثمان بن عفان ومن معه من بني أمية فبايعوه، وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوه. وأما علي والعباس بن عبد المطلب ومن معهما من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام، فذهب إليهم عمر في عصابة (3) فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم، فقالوا: انطلقوا فبايعوا أبا بكر، فأبوا، فخرج الزبير بن العوام رضي الله عنه بالسيف، فقال عمر رضي الله عنه: عليكم بالرجل فخذوه فوثب عليه سلمة بن أسلم (4)، فأخذ السيف من يده، فضرب به الجدار، وانطلقوا به فبايع وذهب بنو هاشم أيضا فبايعوا (5).

إباية علي كرم الله وجهه بيعة أبي بكر رضي الله عنهما

ثم إن عليا كرم الله وجهه أتي به إلى أبي بكر وهو يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، فقيل له بايع أبا بكر، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم

(هامش)

(1) أقام بحوران ومات سنة 15 وقيل سنة 14 وقيل سنة 11 ولم يختلفوا أنه وجد ميتا على مغتسله وقد اخضر جسده. وقيل إن قبره بالمنيحة قرية من غوطة دمشق وهو مشهور. (2) في شرح النهج 2 / 266: ما لي أراكم ملتاثين؟ (3) زيد في شرح النهج: إلى بيت فاطمة. (4) في رواية عمر بن شبة: اعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر، فندر السيف من يده (أي سقط)، فضرب به عمر الحجر فكسره (الطبري 3 / 202). (5) وفي مروج الذهب 2 / 329 لم يبايعه أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها وهو ما رواه ابن الأثير في الكامل نقلا عن الزهري. والطبري في رواية 3 / 208. (*)

ص 29

أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار نحن أولى برسول الله حيا وميتا فأنصفونا (1) إن كنتم تؤمنون وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع، فقال له علي: احلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا. ثم قال: والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه. فقال له أبو بكر: فإن لم تبايع فلا أكرهك، فقال أبو عبيدة بن الجراح لعلي كرم الله وجهه: يا بن عم إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم، ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالا واضطلاعا به، فسلم لأبي بكر هذا الأمر، فإنك إن تعش ويطل (2) بك بقاء، فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق، في فضلك (3) ودينك، وعلمك وفهمك، وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي كرم الله وجهه: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته، إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به. لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحق بعدا. فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان. قال: وخرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما

(هامش)

(1) العبارة في شرح النهج: فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. (2) في شرح النهج: ويطل عمرك. (3) العبارة في شرح النهج: في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك. (*)

ص 30

عدلنا به، فيقول علي كرم الله وجهه: أفكنت أدع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه

قال: وإن أبا بكر رضي الله عنه تفقد قوما تخلفوا عن بيعته عند علي كرم الله وجهه، فبعث إليهم عمر (1)، فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال: والذي نفسه عمر بيده. لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص، إن فيها فاطمة؟ فقال: وإن، فخرجوا فبايعوا إلا عليا فإنه زعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن، فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها، فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا، ولم تردوا لنا حقا. فأتى عمر أبا بكر، فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفد وهو مولى له: اذهب فادع لي عليا، قال: فذهب إلى علي فقال له: ما حاجتك؟ فقال: يدعوك خليفة رسول الله، فقال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله. فرجع فأبلغ الرسالة، قال: فبكى أبو بكر طويلا. فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر رضي الله عنه لقنفد: عد إليه، فقل له: خليفة رسول الله (2) يدعوك لتبايع، فجاءه قنفد، فأدى ما أمر به، فرفع علي صوته فقال: سبحان الله؟ لقد ادعى ما ليس له، فرجع قنفد، فأبلغ الرسالة، فبكى أبو بكر طويلا، ثم قام عمر، فمشى معه جماعة، حتى أتوا باب فاطمة، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة، فلما سمع القوم صوتها وبكاءها، انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا عليا، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، فقال: إذا تقتلون عبد

(هامش)

(1) في رواية أن عمر جاء إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين. (2) في نسخة: أمير المؤمنين. (*)

ص 31

الله وأخا رسول، قال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح ويبكي، وينادي: يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني. فقال عمر لأبي بكر، رضي الله عنهما: انطلق بنا إلى فاطمة، فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعا، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا عليا فكلماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها، حولت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها، فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله! والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت، ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله، إلا أني سمعت أباك رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث، ما تركنا فهو صدقة ، فقال: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم. فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه، فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها، ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته، مسرورا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي. قالوا: يا خليفة رسول الله، إن هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة، بعدما سمعت ورأيت من فاطمة. قال: فلم يبايع علي كرم الله وجهه حتى ماتت فاطمة رضي الله عنهما، ولم تمكث بعد أبيها إلا خمسا وسبعين ليلة (1). قال: فلما توفيت أرسل

(هامش)

(1) اختلفوا في وفاتها عليها السلام وكم عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، قال الواقدي: = (*)

ص 32

علي إلى أبي بكر: أن أقبل إلينا (1)، فأقبل أبو بكر حتى دخل على علي وعنده بنو هاشم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا أبا بكر: فإنه لم يمنعنا أن نبايعك إنكارا لفضيلتك، ولا نفاسة عليك (2)، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا، فاستبددت علينا، ثم ذكر علي قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر. فقال أبو بكر رضي الله عنه. لقرابة رسول الله أحب إلي (3) من قرابتي، وإنى والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته إن شاء الله تعالى. فقال علي: موعدك غدا (4) في المسجد الجامع للبيعة إن شاء الله. ثم خرج فأتى المغيرة بن شعبة، فقال: الرأي يا أبا بكر أن تلقوا العباس، فتجعلوا له في هذه الإمرة نصيبا، يكون له ولعقبه، وتكون لكما الحجة على علي وبني هاشم، إذا كان العباس معكم. قال: فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة حتى دخلوا على العباس رضي الله عنه. فحمد الله أبو بكر، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا وللمؤمنين وليا، فمن الله تعالى بمقامه بين أظهرنا، حتى اختار له الله ما عنده، فخلى على الناس أمرهم، ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم، متفقين غير مختلفين، فاختاروني عليهم واليا، ولأمورهم راعيا، وما أخاف بعون الله وهنا ولا حيرة ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب. وما أزال يبلغني عن طاعن يطعن بخلاف ما اجتمعت عليه عامة المسلمين، ويتخذكم لجأ، فتكونون حصنه المنيع، فإما دخلتم فيما دخل فيه العامة، أو دفعتموهم عما مالوا إليه، وقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا، يكون لك ولعقبك من بعدك، إذ كنت عم رسول الله، وإن كان

(هامش)

وهو الثبت عندنا: توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وتوفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وهي ابنة تسع وعشرين سنة أو نحوها وقيل توفيت بعده بثلاثة أشهر وقيل ثمانية أشهر وقيل سبعين يوما (أنظر ابن سعد 8 / 30 وطبقات خليفة

ص 96

ومروج الذهب 2 / 321 والطبري). (1) زيد في الطبري - وهو يروي عن الزهري: ائتنا ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر: لا تأتهم وحدك قال أبو بكر: والله لآتينهم وحدي، وما عسى أن يصنعوا بي! (2) زيد في رواية الطبري: بخير ساقه الله إليك. (3) في نسخة: أحب إلي أن أصل من قرابتي. (4) في الطبري: موعدك العشية للبيعة. (*)

ص 33

الناس قد رأوا مكانك ومكان أصحابك، فعدلوا الأمر عنكم وعلى رسلكم بني عبد المطلب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ومنكم، ثم قال عمر: إي والله، وأخرى أنا لم نأتكم حاجة منا إليكم، ولكنا كرهنا أن يكون الطعن منكم فيما اجتمع عليه العامة، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم ولعامتكم. فتكلم العباس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله بعث محمدا كما زعمت نبيا، وللمؤمنين وليا، فمن الله بمقامه بين أظهرنا حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم، مصيبين للحق، لا مائلين عنه بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم متقدمون فيهم، وإن كان هذا الأمر إثما يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين، فأما ما بذلت لنا فإن يكن حقا لك فلا حاجة لنا فيه وإن يكن حقا للمؤمنين فليس لك أن تحكم عليهم، وإن كان حقنا لم نرض عنك فيه ببعض دون بعض. وأما قولك إن رسول الله منا ومنكم، فإنه قد كان من شجرة نحن أغصانها، وأنتم جيرانها. قال: ثم خرج أبو بكر إلى المسجد الشريف، فأقبل على الناس، فعذر عليا بمثل ما اعتذر عنه، ثم قال علي فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى فبايعه، فأقبل الناس على علي، فقالوا: أصبت يا أبا الحسن وأحسنت. قال: فلما تمت البيعة لأبي بكر أقام ثلاثة أيام يقيل الناس ويستقيلهم، يقول قد أقلتكم في بيعتي، هل من كاره؟ هل من مبغض؟ فيقوم علي في أول الناس فيقول: والله لا نقيلك ولا نستقيلك أبدا، قد قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتوحيد ديننا، من ذا الذي يؤخرك لتوجيه دنيانا؟. خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

قال: ثم إن أبا بكر قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله الجليل الكريم العليم الحكيم الرحيم الحليم، بعث محمدا بالحق، وأنتم معشر العرب كما قد علمتم، من الضلالة والفرقة، ألف بين قلوبكم ونصركم به وأيدكم، ومكن لكم دينكم، وأورثكم سيرته الراشدة

ص 34

المهدية، فعليكم بحسن الهدى ولزوم الطاعة، وقد استخلف الله عليكم خليفة ليجمع به ألفتكم، ويقيم به كلمتكم، فأعينوني على ذلك بخير، ولم أكن لأبسط يدا ولا لسانا على من لم يستحل ذلك إن شاء الله، وأيم الله ما حرصت عليها ليلا ولا نهارا، ولا سألتها الله قط في سر ولا علانية، ولقد قلدت أمرا عظيما، ما لي به طاقة ولا يد، ولوددت أني وجدت أقوى الناس عليه مكاني، فأطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم، ثم بكى وقال: اعلموا أيها الناس أني لم أجعل لهذا المكان أن أكون خيركم، ولوددت أن بعضكم كفانيه، ولئن أخذتموني بما كان الله يقيم به رسوله من الوحي ما كان ذلك عندي، وما أنا إلا كأحدكم، فإذا رأيتموني قد استقمت فاتبعوني، وإن زغت (1) فقوموني، واعلموا أن لي شيطانا يعتريني أحيانا، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، ثم نزل. ثم دعا عمر والأوجاه (2) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما ترون لي من هذا المال؟ (3) فقال عمر: أنا والله أخبرك مالك منه. أما ما كان لك من ولد قد بان عنك وملك أمره، فسهمه كرجل من المسلمين، وأما ما كان من عيالك وضعفة أهلك، فتقوت منه بالمعروف وقوت أهلك. فقال: يا عمر إني لأخشى ألا يحل لي أن أطعم عيالي من فئ المسلمين. فقال عمر: يا خليفة رسول الله، إنك قد شغلت بهذا الأمر عن أن تكسب لعيالك. قال: ولما تمت البيعة لأبي بكر، واستقام له الأمر، اشرأب النفاق بالمدينة، وارتدت العرب، فنصب لهم أبو بكر الحرب، وأراد قتالهم، فقالوا: نصلي ولا نؤدي الزكاة. فقال الناس: اقبل منهم يا خليفة رسول الله، فإن العهد حديث، والعرب كثير، ونحن شرذمة قليلون، لا طاقة لنا بالعرب، مع أنا قد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى

(هامش)

(1) زغت من زاغ أي عدل عن الحق ومال عنه. وقوموني أي سددوني يعني أرجعوني إلى الصواب وقول الحق. (2) في نسخة الأوجاه تحريف. (3) وكان أبو بكر رضي الله عنه قد أصبح - بعدما استخلف - غاديا إلى السوق وقد كان يشتغل بالتجارة وقد لقيه عمر وأبو عبيدة وآخرون فسألوه أين يريد؟ فقال: السوق، فقيل له: ماذا وقد وليت أمر المسلمين، فأجاب: فمن أين أطعم عيالي. حينئذ عملوا على أن يفرض له ما يغنيه عن عمله في التجارة، وقد جعلوا له ألفين وقيل ألفين وخمسمئة. (*)

ص 35

يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله (1) فقال أبو بكر: هذا من حقها، لا بد من القتال. فقال الناس لعمر: أخل به فكلمه لعله يرجع عن رأيه هذا، فيقبل منهم الصلاة، ويعفيهم من الزكاة، فخلا به عمر نهاره أجمع، فقال: والله لو منعوني عقالا (2) كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه، ولو لم أجد أحدا أقاتلهم به لقاتلتهم وحدي، حتى يحكم الله بيني وبينهم، وهو خير الحاكمين، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمرت أن أقاتل الناس على ثلاث: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة (3) فوالله الذي لا إله إلا هو لا أقصر دونهن، فضرب منهم من أدبر بمن أقبل، حتى دخل الناس في الإسلام طوعا وكرها. وحمدوا رأيه، وعرفوا فضله. قال أبو رجاء العطاردي: رأيت الناس مجتمعين وعمر يقبل رأس أبي بكر ويقول: أنا فداؤك، لولا أنت لهلكنا. فخمد له رأيه في قتال أهل الردة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مرض أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما

قال: ثم إن أبا بكر عمل سنتين وشهورا (4)، ثم مرض مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه أناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فيهم عبد الرحمن بن عوف، فقال له: كيف أصبحت يا خليفة رسول الله، فإني أرجو أن تكون بارئا؟ قال: أترى ذلك؟ قال: نعم، قال أبو بكر: والله إني لشديد الوجع، ولما ألقى منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي، إني وليت

(هامش)

(1) الحديث أخرجه البخاري في الإيمان (17) ومسلم في الإيمان (34 و36) والترمذي في الإيمان (1) وتفسير سورة (88) والنسائي في الجهاد (1) وابن ماجة في الفتن (1) وأحمد في مسنده من عدة طرق في ج 1 و2 و3. (2) قال أبو عبيد في غريبه: ويروى عناقا وفي الفائق للزمخشري: وفيه: وروي: لو منعوني جديا أذوط . قال الكسائي: العقال صدقة عام. يقال: قد أخذ منهم عقال هذا العام إذا أخذت منهم صدقته. وقال الأصمعي: يقال: بعث فلان على عقال بني فلان: إذا بعث على صدقاتهم. (وانظر النهاية لابن الأثير 3 / 118. وغريب الهروي 2 / 3 - 4). (3) متفق عليه أخرجه البخاري وابن ماجة وأحمد في مسنده. (4) كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال قاله في الطبري. (*)

ص 36

أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه إرادة أن يكون هذا الأمر له. وذلك لما رأيتم الدنيا قد أقبلت (1). أما والله لتتخذن نضائد (2) الديباج، وستور الحرير، ولتألمن النوم (3) على الصفوف الأذربي (4)، كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان (5)، والله لأن يقدم أحدكم فضرب عنقه في غير حدث خير له من أن يخوض غمرات الدنيا (6). فقال له عبد الرحمن بن عوف: خفض عليك من هذا يرحمك الله، فإن هذا يهيضك (7) على ما بك، وإنما الناس رجلان: رجل رضي ما صنعت، فرأيه كرأيك، ورجل كره ما صنعت، فأشار عليك برأيه، ما رأينا من صاحبك الذي وليت إلا خيرا، وما زلت صالحا مصلحا، ولا أراك تأسى على شيء من الدنيا فاتك (8). قال: أجل، والله ما آسى إلا على ثلاث فعلتهن، ليتني كنت تركتهن، وثلاث تركتهن ليتني فعلتهن، وثلاث ليتني سألت رسول الله عنهن، فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهن، فليتني تركت بيت علي وإن كان أعلن علي الحرب، وليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر فكان هو الأمير وكنت أنا الوزير، وليتني حين أتيت بذي الفجاءة السلمي (9) أسيرا أني قتلته ذبيحا أو أطلقته نجيحا، ولم أكن أحرقته بالنار. وأما اللاتي تركتهن وليتني كنت فعلتهن، ليتني حين أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا أني قتلته ولم استحيه، فإني سمعت منه، وأراه لا يرى غيا ولا شرا إلا أعان عليه، وليتني حيث بعثت خالد بن الوليد إلى الشام، أني كنت بعثت

(هامش)

(1) العبارة في الطبري: ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير.. 3 / 429. (2) قال المبرد في الكامل: نضائد الديباج، واحدتها نضيدة، وهي الوسادة وما ينضد من المتاع. (3) في الطبري: وتألموا الاضطجاع. (4) كذا بالأصل والكامل للمبرد، وفي الطبري: الأذري نسبة إلى آذربيجان من بلاد العجم. (5) السعدان: نبت كثير الحسك تأكله الإبل فتسمن عليه. (6) زيد عند المبرد والطبري: يا هادي الطريق جرت، إنما هو والله الفجر أو البجر. (7) قال المبرد: قوله يهيضك مأخوذ من قولهم: هيض العظم إذا جبر ثم أصابه شيء يعنته فأذاه، كسره ثانية أو لم يكسره، وأكثر ما يستعمل في كسره ثانية. (8) الخبر إلى هنا الكامل للمبرد 1 / 11. وانظر العقد الفريد 4 / 268 وإعجاز القرآن (ص 116). (9) وكان الفجاءة قد أتى أبا بكر وادعى أمامه الإسلام وطلب إليه جهاد المرتدين، فحمله وأعطاه سلاحا فأخذ يشن غاراته على المسلمين أينما توجه. ولما أمكنت أبا بكر الفرصة منه وأمسك به أحرقه بالنار مقموطا. (*)

ص 37

عمر بن الخطاب إلى العراق، فأكون قد بسطت يدي جميعا في سبيل الله (1). وأما اللاتي كنت أود أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن، فليتني سألته لمن هذا الأمر من بعده؟ فلا ينازعه فيه أحد، وليتني كنت سألته: هل للأنصار فيها من حق؟ (2) وليتني كنت سألته عن ميراث بنت الأخ والعمة، فإن في نفسي من ذلك شيئا. ثم دخل عليه أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا خليفة رسول الله، ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك؟ فقال: قد نظر إلى. قالوا: فماذا قال؟ قال: إني فعال لما أريد، ثم قال لهم: انظروا ماذا أنفقت من بيت المال، فنظروا فإذا هو ثمانية (3) آلاف درهم، فأوصى أهله أن يؤدوها إلى الخليفة بعده. ثم دعا عثمان بن عفان فقال: اكتب عهدي، فكتب عثمان وأملى عليه (4): بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحا عنها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها: إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن تروه عدل فيكم، فذلك ظني به ورجائي فيه، وإن بدل وغير فالخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ثم ختم الكتاب ودفعه، فدخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنه استخلف عمر، فقالوا: نراك استخلفت علينا عمر، وقد عرفته، وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا وأنت لاق الله عز وجل فسائلك، فما أنت قائل؟ فقال أبو بكر: لئن سألني الله لأقولن: استخلفت عليهم خيرهم في نفسي. قال: ثم أمر أن تجتمع له الناس، فاجتمعوا، فقال: أيها الناس قد حضرني من قضاء الله ما ترون، وإنه لا بد لكم من رجل يلي أمركم، ويصلي

(هامش)

(1) كذا بالأصل، ولم يذكر الثالثة، وهي في الطبري: وددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة، كنت أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مددا. (وانظر العقد الفريد). (2) في الطبري والعقد: نصيب. (3) في طبقات ابن سعد 3 / 193: ستة آلاف. (4) نص العهد في الطبري 3 / 429 والكامل لابن الأثير 2 / 425 وطبقات ابن سعد 3 / 200 باختلاف في بعض الألفاظ، قارنها مع الأصل. (*)

ص 38

بكم، ويقاتل عدوكم، فيأمركم، فإن شئتم اجتهدت لكم رأيي، ووالله الذي لا إله إلا هو لا آلوكم في نفسي خيرا، قال: فبكى وبكى الناس، وقالوا: يا خليفة رسول الله، أنت خيرنا وأعلمنا، فاختر لنا، قال: سأجتهد لكم رأيي، وأختار لكم خيركم إن شاء الله. قال: فخرجوا من عنده، ثم أرسل إلى عمر فقال: يا عمر، أحبك محب، وأبغضك مبغض، وقديما يحب الشر، ويبغض الخير. فقال عمر: لا حاجة لي بها، فقال أبو بكر: لكن بها إليك حاجة، والله ما حبوتك بها، ولكن حبوتها بك. ثم قال: خذ هذا الكتاب واخرج به إلى الناس، وأخبرهم أنه عهدي، وسلهم عن سمعهم وطاعتهم. فخرج عمر بالكتاب وأعلمهم، فقالوا: سمعا وطاعة، فقال له رجل: ما في الكتاب يا أبا حفص؟ قال: لا أدري، ولكني أول من سمع وأطاع. قال: لكني والله أدري ما فيه: أمرته عام أول، وأمرك العام.

ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال: ولما توفي أبو بكر (1) وولي عمر وقعد في المسجد مقعد الخلافة، أتاه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أدنو منك فإن لي حاجة؟ قال عمر: لا. قال الرجل: إذا أذهب فيغنيني الله عنك، فولى ذاهبا، فاتبعه عمر ببصره، ثم قام فأخذه بثوبه، فقال له: ما حاجتك؟ فقال الرجل: بغضك الناس، وكرهك الناس، قال عمر: ولم ويحك؟ قال الرجل: للسانك وعصاك، قال: فرفع عمر يديه، فقال: اللهم حببهم إلي وحببني إليهم. قال الرجل: فما وضع يديه حتى ما على الأرض أحب إلي منه. وكان أهل الشام قد بلغهم مرض أبي بكر، واستبطأوا الخبر، فقالوا: إنا لنخاف أن يكون خليفة الله قد مات وولي بعده عمر، فإن كان عمر هو الوالي فليس لنا بصاحب، وإنا نرى خلعه. قال بعضهم: فابعثوا رجلا ترضون عقله، قال: فانتخبوا لذلك رجلا، فقدم على عمر، وقد كان عمر استبطأ خبر أهل الشام، فلما أتاه قال له: كيف الناس؟ قال: سالمون صالحون، وهم كارهون

(هامش)

(1) كانت وفاة أبي بكر مساء ليلة الثلاثاء لثماني ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وهو ابن ثلاث وستين سنة على ما ذكروه. (ابن سعد 3 / 202). (*)

ص 39

لولايتك، ومن شرك مشفقون (1)، فأرسلوني أنظر: أحلو أنت أم مر؟ قال: فرفع عمر يديه إلى السماء وقال: اللهم حببني إلى الناس، وحببهم إلي. قال: فعمل عمر عشر سنين بعد أبي بكر، فوالله ما فارق الدنيا حتى أحب ولايته من كرهها. لقد كانت إمارته فتحا، وإسلامه عزا ونصرا، اتبع في عمله سنة صاحبيه وآثارهما، كما يتبع الفصيل أثر أمه، ثم اختار الله له ما عنده.

قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال عمرو بن ميمون: شهدت عمر بن الخطاب يوم طعن، فما منعني أن أكون في الصف الأول إلا هيبته، فكنت في الصف الذي يليه، وكان عمر لا يكبر حتى يستقبل الصف المتقدم بوجهه، فإن رأى رجلا متقدما من الصف أو متأخرا ضربه بالدرة، فذلك الذي منعني من التقدم. قال: فأقبل لصلاة الصبح، وكان يغلس بها (2)، فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، فطعنه ثلاث طعنات (3)، فسمعت عمر وهو يقول: دونكم الكلب، فإنه قد قتلني، وماج الناس، فجرح ثلاثة عشر رجلا (4)، وصاح بعضهم ببعض: دونكم الكلب، فشد عليه رجلا من خلفه، فاحتضنه، وماج الناس، فقال قائل: الصلاة عباد الله، طلعت الشمس. فدفعت عبد الرحمن بن عوف، فصلى بأقصر سورتين في القرآن، واحتمل عمر، ومات من الذين جرحوا ستة أو سبعة (5)، وجرى الناس إلى عمر، فقال: يا بن عباس، اخرج فناد في الناس أعن ملأ ورضى منهم كان هذا؟ فخرج فنادى، فقالوا: معاذ الله، ما علمنا ولا اطلعنا، قال: فأتاه الطبيب فقال: أي الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ فسقوه نبيذا، فخرج من بعض طعناته. فقال الناس (6): صديد، اسقوه لبنا، فخرج اللبن، فقال الطبيب: لا أرى أن

(هامش)

(1) أي خائفون ومترقبون. (2) الغلس هو آخر ظلمة الليل. كان عمر يصلي صلاة الصبح مبكرا. (3) ابن سعد 3 / 345 وفي ابن الأثير 3 / 50 ست طعنات. وكانت إحدى الطعنات تحت السرة وهي التي قتلته. (4) في ابن سعد: طعن أحد عشر رجلا سوى عمر ثم انتحر بخنجره، فمات منهم ستة وأفرق ستة، وفي رواية له كالأصل. فأفلت أربعة ومات تسعة أو أفلت تسعة ومات أربعة، ولما أدرك أنه مأخوذ - بعد أن ألقى عليه اليربوعي - نحر نفسه بخنجره (فتح الباري 7 / 51). (5) أنظر الحاشية السابقة. (6) في ابن سعد: الذي أشار بسقيه اللبن طبيب من الأنصار من بني معاوية والمراد بالنبيذ المذكور: = (*)

ص 40

تمسي، فما كنت فاعلا فافعل، فقال لابنه عبد الله: ناولني الكتف، فلو أراد الله أن يمضي ما فيه أمضاه، فمحاها بيده، وكان فيها فريضة الجد. ثم دخل عليه كعب الأحبار، فقال: يا أمير المؤمنين، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، قد كنت أنبأتك أنك شهيد (1)، قال: ومن أين لي بالشهادة وأنا بجزيرة العرب؟ ثم جعل الناس يثنون عليه، ويذكرون فضله. فقال: إن من غررتموه لمغرور، إني والله وددت أن أخرج منها كفافا كما دخلت فيها (2)، والله لو كان لي اليوم ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع، فقالوا: يا أمير المؤمنين لا بأس عليك، فقال: إن يكن القتل بأسا، فقد قتلني أبو لؤلؤة، قالوا: فإن يكن ذلك فجزاك الله عنا خيرا. فقال: لا أراكم تغبطونني بها، فوالذي نفس عمر بيده ما أدري علام أهجم، ولوددت أني نجوت منها كفافا لا لي ولا علي، فيكون خيرها بشرها، ويسلم لي ما كان قبلها من الخير. ودخل علي بن أبي طالب (3) فقال: يا علي، أعن ملأ منكم ورضى كان هذا؟ فقال علي: ما كان عن ملأ منا ولا رضى، ولوددنا أن الله زاد من أعمارنا في عمرك. قال: وكان رأسه في حجر ابنه عبد الله، فقال له: ضع خدي بالأرض، فلم يفعل، فلحظه وقال: ضع خدي بالأرض لا أم لك، فوضع خده بالأرض، فقال: الويل لعمر ولأم عمر إن لم يغفر الله لعمر (4)، ثم دعا عبد الله بن عباس وكان يحبه ويدنيه ويسمع منه، فقال له: يا بن عباس، إني لأظن أن لي ذنبا، ولكن أحب أن تعلم لي أعن ملأ منهم ورضى كان هذا؟ فخرج ابن عباس، فجعل لا يرى ملأ من الناس إلا وهم يبكون، كأنما فقدوا اليوم أنصارهم، فرجع إليه فأخبره بما رأى. قال: فمن قتلني؟ قال: أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة. قال عبد الله فرأيت البشر في وجهه، فقال: الحمد لله الذي لم يقتلني رجل يحاجني بلا إله إلا الله يوم القيامة. ثم قال: يا عبد الله، ألا لو أن لي ما طلعت عليه الشمس وما غربت لافتديت به من هول المطلع، وما ذاك والحمد لله أن أكون رأيت إلا خيرا، فقال

(هامش)

= تمرات نبذت في ماء أي نفقت فيه، كانوا يصنعون ذلك لاستعذاب الماء. (1) وكان كعب الأحبار قد أخبره أنه ميت في ثلاث ليال وأنه يجد ذلك في التوراة (ابن الأثير 3 / 50). (2) زيد عند ابن سعد: لا أجر ولا وزر. (3) في ابن سعد: ابن عباس. (4) قالها ثلاثا (عن ابن سعد) وعنه أنها آخر كلام عمر بن الخطاب وبقي يقولها حتى فاضت نفسه. (*)

ص 41

له ابن عباس: فإن يك ذاك يا أمير المؤمنين، فجزاك الله عنا خيرا، أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز الله بك الدين والمسلمون محبسون بمكة؟ (1) فلما أسلمت كان إسلامك عزا أعز الله به الإسلام، وظهر النبي وأصحابه، ثم هاجرت إلى المدينة، فكانت هجرتك فتحا، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله من قتال المشركين، وقال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا وكذا، ثم قبض رسول الله وهو عنك راض، ثم ارتد الناس بعد رسول الله عن الإسلام، فوازرت الخليفة على منهاج رسول الله، وضربتم من أدبر بمن أقبل، حتى دخل الناس في الإسلام طوعا وكرها، ثم قبض الخليفة وهو عنك راض، ثم وليت بخير على ما يلي أحد من الناس. مصر الله بك الأمصار، وجبى بك الأموال، ونفى بك العدو، وأدخل الله على أهل كل بيت من المسلمين توسعة في دينهم، وتوسعة في أرزاقهم، ثم ختم الله لك بالشهادة، فهنيئا لك، فصب الله الثناء عليك صبا، فقال: أتشهد لي بهذا يا عبد الله عند الله يوم القيامة؟ قال: نعم، فقال عمر: اللهم لك الحمد.

تولية عمر بن الخطاب الستة الشورى وعهده إليهم

قال (2): ثم إن المهاجرين دخلوا على عمر رضي الله عنه وهو في البيت من جراحه تلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، استخلف علينا، قال: والله لا أحملكم حيا وميتا، ثم قال: إن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر، وإن أدع فقد ودع من هو خير مني يعني النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: جزاك الله خيرا يا أمير المؤمنين، فقال: ما شاء الله راغبا، وددت أن أنجو منها لا لي ولا علي. فلما أحس بالموت قال لابنه: اذهب إلى عائشة، واقرئها مني السلام واستأذنها أن أقبر في بيتها مع رسول الله ومع أبي بكر، فأتاها عبد الله بن عمر،

(هامش)

(1) إشارة إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام. (2) القائل هو عمرو بن ميمون الأودي، وهو من بني الأزد يكنى أبا يحيى أو أبا عبد الله أدرك الجاهلية وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو نعيم مات سنة 54 وقيل سنة 75 (الإصابة 3 / 118). (*)

ص 42

فأعلمها، فقالت: نعم وكرامة ثم قالت: يا بني أبلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملا، فإني أخشى عليهم الفتنة، فأتى عبد الله فأعلمه، فقال: ومن تأمرني أن أستخلف؟ لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقيا استخلفته ووليته، فإذا قدمت على ربي فسألني وقال لي: من وليت على أمة محمد؟ قلت: إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت: إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: إن معاذ بن جبل يأتي بين يدي العلماء يوم القيامة. ولو أدركت خالد بن الوليد لوليته، فإذا قدمت على ربي فسألني: من وليت على أمة محمد؟ قلت: إي ربي، سمعت عبدك ونبيك يقول: خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله على المشركين (1)، ولكني سأستخلف النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض، فأرسل إليهم فجمعهم، وهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضوان الله عليهم وكان طلحة غائبا، فقال: يا معشر المهاجرين الأولين، إني نظرت في أمر الناس، فلم أجد فيهم شقاقا ولا نفاقا، فإن يكون بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم، تشاوروا ثلاثة أيام. فإن جاءكم طلحة إلى ذلك، وإلا فأعزم عليكم بالله أن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتى تستخلفوا أحدكم، فإن أشرتم بها إلى طلحة، فهو لها أهل، وليصل بكم صهيب (2) هذه الثلاثة أيام التي تشاورون فيها، فإنه رجل من الموالي لا ينازعكم أمركم، وأحضروا معكم من شيوخ الأنصار، وليس لهم من أمركم شيء، وأحضروا معكم الحسن بن علي وعبد الله بن عباس، فإن لهما قرابة، وأرجو لكم البركة في حضورهما، وليس لهما من أمركم شيء، ويحضر ابني عبد الله مستشارا، وليس له من الأمر شيء. قالوا: يا أمير المؤمنين إن فيه للخلافة موضعا فاستخلفه، فإنا راضون به فقال: حسب آل الخطاب تحمل رجل منهم الخلافة، ليس له من الأمر شيء. ثم قال: يا عبد الله إياك ثم إياك لا تتلبس بها،

(هامش)

(1) قارن مع رواية الطبري وابن الأثير والعقد الفريد. (2) هو صهيب بن سنان (نسبه في أسد الغابة) أسرته الروم وهو صغير فنشأ فيهم ثم اشتراه عبد الله بن جدعان وأعتقه وكان من السابقين إلى الإسلام. توفي بالمدينة سنة 38 وقيل سنة 39. (*)

ص 43

ثم قال: إن استقام أمر خمسة منكم وخالف واحد فاضربوا عنقه، وإن استقام أربعة واختلف اثنان فاضربوا أعناقهما، وإن استقر ثلاثة واختلف ثلاثة فاحتكموا إلى ابني عبد الله، فلأي الثلاثة قضى فالخليفة منهم وفيهم (1)، فإن أبى الثلاثة الآخرون ذلك فاضربوا أعناقهم، فقالوا: قل فينا يا أمير المؤمنين مقالة نستدل فيها برأيك ونقتدي به. فقال: والله ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلا شدتك وغلظتك، مع أنك رجل حرب. وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلا أنك فرعون هذه الأمة. وما يمنعني منك يا زبير إلا أنك مؤمن الرضا، كافر الغضب. وما يمنعني من طلحة إلا نخوته وكبره، ولو وليها وضع خاتمه في إصبع أمرته. وما يمنعني منك يا عثمان إلا عصبيتك وحبك قومك وأهلك، وما يمنعني منك يا علي إلا حرصك عليها، وإنك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحق المبين. والصراط المستقيم. أوصي الخليفة منكم بتقوى الله العظيم، وأحذره مثل مضجعي هذا، وأخوفه يوما تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، ثم غشي عليه حتى ظنوا أنه قد قضى فجعلوا ينادونه ولا يفيق من إغمائه، فقال قائل: إن كان شيء ينبه فالصلاة، فقالوا: يا أمير المؤمنين الصلاة، ففتح عينيه فقال: الصلاة هأنذا، ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وجرحه يثعب دما (2)، ثم التفت إليهم وقال: قد قومت لكم الطريق فلا تعوجوه، ثم التفت إلى علي بن أبي طالب، فقال: لعل هؤلاء القوم يعرفون لك حقك وشرفك وقرابتك من رسول الله، وما آتاك الله من العلم والفقه والدين فيستخلفوك، فإن وليت هذا الأمر فاتق الله يا علي فيه، ولا تحمل أحدا من بني هاشم على رقاب الناس، ثم التفت إلى عثمان فقال: يا عثمان، لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول الله وسنك وشرفك وسابقتك فيستخلفوك، فإن وليت هذا الأمر فلا تحمل أحدا من بني أمية على رقاب الناس. ثم دعا صهيبا فقال: يا صهيب، صل بالناس ثلاثة أيام، ويجتمع هؤلاء النفر ويتشاورون بينهم (3): اخرجوا عني، اللهم ألفهم وأجمعهم على الحق، ولا تردهم على

(هامش)

(1) زيد في رواية عند الطبري وابن الأثير: فإن لم يرغبوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف. (وانظر ابن سعد 3 / 61). (2) يثعب دما: يتفجر دما. (3) زيد عند الطبري، وابن الأثير وابن سعد: أنه قال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة إن الله طالما أعز بكم الإسلام فاختر خمسين رجلا فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم. (*)

ص 44

أعقابهم، وول أمر أمة محمد خيرهم. فخرجوا من عنده، وتوفي رحمه الله تعالى من يومه ذلك، ودفن وصلى عليه صهيب.

ذكر الشورى وبيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه

ثم إنه بعد موت عمر اجتمع القوم فحلوا في بيت أحدهم (1)، وأحضروا عبد الله بن عباس، والحسن بن علي، وعبد الله بن عمر، فتشاوروا ثلاثة أيام، فلم يبرموا فتيلا، فلما كان في اليوم الثالث قال لهم عبد الرحمن بن عوف. أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم عزم عليكم صاحبكم أن لا تتفرقوا فيه حتى تستخلفوا أحدكم، قالوا: أجل. قال: فإني عارض عليكم أمرا، قالوا: وما تعرض؟ قال: أن تولوني أمركم، وأهب لكم نصيبي فيها، وأختار لكم من أنفسكم، قالوا: قد أعطيناك الذي سألت، فلما سلم القوم قال لهم عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فجعل الزبير أمره إلى علي، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن بن عوف. قال المسور بن مخرمة: فقال لهم عبد الرحمن: كونوا مكانكم حتى آتيكم. وخرج يتلقى الناس في أنقاب المدينة متلثما لا يعرفه أحد، فما ترك أحدا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من ضعفاء الناس ورعاعهم إلا سألهم واستشارهم. أما أهل الرأي فأتاهم مستشيرا، وتلقى غيرهم سائلا، يقول: من ترى الخليفة بعد عمر؟ فلم يلق أحدا يستشيره ولا يسأله إلا ويقول عثمان، فلما رأى اتفاق الناس واجتماعهم على عثمان. قال المسور: جاءني رضي الله عنه عشاء، فوجدني نائما فخرجت إليه فقال: ألا أراك نائما، فوالله ما اكتحلت عيني بنوم منذ هذه الثلاثة، ادع لي فلانا وفلانا (2) (نفرا من المهاجرين) فدعوتهم له، فناجاهم في المسجد طويلا، ثم قاموا من عنده، فخرجوا. ثم دعا عليا فناجاه طويلا ثم قام من عنده على طمع (3)، ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته، فناجاه طويلا حتى فرق بينهما أن آنت صلاة الصبح، فلما صلوا جمعهم، فأخذ على

(هامش)

(1) قيل إنهم اجتمعوا في بيت المسور بن مخرمة، وقيل: في بيت المال، وقيل: في حجرة عائشة بإذنها. (2) في الطبري: الزبير وسعد. (3) في الطبري: وهو لا يشك أنه صاحب الأمر. (*)

ص 45

كل واحد منهم العهد والميثاق: لئن بايعتك لتقيمن لنا كتاب الله وسنة رسوله، وسنة صاحبيك من قبلك، فأعطاه كل واحد منهم العهد والميثاق على ذلك، وأيضا لئن بايعت غيرك لترضين ولتسلمن، وليكونن سيفك معي على من أبى فأعطوه ذلك من عهودهم ومواثيقهم، فلما تم ذلك أخذ بيد عثمان، فقال له: عليك عهد الله وميثاقه لئن بايعتك لتقيمن لنا كتاب الله وسنة رسوله وسنة صاحبيك، وشرط عمر أن لا تجعل أحدا من بني أمية على رقاب الناس، فقال عثمان: نعم. ثم أخذ بيد علي، فقال له: أبايعك على شرط عمر أن لا تجعل أحدا من بني هاشم على رقاب الناس، فقال علي عند ذلك: ما لك ولهذا إذا قطعتها في عنقي؟ فإن علي الاجتهاد لأمة محمد حيث علمت القوة والأمانة استعنت بها، كان في بني هاشم أو غيرهم، قال عبد الرحمن: لا والله حتى تعطيني هذا الشرط، قال علي: والله لا أعطيكه أبدا، فتركه، فقاموا من عنده، فخرج عبد الرحمن إلى المسجد، فجمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل يا علي سبيلا إلى نفسك، فإنه السيف لا غير. ثم أخذ بيد عثمان فبايعه وبايع الناس جميعا، قال: فكان عثمان رضي الله عنه ست سنين في ولايته، وهو أحب إلى الناس من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان عمر رجلا شديدا قد ضيق على قريش أنفاسها، لم ينل أحد معه من الدنيا شيئا إعظاما له وإجلالا، وتأسيا به واقتداء، فلما وليهم عثمان ولى رجل لين. قال الحسن البصري: شهدت عثمان وهو يخطب وأنا يومئذ قد راهقت الحلم، فما رأيت قط ذكرا ولا أنثى أصبح وجها ولا أحسن نضرة منه. فسمعته يقول: أيها الناس، اغدوا على أعطياتكم فيأخذونها وافية، أيها الناس اغدوا على كسوتكم، فيغدون فيجاء بالحلل فتقسم بينهم، حتى والله سمعت أذناي: يا معشر المسلمين اغدوا على السمن والعسل فيغدون فيقسم بينهم السمن والعسل، ثم يقول يا معشر المسلمين اغدوا على الطيب، فيغدون فيقسم بينهم الطيب من المسك والعنبر وغيره، والعدوان والله منفى، والأعطيات دارة والخير كثير، وما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا، من لقي في أي البلدان فهو أخوه وأليفه، وناصره ومؤدبه فلم يزل المال متوفرا، حتى لقد بيعت الجارية بوزنها ورقا، وبيع الفرس بعشرة آلاف دينار وبيع البعير بألف، والنخلة الواحدة بألف.

ص 46

ثم أنكر الناس على عثمان أشياء أشرا وبطرا. قال ابن عمر: لقد عيبت عليه أشياء لو فعلها عمر ما عيبت عليه.

ذكر الانكار على عثمان رضي الله عنه

قال عبد الله بن مسلم: حدثنا ابن أبي مريم وابن عفير قالا: حدثنا ابن عون، قال: أخبرنا المخول بن إبراهيم وأبو حمزة الثمالي وبعضهم يزيد على بعض والمعنى واحد، فجمعته وألفته على قولهم، ومعنى ما أرادوا عن علي بن الحسين، قال: لما أنكر الناس على عثمان بن عفان صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة (1) هذا الدين وعاهة هذه الملة، قوم عيابون طعانون، يرونكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون. أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار، لقد عبتم علي أشياء ونقمتم أمورا قد أقررتتم لابن الخطاب مثلها، ولكنه (2) وقمكم (3) وقمعكم، ولم يجترئ أحد يملأ بصره منه ولا يشير بطرفه إليه، أما والله لأنا أكثر من ابن الخطاب عددا، وأقرب ناصرا وأجدر. إلى أن قال لهم: أتفقدون من حقوقكم شيئا؟ فما لي لا أفعل في الفضل ما أريد، فلم كنت إماما إذا؟ أما والله ما عاب علي من عاب منكم أمرا أجهله، ولا أتيت الذي أتيت إلا وأنا أعرفه. قال: وقدم معاوية بن أبي سفيان على أثر ذلك من الشام، فأتى مجلسا فيه علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعمار بن ياسر، فقال لهم: يا معشر الصحابة، أوصيكم بشيخي هذا خيرا، فوالله لئن قتل بين أظهركم لأملأنها عليكم خيلا ورجالا، ثم أقبل على عمار بن ياسر فقال: يا عمار، إن بالشام مئة ألف فارس، كل يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم، لا يعرفون عليا ولا قرابته، ولا عمارا ولا سابقته، ولا الزبير ولا صحابته، ولا طلحة ولا هجرته، ولا يهابون ابن عوف ولا ماله، لا يتقون سعدا ولا دعوته، فإياك يا عمار أن تقعد غدا في فتنة تنجلي، فيقال: هذا قاتل عثمان، وهذا قاتل علي. ثم أقبل على ابن عباس

(هامش)

(1) العبارة في الطبري 5 / 97: وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة. (2) في الطبري: ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم. (2) وقمكم أي قهركم. وقمعكم أي أوقفكم عند حدودكم. (*)

ص 47

فقال: يا بن عباس، إنا كنا وإياكم في زمان لا نرجو فيه ثوابا، ولا نخاف عقابا، وكنا أكثر منكم، فوالله ما ظلمناكم ولا قهرناكم ولا أخرناكم عن مقام تقدمناه، حتى بعث الله رسوله منكم، فسبق إليه صاحبكم، فوالله ما زال يكره شركنا، ويتغافل به عنا حتى ولي الأمر علينا وعليكم، ثم صار الأمر إلينا وإليكم فأخذ صاحبنا على صاحبكم لسنه، ثم غير فنطق ونطق على لسانه، فقد أوقدتم نارا لا تطفأ بالماء، فقال ابن عباس. كنا كما ذكرت حتى بعث الله رسوله منا ومنكم، ثم ولي الأمر علينا وعليكم، ثم صار الأمر إلينا وإليكم، فأخذ صاحبكم على صاحبنا لسنه، ولما هو أفضل من سنه، فوالله ما قلنا إلا ما قال غيرنا، ولا نطقنا إلا بما نطق به سوانا، فتركتم الناس جانبا، وصيرتمونا بين أن أقمنا متهمين أو نزعنا معتبين (1) وصاحبنا من قد علمتم، والله لا يهجهج مهجهج إلا ركبه (2)، ولا يرد حوضا إلا أفرطه وقد أصبحت أحب منك ما أحببت، وأكره ما كرهت، ولعلي لا ألقاك إلا في خير.

ذكر القول والمجادلة لعثمان ومعاوية رضي الله عنهما

قال: وذكروا أن ابن عباس قال: خرجت إلى المسجد فإني لجالس فيه مع علي حين صليت العصر، إذ جاء رسول عثمان يدعو عليا، فقال علي: نعم، فلما أن ولى الرسول أقبل علي فقال: لم تراه دعاني؟ قلت له: دعاك ليكلمك، فقال: انطلق معي، فأقبلت فإذا طلحة والزبير وسعد وأناس من المهاجرين، فجلسنا فإذا عثمان عليه ثوبان أبيضان، فسكت القوم، ونظر بعضهم إلى بعض، فحمد الله عثمان، ثم قال: أما بعد، فإن ابن عمي معاوية هذا قد كان غائبا عنكم وعما نلتم مني، وما عاتبتكم عليه وعاتبتموني، وقد سألني أن يكلمكم وأن يكلمه من أراد، فقال سعد بن أبي وقاص: وما عسى أن يقال لمعاوية أو يقول إلا ما قلت أو قيل لك؟ فقال علي: ذلكم تكلم يا معاوية، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا معشر المهاجرين وبقية الشورى فإياكم أعني وإياكم أريد، فمن أجابني بشيء فمنكم واحد، فإني لم أرد غيركم، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع الناس أحد المهاجرين التسعة، ثم دفنوا نبيهم، فأصبحوا

(هامش)

(1) معتبين أي ملومين. (2) أي لا يصيح صائح مستنكرا إلا أخذ على يده. (*)

ص 48

سالما أمرهم، كأن نبيهم بين أظهرهم، فلما أيس الرجل من نفسه بايع رجلا من بعده أحد المهاجرين، فلما احتضر ذلك الرجل شك في واحد أن يختاره، فجعلها في ستة نفر بقية المهاجرين، فأخذوا رجلا منهم لا يألون عن الخير فيه، فبايعوه وهم ينظرون إلى الذي هو كائن من بعده، لا يشكون ولا يمترون، مهلا مهلا معشر المهاجرين، فإن وراءكم من إن دفعتموه اليوم اندفع عنكم، ومن إن فعلتم الذي أنتم فاعلوه دفعكم بأشد من ركنكم وأعد من جمعكم، ثم استن عليكم بسنتكم، ورأى أن دم الباقي ليس بممتنع بعد دم الماضي، فسددوا وارفقوا، لا يغلبكم على أمركم من حذرتكم، فقال علي بن أبي طالب: كأنك تريد نفسك يا بن اللخناء لست هنالك، فقال معاوية: مهلا عن شتم بنت عمك، فإنها ليست بشر نسائك. يا معشر المهاجرين، وولاة هذا الأمر، ولاكم الله إياه فأنتم أهله، وهذان البلدان مكة والمدينة مأوى الحق ومنتهاه، إنما ينظر التابعون إلى السابقين، والبلدان إلى البلدين فإن استقاموا استقاموا، وأيم الله الذي لا إله إلا هو لئن صفقت إحدى اليدين على الأخرى لا يقوم السابقون للتابعين، ولا البلدان للبلدين، وليسلبن أمركم ولينقلن الملك من بين أظهركم، وما أنتم في الناس إلا كالشامة السوداء في الثور الأبيض فإني رأيتكم نشبتم في الطعن على خليفتكم، وبطرتم معيشتكم وسفهتم أحلامكم، وما كل نصيحة مقبولة، والصبر على بعض المكروه خير من تحمله كله. قال: ثم خرج القوم وأمسك عثمان ابن عباس، فقال له عثمان: يا بن عمي ويا بن خالتي، فإنه لم يبلغني عنك في أمري شيء أحبه ولا أكرهه علي ولا لي، وقد علمت أنك رأيت بعض ما رأى الناس، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك فأعتذر، قال ابن عباس: فقلت يا أمير المؤمنين، إنك قد ابتليتني بعد العافية، وأدخلتني في الضيق بعد السعة، ووالله إن رأيي لك أن يجل سنك، ويعرف قدرك، وسابقتك، والله لوددت أنك لم تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان قبلك، فإن كان شيئا تركاه لما رأيا أنه ليس لهما علمت أنه ليس لك كما لم يكن لهما، وإن كان ذلك لهما فتركاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي نيل منك تركته لما تركاه له، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك بإكرام نفسك، قال: فما منعك أن تشير علي بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟ قال: وما علمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعل؟

ص 49

قال: فهب لي صمتا حتى ترى رأيي. قال: فخرج ابن عباس، فقال عثمان لمعاوية: ما ترى، فإن هؤلاء المهاجرين قد استعجلوا القدر، ولا بد لهم مما في أنفسهم، فقال معاوية: الرأي أن تأذن لي فأضرب أعناق هؤلاء القوم. قال: من؟ قال: علي وطلحة والزبير، قال عثمان: سبحان الله! اقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه، ولا ذنب ركبوه؟ قال معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك. قال عثمان: لا أكون أول من خلف رسول الله في أمته بإهراق الدماء. قال معاوية: فاختر مني إحدى ثلاث خصال؟ قال عثمان: وما هي؟ قال معاوية: أرتب لك ها هنا أربعة آلاف فارس من خيل أهل الشام، يكونون لك ردءا وبين يديك يدا، قال عثمان: أرزقهم من أين؟ قال: من بيت المال، قال عثمان: ارزق أربعة آلاف من الجند من بيت مال المسلمين لحرز دمي؟ لا فعلت هذا (1). قال: فثانية، قال: وما هي؟ قال: فرقهم عنك فلا يجتمع منهم اثنان في مصر واحد، واضرب عليهم البعوث والندب، حتى يكون دبر بعير أحدهم أهم عليه من صلاته، قال عثمان: سبحان الله؟ شيوخ المهاجرين وكبار أصحاب رسول الله، وبقية الشورى أخرجهم من ديارهم وأفرق بينهم وبين أهلهم وأبنائهم؟ لا أفعل هذا. قال معاوية فثالثة، قال: وما هي؟ قال اجعل لي الطلب بدمك إن قتلت، قال عثمان. نعم هذه لك إن قتلت فلا يطل دمي. قال: ثم خرج عثمان فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس، إن نصيحتي كذبتني، ونفسي منتني (2)، وقد سمعت رسول الله يقول: لا تتمادوا في الباطل فإن الباطل يزداد من الله بعدا، من أساء فليتب، ومن أخطأ فليتب، وأنا أول من اتعظ، والله لئن ردني الحق عبدا لانتسبن نسب العبيد، ولأكونن كالمرقوق الذي إن ملك صبر، وإن أعتق شكر، ثم نزل (3)، فدخل على زوجته نائلة بنت الفرافصة، ودخل معه مروان بن الحكم، فقال: يا

(هامش)

(1) العبارة في الطبري 5 / 101 قال: فأبعث إليك جندا منهم (من أهل الشام) يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك. قال: أنا أقتر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند مساكنهم وأضيق على أهل دار الهجرة والنصرة. وذكر فيه خصلة ثانية وهي أن ينطلق عثمان معه إلى الشام فرفض عثمان أن يترك جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) في الطبري 5 / 111: منتني نفسي وكذبتني وضل عني رشدي. (3) قارن مع الطبري 5 / 111 وابن الأثير 3 / 164 (*)

ص 50

أمير المؤمنين، أتكلم أو أسكت؟ فقالت له نائلة: بل اسكت فوالله لئن تكلمت لتغرنه ولتوبقنه. فالتفت إليها عثمان مغضبا، فقال: اسكتي، تكلم يا مروان، فقال مروان: يا أمير المؤمنين والله لو قلت الذي قلت وأنت في عز ومنعة لتابعتك ولكنك قلت الذي قلت وقد بلغ السيل الزبى (1)، وجاوز الحزام الطبيين، فانقض التوبة ولا تقر بالخطيئة.

ما أنكر الناس على عثمان رحمه الله

قال: وذكروا أنه اجتمع ناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله وسنة صاحبيه، وما كان من هبته خمس إفريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله، ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين، وما كان من تطاوله في البنيان، حتى عدوا سبع دور بناها بالمدينة: دارا لنائلة، ودارا لعائشة وغيرهما من أهله وبناته، وبنيان مروان القصور بذي خشب (2) وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ولرسوله، وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول ولا تجربة لهم بالأمور، وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليها سكران أربع ركعات ثم قال لهم: إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم، وتعطيله إقامة الحد عليه، وتأخيره ذلك عنه، وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم، واستغنى برأيه عن رأيهم، وما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة والسلام، ثم لا يغزون ولا يذبون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران (3).

(هامش)

(1) الزبى: الزيبة مصيدة الأسد، ولا تتخذ إلا قلة أو رابية. والطبيين واحدها طبي كما يقال في الظلف والخف خلف. فإذا بلغ الحزام الطبيين فقد انتهى في المكروه. المثل في أمثال أبي عبيد 343 فصل المقال ص 472 جمهرة الأمثال 1 / 220 مجمع الأمثال 1 / 91. (2) ذو خشب: موضع بالمدينة. (3) قارن مع ما ذكره الطبري 5 / 93 وابن سعد 3 / 64 والعقد الفريد 4 / 283 ومروج الذهب 2 / 373 - 374. والبداية والنهاية 7 / 192. (*)

ص 51

ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان، وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود، وكانوا عشرة، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب في يد عمار، جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده، فمضى حتى جاء دار عثمان، فاستأذن عليه، فأذن له في يوم شات، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية، فدفع إليه الكتاب فقرأه، فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم، قال: ومن كان معك؟ قال: كان معي نفر تفرقوا فرقا (1) منك، قال: من هم؟ قال: لا أخبرك بهم. قال: فلم اجترأت علي من بينهم؟ فقال مروان: يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود (يعني عمارا) قد جرأ عليك الناس، وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه، قال عثمان: اضربوه، فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه، فغشي عليه، فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت به أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام، فأدخل منزلها، وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم، فلما خرج عثمان لصلاة الظهر، عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة، فقال: أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا لأقتلن به رجلا عظيما من بني أمية، فقال عثمان: لست هناك (2). قال: ثم خرج عثمان إلى المسجد، فإذا هو بعلي وهو شاك معصوب الرأس، فقال له عثمان: والله يا أبا الحسن ما أدري: أشتهي موتك أم أشتهي حياتك؟ فوالله لئن مت ما أحب أن أبقى بعدك لغيرك، لأني لا أجد منك خلفا، ولئن بقيت لا أعدم طاغيا يتخذك سلما وعضدا، ويعدك كهفا وملجأ، لا يمنعني منه إلا مكانه منك، ومكانك منه، فأنا منك كالابن العاق من أبيه: إن مات فجعه، وإن عاش عقه. فإما سلم فنسالم، وإما حرب فنحارب، فلا تجعلني بين السماء والأرض، فإنك والله إن قتلتني لا تجد مني خلفا، ولئن قتلتك لا أجد منك خلفا، ولن يلي أمر هذه الأمة بادئ فتنة. فقال علي: إن فيما تكلمت به لجوابا، ولكني عن جوابك مشغول بوجعي. فأنا أقول كما قال العبد الصالح: (فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون) [يوسف: 18]، قال مروان: إنا والله إذا لنكسرن رماحنا، ولنقطعن سيوفنا، ولا يكون في هذا الأمر خير لمن

(هامش)

(1) فرقا بفتح أوله وثانيه: خوفا. (2) فيما ذكره المسعودي وابن كثير من أسباب النقمة على عثمان هو ما ناله عمار من الفتن والضرب. (*)

ص 52

بعدنا. فقال له عثمان: أسكت، ما أنت وهذا؟ فقام إليه رجل من المهاجرين، فقال له: يا عثمان، أرأيت ما حميت من الحمى (آلله أذن لكم أم على الله تفترون) [يونس: 59] فقال عثمان: إنه قد حمى الحمى قبلي عمر لإبل الصدقة، وإنما زادت فزدت، فقام عمرو بن العاص فقال: يا عثمان، إنك ركبت بالناس نهابير (1) من الأمر، فتب إلى الله يتوبوا، فرفع عثمان يديه وقال: توبوا إلى الله من كل ذنب، اللهم إني أول تائب إليك. ثم قام رجل من الأنصار فقال: يا عثمان: ما بال هؤلاء النفر من أهل المدينة يأخذون العطايا ولا يغزون في سبيل الله. وإنما هذا المال لمن غزا فيه وقاتل عليه، إلا من كان من هذه الشيوخ من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فقال عثمان: فاستغفر الله وأتوب إليه. ثم قال: يا أهل المدينة، من كان له منكم ضرع فليلحق بضرعه ومن كان له زرع فليلحق بزرعه فإنا والله لا نعطي مال الله إلا لمن غزا في سبيله، إلا من كان من هذه الشيوخ من الصحابة. قال: فما بال هذا القاعد الشارب لا تقيم عليه الحد؟ (يعني الوليد بن عقبة) (2)، فقال عثمان لعلي: دونك ابن عمك فأقم عليه الحد. فقال علي للحسن: قم فاجلده. فقال الحسن ما أنت وذاك؟ هذا لغيرك، قال علي: لا، ولكنك عجزت وفشلت، يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده. فقام فضربه وعلي يعد، فلما بلغ أربعين أمسك وقال: جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين. وكملها عمر ثمانين. وكل سنة.

حصار عثمان رضي الله عنه

قال: وذكروا أنه لما اشتد الطعن على عثمان، استأذنه علي في بعض بواديه (3) ينتحي إليها! فأذن له. واشتد الطعن على عثمان بعد خروج علي. ورجا الزبير وطلحة أن يميلا إليهما قلوب الناس، ويغلبا عليهم، واغتنما غيبة علي،

(هامش)

(1) النهابير: المهالك. (2) كان الوليد بن عقبة بن أبي معيط قد صلى بالناس وهو سكران وصلى صلاة الصبح أربع وقال: أتريدون أن أزيدكم، وظهر في الكوفة فسقه ومداومته شرب الخمر، فأتوا عثمان وشهدوا عليه فعزله وولى مكانه سعيد بن العاص. لكنه دفع شهادة الشهود وزجرهم (عن مروج الذهب 2 / 370). (3) خرج إلى ينبع، ضيعة له (فتوح ابن الأعثم 2 / 227). (*)

ص 53

فكتب عثمان إلى علي إذ اشتد الطعن عليه (1) أما بعد فقد بلغ السيل الزبى! وجاوز الحزام الطبيين. وارتفع أمر الناس في شأني فوق قدره! وزعموا أنهم لا يرضون دون دمي. وطمع في من لا يدفع عن نفسه. وإنك لم يفخر عليك كفاخر * ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب (2) وقد كان يقال: أكل السبع خير من افتراس الثعلب فأقبل علي أولى. فإن كنت مأكولا فكن خير آكل * وإلا فأدركني ولما أمزق (3) قال حويطب بن عبد العزى: أرسل إلي عثمان حين اشتد حصاره، فقال: قد بدا لي أن اتهم نفسي لهؤلاء، فأت عليا وطلحة والزبير، فقل لهم: هذا أمركم تولوه، واصنعوا فيه ما شئتم فخرجت حتى جئت عليا، فوجدت على بابه مثل الجبال من الناس، والباب مغلق، لا يدخل عليه أحد، ثم انصرفت، فأتيت الزبير، فوجدته في منزله ليس ببابه أحد، فأخبرته بما أرسلني به عثمان، فقال: قد والله قضى ما عليه أمير المؤمنين، هل جئت عليا؟ قلت: نعم، فلم أخلص إليه، فقمنا جميعا، فآتينا طلحة بن عبيد الله فوجدناه في داره وعنده ابنه محمد، فقصصنا عليه ما قال عثمان، فقال: قد والله قضى ما عليه أمير المؤمنين، هل جئتم عليا؟ قلنا: نعم، فلم نخلص إليه. فأرسل طلحة إلى الأشتر، فأتاه فقال لي: أخبره، فأخبرته بما قال عثمان، فقال طلحة وقد دمعت عيناه: قد والله قضى ما عليه أمير المؤمنين، فقام الأشتر فقال: تبعثون إلينا وجاءنا رسولكم بكتابكم، وها هو ذا، فأخرج كتابا فيه (4): بسم الله الرحمن الرحيم، من المهاجرين الأولين وبقية الشورى، إلى من بمصر من الصحابة والتابعين، أما بعد، أن تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها، فإن كتاب

(هامش)

(1) قارن مع الكامل للمبرد 1 / 26. وقد مر شرح المثل قريبا. (2) البيت لامرئ القيس من قصيدة مطلعها: خليلي مرا بي على أم جندب * لتقضى حاجات الفؤاد المغلب (العقد الثمين ص 116 - 117). (3) البيت للممزق العبدي: الأصمعيات ص 166 والكامل للمبرد 1 / 26. (4) هذه رواية الواقدي نقلها الطبري وابن الأثير أن الصحابة بعثوا الكتاب. قال ابن كثير في البداية 7 / 173: تكاتب أهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة، وتراسلوا، وزورت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة وعلى لسان طلحة (بعد ما بلغهم خبر مروان وغضب علي على عثمان بسببه) وطلحة والزبير يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين وأنه أكبر الجهاد اليوم. (*)

ص 54

الله قد بدل، وسنة رسوله قد غيرت، وأحكام الخليفتين قد بدلت، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان، إلا أقبل إلينا، وأخذ الحق لنا، وأعطاناه، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم، وفارقكم عليه الخلفاء، غلبنا على حقنا واستولى على فيئنا، وحيل بيننا وبين أمرنا، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة، وهي اليوم ملك عضوض (1). من غلب على شيء أكله. أليس هذا كتابكم إلينا؟ فبكى طلحة، فقال الأشتر: لما حضرنا أقبلتم تعصرون أعينكم، والله لا نفارقه حتى نقتله، وانصرف. قال: ثم كتب عثمان كتابا بعثه مع نافع بن طريف إلى أهل مكة ومن حضر الموسم يستغيثهم فوافى به نافع يوم عرفة بمكة، وابن عباس يخطب، وهو يومئذ على الناس كان قد استعمله عثمان على الموسم، فقام نافع ففتح الكتاب، فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عثمان أمير المؤمنين، إلى من حضر الحج من المسلمين، أما بعد: فإني كتبت إليكم كتابي هذا وأنا محصور، أشرب من بئر القصر، ولا آكل من الطعام ما يكفيني، خيفة أن تنفد ذخيرتي. فأموت جوعا أنا ومن معي، لا أدعى إلى توبة أقبلها، ولا تسمع مني حجة أقولها، فأنشد الله رجلا من المسلمين بلغه كتاب إلا قدم علي، فأخذ الحق في، ومنعني من الظلم والباطل. قال: ثم قال ابن عباس، فأتم خطبته، ولم يعرض لشيء من شأنه. وكتب إلى أهل الشام عامة، وإلى معاوية وأهل دمشق خاصة (2): أما بعد فإني في قوم طال فيهم مقامي، واستعجلوا القدر في، وقد خيروني بين أن يحملوني على شارف من الإبل إلى دخل (3). وبين أن أنزع لهم رداء الله الذي كساني. وبين أن أقيدهم (4) ممن قتلت. ومن كان على سلطان يخطئ ويصيب،

(هامش)

(1) ملك عضوض أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم كأنهم يعضون فيه عضا. والعضوض من أبنية المبالغة. وفي رواية: ملوك عضوض جمع عض بالكسر، وهو الخبيث الشرس (النهاية في غريب الحديث 3 / 253). (2) قال ابن الأعثم في فتوحه 2 / 217 أنه كتب إلى معاوية وعامر بن كريز أمير البصرة كتابا واحدا. نسخته فيه باختلاف عما هنا. (3) دخل: جزيرة بين اليمن وبلاد بجة. (4) أي يسلمهم نفسه ليأخذوا القود منه قصاصا بمن قتل من المسلمين. (*)

ص 55

فيا غوثاه يا غوثاه، ولا أمير عليكم دوني، فالعجل العجل يا معاوية، وأدرك ثم أدرك، وما أراك تدرك (1).

تولية محمد بن أبي بكر على مصر

قال: وذكروا أن أهل مصر جاؤوا يشكون ابن أبي سرح عاملهم، فكتب إليه عثمان كتابا يتهدده فيه، فأبى ابن أبي سرح أن يقبل ما نهاه عنه عثمان، وضرب بعض من أتاه به من قبل عثمان من أهل مصر حتى قتله، فخرج من أهل مصر سبعمائة رجل فنزلوا المسجد وشكوا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن أبي سرح، فقام طلحة فتكلم بكلام شديد وأرسلت عائشة إلى عثمان فقالت له: قد تقدم إليك أصحاب رسول الله وسألوك عزل هذا الرجل، فأبيت إلا واحدة، فهذا قد قتل منهم رجلا فأنصفهم من عاملك. ودخل عليه علي وكان متكلم القوم، فقال له: إنما يسألونك رجلا مكان رجل، وقد ادعوا قبله دما، فاعزله عنهم واقض بينهم فإن وجب لهم عليه حق، فأنصفهم منه، فقال: اختاروا رجلا أوليه عليهم. فقالوا: استعمل محمد بن أبي بكر، فكتب عهده وولاه (2)، وخرج معه عدد من المهاجرين والأنصار، ينظرون فيما بين ابن أبي سرح وأهل مصر، فخرج محمد ومن معه حتى إذا كانوا على مسيرة ثلاث ليال من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير، كأنه رجل يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد: ما قصتك وما شأنك! كأنك طالب أو هارب؟ فقال: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر، فقال له رجل: هذا عامل مصر معنا، قال: ليس هذا أريد، فأخبر محمد بأمره فبعث في طلبه رجلا، فجاء به إليه، فقال له، غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول أنا غلام مروان ومرة يقول أنا غلام أمير المؤمنين، حتى عرفه رجل به لعثمان (3). فقال له محمد: إلى من أرسلك؟ قال: إلى عامل

(هامش)

(1) زاد ابن الأعثم: وأما معاوية فإنه أتاه بالكتاب المسور بن مخرمة فقرأه لما أتاه. ثم قال: يا معاوية! إن عثمان مقتول فانظر فيما كتبت به إليه. فقال معاوية: يا مسور إني مصرح أن عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ويرضاه ثم غير فغير الله عليه، أفيتهيأ لي أن أرد ما غير الله عز وجل. (2) أنظر الكتاب في فتوح ابن الأعثم 2 / 209. (3) هو أبو الأعور بن سفيان السلمي. (الطبري 5 / 115 والبداية والنهاية 7 / 196). (*)

ص 56

مصر، قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: أما معك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتابا، قال وكانت معه إداوة (1) قد يبست، فيها شيء يتقلقل، فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا إداوته (2) فإذا فيها كتاب من عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح، فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فقرأه، فإذا فيه (3): إذا أتاك محمد بن أبي بكر وفلان وفلان فاقتلهم، وأبطل كتابهم، وقر على عملك حتى يأتيك رأيي. فلما رأوا الكتاب فزعوا منه، ورجعوا إلى المدينة.

رجوع محمد بن أبي بكر إلى المدينة

وختم محمد الكتاب بخواتم النفر الذين كانوا معه، ودفعه إلى رجل منهم، ثم قدموا المدينة، فجمعوا طلحة والزبير وعليا وسعدا، ومن كان من أصحاب رسول الله، ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم، وأخبرهم بقصة الغلام: وأقرأهم الكتاب، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان. وقام أصحاب النبي فلحقوا بمنازلهم، وحضر الناس عثمان، وأحاطوا به، ومنعوه الماء والخروج، ومن كان معه، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر.

حصار أهل مصر والكوفة عثمان رحمه الله

قال: وذكروا أن أهل مصر أقبلوا إلى علي، فقالوا: ألم تر عدوا الله ماذا كتب فينا؟ قم معنا إليه، فقد أحل الله دمه، فقال علي: لا والله، لا أقوم معكم (4). قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال علي: لا والله ما كتبت إليكم كتابا قط؟ فنظر بعضهم إلى بعض (5). ثم أقبل الأشتر النخعي من الكوفة في ألف رجل،

(هامش)

(1) الإداوة سقاء من جلد يوضع فيه الماء ويسمى المطهرة. (2) زيد في فتوح ابن الأعثم 2 / 211: فإذا فيها قارورة مختومة بشمع وفي جوف القارورة كتاب. (3) نص الكتاب في فتوح ابن الأعثم 2 / 211 والطبري 5 / 115. (4) قيل إن علي دخل على عثمان وناقشه في الكتاب وما تضمن فنفى عثمان أن يكون قد كتب كتابا وإنما زور عليه وعرف الناس الخط أنه خط مروان بن الحكم وأنه كتبه عن غير علم عثمان، ومروان كان كاتب عثمان وخاتم عثمان في أصبع مروان. (أنظر فتوح ابن الأعثم 2 / 212 - 213 والطبري 5 / 117، والبداية والنهاية 7 / 196، ومروج الذهب 2 / 380). (5) إشارة إلى ما ذكر - تزويرا - عن كتاب أرسله الصحابة إلى الأمصار يدعون فيه إلى الجهاد ضد عثمان. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. (*)

ص 57

وأقبل ابن أبي حذيفة من مصر في أربع مئة رجل، فأقام أهل الكوفة وأهل مصر بباب عثمان ليلا ونهارا، وطلحة يحرض الفريقين جميعا على عثمان. ثم إن طلحة قال لهم: إن عثمان لا يبالي ما حصرتموه؟ وهو يدخل إليه الطعام والشراب فامنعوه الماء أن يدخل عليه.

مخاطبة عثمان من أعلى القصر طلحة وأهل الكوفة وغيرهم

قال: وذكروا أن عثمان لما منع الماء صعد على القصر، واستوى في أعلاه ثم نادى: أين طلحة؟ فأتاه، فقال: يا طلحة، أما تعلم أن بئر رومة (1) كانت لفلان اليهودي، لا يسقي أحدا من الناس منها قطرة إلا بثمن، فاشتريتها بأربعين ألفا، فجعلت رشائي (2) فيها كرشاء رجل من المسلمين، استأثر عليهم؟ قال: نعم. قال: فهل تعلم أن أحدا يمنع أن يشرب منها اليوم غيري؟ لم ذلك؟ قال: لأنك بدلت وغيرت. قال: فهل تعلم أن رسول الله قال: من اشترى هذا البيت وزاده في المسجد فله به الجنة، فاشتريته بعشرين ألفا، وأدخلته في المسجد؟ قال طلحة: نعم. قال: فهل تعلم اليوم أحدا يمنع فيه من الصلاة غيري؟ قال: لا. قال: لم؟ قال: لأنك غيرت وبدلت. ثم انصرف عثمان وبعث إلى علي يخبره أنه منع من الماء، ويستغيث به، فبعث إليه علي ثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، فقال طلحة: ما أنت وهذا؟ وكان بينهما في ذلك كلام شديد، فبينما هم كذلك إذ أتاهم آت فقال لهم: إن معاوية قد بعث من الشام يزيد بن أسيد مددا لعثمان، في أربعة آلاف من خيل الشام (3)، فاصنعوا ما أنتم صانعون، وإلا فانصرفوا وكان معه في الدار مئة رجل ينصرونه منهم عبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم، والحسن بن علي، وعبد الله بن سلام (4)، وأبو هريرة،

(هامش)

(1) بئر رومة: هي في عقيق المدينة. اشتراها ب‍ 35 ألف درهم (معجم البلدان). (2) الرشاء: الحبل الذي يربط به الدلو عند إخراج الماء من البئر، يريد أنه اعتبر نفسه واحدا من المسلمين مع الإشارة إلى تملكه البئر. (3) تقدم أن معاوية لما وصله كتاب عثمان تريث في الإجابة والرد معتبرا أنه لن يستطيع رد ما قضاه الله، وأن عثمان مقتولا لا محالة. فلما أبطأ معاوية أرسل إلى يزيد بن أسد بن كرز وإلى أهل الشام يستنفرهم ويعظم حقه عليهم. فقام وسار إليه وتابعه ناس كثير حتى إذا كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا (الطبري 5 / 115 - 116). (4) وكان عبد الله بن سلام قد خرج إلى المحاصرين ودعاهم إلى فك الحصار والرجوع وحذرهم من = (*)

ص 58

فلما سمع القوم إقبال أهل الشام، قاموا فألهبوا النار بباب عثمان، فلما نظر أهل الدار إلى النار، نصبوا للقتال وتهيئوا، فكره ذلك عثمان وقال: لا أريد أن تهراق في محجمة دم، وقال لجميع من في الدار: أنتم في حل من بيعتي، لا أحب أن يقتل في أحد، وكان فيهم عبد الله بن عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، مع من تأمرني أن أكون إن غلب هؤلاء القوم عليك؟ قال: عليك بلزوم الجماعة. قلت: فإن كانت الجماعة هي التي تغلب عليك؟ قال: عليك بلزوم الجماعة حيث كانت. قال: ثم دخل عليه الحسن بن علي، فقال: مرني بما شئت، فإني طوع يديك. فقال له عثمان: ارجع يا بن أخي، اجلس في بيتك حتى يأتي الله بأمره. ثم دخل عليه أبو هريرة متقلدا سيفه، فقال: طاب الضراب يا أمير المؤمنين، قد قتلوا منا رجلا، وقد ألهبوا النار، فقال عثمان: عزمت عليك يا أبا هريرة إلا ألقيت سيفك، قال أبو هريرة: فألقيته فلا أدري من أخذه. قال: ودخل المغيرة بن شعبة، فقال له: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قد اجتمعوا عليك، فإن أحببت فالحق بمكة، وإن أحببت أن نخرق لك بابا من الدار فتلحق بالشام ففيها معاوية وأنصارك من أهل الشام، وإن أبيت فاخرج ونخرج، ونحاكم القوم إلى الله تعالى. فقال عثمان: أما ما ذكرت من الخروج إلى مكة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يلحد بمكة رجل من قريش، عليه نصف عذاب هذه الأمة من الإنس والجن، فلن أكون ذلك الرجل إن شاء الله، وأما ما ذكرت من الخروج إلى الشام، فإن المدينة دار هجرتي، وجوار قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فلا حاجة لي في الخروج من دار هجرتي، وأما ما ذكرت من محاكمة هؤلاء القوم إلى الله، فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بإهراق الدم.

رؤية عثمان أبا بكر وعمر في المنام ثمد

قال: إني رأيت أبا بكر وعمر أتياني الليلة فقالا لي: صم فإنك مفطر عندنا الليلة (1). وإني أصبحت صائما، وإني أعزم على من كان يؤمن بالله واليوم

(هامش)

= مغبة قتل الخليفة، فاتهموه وأهانوه فدخل على عثمان يخبره ما جرى معه فاضطرب عثمان ولم يدر ما يصنع (الفتوح لابن الأعثم 2 / 223). (1) رواه ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 204 من طرق عديدة. (*)

ص 59

الآخر إلا خرج من الدار سالما. فقالوا: إنا إن خرجنا لم نأمن على أنفسنا منهم، فأذن لنا فنكون في موضع من الدار فلما رأى ذلك علي بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من أصحاب محمد، كلهم بدري، ثم دخلوا على عثمان ومعهم الكتاب والغلام والبعير، فقال علي: الغلام غلامك، والبعير بعيرك؟ فقال: نعم. قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله ما كتبت، ولا أمرت، ولا عملت. فقال له: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك وكتاب عليه خاتمك لا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب، ولا وجهت، ولا أمرت (1). فشك القوم في أمر عثمان، وعلموا أنه لا يحلف بباطل. فقال قوم منهم: لا يبرأ عثمان عن قلوبنا إلا أن يدفع إلينا مروان، حتى نعرف كيف يأمر بقتل رجال من أصحاب رسول الله، وقطع أيديهم بغير حق، فإن كان عثمان كتبه عزلناه، وإن كان مروان كتبه نظرنا في أمره، وما يكون في أمر مروان، فانصرف القوم عنه، ولزموا بيوتهم، وأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان، وخشي عليه القتل. فبلغ عليا أن عثمان يراد قتله، فقال: إنا أردنا مروان، فأما قتل عثمان فلا، ثم قال للحسن والحسين: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان، ولا تدعا أحدا يصل إليه، وبعث الزبير ابنه على كره، وبعث طلحة ابنه كذلك (2)، وبعث عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبناءهم، يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان. ويسألوه أن يخرج مروان، فأشرف عليهم عثمان من أعلى القصر، فقال: يا معشر المسلمين، أذكركم الله، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب دار بني فلان، ليوسع بها للمسلمين في مسجدهم. فاشتريتها من خالص مالي. وأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيه. أذكركم الله يا معشر المسلمين. ألستم تعلمون أن بئر رومة كانت تباع القربة منها بدرهم. فاشتريتها من خالص مالي، فجعلت رشائي كرشاء واحد من المسلمين، وأنتم تمنعونني

(هامش)

(1) في تاريخ خليفة ص 169: ... فقال عثمان: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم على الخاتم . وعلق ابن كثير على رواية الطبري قال: وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم أيضا (وانظر فتوح ابن الأعثم 2 / 212 - 213). (2) محمد بن طلحة. (*)

ص 60

أن أشرب من مائها، وأنا اشتريتها، حتى إني ما أفطر إلا على ماء البحر؟ ألستم تعلمون أنكم نقمتم علي أشياء، فاستغفرت الله وتبت إليه منها، وتزعمون أني غيرت وبدلت، فابعثوا علي شاهدين مسلمين، وإلا فأحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت الكتاب، ولا أمرت به، ولا أطلعت عليه، يا قوم: (لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو صالح) [هود: 89] يا قوم لا تقتلوني فإنكم إن قتلتموني كنتم هكذا، وشبك بين أصابعه، يا قوم إن الله رضي لكم السمع والطاعة، وحذركم المعصية والفرقة، فاقبلوا نصيحة الله، واحذروا عقابه، فإنكم إن فعلتم الذي أنتم فاعلون، لا تقوم الصلاة جميعا، ويسلط عليكم عدوكم، وإني أخبركم أن قوما أظهروا للناس أنهم يدعونني إلى كتاب الله تعالى والحق، فلما عرض عليهم الحق رغبوا عنه وتركوه، وطال عليهم عمري، واستعجلوا القدر بي، وقد كانوا كتبوا إليكم، أنهم قد رضوا بالذي أعطيتهم، ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئا، وكانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، وترك المظالم، وردها إلى أهلها، فرضيت بذلك، وقال: يؤمر عمرو بن العاص، وعبد الله بن قيس، ومثلهما من ذوي القوة والأمانة، وكل ذلك فعلت، فلم يرضوا، وحالوا بيني وبين المسجد، فابتزوا ما قدروا عليه بالمدينة وهم يخيرونني بين إحدى ثلاث: إما أن يقيدوني بكل رجل أصبت خطأ أو عمدا، وإما أن أعتزل عن الأمر، فيؤمروا أحدا، وإما أن يرسلوا إلى من أطاعهم من الجنود وأهل الأمصار (1)، فأرسلوا إليكم فأتيتم لتبتزوني من الذي جعل الله لي عليكم من السمع والطاعة، فسمعتم منهم، وأطعتموهم والطاعة لي عليكم دونهم، فقلت لهم: أما إقادة من نفسي فقد كان قبلي خلفاء، ومن يتول السلطان يخطئ ويصيب، فلم يستقد من أحد منهم، وقد علمت أنهم يريدون بذلك نفسي، وأما أن أتبرأ من الأمر (2)، فإن يصلبوني (3) أحب إلي من أن أتبرأ من جنة الله تعالى وخلافته بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي (4): يا عثمان، إن الله تعالى سيقمصك قميصا بعدي، فإن

(هامش)

(1) في الطبري 5 / 142 أهل المدينة. (2) في الطبري: الإمارة. (3) في الطبري: يكلبوني. (4) الحديث أخرجه أحمد في مسنده ج 6 / 75. (*)


ص 61

أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني، ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة، ولكن أتوها طائعين، يبتغون بذلك مرضاة الله، وصلاح الأمة، ومن يكن منهم يبتغي الدنيا فلن ينال منها إلا ما كتب له، فاتقوا الله، فإني لا أرضى لكم أن تنكثوا عهد الله، وإني أنشدكم الله والإسلام ألا تأخذوا الحق ولا تعطوه مني: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء، إلا ما رحم ربي) وإني عاقبت أقواما، وما أبتغي بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى الله من كل عمل عملته، وأستغفره، أما والله لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: الردة عن الإسلام، والزنا بعد الاحصان، ولا والله ما كان ذلك مني في جاهلية ولا إسلام، أو رجل قتل رجلا فيقاد به (1). فقال بعضهم: إنه ليقول مقالا. وقال آخر: لئن سمعتم منه ليصرفنكم، فأبوا، ورموه بالسهام، واستقبلوه بما لا يستقبل به مثله، ثم أشرف عليهم عبد الله بن سلام، وكان من أهل الدار، فقال (2): يا معشر من حاصر دار عثمان من المهاجرين والأنصار، ممن أنعم الله عليهم بالإسلام، لا تقتلوا عثمان فوالله إن حقه على كل مؤمن لحق الوالد على ولده، ووالله إن على حوائط المدينة اثني عشر ألف ملك منذ أن أمد الله بهم نبيكم صلى الله عليه وسلم، والله لئن قتلتموه ليسخطن عليكم ربكم، ولتتفرقن ملائكته عنكم وليقتلن بقتله أقواما هم في الأصلاب وما خلقوا في الأرحام وإني لأجده في التوراة التي أنزل الله على موسى عليه السلام، وكتب بيده عز وجل إليكم بالعبراني وبالعربي: خليفتكم المظلوم الشهيد والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لا تؤدى بعده طاعة إلا عن مخافة، ولا توصل رحم إلا عن مكافأة، وليقتلن به الرجل ومن في الأصلاب. فقالوا له: أيا يهودي، أشبع بطنك، وكسا ظهرك والله لا ينتطح فيه شاتان، ولا يتنافر فيه ديكان، فقال: أما الشاتان والديكان فصدقتم، ولكن التيسان الأكبر أن يتناطحان فيه فحصبوه ورموه حتى شجوه. فالتفت إلى عثمان، فقال له: زعموا أنك أشبعت بطني وكسوت ظهري، فاصبر

(هامش)

(1) أخرجه أحمد في مسنده 1 / 61، 63، 70، 382، 444، 465 و6 / 58، 214 وابن سعد في الطبقات 6773. (2) كلمة عبد الله بن سلام في الطبري / 130 وفتوح ابن الأعثم 2 / 223 قارن مع الأصل فثمة اختلاف. (*)

ص 62

يا أمير المؤمنين، فوالذي نفسي بيده إني أجدك في كتاب الله تعالى المنزل: الخليفة المظلوم الشهيد، فرميت بالسهام من كل جانب، وكان الحسن بن علي حاضرا، فأصابه سهم فخضبه بالدم، وأصاب مروان سهم، وهو في الدار، وخضب محمد بن طلحة، وشج قنبر مولى علي فخشي محمد بن أبي بكر أن يغضب بنو هاشم للحسن فيثيروها فتنة.

قتل عثمان رضي الله عنه وكيف كان

قال: وذكروا أن محمد بن أبي بكر لما خرج الحسن بن علي أخذ بيد رجلين، فقال لهما: إن جاءت بنو هاشم، فرأوا الدماء على وجه الحسن، كشفوا الناس عن عثمان، وبطل ما تريدون ولكن قوموا حتى نتسور عليه، فنقتله من غير أن يعلم أحد، فتسور هو وصاحباه من دار رجل من الأنصار (1)، حتى دخلوا على عثمان (2)، وما يعلم أحد ممن كان معه، لأن كل من معه كان فوق البيت، ولم يكن معه إلا امرأته، فدخل عليه محمد بن أبي بكر فصرعه، وقعد على صدره، وأخذ بلحيته، وقال: يا نعثل (3) ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن عامر وابن أبي سرح. فقال له عثمان: لو رآني أبوك رضي الله عنه لبكاني، ولساءه مكانك مني، فتراخت يده عنه، وقام عنه وخرج فدعا عثمان بوضوء فتوضأ، وأخذ مصحفا، فوضعه في حجره، ليتحرم به ودخل عليه رجل من أهل الكوفة بمشقص في يده، فوجأ به منكبه مما يلي الترقوة، فأدماه ونضح الدم على ذلك المصحف، وجاء آخر فضربه برجله، وجاء آخر فوجأه بقائم سيفه، فغشي عليه، ومحمد بن أبي بكر لم يدخل مع هؤلاء، فتصايح نساؤه، ورش الماء على وجهه فأفاق، فدخل محمد بن أبي بكر وقد أفاق فقال له: أي نعثل، غيرت وبدلت وفعلت. ثم دخل رجل من أهل مصر، فأخذ بلحيته، فنتف منها خصلة، وسل سيفه، وقال: افرجوا لي، فعلاه بالسيف، فتلقاه عثمان بيده، فقطعها، فقال عثمان: أما والله إنها أول يد خطت المفصل، وكتبت القرآن، ثم دخل رجل

(هامش)

(1) هي دار عمر وبن حزم من الأنصار. (2) والذين تسوروا الحائط هم: كنانة بن بشر بن عتاب وسودان بن حمران وعمرو بن الحمق (الطبري 5 / 131). (3) نعثل: قيل اسم رجل يهودي كان طويل اللحية، لقب به عثمان. (*)

ص 63

أزرق قصير مجدر، ومعه جرز (1) من حديد، فمشى إليه فقال: على أي ملة أنت يا نعثل؟ فقال: لست بنعثل، ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين. قال كذبت. وضربه بالجرز على صدغه الأيسر فغسله الدم، وخر على وجهه، وحالت نائلة بنت الفرافصة زوجته بينه وبينه، وكانت جسيمة، وألقت بنت شيبة (2) نفسها عليه، ودخل عليه رجل من أهل مصر (3)، ومعه سيف مصلت، فقال والله لأقطعن أنفه، فعالج امرأته عنه، فكشف عنها درعها. فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها، فضربت على السيف، فقطع أناملها، فقالت: يا رباح، غلام لعثمان أسود ومعه سيف، أعن عني هذا، فضربه الأسود فقتله، ثم دخل آخر معه سيف فقال: افرجوا لي، فوضع ذباب السيف في بطن عثمان، فأمسكت نائلة زوجته السيف، فحز أصابعها، ومضى السيف في بطن عثمان فقتله (4)، فخرجت امرأته وهي تصيح، وخرج القوم هاربين من حيث دخلوا، فلم يسمع صوت نائلة، لما كان في الدار من الجلبة، فصعدت امرأته إلى الناس، فقالت إن أمير المؤمنين قد قتل. فدخل الحسن والحسين ومن كان معهما، فوجدوا عثمان مقتولا قد مثل به فأكبوا عليه يبكون وخرجوا فدخل الناس فوجدوه مقتولا فبلغ عليا الخبر وطلحة والزبير وسعدا ومن كان بالمدينة فخرجوا وقد ذهبت عقولهم، فدخلوا عليه واسترجعوا، وأكبوا عليه يبكون ويعولون حتى غشي على علي ثم أفاق، فقال لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ فرفع يده فضرب الحسن والحسين (5)، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير، وخرج علي وقد سلب عقله، لا يدري ما يستقبل من أمره، فقال طلحة: ما لك يا أبا الحسن ضربت الحسن والحسين؟ فقال يا طلحة، يقتل أمير المؤمنين ولم نقم عليه

(هامش)

(1) الجرز بضم الجيم وسكون الراء عمود من حديد. (2) هي رملة بنت شيبة بن ربيعة، ولدت له عائشة أم أبان وأم عمرو (ابن الأثير 2 / 299). (3) هو كنانة بن بشر التجيبي. (4) اختلف أهل السير فيمن قتله وكيفية قتله انظر في ذلك الطبري 5 / 130 و132 مروج الذهب 2 / 382 البداية والنهاية 7 / 185 فتوح ابن الأعثم 2 / 231 الكامل لابن الأثير 2 / 231 تاريخ اليعقوبي 2 / 176 طبقات ابن سعد 3 / 72 - 73. وقد أجمعوا على مقتله في ذي الحجة لكنهم اختلفوا في وقت مقتله ومدة ولايته وقدر مدة حياته. (5) في مروج الذهب: لطم الحسن وضرب صدر الحسين. (*)

ص 64

بينة ولا حجة، فقال طلحة: لو دفع مروان لم يقتل. فقال علي: لو دفع مروان قتل قبل أن تقوم عليه حكومة. فخرج علي فأتى منزله وأغلق الباب، وكتبت نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية تصف دخول القوم على عثمان، وأخذه المصحف ليتحرم به، وما صنع محمد بن أبي بكر وأرسلت بقميص عثمان مضرجا بالدم ممزقا، وبالخصلة التي نتفها الرجل المصري من لحيته، فعقدت الشعر في زر القميص، ثم دعت النعمان بن بشير الأنصاري، فبعثته إلى معاوية (1)، ومضى بالقميص حتى أتى على يزيد بن أسيد ممدا لعثمان بعثه معاوية في أربعة آلاف، فأخبرهم بقتل عثمان فانصرفوا إلى الشام. قال ثم دخل أهل مصر الدار، فلما رأوا عثمان مقتولا ندموا واستحيوا وكره ذلك، وثار أهل الدار في وجوههم، فأخرجهم منها. ثم اقتتلوا عند الباب، فضرب مروان بالسيف فصرع.

دفن عثمان بن عفان رضي الله عنه

قال: وذكروا أن عبد الرحمن بن أزهر، قال: لم أكن دخلت في شيء من أمر عثمان، لا عليه ولا له، فإني لجالس بفناء داري ليلا بعدما قتل عثمان بليلة إذ جاءني المنذر بن الزبير، فقال ابن أخي يدعوك فقمت إليه، فقال لي: إنا أردنا أن ندفن عثمان، فهل لك؟ قلت: والله ما دخلت في شيء من شأنه، وما أريد ذلك، فانصرفت عنه، ثم اتبعته، فإذا هو في نفر فيهم جبير بن مطعم، وأبو الجهم بن حذيفة، والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير، فاحتملوه على باب وإن رأسه ليقول: طق طق، فوضعوه في موضع الجنائز، فقام إليهم رجال من الأنصار، فقالوا لهم: لا والله لا تصلون عليه. فقال أبو الجهم: ألا تدعونا نصلي عليه، فقد صلى الله تعالى عليه وملائكته. فقال له رجل منهم (2): إن كنت (3) فأدخلك الله مدخله، فقال له، حشرني الله معه. فقال له: إن الله حاشرك مع الشياطين، والله إن تركناكم به لعجز منا. فقال القوم لأبي الجهم: اسكت عنه وكف، فسكت، فاحتملوه ثم انطلقوا مسرعين

(هامش)

(1) نص كتابها إلى معاوية في العقد الفريد 4 / 300. (2) هو الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري (ابن الأعثم 2 / 240). (3) كذا بالأصل، وفي فتوح ابن الأعثم: إن كنت كاذبا. (*)

ص 65

كأني أسمع وقع رأسه على اللوح، حتى وضعوه في أدنى البقيع فأتاهم جبلة بن عمر الساعدي من الأنصار، فقال: لا والله لا تدفنوه في بقيع رسول الله، ولا نترككم تصلون عليه، فقال أبو الجهم: انطلقوا بنا، إن لم نصل عليه فقد صلى الله عليه، فخرجوا ومعهم عائشة بنت عثمان، معها مصباح في حق، حتى إذا أتوا به حش كوكب (1) حفروا له حفرة، ثم قاموا يصلون عليه، وأمهم جبير بن مطعم (2)، ثم دلوه في حفرته، فلما رأته ابنته صاحت، فقال ابن الزبير: والله لئن لم تسكتي لأضربن الذي فيه عينيك، فدفنوه، ولم يلحدوه بلبن، وحثوا عليه التراب حثوا.

بيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكيف كانت

قال: وذكروا أنه لما كان في الصباح اجتمع الناس في المسجد، وكثر الندم والتأسف على عثمان رحمه الله، وسقط في أيديهم، وأكثر الناس على طلحة والزبير واتهموهما بقتل عثمان، فقال الناس لهما: أيها الرجلان، قد وقعتما في أمر عثمان، فخليا عن أنفسكما، فقام طلحة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنا والله ما نقول اليوم إلا ما قلناه أمس، إن عثمان خلط الذنب بالتوبة. حتى كرهنا ولايته وكرهنا أن نقتله وسرنا أن نكفاه، وقد كثر فيه اللجاج، وأمره إلى الله، ثم قام الزبير فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن الله قد رضي لكم الشورى، فأذهب بها الهوى، وقد تشاورنا فرضينا عليا فبايعوه، وأما قتل عثمان فإنا نقول فيه إن أمره إلى الله، وقد أحدث أحداثا والله وليه فيما كان، فقام الناس، فأتوا عليا في داره (3)، فقالوا: نبايعك، فمد يدك، لا بد من أمير، فأنت أحق بها، فقال: ليس ذلك إليكم، إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر، فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة، فنجتمع وننظر في هذا الأمر فأبى أن يبايعهم، فانصرفوا عنه، وكلم بعضهم بعضا فقالوا: يمضي قتل عثمان في الآفاق والبلاد فيسمعون بقتله، ولا يسمعون أنه بويع لأحد بعده، فيثور كل رجل منهم في ناحية، فلا نأمن أن يكون في ذلك الفساد فارجعوا إلى علي، فلا

(هامش)

(1) حش كوكب: موضع بالمدينة، مما يلي البقيع. (2) وقيل: حكيم بن حزام، وقيل مروان. قال الواقدي: الثبت عندنا أنه صلى عليه جبير بن مطعم. (3) قيل كان بعرف الضبع (موضع راجع معجم البلدان). (*)

ص 66

تتركوه حتى يبايع، فيسير مع قتل عثمان بيعة علي، فيطمئن الناس ويسكنون فرجعوا إلى علي، وترددوا إلى الأشتر النخعي، فقال لعلي: أبسط يدك نبايعك، أو لتعصرن عينيك عليها ثالثة، ولم يزل به يكلمه، ويخوفه الفتنة، ويذكر له أنه ليس أحد يشبهه، فمد يده، فبايعه الأشتر ومن معه، ثم أتوا طلحة، فقالوا له: اخرج فبايع، قال: من؟ قالوا: عليا. قال: تجتمع الشورى وتنظر، فقالوا: أخرج فبايع، فامتنع عليهم. فجاؤوا به يلببونه، فبايعه بلسانه ومنع يده، فقال أبو ثور: كنت فيمن حاصر عثمان فكنت آخذ سلاحي وأضعه، وعلي ينظر إلي لا يأمرني ولا ينهاني، فلما كانت البيعة له، خرجت في أثره، والناس حوله يبايعونه، فدخل حائطا من حيطان بني مازن (1)، فألجأوه إلى نخلة، وحالوا بيني وبينه، فنظرت إليهم وقد أخذت أيدي الناس ذراعه، تختلف أيديهم على يده ثم أقبل إلى المسجد الشريف، وكان أول من صعد المنبر طلحة فبايعه بيده، وكانت أصابعه شلاء، فتطير منها علي، فقال: ما أخلقها أن تنكث، ثم بايعه الزبير وسعد (2) وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعا، ثم نزل فدعا الناس، وأمر مروان، فهرب منه، وطلب نفرا من بني أمية وابن أبي معيط فهربوا، وخرجت عائشة باكية تقول قتل عثمان رحمه الله، فقال لها عمار (2): بالأمس تحرضين عليه الناس، واليوم تبكينه، ثم جاء علي إلى امرأة عثمان فقال لها: من قتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل عليه رجال لا أعرفهم إلا أن أرى وجوههم، وكان معهم محمد بن أبي بكر، فدعا علي محمدا، فسأله عما ذكرت امرأة عثمان، فقال محمد: صدقت، قد والله دخلت عليه، فذكر لي أبي، فقمت عنه، وأنا تائب إلى الله تعالى، والله ما قتلته، ولا أمسكته، فقالت: صدق، ولكن هو أدخلهم. قال: ثم خرج طلحة، فلقي عائشة، فقالت له: ما صنع الناس؟ قال: قتلوا عثمان. قالت: ثم ما صنعوا؟ قال: بايعوا عليا، ثم أتوني فأكرهوني ولببوني حتى بايعت. قالت: وما لعلي يستولي على رقابنا، لا أدخل المدينة ولعلي فيها سلطان، فرجعت. وكان الزبير خارجا لم يشهد قتل عثمان، وكان عمرو بن العاص بفلسطين يوم قتل عثمان، فطلع عليه راكب من

(هامش)

(1) في الطبري 5 / 153 حائط بني عمرو بن مبذول. (2) في فتوح ابن الأعثم 2 / 248 الذي قال لها ذلك عبيد ابن أم كلاب وهو عبيد بن أبي سلمة الليثي وقد لقيها قريبا من المدينة قادمة من مكة: (أنظر الطبري 5 / 165 وابن الأثير 3 / 102). (*)

ص 67

الحجاز، فقال له: ما وراءك؟ قال تركت عثمان محصورا، قال عمرو: قد يضرط العير والمكواة في النار، ثم لبث أياما، فطلع عليه راكب آخر، فقال له عمرو: ما الخبر؟ قال: قتل عثمان. قال: فما فعل الناس؟ فقال: بايعوا عليا. قال: فما فعل علي في قتلة عثمان؟ قال: دخل عليه الوليد بن عقبة فسأله عن قتله، فقال: ما أمرت ولا نهيت، ولا سرني ولا ساءني. قال: فما فعل بقتلة عثمان! فقال: آوى ولم يرض، وقد قال له مروان: إن لا تكن أمرت فقد توليت الأمر، وإلا تكن قتلت فقد أويت القاتلين، فقال عمرو بن العاص: خلط والله أبو الحسن، قال: ثم كتب عمرو بن العاص إلى سعد بن أبي وقاص يسأله عن قتل عثمان، ومن قتله، ومن تولى كبره؟ فكتب إليه سعد: إنك سألتني من قتل عثمان؟ وإني أخبرك أنه قتل بسيف سلته عائشة، وصقله طلحة، وسمه ابن أبي طالب، وسكت الزبير وأشار بيده، وأمسكنا نحن، ولو شئنا دفعنا عنه، ولكن عثمان غير وتغير، وأحسن وأساء، فإن كنا أحسنا، وإن كنا أسأنا فنستغفر الله، وأخبرك أن الزبير مغلوب بغلبة أهله وبطلبه بذنبه، وطلحة لو يجد أن يشق بطنه من حب الإمارة لشقه. قال: وكان ابن عباس غائبا بمكة المشرفة، فأقبل إلى المدينة وقد بايع الناس عليا. قال ابن عباس: فوجدت عنده المغيرة بن شعبة، فجلست حتى خرج، ثم دخلت عليه، فسألني وساءلته. ثم قلت له: ما قال لك الخارج من عندك آنفا؟ قال لي قبل هذه الدخلة، أرسل إلى عبد الله بن عامر بعهده على البصرة، وإلى معاوية بعهده على الشام (1) فإنك تهدئ عليك البلاد، وتسكن عليك الناس. ثم أتاني الآن، فقال لي: إني كنت أشرت عليك برأي لم أتعقبه، فلم أر ذلك رأيا، وإني أرى أن تنبذ (2) إليهما العداوة، فقد كفاك الله عثمان، وهما أهون موتة منه. فقال له ابن عباس: أما المرة الأولى فقد نصحك فيها (3)، وأما الثانية فقد غشك فيها، قال: فإني قد وليتك الشام فسر إليها، قال: قلت: ليس هذا برأي، أترى معاوية وهو ابن عم عثمان مخليا بيني وبين عمله، ولست آمن إن ظفر بي أن يقتلني بعثمان، وأدنى ما هو صانع أن

(هامش)

(1) زيد في الطبري 5 / 159 وأقرر العمال على أعمالهم. (2) في الطبري: أن تعاجلهم بالنزوع. (3) يريد أن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتى تثبتهم فلا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، وأن تعزلهم يقولوا: تولى هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا ويؤلبون عليك (الطبري 5 / 160). (*)

ص 68

يحبسني ويحكم علي، ولكن اكتب إلى معاوية، فمنه وعده (1)، فإن استقام لك الأمر فابعثني، قال: ثم أرسل بالبيعة إلى الآفاق، وإلى جميع الأمصار! فجاءته البيعة من كل مكان إلا الشام، فإنه لم يأته منها بيعة. فأرسل إلى المغيرة بن شعبة فقال له: سر إلى الشام فقد وليتكها. قال: تبعثني إلى معاوية وقد قتل ابن عمه، ثم آتيه واليا، فيظن أني من قتلة ابن عمه؟ ولكن إن شئت أبعث إليه بعده، فإنه بالحري إذا بعثت له بعهده أن يسمع ويطيع. فكتب علي إلى معاوية (2): أما بعد فقد وليتك ما قبلك من الأمر والمال، فبايع من قبلك، ثم أقدم إلي في ألف رجل من أهل الشام. فلما أتى معاوية كتاب علي دعا بطومار فكتب فيه: من معاوية إلى علي، أما بعد، فإنه: ليس بيني وبين قيس عتاب * غير طعن الكلى وضرب الرقاب فلما أتى عليا الكتاب، ورأى ما فيه، وما هو مشتمل عليه، وكره ذلك، وقام فأتى منزله فدخل عليه الحسن ابنه، فقال له: أما والله كنت أمرتك فعصيتني، فقال له علي: وما أمرتني به فعصيتك فيه؟ قال: أمرتك أن تركب رواحلك، فتلحق بمكة المشرفة، فلا تتهم به، ولا تحل شيئا من أمره فعصيتني، وأمرتك حين دعيت إلى البيعة أن لا تبسط يدك إلا على بيعة جماعة، فعصيتني، وأمرتك حين خالف عليك طلحة والزبير أن لا تكرههما على البيعة، وتخلي بينهما وبين وجههما، وتدع الناس يتشاورون عاما كاملا، فوالله لو تشاوروا عاما ما زويت عنك، ولا وجدوا منك بدا، وأنا آمرك اليوم أن تقيلهما بيعتهما، وترد إلى الناس أمرهم، فإن رفضوك رفضتهم، وإن قبلوك قبلتهم، فإني والله قد رأيت الغدر في رؤوسهم، وفي وجوههم النكث والكراهية. فقال له علي: أنا إذا مثلك، لا والله يا بني، ولكن أقاتل بمن أطاعني من عصاني، وأيم الله يا بني ما زلت مبغيا علي منذ هلك جدك، فقال له الحسن: وأيم الله يا أبت ليظهرن عليك معاوية، لأن الله تعالى قال: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) [الإسراء: 33] فقال علي: يا بني، وما علينا من ظلمه، والله ما ظلمناه، ولا أمرنا

(هامش)

(1) زيد في الطبري: فأبى علي وقال: والله لا كان هذا أبدا. (2) ابن كثير ذكر في البداية والنهاية أن عليا ولى الشام سهل بن حنيف. (*)

ص 69

ولا نصرنا عليه، ولا كتبت فيه إلى أحد سوادا في بياض، وإنك لتعلم أن أباك أبرأ الناس من دمه ومن أمره. فقال له الحسن: دع عنك هذا، والله إني لا أظن، بل لا أشك أن ما بالمدينة عاتق (1) ولا عذراء ولا صبي إلا وعليه كفل من دمه. فقال: يا بني إنك لتعلم أن أباك قد رد الناس عنه مرارا أهل الكوفة وغيرهم، وقد أرسلتكما جميعا بسيفيكما لتنصراه وتموتا دونه، فنها كما عن القتال، ونهى أهل الدار أجمعين. وأيم الله لو أمرني بالقتال لقاتلت دونه، أو أموت بين يديه. قال الحسن: دع عنك هذا، حتى يحكم الله بين عباده يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. قال: ثم دخل المغيرة بن شعبة، فقال له علي: هل لك يا مغيرة في الله؟ قال: فأين هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تأخذ سيفك، فتدخل معنا في هذا الأمر، فتدرك من سبقك، وتسبق من معك، فإني أرى أمورا لا بد للسيوف أن تشحذ لها، وتقطف الرؤوس بها، فقال المغيرة: إني والله يا أمير المؤمنين ما رأيت عثمان مصيبا، ولا قتله صوابا، وإنها لظلمة تتلوها ظلمات، فأريد يا أمير المؤمنين - إن أذنت لي - أن أضع سيفي وأنام في بيتي حتى تنجلي الظلمة ويطلع قمرها، فنسري مبصرين، نقفو آثار المهتدين، ونتقي سبيل الجائرين. قال علي: قد أذنت لك، فكن من أمرك على ما بدا لك. فقام عمار فقال: معاذ الله يا مغيرة تقعد أعمى بعد أن كنت بصيرا. يغلبك من غلبته، ويسبقك من سبقته، انظر ما ترى وما تفعل، فأما أنا فلا أكون إلا في الرعيل الأول. فقال له المغيرة: يا أبا اليقظان، إياك أن تكون كقاطع السلسلة، فر من الضحل فوقع في الرمضاء. فقال علي لعمار: دعه، فإنه لن يأخذ من الآخرة إلا ما خالطته الدنيا، أما والله يا مغيرة إنها المثوبة المؤدية، تؤدي من قام فيها إلى الجنة، ولما اختار بعدها، فإذا غشيناك فنم في بيتك. فقال المغيرة: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني، ولئن لم أقاتل معك لا أعين عليك، فإن يكن ما فعلت صوابا فإياه أردت، وإن يكن خطأ فمنه نجوت، ولي ذنوب كثيرة، لا قبل لي بها إلا الاستغفار منها (2).

(هامش)

(1) العاتق المرأة في منتصف العمر. (2) ذكر الطبري أن المغيرة خرج من المدينة حتى لحق مكة. وقد قال أبياتا منها: نصحت عليا في ابن هند مقالة * فردت، فلا يسمع لها الدهر ثانيه (مروج الذهب 2 / 414). (*)

ص 70

خطبة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه

قال: وذكروا أن البيعة لما تمت بالمدينة، خرج علي إلى المسجد الشريف، فصعد المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ووعد الناس من نفسه خيرا، وتألفهم جهده، ثم قال: لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال وولد عن عشيرته، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم. هم أعظم الناس حيطة من ورائه، وإليهم سعيه وأعطفهم عليه إن أصابته مصيبة، أو نزل به بعض مكاره الأمور ومن يقبض يده عن عشيرته فإنه يقبض عنهم يدا واحدة، وتقبض، عنه أيد كثيرة، ومن بسط يده بالمعروف ابتغاء وجه الله تعالى، يخلف الله له ما أنفق في دنياه، ويضاعف له في آخرته، واعلموا أن لسان صدق يجعله الله للمرء في الناس، خير له من المال، فلا يزدادن أحدكم كبرياء، ولا عظمة في نفسه، ولا يغفل أحدكم عن القرابة أن يصلها، بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه. واعلموا أن الدنيا قد أدبرت، والآخرة قد أقبلت، ألا وإن المضمار (1) اليوم، والسبق (2) غدا. ألا وإن السبقة (3) الجنة. والغاية النار، ألا إن الأمل يشهي القلب، ويكذب الوعد، ويأتي بغفلة، ويورث حسرة فهو غرور، وصاحبه في عناء، فافزعوا إلى قوام دينكم، وإتمام صلاتكم، وأداء زكاتكم، والنصيحة لإمامكم، وتعلموا كتاب الله، واصدقوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوفوا بالعهد إذا عاهدتم، وأدوا الأمانات إذا ائتمنتم وارغبوا في ثواب الله، وارهبوا عذابه، واعملوا الخير تجزوا خيرا يوم يفوز بالخير من قدم الخير. اختلاف الزبير وطلحة على علي كرم الله وجهه

قال: وذكروا أن الزبير وطلحة أتيا عليا بعد فراغ البيعة، فقالا: هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟ قال علي: نعم، على السمع والطاعة، وعلى

(هامش)

(1) المضمار: الموضع والزمن الذي تضمر فيه الخيل، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن ثم يقلل علفها وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل. (2) في نهج البلاغة: السباق. (3) السبقة بالتحريك الغاية التي يحب السابق أن يصل إليها وبالفتح المرة من السبق، والسبقة بالضم الجنة. (*)

ص 71

ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان، فقالا: لا، ولكنا بايعناك على أنا شريكاك في الأمر، قال علي: لا، ولكنكما شريكان في القول والاستقامة والعون على العجز والأولاد، قال: وكان الزبير لا يشك في ولاية العراق، وطلحة في اليمن، فلما استبان لهما أن عليا غير موليهما شيئا، أظهرا الشكاة، فتكلم الزبير في ملأ من قريش، فقال: هذا جزاؤنا من علي، قمنا له في أمر عثمان، حتى أثبتنا عليه الذنب، وسببنا له القتل، وهو جالس في بيته وكفي الأمر. فلما نال بنا ما أراد، جعل دوننا غيرنا، فقال طلحة: ما اللوم إلا أنا كنا ثلاثة من أهل الشورى، كرهه أحدنا وبايعناه، وأعطيناه ما في أيدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا. قال: فانتهى قولهما إلى علي فدعا عبد الله بن عباس وكان استوزره، فقال له: بلغك قول هذين الرجلين؟ قال: نعم، بلغني قولهما. قال: فما ترى؟ قال: أرى أنهما أحبا الولاية. فول البصرة الزبير، وول طلحة الكوفة، فإنهما ليسا بأقرب إليك من الوليد وابن عامر من عثمان، فضحك علي، ثم قال: ويحك، إن العراقين بهما الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملا أحدا لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية، لكان لي فيهما رأي. قال ثم أتى طلحة والزبير إلى علي، فقالا: يا أمير المؤمنين، ائذن لنا في العمرة، فإن تقم إلى انقضائها رجعنا إليك، وإن تسر نتبعك. فنظر إليهما علي، وقال: نعم، والله ما العمرة تريدان، وإنما تريدان أن تمضيا إلى شأنكما، فمضيا (1 و2).

خلاف عائشة رضي الله عنها على علي

قال: وذكروا أن عائشة لما أتاها أنه بويع لعلي. وكانت خارجة عن المدينة، فقيل لها: قتل عثمان. وبايع الناس عليا. فقالت: ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض، قتل والله مظلوما، وأنا طالبة بدمه، فقال لها عبيد (3):

(هامش)

(1) في رواية للطبري أنهما غادرا إلى مكة بعد مقتل عثمان بأربعة أشهر. (2) وفي مروج الذهب: أن علي قال لهما: لعلكما تريدان البصرة أو الشام فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة. (3) وهو عبيد بن أبي سلمة الليثي ويقال له: عبيد ابن أم كلاب وكان لاقاها قرب المدينة. (*)

ص 72

إن أول من طعن عليه وأطمع الناس فيه لأنت، ولقد قلت: اقتلوا نعثلا فقد فجر (1)، فقالت عائشة: قد والله قلت وقال الناس، وآخر قولي خير من أوله (2) فقال عبيد: عذر والله يا أم المؤمنين. ثم قال: منك البداء ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا إنه قد فجر فهبنا أطعناك في قتله * وقاتله عندنا من أمر (3) قال: فلما أتى عائشة خبر أهل الشام أنهم ردوا بيعة علي، وأبوا أن يبايعوه، أمرت فعمل لها هودج من حديد، وجعل فيه موضع عينيها، ثم خرجت ومعها الزبير وطلحة وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة.

=اعتزال عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة عن مشاهدة علي وحروبه

قال: وذكروا أن عمار بن ياسر قام إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي آتي عبد الله بن عمر فأكلمه، لعله يخف معنا في هذا الأمر، فقال علي: نعم، فأتاه، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنه قد بايع عليا المهاجرون والأنصار، ومن إن فضلناه عليك لم يسخطك، وإن فضلناك عليه لم يرضك، وقد أنكرت السيف في أهل الصلاة، وقد علمت أن على القاتل القتل، وعلى المحصن الرجم، وهذا يقتل بالسيف، وهذا يقتل بالحجارة، وأن عليا لم يقتل أحدا من أهل الصلاة، فيلزمه حكم القاتل. فقال ابن عمر: يا أبا اليقظان، إن أبي جمع أهل الشورى، الذين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فكان أحقهم بها علي، غير أنه جاء أمر فيه السيف ولا أعرفه، ولكن والله ما أحب أن لي الدنيا وما عليها وأني أظهرت أو أضمرت عداوة علي؟ قال:

(هامش)

(1) في فتوح ابن الأعثم 2 / 249 فقد كفر. (2) العبارة في ابن الأعثم: ثم رجعت عما قلت لما عرفت خبره من أوله، وذلك أنكم استتبتموه حتى إذا جعلتموه كالفضة البيضاء قتلتموه، فوالله لأطلبن بدمه. (وانظر الطبري 5 / 172 وابن الأثير 3 / 102). (3) الأبيات في الطبري وابن الأثير وابن الأعثم باختلاف بعض الألفاظ وزيادة أبيات أخرى. (*)

ص 73

فانصرف عنه، فأخبر عليا بقوله (1)، فقال علي: لو أتيت محمد بن مسلمة الأنصاري، فأتاه عمار، فقال له محمد: مرحبا بك يا أبا اليقظان على فرقة ما بيني وبينك، والله لولا ما في يدي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لبايعت عليا، ولو أن الناس كلهم عليه لكنت معه، ولكنه يا عمار كان من النبي أمر ذهب فيه الرأي، فقال عمار: كيف؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت المسلمين يقتتلون أو إذا رأيت أهل الصلاة. فقال عمار: فإن كان قال لك: إذا رأيت المسلمين فوالله لا ترى مسلمين يقتتلان بسيفيهما أبدا، وإن كان قال لك: أهل الصلاة، فمن سمع هذا معك، إنما أنت أحد الشاهدين، فتريد من رسول الله قولا بعد قوله يوم حجة الوداع: دماؤكم وأموالكم عليكم حرام إلا بحدث، فتقول: يا محمد، لا نقاتل المحدثين. قال: حسبك يا أبا اليقظان. قال: ثم أتى سعد بن أبي وقاص فكلمه، فأظهر الكلام القبيح، فانصرف عمار إلى علي، فقال له علي: دع هؤلاء الرهط، أما ابن عمر فضعيف، وأما سعد فحسود، وذنبي إلى محمد بن مسلمة أني قتلت أخاه يوم خيبر، مرحب اليهودي.

هروب مروان بن الحكم من المدينة المنورة

قال: وذكروا أن مروان بن الحكم لما بويع علي هرب من المدينة، فلحق بعائشة بمكة. فقالت له عائشة: ما وراءك؟ فقال مروان: غلبنا على أنفسنا. فقال له رجل من أهل مكة (2): إياك وعليا فقد طلبك، ففر من بين يديه. فقال مروان: لم؟ فوالله ما يجد إلي سبيلا. أما هو فقد علمت أنه لا يأخذني بظن، ولا ينصب إلا على اليقين، وأيم الله ما أبالي إذا قصر علي سيفه ما طال علي من لسانه. فقال الرجل: إذا أطال الله عليك لسانه طال سيفه. قال مروان: كلا إن اللسان أدب، والسيف حكم.

(هامش)

(1) وكان عبد الله بن عمر قد أخبر كلثوم بنت علي أنه سيخرج معتمرا على طاعة علي ما خلا النهوض. (الطبري 5 / 164). (2) في فتوح ابن الأعثم أن مروان لم يبايع عليا، وقد خيره علي أن يلحق بأي بلد شاء فاختار الإقامة بالمدينة. وقوله هذا كان بالمدينة وليس بمكة (2 / 261). (*)

ص 74

خروج علي من المدينة

قال: وذكروا أن عليا تردد بالمدينة أربعة أشهر، ينتظر جواب معاوية، وقد كان كتب إليه كتابا بعد كتاب يمنيه ويعده أولا، ثم كتابا يخوفه ويتواعده فحبس معاوية جواب كتابه ثلاثة أشهر، ثم أتاه جوابه على غير ما يحب، فلما أتاه ذلك شخص من المدينة في تسعمائة راكب من وجوه المهاجرين والأنصار من أهل السوابق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعهم بشر كثير من أخلاط الناس، واستخلف على المدينة قثم بن عباس، وكان له فضل وعقل، وأمره أن يشخص إليه من أحب الشخوص، ولا يحمل أحدا على ما يكره، فخف الناس إلى علي بعده، ومضى معه من ولده الحسن والحسين ومحمد، فلما كان في بعض الطريق، أتاه كتاب أخيه عقيل بن أبي طالب، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد يا أخي، كلاك الله، والله جائرك من كل سوء، وعاصمك من كل مكروه على كل حال، وإني خرجت معتمرا، فلقيت عائشة معها طلحة والزبير وذووهما، وهم متوجهون إلى البصرة، قد أظهروا الخلاف، ونكثوا البيعة، وركبوا عليك قتل عثمان، وتبعهم على ذلك كثير من الناس، من طغاتهم وأوباشهم، ثم مر عبد الله بن أبي سرح، في نحو من أربعين راكبا، من أبناء الطلقاء، من بني أمية، فقلت لهم وعرفت المنكر في وجوههم: أبمعاوية تلحقون؟ عداوة والله إنها منكم ظاهرة غير مستنكرة، تريدون بها إطفاء نور الله، وتغيير أمر الله. فأسمعني القوم وأسمعتهم ثم قدمت مكة، فسمعت أهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة واليمامة، فأصاب ما شاء من أموالهما، ثم انكفأ راجعا إلى الشام، فأف لحياة في زهو جرأ عليك الضحاك، وما الضحاك إلا فقع بقرقره (1) فظننت حين بلغني ذلك أن أنصارك خذلوك، فاكتب إلي يا بن أمي برأيك وأمرك، فإن كنت الموت تريد، تحملت إليك ببني أخيك، وولد أبيك، فعشنا ما عشت ومتنا معك إذا مت، فوالله ما أحب أن أبقى بعدك، فوالله الأعز الأجل إن عيشا أعيشه بعدك في الدنيا لغير هنئ، ولا مرئ، ولا نجيع، والسلام. فكتب إليه علي كرم الله وجهه: أما بعد يا أخي، فكلاك الله كلاءة من

(هامش)

(1) الفقع: نبات طري أبيض. والقرقرة: الأرض الواطئة. (*)

ص 75

يخشاه، إنه حميد مجيد. قدم علي عبد الرحمن الأزدي بكتابك، تذكر فيه أنك لقيت ابن أبي سرح، في أربعين من أبناء الطلقاء من بني أمية، متوجهين إلى المغرب، وابن أبي سرح يا أخي طال ما كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصد عن كتابه وسنته وبغاها عوجا، فدع ابن أبي سرح وقريشا وتركاضهم (1) في الضلال، فإن قريشا قد اجتمعت على حرب أخيك، اجتماعها على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اليوم، وجهلوا حقي، وجحدوا فضلي، ونصبوا لي الحرب، وجدوا في إطفاء نور الله، اللهم فأجز قريشا عني بفعالها، فقد قطعت رحمي، وظاهرت علي، وسلبتني سلطان ابن عمي (2)، وسلمت ذلك لمن ليس في قرابتي، وحقي في الإسلام، وسابقتي التي لا يدعي مثلها مدع، إلا أن يدعي ما لا أعرف، ولا أظن الله يعرفه، والحمد لله على ذلك كثيرا. وأما ما ذكرت من غارة الضحاك على الحيرة واليمامة، فهو أذل وألام من أن يكون مر بها، فضلا عن الغارة، ولكن جاء في خيل جريدة (3) فسرحت إليه جندا من المسلمين، فلما بلغه ذلك ولى (4) هاربا، فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق، حين همت الشمس للإياب، فاقتتلوا، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا، ونجا هاربا (5)، بعد أن أخذ منه بالمخنق (6)، فلولا الليل ما نجا. وأما ما سألت أن أكتب إليك فيه برأيي، فإن رأيي جهاد المحلين حتى ألقى الله، لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة لأني محق، والله مع المحق، وما أكره الموت على الحق لأن الخير كله بعد الموت لمن عقل ودعا إلى الحق. وأما ما عرضت به من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك، فلا حاجة لي في ذلك، فذرهم راشدا مهديا، فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت، وأنا كما قال أخو بني سليم (7):

(هامش)

(1) في شرح النهج كتاب 279 سقط وتركاضهم في الضلال والتركاض: المبالغة في الركض: استعارة لسرعة في خواطرهم في الشقاق والضلال. وزيد فيه: وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه. (2) في شرح النهج: أمن أمي. يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن فاطمة بنت أسد أم علي ربت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها: فاطمة أمي بعد أمي. (3) يريد الخيل التي لا رجالة فيها أي أنها غارة ليست خطرة. (4) في شرح النهج: شمر. (5) في شرح النهج: نجا جريضا. (6) المخنق: قال في شرح النهج: هو موضع الخنق من الحيوان. (7) ينسب الشعر إلى عباس بن مرداس السلمي. وليس في ديوانه. (*)

ص 76

فإن تسأليني كيف صبري (1) فإنني * صبور على ريب الزمان صليب عزيز علي أن أرى بكآبة * فيشمت واش (2) أو يساء حبيب

كتاب أم سلمة إلى عائشة

قال: وذكروا أنه لما تحدث الناس بالمدينة بمسير عائشة مع طلحة والزبير، ونصبهم الحرب لعلي، وتألفهم الناس كتبت أم سلمة إلى عائشة أما بعد: فإنك سدة بين رسول الله وبين أمته، وحجابك (3) مضروب على حرمته، قد جمع القرآن الكريم ذيلك، فلا تندحيه (4)، وسكن عقيرتك، فلا تصحريها (5)، الله من وراء هذه الأمة، قد علم رسول الله مكانك، لو أراد أن يعهد إليك، وقد علمت أن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن انصدع، حماديات (6) النساء غض الأبصار وضم الذيول، وما كنت قائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو عارضك بأطراف الجبال والفلوات، على قعود (7) من الإبل، من منهل إلى منهل، إن بعين الله مهواك، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تردين، وقد هتكت حجابه الذي ضرب الله عليك، وتركت عهيداه. ولو أتيت الذي تريدين، ثم قيل لي ادخلي الجنة لاستحييت أن ألقى الله هاتكة حجابا قد ضربه علي، فاجعلي حجابك الذي ضرب عليك حصنك، فأبغيه منزلا لك حتى تلقيه، فإن أطوع ما تكونين إذا ما لزمته، وأنصح ما تكونين إذا ما قعدت فيه، ولو ذكرتك كلاما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنهشتني نهش الحية، والسلام. فكتبت إليها عائشة: ما أقبلني لوعظك، وأعلمني بنصحك (8)، وليس مسيري على ما تظنين، ولنعم المطلع مطلع فزعت فيه إلي فئتان متناجزتان، فإن أقدر ففي غير حرج، وإن أحرج مالي ما لا غني بي عن الازدياد منه، والسلام.

(هامش)

(1) في شرح النهج: أنت. (2) في شرح النهج: يعز علي أن تري بي... فيشمت عاد. (3) كذا بالأصل وبلاغات النساء، وفي العقد الفريد: حجاب. (4) لا تندحيه: أي لا توسيعه. (5) في العقد الفريد: وسكر خفارتك فلا تبتذليها. 4 / 316. (6) في العقد: جهاد النساء. (7) القعود: بالفتح: من الإبل يقتعده الراعي في كل حاجة. (8) في العقد: وأعرفني لحق نصيحتك. (*)

ص 77

استنفار عدي بن حاتم قومه لنصرة علي رضي الله عنه

قال: وذكروا أن ابن حاتم قام إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، لو تقدمت إلى قومي أخبرهم بمسيرك وأستنفرهم، فإن لك من طئ مثل الذي معك. فقال علي: نعم، فافعل، فتقدم عدي إلى قومه، فاجتمعت إليه رؤساء طئ، فقال لهم: يا معشر طئ، إنكم أمسكتم عن حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرك، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردة، وعلي قادم عليكم، وقد ضمنت له مثل عدة من معه منكم، فخفوا معه، وقد كنتم تقاتلون في الجاهلية على الدنيا، فقاتلوا في الإسلام على الآخرة، فإن أردتم الدنيا فعند الله مغانم كثيرة، وأنا أدعوكم إلى الدنيا والآخرة، وقد ضمنت عنكم الوفاء، وباهيت بكم الناس، فأجيبوا قولي، فإنكم أعز العرب دارا، لكم فضل معاشكم وخيلكم، فاجعلوا أفضل المعاش للعيال وفضول الخيل للجهاد، وقد أظلكم علي والناس معه، من المهاجرين والبدريين والأنصار، فكونوا أكثرهم عددا، فإن هذا سبيل للحي فيه الغنى والسرور، وللقتيل فيه الحياة والرزق، فصاحت طئ: نعم نعم، حتى كاد أن يصم من صياحهم. فلما قدم على طئ أقبل شيخ من طئ قد هرم من الكبر، فرفع له من حاجبيه، فنظر إلى علي، فقال له: أنت ابن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: مرحبا بك وأهلا، قد جعلناك بيننا وبين الله، وعديا بيننا وبينك، ونحن بينه وبين الناس، لو أتيتنا غير مبايعين لك لنصرناك، لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيامك الصالحة، ولئن كان ما يقال فيك من الخير حقا إن في أمرك وأمر قريش لعجبا، إذ أخرجوك وقدموا غيرك. سر، فوالله لا يتخلف عنك من طئ إلا عبد أو دعي إلا بإذنك. فشخص معه من طئ ثلاثة عشر آلاف راكب (1).

استنفار زفر بن زيد قومه لنصرة علي

قال: وذكروا أن زفر بن زيد بن حذيفة الأسدي، وكان من سادة بني أسد قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، إن طيئا إخواننا وجيراننا قد أجابوا عديا. ولي في قومي طاعة، فأذن لي فآتهم. قال: نعم، فأتاهم فجمعهم وقال: يا بني

(هامش)

(1) في مروج الذهب: ستمئة راكب. (*)

ص 78

أسد، إن عدي بن حاتم ضمن لعلي قومه فأجابوه، وقضوا عنه ذمامه، فلم يعتل الغني بالغنى، ولا الفقير بالفقر، وواسى بعضهم بعضا، حتى كأنهم المهاجرون في الهجرة، والأنصار في الأثرة، وهم جيرانكم في الديار، وخلطاؤكم في الأموال، فأنشدكم الله لا يقول الناس غدا: نصرت طئ وخذلت بنو أسد، وإن الجار يقاس بالجار، كالنعل بالنعل، فإن خفتم فتوسعوا في بلادهم، وانضموا إلى جبلهم، وهذه دعوة لها ثواب من الله في الدنيا والآخرة. فقام إليه رجل منهم، فقال له: يا زفر، إنك لست كعدي، ولا أسد كطئ، ارتدت العرب، فثبتت طئ على الإسلام، وجاد عدي بالصدقة، وقاتل بقومه قومك، فوالله لو نفرت طئ بأجمعها لمنعت رعاؤها دارها، ولو أن معنا أضعافنا لخفنا على دارنا، فإن كان لا يرضيك منا إلا ما أرضى عديا من طئ، فليس ذلك عندنا، وإن كان يرضيك قدر ما يرد عنا عذر الخذلان، وإثم المعصية، فلك ذلك منا. فسار معه من أسد جماعة ليست كجماعة طئ، حتى قدم بها على علي.

توجه عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة

قال: وذكروا أنه لما اجتمع طلحة والزبير وذووهما مع عائشة، وأجمعوا على المسير من مكة، وأتاهم عبد الله بن عامر (1)، فدعاهم إلى البصرة، ووعدهم الرجال والأموال، فقال سعيد بن العاصي لطلحة والزبير: إن عبد الله بن عامر كلمه إلى البصرة، وقد فر من أهلها فرار العبد الآبق، وهم في طاعة عثمان، ويريد أن يقاتل بهم عليا، وهم في طاعة علي، وخرج من عندهم أميرا، ويعود إليهم طريدا، وقد وعدكم الرجال والأموال، فأما الأموال فعنده، وأما الرجال فلا رجل. فقال مروان بن الحكم: أيها الشيخان، ما يمنعكما أن تدعوا الناس إلى بيعة مثل بيعة علي، فإن أجابوا كما عارضتماه ببيعة كبيعته، وإن لم يجيبوكما عرفتما ما لكما في أنفس الناس. فقال طلحة: يمنعنا أن الناس بايعوا عليا بيعة عامة، فبم ننقضها؟ وقال الزبير: ويمنعنا أيضا من ذلك تثاقلنا عن نصرة عثمان، وخفتنا إلى بيعة علي. فقال الوليد بن عقبة: إن كنتما أسأتما فقد أحسنتما، وإن

(هامش)

(1) وكان عبد الله بن عامر بن كريز واليا على البصرة لعثمان، وهو ابن خاله، وقد هرب ليلا من الكوفة بعدما بايع أهل البصرة عليا. وقد جهزهم علي قاله المسعودي في مروج الذهب 2 / 394 بألف ألف درهم ومائة من الإبل وغير ذلك. (*)

ص 79

كنتما أخطأتما فقد أصبتما، وأنتما اليوم خير منكما أمس. فقال مروان: أما أنا فهواي الشام، وهواكما البصرة، وأنا معكم وإن كانت الهلكة. فقال سعيد بن العاصي: أما أنا فراجع إلى منزلي. فلما استقام أمرهم، واجتمعت كلمتهم على المسير، قال طلحة للزبير: إنه ليس شيء أنفع ولا أبلغ في استمالة أهواء الناس من أن نشخص لعبد الله بن عمر، فأتياه فقالا: يا أبا عبد الرحمن، إن أمنا عائشة خفت لهذا الأمر، رجاء الاصلاح بين الناس، فاشخص معنا، فإن لك بها (1) أسوة، فإن بايعنا الناس فأنت أحق بها. فقال ابن عمر: أيها الشيخان، أتريدان أن تخرجاني من بيتي (2)، ثم تلقياني بين مخالب ابن أبي طالب؟ إن الناس إنما يخدعون بالدينار والدرهم. وإني قد تركت هذا الأمر عيانا في عافية أنالها. فانصرفا عنه. وقدم يعلى بن منبه عليهم من اليمن، وكان عاملا لعثمان، فأخرج أربع مئة بعير (3)، ودعا إلى الحملان، فقال الزبير: دعنا من إبلك هذه، وأقرضنا من هذا المال، فأقرض الزبير ستين ألفا، وأقرض طلحة أربعين ألفا، ثم سار القوم، فقال الزبير: الشام بها الرجال والأموال، وعليها معاوية، وهو ابن عم الرجل، ومتى نجتمع يولنا عليه، وقال عبد الله بن عامر: البصرة، فإن غلبتم عليا فلكم الشام، وإن غلبكم علي كان معاوية لكن جنة، وهذه كتب أهل البصرة إلي، فقال يعلى بن منبه، وكان داهيا: أيها الشيخان، قدرا قبل أن ترحلا أن معاوية قد سبقكم إلى الشام وفيها الجماعة، وأنت تقدمون عليه غدا في فرقة وهو ابن عم عثمان دونكم، أرأيتم إن دفعكم عن الشام، أو قال: اجعلها شورى، ما أنتم صانعون؟ أتقاتلونه أم تجعلونها شورى فتخرجا منها؟ وأقبح من ذلك أن تأتيا رجلا في يديه أمر قد سبقكما إليه، وتريدا أن تخرجاه منه، فقال القوم: فإلى أين؟ قال: إلى البصرة، فقال الزبير لعبد الله بن عامر: من رجال البصرة؟ قال: ثلاثة، كلهم سيد مطاع، كعب بن سور في اليمن، والمنذر بن ربيعة في ربيعة، والأحنف بن قيس في مضر. فكتب طلحة والزبير إلى كعب بن سور: أما بعد، فإنك قاضي عمر بن الخطاب، وشيخ أهل البصرة، وسيد أهل

(هامش)

(1) في فتوح ابن الأعثم 2 / 278 بنا. (2) زيد عند ابن الأعثم: كما يخرج الأرنب من جحره. (3) في مروج الذهب 2 / 394 أعطى عائشة وطلحة والزبير أربعمئة ألف درهم وكراعا وسلاحا، وبعث إلى عائشة بالجمل المسمى عسكرا وكان شراؤه باليمن مائتي دينار. وعند ابن الأثير 2 / 313: ستمئة بعير وستمئة ألف درهم. (*)

ص 80

اليمن، وقد كنت غضبت لعثمان من الأذى، فاغضب له من القتل، والسلام. وكتب إلى الأحنف بن قيس: أما بعد، فإنك وافد عمر وسيد مضر، وحليم أهل العراق، وقد بلغك مصاب عثمان، ونحن قادمون عليك، والعيان أشفى لك من الخبر، والسلام. وكتب إلى المنذر: أما بعد، فإن أباك كان رئيسا في الجاهلية، وسيدا في الإسلام، وإنك من أبيك بمنزلة المصلي (1) من السابق. يقال: كاد أو لحق، وقد قتل عثمان من أنت خير منه، وغضب له من هو خير منك، والسلام. فلما وصلت كتبهما إلى القوم، قام زياد بن مضر، والنعمان بن شوال، وغزوان، فقالوا: ما لنا ولهذا الحي من قريش؟ أيريدون أن يخرجونا من الإسلام بعد أن دخلنا فيه؟ ويدخلونا في الشرك بعدما خرجنا منه؟ قتلوا عثمان، وبايعوا عليا، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم. وكتب كعب بن سور إلى طلحة والزبير: أما بعد، فإنا غضبنا لعثمان من الأذى والغير باللسان، فجاء أمر الغير فيه بالسيف، فإن يك عثمان قتل ظالما، فما لكما وله؟ وإن كان قتل مظلوما فغير كما أولى به، وإن كان أمره أشكل على من شهده، فهو على من غاب عنه أشكل. وكتب الأحنف إليهما: أما بعد، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمر لا نشك فيه إلا قتل عثمان، وأنتم قادمون علينا، فإن يكن في العيان فضل، نظرنا فيه ونظرتم، وإلا يكن فيه فضل فليس في أيدينا ولا في أيديكم ثقة، والسلام. وكتب المنذر: أما بعد، فإنه لم يلحقني بأهل الخير إلا أن أكون خيرا من أهل الشر، وإنما أوجب حق عثمان اليوم حقه أمس وقد كان بين أظهركم فخذلتموه، فمتى استنبطتم هذا العلم، وبدا لكم هذا الرأي؟ فلما قرآ كتب القوم ساءهما ذلك وغضبا. ثم غدا مروان إلى طلحة والزبير، فقال لهما: عاودا ابن عمر، فلعله ينيب، فعاوداه، فتكلم طلحة، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنه والله لرب حق ضيعناه وتركناه، فلما حضر العذر قضينا بالحق، وأخذنا بالحظ، إن عليا يرى إنفاذ بيعته، وإن معاوية لا يرى أن يبايع له، وإنا نرى أن نردها شورى، فإن سرت معنا ومع أم المؤمنين صلحت الأمور، وإلا فهي الهلكة. فقال ابن عمر: إن يكن قولكما حقا ففضلا ضيعت، وإن يكن باطلا فشر منه نجوت، واعلما أن بيت عائشة خير لها من هودجها، وأنتما المدينة خير لكما من البصرة، والذل خير لكما من السيف، ولن يقاتل عليا إلا من كان خيرا منه، وأما الشورى فقد والله كانت، فقدم وأخرتما،

(هامش)

(1) المصلي من الخيل الذي يلي الأول في السباق، والسابق الفائز الأول في السباق. (*)

ص 81

ولن يردها إلا أولئك الذين حكموا فيها، فاكفياني أنفسكما، فانصرفا. فقال مروان: أستعينا عليه بحفصة، فأتيا حفصة، فقالت: لو أطاعني أطاع عائشة، دعاه، فاتركاه وتوجها إلى البصرة. وأتاهما عبد الله بن خلف، فقال لهما: إنه ليس أحد من أهل الحجاز كان منه في عثمان شيء إلا وقد بلغ أهل العراق، وقد كان منكما في عثمان من التحليب والتأليب ما لا يدفعه جحود، ولا ينفعكما فيه عذر، وأحسن الناس فيكما قولا من أزال عنكما القتل وألزمكما الخذل، وقد بايع الناس عليا بيعة عامة، والناس لاقوكما غدا، فما تقولان؟ فقال طلحة: ننكر القتل، ونقر بالخذل، ولا ينفع الاقرار بالذنب إلا مع الندم عليه، ولقد ندمنا على ما كان منا. وقال الزبير: بايعنا عليا والسيف على أعناقنا (1)، حيث تواثب الناس بالبيعة إليه دون مشورتنا، ولمن نصب لعثمان خطأ فتجب علينا الدية، ولا عمدا فيجب علينا القصاص. فقال عبد الله بن خلف: عذركما أشد من ذنبكما، قال: فتهيأ القوم للمسير، فقال طلحة والزبير: أسرعوا السير، لعلنا نسبق عليا من خلاف طريقه إلى البصرة. قال: وكتب قثم بن عباس إلى علي يخبره أن طلحة والزبير وعائشة قد خرجوا من مكة، يريدون البصرة، وقد استنفروا الناس، فلم يخف معهم إلا من لا يعتد بمسيره، ومن خلفت بعدك فعلى ما تحب. فلما قدم على علي كتابه غمه ذلك، وأعظمه الناس، وسقط في أيديهم، فقام قيس بن سعد بن عبادة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه والله ما غمنا بهذين الرجلين كغمنا بعائشة، لأن هذين الرجلين حلالا الدم عندنا، لبيعتهما ونكثهما، ولأن عائشة من علمت مقامها في الإسلام، ومكانها من رسول الله، مع فضلها ودينها وأمومتها منا ومنك، ولكنهما يقدمان البصرة، وليس كل أهلها لهما، وتقدم الكوفة، وكل أهلها لك، وتسير بحقك إلى باطلهم، ولقد كنا نخاف أن يسيرا إلى الشام، فيقال صاحبا رسول الله وأم المؤمنين، فيشتد البلاء، وتعظم الفتنة، فأما إذا أتيا البصرة وقد سبقت إلى طاعتك، وسبقوا إلى بيعتك، وحكم عليهم

(هامش)

(1) تقدم أن عليا رفض البيعة خفية ولا تكون إلا عن رضى المسلمين، وأنه بعد اجتماع المهاجرين والأنصار - وفيهم طلحة والزبير - رفض في البداية وقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به. ثم أن طلحة والزبير بايعاه على ملأ من الناس بعد أن قال لهما علي: إن أحببتما أن تبايعا لي وإن أحببتما بايعتكما، فقالا: بل نبايعك (الطبري 5 / 152 - 153 من عدة طرق). (*)

ص 82

عاملك، ولا والله ما معهما مثل ما معك، ولا يقدمان على مثل ما تقدم عليه، فسر فإن الله معك، وتتابعت الأنصار فقالوا وأحسنوا. قال: ولما نزل طلحة والزبير وعائشة بأوطاس (1)، من أرض خيبر، أقبل عليهم سعيد بن العاصي على نجيب له، فأشرف على الناس، ومعه المغيرة بن شعبة، فنزل وتوكأ على قوس له سوداء، فأتى عائشة، فقال لها: أين تريدين يا أم المؤمنين؟ قالت: أريد البصرة، قال: وما تصنعين بالبصرة؟ قالت: أطلب بدم عثمان. قال: فهؤلاء قتلة عثمان معك. ثم أقبل على مروان فقال له: وأنت أين تريد أيضا؟ قال: البصرة. قال وما تصنع بها؟ قال: أطلب قتلة عثمان، قال: فهؤلاء قتلة عثمان معك، إن هذين الرجلين قتلا عثمان طلحة والزبير ، وهما يريدان الأمر لأنفسهما، فلما غلبا عليه قالا: نغسل الدم بالدم، والحوبة (2) بالتوبة. ثم قال المغيرة بن شعبة: أيها الناس، إن كنتم إنما خرجتم مع أمكم، فارجعوا بها خيرا لكم، وإن كنتم غضبتم لعثمان، فرؤساؤكم قتلوا عثمان، وإن كنتم نقمتم على علي شيئا، فبينوا ما نقمتم عليه، أنشدكم الله فتنتين في عام واحد، فأبوا إلا أن يمضوا بالناس، فلحق سعيد بن العاصي باليمن، ولحق المغيرة بالطائف، فلم يشهدا شيئا من حروب الجمل ولا صفين، فلما انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة، نبحها كلاب الحوأب، فقالت لمحمد بن طلحة: أي ماء هذا؟ قال: هذا ماء الحوأب، فقالت: ما أراني إلا راجعة، قال: ولم؟ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنسائه: كأني بإحداكن قد نبحها كلاب الحوأب، وإياك أن تكوني أنت يا حميراء (3). فقال لها محمد بن طلحة: تقدمي رحمك الله، ودعي هذا القول. وأتى عبد الله بن الزبير، فحلف لها بالله لقد خلفته أول الليل، وأتاها ببينة زور من الأعراب (4)، فشهدوا بذلك، فزعموا أنها أول شهادة زور شهد بها في الإسلام، فلما انتهى إقبالهم على أهل البصرة، ودنوا منها، قام عثمان بن حنيف

(هامش)

(1) في الكامل في التاريخ 2 / 315 بذات عرق. (2) الحوبة: الإثم والذنب. (3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6 / 52، 97 ونقله ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 211 وقال: هذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجاه. (4) خمسين رجلا ممن كان معهم (عن مروج الذهب 2 / 395). (*)

ص 83

عامل البصرة لعلي بن أبي طالب فقال: يا أيها الناس، إنما بايعتم الله (يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) [الفتح 10] والله لو علم علي أن أحدا أحق بهذا الأمر منه ما قبله، ولو بايع الناس غيره لبايع من بايعوا، وأطاع من ولوا، وما به إلى أحد من صحابة رسول الله حاجة، وما بأحد عنه غنى، ولقد شاركهم في محاسنهم، وما شاركوه في محاسنه، ولقد بايعه هذان الرجلان وما يريدان الله، فاستعجلا الفطام قبل الرضاع، والرضاع قبل الولادة، والولادة قبل الحمل، وطلبا ثواب الله من العباد، وقد زعما أنهما بايعا مستكرهين. فإن كانا استكرها قبل بيعتهما كانا رجلين من عرض قريش لهما أن يقولا ولا يأمرا، ألا وإن الهدي ما كانت عليه العامة، والعامة على بيعة علي، فما ترون أيها الناس؟ فقام حكم بن جبل العبدي، فقال: نرى إن دخلا علينا قاتلناهما، وإن وقفا تلقيناهما والله ما أبالي أن أقاتلهما وحدي، وإن كنت أحب الحياة، وما أخشى في طريق الحق وحشة، ولا غيرة ولا غشا ولا سوء منقلب إلى بعث، وإنها لدعوة قتيلها شهيد، وحيها فائز، والتعجيل إلى الله قبل الأجر خير من التأخير في الدنيا، وهذه ربيعة معك.

نزول طلحة والزبير وعائشة البصرة

قال: وذكروا أن طلحة والزبير لما نزلا البصرة (1)، قال عثمان بن حنيف: نعذر إليهما برجلين، فدعا عمران بن الحصين صاحب رسول الله، وأبا الأسود الدؤلي، فأرسلهما إلى طلحة والزبير، فذهبا إليهما فناديا: يا طلحة فأجابهما، فتكلم أبو الأسود الدؤلي، فقال: يا أبا محمد، إنكم قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله وبايعتم عليا غير مؤامرين في بيعته، فلم نغضب لعثمان إذ قتل، ولم نغضب لعلي إذ بويع، ثم بدا لكم، فأردتم خلع علي، ونحن على الأمر الأول، فعليكم المخرج مما دخلتم فيه. ثم تكلم عمران، فقال: يا طلحة، إنكم قتلتم عثمان ولم نغضب له إذا لم تغضبوا، ثم بايعتم عليا وبايعنا من بايعتم، فإن كان قتل عثمان صوابا فمسيركم لماذا؟ وإن كان خطأ فحظكم منه الأوفر، ونصيبكم منه الأوفى. فقال طلحة: يا هذان إن صاحبكما لا يرى أن معه في هذا الأمر غيره، وليس على هذا بايعناه، وأيم الله ليسفكن دمه. فقال أبو الأسود: يا عمران، أما

(هامش)

(1) في الطبري 5 / 174 بالحفير، وهو أول منزل من البصرة لمن يريد مكة وقيل الحفير: موضع بين مكة والبصرة. (*)

ص 84

هذا فقد صرح أنه إنما غضب للملك. ثم أتيا الزبير فقالا: يا أبا عبد الله، إنا أتينا طلحة، قال الزبير: إن طلحة وإياي كروح في جسدين، وإنه والله يا هذان، قد كانت منا في عثمان فلتأت، احتجنا فيها إلى المعاذير، ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا نصرناه، ثم أتيا فدخلا على عائشة، فقالا: يا أم المؤمنين، ما هذا المسير؟ أمعك من رسول الله به عهد؟ قالت: قتل عثمان مظلوما، غضبنا لكم من السوط والعصا، ولا نغضب لعثمان من القتل؟ فقال أبو الأسود: وما أنت من عصانا وسيفنا وسوطنا؟ فقالت: يا أبا الأسود، بلغني أن عثمان بن حنيف يريد قتالي. فقال أبو الأسود: نعم والله قتالا أهونه تندر منه الرؤوس (1). وأقبل غلام من جهينة إلى محمد بن طلحة، فقال له: حدثني عن قتلة عثمان، قال: نعم، دم عثمان على ثلاثة أثلاث، ثلث على صاحبة الهودج، وثلث على صاحب الجمل الأحمر (2)، وثلث على علي بن أبي طالب. فضحك الجهني، ولحق بعلي بن أبي طالب، وبلغ طلحة قول ابنه محمد، وكان محمد من عباد الناس، فقال له: يا محمد، أتزعم عنا قولك إني قاتل عثمان، كذلك تشهد على أبيك؟ كن كعبد الله بن الزبير، فوالله ما أنت بخير منه، ولا أبوك بدون أبيه، كف عن قولك، وإلا فارجع فإن نصرتك نصرة رجل واحد، وفسادك فساد عامة. فقال محمد: ما قلت إلا حقا، ولن أعود.

نزول علي بن أبي طالب الكوفة

قال: وذكروا أن عليا لما نزل قريبا من الكوفة (3) بعث عمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر (4) إلى أبي موسى الأشعري، وكان أبو موسى عاملا لعثمان على الكوفة، فبعثهما علي إليه وإلى أهل الكوفة يستفزهم، فلما قدما عليه قام عمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، فدعوا الناس إلى النصرة لعلي، فلما أمسوا

(هامش)

(1) قارن مع ما ذكره الطبري 5 / 174 وابن الأثير 2 / 316 والبداية والنهاية 7 / 258 بشأن مقابلة الرجلين مع عائشة وطلحة والزبير. (2) يريد طلحة بن عبيد الله. (3) في مكان يدعى ذي قار (عن الطبري). في ابن الأعثم 2 / 290 الحسن بن علي. وفي الطبري 5 / 187 أنه أرسل الحسن بن علي وعمار بن ياسر للمرة الثانية إلى أبي موسى الأشعري. (وانظر مروج الذهب 2 / 396). وكان قد أرسل إليه في المرة الأولى، محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر (*)

ص 85

دخل رجال من أهل الكوفة على أبي موسى، فقالوا: ما ترى؟ أتخرج مع هذين الرجلين إلى صاحبهما، أم لا؟ فقال أبو موسى: أما سبيل الآخرة ففي أن تلزموا بيوتكم، وأما سبيل الدنيا فالخروج مع من أتاكم، فأطاعوه فتباطأ الناس على علي، وبلغ عمارا ومحمدا ما أشار به أبو موسى على أولئك الرهط، فأتياه فأغلظا له في القول، قال أبو موسى: إن بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكم، ولئن أردنا القتال ما لنا إلى قتال أحد من سبيل، حتى نفرغ من قتلة عثمان.

خطبة أبي موسى الأشعري (1)

ثم خرج أبو موسى فصعد المنبر، ثم قال: أيها الناس: إن أصحاب رسول الله الذين صحبوه في المواطن أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم حقا علي أؤديه إليكم، إن هذه الفتنة النائم فيها خير من اليقظان، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الساعي، والساعي خير من الراكب، فأغمدوا سيوفكم حتى تنجلي هذه الفتنة.

خطبة عمار بن ياسر

فقام عمار بن ياسر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن أبا موسى ينهاكم عن الشخوص إلى هاتين الجماعتين، ولعمري ما صدق فيما قال، وما رضي الله من عباده بما ذكر. قال عز وجل: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا) [الحجرات 9] وقال: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [الأنفال 39] فلم يرض من عباده بما ذكر أبو موسى من أن يجلسوا في بيوتهم ويخلوا بين الناس، فيسفك بعضهم دماء بعض، فسيروا معنا إلى هاتين الجماعتين واسمعوا من حججهم، وانظروا من أولى بالنصرة فاتبعوه، فإن أصلح الله أمرهم رجعتم مأجورين وقد قضيتم حق الله، وإن بغى بعضهم على بعض نظرتم إلى الفئة الباغية، فقاتلتموها حتى تفئ إلى أمر الله، كما أمركم الله، وافترض عليكم ثم قعد. فلما انصرفا إلى علي من عند أبي موسى وأخبراه بما قال أبو موسى، بعث

(هامش)

(1) أنظر الطبري 5 / 187 الكامل لابن الأثير 2 / 327. (*)

ص 86

إليه الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد، وكتب معهم إلى أهل الكوفة.

كتاب علي إلى أهل الكوفة

أما بعد، فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سامعه كمن عاينه (1)، إن الناس طعنوا على عثمان، فكنت رجلا من المهاجرين أقل عيبه وأكثر استعتابه (2)، وكان هذان الرجلان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه اللهجة والوجيف (3)، وكان من عائشة فيه قول (4) على غضب، فانتحى له قوم فقتلوه، وبايعني الناس غير مستكرهين، وهما أول من بايعني على ما بويع عليه من كان قبلي، ثم استأذنا إلى العمرة، فأذنت لهما، فنقضا العهد، ونصبا الحرب، وأخرجا أم المؤمنين من بيتها، ليتخذاها فتنة، وقد سارا إلى البصرة، اختيارا لأهلها، ولعمري ما إياي تجيبون، ما تجيبون إلا الله. وقد بعثت ابني الحسن، وابن عمي عبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد، فكونوا عند ظننا بكم، والله المستعان. فسار الحسن ومن معه، حتى قدموا الكوفة على أبي موسى، فدعاه إلى نصرة علي، فبايعهم، ثم صعد أبو موسى المنبر، وقام الحسن أسفل منه، فدعاهم إلى نصرة علي، وأخبرهم بقرابته من رسول الله، وسابقته، وبيعة طلحة والزبير إياه، ونكثهما عهده، وأقرأهم كتاب علي، فقام شريح بن هانئ، فقال:

خطاب شريح بن هانئ

لقد أردنا أن نركب إلى المدينة، حتى نعلم قتل عثمان، فقد أتانا الله به في بيوتنا، فلا تخالفوا عن دعوته، والله لو لم يستنصر بنا لنصرناه سمعا وطاعة، ثم قال الحسن بن علي، فقال: أيها الناس، إنه قد كان من مسير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ما قد بلغكم، وقد أتيناكم مستنفرين، لأنكم جبهة الأنصار (5)

(هامش)

(1) في نهج البلاغة: سمعه كعيانه. (2) الاستعتاب: الاسترضاء. (3) الوجيف: ضرب من سير الخيل والإبل سريع. يعني أنهما سارعا الإثارة الفتنة عليه. (4) في شرح النهج: فلتة غضب. (5) شبههم بجبهة الأنصار من حيث الكرم. ورؤوس العرب من حيث الرفعة. (*)

ص 87

ورؤوس العرب، وقد كان من نقض طلحة والزبير بعد بيعتهما وخروجهما بعائشة ما بلغكم، وتعلمون أن وهن النساء وضعف رأيهن إلى التلاشي، ومن أجل ذلك جعل الله الرجال قوامين على النساء، وأيم الله لو لم ينصره منكم أحد لرجوت أن يكون فيمن أقبل معه من المهاجرين والأنصار كفاية، فانصروا الله ينصركم. ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا أهل الكوفة، إن كان غاب عنكم أنباؤنا فقد انتهت إليكم أمورنا، إن قتلة عثمان لا يعتذرون من قتله إلى الناس، ولا ينكرون ذلك، وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاجيهم، فبه أحيا الله من أحيا، وأمات من أمات. وإن طلحة والزبير كانا أول من طعن، وآخر من أمر، وكانا أول من بايع عليا، فلما أخطأهما ما أملاه نكثا بيعتهما، من غير حدث. وهذا ابن بنت رسول الله الحسن قد عرفتموه. وقد جاء يستنفركم، وقد أظلكم علي في المهاجرين والبدريين والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان. فانصروا الله ينصركم. ثم قام قيس بن سعد، فقال: أيها الناس، إن الأمر لو استقبل به أهل الشورى كان علي أحق بها، وكان قتال من أبى ذلك حلالا، فكيف والحجة على طلحة والزبير، وقد بايعاه رغبة، وخالفاه حسدا، وقد جاءكم المهاجرون والأنصار.

دخول طلحة والزبير وعائشة البصرة

قال: وذكروا أنه لما نزل طلحة والزبير وعائشة البصرة، اصطف لها الناس في الطريق، يقولون: يا أم المؤمنين، ما الذي أخرجك من بيتك؟ فلما أكثروا عليها تكلمت بلسان طلق، وكانت من أبلغ الناس، فحمدت الله، وأثنت عليه، ثم قالت: خطبة عائشة رضي الله عنها أيها الناس، والله ما بلغ من ذنب عثمان أن يستحل دمه، ولقد قتل مظلوما، غضبنا لكم من السوط والعصا، ولا نغضب لعثمان من القتل، وإن من الرأي أن تنظروا إلى قتلة عثمان، فيقتلوا به، ثم يرد هذا الأمر شورى، على ما جعله عمر بن الخطاب. فمن قائل يقول: صدقت، وآخر يقول: كذبت، فلم يبرح الناس يقولون

ص 88

ذلك حتى ضرب بعضهم وجوه بعض، فبينما هم كذلك أتاهم رجل من أشراف البصرة بكتاب كان كتبه طلحة في التأليب على قتل عثمان، فقال لطلحة: هل تعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما ردك على ما كنت عليه؟ وكنت أمس تكتب إلينا تؤلبنا على قتل عثمان، وأنت اليوم تدعونا إلى الطلب بدمه، وقد زعمتما أن عليا دعاكما إلى أن تكون البيعة لكما قبله، إذ كنتما أسن منه، فأبيتما إلا أن تقدماه لقرابته وسابقته، فبايعتماه، فكيف تنكثان بيعتكما بعد الذي عرض عليكما؟ قال طلحة: دعانا إلى البيعة بعد أن اغتصبها وبايعه الناس، فعلمنا حين عرض علينا أنه غير فاعل، ولو فعل أبى ذلك المهاجرون والأنصار، وخفنا أن نرد بيعته فنقتل، فبايعناه كارهين. قال: فما بدا لكما في عثمان؟ قالا: ذكرنا ما كان من طعننا عليه، وخذلاننا إياه، فلم نجد من ذلك مخرجا إلا الطلب بدمه. قال: ما تأمرانني به؟ قالا: بايعنا على قتال علي، ونقض بيعته، قال: أرأيتما إن أتانا بعدكما من يدعونا إلى ما تدعوان إليه، ما نصنع؟ قالا: لا تبايعه. قال: ما أنصفتما، أتأمرانني أن أقاتل عليا وأنقض بيعته وهي في أعناقكما، وتنهياني عن بيعة من لا بيعة له عليكما؟ أما إننا قد بايعنا عليا، فإن شئتما بايعناكما بيسار أيدينا. قال: ثم تفرق الناس، فصارت فرقة مع عثمان بن حنيف، وفرقة مع طلحة والزبير (1). ثم جاء جارية بن قدامة، فقال: يا أم المؤمنين، لقتل عثمان كان أهون علينا من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون (2)، إنه كانت لك من الله تعالى حرمة وستر فهتكت سترك، وأبحت حرمتك إنه من رأى قتالك فقد رأى قتلك، فإن كنت يا أم المؤمنين أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهة فاستعتبي الله.

قتل أصحاب عثمان بن حنيف عامل علي على البصرة

قال: وذكروا أنه لما اختلف القوم اصطلحوا (3) على أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة ومسجدها وبيت المال، وأن ينزل أصحابه حيث شاؤوا من البصرة،

(هامش)

(1) في الطبري 5 / 175 بقي أصحاب عثمان يتدافعون حتى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان على فم السكة. (2) زيد في الطبري: عرضة للسلاح. (3) نص كتاب الصلح في الطبري 5 / 177. (*)

ص 89

وأن ينزل طلحة والزبير وأصحابهما حيث شاؤوا حتى يقدم علي، فإن اجتمعوا دخلوا فيما دخل فيه الناس، وإن يتفرقوا يلحق كل قوم بأهوائهم، عليهم بذلك عهد الله وميثاقه، وذمة نبيه، وأشهدوا شهودا من الفريقين جميعا. فانصرف عثمان، فدخل دار الإمارة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بمنازلهم، ويضعوا سلاحهم وافترق الناس، وكتموا ما في أنفسهم، غير بني عبد القيس، فإنهم أظهروا نصرة علي، وكان حكيم بن جبل (1) رئيسهم، فاجتمعوا إليه، فقال لهم: يا معشر عبد القيس: إن عثمان بن حنيف دمه مضمون، وأمانته مؤداة، وأيم الله لو لم يكن علي أميرا لمنعناه، لمكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف وله الولاية والجوار، فاشخصوا بأنصاركم، وجاهدوا العدو، فإما أن تموتوا كراما وأما أن تعيشوا أحرارا. فمكث عثمان بن حنيف في الدار أياما، ثم إن طلحة والزبير ومروان بن الحكم أتوه نصف الليل في جماعة معهم، في ليلة مظلمة سوداء مطيرة وعثمان نائم، فقتلوا أربعين رجلا من الحرس، فخرج عثمان بن حنيف، فشد عليه مروان فأسره، وقتل أصحابه، فأخذه مروان، فنتف لحيته ورأسه وحاجبيه، فنظر عثمان بن حنيف إلى مروان فقال: أما إنك إن تفتني بها في الدنيا، لم تفتني بها في الآخرة (2).

تعبئة الفئتين للقتال

وذكروا أنه لما تعبأ القوم للقتال، فكانت الحرب للزبير، وعلى الخيل طلحة، وعلى الرجالة عبد الله بن الزبير، وعلى القلب محمد بن طلحة، وعلى المقدمة مروان (3)، وعلى رجال الميمنة عبد الرحمن بن عبادة (4)، وعلى الميسرة هلال بن وكيع (5)، فلما فرغ الزبير من التعبئة قال: أيها الناس، وطنوا أنفسكم

(هامش)

(1) في الطبري: جبلة بالتحريك. (2) بعدما أسر عثمان أمرت عائشة بإخلاء سبيله، فقصد عليا وليس في وجهه شعرة إلى ذي قار وقيل إلى الربذة، وقال له: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد، فقال: أصبت أجرا وخيرا. (3) في ابن الأعثم 2 / 294 على خيل الميمنة مروان بن الحكم. (4) في الطبري: عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. (5) أضاف ابن الأعثم: وعلى رجالة الميسرة حاتم بن بكير الباهلي، وعلى الجناح عمر بن طلحة، وعلى رجالتها عبد الله بن حكيم بن حزام، وعلى خيل الكمين جندب بن يزيد المجاشعي، وعلى رجالتها مجاشع بن مسعود السلمي. (*)

ص 90

على الصبر، فإن يلقاكم غدا رجل لا مثل له في الحرب ولا شبيه، ومعه شجعان الناس. فلما بلغ عليا تعبئة القوم عبأ الناس للقتال (1)، فاستعمل على المقدمة عبد الله بن عباس، وعلى الساقة هندا المرادي، وعلى جميع الخيل عمار بن ياسر، وعلى جميع الرجالة محمد بن أبي بكر. ثم كتب إلى طلحة والزبير: أما بعد فقد علمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى بايعوني، وإنكما لممن أراد وبايع، وإن العامة لم تبايعني لسلطان خاص (2)، فإن كنتما بايعتماني كارهين، فقد جعلتما لي عليكما السبيل، بإظهاركما الطاعة، وإسراركما المعصية، وإن كنتما بايعتماني طائعين، فارجعا إلى الله من قريب. إنك يا زبير لفارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، وإنك يا طلحة لشيخ المهاجرين، وإن دفاعكما هذا الأمر (3) قبل أن تدخلا فيه، كان أوسع عليكما من خروجكما منه إقراركما به، وقد زعمتما أني قتلت عثمان فبيني وبينكما فيه بعض من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة، وزعمتما أني آويت قتلة عثمان، فهؤلاء بنو عثمان، فليدخلوا في طاعتي، ثم يخاصموا إلي قتلة أبيهم، وما أنتما وعثمان إن كان قتل ظالما أو مظلوما؟ وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين نكث بيعتكما، وإخراجكما أمكما.

كتاب علي إلى عائشة

وكتب إلى عائشة: أما بعد، فإنك خرجت غاضبة لله ولرسوله، تطلبين أمرا كان عنك موضوعا، ما بال النساء والحرب والإصلاح بين الناس؟ تطالبين بدم عثمان، ولعمري لمن عرضك للبلاء، وحملك على المعصية، أعظم إليك ذنبا من قتلة عثمان وما غضبت حتى أغضبت، وما هجت، حتى هيجت، فاتقي الله، وارجعي إلى بيتك (4). فأجابه طلحة والزبير: إنك سرت مسيرا له ما بعده، ولست راجعا وفي

(هامش)

(1) قارن مع العقد الفريد 4 / 314 وابن الأعثم 2 / 308. (2) في نهج البلاغة: لسلطان غالب ولا لعرض حاضر. (3) يعني خلافته. (4) زيد في ابن الأعثم 2 / 301 واسبلي عليك بسترك، والسلام. (*)

ص 91

نفسك منه حاجة، فامض لأمرك، أما أنت فلست راضيا دون دخولنا في طاعتك، ولسنا بداخلين فيها أبدا، فاقض ما أنت قاض. وكتبت عائشة: جل الأمر عن العتاب، والسلام. قال: ورجعت رسل علي من البصرة. فمنهم من أجابه وأتاه، ومنهم من لحق بعائشة وطلحة والزبير، وبعث الأحنف بن قيس إلى علي: إن شئت أتيتك في مائتي رجل من أهل بيتي، وإن شئت كففت عنك أربعة آلاف سيف (1)، فأرسل إليه علي: بل كف عني أربعة آلاف سيف، وكفى بذلك ناصرا. فجمع الأحنف بني تميم، فقال: يا معشر بني تميم، إن ظهر أهل البصرة فهم إخوانكم وإن ظهر علي فلن يهيجكم، وكنتم قد سلمتم. فكف بنو تميم، ولم يخرجوا إلى أحد الفريقين. قال: ولما كتب علي إلى طلحة والزبير أتى زمعة بن الأسود إلى طلحة والزبير. فقال لهما: إن عليا قد أكثر إليكما الرسل، كأنه طمع فيكما، وأطمعتماه في أنفسكما، فاتقيا الله إن كنتما بايعتماه طائعين، واتقيا الله علينا وعلى أنفسكما، فإن اللبن في الضرع، ومتى يحلب لا يرجع، وإن كنتما بايعتماه مكرهين فاخرقا هذا الوطب، وادفعا هذا اللبن، فما أغنانا عن هذه الكتب والرسل. قال: فخرج طلحة والزبير وعائشة، وهي على جمل عليه هودج، قد ضرب عليه صفائح الحديد، فبرزوا حتى خرجوا من الدور ومن أفنية البصرة، فلما تواقفوا للقتال، أمر علي مناديا ينادي من أصحابه لا يرمين أحد سهما ولا حجرا، ولا يطعن برمح حتى أعذر إلى القوم، فأتخذ عليهم الحجة. قال: فكلم علي طلحة والزبير قبل القتال، فقال لهما: استحلفا عائشة بحق الله وبحق رسوله على أربع خصال أن تصدق فيها: هل تعلم رجلا من قريش أولى مني بالله ورسوله، وإسلامي قبل كافة الناس أجمعين وكفايتي رسول الله كفار العرب بسيفي ورمحي، وعلى براءتي من دم عثمان، وعلى أني لم أستكره أحدا على أني لم أكن أحسن قولا في عثمان منكما. فأجابه طلحة جوابا غليظا، ورق له الزبير، ثم رجع علي إلى أصحابه فقالوا: يا أمير المؤمنين، بم كلمت الرجلين؟ فقال علي: إن شأنهما لمختلف أما الزبير فقاده اللجاج، ولن يقاتلكم، وأما طلحة فسألته عن الحق فأجابني بالباطل، ولقيته باليقين، ولقيني

(هامش)

(1) في الطبري: عشرة آلاف. وفي رواية أخرى فكالأصل. (وانظر البداية والنهاية 7 / 267). (*)

ص 92

بالشك، فوالله ما نفعه حقي، ولا ضرني باطله، وهو مقتول غدا في الرعيل الأول. قال: ثم خرج علي على بغلة رسول الله الشهباء بين الصفين، وهو حاصر، فقال: أين الزبير؟ فخرج إليه، حتى إذا كانا بين الصفين اعتنق كل واحد منهما صاحبه وبكيا، ثم قال علي: يا عبد الله ما جاء بك هاهنا؟ قال: جئت أطلب دم عثمان. قال علي: تطلب دم عثمان، قتل الله من قتل عثمان، أنشدك الله يا زبير، هل تعلم أنك مررت بي وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متكئ على يدك فسلم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضحك إلي، ثم التفت إليك، فقال لك: يا زبير، إنك تقاتل عليا وأنت له ظالم؟ قال: اللهم نعم (1). قال علي: فعلام تقاتلني؟ قال الزبير: نسيتها والله، ولو ذكرتها ما خرجت إليك، ولا قاتلتك فانصرف علي إلى أصحابه، فقالوا: يا أمير المؤمنين مررت إلى رجل في سلاحه وأنت حاسر، قال علي: أتدرون من الرجل؟ قالوا: لا. قال: ذلك الزبير ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما إنه قد أعطى الله عهدا أنه لا يقاتلكم، إني ذكرت له حديثا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو ذكرته ما أتيتك. فقالوا: الحمد لله يا أمير المؤمنين، ما كنا نخشى في هذا الحرب غيره. ولا نتقي سواه. إنه لفارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، ومن عرفت شجاعته وبأسه ومعرفته بالحرب، فإذا قد كفاناه الله فلا نعد من سواه إلا صرعى حول الهودج.

رجوع الزبير عن الحرب

قال: وذكروا أن الزبير دخل على عائشة (2)، فقال: يا أماه، ما شهدت موطنا قط في الشرك ولا في الإسلام إلا ولي فيه رأي وبصيرة غير هذا الموطن، فإنه لا رأي لي فيه، ولا بصيرة، وإني لعلى باطل. قالت عائشة: يا أبا عبد الله، خفت سيوف بني عبد المطلب؟ فقال: أما والله إن سيوف بني عبد المطلب

(هامش)

(1) رواه ابن كثير في البداية 7 / 268 من عدة طرق. والبيهقي في الدلائل 6 / 414 وقال: هذا مرسل وقد روي من وجه آخر موصولا. والطبري 5 / 200 وابن الأعثم 2 / 310 ومروج الذهب 2 / 400 - 401. (2) كذا بالأصل وابن الأعثم والطبري، وفي رواية أخرى عند الطبري، أنه عاد إلى ابنه عبد الله. (*)

ص 93

طوال حداد، يحملها فتية أنجاد. ثم قال لابنه عبد الله: عليك بحزبك (1)، أما أنا فراجع إلى بيتي. فقال له ابنه عبد الله: الآن حين التقت حلقتا البطان (2)، واجتمعت الفئتان؟ والله لا نغسل رؤوسنا منها، فقال الزبير لابنه: لا تعد هذا مني جبنا، فوالله ما فارقت أحدا في جاهلية ولا إسلام، قال: فما يردك؟ قال: يردني ما إن علمته كسرك. فقام بأمر الناس عبد الله بن الزبير (3).

قتل الزبير بن العوام

قال: وذكروا أن الزبير لما انصرف راجعا إلى المدينة أتاه ابن جرموز، فنزل به (4)، فقال: يا أبا عبد الله، أحييت حربا ظالما أو مظلوما ثم تنصرف؟ أتائب أنت أم عاجز؟ فسكت عنه، ثم عاود، فقال له: يا أبا عبد الله، حدثني عن خصال خمس أسألك عنها. فقال: هات. قال: خذلك عثمان، وبيعتك عليا، وإخراجك أم المؤمنين. وصلاتك خلف ابنك، ورجوعك عن الحرب. فقال الزبير: نعم أخبرك، أما خذ لي عثمان فأمر قدر الله فيه الخطيئة وأخر التوبة. وأما بيعتي عليا فوالله ما وجدت من ذلك بدا، حيث بايعه المهاجرون والأنصار وخشيت القتل، وأما إخراجنا أمنا عائشة فأردنا أمر وأراد الله غيره، وأما صلاتي خلف ابني فإنما قدمته عائشة أم المؤمنين ولم يكن لي دون صاحبي أمر، وأما رجوعي عن هذه الحرب فظن بي ما شئت غير الجبن. فقال ابن جرموز: والهفاه على ابن صفية، أضرمها نارا ثم أراد أن يلحق بأهله، قتلني الله إن لم أقتله، ثم أتاه فقال له: يا أبا عبد الله كالمستنصح له، إن دون أهلك فيافي، فخذ نجيبي هذا، وخل فرسك ودرعك، فإنهما شاهدتان عليك بما تكره. فقال الزبير: أنظر في ذلك ليلتي، ثم ألح عليه في فرسه ودرعه فلم يزل حتى أخذهما منه، وإنما أراد ابن جرموز أن يلقاه حاسرا، لما علم بأسه، ثم أتى ابن جرموز الأحنف بن

(هامش)

(1) في نسخة: بحربك. (2) البطان: الحزام الذي يشد على البطن. (3) الخبر رواه الطبري 5 / 200 و204 وابن الأعثم 2 / 310 وابن كثير 7 / 269 ومروج الذهب 2 / 400 - 401. باختلاف. (4) وهو بوادي السباع، وكان الزبير قد نزل على قوم من بني تميم. وفي البداية والنهاية 7 / 277 اتبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في طائفة من غواة بني تميم، ويقال أدركه ابن جرموز. وهذا القول هو الأشهر. (*)

ص 94

قيس، فساره بمكان الزبير عنده وبقوله، فقال له الأحنف: اقتله قتله الله مخادعا، وأتى الزبير رجل من كلب، فقال له: يا أبا عبد الله، أنت لي صهر، وابن جرموز لم يعتزل هذه الحرب مخافة الله، ولكنه كره أن يخالف الأحنف، وقد ندم الأحنف على خذله عليا، ولعله أن يتقرب بك إليه، وقد أخذ منك درعك وفرسك، وهذا تصديق ما قلت لك، فبت عندي الليلة ثم اخرج بعد نومه، فإنك أن فتهم لم يطلبوك. فتهاون بقوله، ثم بدا له فقال له، فما ترى يا أخا كلب؟ قال: أرى أن ترجع إلى فرسك ودرعك فتأخذهما، فإن أحدا من الناس لا يقدم عليك وأنت فارس أبدا، فأصبح الزبير غاديا، وسار معه ابن جرموز وقد كفر (1) على الدرع فلما انتهى إلى وادي السباع استغفله فطعنه، ثم رجع برأسه وسلبه إلى قومه، فقال له رجل من قومه: يا بن جرموز، فضحت والله اليمن بأسرها، قتلت الزبير رأس المهاجرين، ورأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحواريه، وابن عمته، والله لو قتلته في حرب لعز ذلك علينا، ولمسنا عارك، فكيف في جوارك وذمتك؟ والله ليزيدنك على أن يبشرك بالنار. فغضب ابن جرموز وقال: والله ما قتلته إلا له، ووالله ما أخاف ما أخاف فيه قصاصا، ولا أرهب فيه قرشيا، وإن قتله علي لهين (2).

مخاطبة علي لطلحة بين الصفين

قال: وذكروا أن عليا نادى طلحة بعد انصراف الزبير، فقال له: يا أبا محمد ما جاء بك؟ قال: أطلب دم عثمان. قال علي: قتل الله من قتله، قال طلحة: فحل بيننا وبين من قتل عثمان، أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما يحل دم المؤمن في أربع خصال، زان فيرجم، أو محارب لله، أو مرتد عن الإسلام، أو مؤمن يقتل مؤمنا عمدا. فهل تعلم أن عثمان أتى شيئا من ذلك؟ فقال علي: لا. قال طلحة: فأنت أمرت بقتله. قال علي:

(هامش)

(1) يعني لبس على الدرع سترا (الكفر: الستر) أو ثوبا فستره به. (2) المشهور أن ابن جرموز بعدما قتل الزبير احتز رأسه وأخذ سلاحه وفرسه وخاتنه ثم جاء به بين يدي علي.. فأخذ علي سيفه وقال لابن جرموز: ويحك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار. فانصرف ابن جرموز وهو يقول: أتيت عليا برأس الزبير * وقد كنت أرجو به الزلفة فبشر بالنار قبل العيان * وبئس بشارة ذي النحفة (*)

ص 95

اللهم لا. قال طلحة: فاعتزل هذا الأمر، ونجعله شورى بين المسلمين، فإن رضوا بك دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن رضوا غيرك كنت رجلا من المسلمين. قال علي: أو لم تبايعني يا أبا محمد طائعا غير مكره؟ فما كنت لأترك بيعتي. قال طلحة: بايعتك والسيف في عنقي. قال: ألم تعلم أني ما أكرهت أحدا على البيعة، ولو كنت مكرها أحدا لأكرهت سعدا وابن عمر ومحمد بن مسلمة، أبوا البيعة، واعتزلوا، فتركتهم. قال طلحة: كنا في الشورى ستة، فمات اثنان وقد كرهناك، ونحن ثلاثة، قال علي: إنما كان لكما ألا ترضيا قبل الرضى وقبل البيعة. وأما الآن فليس لكما غير ما رضيتما به، إلا أن تخرجا مما بويعت عليه بحدث، فإن كنت أحدثت حدثا فسموه لي. وأخرجتم أمكم عائشة، وتركتم نساءكم، فهذا أعظم الحدث منكم أرضى هذا لرسول الله أن تهتكوا سترا ضربه عليها، وتخرجوها منه؟ فقال طلحة: إنما جاءت للإصلاح. قال علي: هي لعمر الله إلى من يصلح لها أمرها أحوج، أيها الشيخ أقبل النصح وارض بالتوبة مع العار. قبل أن يكون العار والنار.

التحام الحرب

قال: وذكروا أنه بينما الناس وقوف إذ رمي رجل من أصحاب علي، فجئ به إلى علي، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا أخونا قد قتل. فقال علي: أعذروا إلى القوم (1). فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: إلى متى؟ قد والله أعذرنا وأعذرت إن كنت تريد الإعذار، والله لتأذنن لنا في لقاء القوم أو لننصرفن إلى متى تستهدف نحورنا للقتال والسلاح، يقتلوننا رجلا رجلا؟ فقال علي: قد والله أرانا أعذرنا. أين محمد ابني؟ فقال: هأنذا. فقال: أي بني، خذ الراية، فابتدر الحسن والحسين ليأخذاها، فأخرهما عنها، وكان علي يؤخرهما شفقة عليهما، فأخذ محمد الراية، ثم قام علي، فركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبسها، ثم قال: احزموني، فحزم بعمامة أسفل من سرته، ثم خرج وكان عظيم البطن، فقال لابنه: تقدم وتضعضع الناس حين سمعوا به قد تحرك، فبينما هم كذلك إذ

(هامش)

(1) وكان أهل البصرة قد جعلوا يرمون أصحاب علي بالنبل حتى عقروا منهم جماعة، فقالت الناس: يا أمير المؤمنين إنه قد عقرتنا نبالهم فما انتظارك؟ (انظر مروج الذهب 2 / 400). (*)

ص 96

سمعوا صوتا، فقال علي: ما هذا؟ فقيل: عائشة تلعن قتلة عثمان. فقال علي ورفع بصره إلى السماء: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل، وقد كان علي عبأ الناس أثلاثا، فجعل مصر قلب العسكر، واليمن ميمنته، وربيعة ميسرته، وعبأ أهل البصرة مثل ذلك، فاقتتل القوم قتالا شديدا، فهزمت يمن البصرة يمن علي، وهزمت ربيعة البصرة ربيعة علي، قال حية بن جهين: نظرت إلى علي وهو يخفق نعاسا فقلت له: تالله ما رأيت كاليوم قط، إن بإزائنا لمائة ألف سيف، وقد هزمت ميمنتك وميسرتك، وأنت تخفق نعاسا، فانتبه ورفع يديه، وقال: اللهم إنك تعلم أني ما كتبت في عثمان سوادا في بياض، وأن الزبير وطلحة ألبا وأجلبا علي الناس، اللهم أولانا بدم عثمان فخذه اليوم. ثم تقدم علي فنظر إلى أصحابه يهزمون ويقتلون فلما نظر إلى ذلك صاح بابنه محمد ومعه الراية، أن اقتحم، فأبطأ وثبت، فأتى علي من خلفه، فضربه بين كتفيه، وأخذ الراية من يده، ثم حمل، فدخل عسكرهم وإن الميمنتين والميسرتين تضطربان، في إحداهما عمار، وفي الأخرى عبد الله بن عباس، ومحمد بن أبي بكر، قال: فشق علي في عسكر القوم يطعن ويقتل، ثم خرج وهو يقول: الماء الماء، فأتاه رجل بإداوة فيها عسل فقال له: يا أمير المؤمنين، أما الماء فإنه لا يصلح لك في هذا المقام، ولكن أذوقك هذا العسل فقال: هات، فحسا منه حسوة، ثم قال: إن عسلك لطائفي، قال الرجل: لعجبا منك والله يا أمير المؤمنين، لمعرفتك الطائفي من غيره في هذا اليوم، وقد بلغت القلوب الحناجر. فقال له علي: إنه والله يا بن أخي ما ملأ صدر عمك شيء قط، ولا هابه شيء ثم أعطى الراية لابنه، وقال: هكذا فاصنع، فتقدم محمد بالراية ومعه الأنصار حتى انتهى إلى الجمل والهودج وهزم ما يليه، فاقتتل الناس ذلك اليوم قتالا شديدا حتى كانت الواقعة والضرب على الركب وحمل الأشتر النخعي وهو يريد عائشة، فلقيه عبد الله بن الزبير (1)، فضربه، واعتنقه عبد الله فصرعه، وقعد على صدره، ثم نادى عبد الله: اقتلوني ومالكا (2). فلم يدر الناس من مالك فانفلت الأشتر منه،

(هامش)

(1) قيل للأشتر ما أخرجك بالبصرة وقد كنت كارها لقتل عثمان؟ قال: هؤلاء بايعوا ثم نكثوا وكان ابن الزبير هو الذي أكره عائشة على الخروج فكنت أدعو الله أن يلقينيه فلقيني كفة لكفة. (2) في رواية في الطبري عن علقمة عن الأشتر أن الذي قال ذلك هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد لما صرعا بعضهما. وفي رواية أخرى فكالأصل: وفيه: ولو قال والأشتر وكانت له ألف ألف نفس ما نجا منها شيء وما زال يضطرب في يدي عبد الله حتى أفلت . (*)

ص 97

فلما رأى كعب بن سور الهزيمة، أخذ بخطام البعير، ونادى: أيها الناس، الله الله، فقاتل وقاتل الناس معه، وعطفت الأزد على الهودج، وأقبل علي وعمار والأشتر والأنصار معهم يريدون الجمل فاقتتل القوم حوله، حتى حال بينهم الليل، وكانوا كذلك يروحون ويغدون على القتال سبعة أيام، وإن عليا خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم، فلما رأى طلحة ذلك رفع يديه إلى السماء. وقال: اللهم إن كنا قد داهنا في أمر عثمان وظلمناه فخذ له اليوم منا حتى ترضى، قال: فما مضى كلامه حتى ضربه مروان ضربة أتى منها على نفسه (1)، فخر وثبتت عائشة، وحماها مروان في عصابة من قيس ومن كنانة وبني أسد، فأحدق بهم علي بن أبي طالب، ومال الناس إلى علي، وكلما وثب رجل يريد الجمل ضربه مروان بالسيف، وقطع يده، حتى قطع نحو عشرين يدا من أهل المدينة والحجاز والكوفة، حتى أتي مروان من خلفه، فضرب ضربة فوقع، وعرقب الجمل الذي عليه عائشة (2). وانهزم الناس، وأسرت عائشة، وأسر مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان، وموسى بن طلحة، وعمرو بن سعيد بن العاص، فقال عمار لعلي: يا أمير المؤمنين، اقتل هؤلاء الأسرى. فقال علي: لا أقتل أسير أهل القبلة إذا رجع ونزع. فدعا علي بموسى بن طلحة، فقال الناس: هذا أول قتيل يقتل، فلما أتى به علي قال: تبايع وتدخل فيما دخل فيه الناس؟ قال: نعم. فبايع وبايع الجميع وخلى سبيلهم، وسأل الناس عليا ما كان عرض عليهم قبل ذلك فأعطاه، ثم أمر المنادي فنادى: لا يقتلن مدبر، ولا يجهز على جريح، ولكم ما في عسكرهم وعلى نسائهم العدة، وما كان لهم من مال في أهليهم فهو ميراث على فرائض الله، فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، كيف تحل لنا أموالهم، ولا تحل لنا نساؤهم ولا أبناؤهم؟ فقال: لا يحل ذلك لكم. فلما أكثروا عليه في ذلك. قال: اقترعوا، هاتوا بسهامكم ثم قال: أيكم يأخذ أمكم عائشة في سهمه؟

(هامش)

(1) قيل في قتله: أنه أتاه سهم غرب، وقيل رماه مروان بسهم مسموم فأصابه به. وفي موضع إصابته قيل: وقع في ركبته، وقيل في رقبته، وقيل في أكحله. أنظر في ذلك الطبري 5 / 204 ومروج الذهب 2 / 403 تاريخ خليفة ص 185 سير أعلام النبلاء 1 / 26 فتوح ابن الأعثم 2 / 326 البداية والنهاية 7 / 275 ابن الأثير 2 / 337. (2) عقر الجمل رجل من بني ضبة يقال له ابن دلجة عمرو أو بجير (رواية الطبري) وفي الأخبار الطوال: كشف عرقوبه رجل من مراد يقال له أعين بن ضبيعة، وقال ابن الأعثم: عرقبه من رجليه عبد الرحمن بن صرد التنوخي. (*)

ص 98

فقالوا: نستغفر الله. فقال: وأنا أستغفر الله. قال: ثم إن عليا مر بالقتلى، فنظر إلى محمد بن طلحة وهو صريع في القتلى، وكان يسمى السجاد، لما بين عينيه من أثر السجود. فقال: رحمك الله يا محمد، لقد كنت في العبادة مجتهدا آناء الليل قواما، وفي الحرور صواما، ثم التفت إلى من حوله فقال: هذا رجل قتله بر أبيه فاختلفوا في طلحة وابنه محمد أيهما قتل قبل؟ فشهدت عائشة لمحمد أنها رأته بعد قتل أبيه، فورثوا ولده في مال طلحة. قال: وأتى محمد بن أبي بكر، فدخل على أخته عائشة رضي الله عنها، قال لها: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: علي مع الحق، والحق مع علي؟ ثم خرجت تقاتلينه بدم عثمان، ثم دخل عليهما علي فسلم وقال: يا صاحبة الهودج، قد أمرك الله أن تقعدي في بيتك، ثم خرجت تقاتلين. أترتحلين؟ قالت: أرتحل. فبعث معها علي رضي الله عنه أربعين امرأة (1)، وأمرهن أن يلبسن العمائم، ويتقلدن السيوف، وأن يكن من الذين يلينها، ولا تطلع على أنهن نساء، فجعلت عائشة تقول في الطريق فعل الله في ابن أبي طالب وفعل، بعث معي الرجال، فلما قدمن المدينة وضعن العمائم والسيوف، ودخلن عليها. فقالت: جزى الله ابن أبي طالب الجنة. قال: ودفن طلحة في ساحة البصرة (2)، فأتى عائشة (3) في المنام. فقال: حوليني من مكاني، فإن البرد قد آذاني فحولته (4). وقال عبد الله بن الزبير: أمسيت يوم الجمل وفي بضع وثلاثون بين ضربة وطعنة، وما رأيت مثل يوم الجمل قط، ما ينهزم منا أحد ولا يأخذ أحد منا بخطام الجمل إلا قتل أو قطعت يده، حتى ضاع الخطام من يد بني ضبة، فعقر الجمل. قال: دخل موسى بن طلحة على علي، فقال علي: إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله فيهم: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) [الحجر 47] وأمسى علي بالبصرة ذلك اليوم الذي أتاه فيه موسى بن طلحة، فقال ابن الكواء: أمسيت بالبصرة يا أمير المؤمنين؟ فقال: كان عندي ابن أخي. قال: ومن هو؟ قال: موسى بن طلحة. فقال ابن الكواء: لقد شقينا

(هامش)

(1) في مروج الذهب: عشرين امرأة 2 / 410. (2) دفن في مكان يقال له السبخة. وفي البداية والنهاية: دفن إلى جانب الكلأ. وفي العقد الفريد: في عرصة بالبصرة. (3) يريد عائشة بنت طلحة. (4) الخبر في العقد الفريد: اشترت عرصة بالبصرة ودفنته بها. (*)

ص 99

إن كان ابن أخيك. فقال علي: ويحكم، إن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ثم قال ابن الكواء: يا أمير المؤمنين، من أخبرك بمسيرك هذا الذي سرت فيه، تضرب الناس بعضهم ببعض، وتستولي بالأمر عليهم؟ أرأي رأيته حين تفرقت الأمة، واختلفت الدعوة، فرأيت أنك أحق بهذا الأمر منهم لقرابتك؟ فإن كان رأيا رأيته أجبناك فيه، وإن كان عهدا عهده إليك رسول الله فأنت الموثوق به، المأمون على رسول الله فيما حدثت عنه. فقال علي: أنا أول من صدقه فلا أكون أول من كذب عليه. أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا والله، ولكن لما قتل الناس عثمان نظرت في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها من رسول الله قد هلكا ولا عهد لهما، وإذا الخليفة الذي أخذها بمشورة المسلمين قد قتل، وخرجت ربقته من عنقي، لأنه قتل ولا عهد له، قال ابن الكواء: صدقت وبررت، ولكن ما بال طلحة والزبير؟ ولم استحللت قتالهما وقد شاركاك في الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الشورى مع عمر بن الخطاب؟ قال علي: بايعاني بالحجاز (1)، ثم خالفاني بالعراق، فقاتلتهما على خلافهما، ولو فعلا ذلك مع أبي بكر وعمر لقاتلاهما.

مبايعة أهل الشام معاوية بالخلافة

قال: وذكروا أن النعمان بن بشير لما قدم على معاوية ب زوجة عثمان، تذكر فيه دخول القوم عليه، وما صنع محمد بن أبي بكر من نتف لحيته، في كتاب قد رققت فيه وأبلغت، حتى إذا سمعه السامع بكى حتى يتصدع قلبه، وبقميص عثمان مخضبا بالدم ممزقا، وعقدت شعر لحيته في زر القميص. قال: فصعد المنبر معاوية بالشام، وجمع الناس، ونشر عليهم القميص، وذكر ما صنعوا بعثمان، فبكى الناس وشهقوا، حتى كادت نفوسهم أن تزهق، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه، فقام إليه أهل الشام، فقالوا: هو ابن عمك، وأنت وليه، ونحن الطالبون معك بدمه، فبايعوه أميرا عليهم، وكتب وبعث الرسل إلى كور (2) الشام، وكتب إلى شرحبيل بن السمط الكندي وهو

(هامش)

(1) في العقد الفريد: بالمدينة. (2) ذكر الخبر في العقد الفريد أن ذلك كان يوم صفين 4 / 303 باختلاف وزيادة. (3) نص الكتاب في العقد الفريد 4 / 300. (*)

ص 100

بحمص، يأمره أن يبايع له بحمص كما بايع أهل الشام، فلما قرأ شرحبيل كتاب معاوية دعا أناسا من أشراف أهل حمص، فقال لهم: ليس من قتل عثمان بأعظم جرما ممن يبايع لمعاوية أميرا، وهذه سقطة، ولكنا نبايع له بالخلافة، ولا نطلب بدم عثمان مع غير خليفة. فبايع لمعاوية بالخلافة هو وأهل حمص، ثم كتب إلى معاوية: أما بعد: فإنك أخطأت خطأ عظيما، حين كتبت إلي أن أبايع لك بالإمرة، وأنك تريد أن تطلب بدم الخليفة المظلوم وأنت غير خليفة، وقد بايعت ومن قبلي لك بالخلافة. فلما قرأ معاوية كتابه سره ذلك، ودعا الناس، وصعد المنبر، وأخبرهم بما قال شرحبيل، ودعاهم إلى بيعته بالخلافة، فأجابوه، ولم يختلف منهم أحد، فلما بايع القوم له بالخلافة، واستقام له الأمر، كتب إلى علي:

كتاب معاوية إلى علي

سلام الله على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنا كنا نحن وإياكم يدا جامعة، وألفة أليفة، حتى طمعت يا بن أبي طالب فتغيرت، وأصبحت تعد نفسك قويا على من عاداك. بطعام أهل الحجاز، وأوباش أهل العراق وحمقى الفسطاط وغوغاء السواد وأيم الله لينجلين عنك حمقاها، ولينقشعن عنك غوغاؤها انقشاع السحاب عن السماء. قتلت عثمان بن عفان، ورقيت سلما أطلعك الله عليه مطلع سوء عليك لا لك. وقتلت الزبير وطلحة، وشردت بأمك عائشة، ونزلت بين المصريين فمنيت وتمنيت، وخيل لك أن الدنيا قد سخرت لك بخيلها ورجلها وإنما تعرف أمنيتك لو قد زرتك في المهاجرين من أهل الشام بقية الإسلام، فيحيطون بك من ورائك، ثم يقضي الله علمه فيك، والسلام على أولياء الله.

رد الإمام علي على معاوية فأجابه

علي: أما بعد، فقدر الأمور تقدير من ينظر لنفسه دون جند، ولا يشتغل بالهزل من قوله، فلعمري لئن كانت قوتي بأهل العراق، أوثق عندي من قوتي بالله ومعرفتي به فليس عنده بالله تعالى يقين من كان على هذا، فناج نفسك مناجاة من يستغني بالجد دون الهزل، فإن في القول سعة، ولن يعذر مثلك فيما طمح إليه الرجال. وأما ما ذكرت من أنا كنا وإياكم يدا جامعة (1) فكنا

(هامش)

(1) في النهج: ما ذكرت من الألفة والجماعة. (*)

ص 101

كما ذكرت، ففرق بيننا وبينكم أن الله بعث رسوله منا، فآمنا به وكفرتم، ثم زعمت أني قتلت طلحة والزبير، فذلك أمر غبت عنه ولم تحضره، ولو حضرته لعلمته، فلا عليك، ولا العذر فيه إليك، وزعمت أنك زائري في المهاجرين، وقد انقطعت الهجرة حين أسر أخوك (1)، فإن يك فيك عجل فاسترفه (2) وإن أزرك فجدير أن يكون الله بعثني عليك للنقمة منك، والسلام

قدوم عقيل بن أبي طالب على معاوية

قال: وذكروا أن عقيل بن أبي طالب قدم على أخيه علي بالكوفة، فقال له علي: مرحبا بك وأهلا. ما أقدمك يا أخي؟ قال تأخر العطاء عنا، وغلاء السعر ببلدنا، وركبني دين عظيم، فجئت لتصلني. فقال علي: والله ما لي مما ترى شيئا إلا عطائي، فإذا خرج فهو لك. فقال عقيل: وإنما شخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك؟ وماذا يبلغ مني عطاؤك؟ وما يدفع من حاجتي؟ فقال علي: فمه! هل تعلم لي ما لا غيره؟ أم تريد أن يحرقني الله في نار جهنم في صلتك بأموال المسلمين؟ فقال عقيل: والله لأخرجن إلى رجل هو أوصل لي منك: يريد معاوية ، فقال له علي: راشدا مهديا. فخرج عقيل! حتى أتى معاوية. فلما قدم عليه، قال له معاوية: مرحبا وأهلا بك يا بن أبي طالب، ما أقدمك علي؟ فقال: قدمت عليك لدين عظيم ركبني، فخرجت إلى أخي ليصلني، فزعم أنه ليس له مما يلي إلا عطاؤه، فلم يقع ذلك مني موقعا، ولم يسد مني مسدا فأخبرته أني سأخرج إلى رجل هو أوصل منه لي، فجئتك. فازداد معاوية فيه رغبة، وقال: يا أهل الشام هذا سيد قريش، وابن سيدها، عرف الذي فيه أخوه من الغواية والضلالة، فأثاب إلى أهل الدعاء إلى الحق، ولكني أزعم أن جميع ما تحت يدي لي، فما أعطيت فقربة إلى الله، وما أمسكت فلا جناح علي فيه فأغضب كلامه عقيلا لما سمعه ينتقص أخاه، فقال: صدقت خرجت من عند أخي على هذا القول، وقد عرفت من في عسكره، لم أفقد والله رجلا من المهاجرين والأنصار، ولا والله ما رأيت في عسكر معاوية رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فقال معاوية عند ذلك: يا

(هامش)

(1) إثارة إلى أسر أخيه عمرو بن أبي سفيان يوم بدر. (2) استرفه فعل أمر أي استرح ولا تستعجل. (*)

ص 102

أهل الشام، أعظم الناس من قريش عليكم حقا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وسيد قريش، وها هو ذا تبرأ إلى الله مما عمل به أخوه. قال: وأمر له معاوية بثلاث مئة ألف دينار، قال له: هذه مئة ألف تقضي بها ديونك، ومئة ألف تصل بها رحمك، ومئة ألف توسع بها على نفسك (1).

نعي عثمان بن عفان إلى معاوية

قال عبد الله بن مسلم: وذكر ابن عفير، عن عون بن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، قال (2): قدم الحجاج بن خزيمة الشام بكتاب معاوية: بعد قتل عثمان بأيام، فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم. أنت الحجاج بن خزيمة، فما وراءك؟ فقال الحجاج: أنا النذير العريان. أنعي إليك أمير المؤمنين عثمان. ثم قال: إني كنت ممن خرج معينا لعثمان مع يزيد بن أسد، فتقدمت إلى الربذة فلقينا بها رجلا حدثنا عن قتل عثمان، وزعم أنه ممن قتله. فقتلناه. وإني أخبرك يا معاوية أنك تقوى على علي بدون ما يقوى به عليك، لأن من معك لا يقولون إذا قلت (3). ولا يسألون إذا أمرت (4)، ولأن من مع علي يقولون إذا قال، ويسألون إذا أمر، فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه. واعلم أن عليا لا يرضيه إلا الرضى، وإن رضاه يسخطك، ولست وعلي بالسواء لا يرضى علي بالعراق. دون الشام، ورضاؤك بالشام دون العراق. قال: وذكروا أنه لما فرغ من وقعة الجمل بايع له القوم جميعا، وبايع له أهل العراق، واستقام له الأمر بها فكتب إلى معاوية: أما بعد، فإن القضاء السابق، والقدر النافذ، ينزل من السماء كقطر المطر، فتمضي أحكامه عز وجل، وتنفذ مشيئته بغير تحاب المخلوقين، ولا رضا الآدميين، وقد بلغك ما كان من قتل عثمان رحمه الله، وبيعة الناس عامة إياي، ومصارع الناكثين لي فادخل فيما دخل الناس فيه، وإلا فأنا الذي عرفت، وحولي من تعلمه، والسلام (5).

(هامش)

(1) الخبر رواه المسعودي في مروج الذهب 3 / 44 باختلاف عما هنا. (2) الخبر في الأخبار الطوال ص: 155 وابن الأعثم 2 / 265. (3) في الأخبار الطوال: إذا سكت. (4) في الأخبار الطوال: ويسكتون إذا نطقت. (5) الكتاب في ابن الأعثم 2 / 352 - 353 باختلاف. (*)

ص 103

فلما قدم على معاوية كتاب علي مع الحجاج بن عدي الأنصاري، ألفاه وهو يخطب الناس بدمشق، فلما قرأه اغتم بذلك، وأسره عن أهل الشام، ثم قام الحجاج بن عدي خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل الشام، إن أمر عثمان أشكل على من حضره، المخبر عنه كالأعمى، والسميع كالأصم، عابه قوم فقتلوه، وغدره قوم فلم ينصروه (1)، فكذبوا الغائب واتهموا الشاهد وقد بايع الناس عليا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة عامة، من رغب عنها رد إليها صاغرا داحرا، فانظروا في ثلاث وثلاث، ثم اقضوا على أنفسكم: أين الشام من الحجاز؟ وأين معاوية من علي؟ وأين أنتم من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بالإحسان؟ قال: فغضب معاوية لقوله وقال: يا حجاج، أنت صاحب زيد بن ثابت يوم الدار؟ قال: نعم، فإن كان بلغك وإلا أحدثك، قال: هات. قال: أشرف علينا زيد بن ثابت، وكان مع عثمان في الدار، وقال: يا معشر الأنصار، انصروا الله (مرتين)، فقلت: يا زيد، إنا نكره أن نلقى الله فنقول كما قال القوم: (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)، فقال معاوية: انصرف إلى علي، وأعلمه أن رسولي على إثرك. ثم إن معاوية انتخب رجلا من عبس، وكان له لسان، فكتب معاوية إلى علي كتابا عنوانه: من معاوية إلى علي، وداخله: بسم الله الرحمن الرحيم لا غير . فلما قدم الرسول دفع الكتاب إلى علي، فعرف علي ما فيه، وأن معاوية محارب له، وأنه لا يجيبه إلى شيء مما يريد، وقام رسول معاوية خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: هل هاهنا أحد من أبنا قيس عيلان، وبني عبس وذبيان؟ قالوا: نعم، هم حولك، قال: فاسمعوا ما أقول لكم، يا معشر قيس، إني أحلف بالله لقد خلفت بالشام خمسين ألف شيخ، خاضبين لحاهم من دموع أعينهم تحت قميص عثمان، رافعيه على الرماح مخضوبا بدمائه، قد أعطوا الله عهدا أن لا يغمدوا سيوفهم، ولا يغمضوا جفونهم، حتى يقتلوا قتلة عثمان، يوصي به الميت الحي، ويرثه الحي من الميت، حتى والله نشأ عليه الصبي، وهاجر عليه الأعرابي، وترك القوم تعس الشيطان، وقالوا: تعسا لقتلة عثمان،

(هامش)

(1) يشير إلى موقف معاوية وتربصه بعثمان وعدم الاستعجال بنصرته، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الموقف. (*)

ص 104

وأحلف بالله ليأتينكم من خضر (1) الخيل اثنا عشر ألفا، فانظروا كم الشهب (2) وغيرها؟ فقال له علي: ما يريدون بذلك؟ قال: يريدون بذلك والله خبط رقبتك. فقال علي: تربت يداك، وكذب فوك، أما والله لو أن رسولا قتل لقتلتك. فقام الصلت (3) بن زفر فقال: بئس وافد أهل الشام أنت ورائد أهل العراق، ونعم العون لعلي، وبئس العون لمعاوية، يا أخا عبس أتخوف المهاجرين والأنصار بخضر الخيل، وغضب الرجال؟ أما والله ما نخاف غضب رجالك، ولا خضر خيلك، فأما بكاء أهل الشام على قميص عثمان، فوالله ما هو بقميص يوسف ولا بحزن يعقوب (4)، ولئن بكوا عليه بالشام، لقد خذلوه بالحجاز، وأما قتالهم عليا، فإن الله يصنع في ذلك ما أحب. قال: وإن العبسي أقام بالعراق عند علي، حتى اتهمه معاوية، ولقيه المهاجرون والأنصار فأشربوه حب علي، وحدثوه عن فضائله، حتى شك في أمره.

قدوم ابن عم عدي بن حاتم الشام

قال: وذكروا أن عدي بن حاتم قدم إلى علي بالكوفة، قبل أن يسير إلى البصرة، فقال: يا أمير المؤمنين، لسنا نخاف أحدا إلا معاوية، وعندي رجل من قومي يريد أن يزور ابن عم له بالشام، يقال له حابس بن سعد، فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام؟ فقال له علي: افعل، فأغروه بذلك، فلما قدم على ابن عمه، وكان سيد طئ بالشام، سأله فأخبره أنه شهد قتل عثمان بالمدينة المنورة، وسار مع علي إلى الكوفة، وكان له لسان وهيبة، فغدا به حابس إلى معاوية، فقال: هذا ابن عمي، قدم من الكوفة، وكان مع علي، وشهد قتل عثمان بالمدينة، وهو ثقة، فقال له معاوية: حدثنا عن أمر عثمان، قال: نعم وليه محمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، وتجرد في أمره ثلاثة نفر، عدي بن حاتم، والأشتر النخعي، وعمرو بن الحصين. ودب في أمره

(هامش)

(1) الخيل الخضر التي في لونها غبرة مع سواد. (2) الخيل الشهب: ذات اللون الأبيض. (3) في ابن الأعثم 2 / 357 صلة بن زفر العبسي صاحب حذيفة بن اليمان. (4) إشارة إلى قوله تعالى: (وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان عما تصفون) وذلك عندما ألقى أخوة يوسف أخاهم في الجب، وجاؤوا يخبرون أباهم بأن الذئب أكله. فحزن يعقوب على فقدان يوسف وابيضت عيناه من الحزن. (*)

ص 105

رجلان: طلحة والزبير. وأبرأ الناس منه علي بن أبي طالب، ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش، حتى ضلت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الشيخ. ولم يذكر عثمان، ولم يذكروه، ثم تهيأ للمسير، فخف معه المهاجرون والأنصار، وكره القتال معه ثلاثة نفر: عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، فلم يستكره أحدا، واستغنى بمن خف عمن ثقل، ثم سار حتى انتهى إلى جبل طئ، فأتاه منهم جماعة عظيمة، حتى إذا كان في بعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، فسرح رسله إلى الكوفة، فأجابوا دعوته، ثم قدمها، فحملوا إليه الصبي ودبت (1) إليه العجوز، وخرجت إليه العروس، فرحا به وسرورا وشوقا إليه (2)، ثم سار إلى البصرة، فبرز إليه القوم، طلحة والزبير وأصحابهما، فلم يلبثوا إلا يسيرا، حتى صرعهم الله، وأبرزهم إلى مضاجعهم، ثم صارت البصرة وما حولها في كفة، قال: وتركته وليس له هم إلا أنت والشام. فانكسر معاوية لقوله، وقال: والله ما أظنه إلا عينا لعلي، أخرجوه لا يفسد أهل الشام. ثم قال معاوية: وكيف لا يضيع عثمان ويقتل وقد خذله أهل ثقاته، وأجمعوا عليه؟ أما والله لئن بقينا لهم لندرسنهم (3) درس الجمال هشيم اليبيس (4).

استعمال علي عبد الله بن عباس على البصرة

قال: وذكروا أن عليا لما صار من البصرة بعد فراغه من أصحاب الجمل، استعمل عليها عبد الله بن عباس (5)، وقال له: أوصيك بتقوى الله عز وجل، والعدل على من ولاك الله أمره، اتسع للناس بوجهك وعلمك وحكمك، إياك والإحن، فإنها تميت القلب والحق، واعلم أن ما قربك من الله بعدك من النار، وما قربك من النار بعدك من الله. اذكر الله كثيرا ولا تكن من الغافلين.

(هامش)

(1) في فتوح ابن الأعثم: ودنت. (2) إشارة إلى إجماع البيعة واتفاق الكلمة على علي. (3) لندرسنهم: لندوسهم بقسوة، المعنى: لنقتلنهم. (4) الخبر رواه ابن الأعثم باختلاف عما هنا. قارن به 2 / 360. (5) قال ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 274: إنه عرض البصرة على أبي بكر فامتنع وأشار عليه بابن عباس فولاه البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال. وأمر ابن عباس أن يسمع من زياد. (وانظر الطبري 5 / 224). (*)

ص 106

فلم يلبث علي حين قدم الكوفة، وأراد المسير إلى الشام، أن انضم إليه ابن عباس، واستعمل على البصرة زياد بن أبي سفيان.

ما أشار به الأحنف بن قيس على علي

قال: وذكروا أن الأحنف بن قيس قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، إنه إن يك بنو سعد (1) لم ينصروك يوم الجمل، فلن ينصروا عليك غيرك، وقد عجبوا ممن نصرك يومئذ، وعجبوا اليوم ممن خذلك، لأنهم شكوا في طلحة والزبير، ولم يشكوا في عمرو ومعاوية، وإن عشيرتنا بالبصرة فلو بعثنا إليهم فقدموا علينا، فقاتلنا بهم العدو، وانتصفنا بهم من الناس، وأدركوا اليوم ما فاتهم أمس، وهذا جمع قد حشره الله عليك بالتقوى، لم نستكره شاخصا، ولم نشخص فيه مقيما، ومن كان معك نافعك، ورب مقيم خير من شاخص. وإنما نشوب الرجاء بالمخافة، ووالله لوددنا أن أمواتنا رجعوا إلينا، فاستعنا بهم على عدونا، وليس لك إلا من كان معك، ولنا من قومنا عدد، ولا نلقى بهم عدوا أعدى من معاوية، ولا نسد بهم ثغرا أشد من الشام.

كتاب الأحنف إلى قومه يدعوهم به إلى نصرة علي

قال: وذكروا أن عليا قال للأحنف بن قيس: اكتب إلى قومك. قال: نعم. فكتب الأحنف إلى بني سعد: أما بعد، فإنه لم يبق أحد من بني تميم إلا وقد شقوا (2) برأي سيدهم غيركم، وعصمكم الله برأيي، حتى نلتم ما رجوتم، وأمنتم مما خفتم، وأصبحتم منقطعين من أهل البلاء، لا حقين بأهل العافية، وإني أخبركم أنا قدمنا على تميم بالكوفة، فأخذوا علينا بفضلهم مرتين: مسيرهم إلينا مع علي، وتهيئهم للمسير إلى الشام، ثم انحشرنا معهم، فصرنا كأنا لا نعرف إلا بهم، فأقبلوا إلينا، ولا تتكلوا علينا، فإن لهم أعدادنا من رؤسائهم فلا تبطئوا عنا، فإن من تأخير العطاء حرمانا، ومن تأخير النصر خذلانا. فحرمان العطاء القلة، وخذلان النصر الابطاء ولا تنقضي الحقوق إلا بالرضا وقد يرضى المضطر بدون الأمل.

(هامش)

(1) وهم بنو سعد بن زيد مناة بن تميم. (2) في ابن الأعثم 2 / 372 أخذوا. (*)

ص 107

فلما انتهى

الأحنف إلى بني سعد، ساروا بجماعتهم، حتى نزلوا الكوفة.

كتاب أهل العراق إلى مصقلة (1)

قال: وذكروا أنه قام إلى علي بعد انصرافه من البصرة إلى الكوفة، وجوه بكر بن وائل، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن نعيما أخا مصقلة يستحي منك، لما صنع مصقلة، وقد أتانا اليقين أنه لا يمنع مصقلة من الرجوع إليك إلا الحياء، ولم يبسط منذ فارقنا لسانه ولا يده، فلو كتبنا إليه كتابا، وبعثنا من قبلنا رسولا، فإنا نستحيي أن يكون فارقنا مثل مصقلة من أهل العراق إلى معاوية، فقال علي: اكتبوا. فكتبوا (2): أما بعد، فقد علمنا أنك لم تلحق بمعاوية رضا بدينه، ولا رغبة في دنياه، ولم يعطفك عن علي طعن فيه، ولا رغبة عنه، ولكن توسطت أمرا فقويت فيه الظن، وأضعفت فيه الرجاء، فكان أولاهما عندك أن قلت: أفوز بالمال، وألحق بمعاوية. ولعمرنا ما استبدلت الشام بالعراق، ولا السكاسك (3) بربيعة، ولا معاوية بعلي، ولا أصبت (4) دنيا تهنأ بها، ولا حظا تحسد عليه، وإن أقرب ما تكون مع الله، أبعد ما تكون مع معاوية، فارجع إلى مصرك، فقد اغتفر أمير المؤمنين الذنب، واحتمل الثقل، واعلم أن رجعتك اليوم خير منها غدا، وكانت أمس خيرا منها اليوم، وإن كان عليك حياء من أبي الحسن، فما أنت فيه أعظم فقبح الله أمرا ليس فيه دنيا ولا آخرة. فلما انتهى كتابهم إلى مصقلة، وكان لرسولهم عقل ولسان، قال الرسول: يا مصقلة، انظر فيما خرجت منه، وفيما صرت إليه، وانظر من أخذت، ومن تركت، وانظر من جاورت، ومن

(هامش)

(1) هو مصقلة بن هبيرة الشيباني. أنظر قصة هربه في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 65 - 66. وملخصها أن مصقلة بن هبيرة الشيباني كان عاملا لعلي بن أبي طالب على بلد من بلاد الأهواز، وقد أتى معقل بن قيس بأسارى فاشتراهم مصقلة ب‍ 500 ألف درهم وأعتقهم ثم هرب ليلا إلى البصرة دون دفع المال. فأرسل معقل إلى ابن عباس فطالبه بالمال فهرب ليلا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة. ولما طالبه بالمال دفع له 100 ألف وبقي عليه 400 ألف درهم فهرب ليلا إلى معاوية. (أنظر فتوح ابن الأعثم 2 / 78). (2) في ابن الأعثم أنهم فوضوا الحضين بن المنذر السدوسي. (3) السكاسك: حي من اليمن. (4) في ابن الأعثم: أصبت ذنبا بهما. (*)

ص 108

زايلت، ثم اقض بعقلك دون هواك. قال وإن مصقلة مضى إلى معاوية بالكتاب، فأقرأه إياه، فقال معاوية: يا مصقلة إنك عندي غير ظنين، فإذا أتاك شيء فاستره عني، فانصرف مصقلة إلى منزله، فدعا الرسول فقال: يا أخا بكر، إنما هربت بنفسي من علي، ولا والله ما يطول لساني بغيبته (1)، ولا قلت فيه قط حرفا بسوء، اذهب بكتابي هذا إلى قومي.

جواب مصقلة إلى قومه

قال: وذكروا أن مصقلة كتب إلى قومه: أما بعد، فقد جاءني كتابكم (2)، وإني أخبركم أنه من لم ينفعه القليل لم ينفعه الكثير، وقد علمتم الأمر الذي قطعني من علي، وأضافني إلى معاوية، وقد علمت أني لو رجعت إلى علي وإليكم لكان ذنبي مغفورا، ولكني أذنبت إلى علي، وصحبت معاوية، فلو رجعت إلى علي أحدثت عيبا، وأحييت عارا، وكنت بين لائمين (3)، أولهما خيانة، وآخرهما غدر، ولكني أقيم بالشام، فإن غلب معاوية فداري العراق، وإن غلب علي فداري أرض الروم. فأما الهوى فإليكم طائر، وكانت فرقتي عليا على بعض العذر أحب إلي من فرقتي معاوية ولا عذر لي. ثم قال للرسول: يا بن أخي، استعرض الناس (4) عن قولي في علي. فقال: قد سألت، فقالوا خيرا. قال: فإني والله عليه حتى أموت. فرجع الرسول بالكتاب، فأقرأه عليا، فقال: كفوا عن صاحبكم، فليس براجع حتى يموت. فقال حصين: أما والله ما به إلا الحياء.

لحوق عبد الله بن عامر بالشام

قال: وذكروا أن عبد الله بن عامر لحق بالشام، ولم يأت معاوية، وخاف يوما كيوم الجمل، فبعث إليه معاوية أن يأتيه، وألح عليه. فكتب ابن عامر، أما بعد: فإني أخبرك أني أقحمت طلحة والزبير إلى البصرة، وأنا أقول إذا رأى

(هامش)

(1) في ابن الأعثم: بعيبه ولا ذمه:. (2) زيد في ابن الأعثم: فقرأته وفهمته. (3) في ابن الأعثم: لومتين. (4) في ابن الأعثم: تسأل أهل الشام. (*)

ص 109

الناس أم المؤمنين مالوا إليها، وإن فر الناس لم يفر الزبير، وإن غدر الناس لم يغدر مروان، فغضبت عائشة، ورجع الزبير، وقتل مروان طلحة، وذهب مالي بما فيه، والناس أشباه، واليوم كأمس، فإن أتبعتني هواي، وإلا أرتحل عنك والسلام. فكتب معاوية إليه: أما بعد، فإنك قلدت أمر دينك قتلة عثمان، وأنفقت مالك لعبد الله بن الزبير، وآثرت العراق على الشام، فأخرجك الله من الحرب صفر اليدين، ليس لك حظ الحق، ولا ثأر القتيل. فلما انتهى كتابه إلى ابن عامر أتاه، فغمس يده معه، وبايعه، فلاطفه معاوية، وعرف له قرابته من عثمان.

ما أشار به عمار بن ياسر على علي

قال: وذكروا أن عمار بن ياسر قام إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما بايعناك ولا نرى أحدا يقاتلك، فقاتلك من بايعك، وأعطاك الله فيهم ما وعد في قوله عز وجل: (ثم بغي عليه لينصرنه الله) [الحج: 60]، وقوله: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم) [يونس: 23]، وقوله: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه) [الفتح: 10]، وقد كانت الكوفة لنا، والبصرة علينا، فأصبحنا على ما تحب، بين ماض مأجور، وراجع معذور، وإن بالشام الداء العضال، رجلا لا يسلمها أبدا إلا مقتولا أو مغلوبا، فعاجله قبل أن يعاجلك، وانبذ إليه قبل الحرب (1).

ما أشار به الأشتر على علي

قال: وذكروا أن الأشتر النخعي قام إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما لنا أن نقول قبل أن تقول (2)، فإذا عزمت فلم نقل، فلو سرت بنا إلى الشام بهذا الحد والجد، لم يلقوك بمثله، فإن القلوب اليوم سليمة، والأبصار صحيحة، فبادر بالقلوب القسوة، وبالأبصار العمى.

(هامش)

(1) الخبر في ابن الأعثم 2 / 345 وقال أن ذلك حصل بعدما فرغ علي بن أبي طالب من أمر البصرة في يوم الجمل وخطب الناس. (2) في فتوح ابن الأعثم 2 / 346 تعزم. (*)

ص 110

كتاب علي إلى جرير بن عبد الله

قال: وذكروا أن عليا كتب إلى جرير بن عبد الله، وكان على ثغر همذان، كان استعمله عليه عثمان، فكتب علي إليه مع زفر بن قيس: أما بعد، فإن الله (لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال) [الرعد: 11]. ثم إني أخبرك عنا وعمن سرنا إليهم، من جمع طلحة والزبير، عند نكثهما ببيعتهما، وما صنعا بعاملي عثمان بن حنيف: إني هبطت من المدينة بالمهاجرين والأنصار، حتى إذا كنت ببعض الطريق، بعثت إلى الكوفة الحسن ابني، وعبد الله بن العباس ابن عمي، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد بن عابدة، فاستنفرتهم بحق الله ورسوله فأجابوا، وسرت بهم، حتى نزلت بظهر البصرة، فأعذرت في الدعاء، وأقلت في العثرة، وناشدتهم عقد بيعتهم، فأبوا إلا قتالي، فاستعنت الله عليهم، فقتل من قتل، وولوا مدبرين إلى مصرهم، فسألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء، فقبلت العافية، ورفعت عنهم السيف، واستعملت عليهم عبد الله بن عباس، وبعثت إليك زفر (1) بن قيس فاسأله عنا وعنهم.

خطبة زفر (1) بن قيس

قال: وذكروا أنه لما قدم زفر (1) على جرير ب علي، وقرأه جرير، قام زفر (1) خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن عليا كتب إليكم بكتاب لا يقول بعده إلا رجيعا من القول، إن الناس بايعوا عليا بالمدينة غير محاباة ببيعتهم، لعلمه بكتاب الله، ويرى الحق فيه، وإن طلحة والزبير نقضا بيعة علي على غير حدث، ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب، وألبا عليه الناس. وأخرجا أم المؤمنين عائشة من حجاب ضربه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عليها، فلقيهما فأعذر في الدعاء، وخشي البغي، وحمل الناس على ما يعرفون، فهذا عيان ما غاب عنكم. وإن سألتم الزيادة زدناكم.

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال ص 156 والنجوم الزاهرة: زحر . (*)

ص 111

خطبة جرير بن عبد الله البجلي قال: وذكروا أن جرير بن عبد الله قام خطيبا. فحمد الله. فقال: أيها الناس. هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وهو المأمون على الدين والدنيا. وكان من أمره وأمر عدوه ما قد سمعتم، فالحمد لله على أقضيته. وقد بايعه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والتابعون بإحسان، ولو جعل الله هذا الأمر شورى بين المسلمين لكان علي أحق بها (1)، ألا وإن البقاء في الجماعة، والفناء في الفرقة، وعلي حاملكم على الحق ما استقمتم له، فإن ملتم أقام ميلكم، قال الناس: سمعا وطاعة، ورضانا رضا من بعدنا.

كتاب علي إلى الأشعث بن قيس

قال: وذكروا أن عليا كتب إلى الأشعث بن قيس مع زياد بن كعب. والأشعث يومئذ بآذربيجان عاملا لعثمان (2)، كان استعمله عليها: أما بعد (3)، فلولا هنات كن فيك كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس، فلعل أمرا يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله، وقد كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك، وكان طلحة والزبير أول من بايعني، ثم نقضا بيعتي على غير حدث، وأخرجا أم المؤمنين إلى البصرة، فسرت إليهما في المهاجرين والأنصار، فالتقينا، فدعوتهما إلى أن يرجعا إلى ما خرجا منه، فأبيا. فأبلغت في الدعاء، وأحسنت في البقاء، وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه أمانة في عنقك، والمال مال الله، وأنت من خزاني عليه حتى تسلمه إلي إن شاء الله، وعلي أن لا أكون شر ولاتك.

خطبة زياد بن كعب

(4) قال: وذكروا أن الأشعث بن قيس لما قرأ كتاب علي، قام زياد بن كعب خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه من لم يكفه القليل لم

(هامش)

(1) زيد في ابن الأعثم 2 / 365 لمصاهرته وقرابته وخدمته وشجاعته وهجرته. (2) وكان عثمان قد استعمل الأشعث بن قيس على آذربيجان بعدما زوج عثمان ابنة الأشعث من ابنه، وكانت ولايته له من الأشياء التي عتب الناس فيها على عثمان (الأخبار الطوال ص 156). (3) الكتاب في العقد الفريد 4 / 330 الأخبار الطوال ص 156 ابن الأعثم 2 / 367. (4) في الأخبار الطوال وابن الأعثم: زياد بن مرحب الهمداني. (*)

ص 112

يكفه الكثير، وإن أمر عثمان لم ينفع فيه العيان، ولم يشف منه الخبر، غير أن من سمعه كمن عاينه (1)، وإن المهاجرين والأنصار بايعوا عليا راضين به، وإن طلحة والزبير نقضا بيعة علي، على غير حدث، وأخرجا أم المؤمنين على غير رضى، فسار إليهم، ولم ينلهم، فتركهم وما في نفسه منهم حاجة، فأورثه الله الأرض، وجعل له عاقبة المتقين. خطبة الأشعث بن قيس قال: فقام الأشعث بن قيس خطيبا، فقال (2): أيها الناس، إن عثمان رحمه الله ولأني آذربيجان، وهلك وهي في يدي، وقد بايع الناس عليا، وطاعتنا له لازمة، وقد كان من أمره وأمر عدوه ما قد بلغكم، وهو المأمون على ما غاب عنا وعنكم من ذلك.

مشورة الأشعث ثقاته في اللحوق بمعاوية إلى الشام

قال: وذكروا أن الأشعث رجع إلى منزله، فدعا أهل ثقته من أصحابه، فقال لهم: إن كتاب علي جاءني، وقد أوحشني، وهو آخذي بمال آذربيجان وأنا لاحق بمعاوية، فقال القوم: الموت خير لك من ذلك، أتدع مصرك وجماعة قومك، وتكون ذنبا لأهل الشام؟ (3).

كتاب جرير إلى الأشعث

(4) قال: وذكروا أن جريرا كتب إلى الأشعث: أما بعد. فإنه أتتني بيعة علي فقبلتها. ولم أجد إلى دفعها سبيلا، وإني نظرت فيما غاب عني من أمر عثمان، فلم أجده يلزمني، وقد شهده المهاجرون والأنصار، فكان أوثق أمرهم فيه الوقوف، فاقبل بيعته، فإنك لا تلتفت إلى خير منه. واعلم أن بيعة علي خير من

(هامش)

(1) كذا بالأصل: وفي ابن الأعثم: ليس كمن عاينه. (2) قارن مع العقد الفريد وفتوح ابن الأعثم. (3) زيد في فتوح ابن الأعثم والأخبار الطوال أنه عدل عن مسيره إلى معاوية وجمع الناس وسار بهم إلى الكوفة، وقدم على علي رضي الله عنه مبايعا. (4) في فتوح ابن الأعثم: وكتب رجل من كندة من بني عم الأشعث. (*)

ص 113

مصارع أهل البصرة. وقد تحلب الناقة الضجور. ويجلس العود على البعير الدبر. فانظر لنفسك. والسلام. إرسال علي جريرا إلى معاوية قال: وذكروا أن جريرا لما قدم على علي قال له: يا جرير. انطلق إلى معاوية بكتابي هذا، وكن عند ظني فيك، وأعلم يا جرير أنك ترى من حولي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والبدريين والعقبيين. وإني اخترتك عليهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير ذي يمن جرير (1)، فاذهب إلى معاوية بكتابي هذا ورسالتي، فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون، وإلا فانبذ إليه بالحرب، وأعلمه أني لا أرضى به أميرا، والعامة لا ترضى به واليا، فقال جرير: إني لأكره أن أمنعك معونتي، وما أطمع لك في معاوية، ويصنع الله ما يشاء (2)

كتاب علي إلى معاوية مرة ثانية

(3)

قال: وذكروا أن عليا كتب إلى معاوية مع جرير: أما بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا، فإن خرج منهم خارج (4) ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وأولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم. وساءت مصيرا. وإن طلحة والزبير بايعاني بالمدينة، ثم نقضا بيعتهما، فكان نقضهما كردتهما، فجاهدتهما بعدما أعذرت إليهما، حتى جاء الحق، وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب أمورك إلي العافية، فإن تتعرض للبلاء قاتلتك،

(هامش)

(1) أخرجه أحمد في مسنده 4 / 360 - 364 والطبراني برجال ثقات، والبيهقي في الدلائل 5 / 346. (2) وقد أرسله بعد مشاورة أصحابه، ورغم معارضة الأشتر النخعي لهذا الاختيار. (3) قارن نسخة الكتاب في الأخبار الطوال ص 157 وفتوح ابن الأعثم 2 / 357 والعقد الفريد 4 / 332 وانظر مروج الذهب 2 / 412 ونهج البلاغة. (4) زيد في النهج: خارج بطعن أو بدعة. (*)

ص 114

واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت الكلام في قتلة عثمان، فادخل في الطاعة، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فهي خدعة الصبي عن اللبن، ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء، الذين لا تحل لهم الخلافة، ولا تعقد معهم الإمامة، ولا تعرض فيهم الشورى، وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله، وهو من أهل الإيمان والهجرة السابقة، فبايع، ولا قوة إلا بالله.

قدوم جرير إلى معاوية

قال: وذكروا أن جريرا لما قدم على معاوية بكتاب علي، قام جرير بالشام خطيبا، فقال: أيها الناس، إن أمر عثمان قد أعيا من شهده، فما ظنكم بمن غاب عنه، وإن الناس بايعوا عليا، وإن طلحة والزبير كانا ممن بايع، ثم نقضا بيعته، ألا وإن هذا الدين لا يحتمل الفتن، ألا وإن هذا الدين لا يحتمل السيف. وقد كانت بالبصرة أمس روعة ملمة، إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس، وقد بايعت العامة عليا، ولو ملكنا أمرنا لم نختر لها غيره، فمن خالف هذا فقد استعتب فادخل يا معاوية فيما دخل الناس فيه، فإن قلت: إن عثمان ولاني ولم يعزلني، فإن هذا لو كان لم يقم لله دين، وكان لكل امرئ ما هو فيه. إشارة الناس على علي بالمقام بالكوفة قال: وذكروا أن عليا استشار الناس، فأشاروا عليه بالمقام بالكوفة عامه ذلك، غير الأشتر النخعي، وعدي بن حاتم، وشريح بن هانئ (1)، فإنهم قاموا إلى علي، فتكلموا بلسان واحد، فقالوا: إن الذين أشاروا عليك بالمقام، إنما خوفوك بحرب الشام، وليس في حربهم شيء أخوف من الموت ونحن نريده. فقال لهم: إن استعدادي لحرب أهل الشام، وجرير عندهم إغلاق للشام، وصرف لأهله عن خير إن أرادوه، ولكني قد وقت له وقتا لا يقيم بعده إلا أن

(هامش)

(1) زيد عند ابن الأعثم 2 / 381 وعمرو بن الحمق الخزاعي وسعيد بن قيس الهمداني وهانئ بن عروة المذحجي - ولم يذكر شريحا. (*)

ص 115

يكون مخدوعا أو عاصيا، ولا أكره لكم الإعداد، وأبطأ جرير على علي بالشام حتى يئس منه، وإن جريرا لما أبطأ عليه معاوية برأيه، استحثه بالبيعة، فقال معاوية لجرير: يا جرير، إن البيعة ليست بخلسة، وإنه أمر له ما بعده. فأبلعني ريقي (1) و(2).

مشورة معاوية أهل ثقته

قال: وذكروا أن معاوية دعا أهل ثقته فاستشارهم، فقال عتبة بن أبي سفيان: استعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص، فإنه من قد عرفت، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن ترضيه. كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص وهو بفلسطين: أما بعد، فقد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، وقد سقط علينا مروان بن الحكم في رافضة من أهل البصرة، وقدم علي جرير بن عبد الله في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك، فاقدم على بركة الله (3)، والسلام.

ما سأل معاوية من علي من الاقرار بالشام ومصر

قال: وذكروا أن معاوية قال لجرير: إني قد رأيت رأيا. قال جرير: هات. قال: أكتب إلى علي أن يجعل لي الشام ومصر جباية، فإن حضرته الوفاة لم يجعل لأحد من بعده في عنقي بيعة، وأسلم إليه هذا الأمر، وأكتب إليه بالخلافة. قال جرير: اكتب ما شئت. وإنما أراد معاوية في طلبه الشام ومصر ألا يكون لعلي في عنقه بيعة، وأن يخرج نفسه مما دخل فيه الناس، فكتب إلى علي يسأله ذلك، فلما أتى عليا كتاب معاوية عرف أنها خدعة منه.

(هامش)

(1) أبلعني ريقي أي انتظر حتى أتروى في الأمر وأفكر فيه مليا لأرد عليك. (2) زيد في فتوح ابن الأعثم: حتى أنظر في أمري وأستطلع رأي أهل الشام ثم إني أجيب صاحبك عن كتابه وكرامته لك. (3) زيد في فتوح ابن الأعثم: لأشاورك وأستعين على أمري برأيك، والعبارة في الأخبار الطوال: فأقبل، أناظرك في ذلك. (*)

ص 116

كتاب علي إلى جرير بن عبد الله

قال: وذكروا أن عليا كتب إلى جرير: أما بعد، فإن معاوية إنما أراد بما طلب ألا يكون لي في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحب، وقد كان المغيرة ابن شعبة أشار علي وأنا بالمدينة أن أستعمله على الشام، فأبيت ذلك عليه، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا، فإن بايعك الرجل، وإلا فأقبل (1).

استشارة عمرو بن العاص ابنيه ومواليه

قال وذكروا أنه لما انتهى إلى عمرو بن العاص كتاب معاوية وهو بفلسطين، استشار ابنيه عبد الله ومحمدا، وقال: يا ابني، إنه قد كان مني في أمر عثمان فلتات لم أستقبلها بعد، وقد كان من هروبي بنفسي حين ظننت أنه مقتول ما قد احتمله معاوية عني، وقد قدم على معاوية جرير ببيعة علي، وقد كتب إلي معاوية بالقدوم عليه، فما تريان؟ فقال عبد الله وهو الأكبر: أرى والله أن نبي الله قبض وهو عنك راض، والخليفتان من بعده كذلك. وقتل عثمان وأنت غائب، فأقم في منزلك، فلست مجعولا خليفة، ولا تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة، أوشكتما أن تهلكا فتستويا فيها جميعا. وقال محمد: أرى أنك شيخ قريش، وصاحب أمرها، فإن ينصرم هذا الأمر وأنت فيه غافل، يصغر أمرك، فالحق بجماعة أهل الشام، واطلب بدم عثمان، فإنك به تستميل إلى بني أمية. فقال عمرو: أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني (2)، وأما أنت يا محمد فقد أمرتني بما هو خير لي في دنياي. ثم دعا غلام له يقال له وردان، وكان داهيا، فقال له عمرو: يا وردان احطط، يا وردان ارحل، يا وردان احطط، يا وردان ارحل. فقال وردان: أما إنك إن شئت نبأتك بما في نفسك، فقال عمرو: هات يا وردان، فقال: اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت: مع علي الآخرة بلا دنيا، ومع معاوية الدنيا بغير آخرة، فأنت واقف بينهما. فقال

(هامش)

(1) وقد استعجل علي بت الأمر وفصله فأرسل كتابا آخر إلى جرير يستعجله أخذ البيعة من معاوية: ونصه من النهج: أما بعد فإذا أتاك كتابي فاحمل على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب فانبذ إليه، وإن اختار السلم فخذ بيعته والسلام. (2) في ابن الأعثم: في دنياي وديني. (*)

ص 117

عمرو: ما أخطأت ما في نفسي، فما ترى يا وردان؟ فقال: أرى أن تقيم في منزلك، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك، فقال عمرو: الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية؟

قدوم عمرو إلى معاوية

قال: وذكروا أن عمرو بن العاص لما قدم إلى معاوية، وعرف حاجته إليه باعده من نفسه، وكايد كل واحد منهما صاحبه، فقال عمرو لمعاوية: أعطني مصر، فتلكأ معاوية وقال: ألم تعلم أن مصر كالشام؟ قال بلى ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق. وقد بعث أهلها بطاعتهم إلى علي. فدخل عتبة بن أبي سفيان على معاوية، فقال: أما ترضى أن تشتري عمرا بمصر إن هي صفت لك؟ ليتك لا تغلب على الشام. فلما سمع معاوية قول عتبة بعث إلى عمرو، فأعطاه مصر، ولما كتب معاوية لعمرو بمصر، كتب في أسفل الكتاب: ولا ينقض شرط طاعة. وكتب عمرو، ولا تنقض طاعة شرطا، وكايد كل واحد منهما صاحبه، وكان مع عمرو بن العاص ابن أخ له، جاءه من مصر، فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا به، عجب ابن أخيه من سروره، فقال: يا عمرو ألا تخبرني بأي رأي تعيش في قريش وقد أعطيت دينك غيرك؟ أترى أهل مصر وهم قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية وعلي حي؟ أو تراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذك بالجدل الذي قدمه؟ فقال عمرو: يا بن أخي، إنه لأمر الله دون معاوية وعلي. يا بن أخي لو كنت مع علي وسعني بيتي، ولكني مع معاوية. فقال الفتى: إنك لم ترد معاوية، ولكنك تريد دنياه، ويريد دينك. فبلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب، فلحق بعلي، وحدث عليا بأمر معاوية وعمرو، وما قاله، فسر علي بذلك، وقربه.

مشورة معاوية عمرا رضي الله عنهما

قال: وذكروا أن معاوية قال لعمرو: يا أبا عبد الله، طرقتني في ليلتي (1) هذه ثلاثة أخبار، ليس فيها ورد ولا صدر، منها أن ابن أبي حذيفة كسر سجن

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال: في هذه الأيام. (*)

ص 118

مصر (1)، ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام، ومنها (2) أن عليا قد تهيأ للمجيء إلينا، فما عندك؟ قال عمرو: كل هذا عظيم، أما ابن أبي حذيفة فخرج في أشباهه من الناس، فإن تبعث إليه رجلا يقتله، وإن يقتل فلا يضرك، وأما قيصر فأهد له من وصائف الروم ومن الذهب والفضة، واطلب إليه الموادعة، تجده إليها سريعا، وأما علي فوالله إن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من الناس، وإنه لصاحب الأمر. قال معاوية: صدقت، ولكني أقاتله على ما بأيدينا، ونلزمه دم عثمان. فقال عمرو: واسوأتاه إن أحق الناس ألا يذكر عثمان لأنا ولأنت، قال معاوية: ولم؟ فقال عمرو: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام، واستغاثك فأبطأت عليه، وأما أنا فتركته عيانا، وهربت إلى فلسطين. قال معاوية: دعني من هذا، هلم فبايعني. فقال عمرو: لا والله ولا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك، قال معاوية: صدقت، سل تعط، قال عمرو: مصر طعمة. فغضب مروان بن الحكم، وقال: ما بالي لا أشترى، فقال معاوية: اسكت يا بن عم، فإنما يشترى لك الرجال. فكتب معاوية لعمرو: مصر طعمة. كتاب معاوية إلى أهل مكة والمدينة وجوابهما قال: وذكروا أن معاوية قال لعمرو: إني أريد أن أكتب إلى أهل مكة والمدينة كتابا أذكر فيه قتل عثمان، فإما أن ندرك به حاجتنا، أو نكفهم عن المسير. فقال له عمرو: إلى من تكتب؟ قال إلى ثلاثة نفر: رجل لعلي لا يريد غيره، ولا يزيده كتابنا فيه إلا بصيرة، أو رجل يهوى عثمان، فلا يزيده على ما هو عليه، أو رجل معتزل لا يريد القتال (3). قال عمرو: على ذلك؟ قال: نعم. قال: اكتب، فكتب إلى أهل مكة والمدينة: أما بعد، فإنه مهما غاب عنا فإنه لم يفت علينا أن عليا قتل عثمان، والدليل على ذلك أن قتلته عنده، وإنما نطلب بدمه حتى يدفع إلينا قتلته، فنقتلهم بكتاب الله تعالى، فإن دفعهم إلينا كففنا عنه،

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال: كسر السجن وهرب نحو مصر فيمن كان معه من أصحابه، وهو من أعدى الناس لنا. (2) في الأخبار الطوال: والثالثة فإن جريرا قدم رسولا لعلي بن أبي طالب يدعونا إلى البيعة له أو إيذان بحرب. (3) زيد في ابن الأعثم 2 / 415: لا يلتفت إلى كتابك. (*)

ص 119

وجعلناها شورى بين المسلمين، على ما جعلها عمر بن الخطاب، فأما الخلافة فلسنا نطلبها، فأعينونا (1) يرحمكم الله، وانهضوا من ناحيتكم. جوابهما قال: وذكروا أنه لما قرأ عليهم كتابه اجتمع رأيهم على أن يسندوا أمرهم إلى المسور بن مخرمة، فجاوب عنهم، فكتب إليه: أما بعد، فإنك أخطأت خطأ عظيما، وأخطأت مواضع النصرة، وتناولتها من مكان بعيد، وما أنت والخلافة يا معاوية، وأنت طليق، وأبوك من الأحزاب. فكف عنا، فليس لك قبلنا ولي ولا نصير (2)

كتاب معاوية إلى ابن عمر

قال:

وذكروا أن معاوية كتب إلى ابن عمر كتابا خاصا، دون كتابه إلى أهل المدينة (3): أما بعد، فإنه لم يكن أحد من قريش أحب إلي أن يجتمع الناس عليه منك بعد عثمان، فذكرت خذلك إياه، وطعنك على أنصاره، فتغيرت لك، وقد هون ذلك علي خلافك على علي، وطعنك عليه، وردني إليك بعض ما كان منك، فأعنا يرحمك الله على حق هذا الخليفة المظلوم، فإني لست أريد الإمارة عليك، ولكني أريدها لك، فإن أبيت كانت شورى بين المسلمين. جوابه فكتب إليه عبد الله بن عمر: أما بعد، فإن الرأي الذي أطمعك في هذا هو الذي صيرك إلى ما صيرك. تركت عليا من المهاجرين والأنصار، وتركت طلحة والزبير وعائشة، وأتبعك فيمن اتبعك؟! وأما قولك إني طعنت على علي فلعمري ما أنا كعلي في الإسلام والهجرة، ومكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحدث أمرا لم يكن إلينا فيه من رسول الله صلى عليه

(هامش)

(1) في ابن الأعثم 2 / 416 فأجيبوا. (2) نسب ابن أبي الحديد في شرح النهج ص 258 هذا الرد إلى عبد الله بن عمر. (3) قيل إن معاوية كتب إلى عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة بعد ما جاءه رد أهل المدينة. (*)

ص 120

وسلم عهد، ففزعت إلى الوقوف، وقلت: إن كان هذا فضلا تركته، وإن كان ضلالة فشر منه نجوت، فأغن عن نفسك.

كتاب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص

قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى سعد بن أبي وقاص: أما بعد، فإن أحق الناس بنصرة عثمان أهل الشورى، والذين أثبتوا حقه، واختاروه على غيره، وقد نصره طلحة والزبير، وهما شريكاك في الأمر والشورى، ونظيراك في الإسلام، وخفت لذلك أم المؤمنين، فلا تكرهن ما رضوا، ولا تردن ما قبلوا، فإنما نردها شورى بين المسلمين. جواب سعد بن أبي وقاص لمعاوية قال: وذكروا أن سعدا كتب إليه: أما بعد، فإن أهل الشورى ليس منهم أحق بها من صاحبه، غير أن عليا كان من السابقة، ولم يكن فينا ما فيه، فشاركنا في محاسننا، ولم نشاركه في محاسنه، وكان أحقنا كلنا بالخلافة، ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه، حيث شاء لعلمه وقدره. وقد علمنا أنه أحق بها منا، ولكن لم يكن بد من الكلام في ذلك والتشاجر، فدع ذا. وأما أمرك يا معاوية، فإنه أمر كرهنا أوله وآخره (1). وأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما لكان خيرا لهما. والله تعالى يغفر لعائشة أم المؤمنين.

كتب معاوية إلى محمد بن مسلمة الأنصاري

وكان فارس الأنصار رضي الله عنهم، وذا النجدة فيهم: أما بعد، فإني لم أكتب إليك وأنا أرجو مبايعتك، ولكني أذكرك النعمة التي خرجت منها، إنك كنت فارس الأنصار، وعدة المهاجرين، فادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا لم تستطع فيه الامضاء، فهذا أعني، وعن قتال أهل الصلاة (2). فهلا نهيت أهل الصلاة عن قتل بعضهم بعضا؟ أو ترى أن عثمان وأهل الدار ليسوا بمسلمين؟ وأما قومك الأنصار فقد عصوا الله تعالى، وخذلوا عثمان، وسائلهم وسائلك الله تعالى عن الذي كان يوم القيامة.

(هامش)

(1) في فتوح ابن الأعثم 2 / 421 وكذلك نكره آخره. (2) في شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 580: وهو أنه نهاك عن قتال أهل القبلة. (*)

ص 121

جوابه قال: وذكروا أن محمد بن مسلمة كتب إليه: أما بعد، فقد اعتزل هذا الأمر من ليس في يده من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي في يدي، وقد أخبرت بالذي هو كائن قبل أن يكون، فلما كان كسرت سيفي، ولزمت بيتي (1)، واتهمت الرأي على الدين، إذ لم يصح لي معروف آمر به، ولا منكر أنهى عنه، ولعمري يا معاوية ما طلبت إلا الدنيا، ولا اتبعت إلا الهوى، ولئن كنت نصرت عثمان ميتا، لقد خذلته حيا، ونحن ومن قبلنا من المهاجرين والأنصار أولى بالصواب. قال: فلما أجاب القوم بما أجابوه، من الخلاف إلى ما دعاهم إليه قال له عمرو: كيف رأيت يا معاوية رأيي ورأيك، أخبرتك بالأمر قبل أن يقع، قال معاوية: رجوت ما خفت.

كتاب معاوية إلى علي رضي الله عنه

قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى علي. أما بعد، فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت برئ من دم عثمان، كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل، وقوي بك الضعيف، وقد أبي أهل الشام إلا قتالك، حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، فإذا دفعتهم كانت شورى بين المسلمين، وقد كان أهل الحجاز الحكام على الناس وفي أيديهم الحق، فلما تركوه صار الحق في أيدي أهل الشام، ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، ولا حجتك على طلحة والزبير، لأن أهل البصرة بايعوك (2)، ولم يبايعك أحد من أهل الشام، وإن طلحة والزبير بايعاك ولم أبايعك. وأما فضلك في الإسلام، وقرابتك من النبي عليه الصلاة والسلام، فلعمري ما أدفعه ولا أنكره (3).

(هامش)

(1) يروى أن محمد بن مسلمة قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا فقال: قاتل به المشركين ما قوتلوا، فإذا رأيت أمتي يضرب بعضهم بعضا فأئت به أحدا فاضرب به حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية خاطئة (الإصابة رقم 7800). (2) في الكامل للمبرد 1 / 424: أطاعوك، ولم يطعك.. (3) قارن مع: العقد الفريد 4 / 333 وقعة صفين ص 56 وابن الأعثم 2 / 430 والكامل للمبرد 1 / 423 - 424. (*)

ص 122

جواب علي إلى معاوية قالوا: فكتب إليه علي: أما بعد، فقد جاءني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه (1)، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاستقاده. زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان، ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على الضلال، ولا ليضربهم بالعمى، وما أمرت فيلزمني خطيئة عثمان، ولا قتلت فيلزمني قصاص القاتل. أما قولك إن أهل الشام هم الحكام على الناس، فهات رجلا من قريش الشام يقبل في شورى، أو تحل له الخلافة، فإن سميت كذبك المهاجرون والأنصار، وإلا أتيتك به من قريش الحجاز. وأما قولك ندفع إليك قتلة عثمان فما أنت وعثمان؟ (2) إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بعثمان منك، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل في الطاعة، ثم حاكم القوم إلي. وأما تمييزك بين الشام والبصرة وذكرك طلحة والزبير، فلعمري ما الأمر إلا واحد، إنها بيعة عامة، لا ينثني عنها البصير، ولا يستأنف فيها الخيار، وأما ولوعك بي في أمر عثمان، فوالله ما قلت ذلك عن حق العيان ولا عن يقين الخبر، وأما فضلي في الإسلام، وقرابتي من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وشرفي في قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته (3).

قدوم عبيد الله بن عمر على معاوية

قال: وذكروا أن عبيد الله بن عمر قدم على معاوية الشام، فسر به سرورا شديدا وسر به أهل الشام، وكان أشد قريش سرورا به عمرو بن العاص فقال معاوية لعمرو: ما منع عبد الله أن يكون كعبيد الله؟ فضحك عمرو، وقال: شبهت غير شبيه، إنما أتاك عبيد الله مخافة أن يقتله علي بقتله الهرمزان (4)، ورأى عبد الله

(هامش)

(1) قال المبرد: قوله ليس له بصر يهديه فمعناه يقوده، والهادي وهو الذي يتقدم فيدل. (2) معناه لست منه في شيء. (3) الكتاب في: وقعة صفين ص 57 - 58 العقد الفريد 4 / 333 - 334 ابن الأعثم 2 / 431 - 432 الكامل للمبرد 1 / 428. باختلاف وزيادة. (4) وكان عبيد الله بن عمر بن الخطاب وبعد طعن عمر ووفاته قتل الهرمزان، وإذا بويع عثمان بن عفان قال لجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فقال علي: أرى أن تقتله (الطبري 5 / 41 - 42 وانظر تاريخ اليعقوبي 2 / 161). (*)

ص 123

ألا يكون عليك ولا لك، ولو كان معك لنفعك أو عليك لضرك. معاوية أهل الشام لقتال علي قال: وذكروا أن معاوية بعث إلى رؤساء أهل الشام، فجمعهم ثم قال: أنتم أهل الفضل، فليقم كل رجل منكم يتكلم، فقام رجل فقال: أما والله لو شهدنا أمر عثمان، فعرفنا قتلته بأعيانهم لاستغنينا عن إخبار الناس، ولكنا نصدقك على ما غاب عنا، وإن أبغض الناس إلينا من يقاتل علي بن أبي طالب لقدمه في الإسلام، وعلمه بالحرب. ثم قام حوشب فقال: والله ما إياك ننصر، ولا لك نغضب، ولا عنك نحامي، ما ننصر إلا الله، ولا نغضب إلا للخليفة، ولا نحامي إلا عن الشام، فلف الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، وقد دعونا قومنا إلى ما دعوتنا إليه أمس، وأمرناهم بما أمرتنا به، فجعلوك بيننا وبين الله، ونحن بينك وبينهم، فمرنا بما تحب، وانهنا عما تكره. قال: فلما عزم معاوية على المسير إلى صفين عبأ أهل الشام، فجعل على مقدمته أبا الأعور السلمي، وعلى ساقته بسر بن أرطأة، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر، ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى الميمنة يزيد العبسي، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص (1)، ثم قال: يا أهل الشام، إنكم قد سرتم لتمنعوا الشام، وتأخذوا العراق، ولعمري ما للشام رجال العراق وأموالها، ولا لأهل العراق بصر أهل الشام ولا بصائرهم، مع أن القوم بعدهم غيرهم مثلهم، وليس بعدكم غيركم، فإن غلبتموهم فلم تغلبوا إلا من قد أتاكم، وإن غلبوكم عاقبوا من بعدكم، والقوم لاقوكم ببصائر أهل الحجاز، ورقة أهل اليمن، وقسوة أهل مصر، وكيد أهل العراق، وإنما يبصر غدا من أبصر اليوم، فاستعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين. ثم سار معاوية في ثلاثة آلاف وثمانين ألفا (2)، حتى نزل بصفين، وذلك

(هامش)

(1) أنظر فيمن استعمله معاوية على الألوية وقعة صفين ص 206 وفتوح ابن الأعثم 2 / 437. والأخبار الطوال ص 167. باختلاف. (2) في مروج الذهب 2 / 416: 85 ألفا. قال ابن الأعثم واجتمعت إليه العساكر من أطراف البلاد فصار في 120 ألف. وفي العقد الفريد: في بضع وثمانين ألفا. (*)

ص 124

في نصف محرم، وسبق إلى سهولة الأرض، وسعة المناخ، وقرب الفرات، وكتب إلى علي يخبره بمسيره.

تعبئة أهل العراق للقتال

قال: وذكروا أن عليا لما بلغه تأهب معاوية قال: أيها الناس، إنما بايع معاوية أهل الشام، وليس له غيرهم ولي ولا نصير، وإنكم أهل الحجاز، وأهل العراق، وأهل اليمن، وأهل مصر، وقد جعل القوم معاوية بينهم وبين الله، وليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، وقد وادع القوم الروم، فإن غلبتموهم استعانوا بهم، ولحقوا بأرضهم، وإن غلبوكم فالغاية الموت، والمفر إلى الله العزيز الحكيم. وقد زعم معاوية أن أهل الشام أهل صبر ونصر، ولعمري لأنتم أولى بذلك منهم، لأنكم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، وإنما الصبر اليوم، والنصر غدا. قال: فجد الناس ونشطوا وتأهبوا، فسار علي بالناس من الكوفة في مئة ألف وتسعين ألفا (1)، فجعل على المقدمة الأشتر النخعي، وعلى ساقته شريح بن هانئ، وعلى المهاجرين والأنصار محمد بن أبي بكر، وعلى أهل البصرة عبد الله بن عباس، وعلى الكوفة عبد الله بن جعفر، وعلى جماعة الخيل عمار بن ياسر، وعلى القلب الحسن بن علي (2)، وسار علي حتى نزل صفين، وقد سبقه معاوية إلى سهولة الأرض. وسعة المناخ، وقرب الفرات.

منع معاوية الماء من أصحاب علي

قال: وذكروا أنه لما نزل معاوية بصفين، بعث أبا الأعور بمن معه، ليحولوا بينهم وبين الفرات (3)، وأن أهل العراق لما نزلوا بعثوا غلمانهم ليستقوا لهم من الفرات، فحالت خيل معاوية بينهم وبين الماء، فانصرفوا، فساروا إلى

(هامش)

(1) في مروج الذهب: تسعين ألفا. وفي العقد الفريد: في خمسة وتسعين ألفا. (2) أنظر فيمن استعمله علي على الألوية وقعة صفين ص 204 - 205. (3) وكان معاوية قد انتهى إلى جانب شريعة على الفرات وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها وجعلها في حيزه وحماها ومنعها عن أصحاب علي، وما عداها أخراق عالية، ومواضع إلى الماء وعرة. (الطبري 5 / 240 ومروج الذهب 2 / 416 الأخبار الطوال ص 168). (*)

ص 125

علي، فأخبروه فقال علي للأشعث (1): اذهب إلى معاوية، فقل له: إن الذي جئنا له غير الماء، ولو سبقناك إليه لم نحل بينك وبينه، فإن شئت خليت عن الماء، وإن شئت تناجزنا عليه وتركنا ما جئنا له. فانطلق الأشعث إلى معاوية، فقال له: إنك تمنعنا الماء وأيم الله لنشربنه، فمرهم يكفوا عنه قبل أن نغلب عليه، والله لا نموت عطشا وسيوفنا على رقابنا. فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال رجل منهم (2): نرى أن نقتلهم عطشا، كما قتلوا عثمان ظلما. فقال عمرو بن العاص: لا تظن يا معاوية أن عليا يظمأ وأعنة الخيل بيده، وهو ينظر إلى الفرات، حتى يشرب أو يموت دونه، خل عن القوم يشربوا. فقال معاوية: هذا والله أول الظفر، لا سقاني الله من حوض الرسول إن شربوا منه، حتى يغلبوني عليه. فقال عمرو: وهذا أول الجور، أما تعلم أن فيهم العبد والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟ لقد شجعت الجبان، وحملت من لا يريد قتالك على قتالك. غلبة أصحاب علي على الماء قال: وذكروا أن معاوية لما غلب على الماء اغتم علي لما فيه الناس من العطش، فخرج ليلا والناس يشكون بعضهم إلى بعض، مخافة أن يغلب أهل الشام على الماء، فقال الأشعث: يا أمير المؤمنين، أيمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا السيوف؟ خل عنا وعن القوم، فوالله لا أرجع إليك حتى أرده، أو أموت دونه، وأمر الأشتر أن يعلو الفرات في الخيل، حتى آمره بأمري. فقال علي: ذلك لك. فانصرف الأشعث، فنادى في الناس: من كان يريد الماء فميعاده الصبح، فإني ناهض إلى الماء، فأجابه بشر كثير (3)، فتقدم الأشعث في الرجالة، والأشتر في الخيل، حتى وقفا على الفرات، فلم يزل الأشعث في الرجالة يمضي، حتى خالط القوم، ثم حسر عن رأسه، فنادى: أنا الأشعث بن قيس،

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال وفتوح ابن الأعثم 3 / 1 أن عليا بعث شبث بن ربعي وصعصعة بن صوحان العبدي لمناقشة معاوية بشأن الوصول إلى الماء. (2) عند ابن الأثير 2 / 364 أن الوليد بن عقبة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح هما من أشارا على معاوية بمنع الماء. وفي آخر الخبر يقول: وقد قيل إن الوليد وابن أبي سرح لم يشهدا صفين. (الطبري 5 / 242 والأخبار الطوال ص 168 والإصابة). (3) أجابه نيف عن عشرة آلاف. (*)

ص 126

خلوا عن الماء. فقال أبو الأعور: أما والله قبل أن تأخذنا وإياكم السيوف فلا. فقال الأشعث: أظنها والله قد دنت منا ومنكم. قال: وبعث الأشعث إلى الأشتر أن أقحم الخيل، فأقحمها الأشتر، حتى وضع سنابكها في الفرات، وحمل الأشتر في الرجالة، فأخذت القوم السيوف فانكشف أبو الأعور وأصحابه، وبعث الأشتر إلى علي: هلم يا أمير المؤمنين، قد غلب الله لك على الماء، فلما غلب أهل العراق على الماء، شمت عمرو بن العاص بمعاوية، وقال: يا معاوية، ما ظنك إن منعك علي الماء اليوم كما منعته أمس؟ أتراك ضاربهم كما ضربوك؟ فقال: دع ما مضى عنك فإن عليا لا يستحل منك ما استحللت منه، وإن الذي جاء له غير الماء (1).

دعاء علي معاوية إلى البراز

قال: وذكروا أن الناس مكثوا بصفين أربعين ليلة: يغدون إلى القتال ويروحون، فأما القتال الذي كان فيه الفناء فثلاثة أيام (2). فلما رأى علي كثرة القتال والقتل في الناس، برز يوما من الأيام ومعاوية فوق التل، فنادى بأعلى صوته: يا معاوية فأجابه فقال: ما تشاء يا أبا الحسن؟ قال علي: علام يقتتل الناس ويذهبون؟ على ملك إن نلته كان لك دونهم؟ وإن نلته أنا كان لي دونهم؟ أبرز إلي ودع الناس، فيكون الأمر لمن غلب. قال عمرو بن العاص: أنصفك الرجل يا معاوية. فضحك معاوية وقال: طمعت فيها يا عمرو (3)، فقال عمرو: والله ما أراه يجمل بك إلا أن تبارزه. فقال معاوية: ما أراك إلا مازحا، نلقاه بجمعنا.

(هامش)

(1) وفي ذلك يقول النجاشي: كشف الأشعث عنا * كربة الموت عيانا ويقول عمرو بن العاص شامتا بمعاوية: أمرتك أمرا ففسخته * لرأي رأى ابن أبي سرحة وقد شرب القوم ماء الفرات * وقلدك الأشعث الفضحة (2) وهي: الوقعة المعروفة بوقعة الخميس (وقعة صفين ص 362) وليلة الهرير (وقعة صفين ص 475). ويوم الهرير وهو اليوم الأعظم في معركة صفين (وقعة صفين ص 479). (3) والله يا عمرو إن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي، اذهب إليك، فليس مثلي يخدع. (وقعة صفين ص 316 و388). (*)

ص 127

براز عمرو بن العاص لعلي قال: وذكروا أن عمرا قال لمعاوية: أتجبن عن علي، وتتهمني في نصيحتي إليك؟ والله لأبارزن عليا ولو مت ألف موتة في أول لقائه. فبارزه عمرو (1)، فطعنه علي فصرعه، فاتقاه بعورته فانصرف عنه علي، وولى بوجهه دونه. وكان علي رضي الله عنه لم ينظر قط إلى عورة أحد، حياء وتكرما، وتنزها عما لا يحل ولا يجمل بمثله، كرم الله وجهه.

قطع الميرة عن أهل الشام

قال: وذكروا أن عليا دعا زجر بن قيس، فقال له: سر في بعض هذه الخيل إلى القطقطانة (2)، فاقطع الميرة عن معاوية، ولا تقتل إلا من يحل لك قتله، وضع السيف موضعه، فبلغ ذلك معاوية، فدعا الضحاك بن قيس، فأمره أن يلقى زحر بن قيس فيقاتله، فسار الضحاك فلقيه زحر فهزمه، وقتل من أصحابه، وقطع الميرة عن أهل الشام، ورجع الضحاك إلى معاوية منهزما، فجمع معاوية الناس، فقال: أتاني خبر من ناحية من نواحي، أمر شديد، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لسنا في شيء مما أتاك، إنما علينا السمع والطاعة، وبلغ عليا قول معاوية وقول أهل الشام، فأراد أن يعلم ما رأي أهل العراق، فجمعهم، فقال: أيها الناس إنه أتاني خبر من ناحية من نواحي. فقال ابن الكواء وأصحابه: إن لنا في كل أمر رأيا، فما أتاك فأطلعنا عليه، حتى نشير عليك. فبكى علي، ثم قال: ظفر والله ابن هند باجتماع أهل الشام له، واختلافكم علي، والله ليغلبن باطله حقكم، إنما أتاني أن زحر بن قيس ظفر بالضحاك، وقطع الميرة، وأتى معاوية هزيمة صاحبه، فقال: يا أهل الشام، إنه أتاني أمر شديد، فقلدوه أمرهم، واختلفتم علي. فقام قيس بن سعد، فقال: أما والله لنحن كنا أولى بالتسليم من أهل الشام.

(هامش)

(1) في وقعة صفين أن عمرو بن العاص صارع عليا ولم يعرفه حيث قال لمعاوية ص 407: أما والله أن لو عرفته ما أقحمت عليه. (2) القطقطانة: موضع بالكوفة. (*)

ص 128

قدوم أبي هريرة وأبي الدرداء (1) على معاوية وعلي

قال: وذكروا أن أبا هريرة وأبا الدرداء قدما على معاوية من حمص، وهو بصفين، فوعظاه وقالا له: يا معاوية، علام تقاتل عليا وهو أحق بهذا الأمر منك في الفضل والسابقة؟ لأنه رجل من المهاجرين الأولين، السابقين بإحسان، وأنت طليق، وأبوك من الأحزاب. أما والله ما نقول لك أن تكون العراق أحب إلينا من الشام، ولكن البقاء أحب إلينا من الفناء، والصلاح أحب إلينا من الفساد. فقال معاوية: لست أزعم أني أولى بهذا الأمر من علي، ولكني أقاتله حتى يدفع إلي قتلة عثمان. فقالا: إذا دفعهم إليك ماذا يكون؟ قال: أكون رجلا من المسلمين، فأتيا عليا فإن دفع إليكما قتلة عثمان جعلتها شورى. فقدما على عسكر علي، فأتاهما الأشتر، فقال: يا هذان إنه لم ينزلكما الشام حب معاوية، وقد زعمتما أنه يطلب قتلة عثمان، فعمن أخذتما ذلك فقبلتماه؟ أعمن قتله فصدقتموهم على الذنب، كما صدقتموهم على القتل؟ أم عمن نصره، فلا شهادة لمن جر إلى نفسه، أم عمن اعتزلوا، إذ علموا ذنب عثمان وقد علموا ما الحكم في قتله؟ أم عن معاوية وقد زعم أن عليا قتله؟ اتقيا الله، فإننا شهدنا وغبتما، ونحن الحكام على من غاب. فانصرفا ذلك اليوم، فلما أصبحا أتيا عليا، فقالا له: إن لك فضلا لا يدفع (2)، وقد سرت مسير فتى إلى سفيه من السفهاء، ومعاوية يسألك أن تدفع إليه قتلة عثمان، فإن فعلت ثم قاتلك كنا معك. قال علي: أتعرفانهم؟ قالا: نعم. قالا: فخذ أهم، فأتيا محمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، والأشتر (3)، فقالا: أنتم من قتلة عثمان وقد أمرنا بأخذكم، فخرج إليهما أكثر من عشرة آلاف رجل، فقالوا: نحن قتلنا عثمان، فقالا: نرى أمرا شديدا ألبس علينا الرجل. وإن أبا هريرة وأبا الدرداء انصرفا إلى منزلهما بحمص، فلما قدما حمص لقيهما عبد الرحمن بن عثمان (4)، فسألهما عن مسيرهما، فقص عليه

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال ص 170 أبو أمامة الباهلي وأبو الدرداء. والمشهور أن أبا الدرداء مات في خلافة عثمان. (أنظر الإصابة 5 / 46 وتهذيب التهذيب 8 / 176). والخبر في فتوح ابن الأعثم 3 / 94. (2) زيد عند ابن الأعثم: وشرفا لا ينكر. (3) زيد عند ابن الأعثم: وعدي بن حاتم وعمرو بن الحمق وفلان وفلان وفلان. (4) عند ابن الأعثم: عبد الرحمن بن غنم الأشعري صاحب معاذ بن جبل. (*)

ص 129

القصة، فقال العجب منكما أنكما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما والله لئن كففتما أيديكما ما كففتما ألسنتكما، أتأتيان عليا وتطلبان إليه قتلة عثمان وقد علمتما أن المهاجرين والأنصار لو حرموا دم عثمان نصروه، وبايعوا عليا على قتلته، فهل فعلوا؟ وأعجب من ذلك رغبتكما عما صنعوا، وقولكما لعلي: اجعلها شورى، واخلعها من عنقك، وإنكما لتعلمان أن من رضي بعلي خير ممن كرهه، وأن من بايعه خير ممن لم يبايعه، ثم صرتما رسولي رجل من الطلقاء، لا تحل له الخلافة، ففشا قوله وقولهما، فهم معاوية بقتله، ثم راقب فيه عشيرته.

وقوع عمرو بن العاص في علي

وذكروا أن رجلا من همذان يقال له برد قدم على معاوية، فسمع عمرا يقع في علي، فقال له: يا عمرو، إن أشياخنا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، فحق ذلك أم باطل؟ فقال عمرو: حق، وأنا أزيدك أنه ليس أحد من صحابة رسول الله له مناقب مثل مناقب علي، ففزع الفتى، فقال عمرو: إنه أفسدها بأمره في عثمان، فقال برد: هل أمر أو قتل؟ قال: لا، ولكنه آوى ومنع. قال: فهل بايعه الناس عليها؟ قال: نعم. قال: فما أخرجك من بيعته؟ قال: اتهامي إياه في عثمان. قال له: وأنت أيضا قد اتهمت؟ قال: صدقت فيها خرجت إلى فلسطين، فرجع الفتى إلى قومه فقال: إنا أتينا قوما أخذنا الحجة عليهم من أفواههم. علي على الحق فاتبعوه. كتاب معاوية إلى أبي أيوب الأنصاري (1) قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى أبي أيوب الأنصاري، وكان أشد الأنصار على معاوية: أما بعد، فإني ناسيتك ما لا تنسى الشيباء. فلما قرأ كتابه أتى به عليا، فأقرأه إياه. قال علي: يعني بالشيباء المرأة الشمطاء (2) لا تنسى ثكل ابنها،

(هامش)

(1) هو خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، كان سيدا معظما من سادات الأنصار، نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده مات بالقسطنطينية سنة 52. (2) في وقعة صفين ص 366: الشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها لا تنسى بعلها الذي افترعها أبدا. (*)

ص 130

فأنا لا أنسى قتل عثمان. فكتب إليه أبو أيوب: إنه لا تنسى الشيباء ثكل ولدها، وضربتها مثلا لقتل عثمان، فما نحن وقتلة عثمان؟ إن الذي تربص بعثمان، وثبط أهل الشام عن نصرته لأنت، وإن الذين قتلوه غير الأنصار، والسلام.

ما خاطب به النعمان بن بشير قيس بن سعد

قال: وذكروا أن النعمان بن بشير الأنصاري وقف بين الصفين (1)، فقال: يا قيس بن سعد، أما أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه، إنكم يا معشر الأنصار أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار، وقتلكم أنصاره يوم الجمل، وإقحامكم على أهل الشام بصفين، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا، كان هذا بهذا، ولكنكم خذلتم حقا، ونصرتم باطلا، ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس، حتى أشعلتم الحرب، ودعوتم إلى البراز، فقد والله وجدتم رجال الحرب من أهل الشام سراعا إلى برازكم، غير أنكاس عن حربكم، ثم لم ينزل بعلي أمر قط إلا هونتم عليه المصيبة، ووعدتموه الظفر، وقد والله أخلفتموه، وهان عليكم بأسكم، وما كنتم لتخلوا به أنفسكم، من شدتكم في الحرب، وقدرتكم على عدوكم، وقد أصبحتم أذلاء على أهل الشام، لا يرون حربكم شيئا، وأنتم أكثر منهم عددا ومددا، وقد والله كاثروكم بالقلة، فكيف لو كانوا مثلكم في الكثرة؟ والله لا تزالون أذلاء في الحرب بعدها أبدا، إلا أن يكون معكم أهل الشام، وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم، ونحن أحسن بقية، وأقرب إلى الظفر، فاتقوا الله في البقية. فضحك قيس وقال: والله ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذا المقام (2)، أما المنصف المحق فلا ينصح أخاه من غش نفسه، وأنت والله الغاش لنفسه، المبطل فيم انتصح غيره، أما ذكرك عثمان فإن كان الإيجاز يكفيك فخذه، قتل عثمان من لست خيرا منه، وخذله من هو خير منك، وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث، وأما معاوية فلو اجتمعت العرب على بيعته

(هامش)

(1) لم يكن مع معاوية من الأنصار غيره ومسلمة بن مخلد وكان معاوية قد أغضبهما وهما أن ينصرفا إلى قومهما ثم استرضاهما، وزجا معاوية النعمان أن يكلم قيس بن عبادة ويسأله السلم (أنظر وقعة صفين ص 448 وقد ذكر الخبر فيها باختلاف وزيادة). (2) في وقعة صفين: على هذه المقالة (*)

ص 131

لقاتلتهم الأنصار، وأما قولك: إنا لسنا كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نتقي السيوف بوجوهنا، والرماح بنحورنا، حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. ولكن أنظر يا نعمان: هل ترى مع معاوية إلا طليقا أعرابيا، أو يمانيا مستدرجا؟ وانظر أين المهاجرون والأنصار، والتابعون بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟ ثم انظر هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك (1)، ولستما والله بدريين، ولا عقبيين [ولا أحديين]، ولا لكما سابقة في الإسلام، ولا آية في القرآن (2).

كتاب عمرو إلى ابن عباس

قال: وذكروا أن معاوية قال لعمرو بن العاص: إن رأس أهل العراق (3) مع علي عبد الله بن عباس، فلو ألقيت إليه كتابا ترفق فيه، فإن قال شيئا لم يخرج منه علي، وقد أكلتنا هذه الحرب، ولا أرانا نطيق العراق إلا بهلاك الشام. فقال له عمرو: إن ابن عباس لا يخدع، ولو طمعت فيه طمعت في علي. قال معاوية: على ذلك. فكتب عمرو إلى ابن عباس: أما بعد، فإن الذي نحن وأنت فيه ليس أول أمر قاده البلاء، وساقته العافية، وإنك رأس هذا الجمع بعد علي، فانظر فيما بقي بغير ما مضى، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياة ولا صبرا. واعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق، وأن العراق لا تهلك (4) إلا بهلاك الشام، فما خيرنا بعد أعدادنا منكم؟ وما خيركم بعد أعدادكم منا؟ ولسنا نقول: ليت الحرب عادت (5)، ولكنا نقول: ليتها لم تكن. وإن فينا لمن يكره البقاء كما فيكم، وإنما هما ثلاثة: أمير مطاع، أو مأمور مطيع، أو مشاور مأمون. فأما العاصي السفيه (6) فليس بأهل أن يدعى في ثقات أهل الشورى، ولا خواص أهل النجوى.

(هامش)

(1) يريد مسلمة بن مخلد. (2) زيد في وقعة صفين: ولعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك إشارة إلى بشير بن سعد لما بايع أبا بكر يوم سقيفة بني ساعدة. (3) في وقعة صفين ص 410: بعد. (4) في وقعة صفين في الموضعين: لا تملك. (5) في وقعة صفين: غارت. (6) في وقعة صفين: وأما الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب. (*)

ص 132

جواب عبد الله بن عباس إلى عمرو بن العاص

قال: وذكروا أنه لما انتهى كتاب عمرو إلى ابن عباس، أتى به إلى علي، فأقرأه إياه، فقال علي: قاتل الله ابن العاص، أجبه. فكتب إليه: أما بعد، فإني لا أعلم رجلا أقل حياء منك في العرب، إنك مال بك الهوى إلى معاوية، وبعته دينك بالثمن الأوكس، ثم خبطت الناس في عشواء، طمعا في هذا الملك، فلما ترامينا، أعظمت الحرب والرماء إعظام أهل الدين، وأظهرت فيها كراهية أهل الورع، لا تريد بذلك إلا تمهيد الحرب، وكسر أهل الدين، فإن كنت تريد الله فدع مصر، وارجع إلى بيتك، فإن هذه حرب ليس فيها معاوية كعلي، بدأها علي بالحق، وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي، وانتهى فيها إلى السرف، وليس أهل الشام فيها كأهل العراق، بايع أهل العراق عليا وهو خير منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه، ولست أنا وأنت فيها سواء، أردت الله، وأنت أردت مصر، وقد عرفت الشيء الذي باعدك مني، ولا أعرف الشيء الذي قربك من معاوية فإن ترد شرا لا تفتنا به، وإن ترد خيرا لا تسبقنا إليه. أمر معاوية مروان بحرب الأشتر قال: وذكروا أن معاوية دعا مروان بن الحكم، فقال: يا مروان، إن الأشتر قد غمني، فاخرج بهذه الخيل، فقاتله بها غدا. فقال مروان: ادع لها عمرا، فإنه شعارك دون دثارك. قال معاوية: وأنت نفسي دون وزيري. قال مروان: لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء، وألحقته بي في الحرمان، ولكنك أعطيته ما في يدك، ومنيتني ما في يدي غيرك، فإن غلبت طاب المقام، وإن غلبت خف عليك المهرب. قال معاوية: يغني الله عنك، قال: أما اليوم فلا. فدعا معاوية عمرا، فأمره بأمره، فقال: أما والله لئن فعلت لقد قدمتني كافيا، وأدخلتني ناصحا، وقد غمك القوم في مصر، فإن كان لا يرضيهم إلا أخذها فخذها، عليها لعنة الله، أما والله يا أمير المؤمنين إن مروان يباعدك منا ويباعدنا منك، ويأبى الله إلا أن يقربنا إليك.

ص 133

كتاب معاوية إلى ابن عباس

(1)

قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أما بعد، فإنكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع منكم بالمساءة إلى أنصار عثمان، فإن يك ذلك لسلطان بني أمية، فقد ورثها عدي وتيم، وقد وقع من الأمر ما قد ترى، وأدالت هذه الحرب بعضنا من بعض، حتى استوينا فيها، فما أطمعكم فينا، وما أيأسكم منا أيأسنا منكم، وقد رجونا غير الذي كان، وخشينا دون ما وقع، ولستم ملاقينا اليوم بأحد من حدكم أمس، وقد منعنا بما كان منا الشام، وقد منعتم بما كان منكم العراق، فاتقوا الله في قريش، فما بقي من رجالها إلا ستة: رجلان بالشام، ورجلان بالعراق، ورجلان بالحجاز، فأما اللذان بالحجاز: فسعد، وعبد الله بن عمر، وأما اللذان بالشام: فأنا، وعمرو، وأما اللذان بالعراق، فعلي وأنت. ومن الستة رجلان ناصبان لك، وآخران واقفان عليك، وأنت رأس هذا الجمع اليوم وغدا، ولو بايع الناس لك بعد عثمان كنا أسرع إليك منا إلى علي. جوابه قال: وذكروا أنه لما أتى كتاب معاوية إلى ابن عباس ضحك، ثم قال، حتى متى يخطب إلي معاوية عقلي؟ وحتى متى أجمجم له عما في نفسي؟ فكتب إليه: أما بعد، فقد جاءني كتابك فأما ما ذكرت من سرعتنا بالمساءة إلى أنصار عثمان لسلطان بني أمية، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك، لقد استنصرك فلم تنصره، حتى صرت إلى ما صرت إليه، وبيني وبينك في ذلك ابن عمك، وأخو عثمان الوليد بن عقبة (2)، وأما قولك: إنه لم يبق من رجال قريش غير ستة، فما أكثر رجالها، وأحسن بقيتها، وقد قاتلك من خيارها من قاتلك، ولم يخذلنا إلا من خذلك، وأما إغراؤك إيانا بعدي وتيم، فأبو بكر وعمر كانا

(هامش)

(1) وقد جاء كتاب معاوية إلى ابن عباس بعدما رد على كتاب عمرو بن العاص، وقد رمى معاوية - كما قال - من كتابته إشغال علي وابن عباس بالكتابة، وكان معاوية قد تخوف من هجوم كبير قد يشنه على أصحابه علي وأصحابه (انظر وقعة صفين ص 414 وفتوح ابن الأعثم 3 / 254 والكتاب فيهما باختلاف وزيادة). (2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخو عثمان من الرضاع. (*)

ص 134

خيرا منك ومن عثمان، كما أن عليا خير منك، وأما قولك: إنا لن نلقاك إلا بما لقيناك به، فقد بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله، وتخاف له ما بعده، وأما قولك: إنه لو بايعني الناس استقمت فقد بايعوا عليا وهو خير مني، فلم تستقم له، وإن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان في الشورى، فما أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام، وابن رأس الأحزاب، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر.

خطبة علي كرم الله وجهه

قال: وذكروا أن عليا قام خطيبا فقال: أيها الناس، ألا إن هذا القدر (1) ينزل من السماء كقطر المطر، على كل نفس بما كسبت من زيادة أو نقصان، في أهل أو مال، فمن أصابه نقصان في أهل أو مال فلا يغش نفسه، ألا وإنما المال حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام، وقد دخل في هذا العسكر طمع من معاوية، فضعوا عنكم هم الدنيا بفراقها، وشدة ما اشتد منها، برجاء ما بعدها، فإن نازعتكم أنفسكم إلى غير ذلك فردوها إلى الصبر، ووطنوها على العزاء، فوالله إن أرجى ما أرجوه الرزق من الله، حيث لا نحتسب، وقد فارقكم مصقلة بن هبيرة، فآثر الدنيا على الآخرة، وفارقكم بشر بن أرطأة فأصبح ثقيل الظهر من الدماء، مفتضح البطن من المال، وفارقكم زيد بن عدي بن حاتم، فأصبح يسأل الرجعة. وأيم الله لوددت رجال مع معاوية أنهم معي، فباعوا الدنيا بالآخرة، ولوددت رجال معي أنهم مع معاوية، فباعوا الآخرة بالدنيا. قدوم ابن أبي محجن على معاوية قال: وذكروا أن عبد الله بن أبي محجن الثقفي قدم على معاوية. فقال: يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من عند الغبي الجبان البخيل ابن أبي طالب. فقال معاوية: لله أنت! أتدري ما قلت؟ أما قولك الغبي، فوالله لو أن ألسن الناس جمعت فجعلت لسانا واحدا لكفاها لسان علي، وأما قولك إنه جبان، فثكلتك أمك، هل رأيت أحدا قط بارزه إلا قتله؟ وأما قولك إنه بخيل، فوالله لو كان له بيتان أحدهما من تبر والآخر من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه. فقال الثقفي: فعلام

(هامش)

(1) في النهج: الأمر. (*)

ص 135

تقاتله إذا؟ قال: على دم عثمان، وعلى هذا الخاتم، الذي من جعله في يده جادت طينته، وأطعم عياله، وادخر لأهله. فضحك الثقفي ثم لحق بعلي، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي يدي بجرمي، لا دنيا أصبت ولا آخرة. فضحك علي، ثم قال: أنت منها على رأس أمرك، وإنما يأخذ الله العباد بأحد الأمرين. رفع أهل الشام المصاحف قال: وذكروا أن أهل العسكرين باتوا بشدة من الألم (1)، ونادى علي أصحابه، فأصبحوا على راياتهم ومصافهم، فلما رآهم معاوية وقد برزوا للقتال، قال لعمرو بن العاص: يا عمرو، ألم تزعم أنك ما وقعت في أمر قط إلا خرجت منه؟ قال: بلى، قال: أفلا تخرج مما ترى؟ قال: والله لأدعونهم إن شئت إلى أمر أفرق به جمعهم، ويزداد جمعك إليك اجتماعا، إن أعطوكه اختلفوا، وإن منعوكه اختلفوا. قال معاوية: وما ذلك؟ قال عمرو: تأمر بالمصاحف فترفع ثم تدعوهم إلى ما فيها، فوالله لئن قبله لتفترقن عنه جماعته، ولئن رده ليكفرنه أصحابه. فدعا معاوية بالمصحف، ثم دعا رجلا من أصحابه يقال له ابن هند (2)، فنشره بين الصفين، ثم نادى: الله الله في دمائنا ودمائكم الباقية، بينا وبينكم كتاب الله. فلما سمع الناس ذلك ثاروا إلى علي، فقالوا: قد أعطاك معاوية الحق، ودعاك إلى كتاب الله، فأقبل منه. ورفع صاحب معاوية المصحف وهو يقول: بيننا وبينكم هذا المصحف، ثم تلا: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) [آل عمران: 23]، ثم نادى من لفارس من الروم؟ فقال الأشعث: والله لا نأتي هذه أبدا، ونرضى معك، أو نقاتل معك وتابعه أشراف أهل اليمن، وركنوا إلى الصلح، وكرهوا القتال.

(هامش)

(1) كان ذلك بعدما اشتدت الحرب، وبقي الناس يقتتلون ليلتهم حتى أصبحوا وقد قتل من القوم تلك الليلة أكثر من ستة وثلاثين ألفا من حجا حجة العرب، وبعدما طلعت الشمس وتعالى النهار كانت السيوف تأخذ هام الرجال، وكان مشايخ أهل الشام ينادون: الله الله في البقية، الله الله في الحرم والذرية. (2) في وقعة صفين ص 481: أبو الأعور السلمي. (وانظر الأخبار الطول ص 189). (*)

ص 136

ما تكلم به عبد الله بن عمرو وأهل العراق

قال: وذكروا أن معاوية دعا عبد الله بن عمرو بن العاص، فأمره أن يكلم أهل العراق، فأقبل عبد الله بن عمرو، حتى إذا كان بين الصفين نادى: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن عمرو بن العاص، إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين والدنيا، فإن تك للدين، فقد والله أسرفنا وأسرفتم (1)، وإن تك للدنيا فقد والله أعذرنا وأعذرتم (1)، وقد دعوناكم لأمر لو دعوتمونا إليه أجبناكم، فإن يجمعنا وإياكم الرضا، فذلك من الله، وإلا فاغتنموا هذه الفرجة، لعل الله أن ينعش بها الحي (2)، وينسى بها القتيل، فإن بقاء المقلد بعد الهالك قليل. فقال علي لسعد (3) بن قيس: أجب الرجل، وقد كان عبد الله بن عمرو قاتل يوم صفين بسيفين، وكان من حجته أن قال: أمرني رسول الله أن أطيع أبي. فتقدم سعد بن قيس، حتى إذا كان بين الصفين نادى: يا أهل الشام إنه كانت بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا، وقد دعوتمونا إلى ما قاتلناكم عليه أمس، ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم، ولا أهل الشام إلى شامهم بأمر أجمل منه، فإن يحكم فيه بما أنزل الله فالأمر في أيدينا، وإلا فنحن نحن، وأنتم أنتم، وإن الناس ثاروا إلى علي عند كلام عبد الله بن عمرو، فقالوا: أجب القوم إلى ما دعوك إليه، فإنا دعونا عثمان إلى ما دعاك القوم إليه، فأبى فقاتلناه. فبعث علي الأشعث إلى أهل الرايات، يأمرهم أن ينقضوها ويرجعوا إلى رحالهم، حتى يبرموا رأيهم. ما خاطب به عتبة بن أبي سفيان الأشعث بن قيس قال: وذكروا أن معاوية دعا عتبة، فقال له: ألن إلى الأشعث كلاما، فإنه إن رضي بالصلح رضيت به العامة، فخرج عتبة حتى إذا وقف بين الصفين نادى الأشعث، فأتاه. فقال عتبة: أيها الرجل، إن معاوية لو كان لاقيا أحدا غيرك وغير علي لقيك، إنك رأس أهل العراق، وسيد أهل اليمن، ومن قد سلف إليه من

(هامش)

(1) في وقعة صفين ص 483: أعذرنا وأعذرتم... أسرفنا وأسرفتم. (2) في وقعة صفين: المحترف. (3) في وقعة صفين: سعيد. (*)

ص 137

عثمان ما قد سلف من الصهر والعمل، ولست كأصحابك. أما الأشتر فقتل عثمان، وأما عدي فخصص، وأما سعد بن قيس فقلد عليا دينه، وأما شريح بن هانئ وزحر بن قيس فلا يعرفان غير الهوى، وأما أنت فحاميت عن أهل العراق تكرما، وحاربت أهل الشام حمية وقد والله بلغنا منك ما أردنا، وبلغت منا ما أردت، وإنا لا ندعوك إلى ما لا يكون منك من تركك عليا، ولا نصرة معاوية ولكنا ندعوك إلى البقية، التي فيها صلاحك وصلاحنا. فتكلم الأشعث فقال: يا عتبة، أما قولك إن معاوية لا يلقى إلا عليا، فلو لقيني ما زاد ولا عظم في عيني، ولا صغرت عنه، ولئن أحب أن أجمع بينه وبين علي لأفعلن، وأما قولك: إني رأس أهل العراق وسيد أهل اليمن، فالرأس الأمير، والسيد المطاع، وهاتان لعلي، وأما ما سلف إلي من عثمان فوالله ما زادني صهره شرفا، ولا عمله غنى، وأما عيبك أصحابك، فإن هذا الأمر لا يقربك مني، وأما محاماتي عن العراق، فمن نزل بيننا حميناه، وأما البقية فلسنا بأحوج منها إليكم.

كتاب معاوية إلى علي رضي الله عنهما

قال: وذكروا أن عليا أظهر أنه مصبح معاوية للقتال، فبلغ ذلك معاوية ففزع أهل الشام، فانكسروا لذلك، فقال معاوية لعمرو: إني قد رأيت رأيا، أن أعيد (1) إلى علي كتابا أسأله فيه الشام. فضحك عمرو، ثم قال: أين أنت يا معاوية من خدعة علي؟ فقال معاوية: ألسنا بني عبد مناف؟ فقال: بلى ولكن لهم النبوة دونكم، فإن شئت أن تكتب فاكتب معاوية إلى علي: أما بعد، فإني أظنك أن لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، وإن كنا قد غلبنا على عقولنا، فلنا منها ما نذم به ما مضى، ونصلح ما بقي، وقد كنت سألتك (2) ألا يلزمني لك طاعة ولا بيعة، فأبيت ذلك علي، فأعطاني الله ما منعت، وإني أدعوك إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا تخاف من الفناء إلا ما أخاف. وقد والله رقت

(هامش)

(1) وكان معاوية كان قد كتب سابقا إلى علي يطلب منه الشام فرده عنه. (2) في وقعة صفين ص 470: سألتك الشام على ألا يلزمني. (*)

ص 138

الأجناد، وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف، ليس لبعضنا على بعض فضل، إلا فضل لا يستذل به عزيز، ولا يسترق به حر. جوابه فلما انتهى كتابه إلى علي، دعا كاتبه عبيد الله بن رافع (1)، فقال: اكتب: أما بعد، فقد جاءني كتابك، تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، وأنا وإياك في غاية لم نبلغها بعد (2)، وأما طلبك إلي الشام، فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء، فإنك لست أمضى على الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام بأحرص من أهل العراق على الآخرة، وأما قولك: إنا بنو عبد مناف فكذلك، ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب ولا المهاجر كالطليق، ولا المحق كالمبطل، وفي أيدينا فضل النبوة (3) التي قتلنا بها العزيز، وبعنا بها الحر، والسلام. فلما أتى معاوية الكتاب أقرأه عمرا، فشمت به عمرو، ولم يكن أحد أشد تعظيما لعلي من عمرو بن العاص بعد يوم مبارزته، فقال معاوية لعمرو: قد علمت أن إعظامك لعلي لما فضحك، قال عمرو: لم يفتضح امرؤ بارز عليا، وإنما افتضح من دعاه إلى البراز فلم يجبه.

اختلاف أهل العراق في الموادعة

قال: وذكروا أنه لما عظم الأمر، واستحر القتال، قال له رأس من أهل العراق إن هذه الحرب قد أكلتنا، وأذهبت الرجال، والرأي الموادعة. وقال بعضهم: لا بل نقاتلهم اليوم على ما قاتلناهم عليه أمس، وكانت الجماعة قد رضيت الموادعة، وجنحت إلى الصلح والمسالمة. فقام علي خطيبا فقال: أيها

(هامش)

(1) في وقعة صفين: بن أبي رافع. (2) زيد: في وقعة صفين: وإني لو قتلت في ذات الله، وحييت، ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة، لم أرجع عن الشدة في ذات الله، والجهاد لأعداء الله، وأما قولك إنه قد بقي من عقولنا ما عدم به على ما مضى، فإني ما نقصت عقلي، ولا ندمت على فعلي. (3) في وقعة صفين: التي أذللنا بها العزيز، وأعززنا بها الذليل. (*)

ص 139

الناس، إني لم أزل من أمري على ما أحب حتى قدحتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وهي لعدوكم أنهك. وقد كنت بالأمس أميرا، فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت ناهيا فأصبحت اليوم منهيا، فليس لي أن أحملكم على ما تكرهون (1). ما رد كردوس بن هانئ على علي قال وذكروا أن كردوس بن هانئ قام فقال: أيها الناس، إنه والله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه، وإن قتيلنا (2) لشهيد، وإن حينا لفائز، وإن عليا على بينة من ربه، وما أجاب القوم إلا إنصافا، وكل محق منصف فمن سلم له نجا، ومن خالفه هوى.

ما قال سفيان (3) بن ثور

قال: وذكروا أن سفيان (3) بن ثور قال: أيها الناس إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله، فردوه علينا، فقاتلناهم، وإنهم دعونا إلى كتاب الله، فإن رددناه عليهم، حل لهم منا ما حل لنا منهم، ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله، وإن عليا ليس بالراجع الناكص، وهو اليوم على ما كان عليه أمس، وقد أكلتنا هذه الحرب، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة.

ما قال حريث بن جابر [البكري]

ثم قام حريث بن جابر، فقال: أيها الناس، إن عليا لو كان خلوا (4) من هذا الأمر لكان المرجع (5) إليه، فكيف وهو قائده وسابقه؟ وإنه والله ما قبل من القوم اليوم إلا الأمر الذي دعاهم إليه أمس، ولو رده عليهم كنتم له أعيب ولا

(هامش)

(1) قارن مع وقعة صفين ص 484 وابن الأعثم 2 / 308. (2) في وقعة صفين وابن الأعثم: وإن قتلانا لشهداء، وأحياءنا لأبرار. (3) كذا بالأصل، وفي الأخبار الطوال ص 189 ووقعة صفين ص 485 وابن الأعثم 2 / 309 شقيق. (وهو شقيق بن ثور البكري). (4) في وقعة صفين ص 485: خلفا. (5) في وقعة صفين: المفزع إليه. (*)

ص 140

يلحد في هذا الأمر إلا راجع على عقبيه، أو مستدرج مغرور، وما بيننا وبين من طعن علينا إلا السيف. ما قال خالد بن معمر [السدوسي] ثم قام خالد بن معمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إنا والله ما أخرنا (1) هذا المقام أن يكون أحد أولى به منا، ولكن قلنا: أحب الأمور إلينا ما كفينا مؤونته، فأما إذا استغنينا فإنا لا نرى البقاء إلا فيما دعاك القوم إليه اليوم، إن رأيت ذلك، وإن لم تره فرأيك أفضل. ما قال الحصين بن المنذر (2) ثم قام الحصن بن المنذر، وكان أحدث القوم سنا، فقال: أيها الناس، إنما بني هذا الدين على التسليم، فلا تدفعوه بالقياس، ولا تهدموه بالشبهة (3)، وإنا والله لو أنا لا نقبل من الأمور إلا ما نعرف، لأصبح الحق في الدنيا قليلا، ولو تركنا وما نهوى لأصبح الباطل في أيدينا كثيرا، وإن لنا راعيا (4) قد حمدنا ورده وصدره، وهو المأمون على ما قال وفعل، فإن قال: لا، قلنا: لا، وإن قال: نعم، قلنا: نعم.

ما قال عثمان بن حنيف

ثم قام عثمان بن حنيف، وكان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عاملا لعلي على البصرة، وكان له فضل، فقال: أيها الناس، اتهموا رأيكم، فقد والله كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالحديبية يوم أبي جندل وإنا لنريد القتال، إنكارا للصلح، حتى ردنا عنه رسول الله، وإن أهل الشام دعوا إلى كتاب الله اضطرارا، فأجبناهم إليه إعذارا، فلسنا والقوم سواء إنا والله ما عدلنا الحي بالحي، ولا القتيل بالقتيل، ولا الشامي بالعراقي،

(هامش)

(1) في وقعة صفين ص 485: اخترنا. (2) في الأخبار الطوال ص 189: الحضين وفي وقعة صفين ص 485 الحضين الربعي. (3) في وقعة صفين: بالشفقة. (4) في الأخبار الطوال ووقعة صفين: داعيا. (*)

ص 141

ولا معاوية بعلي، وإنه لأمر منعه غير نافع، وإعطاؤه غير ضائر، وقد كلت البصائر التي كنا نقاتل بها، وقد حمل الشك اليقين الذي كنا نؤول إليه، وذهب الحياء الذي كنا نماري به، فاستظلوا في هذا الفئ، واسكنوا في هذه العافية، فإن قلتم: نقاتل على ما كنا نقاتل عليه أمس، هيهات هيهات، ذهب والله قياس أمس، وجاء غد. فأعجب عليا قوله، وافتخرت به الأنصار، ولم يقل أحد بأحسن من مقالته.

ما قال عدي بن حاتم

ثم قام عدي بن حاتم، فقال: أيها الناس، إنه والله لو غير علي دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه، ولا وقع بأمر قط إلا ومعه من الله برهان، وفي يديه من الله سبب، وإنه وقف عن عثمان بشبهة، وقاتل أهل الجمل على النكث، وأهل الشام على البغي، فانظروا في أموركم وأمره، فإن كان له عليكم فضل، فليس لكم مثله، فسلموا له، وإلا فنازعوا عليه، والله لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنة إنه لأعلم الناس بهما، ولئن كان إلى الإسلام إنه لأخو نبي الله، والرأس في الإسلام، ولئن كان إلى الزهد والعبادة، إنه لأظهر الناس زهدا، وأنهكهم عبادة، ولئن كان إلى العقول والنحائز (1)، إنه لأشد الناس عقلا، وأكرمهم نحيزة، ولئن كان إلى الشرف والنجدة إنه لأعظم الناس شرفا ونجدة، ولئن كان إلى الرضا، لقد رضي به المهاجرون والأنصار في شورى عمر رضي الله عنهم، وبايعوه بعد عثمان، ونصروه على أصحاب الجمل وأهل الشام، فما الفضل الذي قربكم إلى الهدى، وما النقص الذي قربه إلى الضلال، والله لو اجتمعتم جميعا على أمر واحد لأتاح الله له من يقاتل لأمر ماض، وكتاب سابق. فاعترف أهل صفين لعدي بن حاتم بعد هذا المقام، ورجع كل من تشعب على علي رضي الله عنه. ما قال عبد الله بن حجل ثم قام عبد الله بن حجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أمرتنا يوم الجمل

(هامش)

(1) النحائز جمع نحيزة وهي الطبيعة. (*)

ص 142

بأمور مختلفة، كانت عندنا أمرا واحدا، فقبلناها بالتسليم، وهذه مثل تلك الأمور، نحن أولئك أصحابك، وقد أكثر الناس في هذه القضية، وأيم الله ما المكثر المنكر بأعلم بها من المقل المعترف، وقد أخذت الحرب بأنفاسنا، فلم يبق إلا رجاء ضعيف، فإن تجب القوم إلى ما دعوك إليه، فأنت أولنا إيمانا، وآخرنا بنبي الله عهدا، وهذه سيوفنا على أعناقنا، وقلوبنا بين جوانحنا، وقد أعطيناك بقيتنا، وشرحت بالطاعة صدورنا، ونفذت في جهاد عدوك بصيرتنا، فأنت الوالي المطاع، ونحن الرعية الأتباع، أنت أعلمنا بربنا وأقربنا بنبينا، وخيرنا في ديننا، وأعظمنا حقا فينا، فسدد رأيك نتبعك، واستخر الله تعالى في أمرك، وأعزم عليه برأيك، فأنت الوالي المطاع، قال: فسر علي كرم الله وجهه بقوله، وأثنى خيرا. [ما قال صعصعة بن صوحان] ثم قام صعصعة بن صوحان فقال: يا أمير المؤمنين، إنا سبقنا الناس إليك يوم قدوم طلحة والزبير عليك، فدعانا حكيم إلى نصرة عاملك عثمان بن حنيف فأجبناه، فقاتل عدوك، حتى أصيب في قوم من بني عبد قيس، عبدوا الله حتى كانت أكفهم مثل أكف الإبل، وجباههم مثل ركب المعز، فأسر الحي وسلب القتيل، فكنا أول قتيل وأسير (1)، ثم رأيت بلاءنا بصفين، وقد كلت البصائر، وذهب الصبر، وبقي الحق موفورا، وأنت بالغ بهذا حاجتك، والأمر إليك، ما أراك الله فمرنا به.

ما قال المنذر بن الجارود

ثم قام المنذر بن الجارود، فقال: يا أمير المؤمنين، إني أرى أمرا لا يدين له الشام إلا بهلاك العراق، ولا يدين له العراق إلا بهلاك الشام، ولقد كنا نرى أن ما زادنا نقصهم، وما نقصنا أضرهم فإذا في ذلك أمران، فإن رأيت غيره ففينا والله ما يفل به الحد، ويرد به الكلب، وليس لنا معك إيراد ولا صدر.

(هامش)

(1) إشارة إلى مقتل أخيه زيد بن صوحان العبدي يوم الجمل. وقد جرح صعصعة أيضا يوم الجمل. (*)

ص 143

ما قال الأحنف بن قيس ثم قام الأحنف بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس بين ماض وواقف، وقائل وساكت، وكل في موضعه حسن، وإنه لو نكل الآخر عن الأول لم يقل شيئا، إلا أن يقول اليوم ما قد قيل أمس، ولكنه حق يقضى، ولم نقاتل القوم لنا ولا لك، إنما قاتلناهم لله، فإن حال أمر الله دوننا ودونك فاقبله، فإنك أولى بالحق، وأحقنا بالتوفيق، ولا أرى إلا القتال.

ما قال عمير بن عطارد

ثم قام عمير بن عطارد فقال: يا أمير المؤمنين، إن طلحة والزبير وعائشة كانوا أحب الناس إلى معاوية، وكانت البصرة أقرب إلينا من الشام، وكان القوم الذين وثبوا عليك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خيرا من الذين وثبوا عليك من أصحاب معاوية اليوم، فوالله ما منعنا ذلك من قتل المحارب، وعيب الواقف، فقاتل القوم إنا معك. ما قال علي رضي الله عنه بعده ثم قام علي خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه قد بلغ بكم (1) وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين، حتى بلغوا منكم ما بلغوا (2)، وأنا غاد عليهم بنفسي بالغداة فأحاكمهم بسيفي هذا إلى الله.

نداء أهل الشام واستغاثتهم عليا رضي الله عنه

قال: فلما بلغ معاوية قول علي دعا عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو إنما هي الليلة، حتى يغدو علينا علي بنفسه (3)، فما ترى؟ قال عمرو: إن رجالك لا يقومون لرجاله، ولست مثله، أنت تقاتله على أمر، ويقاتلك على غيره، وأنت

(هامش)

(1) في وقعة صفين ص 476: بلغ بكم الأمر. (2) في وقعة صفين: حتى بلغنا منهم ما بلغنا. (3) في وقعة صفين: بالفيصل. (*)

ص 144

تريد البقاء، وعلي يريد الفناء، وليس يخاف أهل الشام من علي ما يخاف منك أهل العراق وإن هلكوا، ولكن ادعهم إلى كتاب الله. فإنك تقضي منه حاجتك، قبل أن ينشب مخلبه فيك، فأمر معاوية أهل الشام أن ينادوهم، فنادوا في سواد الليل نداء معه صراخ واستغاثة، يقولون: يا أبا الحسن من لذرارينا من الروح إن قتلتنا؟ الله الله، البقيا، كتاب الله بيننا وبينكم. فأصبحوا وقد رفعوا المصاحف على الرماح، وقلدوها أعناق الخيل، والناس على راياتهم قد أصبحوا للقتال. ما أشار به عدي بن حاتم فقام عدي بن حاتم، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أهل الباطل (1) لا تعوق أهل الحق، وقد جزع القوم حين تأهبت للقتال بنفسك، وليس بعد الجزع إلا ما تحب، ناجز القوم.

ما قال الأشتر وأشار به

ثم قام الأشتر فقال: يا أمير المؤمنين، ما أجبناك لدينا. إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولكن بحمد الله الخلف لك، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نصرتك (2)، فافرج الحديد بالحديد، واستعن بالله. ما قال عمرو بن الحمق ثم قام عمرو بن الحمق، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أجبناك لدنيا، ولا نصرناك على باطل، ما أجبناك إلا لله تعالى، ولا نصرناك إلا للحق، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا لكثر (3) فيه اللجاج، وطالت له النجوى، وقد بلغ الحق مقطعه، وليس لنا معك رأى.

ما قال الأشعث بن قيس

ثم قام الأشعث بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لك اليوم على ما

(هامش)

(1) العبارة في وقعة صفين ص 482: إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق فإنه لم يصب عصبة منا وقد أصيب مثلها منهم، وكل مقروح، ولكنا أمثل بقية منهم. (2) في وقعة صفين ص 482: بصرك، فاقرع الحديد... (3) في وقعة صفين ص 482: لاستشرى أي اشتد وقوي. (*)

ص 145

كنا عليه أمس، ولست أدري كيف يكون غدا. وما القوم الذين كلموك بأحمد لأهل العراق مني، ولا بأوتر لأهل الشام مني، فأجب القوم إلى كتاب الله، فإنك أحق به منهم، وقد أحب الله البقيا (1).

ما قال عبد الرحمن بن الحارث

ثم قام عبد الرحمن بن الحارث، فقال: يا أمير المؤمنين، امض لأمر الله، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. أحكم بعد حكم؟ وأمر بعد أمر؟ مضت دماؤنا ودماؤهم، ومضى حكم الله علينا وعليهم.

ما رآه علي كرم الله وجهه

قال: فمال علي إلى قول الأشعث بن قيس وأهل اليمن، فأمر رجلا ينادي: إنا قد أجبنا معاوية إلى ما دعانا إليه، فأرسل معاوية إلى علي: إن كتاب الله لا ينطق، ولكن نبعث رجلا منا ورجلا منكم، فيحكمان بما فيه. فقال علي: قد قبلت ذلك.

ما قال عمار بن ياسر

فلما أظهر علي أنه قبل ذلك قام عمار بن ياسر فقال: يا أمير المؤمنين، أما والله لقد أخرجها إليك معاوية بيضاء، من أقر بها هلك، ومن أنكرها ملك، ما لك يا أبا الحسن؟ شككتنا في ديننا! ورددتنا على أعقابنا بعد مئة ألف قتلوا منا ومنهم؟ أفلا كان هذا قبل السيف؟ وقبل طلحة والزبير وعائشة، قد دعوك إلى ذلك فأبيت، وزعمت أنك أولى بالحق وأن من خالفنا منهم ضال حلال الدم، وقد حكم الله تعالى في هذا الحال ما قد سمعت، فإن كان القوم كفارا مشركين، فليس لنا أن نرفع السيف عنهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، وإن كانوا أهل فتنة فليس لنا أن نرفع السيف عنهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، والله ما أسلموا، ولا أدوا الجزية، ولا فاءوا إلى أمر الله، ولا طفئت الفتنة، فقال علي: والله إني لهذا الأمر كاره.

(هامش)

(1) الأخبار الطوال ص 190 وقعة صفين ص 482. (*)

ص 146

قتل عمار بن ياسر

قال: فلما رد علي على عمار أنه كاره للقضية، وأنه ليس من رأيه، نادى عمار: أيها الناس هل من رائح إلى الجنة، فخرج إليه خمس مئة رجل، منهم أبو الهيثم وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، فاستسقى عمار الماء، فأتاه غلام له بإداوة فيها لبن، فلما رآه كبر وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آخر زادك من الدنيا لبن (1)، ثم قال عمار: اليوم ألقى الأحبة: محمدا وحزبه. ثم حمل عمار وأصحابه، فالتقى عليه رجلان فقتلاه (2)، وأقبلا برأسه إلى معاوية يتنازعان فيه، كل يقول أنا قتلته، فقال لهما عمرو بن العاص: والله إن تتنازعان إلا في النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية (3) فقال معاوية: قبحك الله من شيخ! فما تزال تتزلق في قولك، أو نحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاؤوا به، ثم التفت إلى أهل الشام فقال: إنما نحن الفئة الباغية؟ التي تبغي دم عثمان. فلما قتل عمار اختلط الناس، حتى ترك أهل الرايات مراكزهم، وأقحم أهل الشام، وذلك من آخر النهار، وتفرق الناس عن علي، فقال عدي بن حاتم: والله يا أمير المؤمنين ما أبقت هذه الوقعة لنا ولا لهم عميدا، فقاتل حتى يفتح الله تعالى لك، فإن فينا بقية، فقال علي: يا عدي، قتل عمار بن ياسر؟ قال: نعم، فبكى علي وقال: رحمك الله يا عمار، استوجب الحياة والرزق الكريم، كم تريدون أن يعيش عمار، وقد نيف على التسعين؟ (4). هزيمة أهل الشام ثم أقبل الأشتر جريحا، فقال: يا أمير المؤمنين، خيل كخيل، ورجال كرجال، ولنا الفضل إلى ساعتنا هذه، فعد مكانك الذي كنت فيه، فإن الناس

(هامش)

(1) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 420 والإمام أحمد في مسنده 4 / 319 والحاكم في المستدرك 3 / 389. (2) هما أبو العادية العاملي وابن جون السكسكي (مروج الذهب) وفي وقعة صفين لابن مزاحم: ابن جون السكوني، وأبو العادية الفزاري طعنه أبو العادية واحتز رأسه ابن جون. (3) مسند الإمام أحمد 2 / 161، 3 / 5، 4 / 319، 6 / 315 و289. وبعضه أخرجه مسلم في الفتن 4 / 233 والبخاري في الصلاة فتح الباري 1 / 541. (4) في مروج الذهب: ثلاث وتسعون سنة. (*)

ص 147

إنما يطلبوك حيث تركوك. وإن عليا دعا بفرسه التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا ببغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، ثم تعصب بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم السوداء، ثم نادى: من يبع نفسه اليوم يربح غدا، يوم له ما بعده، وإن عدوكم قد قدح كما قدحتم. فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثنى عشر ألفا واضعي سيوفهم على عواتقهم وتقدموا، فحمل علي والناس حملة واحدة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أهمد، حتى أفضى الأمر إلى معاوية، وعلي يضرب بسيفه، ولا يستقبل أحدا إلا ولى عنه. فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فلما وضع رجله في الركاب نظر إلى عمرو بن العاص، فقال له: يا بن العاص، اليوم صبر، وغدا فخر، قال: صدقت، فترك الركوب، وصبر وصبر القوم معه إلى الليل، فبات الناس يتحارسون، وكرهوا القتال، وهو اليوم الذي فيه البلاء العظيم، يوم قتل عمار، وكل يظن أن الدائرة عليه، وأسرف الفريقان في القتل، ولم يكن في الإسلام بلاء ولا قتل أعظم منه في تلك الثلاثة الأيام، وإن عليا نادى بالرحيل في جوف الليل، فلما سمع معاوية رضي الله عنه رغاء الإبل، دعا عمرو بن العاص، فقال: ما ترى هاهنا؟ قال عمرو: أظن الرجل هاربا، فلما أصبحوا إذا علي وأصحابه إلى جانبهم قد خالطوهم، فقال معاوية: كلا، زعمت يا عمرو أنه هارب، فضحك وقال: من فعلاته والله، فعندها أيقن معاوية بالهلكة، ونادى أهل الشام: كتاب الله بيننا وبينكم، ويومئذ استبان ذل أهل الشام، ورفعوا المصاحف، ثم ارتحلوا فاعتصموا بحبل منيف، وصاحوا: لا ترد كتاب الله يا أبا الحسن فإنك أولى به منا، وأحق من أخذ به.

ما قال الأشعث بن قيس

قال: فأقبل الأشعث بن قيس في أناس كثير من أهل اليمن، فقالوا لعلي: لا ترد ما دعاك القوم إليه، قد أنصفك القوم، والله لئن لم تقبل هذا منهم لا وفاء معك، ولا نرمي معك بسهم ولا حجر، ولا نقف معك موقفا. ما قال القراء قال: فلما سمع علي قول الأشعث ورأى حال الناس قبل القضية، وأجاب

ص 148

إلى الصلح، وقام إلى علي أناس، وهم القراء (1) منهم عبد الله بن وهب الراسبي في أناس كثير قد اخترطوا سوفهم، ووضعوها على عواتقهم، فقالوا لعلي: اتق الله، فإنك قد أعطيت العهد وأخذته منا، لنفنين أنفسنا أو لنفنين عدونا، أو يفئ إلى أمر الله، وإنا نراك قد ركبت إلى أمر فيه الفرقة والمعصية لله، والذل في الدنيا، فانهض بنا إلى عدونا، فلنحاكمه إلى الله بسيوفنا. حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين، لا حكومة الناس.

ما قال عثمان بن حنيف
ثم قام عثمان بن حنيف، فقال: أيها الناس، اتهموا رأيكم، فإنا والله قد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو رأينا قتالا قاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة، فامض على القضية، واتهم هذا الصلح.

ما قال الأشتر وقيس بن سعد

قال: فأنكرها الأشتر وقيس بن سعد وكانا أشد الناس على علي فيها قولا، فكان الذين عملوا في الصلح الأشعث بن قيس، وعدي بن حاتم وشريح بن هانئ، وعمرو بن الحمق وزحر بن قيس، ومن أهل الشام زيد بن أسد، ومخارق بن الحارث، وحمزة بن مالك. فلما رأى ذلك أبو الأعور قام إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين إن القوم لم يجيبوا إلى ما دعوناهم إليه حتى لم يجدوا من ذلك بدا وإنهم إن ينصرفوا العام يعودوا في قابل في سنة يبرأ فيها الجريح، وينسى القتيل، وقد أخذت الحرب منا ومنهم، غير أنهم اختلفوا على علي، ولم يختلف عليك أحد والخلاف أشد من القتل، ناجز القوم، فقال بشر بن أرطأة: والله إن الشام خير من العراق لعلي، وما في يدك لك، وما في يد علي لأصحابه دونه، فإنه كنت إنما سألت المدة لإعداد العدة، وانتظار المدد، فنعم، وإن كنت سألتها بغض الحرب، وبقيا على أهل الشام، فلا.

(هامش)

(1) ذكر الطبري وغيره أن عصابة من القراء منهم مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي ودعوه إلى إجابة القوم إلى ما دعوه إليه من كتاب الله وإلا دفعناك إليهم برغمك أو قتلناك كما قتلنا عثمان (الطبري 6 / 27 وقعة صفين ص 489 فتوح ابن الأعثم 2 / 312). (*)

ص 149

ذكر الاتفاق على الصلح وإرسال الحكمين

قال: وذكروا أن معاوية قال لأصحابه حين استقامت المدة، ولم يسم الحكمان: من ترون عليا يختار؟ فأما نحن فصاحبنا عمرو بن العاص. قال عتبة بن أبي سفيان: أنت أعلم بعلي منا. فقال معاوية: إن لعلي خمسة رجال من ثقاته، منهم عدي بن حاتم، وعبد الله بن عباس، وقيس بن سعد، وشريح بن هانئ، والأحنف بن قيس، وأنا أصفهم لك: أما ابن عباس فإنه لا يقوى عليه، وأما عدي بن حاتم فيرد عمرا سائلا، ويسأله مجيبا، وأما شريح بن هانئ فلا يدع لعمرو حياضا، وأما الأحنف بن قيس فبديهته كرويته، وأما قيس بن سعد فلو كان من قريش بايعته العرب. ومع هذا إن الناس قد ملوا هذه الحرب، ولم يرضوا إلا رجلا له تقية، وكل هؤلاء لا تقية لهم، ولكن انظروا أين أنتم من رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأمنه أهل الشام، وترضى به أهل العراق، فقال عتبة: ذلك أبو موسى الأشعري.

اختلاف أهل العراق في الحكمين

قال: وذكروا أن عليا لما استقام رأيه على أن يرسل عبد الله بن عباس مع عمرو بن العاص، قام إليه الأشعث بن قيس، وشريح بن هانئ، وعدي بن حاتم، وقيس بن سعد، ومعهم أبو موسى الأشعري، فقالوا: يا أمير المؤمنين هذا أبو موسى الأشعري وافد أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحب مغانم أبي بكر (1)، وعامل عمر بن الخطاب، وقد عرضنا على القوم ابن عباس فزعموا أنه قريب القرابة منك، ضنين في أمرك (2)، وأيم الله لو لقيت به عمرا لأخذ بصره، وغم صدره. ولكن الناس قد رضوا برجل يثق أهل العراق وأهل الشام بتقيته. فتكلم شبيب بن ربعي، فقال: إنا والله وإن خفنا على أبي موسى من عمرو ما لا يخافه أهل الشام على عمرو من أبي موسى، فلعل ما خفناه لا يضرنا، ولعل ما رجوا لا ينفعهم، فإن قلت في أبي موسى ضعف فضعفه وتقاه خير من قوة عمرو وفجوره، فأغلق به البلاء، وافتح به العافية. ثم

(هامش)

(1) أي الذي كان يتولى أمر قسمة المغانم والمقاسم ونحوها. (2) في وقعة صفين ص 502

ذكر هذا القول لابن الكواء. (*)

ص 150

تكلم ابن الكواء فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أجبت الله وأجبناك، ولكنا نقول: الله بيننا وبينك، إن كنت تخشى من أبي موسى عجزا فشر من أرسلت الخائن العاجز، ولست تحتاج من عقله إلا إلى حرف واحد، أن لا يجعل حقك لغيرك، فيدرك حاجته منك. ثم قال لأبي موسى: إعلم أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه ادعى الخلافة من غير مشورة، فإن صدقك فقد حل خلعه، وإن كذبك فقد حرم عليك كلامه، وإن ادعى أن عمر وعثمان استعملاه، فلقد صدق، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب من المريض، يحميه ما يشتهي، ويوجره ما يكره، ثم استعمله عثمان برأي عمر وما أكثر من استعملا ممن لم يدع الخلافة، واعلم أن لعمرو مع كل شيء يسرك خبرا يسوؤك، ومهما نسيت فلا تنس أن عليا بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنها بيعة هدي، وأنه لم يقاتل إلا عاصيا أو ناكثا. فقال أبو موسى: رحمك الله، أما والله ما لي إمام غير علي، وإني لواقف عندما رأى، ولرضاء الله تعالى أحب إلي من رضاء الناس، وما أنا وأنت إلا بالله تعالى (1).

ما قال أهل الشام لأهل العراق

قال: وذكروا أن أهل الشام قالوا لأهل العراق: أعطونا رجالا نسميهم لكم، يكونوا شهودا على ما يقوله صاحبنا وصاحبكم، بيننا وبينكم صحيفة، فقال علي: سموا من أحببتم، فسموا ابن عباس، والأشعث بن قيس، وزياد بن كعب، وشريح بن هانئ، وعدي بن حاتم، وحجر بن عدي، وعبد الله بن الطفيل، وسفيان بن ثور، وعروة بن عامر، وعبد الله بن حجر، وخالد بن معمر، وطلب أهل العراق من أهل الشام: عتبة بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ويزيد بن أسيد، وأبا الأعور، والحصين بن نمير، وحمزة بن مالك، وبسر بن أرطاة، والنعمان بن بشير، ومخارق بن الحارث.

(هامش)

(1) ولما رأى علي أن القوم مصرون على أبي موسى الأشعري رغم اتهامه له قال لهم: فاصنعوا ما أردتم، وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه. اللهم إني أبرأ إليك من صنيعهم. وفي ذلك يقول خريم بن فاتك الأسدي: لو كان للقوم رأي يعصمون به * عند الخطوب رموكم بابن عباس لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن * لم يدر ما ضرب أخماس بأسداس ما الأشعري بمأمون أبا حسن * خذها إليك وليس الفخذ كالرأس (*)

ص 151

فلما سمى أهل العراق رجال أهل الشام، وسمى أهل الشام رجال أهل العراق، قال معاوية: أين يكون هذان الرجلان؟ فرضي الناس أن يكونا بدومة الجندل.

ما قال الأحنف بن قيس لعلي

قال: فلما لم يبق إلا الكتاب، قال الأحنف بن قيس لعلي: يا أمير المؤمنين إن أبا موسى رجل يماني، وقومه مع معاوية، فابعثني معه، فوالله لا يحل لك عقدة إلا عقدت لك أشد منها، فإن قلت: إني لست من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم، فابعث (1) ابن عباس وابعثني معه (2).

ما قال علي كرم الله وجهه

فقال علي: إن الأنصار والقراء أتوني بأبي موسى، فقالوا: ابعث هذا، فقد رضيناه، ولا نريد سواه، والله بالغ أمره.

الاختلاف في كتابة صحيفة الصلح

قال: فوضع الناس السلاح، والتقوا بين العسكرين، فلما جئ بالكتاب قال علي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ومعاوية بن أبي سفيان، فقال معاوية: علام قاتلناك إذا كنت أمير المؤمنين؟ اكتب: علي بن أبي طالب. فقال الأشعث: اطرح هذا الاسم فإنه لا يضرك، فضحك علي، ثم قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية (3)، حين صده المشركون عن مكة، فقال: يا علي اكتب: هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله ومشركو قريش، فقال سهيل بن عمرو: لقد ظلمناك إذا يا محمد إن قاتلناك وأنت رسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب محمد بن عبد الله، وإني

(هامش)

(1) في وقعة صفين ص 502 فابعث غير عبد الله بن قيس . (2) أنظر وقعة صفين ص 501 وابن الأعثم 3 / 5 في كلام كثير. والأخبار الطوال ص 193. (3) راجع بشأن صلح الحديبية سيرة ابن هشام 2 / 180 الطبري 3 / 79 الكامل للمبرد ص 540 وقعة صفين لابن مزاحم ص 275. (*)

ص 152

رسول الله. وكنت إذا أمرني بشيء رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعت، وإذا قال مشركو قريش أبطأت به، وإذا كتبت شيئا قال نبي الله، امحها، فتعاظمني ذلك. فدعا بمقراض فقرضه، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، فقال أبو الأعور: أو معاوية وعلي، فقال الأشعث: لا لعمر الله، ولكن نبدأ بأولهما إيمانا وهجرة، وأدناهما من الغلبة. فقال معاوية: قدموا أو أخروا، تقاضوا على أن عليا ومن معه من شيعته من أهل العراق (1)، ومعاوية ومن معه من أهل الشام، أنا ننزل عند حكم الله وكتابه، من فاتحته إلى خاتمته، ما أحيا القرآن أحييناه، وما أمات القرآن أمتناه، وما لم يجد عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص في القرآن حكما بما يجدان في السنة العادلة (2)، غير المفرقة، وعلى علي ومعاوية، وتبيعتهما وضع السلاح إلى انقضاء هذه المدة، وهي من رمضان إلى رمضان، وعلى أن عبد الله بن قيس وعمرا آمنان على دمائهما وأموالهما وحريمهما والأمة على ذلك أنصار، وعليهما مثل الذي أخذا أن يقضيا بما في كتاب الله تعالى، وما لم يجدا في كتاب الله قضيا بما يجدان في السنة، وعليهما، أن لا يؤخرا أمرهما عن هذه المدة، فإن أحبا أن (3) أن يقولا قبل انقضائها، فلهما أن يقولا عن تراض منهما، على أن يرجع أهل العراق إلى العراق، وأهل الشام إلى الشام، فيكون الاجتماع إلى دومة الجندل (4)، فإن رضيا أن يجتمعا بغيرهما فلهما ذلك، ولهما ألا يحضرهما إلا من أحبا، ولا يشهدا إلا من أرادا، وهؤلاء النفر

(هامش)

(1) زيد في فتوح ابن الأعثم: وأهل الحجاز. (2) في الطبري: السنة العادلة الجامعة. (3) في الطبري: أن أحبا أن يؤخرا ذلك عن تراض بينهما. (4) ذكر بعض الرواة إلى أن التحكيم جرى بأذرح، ومنهم من قال أنها كانت بدومة الجندل، وقد أكثر الشعراء في ذكر أذرح وأن التحكيم كان بها وفي معجم البلدان: وبأذرح إلى الجرباء كان أمر الحكمين بين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، وقيل بدومة الجندل والصحيح أذرح والجرباء ويشهد بذلك قول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى: فشد إصار الدين أيام أذرح * ورد حروبا قد لقحن إلى عقر وكان الأصمعي يلعن كعب بن جعيل لقوله في عمرو بن العاص: كأن أبا موسى عشية أذرح * يطيف بلقمان الحكيم يوار به وقال الأسود بن الهيثم: لما تداركت الوفود بأذرح * وفي أشعري لا يحل له غدر (*)

ص 153

من أهل العراق وأهل الشام ضامنون بالوفاء إلى هذه المدة، فكتب أهل العراق بهذا كتابا لأهل الشام (1)، وكتب أهل الشام كتابا بهذا لأهل العراق، بخط عمرو ابن عبادة (2) كاتب معاوية، وشهد شهود أهل الشام على أهل العراق، وشهد شهود أهل العراق على أهل الشام (3). فلما كتب الكتابان أقبل رجل من بني يشكر، على فرس له أبلق، حتى وقف بين الصفين على علي، فقال: يا علي، أكفر بعد إسلام، ونقض بعد توكيد، وردة بعد معرفة؟ أنا من صحيفتيكما برئ، وممن أقر بها برئ، ثم حمل على أصحاب معاوية، فطعن منهم، حتى إذا عطش أتى عسكر علي، فاستسقى فسقي، ثم حمل على عسكر علي، فطعن فيهم، حتى إذا عطش أتى عسكر معاوية، فاستسقى فسقي.

ما وصى به شريح بن هانئ أبا موسى

(4)

قال: وذكروا أن شريح بن هانئ أخذ بيد أبي موسى فقال: يا أبا موسى إنك قد نصبت لأمر عظيم لا يجبر صدعه، ولا تستقال فلتته (5)، ومهما تقل من شيء لك أو عليك يثبت حقه، ويزيل باطله، إنه لا بقاء لأهل العراق إن ملكها معاوية، ولا بأس بأهل الشام إن ملكها علي، فانظر في ذلك من يعرف هذا الأمر حقا.

(هامش)

(1) بخط عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي. (2) في ابن الأعثم عمار بن عباد الكلبي. وفي كتاب صفين ص 507: وكتب عمر.. وفي ص 511 وكتب عميرة. وقد ذكر الجهشياري في كتاب الوزراء والكتاب من كتب لمعاوية ص 24 - 27: عبيد الله بن أوس الغساني، وسرجون بن منصور الرومي، عبد الرحمن بن دراج، سليمان بن سعيد، عبيد الله بن نصر بن الحجاج بن علاء السلمي، حبيب بن عبد الملك بن مروان، ابن أوثال النصراني. ولم يذكر الطبري في كتاب معاوية من اسمه عمار أو عمر بن عباد أو عبادة. (3) أنظر في شهود أهل العراق وأهل الشام ذيل وثيقة التحكيم في وقعة صفين ص 506 - 507 الطبري 6 / 29 الأخبار الطوال 194 معجم البلدان 4 / 109. (4) كان أبو موسى قد أقبل إلى علي وقال له: يا أمير المؤمنين إني لست آمن الغوائل فابعث معي قوما من أصحابك إلى دومة الجندل، فبعث معه علي رضي الله عنه شريح بن هانئ في خمسمئة رجل. (5) في ابن الأعثم: ولا يستقال عثرته وفي وقعة صفين لابن مزاحم: ولا يستقال فتقه وفي نسخة: ولا تستقال فتنته. (*)

ص 154

ما وصى به الأحنف بن قيس أبا موسى

قال: ثم جاء الأحنف بن قيس، فأخذ بيده، ثم قال: يا أبا موسى، اعرف خطب هذا الأمر، واعلم أن له ما بعده، وإنك إن ضيعت العراق، فلا عراق لك، فاتق الله، فإنك تجمع بذلك دنيا وأخرى، وإذا لقيت عمرا غدا فلا تبادره بالسلام (1)، فليس من أهله، ولا تعطه يدك، فإنها أمانة، وإياك أن يقعدك على صدر الفراش، فإنها خدعة، ولا تلقه إلا وحده، وإياك أن يكلمك في بيت فيه مخدع يخبأ لك فيه رجالا (2)، وإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي، فخيره أن يختار أهل العراق من قريش أهل الشام من شاؤوا، فإنهم إن يولوا الخيار يختاروا من يريدون، فإن أبى فلتختر أهل الشام من قريش أهل العراق من شاؤوا، فإن فعلوا كان الأمر بيننا.

ما قال معاوية لعمرو

قال: وذكروا أن معاوية قال لعمرو: إن أهل العراق أكرهوا عليا على أبي موسى، وأنا وأهل الشام راضون بك، وأرجو في دفع هذه الحرب خصالا: قوة لأهل الشام، وفرقة لأهل العراق، وإمدادا لأهل اليمن، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان، قصير الرأي، وله على ذلك دين وفضل، فدعه يقل، فإذا هو قال فاصمت، واعلم أن حسن الرأي زيادة في العقل، إن خوفك العراق فخوفه بالشام، وإن خوفك مصر فخوفه باليمن، وإن خوفك عليا فخوفه بمعاوية، وإن أتاك بالجميل، فأته بالجميل. قال عمرو: يا أمير المؤمنين، أقلل الاهتمام بما قبلي، وارج الله تعالى فيما وجهتني له، إنك من أمرك على مثل حد السيف، لم تنل في حربك ما رجوت، ولم تأمن ما خفت، ونحن نرجو أن يصنع الله تعالى لك خيرا، وقد ذكرت لأبي موسى دينا، وإن الدين منصور، أرأيت إن ذكر عليا وجاءنا بالإسلام والهجرة واجتماع الناس عليه، ما أقول؟ فقال معاوية: قل ما تريد وترى. قال: فانصرف عمرو إلى منزله، فقال لأصحابه: هل ترون ما أراد معاوية من تصغير أبي موسى؟ قالوا: لا، قال: عرف أني خادعه غدا.

(هامش)

(1) في وقعة صفين ص 536: فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها. (2) يريد رجالا شهود، يسمعون كلام أبي موسى ويشهدون عليه دون أن يعلم. (*)

ص 155

ما قال شرحبيل لعمرو

قال: وأتى شرحبيل بن السمط إلى عمرو، فقال: يا عمرو، إنك رجل قريش، وإن معاوية لم يبعثك إلا لثقته بك، واعلم أنك لا تؤتى من عجز (1)، وقد علمت أن وطأة هذا الأمر لصاحبك ولك، فكن عند ظننا بك.

اجتماع أبي موسى وعمرو

قال: وذكروا أن أبا موسى وعمرا لما اجتمعا بدومة الجندل، وحضرهما من يليهما من العرب، ليستمعوا قول الرجلين، فلما التقيا استقبل عمرو أبا موسى، فأعطاه يده وضم عمرو أبا موسى إلى صدره، فقال: يا أخي قبح الله أمرا فرق بيننا، ثم أقعد أبا موسى على صدر الفراش، وأقبل عليه بوجهه، والناس مجتمعون، فلم يزالا حتى تفرقا، ومكثا أياما يلتقيان في أمرهما سرا وجهرا، وأقبل الأشعث بن قيس، وكان من أحرص الناس على إتمام الصلح، والراحة من الحرب، فقال: يا هذان، إنا قد كرهنا هذه الحرب، فلا ترداها إلينا، فإنها مرة الرضاع والفطام، فكفاها بما شئتما.

ما قال سعيد بن قيس للحكمين

قال: فأقبل سعيد بن قيس، وكان من النصحاء لعلي كرم الله وجهه، فقال: أيها الرجلان، إني أراكما قد أبطأتما بهذا الأمر حتى أيس القوم منكما، فإن كنتما اجتمعتما على خير فأظهراه، نسمعه ونشهد عليه، وإن كنتما لم تجتمعا رجعنا إلى الحرب.

ما قال عدي بن حاتم لعمرو

قال: وذكروا أن عديا قال لعمرو: أما والله يا عمرو إنك لغير مأمون الغناء، وإنك يا أبا موسى لغير مأمون الضعف، وما ننتظر بالقول منكما إلا أن تقولا (2)،

(هامش)

(1) زيد في وقعة صفين ص 536: ومكيدة. (2) كذا بالأصل، وفي فتوح ابن الأعثم 3 / 25 نسب هذا القول إلى عمرو بن العاص. وزيد فيه: فأمسك عنك يا هذا. (*)

ص 156

والله ما لكما مع كتاب الله إيراد ولا صدر. فقال أبو موسى: كفوا عنا فإنا إنما نقول فيما بقي، ولسنا نقول فيما مضى.

ما قال عمرو لأبي موسى

قال: وذكروا أن عمرا غدا على أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، قد عرفت حال معاوية في قريش، وشرفه في بني عبد مناف، وأنه ابن هند، وابن أبي سفيان، فما ترى؟ فقال أبو موسى: أما معاوية فليس بأشرف في قريش من علي، ولو كان هذا الأمر على شرف الجاهلية، كان أخوال ذي أصبح (1)، ولكنني أرى وترى، وباعده أبو موسى، ثم غدا عليه عمرو، فقال: يا أبا موسى إن قال قائل: إن معاوية من الطلقاء، وأبوه رأس الأحزاب، لم يبايعه المهاجرون والأنصار فقد صدق، وإذا قال إن عليا آوى قتلة عثمان، وقتل أنصاره يوم الجمل، وبرز على أهل الشام بصفين فقد صدق، وفينا وفيكم بقية، وإن عادت الحرب ذهب ما بقي، فهل لك إن تخلعهما جميعا، وتجعل الأمر لعبد الله بن عمر، فقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبسط في هذه الحرب يدا ولا لسانا، وقد علمت من هو مع فضله وزهده وورعه وعلمه، فقال أبو موسى: جزاك الله بنصيحتك خيرا، وكان أبو موسى لا يعدل بعبد الله بن عمر أحدا، لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكانه من أبيه، لفضل عبد الله في نفسه، وافترقا على هذا الأمر، واجتمع رأيهما على ذلك (2). ثم إن عمرا غدا على أبي موسى بالغد، وجماعة الشهود، فقال: يا أبا موسى، ناشدتك الله تعالى، من أحق بهذا الأمر؟ من أوفى، أو من غدر؟ قال أبو موسى: من أوفى. قال عمرو: يا أبا موسى، نشدتك الله تعالى، ما تقول في عثمان؟ قال أبو موسى: قتل مظلوما. قال عمرو: فما الحكم فيمن قتل؟ قال أبو موسى: يقتل بكتاب الله تعالى. قال: فمن يقتله؟ قال: أولياء عثمان. قال: فإن الله يقول في

(هامش)

(1) في وقعة صفين ص 541: ولو كان على الشرف كان أحق الناس بهذا الأمر أبرهة بن الصباح. (2) اختلفوا في ذلك، فقيل إن أبا موسى هو الذي أشار على ابن العاص بخلع الرجلين (علي ومعاوية) وتولية عبد الله بن عمر وقد أشار ابن العاص إلى تولية ابنه عبد الله فقال له أبو موسى: إن ابنك رجل صدق ولكنك غمسته في هذه الفتنة. فرفض عمرو بن العاص رأي أبي موسى، واتفقا على خلع الرجلين وجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم من شاؤوا ومن أحبوا (أنظر وقعة صفين ص 544 و545 الطبري 5 / 68 - 69 الأخبار الطوال ص 200). (*)

ص 157

كتابه العزيز: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) [الإسراء: 33]. قال: فهل تعلم أن معاوية من أولياء عثمان؟ قال: نعم (1). قال عمرو للقوم: اشهدوا. قال أبو موسى للقوم: اشهدوا على ما يقول عمرو. ثم قال أبو موسى لعمرو: قم يا عمرو، فقل وصرح بما اجتمع عليه رأيي ورأيك، وما اتفقنا عليه، فقال عمرو: سبحان الله! أقوم قبلك (2) وقد قدمك الله قبلي في الإيمان والهجرة، وأنت وافد أهل اليمن إلى رسول الله، ووافد رسول الله إليهم، وبك هداهم الله، وعرفهم شرائع دينه، وسنة نبيه، وصاحب مغانم أبي بكر وعمر! ولكن قم أنت فقل، ثم أقوم فأقول. فقام أبو موسى (3)، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس. إن خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وإني لا أهلك ديني بصلاح غيري، إن هذه الفتنة قد أكلت العرب، وإني رأيت وعمرا أن نخلع عليا ومعاوية، ونجعلها لعبد الله بن عمر (4)، فإنه لم يبسط في هذه الحرب يدا ولا لسانا، ثم قام عمرو فقال: أيها الناس، هذا أبو موسى شيخ المسلمين، وحكم أهل العراق ومن لا يبيع الدين بالدنيا، وقد خلع عليا وأنا أثبت معاوية. فقال أبو موسى: ما لك؟ عليك لعنة الله! ما أنت إلا كمثل الكلب تلهث! فقال عمرو: لكنك مثل الحمار يحمل أسفارا، واختلط الناس، فقالوا: والله لو اجتمعنا على هذا ما حولتمانا عما نحن عليه، وما صلحكما بلازمنا، وإنا اليوم على ما كنا عليه أمس، ولقد كنا ننظر إلى هذا قبل أن يقع، وما أمات قولكما حقا، ولا أحيا باطلا. ثم تشاتم أبو موسى وعمرو، ثم انصرف عمرو إلى معاوية، ولحق أبو موسى بمكة، وانصرف القوم إلى علي، فقال عدي: أما والله

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال ص 199: أن أولى منه ابنه عمرو بن عثمان. (2) كان عمرو بن العاص ومنذ اللقاء الأول بأبي موسى قد قدمه إن في الكلام أو الجلوس وكرمه كثيرا، وقد عوده أن يقدمه في كل شيء وقد اغتره بذلك ليقدمه فيبدأ بخلع علي، وكان عمرو قد حاك خدعته بدقة وأحاط بأبي موسى من كل جانب، والرجل غافل لا يدري كيف تجري الأمور، وما يخطط عمرو وما يرسم في ذهنه حتى أن معاوية نفسه شكك بنية عمرو واسترابه. (3) عندما قام أبو موسى ليتكلم، قال له ابن عباس يحذره، ويحك إني لأظنه قد خدعك إن كنتما اتفقتما على أمر فقدمه قبلك فيتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تتكلم أنت بعده، فإن عمرا رجل غدار، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت به في الناس خالفك. فقال له أبو موسى: إنا قد اتفقنا (وقعة صفين لابن مزاحم ص 545 - الطبري 5 / 70). (4) في بعض الروايات: شورى بين المسلمين (أنظر الحاشية رقم: 2 في الصفحة السابقة). (*)

ص 158

يا أمير المؤمنين، لقد قدمت القرآن، وأخرت الرجال، وجعلت الحكم لله. فقال علي: أما إني قد أخبرتكم أن هذا يكون بالأمس، وجهدت أن تبعثوا غير أبي موسى، فأبيتم علي، ولا سبيل إلى حرب القوم حتى تنقضي المدة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قم يا حسن فتكلم في أمر هذين الرجلين: أبي موسى وعمرو. فقام الحسن، فتكلم، فقال: أيها الناس، قد أكثرتم في أمر أبي موسى وعمرو، وإنما بعثا ليحكما بالقرآن دون الهوى، فحكما بالهوى دون القرآن، فمن كان هكذا لم يكن حكما، ولكنه محكوم عليه، وقد كان من خطأ أبي موسى أن جعلها لعبد الله بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: خالف (يعني أبا موسى) أباه عمر، إذ لم يرضه لها (1)، ولم يره أهلا لها، وكان أبوه أعلم به من غيره، ولا أدخله في الشورى إلا على أنه لا شيء له فيها، شرطا مشروطا من عمر على أهل الشورى، فهذه واحدة، وثانية: لم تجمع عليه المهاجرون والأنصار، الذين يعقدون الإمامة، ويحكمون على الناس، وثالثة: لم يستأمر الرجل في نفسه، ولا علم ما عنده من رد أو قبول (2). ثم جلس. ثم قال علي لعبد الله بن عباس، قم فتكلم. فقام عبد الله بن عباس، وقال: أيها الناس، إن للحق أناسا أصابوه بالتوفيق والرضا والناس بين راض به، وراغب عنه، وإنما سار أبو موسى بهدى إلى ضلال (3)، وسار عمرو بضلالة إلى هدى، فلما التقيا رجع أبو موسى عن هداه، ومضى عمرو على ضلاله، فوالله لو كانا حكما عليه بالقرآن لقد حكما عليه، ولئن كان حكما بهواهما على القرآن، ولئن مسكا بما سارا به لقد سار أبو موسى وعلي إمامه، وسار عمرو ومعاوية إمامه. ثم جلس فقال علي لعبد الله بن جعفر: قم فتكلم. فقام وقال: أيها الناس هذا أمر كان النظر فيه لعلي، والرضا فيه إلى غيره، جئتم بأبي موسى، فقلتم قد رضينا هذا، فارض به (4)، وأيم الله ما أصلحا بما فعلا الشام، ولا أفسدا العراق

(هامش)

(1) تقدم أن عمر بن الخطاب لما جعل الأمر شورى بين الستة على أن يختاروا واحدا منهم جعل ابنه عبد الله مستشارا وليس له من الأمر شيئا. (2) زيد في العقد الفريد 4 / 350: وأما الحكومة فقد حكم النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بما يرضي الله به ولا شك، ولو خالف لم يرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3) في العقد الفريد: ضلالة. (4) زيد في العقد الفريد: وأيم الله ما استفدنا به علما، ولا انتظرنا منه غائبا، وما نعرفه صاحبا. (*)

ص 159

ولا أماتا حق علي، ولا أحييا باطل معاوية، ولا يذهب الحق قلة رأي، ولا نفخة شيطان، وإنا لعلي اليوم كما كنا أمس عليه. ثم جلس.

كتاب ابن عمر إلى أبي موسى

قال: وذكروا أن عبد الله بن عمر لما بلغه ما كان من رأي أبو موسى، كتب إليه: أما بعد يا أبا موسى، فإنك تقربت إلي بأمر لم تعلم هواي فيه، أكنت تظن أني أبسط يدا إلى أمر نهاني عنه عمر؟ أو كنت تراني أتقدم على علي وهو خير مني؟ لقد خبت إذا وخسرت، وما أنا من المهتدين، فأغضبت بقولك وفعلك علي عليا ومعاوية، ثم أعظم من ذلك خديعة عمرو إياك، وأنت حامل القرآن، ووافد أهل اليمن إلى نبي الله، وصاحب مغانم أبي بكر وعمر، فقدمك عمرو للقول مخادعا، حتى خلعت عليا قبل أن تخلع معاوية، ولعمري ما يجوز لك على علي ما جاز لعمرو على معاوية، ولا ما جاز لنا عليه، ولقد كرهنا ما رضيت وأردت، إن الحاكم هو من يحكم بما حكم الله بين الناس، ولم تبلغ من خطيئتك عنده ما غير أمرك في خلاف هواه. فلما أتى أبا موسى كتاب ابن عمر كتب إليه: أما بعد، فإني والله ما أردت بتوليتي إياك وبيعتي لك القربة إليك، ما أردت بذلك إلا الله عز وجل، وما تقلدي أمر هذه الأمة غير مستكره، فإنهم كانوا على مثل حد السيف، فقلت: إلى سنة محيا وممات، إن يصطلحوا فهو الذي أردت، وإلا لم يرجعوا إلى أعظم مما كانوا عليه، وأما إغضابي عليك عليا ومعاوية، فقد غضبا عليك قبل ذلك، وأما خديعة عمرو إياي، فوالله ما ضر بخديعته عليا، ولا نفع معاوية، وقد كان الشرط ما اجتمعنا عليه، لا ما اختلفنا فيه، وأما نهي أبيك، فوالله لو تم الأمر لأكرهت عليه.

كتاب معاوية إلى أبي موسى

قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى أبي موسى بعد الحكومة وهو بمكة: أما بعد، فأكره من أهل العراق ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام، فإني خير لك من علي، والسلام (1).

(هامش)

(1) نص الكتاب في العقد الفريد 4 / 348 باختلاف وزيادة. (*)

ص 160

جوابه فكتب إليه أبو موسى: أما بعد، فإنه لم يكن مني في علي إلا ما كان من عمرو فيك، غير أني أردت بما صنعت وجه الله، وأراد عمرو بما صنع ما عندك، وقد كان بيني وبينه شروط (1) عن تراض، فلما رجع عمرو رجعت، وأما قولك: إن الحكمين إذا حكما على أمر فليس للمحكوم عليه أن يكون بالخيار، إنما ذاك في الشاة والبعير (2)، وأما في أمر هذه الأمة فليست تساق إلى ما تكره، ولن تذهب بين عجز عاجز، ولا كيد كائد، ولا خديعة فاجر، وأما دعاؤك إياي إلى الشام، فليس لي بدل ولا إيثار عن قبر ابن إبراهيم أبي الأنبياء.

كتاب علي إلى أبي موسى

قال: وذكروا أنه لما بلغ عليا كتاب أبي موسى رق له، وأحب أن يضمه إليه، فكتب إليه: أما بعد، فإنك امرؤ ضللك الهوى (3)، واستدرجك الغرور، فاستقل الله يقلك عثرتك، فإنه من استقال الله أقاله، إن الله يغفر ولا يغير (4)، وأحب عباده إليه المتقون (5)، والسلام. فلما انتهى كتاب علي إلى أبي موسى هم أن يرجع، ثم قال لأصحابه: إني امرؤ غلب علي الحياء، ولا يستطيع هذا الأمر رجل فيه حياء. جوابه فكتب أبو موسى إلى علي: أما بعد، فلولا أني خشيت أن يؤول منع الجواب إلى أعظم مما في نفسك لم أجبك، لأنه ليس عذر ينفعني، ولا عذر (6) يمنعني منك، وأما التزامي مكة، فإني امتنسرت إلى أهل الشام، وانقطعت من

(هامش)

(1) في العقد فريد: شروط وشورى. (2) زيد في العقد: والدينار والدرهم. (3) في العقد الفريد 4 / 349 ظلمك الهوى. (4) في العقد: ولا يغفل. (5) في العقد: التوابون. (6) في العقد: ولا قوة. (*)

ص 161

أهل العراق، وأصبت أقواما صغروا من ذنبي ما عظمتم، وعظموا من حقي ما صغرتم، فأقمت بين أظهرهم، إذ لم يكن لي منكم ولي ولا نصير.

ذكر الخوارج على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه

قال: وذكروا أنه لما كان من الحكمين ما كان، لقيت الخوارج بعضها بعضا، فاجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا (1) آثر عندهم من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقول بالحق، وإن (2) ضر ومر فإنه إن يضر ويمر (3) في هذه الدنيا، فإن ثوابه يوم القيامة رضوان الله، وخلود الجنة، فاخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدعة المضلة، والأحكام الجائرة. فقال حرقوص بن زهير: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعوكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلونكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (4)، يا قوم إن الرأي ما قد رأيتم، والحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، ومن راية تحفون حولها، وترجعون إليها. ثم اجتمعوا في منزل زفر (5) بن حصين الطائي، فقالوا (6): إن الله أخذ عهودنا ومواثيقنا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقول بالحق، والجهاد في تقويم السبيل، وقد قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد) [ص: 26]. وقال: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)

(هامش)

(1) في الطبري 5 / 74: التي الرضا بها والركون بها والإيثار إياها عناء وتبار . (2) عند الطبري: وإن من وضر. (3) عند الطبري: ويمن. (4) في الطبري من هنا هذا القول نسب إلى حمزة بن سنان الأسدي. (5) عند الطبري 5 / 75 وابن الأثير 2 / 399 زيد وفي الأخبار الطوال ص 204 يزيد . (6) في الأخبار الطوالص 202 نسب هذا القول إلى عبد الله بن وهب الراسبي بعد تأميره عليهم. (*)

ص 162

[المائدة: 44]. فاشهدوا على أهل دعوتنا أن قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم القرآن (1)، وجاروا في الحكم والعمل، وأن جهادهم على المؤمنين فرض، وأقسم بالذي تعنو له الوجوه، وتخشع دونه الأبصار، لو لم يكن أحد على تغيير المنكر، وقتال القاسطين مساعدا، لقاتلتهم وحدي فردا، حتى ألقى الله ربي، فيرى أني قد غيرت إرادة رضوانه بلساني (2)، يا إخواننا، اضربوا جباههم ووجوههم بالسيف، حتى يطاع الرحمن عز وجل، فإن يطع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له، الآمرين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أعظم من المسير إلى رضوان الله وجنته. واعلموا أن هؤلاء القوم خرجوا لإقصاء حكم الضلالة (3)، فاخرجوا بنا إلى بلد نتعد فيه الاجتماع من مكاننا هذا، فإنكم قد أصبحتم بنعمة ربكم، وأنتم أهل الحق بين الخلق، إذ قلتم بالحق، وصمتم لقول الصدق، (4) فاخرجوا بنا إلى المدائن نسكنها فنأخذ بأبواها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى أخواننا من أهل البصرة، فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين الطائي: إن المدائن بها قوم يمنعونكم منها، ويمنعونها منكم، ولكن اكتبوا إلى إخوانكم من أهل البصرة، فأعلموهم بخروجكم، وسيروا أنتم على المدائن، فانزلوا بجسر النهروان (5) قالوا: هذا هو الرأي فاجتمعوا على ذلك،

وكتبوا إلى إخوانهم من أهل البصرة:

أما بعد، فإن أهل دعوتنا حكموا الرجال في أمر الله، ورضوا بحكم القاسطين على عباده، فخالفناهم ونابذناهم، نريد بذلك الوسيلة إلى الله، وقد قعدنا بجسر النهروان وأحببنا إعلامكم لتأخذوا بنصيبكم من الأجر، والسلام. الجواب فكتبوا إليهم: أما بعد، فقد بلغنا كتابكم، وفهمنا ما ذكرتم. وقد وهبنا لكم

(هامش)

(1) في الأخبار الطوال: الكتاب. (2) من هنا نسب الكلام في الأخبار الطوال ص 203 إلى عبد الله بن السخبر وكان من المبرنسين. (3) هذا الكلام نسب في الطبري وابن الأثير إلى عبد الله بن وهب. (4) هذا الكلام نسب في الطبري وابن الأثير إلى شريح بن أوفى العبسي. (5) النهروان: ثلاث قرى بين واسط وبغداد. وانظر كتابهم إلى أهل البصرة في الأخبار الطوال ص 204. (*)

ص 163

الرأي الذي جمعكم الله عليه من الطاعة، وإخلاص الحكم لله، وأعمالكم أنفسكم فيما يجمع الله به كلمتكم، وقد أجمعنا على المسير إليكم عاجلا. وكان بدء خروجهم أنهم اجتمعوا في منزل حرقوص بن زهير ليلة الخميس، فقالوا: متى أنتم خارجون؟ قالوا: الليلة القابلة من يوم الجمعة، فقال لهم حرقوص: بل أقيموا ليلة الجمعة تتعبدوا لربكم، وأوصوا فيها بوصايكم، ثم اخرجوا ليلة السبت مثنى ووحدانا لا يشعر بكم.

خطبة علي كرم الله وجهه قالوا (1):

فلما خرج جميع الخوارج، وتوافروا إلى النهروان، قام علي بالكوفة على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن معصية العالم الناصح تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين، وفي هذه الحكومة بأمري (2)، فأبيتم إلا ما أردتم (2)، فأحييا ما أمات القرآن، وأماتا ما أحيا القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه، يحكم بغير حجة، ولا سنة ظاهرة، واختلفا في أمرهما وحكمهما، فكلاهما لم يرشد الله، فبرئ الله منهما ورسوله وصالحو المؤمنين، فاستعدوا للجهاد، وتأهبوا للمسير، ثم أصبحوا في معسكركم يوم الاثنين بالنخيلة (3)، وإنما حكمنا من حكمنا، ليحكما بالكتاب، فقد علمتم أنهما حكما بغير الكتاب، وبغير السنة، ووالله لأغزونهم ولو لم يبق أحد غيري لجاهدتهم، وأعطى الناس العطاء وهم بالجهاد (4).

كتاب علي كرم الله وجهه للخوارج قالوا:

فأجمع رأي علي والناس على المسير إلى معاوية بصفين، فتجهز معاوية وخرج حتى نزل بصفين، وأصبح علي قد تجهز وعسكر، فقيل له: يا

(هامش)

(1) قال في الأخبار الطوال ص 204: ثم إن القوم خرجوا من الكوفة عباد يد الرجل والرجلين والثلاثة.. ووافاهم من كان على رأيهم من أهل البصرة وكانوا 500 رجل حتى وافوا نهروان. (2) زيد في النهج: ونخلت لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر. (3) النخيلة: موضع بالعراق. (4) قارن مع الطبري 5 / 77 وابن الأثير 2 / 400 - 401. الأخبار الطوال ص 207 - 208 مروج الذهب 2 / 447. (*)

ص 164

أمير المؤمنين إنه قد افترقت منا فرقة، فذهبت، قال: فكتب إليهم علي (1): أما بعد، فإن هذين الرجلين الخاطئين الحاكمين، اللذين ارتضيتم حكمين، قد خالفا كتاب الله، واتبعا هواهما بغير هدى من الله، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكما، فبرئ الله منهما ورسوله وصالحو المؤمنين، إذا بلغكم كتابنا هذا فأقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الذي كنا عليه، والسلام. قال: فكتبوا إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لله، إنما غضبت لنفسك، والله لا يهدي كيد الخائنين. قال: فلما رأى علي كتابهم أيس منهم، ورأى أن يدعهم، ويمضي بالناس إلى معاوية وأهل الشام فيناجزهم فقام علي خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن من ترك الجهاد وداهن في أمر الله كان على شفا هلكة، إلا أن يتداركه الله برحمته، فاتقوا الله عباد الله، قاتلوا من حاد الله، وحاول أن يطفئ نور الله، قاتلوا الخاطئين، القاتلين لأولياء الله، المحرفين لدين الله، الذين ليسوا بقراء الكتاب ولا فقهاء في الدين، ولا علماء بالتأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في دين، ولا سابقة في الإسلام، ووالله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بعمل كسرى وقيصر. فسيروا وتأهبوا للقتال، وقد بعثت لإخوانكم من أهل البصرة، ليقدموا عليكم فإذا قدموا واجتمعتم شخصنا إن شاء الله (2).

كتاب علي إلى ابن عباس

قالوا: وكان علي قد كتب إلى ابن عباس وإلى أهل البصرة: أما بعد، فإنا أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل الشام (3)، فأشخص إلي من قبلك من الناس، وأقم حتى آتيك، والسلام.

ما قال ابن عباس إلى أهل البصرة

فلما قدم كتاب علي على ابن عباس، قرأه على الناس، ثم أمرهم

(هامش)

(1) قارن مع نسخة الكتاب في الطبري 5 / 77 والأخبار الطوال ص 208 والكامل لابن الأثير ص 2 / 401 فتوح ابن الأعثم 4 / 106 باختلاف في الألفاظ وزيادة ونقصان في التعابير. (2) قارن خطبته مع الطبري 5 / 78 وابن الأثير 2 / 401 مروج الذهب 2 / 449. (3) في الطبري وابن الأثير: من أهل المغرب. (*)

ص 165

بالشخوص مع الأحنف بن قيس، فشخص معه منهم ألف وخمس مئة رجل، فاستقبلهم ابن عباس، فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل البصرة، قد جاءني كتاب أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم، فأمرتكم بالمسير إليه مع الأحنف بن قيس، فلم يشخص إليه منكم إلا ألف وخمس مئة، وأنتم في الديوان ستون ألفا سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم. ألا فانفروا (1)، ولا يجعل امرؤ على نفسه سبيلا، فإني موقع بكل من وجدته تخلف عن دعوته، عاصيا لإمامه، حزنا يعقب ندما، وقد أمرت أبا الأسود بحشدكم، فلا يلم امرؤ جعل السبيل على نفسه إلا نفسه.

ما قال علي كرم الله وجهه لأهل الكوفة

قال: فحشد أبو الأسود الناس بالبصرة، فاجتمع عليه ألف وسبع مئة فأقبل هو والأحنف بن قيس، حتى وافيا عليا بالنخيلة، فلما رأى علي أنه إنما قدم عليه من أهل البصرة ثلاثة آلاف ومئتا رجل (2)، جمع إليه رؤساء الناس وأمراء الأجناد ووجوه القبائل، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق، ومجيبي إلى جهاد المحلين، بكم أضرب المدبر، وأرجو إتمام طاعة المقبل، وقد بعثت إلى أهل البصرة، فاستنفرتهم، فلم يأتني منهم غير ثلاثة آلاف ومئتين، فأعينوني بمناصحة سمحة، خلية من الغش، وإني آمركم أن يكتب إلي رئيس كل قوم منكم ما في عشيرته من المقاتلة، وأبنائهم الذين أدركوا القتال والعبدان والموالي، وارفعوا ذلك إلي ننظر فيه إن شاء الله. فقام سعد بن قيس الهمداني، فقال: يا أمير المؤمنين سمعا وطاعة، وودا ونصيحة، أنا أول الناس، وأول من أجابك بما سألت وطلبت. ثم قام عدي بن حاتم وحجر بن عدي وأشراف القبائل، فقالوا: نحن كذلك، ثم كتبوا ورفعوا إلى علي، فكان جميع ما رفعوا إليه أربعين ألف مقاتل،

(هامش)

(1) زيد في الطبري: مع جارية بن قدامة السعدي. (2) في الأخبار الطوال: زهاء سبعة آلاف رجل، وقد قدم بهم ابن عباس. وفي مروج الذهب: عشرة آلاف. (*)

ص 166

وسبعة عشر ألفا من الأبناء، وثمانية آلاف من عبيدهم ومواليهم، وكانت العرب يومئذ سبعة وخمسين ألفا من أهل الكوفة، ومن مماليكهم ومواليهم ثمانية آلاف، ومن أهل البصرة ثلاثة آلاف ومئتا رجل، فقام علي فيهم خطيبا، فقال: أما بعد، فقد بلغني قولكم: لو أن أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة التي خرجت علينا، فبدأنا بهم، إلا أن غير هذه الخارجة أهم على أمير المؤمنين، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا في الأرض جبارين ملوكا، ويتخذهم المؤمنون أربابا، ويتخذون عباد الله خولا، ودعوا ذكر الخوارج. قال (1): فنادى الناس من كل جانب: سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت، فنحن حزبك وأنصارك، نعادي من عاداك (2)، ونشايع من أناب إليك وإلى طاعتك، فسر بنا إلى عدوك، كائنا من كان، فإنك لن تؤتى من قلة ولا ضعف (3)، فإن (4) قلوب شيعتك كقلب رجل واحد في الاجتماع على نصرتك، والجد في جهاد عدوك، فابشر يا أمير المؤمنين بالنصر، واشخص إلى أي الفريقين أحببت، فإنا شيعتك التي ترجو في طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب من الله، تخاف من الله في خذلانك، والتخلف عنك شديد الوبال.

ما قال علي كرم الله وجهه في الخثعمي

فبايعوه على التسليم والرضا، وشرط عليهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه، وسلم، فجاءه رجل من خثعم، فقال له الإمام علي تبايع على كتاب الله وسنة نبيه؟ قال: لا، ولكن أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وسنة أبي بكر وعمر. فقال علي: وما يدخل سنة أبي بكر وعمر مع كتاب الله وسنة نبيه؟ إنما كانا عاملين بالحق حيث عملا، فأبى الخثعمي إلا سنة أبي بكر وعمر، وأبى علي أن يبايعه إلا على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال له حيث ألح عليه: تبايع؟ قال: لا، إلا على ما ذكرت لك، فقال له علي: أما والله لكأني بك قد نفرت في هذه الفتنة، وكأني بحوافر خيلي قد شدخت وجهك،

(هامش)

(1) في الطبري 5 / 80 هذا قول صيفي بن فسيل، وفي ابن الأثير: قسيل. (2) في الطبري: عاديت. (3) في الطبري: من قلة عدد، ولا ضعف نية أتباع. (4) من هنا ذكر هذا الكلام في الطبري إلى محرز بن شهاب التميمي من بني سعد. (*)

ص 167

فلحق بالخوارج، فقتل يوم النهروان. قال قبيصة: فرأيته يوم النهروان قتيلا، قد وطأت الخيل وجهه، وشدخت رأسه، ومثلث به، فذكرت قول علي: وقلت لله در أبي الحسن! ما حرك شفتيه قط بشيء إلا كان كذلك.

إجماع على الذهاب إلى صفين

فأجمع علي والناس على المسير إلى صفين، وتجهز معاوية حتى نزل صفين، فلما خرج علي بالناس عبر الجسر، ثم مضى حتى نزل دير أبي موسى، على شاطئ الفرات، ثم أخذ على الأنبار. وإن الخارجة التي خرجت على علي بينما هم يسيرون، فإذا هم برجل يسوق امرأته على حمار له، فعبروا إليه الفرات، فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا رجل مؤمن، قالوا: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: أقول: إنه أمير المؤمنين، وأول المسلمين إيمانا بالله ورسوله. قالوا: فما اسمك؟ قال: أنا عبد الله بن خباب بن الأرت، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم، قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك بحديث سمعه من رسول الله، لعل الله أن ينفعنا به، قال: نعم، حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ستكون فتنة بعدي، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا، ويصبح كافرا. فقالوا: لهذا الحديث سألناك، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه وكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم (1)، حتى نزلوا تحت نخل، فسقطت رطبة منها، فأخذها بعضهم فقذفها في فيه، فقال له أحدهم بغير حل، أو بغير ثمن أكلتها، فألقاها من فيه، ثم اخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيرا لأهل الذمة، فقتله، قال له بعض أصحابه: إن هذا من الفساد في الأرض، فلقي الرجل صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره، فلما رأى منهم عبد الله بن خباب ذلك، قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى، ما علي منكم بأس، ووالله ما أحدثت حدثا في الإسلام، وإني لمؤمن، وقد أمنتموني، وقلتم لا روع عليك فجاؤوا به وبامرأته، فأضجعوه على شفير النهر، على ذلك الخنزير، فذبحوه فسال دمه في الماء (2)، ثم أقبلوا إلى امرأته، فقالت: إنما أنا امرأة، أما تتقون الله؟ قال: فبقروا

(هامش)

(1) المرأة المتم: التي أتمت أشهرها وقاربت الولادة. (2) قيل ضربه مسعر بن فدكى على أم رأسه فقتله (ابن الأعثم 4 / 198). (*)

ص 168

بطنها، وقتلوا ثلاثة نسوة، فيهم أم سنان قد صحبت النبي عليه الصلاة والسلام. فبلغ عليا خبرهم، فبعث إليهم الحارث بن مرة، لينظر فيما بلغه من قتل عبد الله بن خباب والنسوة، ويكتب إليه بالأمر، فلما انتهى إليهم ليسائلهم، خرجوا إليه فقتلوه، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، تدع هؤلاء القوم وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا، سر بنا إليهم، فإذا فرغنا منهم نهضنا إلى عدونا من أهل الشام.

مسير علي إلى الخوارج وما قال لهم

قال: فسار علي ومن معه حتى نزلوا المدائن، ثم خرج حتى أتى النهروان فبعث إليهم: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثم أنا أفارقكم، وأكف عنكم، حتى ألقى أهل الشام، فبعثوا إليه: إنا كلنا قتلناهم، وكلنا مستحل لدمائكم ودمائهم. ثم أتاهم علي، فوقف عليهم، فقال (1): أيتها العصابة، إني نذير لكم أن تصبحوا تلعنكم الأمة غدا، وأنتم صرعى بإزاء هذا النهر، بغير برهان، ولا سنة، ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم لها مكيدة، وأنبأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، قد عرفتهم أطفالا، وعرفتهم رجالا، فهم شر رجال، وشر أطفال، وهم أهل المكر والغدر، وإنكم إن فارقتموني ورأيي، جانبتم الخير والحزم، فعصيتموني وأكرهتموني، حتى حكمت، فلما أن فعلت شرطت واستوثقت، وأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا، وخالفا حكم الكتاب والسنة، وعملا بالهوى، فنبذا أمرهم، ونحن على أمرنا الأول، فما نبؤكم ومن أين أتيتم؟ قالوا له: إنا حيث حكمنا الرجلين أخطأنا بذلك، وكنا كافرين، وقد تبنا من ذلك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، وتبت كما تبنا وأشهدنا، فنحن معك ومنك، وإلا فاعتزلنا، وإن أبيت فنحن منابذوك على سواء. فقال علي: أبعد إيماني بالله، وهجرتي وجهادي مع رسول الله، أبوء وأشهد على نفسي بالكفر؟ لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. ويحكم! بم استحللتم قتالنا، والخروج من جماعتنا؟ أأن اختار الناس رجلين، فقالوا لهما: انظرا بالحق فيما يصلح العامة ليعزل رجل، ويوضع آخر مكانه.

(هامش)

(1) قارن مع الطبري 5 / 84 وابن الأثير 2 / 404 وقسم منها في نهج البلاغة ص 140. (*)

ص 169

أحل لكم أن تضعوا سيوفكم على عواتقكم، تضربون بها هامات الناس، وتسفكون دماءهم؟! إن هذا لهو الخسران المبين. قال: فتنادوا لا تخاطبوهم ولا تكلموهم، تهيئوا للقاء الحرب (1)، الرواح الرواح إلى الجنة

قتل الخوارج

قال: فرجع علي، فعبأ أصحابه فجعل على الميمنة حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبث بن ربعي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة، وعلى أهل المدينة وهم ثمان مئة (2) رجل من الصحابة قيس بن سعد بن عبادة، ووقف علي في القلب في مضر. قال: ثم رفع لهم راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب: من جاء منكم إلى هذه الراية فهو آمن، ومن دخل المصر فهو آمن، ومن انصرف إلى العراق، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، فإنه لا حاجة لنا في سفك دمائكم (3)، قال: وقدم الخيل دون الرجالة، وصف الناس صفين وراء الخيل، وصف الرماة صفا أمام صف، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم. قال: وأقبلت الخوارج حتى إذا دنوا من الناس نادوا: لا حكم إلا لله، ثم نادوا: الرواح الرواح إلى الجنة. قال: وشدوا على أصحاب علي شدة رجل واحدة، والخيل أمام الرجال، فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، فخمدوا. قال الثعلبي: لقد رأيت الخوارج حين استقبلتهم الرماح والنبل كأنهم معز اتقت المطر بقرونها، ثم عطفت الخيل عليهم من الميمنة والميسرة، ونهض علي في القلب بالسيوف والرماح، فلا والله ما لبثوا فواقا (4) حتى صرعهم الله، كأنما قيل لهم موتوا فماتوا (5). قال: وأخذ علي ما كان في عسكرهم من كل

(هامش)

(1) في الطبري: للقاء الرب. (2) في الطبري: سبعمئة أو ثمانمئة رجل. (3) بعد نداء أبي أيوب انصرفت طائفة منهم إلى الدسكرة وطائفة إلى الكوفة وجماعة إلى علي، وكانوا أربعة آلاف. وبقي مع عبد الله بن وهب منهم ألفان وثمنمئة رجل. (الطبري 5 / 86 ابن الأثير 2 / 406 فتوح ابن الأعثم 4 / 125). (4) الفواق مقدار حلب الناقة أو البقرة أو نحوهما. (5) لم يفلت منهم إلا تسعة نفر: هرب منهم رجلان إلى خراسان ورجلان إلى اليمن ورجلان إلى بلاد الجزيرة وصار رجل إلى تل موزن. (شرح نهج البلاغة - ابن الأعثم). (*)

ص 170

شيء، فأما السلاح والدواب فقسمه علي بيننا، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه حين قدم الكوفة رده على أهلها. قال: ولما أراد علي الانصراف من النهروان، قام خطيبا، فحمد الله ثم قال: أما بعد، فإن الله قد أحسن بلاءكم، وأعز نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون. فقالوا: يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا، وكلت أذرعنا، وتقطعت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا، فارجع بنا نحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة، فإن ذلك أقوى (1) لنا على عدونا. فأقبل علي بالناس حتى نزل بالنخيلة، فعسكر بها، وأمر الناس أن يلزموا معه عسكرهم، ويوطنوا أنفسهم على الجهاد، وأن يقلوا من زيارة أبنائهم ونسائهم، حتى يسيروا إلى عدوهم من أهل الشام، فأقاموا معه أياما، ثم رجعوا يتسللون ويدخلون الكوفة، ويتلذذون بنسائهم وأبنائهم ولذاتهم، حتى تركوا عليا وما معه إلا نفر من وجوه الناس يسير، وترك العسكر خاليا. [فلما رأى ذلك دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه في المسير] (2).

خطبة علي كرم الله وجهه

قال: فقام علي على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، استعدوا للمسير إلى عدو في جهاده القربة إلى الله، ودرك الوسيلة عنده، فأعدوا له ما استطعتم من قوة، ومن رباط الخيل، وتوكلوا على الله، وكفى به وكيلا، ثم تركهم أياما، ودعا رؤساءهم ووجوههم، فسألهم عن رأيهم، وما الذي ثبطهم؟ (3) فمنهم المعتل، ومنهم المتكره، وأقلهم من نشط، فقال لهم علي: عباد الله، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل الله (اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة بدلا) [التوبة: 38]، ورضيتم بالذل والهوان من العز خلفا، كلما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم، كأنكم من الموت في سكرة، وكانت

(هامش)

(1) في الطبري: أوفى. (2) ما بين معكوفتين زيادة عن الطبري. (3) في الطبري: وما الذي ينظرهم. وفي ابن الأثير: يبطئ بهم. (*)

ص 171

قلوبكم قاسية (1)، فأنتم لا تعقلون، وكأن أبصاركم كمه، فأنتم لا تبصرون، لله أنتم، ما أنتم إلا أسود رواعة (2)، وثعالب رواغة عند الناس (3)، تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم فلا تحاشون، وأنتم في غفلة ساهون، إن أخا الحرب اليقظان. أما بعد: فإن لي عليكم حقا، ولكم علي حق، أما حقكم علي: فالنصيحة في ذات الله، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم: فالوفاء بالبيعة، والنصح لي في الإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإن يرد الله بكم خيرا تنزعوا عما أكره، وترجعوا إلى ما أحب، تنالوا بذلك ما تحبون، وتدركوا ما تأملون. أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم (4)، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، كلامكم يوهي الصم (5)، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم، إذا أمرتكم بالمسير قلتم كيت وكيت، أعاليل بأضاليل، هيهات، لا يدرك الحق إلا بالجد والصبر، أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب (6)، أصبحت لا أطمع في نصرتكم، ولا أصدق قولكم، فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خير لي، وأعقبكم بعدي من هو شر لكم مني، أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا. وسيفا قاتلا. وأثرة يتخذها الظالمون بعدي عليكم سنة. تفرق جماعتكم. وتبكي عيونكم. وتدخل الفقر بيوتكم. تمنون والله عندها أن لو رأيتموني ونصرتموني. وستعرفون ما أقول لكم عما قليل. استنفرتكم فلم تنفروا. ونصحت لكم فلم تقبلوا، وأسمعتكم فلم تعوا، فأنتم شهود كأغياب، وصم ذوو أسماع، أتلو عليكم الحكمة، وأعظكم بالموعظة النافعة، وأحثكم على جهاد المحلين، الظلمة الباغين، فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرقين، إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين، تضربون الأمثال،

(هامش)

(1) في الطبري وابن الأثير: وكان قلوبكم مألوسة. (2) في الطبري: أسود الشرى في الدعة. (3) في الطبري وابن الأثير: ثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس. (4) أهواؤهم آراؤهم وما تميل إليه قلوبهم (النهج - شرح محمد عبده). (5) الصم الشديدة الصلبة. (6) السهم الأخيب: أي من فاز وظفر بكم وكنتم نصيبه فقد ظفر بالسهم الأخيب وهو من سهام البسر الذي لا حظ له. (*)

ص 172

وتناشدون الأشعار، تربت أيديكم، وقد نسيتم الحرب واستعدادها، وأصبحت قلوبكم فارغة عن ذكرها، وشغلتموها بالأباطيل والأضاليل، ويحكم! اغزوا عدوكم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، وأيم الله ما أظنكم تفعلون حتى يفعل بكم! وأيم الله لوددت أني قد رأيتهم فلقيت الله على نيتي وبصيرتي، فاسترحت من مقاساتكم ومداراتكم، ويحكم! ما أنتم إلا كإبل جامحة ضل عنها رعاؤها، فكلما ضمت (2) من جانب، انتشرت من جانب، والله لكأني أنظر إليكم وقد حمي الوطيس، لقد انفرجتم عن علي، انفراج الرأس، وانفراج المرأة عن قبلها. فقام إليه الأشعث بن قيس الكندي، فقال: يا أمير المؤمنين فهلا فعلت كما فعل عثمان؟ قال له علي: ويلك وما فعل عثمان، رأيتني عائذا بالله من شر ما تقول، والله إن الذي فعل عثمان لمخزاة على من لا دين له، ولا حجة معه، فكيف وأنا على بينة من ربي، والحق معي، والله إن امرأ أمكن عدوه من نفسه، فنهش عظمه، وسفك دمه، لعظيم عجزه، ضعيف قلبه. أنت يا بن قيس فكن ذلك، فأما أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفي (3)، يطير له فراش الرأس (2)، وتطيح منه الأكف والمعاصم (5)، وتجد به الغلاصم ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء. والله يا أهل العراق، ما أظن هؤلاء القوم من أهل الشام إلا ظاهرين عليكم، فقالوا: أبعلم تقول ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: نعم، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إني أرى أمورهم قد علت، وأرى أموركم قد خبت، وأراهم جادين في باطلهم، وأراكم وانين في حقكم، وأراهم مجتمعين، وأراكم متفرقين، وأراهم لصاحبهم معاوية مطيعين، وأراكم لي عاصين. أما والله لئن ظهروا عليكم بعدي لتجدنهم أرباب سوء، كأنهم والله عن قريب قد شاركوكم في بلادكم، وحملوا إلى بلادهم منكم، وكأني أنظر إليكم تكشون كشيش

(هامش)

(1) عزين جمع عزة وهي الجماعة. (2) في النهج: جمعت. (3) المشرفي نسبة إلى مشارف بلد بالشام، وفيها تصنع السيوف المشرفية. (4) فراش الهام في النهج. يعني العظام الرقيقة التي تلي القحف. (5) في النهج: وتطيح السواعد والأقدام. (*)

ص 173

الضباب (1)، لا تأخذون لله حقا، ولا تمنعون له حرمة (2)، وكأني أنظر إليهم يقتلون صلحاءكم، ويخيفون علماءكم، وكأني أنظر إليكم يحرمونكم ويحجبونكم، ويدينون الناس دونكم، فلو قد رأيتم الحرمان، ولقيتم الذل والهوان، ووقع السيف ونزل الخوف، لندمتم وتحسرتم على تفريطكم في جهاد عدوكم، وتذكرتم ما أنتم فيه من الخفض والعافية، حين لا ينفعكم التذكار. فقال الناس: قد علمنا يا أمير المؤمنين أن قولك كله وجميع لفظك يكون حقا، أترى معاوية يكون علينا أميرا؟ فقال: لا تكرهون إمرة معاوية، فإن إمرته سلم وعافية، فلو قد مات رأيتم الرؤوس تندر عن كهولها كأنها الحنظل، وعدا كان مفعولا، فأما إمرة معاوية فلست أخاف عليكم شرها، ما بعدها أدهى وأمر.

كلام أبي أيوب الأنصاري

ثم قام أبو أيوب الأنصاري، فقال: إن أمير المؤمنين أكرمه الله قد أسمع من كانت له أذن واعية، وقلب حفيظ، إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها، حيث نزل بين أظهركم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير المسلمين وأفضلهم وسيدهم بعده، يفقهكم في الدين، ويدعوكم إلى جهاد المحلين، فوالله لكأنكم صم لا تسمعون، وقلوبكم غلف مطبوع عليها فلا تستجيبون. عباد الله، أليس إنما عهدكم بالجور والعدوان أمس، وقد شمل العباد، وشاع في الإسلام، فذو حق محروم، ومشتوم عرضه، ومضروب ظهره، وملطوم وجهه، وموطوء بطنة، وملقى بالعراء، فلما جاءكم أمير المؤمنين صدع بالحق، ونشر بالعدل، وعمل بالكتاب، فاشكروا نعمة الله عليكم، ولا تتولوا مجرمين، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون. اشحذوا السيوف، وجددوا آلة الحرب، واستعدوا للجهاد، فإذا دعيتم فأجيبوا، وإذا أمرتم فأطيعوا تكونوا بذلك من الصادقين. قال: ثم قام رجال من أصحاب علي فقالوا: يا أمير المؤمنين، اعط هؤلاء هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش من الموالي، ممن

(هامش)

(1) كشيش الضباب صوت احتكاك جلودها عند ازدحامها، والمراد حكاية حالهم عند هزيمتهم. (2) في النهج: ضيما. (*)

ص 174

يتخوف خلافه على الناس وفراقه. وإنما قالوا له: هذا الذي كان معاوية يصنعه بمن أتاه، وإنما عامة الناس همهم الدنيا، ولها يسعون، وفيها يكدحون. فاعط هؤلاء الأشراف، فإذا استقام لك ما تريد عدت إلى أحسن ما كنت عليه من القسم، فقال علي: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من الإسلام؟ فوالله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم، والله لو كان لهم مال لسويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالكم. فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن الموت نازل لا بد منه، فإن حل فمن صاحبنا؟ فقال علي: أحدثك عن خاصة نفسي، أما الحسن فصاحب خوان (1)، وفتى من الفتيان، ولو قد التقت حلقتا البطان لم يغن عنكم في الحرب حثالة عصفور. وأما ابن أخي عبد الله بن جعفر فصاحب لهو. وأما الحسين ومحمد ابناي فأنا منهما وهما مني، والله لقد أحببت أن يدال هؤلاء القوم عليكم، بإصلاحهم في أرضهم، وفسادكم في أرضكم، وأدائهم الأمانة لمعاوية، وخيانتكم، وبطاعتهم له، ومعصيتكم لي، واجتماعهم على باطلهم، تفرقكم عن حقكم، وأيم الله لا يدعون بعدي محرما إلا استحلوه، ولا يبقى بيت وبر ولا مدر إلا أدخلوه ظلمهم، حتى يقوم الباكيان منكم، باك لدينه، وباك لدنياه، وحتى تكون نصرة أحدكم كنصرة العبد لسيده، إذا شهد أطاعه، وإذا غاب سبه. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أتظن ذلك كائنا؟ قال: ما هو بالظن ولكنه اليقين.

ما كتب علي لأهل العراق

قال: فقام حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، وعبد الله بن وهب الراسبي، فدخلوا على علي، فسألوه عن أبي بكر وعمر: ما تقول فيهما؟ وقالوا: بين لنا قولك فيهما وفي عثمان. قال علي كرم الله وجهه: وقد تفرغتم لهذا؟ وهذه مصر قد افتتحت، وشيعتي فيها قد قتلت؟ إني مخرج إليكم كتابا أنبئكم فيه ما سألتموني عنه، فاقرأوه على شيعتي، فأخرج إليهم كتابا فيه: أما بعد، فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم نذيرا للعالمين، وأمينا على التنزيل، وشهيدا على هذه الأمة، وأنتم يا معشر العرب على غير دين، وفي شر

(هامش)

(1) صاحب خوان: رجل كرم وإطعام. (*)

ص 175

دار، تسفكون دماءكم، وتقتلون أولادكم، وتقطعون أرحامكم، وتأكلون أموالكم بينكم بالباطل، فمن الله عليكم، فبعث محمدا إليكم بلسانكم، فكنتم أنتم المؤمنين، وكان الرسول فيكم ومنكم، تعرفون وجهه ونسبه، فعلمكم الكتاب والحكمة والسنة والفرائض، وأمركم بصلة الأرحام، وحقن الدماء، وإصلاح ذات بينكم، وأن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن توفوا بالعقود، وأن تعاطفوا وتباروا وتراحموا، نهاكم عن التظالم والتحاسد والتقاذف والتباغي، وعن شرب الحرام، وعن بخس المكيال والميزان، وتقدم إليكم فيما أنزل عليكم أن لا تزنوا ولا تأكلوا أموال اليتامى ظلما، فكل خير يبعدكم عن النار قد حضكم عليه، وكل شر يبعدكم عن الجنة قد نهاكم عنه، فلما استكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدته من الدنيا توفاه الله وهو مشكور سعيه مرضي عمله، مغفور له ذنبه، شريف عند الله نزله، فيا لموته مصيبة خصت الأقربين، وعمت المؤمنين، فلما مضى تنازع المسلمون الأمر بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي (1)، ولا يخطر على بالي أن العرب تعدل هذا الأمر عني، فما راعني إلا إقبال الناس على أبي بكر، وإجفالهم عليه، فأمسكت يدي، ورأيت أني أحق بمقام محمد في الناس ممن تولى الأمور علي، فلبثت بذلك ما شاء الله، حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محو دين محمد. وملة إبراهيم عليهما السلام. فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله. إن أرى في الإسلام ثلما (2) وهدما. تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولاية أمركم. التي إنما هي متاع أيام قلائل. ثم يزول ما كان منها، كما يزول السراب، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته، ونهضت معه في تلك الأحداث، حتى زهق الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، وأن يرغم الكافرون، فتولى أبو بكر رضي الله عنه تلك الأمور فيسر، وسدد، وقارب، واقتصد، فصحبته مناصحا، وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا، فلما احتضر بعث إلى عمر، فولاه، فسمعنا وأطعنا، وبايعنا وناصحنا، فتولى تلك الأمور، فكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة أيام حياته، فلما احتضر قلت في نفسي: ليس يصرف هذا الأمر عني. فجعلها عمر شورى وجعلني سادس ستة، فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي، لأنهم كانوا

(هامش)

(1) روعي: بالضم القلب أو موضع الروع منه، وبفتح الراء: الفزع. (2) ثلما أي خرقا. (*)

ص 176

يسمعونني وأنا أحاج أبا بكر فأقول: يا معشر قريش، أنا أحق بهذا الأمر منكم ما كان منا من يقرأ القرآن، ويعرف السنة، فخشوا إن وليت عليهم أن لا يكون لهم في هذا الأمر نصيب، فبايعوا إجماع رجل واحد، حتى صرفوا الأمر عني لعثمان، فأخرجوني منها، رجاء أن يتداولوها. حين يئسوا أن ينالوها، ثم قالوا لي: هلم فبايع عثمان. وإلا جاهدناك. فبايعت مستكرها. صبرت محتسبا، وقال قائلهم: إنك يا بن أبي طالب على الأمر لحريص، قلت لهم: أنتم أحرص. أما أنا إذا طلبت ميراث ابن أبي وحقه، وأنتم إذ دخلتم بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، اللهم إني استعين بك على قريش، فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي وفضلي، واجتمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به منهم فسلبونيه، ثم قالوا: اصبر كمدا، وعش متأسفا، فنظرت فإذا ليس معي رفاق ولا مساعد إلا أهل بيتي، فظننت بهم على الهلاك، فأغضيت عيني على القذى، وتجرعت رفيق على الشجا. وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم طعما، وآلم للقلب من حز الحديد، حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه، ثم جئتموني تبايعونني، فأبيت عليكم، وأبيتم علي، فنازعتموني ودافعتموني، ولم أمد يدي، تمنعا عنكم، ثم ازدحمتم علي، حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعض، وأنكم قاتلي، وقلتم: لا نجد غيرك، ولا نرضى إلا بك، فبايعنا لا نفترق ولا نختلف، فبايعتكم ودعوتم الناس إلى بيعتي، فمن بايع طائعا قبلت منه، ومن أبى تركته، فأول من بايعني طلحة والزبير، ولو أبيا ما أكرهتهما، كما لم أكره غيرهما، فما لبثا إلا يسيرا حتى قيل لي: قد خرجا متوجهين إلى البصرة في جيش، ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة، وسمح لي بالبيعة، فقاموا على عمالي بالبصرة وخزائن بيوت أموالي، وعلى أهل مصري، وكلهم في طاعتي، وعلى شيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا على جماعتهم، ثم وثبوا على شيعتي، فقتلوا طائفة منهم غدرا، وطائفة صبرا، وطائفة عصرا بأسيافهم، فضاربوهم حتى لقوا الله صابرين محتسبين، فوالله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلا واحدا متعمدين لقتله، لحل لي بذلك قتل الجيش كله، مع أنهم قد قتلوا من المسلمين أكثر من العدة التي دخلوا عليهم بها، فقد أدال الله منهم، فبعدا للقوم الظالمين. ثم إني نظرت بعد ذلك في أهل الشام، فإذا هم أعراب وأحزاب وأهل طمع، جفاة طغام، تجمعوا من كل أوب، ممن ينبغي أن يؤدب، ويولى عليه، ويؤخذ على

ص 177

يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من التابعين بإحسان، فسرت إليهم ودعوتهم إلى الجماعة والطاعة، فأبوا إلا شقاقا ونفاقا، ونهضوا في وجوه المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، ينضحونهم بالنبل، ويشجونهم بالرماح، فهنالك نهضت إليهم فقاتلتهم، فلما عضهم السلاح، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، فنبأتكم أنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإنما رفعوها إليكم خديعة ومكيدة، فامضوا على قتالهم، فاتهمتوني، وقلتم: اقبل منهم، فإنهم إن أجابوا إلى ما في الكتاب والسنة جامعونا على ما نحن عليه من الحق، وإن أبوا كان أعظم لحجتنا عليهم، فقبلت منهم، وخففت عنهم، وكان صلحا بينكم وبينهم على رجلين حكمين، يحييان ما أحيا القرآن، ويميتان ما أمات القرآن، فاختلف رأيهما، وتفرق حكمهما، ونبذا حكم القرآن، وخالف ما في الكتاب، واتبعا هواهما بغير هدى من الله، فجنبهما الله السداد وأهوى بهما في غمرة الضلال، وكانا أهل ذلك، فانخذلت عنا فرقة منهم، فتركناهم ما تركونا، حتى إذا عاثوا في الأرض مفسدين، وقتلوا المؤمنين، أتيناهم فقلنا لهم: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا، فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا استحللنا دماءهم ودماءكم، وشدت علينا خيلهم ورجالهم، فصرعهم الله مصارع القوم الظالمين. ثم أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم، فإنه أفزع لقلوبهم، وأنهك لمكرهم، وأهتك لكيدهم، فقلتم: كلت أذرعنا وسيوفنا، ونفرت نبالنا، ونصلت أسنة رماحنا، فأذن لنا، فلنرجع حتى نستعد بأحسن عدتنا، وإذا رجعت زدت في مقاتلتنا عدة من هلك منا، ومن قد فارقنا، فإن ذلك قوة منا على عدونا، فأقبلتم حتى إذا أطللتم على الكوفة، أمرتكم أن تلزموا معسكركم وتضموا قواصيكم، وتتوطنوا على الجهاد، ولا تكثروا زيارة أولادكم ونسائكم فإن ذلك يرق قلوبكم ويلويكم، وإن أصحاب الحرب لا يتوجدون، ولا يتوجعون، ولا يسأمون من سهر ليلهم، ولا من ظمأ نهارهم، ولا من خمص بطونهم، حتى يدركوا بثأرهم، وينالوا بغيتهم ومطلبهم، فنزلت طائفة منكم معي معذرة، ودخلت طائفة منكم المصر عاصية فلا من نزل معي صبر فثبت، ولا من دخل المصر عاد إلي، ولقد نظرت إلى عسكري وما فيه معي منكم إلا خمسون رجلا، فلما رأيت ما أتيتم دخلت إليكم، فما قدرتم أن تخرجوا معي إلى يومكم

ص 178

هذا، لله آباؤكم! فما تنتظرون؟ أما ترون إلى أطرافكم قد انتقصت (1)، وإلى مصركم قد افتتح؟ فما بالكم تؤفكون! ألا إن القوم قد اجتمعوا وجدوا وتناصحوا، وإنكم تفرقتم واختلفتم وتغاششتم، فأنتم إن اجتمعتم تسعدوا، فأيقظوا رحمكم الله نائمكم، وتحرزوا لحرب عدوكم، إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء ممن أسلم كرها، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حربا، أعداء السنة والقرآن، وأهل الأحزاب والبدع والأحداث، ومن كانت بوائقه تتقى، وكان عن الدين منحرفا، وأكلة الرشا، وعبيد الدنيا، لقد نمى إلي أن ابن الباغية (2) لم يبايع معاوية حتى شرط عليه أن يؤتيه أتاوة هي أعظم ما في يديه من سلطانه، فصفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا! وتربت يد هذا المشتري نصرة غادر فاسق بأموال الناس! وإن منهم لمن شرب فيكم الحرام، وجلد حدا في الإسلام (3)، فهؤلاء قادة القوم، ومن تركت ذكر مساويه منهم شر وأضر، وهؤلاء الذين لو ولوا عليكم لأظهروا فيكم الغضب والفخر. والتسلط بالجبروت، والتطاول بالغضب، والفساد في الأرض، ولا تبعوا الهوى، وحكموا بالرشا، وأنتم على ما فيكم من تخاذل وتواكل خير منهم وأهدى سبيلا، فيكم الحكماء، والعلماء والفقهاء، وحملة القرآن، والمتهجدون بالأسحار، والعباد، والزهاد في الدنيا، وعمار المساجد، وأهل تلاوة القرآن، أفلا تسخطون وتنقمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم، والأراذل والأشرار منكم! اسمعوا قولي إذا قلت، وأطيعوا أمري إذا أمرت، واعرفوا نصيحتي إذا نصحت، واعتقدوا جزمي إذا جزمت، والتزموا عزمي إذا عزمت، وانهضوا لنهوضي، وقارعوا من قارعت، ولئن عصيتموني لا ترشدوا ولا تجتمعوا، خذوا للحرب أهبتها، وأعدوا لها التهيؤ، فإنها قد وقدت نارها، وعلا سناها، وتجرد لكم فيها الظالمون، كيما يطفئوا نور الله ويقهروكم، عباد الله، ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والجفاء، بأولى في الجد في غيهم وضلالهم وباطلهم، من أهل النزاهة والحق والإخبات بالجد في حقهم، وطاعة ربهم، ومناصحة إمامهم، إني والله لو لقيتهم

(هامش)

(1) أطراف البلاد: جوانبها، قد حصل فيها النقص باستيلاء العدو عليها. (2) كذا بالأصل، يريد ابن النابغة يعني عمرو بن العاص. (3) يريد الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقد تقدم خبره. وقيل يريد عتبة بن أبي سفيان، وقد حده خالد بن عبد الله بالطائف. (*)

ص 179

وحيدا منفردا، وهم في أهل الأرض إن (1) باليت بهم أو استوحشت منهم، إني في ضلالهم الذي هم فيه، والهدى الذي أنا عليه، لعلى بصيرة ويقين وبينة من ربي، وإني للقاء ربي لمشتاق ولحسن ثوابه لمنتظر راج، ولكن أسفا يعتريني، وجزعا يريبني من أن يلي هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذون مال الله دولا (2)، وعباد الله خولا (3)، والصالحين حربا، والقاسطين (4) حزبا، وأيم الله لولا ذلك ما أكثرت تأليبكم (5) وجمعكم، وتحريضكم، ولتركتكم، فوالله إني لعلى الحق، وإني للشهادة لمحب، أنا نافر بكم إن شاء الله، فانفروا خفافا وثقالا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، إن الله مع الصابرين.

مقتل علي عليه السلام

قال المدائني: حج ناس من الخوارج سنة تسع وثلاثين، وقد اختلف عامل علي وعامل معاوية، فاصطلح الناس على شبيب بن عثمان (6)، فلما انقضى الموسم أقام النفر من الخوارج مجاورين بمكة، فقالوا: كان هذا البيت معظما في الجاهلية، جليل الشأن في الإسلام، وقد انتهك هؤلاء حرمته، فلو أن قوما شروا أنفسهم فقتلوا هذين الرجلين اللذين قد أفسدا في الأرض، واستحلا حرمة هذا البيت، استراحت الأمة، واختار الناس لهم إماما. فقال عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله: أنا أكفيكم أمر علي. وقال الحجاج (7) بن عبد الله الصريمي، وهو البرك: أنا أقتل معاوية. فقال أذويه (8) مولى بني العنبر، واسمه

(هامش)

(1) في النهج: وهم طلاع الأرض كلها، ما باليت... أي لو كنت وحيدا وهم يملأون الأرض لقيتهم غير مبال بهم. (2) الدول بضم ففتح جمع دولة بالضم أي الشيء يتداولونه بينهم يتصرفون فيه بغير حق الله. (3) خول: عبيد (بالتحريك). (4) في النهج: والفاسقين. (5) تأليبكم تحريضكم وتحويل قلوبكم عنهم. (6) في الطبري شيبة بن عثمان. قال وبعث علي عبيد الله بن عباس وقيل عبد الله بن عباس وقيل قثم بن عباس. وبعث معاوية على الموسم يزيد بن شجرة الرهاوي فاختلفوا فيمن يحج بالناس وأبى كل من الاثنين أن يسلم لصاحبه فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة (الطبري 5 / 136 حوادث سنة 39). (7) في الأخبار الطوال: النزال بن عامر. (8) في مروج الذهب والكامل للمبرد: زادويه، وفي الأخبار الطوال: اسمه عبد الله بن مالك الصيداوي. (*)

ص 180

عمرو بن بكر والله ما عمرو بن العاص بدونهما، فأنا به. فتعاقدوا على ذلك ثم اعتمروا عمرة رجب. واتفقوا على يوم واحد يكون فيه وقوع القتل منهم في علي ومعاوية وعمرو، ثم سار كل منهم في طريقه فقدم ابن ملجم الكوفة وكتم أمره، وتزوج امرأة يقال لها: قطام (1) بنت علقمة، كانت خارجية، وكان علي قد قتل أخاها (2) في حرب الخوارج. وتزوجها على أن يقتل عليا (3). فأقام عندها مدة، فقالت له في بعض الأيام وهو مختف: لطالما أحببت المكث عند أهلك، وأضربت عن الأمر الذي جئت بسببه، فقال: إن لي وقتا واعدت فيه أصحابي، ولن أجاوزه فلما كان اليوم الذي تواعدوا فيه، خرج عدو الله، فقعد لعلي حين خرج علي لصلاة الصبح، صبيحة نهار الجمعة، ليلة عشر (4) بقيت من رمضان سنة أربعين، فلما خرج للصلاة وثب عليه، وقال: الحكم لله لا لك يا علي، وضربه على قرنه بالسيف، فقال علي: فزت ورب الكعبة، ثم قال: لا يفوتنكم الرجل، فشد الناس عليه، فأخذوه. وكان علي رضي الله عنه شديد الأدمة ثقيل العينين، ضخم البطن، أصلع، ذا عضلات، في أذنيه شعر يخرج منهما، وكان إلى القصر أقرب (5). وكان ابن ملجم يعرض سيفه، فإذا أخبر أن فيه عيبا أصلحه، فلما قتل عليا قال: لقد أحددت سيفي بكذا وكذا، وسممته بكذا وضربت به عليا ضربة لو كانت بأهل المصر لأتت عليهم. وروي عن الحسن أنه قال: أتيت أبي فقال لي: أرقت الليلة، ثم ملكتني عيني. فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله،

(هامش)

(1) في الطبري 6 / 83 والطبقات الكبير ج 3 / 1 / 23 قطام ابنة الشجنة وفي الكامل للمبرد 3 / 1116 فكالأصل. وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 170 قطام بنت سخينة بن عوف بن تيم اللات وفي فتوح ابن الأعثم 4 / 134 قطام بنت الأضبع التميمي. وفي مروج الذهب 2 / 457 قطام. أما في الأخبار الطوال فقال: خطب إلي قطام ابنتها الرباب. (2) في الطبري: قتل أباها وأخاها. (أنظر مروج الذهب). (3) وكانت قطام لما عرض عليها الزواج فاشترطت عليه مهرها: ثلاث آلاف وعبد وقينة وقتل علي بن أبي طالب فوافق. (4) في شرح نهج البلاغة: ليلة تسع عشرة. وفي مروج الذهب: لثلاث عشرة مضت من شهر رمضان. (5) قارن مع الطبري 5 / 153 وابن سعد 3 / 27. (*)

ص 181

ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ (1) فقال: ادع عليهم، فقلت: اللهم أبدلني بهم خيرا لي منهم، وأبدلهم بي شرا لهم مني، وخرج إلى الصلاة فاعترضه ابن ملجم، وأدخل ابن ملجم على علي بعد ضربه إياه، فقال: أطيبوا طعامه، وألينوا فراشه، فإن أعش فأنا ولي دمي، إما عفوت، وإما اقتصصت، وإن أمت فألحقوه بي، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. قالوا: وبكت أم كلثوم، وقالت لا بن ملجم: يا عدو الله، قتلت أمير المؤمنين، قال: ما قتلت أمير المؤمنين، ولكني قتلت أباك. قالت: والله إني لأرجو ألا يكون عليه بأس، قال (2): ولم تبكين إذا؟ والله لقد أرهفت السيف، ونفيت الخوف، وجبت الأجل، وقطعت الأمل وضربت ضربة لو كانت بأهل المشرق لأتت عليهم ومكث علي يوم الجمعة ويوم السبت، وتوفي ليلة الأحد، وغسله الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر، وكفن في ثلاثة أثواب، ليس فيها قميص، وصلى عليه الحسن ابنه، ودفن في قصر الإمارة بالكوفة، وغمي قبره مخافة أن ينبشه الخوارج، وقيل إنه نقل بعد صلح معاوية والحسن إلى المدينة وأخذ ابن ملجم، فقطعت يداه ورجلاه وأذناه وأنفه، وأتوا يقطعون لسانه فصرخ، فقيل له: قد قطعت منك أعضاء ولم تنطق، فلما أتوا يقطعون لسانك صرخت؟ قال إني أذكر الله به، فلم يسهل علي قطعه، ثم قتلوه بعد هذه المثلة (3). كانت خلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وكان عمره ثلاثا وستين سنة (4). وأما البرك: فإنه انطلق ليلة ميعادهم، فقعد لمعاوية، فلما خرج لصلاة

(هامش)

(1) الأود: العوج. واللدد: شدة الخصومة وعدم الرجوع إلى الحق. (2) قارن مع عبارة الكامل للمبرد 3 / 1119 والطبري 5 / 146 والأخبار الطوال ص 214. (3) وقيل في قتله غير ذلك انظر مروج الذهب 2 / 461 والكامل للمبرد 3 / 1120. (4) في مدة خلافته ومقدار عمره اختلاف في مصادر ترجمته انظر في ذلك الطبري 5 / 151 - 152 مروج الذهب 2 / 385 تاريخ ابن الأثير 2 / 439 - 440 طبقات ابن سعد 3 / 37 المعارف ص 209 المحبر ص 17 نهاية الإرب 20 / 218. (*)

ص 182

الصبح شد عليه سيفه، فأدبر معاوية، فضرب رانفة (1) إليته ففلقها، ووقع السيف في لحم كثير (2)، وأخذ، فقال لمعاوية: إن لك عندي لخبرا سارا، قد قتل الليلة علي، وحدثه الحديث، وعولج معاوية فبرئ، وأمر بقتل البرك، (3) وقيل: ضرب البرك معاوية وهو ساجد، فمذ ذاك جعل الحرس على رؤوس الخلفاء، واتخذ معاوية المقصورة. وأما الثالث: فقصد عمرو بن العاص ليلة الميعاد، فلم يخرج تلك الليلة، لعلة وجدها في بطنه، وصلى بالناس خارجة بن حذافة العدوي (4)، فشد عليه الخارجي، وهو يظن أنه ابن العاص، فقتله، وأخذ، فأتي به عمرو بن العاص، فلما رآه قال: ومن المقتول؟ قالوا: خارجة. فقال: أردت عمرا وأراد الله خارجة، ثم قال لعمرو بن العاص الحديث، وما كان من اتفاقه مع صاحبيه، فأمر بقتله. فلما قتل علي تداعى أهل الشام إلى بيعة معاوية، وقال له عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: نحن المؤمنون، وأنت أميرنا، فبايعوه وهو بإيلياء لخمس ليال خلون من شوال سنة أربعين.

فصل

روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: يا علي، أتدري من أشقى الأولين والآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أشقى الأولين: عاقر الناقة (5)، وأشقى الآخرين: الذي يطعنك. وأشار إلى حيث طعن (6). قال: وخرج علي في ليلة قتله وهو يقول:

(هامش)

(1) أي أسفلها. وفي الكامل للمبرد 3 / 1121: أصاب مأكمتيه. والمأكمتان الواحدة مأكمة وهما اللحمتان اللتان على رؤوس الوركين. (2) قيل إن معاوية كان عظيم الأوراك. فقطع منه عرقا يقال إنه عرق النكاح فلم يولد لمعاوية بعد ذلك (الكامل للمبرد 3 / 1122). (3) وقيل إن معاوية لم يقتله بل قطع يده ورجله وأقام بعد ذلك بالبصرة وقد ولد له، ثم قتله زياد لما بلغه خبره (الكامل للمبرد 3 / 1122 وانظر مروج الذهب 2 / 464). (4) وهو من بني سهم بن عمرو بن هصيص، رهط عمرو بن العاص، وكان صاحب شرطته، وقيل قاضي مصر (راجع الكامل للمبرد 3 / 1122 الطبري 5 / 149 مروج الذهب 2 / 464) وفي البداية والنهاية 7 / 365: خارجة بن أبي حبيبة من بني عامر بن لؤي. (5) عاقر الناقة: الذي عقر ناقة صالح عليه السلام التي أخرجها الله لثمود من الحجر، وكانت معجزة صالح عليه السلام لقومه حتى يؤمنوا بالله العظيم. (6) رواه ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 358. (*)

ص 183

اشدد حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيكا (1) ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا وقال الشاعر في قتل ابن ملجم عليا (2): - تضمن للآثام لا در دره * ولاقى عقابا غير ما متصرم فلا مهر أغلى من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم ثلاثة آلاف وعبد وقينة * وضرب علي بالحسام المسمم قال هبيرة بن شريم: سمعت الحسن رضي الله عنه يخطب، فذكر أباه وفضله وسابقته، ثم قال: والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبع مائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يشتري بها خادما (3). وجاء رجل من مراد إلى علي، فقال له: يا أمير المؤمنين، احترس، فإن هنا قوما يريدون قتلك. فقال: إن لكل إنسان ملكين يحفظانه، فإذا جاء القدر خلياه. قيل: ولما ضرب علي دعا أولاده، وقال لهم: عليكم بتقوى الله وطاعته وألا تأسوا على ما صرف عنكم منها، وانهضوا إلى عبادة ربكم، وشمروا عن ساق الجد، ولا تثاقلوا إلى الأرض، وتقروا بالخسف، وتبوءوا بالذل، اللهم اجمعنا وإياهم على الهدى، وزهدنا وإياهم في الدنيا، واجعل الآخرة خيرا لنا ولهم من الأولى، والسلام.

بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه لمعاوية

قال: وذكروا أنه لما قتل علي بن أبي طالب، ثار الناس إلى الحسن بن علي بالبيعة، فلما بايعوه قال لهم: تبايعون لي على السمع والطاعة، وتحاربون

(هامش)

(1) حيازيمك واحدها حيزوم قال المهلبي: هو ما اشتمل عليه الصدر ويقال للرجل: اشدد حيازيمك لهذا الأمر أي وطن نفسك عليه. (2) اختلفوا في نسبة هذه الأبيات، ففي الطبري 5 / 150 نسبها إلى ابن أبي مياس المرادي. وفي سمط النجوم العوالي 2 / 468 للفرزدق وفي شرح النهج 2 / 171 والكامل للمبرد 3 / 1116 ومروج الذهب 2 / 458 هذه الأبيات منسوبة لابن ملجم. وفي الأخبار الطوال ص 214 قال الشاعر. وفي فتوح ابن الأعثم 4 / 147 يقول العبدي وزاد على الأبيات ثلاثة أبيات أخرى. وفي هذه المصادر اختلاف في بعض الألفاظ والتعابير. (3) وقيل: ترك لأهله مائتين وخمسين درهما ومصحفه وسيفه (مروج الذهب 2 / 461). وفي الطبري 5 / 157 ثمانمئة أو سبعمئة. (*)

ص 184

من حاربت، وتسالمون من سالمت، فلما سمعوا ذلك ارتابوا وأمسكوا أيديهم وقبض هو يده، فأتوا الحسين، فقالوا له: ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك، وعلى حرب المحلين الضالين أهل الشام، فقال الحسين: معاذ الله أن أبايعكم ما كان الحسن حيا. قال: فانصرفوا إلى الحسن، فلم يجدوا بدا من بيعته، على ما شرط عليهم، فلما تمت البيعة له، وأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، كاتب معاوية، فأتاه فخلا به، فاصطلح معه على أن لمعاوية الإمامة ما كان حيا، فإذا مات فالأمر للحسن (1)، فلما تم صلحهما صعد الحسن إلى

(هامش)

(1) أقام الحسن بالكوفة بعد مقتل أبيه شهرين كاملين لا ينفذ إلى معاوية أحد، ولا ذكر المسير إلى الشام فورد عليه كتاب من ابن عباس ومما جاء فيه: يا بن رسول الله فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد أبيك (رض) وقد أنكروا قعودك عن معاوية وطلبك لحقك فشمر للحرب وجاهد عدوك. فبعث الحسن (رض) بكتاب إلى معاوية - بعد بيعته - يدعوه إلى طاعته وبيعته، فكتب إليه معاوية برفض ما طلبه منه ثم جمع الناس وخرج في ستين ألفا يريد العراق. عندئذ سار الحسن من الكوفة إلى مسكن وتجهز وعبأ الجيش، وجرت في عسكره مشاحنات حتى أنهم نفروا بسرادقه ونهبوا متاعه، وتفرق الأمر عنه كتب إلى معاوية في الصلح وفق شروط. وكان ذلك بعد أن رأى الحسن نفسه أمام ظروف دقيقة - حتمت عليه - بعد موقف الحيرة الذي وجد نفسه فيه - اتخاذ الموقف الجرئ الواضح والذي لم يرض أن يهرق في أمره محجمة دم، فكانت خطة حقن الدماء التي أقرها وقررها أما الظروف التي أملت عليه اتخاذ هذا الموقف فهي: 1 - خطة الحرب النفسية والدعائية التي شنها معاوية والتي قضى من ورائها تدمير مقاومة الجيش في مسكن. 2 - نشر الشائعات في جيش الحسن، وكانوا من أغرار الناس المتأرجحين بين الطاعة والعصيان والمتأهبين للفتنة والاضطرابات في كل حين. 3 - تهديم معنويات جيش الحسن. هذا ما أدى إلى نهب سرادق الحسن ومتاعه وعامة أثقاله وتفرق أصحابه. ومما أدى إلى تطاول سنان بن الجراح الأسدي إلى مهاجمة الحسن وجرحه جراحة كادت تأتي عليه، وما هم به المختار بن أبي عبيدة في إقناع عمه باستيثاق الحسن وأن يستأمن به من معاوية، وانخزال القبائل، قبيلة بعد قبيلة إلى معاوية. أمام هذا كله وقف الحسن غير عابئ بما يدور حوله، ووضع خطته فيما يريده الله وما يؤثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يجب لصيانة المبدأ أما ما يقوله الناس، فلم يكن ذلك مما يعنيه كثيرا (انظر الطبري - اليعقوبي - ابن كثير). ومما اشترطه الحسن على معاوية: 1 - أن يعمل معاوية بالمؤمنين بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الصالحين من بعده. 2 - ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده عهدا بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين. 3 - الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم. (*)

ص 185

المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وكانت لي في رقابكم بيعة، تحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت، وقد سالمت معاوية، وبايعته فبايعوه وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار إلى معاوية.

إنكار سليمان بن صرد

قال: وذكروا أنه لما تمت البيعة لمعاوية بالعراق، وانصرف راجعا إلى الشام، أتاه سليمان بن صرد، وكان غائبا عن الكوفة، وكان سيد أهل العراق ورأسهم. فدخل على الحسن، فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين (1)، فقال الحسن: وعليك السلام، اجلس. لله أبوك، قال: فجلس سليمان، فقال: أما بعد، فإن تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مئة ألف مقاتل من أهل

(هامش)

4 - أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم ودمائهم، وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه. وذكر أنه اتفق بينهما على معاهدة صلح وقعها الفريقان. وصورتها لما أخذناها من مصادرها حرفيا: - المادة الأولى: تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله [المدائني فيما رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج 4 / 8] وبسيرة الخلفاء الصالحين [فتح الباري فيما رواه ابن عقيل في النصائح الكافية ص 156]. - المادة الثانية: أن يكون الأمر للحسن من بعده [تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 194 والإصابة 2 / 12 و13 دائرة معارف وجدي 3 / 443] وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد [المدائني فيما يرويه عنه ابن أبي الحديد 4 / 8 والفصول المهمة لابن الصباغ وغيرهما]. - المادة الثالثة: أن يترك سب أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة وأن لا يذكر عليا إلا بخير [الأصفهاني: مقاتل الطالبيين ص 26 شرح النهج 4 / 15 وقال آخرون أنه أجابه على أنه لا يشتم عليا وهو يسمع وقال ابن الأثير: ثم لم يف به أيضا]. - المادة الرابعة: يسلم ما في بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف للحسن وله خراج دار أبجرد [الطبري 6 / 92 وفي الأخبار الطوال ص 218: أن يحمل لأخيه الحسين في كل عام ألفي ألف، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس]. - المادة الخامسة: أن لا يأخذ أحدا من أهل العراق بإحنة، وأن يؤمن الأسود والأحمر ويحتمل ما يكون من هفواتهم [الأخبار الطوال ص 218] وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم [فتوح ابن الأعثم 4 / 160]. (1) في الأخبار الطوال ص 220 أن الذي دخل على الحسن وقال له ذلك هو سفيان بن ليلى. وفي فتوح ابن الأعثم 4 / 166 سفيان بن الليل البهمي. وفي البداية والنهاية 8 / 20 أبو عامر سعيد بن النتل. (*)

ص 186

العراق، وكلهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد، ولا حظا من القضية، فلو كنت إذ فعلت، ما فعلت، وأعطاك ما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق، كنت كتبت عليك بذلك كتابا، وأشهدت عليه شهودا من أهل المشرق والمغرب إن هذا الأمر لك من بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنه أعطاك هذا فرضيت به من قوله، ثم قال: وزعم على رؤوس الناس ما قد سمعت، إني كنت شرطت لقوم شروطا، ووعدتهم عدات، ومنيتهم أماني، إرادة إطفاء نار الحرب، ومداراة لهذه الفتنة، إذ جمع الله لنا كلمتنا وألفتنا، فإن كل ما هنالك تحت قدمي هاتين، ووالله ما عنى بذلك إلا نقض ما بينك وبينه، فأعد للحرب خدعة، وأذن لي أشخص إلى الكوفة، فأخرج عامله منها، وأظهر فيها خلعه، وأنبذ إليه على سواء إن الله لا يهدي كيد الخائنين. ثم سكت. فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقالته، وكلهم يقول: ابعث سليمان بن صرد، وابعثنا معه، ثم الحقنا إذا علمت أنا قد أشخصنا عامله، وأظهرنا خلعه. فتكلم الحسن، فحمد الله، ثم قال: أما بعد، فإنكم شيعتنا وأهل مودتنا، ومن نعرفه بالنصيحة والصحبة والاستقامة لنا، وقد فهمت ما ذكرتم ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا وللدنيا أعمل وأنصب، ما كان معاوية بأبأس مني بأسا، وأشد شكيمة، ولكان رأيي غير ما رأيتم، ولكني أشهد الله وإياكم أني لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم، وإصلاح ذات بينكم، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله، وسلموا لأمر الله، والزموا بيوتكم، وكفوا أيديكم، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، مع أن أبي كان يحدثني أن معاوية سيلي الأمر، فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر، ما شككت أنه سيظهر، إن الله لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وأما قولك: يا مذل المؤمنين، فوالله لأن تذلوا وتعافوا أحب إلي من أن تعزوا وتقتلوا، فإن رد الله علينا حقنا في عافية قبلنا، وسألنا الله العون على أمره، وإن صرفه عنا رضينا، وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنا، فليكن كل رجل منكم حلسا من (1) أحلاس بيته، ما دام معاوية حيا، فإن يهلك ونحن وأنتم أحياء، سألنا الله العزيمة على

(هامش)

(1) الحلس: هو ما يلي ظهر الدابة تحت البرذعة، والمعنى: أن يلزم كل منكم بيته ولا يبارحه. والرجل الحلوس: هو الرجل الحريص الملازم. (*)

ص 187

رشدنا، والمعونة على أمرنا، وأنه لا يكلنا إلى أنفسنا، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

كراهية الحسين رضي الله عنه للبيعة

قال: ثم خرج سليمان بن صرد من عنده، فدخل على الحسين، فعرض عليه ما عرض على الحسن، وأخبره بما رد عليه الحسن، فقال الحسين: ليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته، ما دام معاوية حيا، فإنها بيعة كنت والله لها كارها، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم، ورأينا ورأيتم.

ما أشار به المغيرة بن شعبة على معاوية من البيعة ليزيد

قال: وذكروا أنه لما استقامت الأمور لمعاوية، استعمل على الكوفة المغيرة بن شعبة، ثم هم أن يعزله ويولي سعيد بن العاص، فلما بلغ ذلك المغيرة قدم الشام على معاوية (1)، فقال: يا أمير المؤمنين، قد علمت ما لقيت هذه الأمة من الفتنة والاختلاف، وفي عنقك الموت، وأنا أخاف إن حدث بك حدث أن يقع الناس في مثل ما وقعوا فيه بعد قتل عثمان، فاجعل للناس بعدك علما يفزعون إليه، واجعل ذلك يزيد ابنك (2). قال: فدخل معاوية على امرأته فاختة بنت قرطة بن حبيب بن عبد شمس وكان ابنها منه عبد الله بن معاوية، وقد كان بلغها ما قال المغيرة، وما أشار به عليه من البيعة ليزيد وكان يزيد ابن الكلبية، ميسون ابنة عبد الرحمن بن بحدل الكلبي. فقالت فاختة، وكانت معادية الكلبية، ما أشار به عليك المغيرة؟ أراد أن يجعل لك عدوا من نفسك، يتمنى هلاكك

(هامش)

(1) قال ابن الأثير في الكامل 2 / 508 أنه لما بلغ المغيرة عزله قال: الرأي أن أشخص إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهيتي للولاية. فسار إلى معاوية وقال لأصحابه حين وصل إليه: إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبدا (وانظر الطبري 5 / 301 - 302). (2) في الطبري وابن الأثير أن المغيرة بن شعبة دخل على يزيد وتسأل معه لماذا لا يعقد لك أمير المؤمنين البيعة وقد ذهب أعيان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكبراء قريش وذوو أسنانهم.. فدخل يزيد على أبيه ونقل إليه ما ذكره المغيرة فأدخله عليه يسأله ذلك... فذكرا قوله كما في الأصل، فأعاده إلى عمله وكلفه العمل والتحدث مع من يثق إليه بهذا الشأن فغادر المغيرة إلى الكوفة يعمل في بيعة يزيد وكانت باكورة ذلك أن أرسل وفدا إلى معاوية يزينون له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها. (*)

ص 188

كل يوم، فشق ذلك على معاوية، ثم بدا له أن يأخذ بما أشار عليه المغيرة بن شعبة.

ما حاول معاوية في بيعة يزيد

قال: فلما اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق، وفيهم الأحنف بن قيس، دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري، فقال له: إذا جلست على المنبر، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي، فاستأذني للقيام، فإذا أذنت لك، فأحمد الله تعالى، واذكر يزيد، قل فيه الذي يحق له عليك، من حسن الثناء عليه، ثم ادعني إلى توليته من بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته، فأسأل الله في ذلك، وفي غيره الخيرة وحسن القضاء. ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وثور بن معن السلمي، وعبد الله بن عصام (1) الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن يصدقوا قوله، ويدعوه إلى بيعة يزيد (2).

ما تكلم به الضحاك بن قيس

قال: فلما جلس معاوية على المنبر، وفرغ من بعض موعظته، وهؤلاء النفر في المجلس قد قعدوا للكلام، قام الضحاك بن قيس، فاستأذن في الكلام، فأذن له، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إنا قد بلونا الجماعة والألفة، والاختلاف والفرقة فوجدناها ألم لشعثنا، وأمنة لسبلنا، وحاقنة لدمائنا، وعائدة علينا في عاجل ما نرجو وآجل ما نؤمل. مع ما ترجو به الجماعة من الألفة، ولا خير لنا أن نترك سدى، والأيام عوج رواجع، والله يقول: (كل يوم هو في شأن) [الرحمن: 29]، ولسنا ندري ما يختلف به العصران (3)، وأنت يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه، نسأل الله تعالى بك المتاع، وقد رأينا من دعة يزيد ابن أمير المؤمنين،

(هامش)

(1) في مروج الذهب 3 / 34 عبد الله بن عصاة الأشعري. (2) كان ذلك سنة 59 على ما قاله في مروج الذهب وعند ابن الأثير 2 / 511 سنة 56 وفي العقد الفريد 4 / 369 سنة 55. (3) العصران: الغداة والعشي والليل والنهار. (*)

ص 189

وحسن مذهبه، وقصد سيرته (1)، ويمن نقيبته، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين، والشبه بأمير المؤمنين، في عقله وسياسته وشيمته المرضية، ما دعانا إلى الرضا به في أمورنا، والقنوع به في الولاية علينا، فليوله أمير المؤمنين - أكرمه الله - عهده، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده، نأوي إليه إن كان كون فإنه ليس أحد أحق بها منه، فاعزم على ذلك، عزم الله لك في رشدك، ووفقك في أمورنا (2).

ما قال عبد الرحمن بن عثمان

قال: ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان مختلفة أهواؤه، قد أحدودبت علينا سيساؤه (3)، واقطوطبت (4) علينا أدواؤه، وأناخت علينا أبناؤه، ونحن نشير عليك بالرشاد، وندعوك إلى السداد، وأنت - يا أمير المؤمنين - أحسننا نظرا وأثبتنا بصرا، ويزيد ابن أمير المؤمنين قد عرفنا سيرته، وبلونا علانيته، ورضينا ولايته، وزادنا بذلك انبساطا، وبه اغتباطا، ما منحه الله من الشبه بأمير المؤمنين والمحبة في المسلمين، فاعزم على ذلك، ولا تضق به ذرعا، فالله تعالى يقيم به الأود، ويردع به الألد، وتأمن به السبل، ويجمع به الشمل، ويعظم به الأجر، ويحسن به الذخر. ثم جلس.

ما قال ثور بن معن

قال: ثم قام ثور بن معن السلمي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قد أصبحنا في زمان صاحبه شاغب، وظله ذاهب مكتوب علينا فيه الشقاء والسعادة، وأنت يا أمير المؤمنين ميت نسأل الله بك المتاع ويزيد ابن أمير المؤمنين أقدمنا شرفا، وأبذلنا عرفا وقد دعانا إلى الرضا به،

(هامش)

(1) قصد سيرته أي استقامتها. (2) قارن مع العقد الفريد 4 / 369 وابن الأثير 2 / 510 مروج الذهب 3 / 34 فتوح ابن الأعثم 4 / 230. (3) السيساء: الظهر. المراد أن الزمان غير مستقيم يحدودب كما يحدودب ظهر الدابة فلا يمكن ركوبها. (4) اقطوطب: اجتمع. الأدواء جمع داء. (*)

ص 190

والقنوع بولايته، والحرص عليه، والاختيار له، ما قد عرفنا من صدق لسانه ووفائه، وحسن بلائه، فاجعله لنا بعدك خلفا، فإنه أوسعنا كنفا، وأقدمنا سلفا، وهو رتق لما فتق، وزمام لما شعب (1)، ونكال لمن فارق ونافق، وسلم لمن واظب، وحافظ للحق، أسأل الله لأمير المؤمنين أفضل البقاء والسعادة، والخيرة فيما أراد، والتوطن في البلاد، وصلاح أمر جميع العباد. ثم جلس.

ما تكلم به عبد الله بن عصام

قال: ثم قام عبد الله بن عصام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به، إنا قد أصبحنا في دنيا منقضية، وأهواء منجذمة (2) نخاف هدها، وننتظر جدها، شديد منحدرها، كثير وعرها، شامخة مراقيها، ثابتة مراتبها، صعبة مراكبها، فالموت يا أمير المؤمنين وراءك ووراء العباد، لا يخلد في الدنيا أحد، ولا يبقى لنا أمد، وأنت يا أمير المؤمنين مسؤول عن رعيتك، ومأخوذ بولايتك، وأنت أنظر للجماعة وأعلى عينا بحسن الرأي لأهل الطاعة، وقد هديت ليزيد في أكمل الأمور وأفضلها رأيا، وأجمعها رضا، فاقطع بيزيد قالة الكلام، ونخوة المبطل، وشغب المنافق، واكبت به الباذخ (3) المعادي، فإن ذلك ألم للشمل وأسهل للوعث، فاعزم على ذلك، ولا تترامى بك الظنون.

ما تكلم به عبد الله بن مسعدة

ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وأمتع به. إن الله قد آثرك بخلافته، واختصك بكرامته، وجعلك عصمة لأوليائه، وذا نكاية لأعدائه، فأصبحت بأنعمه جذلا، ولما حملك محتملا، يكشف الله تعالى بك العمى، ويهدي بك العدى، ويزيد ابن أمير المؤمنين أحسن الناس برعيتك رأفة، وأحقهم بالخلافة بعدك، قد ساس الأمور، وأحكمته الدهور، ليس بالصغير الفهيه (4)، ولا بالكبير السفيه، قد احتجن (5)

(هامش)

(1) شعب: كسر وتفرق. (2) منجذمة: متقطعة. (3) الباذخ: المستعلي المتكبر. (4) الفهيه: العيي الذي لا يحسن الكلام. (5) احتجن المكارم: جمعها وحواها. (*)

ص 191

المكارم، وارتجى لحمل العظائم، وأشد الناس في العدو نكاية، وأحسنهم صنعا في الولاية، وأنت أغنى بأمرك، وأحفظ لوصيتك، وأحرز لنفسك. أسأل الله لأمير المؤمنين العافية في غير جهد، والنعمة في غير تغيير.

ما قال الأحنف بن قيس

قال: فقال معاوية: أو كلكم قد أجمع رأيه على ما ذكرنا؟ فقالوا: كلنا قد أجمع رأيه على ما ذكرنا. قال: فأين الأحنف؟ فأجابه، قال: ألا تتكلم؟ فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن الناس قد أمسكوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف (1)، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف، وقد حلبت الدهر أشطره (2) يا أمير المؤمنين، فاعرف من تسند إليه الأمر من بعدك، ثم اعص أمر من يأمرك، لا يغررك من يشير عليك، ولا ينظر لك، وأنت أنظر للجماعة، وأعلم باستقامة الطاعة، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا (3) و(4).

ما رد الضحاك بن قيس عليه

قال: فغضب الضحاك بن قيس، فقام الثانية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين. إن أهل النفاق من أهل العراق، مروءتهم في أنفسهم الشقاق، وألفتهم في دينهم الفراق، يرون الحق على أهوائهم، كأنما ينظرون بأقفائهم، اختالوا جهلا وبطرا، لا يرقبون من الله راقبة، ولا يخافون وبال عاقبة، اتخذوا إبليس لهم ربا، واتخذهم إبليس حزبا، فمن يقاربوه لا يسروه، ومن يفارقوه لا يضروه، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين في نحورهم، وكلامهم في صدورهم، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف

(هامش)

(1) مؤتنف: مستقبل. (2) حلب الدهر أشطره. مثل يقال للرجل المجرب الأمور الذي قاسى الشدة والرخاء وتصرف في الفقر والغنى (أنظر جمهرة الأمثال 1 / 346 المستقصى 2 / 64 مجمع الأمثال 1 / 195). (3) قارن كلام الأحنف مع ما ذكره العقد الفريد 4 / 370 ابن الأعثم 4 / 232 ابن الأثير 2 / 511 مروج الذهب 3 / 34. (4) يفهم من كلام الأحنف أن ذلك حصل قبل وفاة الحسن بن علي أي قبل سنة 50 والمشهور أن وفاة الحسن كانت سنة 49. (أنظر ما لاحظناه ص 188 حاشية رقم 2). (*)

ص 192

به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة من كلالة، ويحجب غير الذكر العصبة، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم، وكاتب نبيكم وصهره، يسلم لكم العاجل، وتربحوا من الآجل.

ما أجاب به الأحنف بن قيس

قال: ثم قام الأحنف بن قيس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنا قد فررنا عنك قريشا، فوجدناك أكرمها زندا، وأشدها عقدا، وأوفاها عهدا، وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليها قعصا (1)، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت (2)، ليكون له الأمر من بعدك، فإن تف فأنت أهل الوفاء، وإن تغدر تعلم والله إن وراء الحسن خيولا جيادا، وأذرعا شدادا، وسيوفا حدادا، إن تدن له شبرا من غدر، تجد وراءه باعا من نصر، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما، وما نزل عليهم في ذلك غير من السماء، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم، وأيم الله إن الحسن لأحب إلى أهل العراق من علي.

ما قال عبد الرحمن بن عثمان

قال: ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن رأي الناس مختلف، وكثير منهم منحرف، لا يدعون أحدا إلى رشاد، ولا يجيبون داعيا إلى سداد، مجانبون لرأي الخلفاء، مخالفون لهم في السنة والقضاء، وقد وقفت ليزيد في أحسن القضية، وأرضاها لحمل الرعية، فإذا خار الله لك، فاعزم، ثم اقطع قالة الكلام، فإن يزيد أعظمنا حلما وعلما، وأوسعنا كنفا، وخيرنا سلفا، قد أحكمته التجارب، وقصدت به سبل المذاهب، فلا يصرفنك عن بيعته صارف، ولا يقفن بك دونها واقف، ممن هو شاسع عاص، ينوص (3) للفتنة كل مناص، لسانه ملتو، وفي صدره داء دوي،

(هامش)

(1) القعص: القتل. يريد أنه لم يدخل العراق بالحرب وإنما جاء دخوله إليها بعد صلحه مع الحسن ومبايعة الحسن له. (2) راجع ما لاحظناه بشأن معاهدة الصلح بين الحسن بن علي ومعاوية. (3) ينوص للفتنة: يتحرك لها. (*)

ص 193

إن قال فشر قائل، وإن سكت فذود غائل، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك، من المجانبة للتوفيق، والكلف للتفريق، فأجل ببيعته عنا الغمة، واجمع به شمل الأمة، فلا تحد عنه إذ هديت له، ولا تنش (1) عنه إذ وقفت له، فإن ذلك الرأي لنا ولك، والحق علينا وعليك، أسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك بمنه.

ما قال معاوية بن أبي سفيان

قال: فقام معاوية فقال: أيها الناس، إن لإبليس من الناس إخوانا وخلانا بهم يستعد، وإياهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق، إن رجوا طمعا أوجفوا (2)، وإن استغنى عنهم أرجفوا (3) ثم يلحقون الفتن بالفجور، ويشققون لها حطب النفاق، عيابون مرتابون، إن ولوا عروة أمر حنقوا، وإن دعوا إلى غي أسرفوا، وليسوا أولئك بمنتهين ولا بمقلعين ولا متعظين، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل، وتحل بهم قوارع أمر جليل، تجتث أصولهم كاجتثات أصول الفقع (4)، فأولى لأولئك ثم أولى، فإنا قد قدمنا وأنذرنا إن أغنى التقديم شيئا أو نفع النذير. قال: فدعا معاوية الضحاك فولاه الكوفة، ودعا عبد الرحمن فولاه الجزيرة، ثم قام أبو خنيف (5) فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لا نطيق ألسنة مضر وخطبها، أنت يا أمير المؤمنين، فإن هلكت فيزيد بعدك، فمن أبي فهذا، وسل سيفه، فقال معاوية: أنت أخطب القوم وأكرمهم. ثم قام الأحنف بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، أنت أعلمنا بليله ونهاره، وبسره وعلانيته فإن كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه، وإن كنت تعلم أنه شر لك، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة، فإنه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن

(هامش)

(1) لا تنش عنه أي لا تبعد عنه ولا تتحرك من ناحيته. (2) أوجف بالشئ: أسرع بإتمامه. (3) أرجفوا: أثاروا الشائعات. (4) الفقع: نبات الكمأة، وأصوله سهلة الاستئصال. (5) في ابن الأثير 2 / 511 اسمه يزيد بن المقنع العذري. وفي مروج الذهب: رجل من الأزد. (*)

ص 194

والحسين، أنت تعلم من هما، وإلى ما هما، وإنما علينا أن نقول: (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) [البقرة: 285].

قدوم معاوية المدينة وما خاوض فيه العبادلة

قال: قالوا: فاستخار الله معاوية، وأعرض عن ذكر البيعة، حتى قدم المدينة سنة خمسين (1)، فتلقاه الناس، فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر، فلما جلسوا تكلم معاوية، فقال: الحمد لله الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيرا، كما أنعم علينا كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد، فإني قد كبر سني، ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن أدعى فأجيب، وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي يزيد، ورأيته لكم رضا، وأنتم عبادلة قريش وخيارها، وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي على حسن رأيي فيهما، وشديد محبتي لهما، فردوا على أمير المؤمنين خيرا رحمكم الله.

ما تكلم به عبد الله بن عباس

قال: فتكلم عبد الله بن عباس، فقال: الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده، واستوجب علينا الشكر على آلائه، وحسن بلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وصلى الله على محمد وآل محمد. أما بعد، فإنك قد تكلمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، اختار محمدا صلى الله عليه وسلم لرسالته، واختاره لوحيه، وشرفه على خلقه، فأشرف الناس من تشرف به، وأولاهم بالأمر أخصهم به، وإنما على الأمة التسليم لنبيها، إذ اختاره الله لها، فإنه إنما اختار محمدا بعلمه، وهو العليم الخبير، وأستغفر الله لي ولكم.

(هامش)

(1) كذا، وفي آخر ما يشير إلى أن ذهابه إلى المدينة كان قبل وفاة الحسن. (*)

ص 195

ما تكلم به عبد الله بن جعفر

قال: فقام عبد الله بن جعفر، فقال: الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه، نحمده على إلهامنا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقه وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم: أما بعد، فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله، فأولو رسول الله، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه، لحقه وصدقه، ولأطيع الرحمن، وعصي الشيطان، وما اختلف في الأمة سيفان، فاتق الله يا معاوية، فإنك قد صرت راعيا، ونحن رعية، فانظر لرعيتك فإنك مسؤول عنها غدا، وأما ما ذكرت من ابني عمي، وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحق، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما، وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم، فقل أو دع. وأستغفر لي الله ولكم.

ما تكلم به عبد الله بن الزبير

قال: فتكلم عبد الله بن الزبير، فقال: الحمد لله الذي عرفنا دينه، وأكرمنا برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإن هذه الخلافة لقريش خاصة، تتناولها بمآثرها السنية، وأفعالها المرضية، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتق الله يا معاوية وأنصف من نفسك، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله، وهذا عبد الله بن جعفر ذو الجناحين ابن عم رسول الله، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي خلف حسنا وحسينا، وأنت تعلم من هما، وما هما، فاتق الله يا معاوية، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك، ثم سكت. ما تكلم به عبد الله بن عمر

فتكلم عبد الله بن عمر، فقال: الحمد لله الذي أكرمنا بدينه، وشرفنا بنبيه صلى الله عليه وسلم أما بعد: فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية (1) ولا

(هامش)

(1) يريد أنها لا تورث كما يورث ملوك الروم أبناءهم الملك. والهرقلية نسبة إلى هرقل. (*)

ص 196

قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست شرطا مشروطا، وإنما هي في قريش خاصة، لمن كان لها أهلا ممن أرتضاه المسلمون لأنفسهم، من كان أتقى وأرضى، فإن كنت تريد الفتيان من قريش، فلعمري إن يزيد من فتيانها، واعلم أنه لا يغني عنك من الله شيئا.

ما تكلم به معاوية فتكلم معاوية

فقال: قد قلت وقلتم، وإنه ذهبت الآباء، وبقيت الأبناء، فابني أحب إلي من أبنائهم، مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف، لأنهم أهل رسول الله، فلما مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولي الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك ولا الخلافة، غير أنهما سارا بسيرة جميلة، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يا بن الزبير، وأنت يا بن عمر منها، فأما ابنا عمي هذان (1) فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله. ثم أمر بالرحلة، وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئا من صلاتهم وأعطياتهم. ثم انصرف راجعا إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.

موت الحسن بن علي رضي الله عنهما

قال: فلما كانت سنة إحدى وخمسين (2)، مرض الحسن بن علي مرضه الذي مات فيه (3)، فكتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن، فكتب إليه معاوية: إن استطعت ألا يمضي يوم يمر بي إلا يأتيني فيه خبره فافعل، فلم يزل يكتب إليه بحاله حتى توفي. فكتب إليه بذلك، فلما أتاه الخبر أظهر فرحا وسرورا، حتى سجد وسجد من كان معه، فبلغ ذلك عبد الله بن عباس، وكان

(هامش)

(1) يريد عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب. (2) في الطبري وابن الأثير وابن كثير والعقد الفريد مات سنة 49 بالمدينة. وقال آخرون: مات سنة 50 وقيل سنة 58. (3) قال ابن الأثير في الكامل: سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي. (وانظر البداية والنهاية 8 / 46 - 47). (*)

ص 197

بالشام يومئذ، فدخل على معاوية، فلما جلس قال معاوية: يا بن عباس هلك الحسن بن علي، فقال ابن عباس: نعم هلك (إنا لله وإنا إليه راجعون) ترجيعا مكررا، وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته. أما والله ما سد جسده حفرتك، ولا زاد نقصان أجله في عمرك، ولقد مات وهو خير منك، ولئن أصبنا به لقد أصبنا بمن كان خيرا منه، جده رسول الله صلى عليه وسلم، فجبر الله مصيبته، وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة. ثم شهق ابن عباس وبكى، وبكى من حضر في المجلس، وبكى معاوية، فما رأيت يوما أكثر باكيا من ذلك اليوم، فقال معاوية: بلغني أنه ترك بنين صغارا. فقال ابن عباس: كلنا كان صغيرا فكبر (1). قال معاوية: كم أتى له من العمر؟ فقال ابن عباس: أمر الحسن أعظم من أن يجهل أحد مولده. قال: فسكت معاوية يسيرا، ثم قال: يا بن العباس: أصبحت سيد قومك من بعده، فقال ابن عباس: أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا. قال معاوية: لله أبوك يا بن عباس، ما استنبأتك إلا وجدتك معدا.

بيعة معاوية ليزيد بالشام وأخذه أهل المدينة

قالوا: ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله إلا يسيرا حتى بايع ليزيد بالشام، وكتب بيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم، فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد، ويأمره أن يجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة، ثم يبايعوا ليزيد (2).

عزل مروان عن المدينة

قال: فلما قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك. وأبته قريش. فكتب لمعاوية: إن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك، فالرأي رأيك. فلما بلغ

(هامش)

(1) زيد في العقد الفريد 4 / 362 وإن طفلنا لكهل، وإن صغيرنا لكبير. (2) اختلفوا في موقف مروان بن الحكم من بيعة يزيد، فالمسعودي ذكر في مروج الذهب غضب مروان وانزعاجه ورفضه للبيعة (3 / 35) أما الطبري فقد ذكر عزل مروان عن المدينة دون ذكر السبب في ذلك. أما في العقد الفريد 4 / 371 وابن الأعثم في الفتوح 4 / 231 - 232 فقد ذكرا أن مروان جمع وجوه أهل المدينة - لما وصله كتاب معاوية - ودعاهم إلى بيعة يزيد وحذرهم الفتنة. (*)

ص 198

معاوية كتاب مروان عرف أن ذلك من قبله. فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله، ويخبره أنه قد ولى المدينة سعيد بن العاص (1)، فلما بلغ مروان كتاب معاوية، أقبل مغضبا في أهل بيته، وناس كثير من قومه، حتى نزل بأخواله بني كنانة، فشكا إليهم، وأخبرهم بالذي كان من رأيه في أمر معاوية، وفي عزله واستخلافه يزيد ابنه عن غير مشورة مبادرة له، فقالوا: نحن نبلك في يدك، وسيفك في قرابك فمن رميته بنا أصبناه، ومن ضربته بنا قطعناه، الرأي رأيك، ونحن طوع يمينك. ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير، ممن كان معه من قومه وأهل بيته حتى نزل دمشق، فخرج فيهم حتى أتى سدة معاوية، وقد أذن للناس. فلما نظر الحاجب إلى كثرة من معه من قومه وأهل بيته، منعه من الدخول، فوثبوا إليه، فضربوا وجهه، حتى خلى عن الباب، ثم دخل مروان، ودخلوا معه، حتى إذا كان من معاوية بحيث تناله يده.

خطبة مروان بن الحكم بين يدي معاوية

قال بعد التسليم عليه بالخلافة: إن الله عظيم خطره، لا يقدر قادر قدره، خلق من خلقه عبادا، جعلهم لدعائم دينه أوتادا، هم رقباؤه على البلاد، وخلفاؤه على العباد، أسفر بهم الظلم، وألف بهم الدين، وشدد بهم اليقين ومنح بهم الظفر، ووضع بهم من استكبر، فكان من قبلك من خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زمامنا، وكنا نكون لهم على الطاعة إخوانا، وعلى من خالف عنها أعوانا، يشد بنا العضد، ويقام بنا الأود (2)، ونستشار في القضية، ونستأمر في أمر الرعية، وقد أصبحنا اليوم في أمور مستحيرة ذات وجوه مستديرة، تفتح بأزمة الضلال وتجلس بأهواء الرجال، يؤكل جزورها، وتمق أحلابها (3) فما لنا لا نستأمر في رضاعها، ونحن فطامها وأولات فطامها؟ (4) وأيم الله لولا عهود مؤكدة، ومواثيق معقدة لأقمت أود وليها، فأقم الأمر يا بن سفيان واهدئ (5) من

(هامش)

(1) في الطبري وابن الأثير: تولى المدينة بعد عزل مروان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. (2) الأود: العوج. (3) وتمق أحلابها: يشرب لبنها جميعا. (4) يريد أن معاوية يستأثر بالخلافة وحده ولا يترك للآخرين مع أنهم يؤثرون سلبا في اتجاه الأوضاع، ويستطيعون أن يلعبوا دورا في كل القضايا المطروحة، والخطيرة منها. (5) في مروج الذهب 3 / 35 وأعدل وكلاهما بمعنى امتنع أو ترو ولا تتسرع. (*)

ص 199

تأميرك الصبيان، واعلم أن لك في قومك نظرا، وأن لهم على مناوأتك وزرا. فغضب معاوية من كلامه غضبا شديدا، ثم كظم غيظه بحلمه، وأخذ بيد مروان، ثم قال: إن الله قد جعل لكل شيء أصلا، وجعل لكل خير أهلا ثم جعلك في الكرم مني محتدا، والعزيز مني والدا، اخترت من قروم قادة، ثم استللت سيد سادة، فأنت ابن ينابيع الكرم، فمرحبا بك وأهلا من ابن عم ذكرت خلفا مفقودين، شهداء صديقين، كانوا كما نعت، وكنت لهم كما ذكرت، وقد أصبحنا في أمور مستحيرة، ذات وجوه مستديرة، وبك والله يا بن العم نرجو استقامة أودها، وذلولة صعوبتها، وسفور ظلمتها، حتى يتطأطأ جسيمها، ويركب بك عظيمها، فأنت نظير أمير المؤمنين بعده، وفي كل شدة عضده، وإليك عهد عهده، فقد وليتك قومك، وأعظمنا في الخراج سهمك، وأنا مجيز وفدك، ومحسن رفدك، وعلى أمير المؤمنين غناك، والنزول عند رضاك (1). فكان أول ما رزق ألف دينار في كل هلال، وفرض له في أهل بيته مئة مئة.

كراهية أهل المدينة البيعة وردهم لها

قال وذكروا أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص وهو على المدينة، يأمره أن يدعو أهل المدينة إلى البيعة، ويكتب إليه بمن سارع ممن لم يسارع. فلما أتى سعيد بن العاص الكتاب، دعا الناس إلى البيعة ليزيد، وأظهر الغلظة وأخذهم بالعزم والشدة، وسطا (2) بكل من أبطأ عن ذلك، فأبطأ الناس عنها، إلا اليسير، لا سيما بني هاشم، فإنه لم يجبه منهم أحد، وكان ابن الزبير من أشد الناس إنكارا لذلك، وردا له. فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية: أما بعد، فإنك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين، وأن أكتب إليك بمن سارع ممن أبطأ، وإني أخبرك أن الناس عن ذلك بطاء، لا سيما أهل البيت من بني هاشم، فإنه لم يجبني منهم أحد، وبلغني عنهم ما أكره وأما الذي جاهر بعداوته، وإبائه لهذا الأمر،

(هامش)

(1) أنظر مروج الذهب وزيد عنده بعد أن جعله ولي عهد يزيد: رده إلى المدينة ثم إنه عزله عنها وولاها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ولم يف لمروان بما جعل له من ولاية عهد يزيد بن معاوية. (2) سطا بهم: نكل بهم وعاقبهم. (*)

ص 200

فعبد الله بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلا بالخيل والرجال أو تقدم بنفسك، فترى رأيك في ذلك، والسلام. فكتب معاوية إلى عبد الله بن عباس، وإلى عبد الله بن الزبير، وإلى عبد الله بن جعفر، وإلى الحسين بن علي، رضي الله عنهم كتبا، وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم، ويبعث بجواباتها.

كتاب معاوية إلى سعيد بن العاص

كتب إلى سعيد بن العاص، أما بعد، فقد أتاني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من إبطاء الناس عن البيعة. ولا سيما بني هاشم، وما ذكر ابن الزبير وقد كتبت إلى رؤسائهم كتبا، فسلمها إليهم، وتنجز جواباتها، وابعث بها إلي، حتى أرى في ذلك رأيي، ولتشتد عزيمتك، ولتصلب شكيمتك، وتحسن نيتك. وعليك بالرفق، وإياك والخرق، فإن الرفق رشد، والخرق نكد، وانظر حسينا خاصة، فلا يناله منك مكروه، فإن له قرابة وحقا عظيما لا ينكره مسلم ولا مسلمة، وهو ليث عرين، ولست آمنك إن شاورته أن لا نقوى عليه، فأما من يرد مع السباع إذا وردت (1)، ويكنس إذا كنست (2)، فذلك عبد الله بن الزبير، فاحذره أشد الحذر، ولا قوة إلا بالله، وأنا قادم عليك إن شاء الله، والسلام.

ما كتب به إلى ابن عباس

وكتب إلى ابن عباس: أما بعد، فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين، وإني لو قتلتك بعثمان لكان ذلك إلي، لأنك ممن ألب عليه وأجلب، وما معك من أمان فتطمئن به، ولا عهد فتسكن إليه، فإذا أتاك كتابي هذا، فاخرج إلى المسجد، والعن قتلة عثمان، وبايع عاملي، فقد أعذر من أنذر وأنت بنفسك أبصر، والسلام.

(هامش)

(1) وردت السباع الماء: إذا أشرفت عليه، دخلته أو لم تدخله وقيل: الورود بالإجماع: عدم الدخول. والوراد هم الذين يردون الماء. (اللسان). (2) أي يأوي إلى كناسه، يعني مأواه. (*)

ص 201

ما كتب به إلى عبد الله بن جعفر

وكتب إلى عبد الله بن جعفر: أما بعد، فقد عرفت أثرتي (1) أياك على من سواك، وحسن رأيي فيك وفي أهل بيتك، وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت تشكر وإن تأب تجبر، والسلام.

ما كتب به إلى الحسين

وكتب إلى الحسين: أما بعد، فقد انتهت إلي منك أمور، لم أكن أظنك بها رغبة عنها، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك، في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلى قطيعتك، واتق الله ولا تردن هذه الأمة في فتنة، وانظر لنفسك ودينك وأمة محمد، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. ما كتبه إلى ابن الزبير وكتب إلى عبد الله بن الزبير: رأيت كرام الناس إن كف عنهم * بحلم رأوا فضلا لمن قد تحلما ولا سيما إن كان عفوا بقدرة * فذلك أحرى أن يجل ويعظما ولست بذي لوم فتعذر بالذي * أتاه من الأخلاق من كان ألوما ولكن غشا لست تعرف غيره * وقد غش قبل اليوم إبليس آدما فما غش إلا نفسه في فعاله * فأصبح ملعونا وقد كان مكرما وإني لأخشى أن أنالك بالذي * أردت فيجزي الله من كان أظلما

ما أجابه القوم به رضي الله عنهم

فكان أول ما أجابه عبد الله بن عباس، فكتب إليه: أما بعد، فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت، وأن ليس معي منك أمان، وإنه والله ما منك يطلب الأمان يا معاوية، وإنما يطلب الأمان من الله رب العالمين. وأما قولك في قتلي،

(هامش)

(1) الأثرة: بفتح الثاء وضمها: المكرمة. وفي المحكم: المكرمة المتوارثة. آثره: أكرمه. آثره عليه: فضله (اللسان). (*)

ص 202

فوالله لو فعلت للقيت الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم خصمك، فما إخاله أفلح ولا أنجح من كان رسول الله خصمه. وأما ما ذكرت من أني ممن ألب في عثمان وأجلب، فذلك أمر غبت عنه، ولو حضرته ما نسبت إلي شيئا من التأليب عليه، وأيم الله ما أرى أحدا غضب لعثمان غضبي، ولا أعظم أحد قتله إعظامي، ولو شهدته لنصرته (1)، أو أموت دونه، ولقد قلت وتمنيت يوم قتل عثمان: ليت الذي قتل عثمان لقيني فقتلني معه، ولا أبقى بعده وأما قولك لي: العن قتلة عثمان، فلعثمان ولد وخاصة وقرابة، هم أحق بلعنهم مني، فإن شاؤوا أن يلعنوا فليلعنوا، وإن شاؤوا أن يمسكوا فليمسكوا، والسلام. وكتب إليه عبد الله بن جعفر: أما بعد، فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أثرتك إياي على من سواي، فإن تفعل فبحظك أصبت، وإن تأب فبنفسك قصرت. وأما ما ذكرت من جبرك إياي على البيعة ليزيد، فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام، حتى أدخلناكما كارهين غير طائعين، والسلام. وكتب إليه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ألا سمع الله الذي أنا عبده * فأخزى إله الناس من كان أظلما وأجرا على الله العظيم بحلمه * وأسرعهم في الموبقات تقحما أغرك أن قالوا حليم بغرة * وليس بذي حلم ولكن تحلما ولو رمت ما إن قد زعمت وجدتني * هزبر عرين يترك القرن أكتما (2) وأقسم لولا بيعة لك لم أكن * لأنقضها لم تنج مني مسلما وكتب إليه الحسين رضي الله عنه: أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور، لم تكن تظنني بها، رغبة بي عنها، وإن الحسنات لا يهدي لها، ولا يسدد إليها إلا الله تعالى، وأما ما ذكرت أنه رقي إليك عني، فإنما رقاه الملاقون، المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حربا ولا خلافا، وإني لأخشى لله في ترك ذلك، منك ومن

(هامش)

(1) كان عثمان بن عفان قد ولى ابن عباس على الموسم وهو محاصر، حيث استمر الحصار من أواخر ذي القعدة إلى الثامن عشر من ذي الحجة ولما رجع الحج وجدوا عثمان قد قتل. (2) هزبر: الأسد. القرن: بالكسر: الكف ء والنظير في الشجاعة والحرب ويجمع على أقران. (*)

ص 203

حزبك، القاسطين المحلين، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم. ألست قاتل حجر (1)، وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلما وعدوانا، من بعدما أعطيتهم المواثيق الغليظة، والعهود المؤكدة، جراءة على الله واستخفافا بعهده، أو لست بقاتل عمرو بن الحمق، الذي أخلقت وأبلت وجهه العبادة، فقتلته من بعدما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم (2) نزلت من شعف الجبال، أو لست المدعي زيادا في الإسلام (3)، فزعمت أنه ابن أبي سفيان، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم سلطته على أهل الإسلام، يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويصلبهم على جذوع النخل، سبحان الله يا معاوية! لكأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك. أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنه على دين علي كرم الله وجهه، ودين علي هو دين ابن عمه صلى الله عليه وسلم، الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين: رحلة الشتاء والصيف، فوضعها الله عنكم بنا، منة عليكم، وقلت فيما قلت: لا ترد هذه الأمة في فتنة، وإني لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإن أفعل فإنه قربة إلى ربي، وإن لم أفعله فأستغفر الله لديني، وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى، وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديما يكاد الصالحون، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك، ولا تمحق إلا عملك، فكدني ما بدا لك، واتق الله يا معاوية، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. واعلم أن الله ليس

(هامش)

(1) يريد حجر بن عدي الكندي وقد قتله معاوية صبرا، ويقال إنه أول من قتل صبرا في الإسلام. قتل مع ستة من أصحابه وهم شريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي، وكدام بن حيان العنزي، وعبد الرحمن بن حسان العنزي (أنظر في مقتلهم مروج الذهب 3 / 3 - 4 والطبري 5 / 277). (2) العصم جمع أعصم وهي الوعول. (3) يريد زياد بن أبيه حيث استلحقه معاوية وجعله أخيه وسماه زياد بن أبي سفيان، وكان أبو سفيان قد أنكر أنه ابنه من سمية. (أنظر ما ذكره المسعودي في مروج الذهب 3 / 7) بشأن قضية إلحاق زياد بأبي سفيان. (*)

ص 204

بناس لك قتلك بالظنة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيا يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية والسلام.

قدوم معاوية المدينة على هؤلاء القوم وما كان بينهم من المنازعة

قال: وذكروا أنه لما جاوب القوم معاوية بما جاوبوه، من الخلاف لأمره، والكراهية لبيعته ليزيد، كتب إلى سعيد بن العاص (1)، يأمره أن يأخذ أهل المدينة بالبيعة ليزيد، أخذا بغلظة وشدة، ولا يدع أحدا من المهاجرين والأنصار وأبنائهم حتى يبايعوا، وأمره أن لا يحرك هؤلاء النفر، ولا يهيجهم. فلما قدم عليه كتاب معاوية أخذهم بالبيعة أعنف ما يكون من الأخذ وأغلظه، فلم يبايعه أحد منهم. فكتب إلى معاوية: إنه لم يبايعني أحد، وإنما الناس تبع لهؤلاء النفر، فلو بايعوك بايعك الناس جميعا، ولم يتخلف عنك أحد. فكتب إليه معاوية يأمره أن لا يحركهم إلى أن يقدم، فقدم معاوية المدينة حاجا، فلما أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقونه، ما بين راكب وماش، وخرج النساء والصبيان، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في الفوت والقرب، فلان لمن كافحه، وفاوض العامة بمحادثته وتألفهم جهده، مقاربة ومصانعة، ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به: يا أهل المدينة ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحب لمطالعتكم، حتى انطوى البعيد، ولان الخشن، وحق لجار رسول الله أن يتاق إليه. فرد عليه القوم: بنفسك ودارك ومهاجرك، أما إن لك منهم كإشفاق الحميم البر، والحفي المتعاهد (2). قال: حتى إذا كان بالجرف (3) لقيه الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس،

(هامش)

(1) في العقد الفريد 4 / 371 وفتوح ابن الأعثم 4 / 232: كتب إلى مروان بن الحكم. (2) الحفي: القريب الذي يحترم صاحبه ويحتفل به. المتعاهد: أي الذي يداوم الحفاوة. (3) الجرف: بالضم فسكون، موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام (معجم البلدان). (*)

ص 205

فقال معاوية: مرحبا يا بن بنت رسول الله وابن صنو أبيه (1)، ثم انحرف إلى الناس، فقال: هذان شيخا بني عبد مناف، وأقبل عليهما بوجهه وحديثه، فرحب وقرب، وجعل يواجه هذا مرة، ويضاحك هذا أخرى، حتى ورد المدينة، فلما خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان، يسلمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل، فانصرفا عنه فمال الحسين إلى منزله، ومضى عبد الله بن عباس إلى المسجد فدخله. وأقبل معاوية ومعه خلق كثير من أهل الشام، حتى أتى عائشة أم المؤمنين فاستأذن عليها فأذنت له وحده، ولم يدخل عليها معه أحد، وعندها مولاها ذكوان. فقالت عائشة: يا معاوية، أكنت تأمن أن أقعد لك رجلا فأقتلك كما قتلت أخي محمد بن أبي بكر؟ (2) فقال معاوية: ما كنت لتفعلي ذلك، قالت: لم؟ قال: لأني في بيت آمن، بيت رسول الله. ثم إن عائشة حمدت الله وأثنت عليه، وذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أبا بكر وعمر، وحضته على الاقتداء بهما، والاتباع لأثرهما، ثم صمتت. قال: فلم يخطب معاوية، وخاف أن لا يبلغ ما بلغت، فارتجل الحديث ارتجالا، ثم قال: أنت - والله يا أم المؤمنين - العالمة بالله وبرسوله، دللتنا على الحق، وحضضتنا على حظ أنفسنا، وأنت أهل لأن يطاع أمرك، ويسمع قولك، وإن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم، وقد أكد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم، أفترين أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟ فلما سمعت ذلك عائشة علمت أنه سيمضي على أمره، فقالت: أما ما ذكرت من عهود ومواثيق، فاتق الله في هؤلاء الرهط، ولا تعجل فيهم، فلعلهم لا

(هامش)

(1) في العقد الفريد: مرحبا بسيد شباب المسلمين. وفي ابن الأثير 2 / 511: لقيه الحسين أول الناس، فلما نظر إليه قال: لا مرحبا ولا أهلا، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه. فقال: مهلا فإني والله لست بأهل لهذه المقالة. وقيل إن الحسين لاقاه لما دنا من المدينة فكان لقاء معاوية له شيئا ثم أنه ندم على ما كان منه فعندما لقيه ببطن مر، بعد خروجه من المدينة، رحب به وأمر له بدابة وساير فالتبس على بعض المؤرخين خبر اللقاءين. ولم يذكر فيمن استقبله عبد الله بن عباس (وانظر فتوح ابن الأعثم 3 / 234). (2) وكان معاوية قد قتله سنة 38 وكان محمد عاملا على مصر لعلي بن أبي طالب وقد قتله معاوية بن حديج (أنظر تفاصيل مقتله في الطبري 5 / 94 وما بعدها). (*)

ص 206

يصنعون إلا ما أحببت، ثم قام معاوية، فلما قام قالت عائشة: يا معاوية، قتلت حجرا وأصحابه العابدين المجتهدين (1). فقال معاوية، دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك في حوائجك؟ قالت: صالح، قال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا، ثم خرج ومعه ذكوان، فاتكأ على يد ذكوان، وهو يمشي ويقول: تالله إن رأيت كاليوم قط خطيبا أبلغ من عائشة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى حتى أتى منزله. فأرسل إلى الحسين بن علي، فخلا به، فقال له: يا بن أخي، قد استوثق الناس لهذا الأمر، غير خمسة نفر من قريش، أنت تقودهم يا بن أخي، فما أربك إلى الخلاف؟ قال الحسين: أرسل إليهم، فإن بايعوك كنت رجلا منهم، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم، قال: فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحدا، فخرج، وقد أقعد له ابن الزبير رجلا بالطريق، فقال: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئا. قال: ثم أرسل معاوية بعده إلى ابن الزبير، فخلا به. فقال له: قد استوثق الناس لهذا الأمر، غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي، فما أربك إلى الخلاف؟ (2) قال: فأرسل إليهم، فإن بايعوك كنت رجلا منهم، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما (3) أحدا (4). قال: فأرسل بعده إلى ابن عمر، فأتاه وخلا به، فكلمه بكلام هو ألين من صاحبيه وقال: إني كرهت أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها، وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم، فما أربك إلى الخلاف؟ قال ابن عمر: هل لك في أمر تحقن به الدماء وتدرك به حاجتك؟ فقال معاوية: وددت ذلك، فقال ابن عمر: تبرز سريرك، ثم أجئ فأبايعك، على أني بعدك أدخل فيما اجتمعت عليه الأمة، فوالله لو أن الأمة اجتمعت بعدك على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة. قال: وتفعل؟ قال: نعم. ثم خرج وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فخلا به. قال: بأي يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرحمن: أرجو أن يكون ذلك خيرا

(هامش)

(1) تقدمت الإشارة قريبا إلى ذلك. (2) زيد في الطبري 5 / 304 قال: أنا أقودهم! قال: نعم، أنت تقودهم. (3) في الطبري: بحديثهم. (4) زيد في الطبري: قال: يا أمير المؤمنين، نحن في حرم الله عز وجل، وعهد الله سبحانه ثقيل فأبى عليه وخرج. (*)

ص 207

لي، فقال معاوية: والله لقد هممت أن أقتلك، فقال: لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا، ولأدخلك به في الآخرة النار، قال: ثم خرج عبد الرحمن بن أبي بكر، وبقي معاوية يومه ذلك يعطي الخواص، ويعصى مذمة الناس (1). فلما كان صبيحة اليوم الثاني، أمر بفراش فوضع له، وسويت مقاعد الخاصة حوله وتلقاءه من أهله، ثم خرج وعليه حلة يمانية، وعمامة دكناء، وقد أسبل طرفها بين كتفيه، وقد تغلى (2) وتعطر، فقعد على سريره، وأجلس كتابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب، ثم أرسل إلى الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، فسبق ابن عباس فلما دخل وسلم أقعده في الفراش عن يساره، فحادثه مليا، ثم قال: يا بن عباس لقد وفر الله حظكم من مجاورة هذا القبر الشريف، ودار الرسول عليه الصلاة والسلام. فقال ابن عباس، نعم أصلح الله أمير المؤمنين، وحظنا من القناعة بالبعض، والتجافي عن الكل أوفر، فجعل معاوية يحدثه ويحيد به عن طريق المجاوبة، ويعدل إلى ذكر الأعمال على اختلاف الغرائز والطبائع، حتى أقبل الحسين بن علي، فلما رآه معاوية جمع له وسادة كانت على يمينه، فدخل الحسين وسلم، فأشار إليه، فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم، فأخبره، ثم سكت. قال: ثم ابتدأ معاوية فقال: أما بعد، فالحمد لله ولي النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن إله إلا الله المتعالي عما يقول الملحدون علوا كبيرا، وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة، لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فأدى عن الله، وصدع (3) بأمره، وصبر على الأذى في جنبه، حتى وضح دين الله، وعز أولياؤه، وقمع المشركون، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه، وقد ترك من الدنيا ما بذل له، واختار منها الترك لما سخر له، زهادة واختيارا لله، وأنفة واقتدارا على الصبر، بغيا لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم خلفه رجلان

(هامش)

(1) لم يذكر عبد الله بن عباس فكما لا حظنا فقد ذكر أنه استدعى عبد الرحمن بن أبي بكر حيث لم يرد أنه كاتبه في جملة من كاتب من النفر المتقدمين. (2) تغلى أي تضمخ بالغالية، من أنواع المسك. (3) صدع بأمره: أظهره وبينه. (*)

ص 208

محفوظان، وثالث مشكور، وبين ذلك خوض طال ما عالجناه مشاهدة ومكافحة ومعاينة وسماعا، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما أحاول به في أمر الرعية، من سد الخلل، ولم الصدع بولاية يزيد بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد، وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة، ما أعياني مثله عندكما، وعند غيركما، مع علمه بالسنة، وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب، وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة، قدم على الصديق والفاروق، ومن دونهما من أكابر الصحابة، وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل (1)، من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة. ولا سنة مذكورة، فقادهم الرجل بأمره، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئهم، وقال فلم يقل معه، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فمهلا بني عبد المطلب، فأنا وأنتم شعبا نفع وجد، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلا بفضل قولكما، فردا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما، وأستغفر الله لي ولكما. قال: فتيسر ابن عباس للكلام، ونصب يده للمخاطبة، فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد، ونصيبي في التهمة أوفر، فأمسك ابن عباس، فقام الحسين، فحمد الله، وصلى على الرسول ثم قال: أما بعد يا معاوية، فلن يؤدي القائل، وإن أطنب في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم من جميع جزءا، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ النعت، وهيهات هيهات يا معاوية: فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى محلت، وجزت حتى جاوزت ما بذلت لذي حق من اسم حقه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله، وسياسته لأمة محمد، تريد أن توهم الناس في

(هامش)

(1) إشارة إلى تولية عمرو بن العاص غزوة ذات السلاسل من أرض بني عذرة حيث أرسله صلى الله عليه وسلم يستنفر العرب إلى الشام. ثم أرسل إليه مددا أبا بكر وعمر وأبا عبيدة (سيرة ابن هشام 4 / 272). (*)

ص 209

يزيد، كأنك تصف محجوبا، أو تنعت غائبا، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه فخذ ليزيد فيما أخذ فيه، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصرا، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدح باطلا في جور، وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية (1) وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ، في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا تراثا، ولقد - لعمر الله - أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة وجئت لنا بها، أما حججتم به القائم عند موت الرسول، فأذعن للحجة بذلك، ورده الإيمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم كان ويكون، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى عليه وسلم وتأميره له، وقد كان ذلك، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول، وبيعته له، وما صار - لعمر الله - يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوا عليه أفعاله، فقال صلى الله عليه وسلم: لا جرم معشر المهاجرين، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول، في أوكد الأحكام، وأولاها بالمجمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا، وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، وتتخطاهم إلى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، وتشقى بها في آخرتك. إن هذا لهو الخسران المبين. وأستغفر الله لي ولكم. قال: فنظر معاوية إلى ابن عباس فقال: ما هذا يا بن عباس؟ ولما عندك أدهى وأمر. فقال ابن عباس: لعمر الله إنها لذرية الرسول، وأحد أصحاب الكساء (2)، وفي البيت المطهر، فاله عما تريد، فإن لك في الناس مقنعا، حتى

(هامش)

(1) الأسقية جمع سقاء وهو القربة. (2) إشارة إلى حديث رواه ابن كثير في البداية والنهاية 7 / 376 قال لما نزلت آية (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم...) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ثم قال: اللهم هؤلاء أهلي. (*)

ص 210

يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين. فقال معاوية: أعود الحلم التحلم، قال: وخيره التحلم عن الأهل. انصرفا في حفظ الله، ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر (1)، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه معاوية ثم قال: يا عبد الله بن عمر قد كنت تحدثنا أنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة وأن لك الدنيا وما فيها، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملئهم، وأن تسفك دماءهم، وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وكد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم، ثم سكت. فتكلم عبد الله بن عمر، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد يا معاوية، لقد كانت قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك. فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا، ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم، وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، وأفرق ملأهم. وأسفك دماءهم، ولم أكن لا فعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة محمد. فقال معاوية: يرحمك الله ليس عندك خلاف. ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر. فقال له عبد الرحمن: إنك والله لوددت أنا نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لنجعلنها شورى، أو لأعيدنها جذعة، ثم قام ليخرج، فتعلق معاوية بطرف ردائه. ثم قال: على رسلك، اللهم اكفنيه بما شئت، ثم قال له: لا تظهرن لأهل الشام، فإني أخشى عليك منهم. ثم قال لابن الزبير، نحو ما قاله لابن عمر. ثم قال له: أنت ثعلب رواغ، كلما خرجت من جحر انجحرت في آخر، أنت ألبت هذين الرجلين (2)، وأخرجتهما

(هامش)

= ورواه أحمد في مسنده 1 / 173، 175، 182 و3 / 338 والترمذي في المناقب 5 / 638 ومسلم في فضائل الصحابة (باب 4) حديث 32. (1) كذا بالأصل وبعض كتب التاريخ. قال ابن الأثير في تاريخه 2 / 513: ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر لا يستقيم على قول من يجعل وفاته سنة 53، وإنما يصح على قول من يجعلها بعد ذلك الوقت. (2) عند ابن الأعثم: هؤلاء الثلاثة يريد الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر. (*)


ص 211

إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير. أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيكما نطيع، أنطيعك أم نطيعه؟ إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها وبايع ليزيد، فنحن نبايعه، فكثر كلامه وكلام ابن الزبير، حتى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أرك إلا قاتلا نفسك، ولكأني بك قد تخبطت في الحبالة. ثم أمرهم بالانصراف، واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج. ثم خرج، فأمر المنادي أن ينادي في الناس، أن يجتمعوا لأمر جامع فاجتمع الناس في المسجد، وقعد هؤلاء حول المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه. ثم ذكر يزيد وفضله، وقراءته القرآن، ثم قال: يا أهل المدينة، لقد هممت ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة (1) إلا بعثت إليها في بيعته، فبايع الناس جميعا، وسلموا، وأخرت المدينة بيعته، وقلت بيضته وأصله (2)، ومن لا أخافهم عليه وكان الذين أبوا البيعة منهم من كانوا أجدر أن يصله، ووالله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له، فقام الحسين فقال: والله لقد تركت من هو خير منه أبا وأما ونفسا، فقال معاوية: كأنك تريد نفسك؟ فقال الحسين: نعم، أصلحك الله. فقال معاوية: إذا أخبرك، أما قولك: خير منه أما، فلعمري: أمك خير من أمه، ولو لم تكن إلا أنها امرأة من قريش لكان لنساء قريش فضلهن، فكيف وهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم فاطمة في دينها وسابقتها، فأمك لعمر الله خير من أمه، وأما أبوك فقد حاكم أباه إلى الله، فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين: حسبك جهلك، آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: أما ما ذكرت من أنك خير من يزيد نفسا فيزيد والله خير لأمة محمد منك. فقال الحسين: هذا هو الإفك والزور، يزيد شارب الخمر، ومشتري اللهو خير مني؟ فقال معاوية: مهلا عن شتم ابن عمك، فإنك لو ذكرت عنده بسوء لم يشتمك (3). ثم التفت معاوية إلى الناس وقال: أيها الناس، قد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض، ولم يستخلف أحدا، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعة هدى، فعمل بكتاب الله وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة، رأى أن يستخلف عمر، فعمل عمر

(هامش)

(1) مدرة: القربة المبنية بالطين واللبن. (2) في ابن الأعثم قلت هم أصله وقومه وعشيرته. (3) زيد في فتوح ابن الأعثم: إن علم مني ما أعلمه منه فليقل فيما أقول فيه. (*)

ص 212

بكتاب الله، وسنة نبيه، فلما حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستة نفر، اختارهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كل ذلك يصنعونه نظرا للمسلمين، فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف، ونظرا لهم بعين الإنصاف.

ما قال عبد الله بن الزبير لمعاوية

قال: وذكروا أن عبد الله بن الزبير قام إلى معاوية فقال (1): إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض، فترك الناس إلى كتاب الله، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، ثم رأى أبو بكر أن يستخلف عمر، وهو أقصى قريش منه نسبا، ورأى عمر أن يجعلها شورى بين ستة نفر اختارهم من المسلمين، وفي المسلمين ابنه عبد الله، وهو خير من ابنك، فإن شئت أن تدع الناس على ما تركهم رسول الله، فيختارون لأنفسهم، وإن شئت أن تستخلف من قريش كما استخلف أبو بكر خير من يعلم، وإن شئت أن تصنع مثل ما صنع عمر، تختار رهطا من المسلمين، وتزويها عن ابنك، فافعل (2). فنزل معاوية عن المنبر، وانصرف ذاهبا إلى منزله، وأمر من حرسه وشرطته قوما أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة، وهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأوصاهم معاوية فقال: إني خارج العشية إلى أهل الشام، فأخبرهم أن هؤلاء النفر قد بايعوا وسلموا، فإن تكلم أحد منهم بكلام يصدقني أو يكذبني فيه، فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه، فحذر القوم ذلك، فلما كان العشي، خرج معاوية، وخرج معه هؤلاء النفر، وهو يضاحكهم، ويحدثهم، وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلة حمراء، وألبس الحسين حلة صفراء، وألبس عبد الله بن عباس حلة خضراء، وألبس ابن الزبير حلة يمانية. ثم خرج بينهم،

(هامش)

(1) في العقد الفريد وفتوح ابن الأعثم: نخيرك بين خصال ثلاث فاختر منها أيتهن شئت. (وانظر تاريخ خليفة ص 216 وابن الأثير 2 / 512). (2) زيد في العقد الفريد وابن الأثير: قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثم قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فأني قد أحببت أن أتقدم إليكم، فإنه أعذر من أنذر. (*)

ص 213

وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم: أي القوم، وأنهم بايعوا، فقال: يا أهل الشام (1) إن هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين، فوجدهم واصلين مطيعين، وقد بايعوا وسلموا، قال ذلك والقوم سكوت ولم يتكلموا شيئا حذر القتل، فوثب أناس من أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين إن كان رابك منهم ريب، فخل بيننا وبينهم، حتى نضرب أعناقهم. فقال معاوية: سبحان الله! ما أحل دماء قريش عندكم يا أهل الشام. لا أسمع لهم ذاكرا بسوء، فإنهم قد بايعوا وسلموا، وارتضوني فرضيت عنهم، رضي الله عنهم (2). ثم ارتحل معاوية راجعا إلى مكة، وقد أعطى الناس أعطياتهم، وأجزل العطاء، وأخرج إلى كل قبيلة جوائزها وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء. فخرج عبد الله بن عباس في أثره حتى لحقه بالروحاء (3)، فجلس ببابه، فجعل معاوية يقول: من بالباب؟ فيقال: عبد الله بن عباس؟ فلم يأذن لأحد. فلما استيقظ قال: من بالباب؟ فقيل: عبد الله بن عباس، فدعا بدابته، فأدخلت إليه، ثم خرج راكبا، فوثب إليه عبد الله بن عباس، فأخذ بلجام البغلة، ثم قال: أين تذهب؟ قال: إلى مكة، قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا، فأومأ إليه معاوية، فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم (4). قال ابن عباس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله بن عمر، فأخرجت جائزة بني عدي، فما لمنا إن أبى صاحبنا، وقد أبى صاحب غيرنا؟ فقال معاوية: لستم كغيركم، لا والله لا أعطيكم درهما حتى يبايع صاحبكم. فقال ابن عباس: أما والله لئن لم تفعل لألحقن بساحل من سواحل الشام، ثم لأقولن ما تعلم، والله لأتركنهم عليك خوارج. فقال معاوية: لا، بل أعطيكم جوائزكم، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعا إلى الشام، فلم يلبث إلا قليلا، حتى توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومة نامها رحمه الله.

ما قال سعيد بن عثمان بن عفان لمعاوية

قال: فلما قدم معاوية إلى الشام، أتاه سعيد بن عثمان بن عفان، وكان شيطان

(هامش)

(1) أنظر مقالته في ابن الأثير 2 / 513 العقد الفريد 4 / 372 ابن الأعثم 4 / 248 باختلاف عما هنا. (2) فبايع الناس، وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر، وتفرقوا وهم يظنون أنهم. (3) الروحاء: على طريق مكة من المدينة. (4) يريد الحسين بن علي. (*)

ص 214

قريش ولسانها. قال: يا أمير المؤمنين علام تبايع ليزيد وتتركني؟ فوالله لتعلم أن أبي خير من أبيه، وأمي خير من أمه، وأنا خير منه، وأنك إنما نلت ما أنت فيه بأبي، فضحك معاوية وقال: يا بن أخي أما قولك: إن أباك خير من أبيه، فيوم من عثمان خير من معاوية، وأما قولك: إن أمك خير من أمه، ففضل قرشية على كلبية فضل بين، وأما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك، فإنما هو الملك يؤتيه الله من يشاء، قتل أبوك رحمه الله، فتواكلته بنو العاصي، وقامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منة عليك، وأما أن تكون خيرا من يزيد، فوالله (1) ما أحب أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد، لكن دعني من هذا القول، وسلني أعطك. فقال سعيد بن عثمان: يا أمير المؤمنين، لا يعدم يزيد مركبا ما دمت له، وما كنت لأرضى ببعض حقي دون بعض، فإذا أبيت فأعطني مما أعطاك الله. فقال معاوية: لك خراسان. قال سعيد: وما خراسان؟ قال: إنها لك طعمة وصلة رحم، فخرج راضيا، وهو يقول: ذكرت أمير المؤمنين وفضله * فقلت جزاه الله خيرا بما وصل وقد سبقت مني إليه بوادر * من القول فيه آفة العقل والزلل فعاد أمير المؤمنين بفضله * وقد كان فيه قبل عودته ميل وقال خراسان لك اليوم طعمة * فجوزي أمير المؤمنين بما فعل فلو كان عثمان الغداة مكانه * لما نالني من ملكه فوق ما بذل فلما انتهى قوله إلى معاوية، أمر يزيد أن يزوده، وأمر إليه بخلعة، وشيعه فرسخا.

قدوم أبي الطفيل على معاوية

قال: وذكروا أنه لم يكن أحد أحب إلى معاوية أن يلقاه من أبي الطفيل الكناني، وهو عامر بن واثلة، وكان فارس أهل صفين، وشاعرهم، وكان من أخص الناس بعلي كرم الله وجهه، فقدم أبو الطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية، فأخبر معاوية بقدومه، فأرسل إليه، فأتاه وهو شيخ كبير، فلما دخل عليه، قال له معاوية: أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: نعم. قال

(هامش)

(1) العبارة في الطبري (حوادث سنة 56) فوالله ما أحب أن الغوطة دحست (أي ملئت) ليزيد رجالا مثلك. (*)

ص 215

معاوية: أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين، قال: لا، ولكن ممن شهده فلم ينصره، قال: ولم؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار، فقال معاوية: أما والله إن نصرته كانت عليهم وعليك حقا واجبا، وفرضا لازما، فإذ ضيعتموه فقد فعل الله بكم ما أنتم أهله، وأصاركم إلى ما رأيتم، فقال أبو الطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين، إذ تربصت به ريب المنون أن تنصره ومعك أهل الشام؟ قال معاوية: أو ما ترى طلبي لدمه، فضحك أبو الطفيل وقال: بلى، ولكني وإياك كما قال عبيد بن الأبرص (1): لا أعرفنك (2) بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي فدخل مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحكم، فلما جلسوا نظر إليهم معاوية، ثم قال: أتعرفون هذا الشيخ؟ قالوا: لا، فقال معاوية: هذا خليل علي بن أبي طالب وفارس صفين، وشاعر أهل العراق، هذا أبو الطفيل. قال سعيد بن العاص: قد عرفناه يا أمير المؤمنين، فما يمنعك منه؟ وشتمه القوم، فزجرهم معاوية وقال: مهلا، فرب يوم ارتفع عن الأسباب قد ضقتم به ذرعا، ثم قال: أتعرف هؤلاء يا أبا الطفيل؟ قال: ما أنكرهم من سوء، ولا أعرفهم بخير، وأنشد: فإن تكن العداوة قد أكنت * فشر عداوة المرء السباب فقال معاوية: يا أبا الطفيل، ما أبقى لك الدهر من حب علي؟ قال: حب أم موسى، وأشكو إلى الله التقصير، فضحك معاوية، قال: ولكن والله هؤلاء الذين حولك لو سئلوا عني ما قالوا هذا. فقال مروان: أجل، والله لا نقول الباطل. قال: ثم جهزه معاوية، وألحقه بالكوفة (3).

ما حاول معاوية من تزويج يزيد

قال: وذكروا أن يزيد بن معاوية سهر ليلة من الليالي، وعنده وصيف لمعاوية يقال له رفيق، فقال يزيد: أستديم الله بقاء أمير المؤمنين، وعافيته إياه،

(هامش)

(1) في مروج الذهب 3 / 20 كما قال الجعدي (يريد النابغة). (2) في مروج الذهب: ألفينك. (3) الخبر في مروج الذهب باختلاف واختصار 3 / 19 - 20. (*)

ص 216

وأرغب إليه في تولية أمره وكفاية همه، فقد كنت أعرف من جميل رأي أمير المؤمنين في، وحسن نظره في جميع الأشياء ما يؤكد الثقة ذلك والتوكل عليه؟ منعني من البوح بما جمجمت في صدري له، وتطلابه إليه، فأضاع من أمري وترك من النظر في شأني، وقد كان في حلمه، وعلمه، ورضائه، ومعرفته، بما يحق لمثله النظر فيه، غير غافل عنه، ولا تارك له، مع ما يعلم من هيبتي له وخشيتي منه، فالله يجزيه عني بإحسانه، ويغفر له ما اجترح من عهده ونسيانه، فقال الوصيف: وما ذلك جعلت فداك؟ لا تلم على تضييعه إياك، فإنك تعرف تفضيله لك، وحرصه عليك، وما يخامره من حبك، وأن ليس شيء أحب إليه، ولا آثر عنده منك لديه، فاذكر بلاءه، واشكر حباءه فإنك لا تبلغ من شكره إلا بعون من الله. قال: فأطرق يزيد إطراقا عرف الوصيف منه ندامته على ما بدا منه، وباح به، فلما آب من عنده توجه نحو سدة معاوية ليلا وكان غير محجوب عنه، ولا محبوس دونه، فعلم معاوية أنه ما جاء به إلا خبر أراد إعلامه به. فقال له معاوية: ما وراءك؟ وما جاء بك؟ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، كنت عند يزيد ابنك، فقال فيما استجر من الكلام كذا وكذا، فوثب معاوية وقال: ويحك ما أضعنا منه؟ رحمة له، وكراهية لما شجاه وخالف هواه؟ وكان معاوية لا يعدل بما يرضيه شيئا. فقال: علي به، وكان معاوية إذا أتت الأمور المشكلة المعضلة، بعث إلى يزيد يستعين به على استيضاح شباتها واستسهال معضلاتها، فلما جاءه الرسول قال: أجب أمير المؤمنين، فحسب يزيد إنما دعاه إلى تلك الأمور التي يفزع إليه منها، ويستعين برأيه عليها، فأقبل حتى دخل عليه، فسلم ثم جلس، فقال معاوية: يا يزيد ما الذي أضعنا من أمرك، وتركنا من الحيطة عليك، وحسن النظر لك، حيث قلت ما قلت؟، وقد تعرف رحمتي بك، ونظري في الأشياء التي تصلحك، قبل أن تخطر على وهمك، فكنت أظنك على تلك النعماء شاكرا، فأصبحت بها كافرا، إذ فرط من قولك ما ألزمتني فيه إضاعتي إياك، وأوجبت علي منه التقصير، لم يزجرك عن ذلك تخوف سخطي، ولم يحجزك دون ذكره سالف نعمتي، ولم يردعك عنه حق أبوتي، فأي ولد أعق منك وأكيد، وقد علمت أني تخطأت الناس كلهم في تقديمك، ونزلتهم لتوليتي إياك، ونصبتك إماما على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم من

ص 217

عرفت، وحاولت منهم ما علمت؟ قال: فتكلم يزيد، وقد خنقه من شدة الحياء الشرق وأخضله من أليم الوجد العرق. قال: لا تلزمني كفر نعمتك، ولا تنزل بي عقابك، وقد عرفت نعمة مواصلتك ببرك، وخطوي إلى كل ما يسرك، في سري وجهري فليسكن سخطك، فإن الذي أرثي له من أعباء حمله وثقله، أكثر مما أرثي لنفسي، من أليم ما بها وشدته، وسوف أنبئك وأعلمك أمري. كنت قد عرفت من أمير المؤمنين استكمل الله بقاءه، نظرا في خيار الأمور لي، وحرصا على سياقها إلي، وأفضل ما عسيت أستعد له بعد إسلامي المرأة الصالحة، وقد كان ما تحدث به من فضل جمال أرينب بنت إسحاق وكمال أدبها ما قد سطح وشاع في الناس، فوقع مني بموقع الهوى فيها، والرغبة في نكاحها، فرجوت ألا تدع حسن النظر لي في أمرها، فتركت ذلك حتى استنكحها بعلها، فلم يزل ما وقع في خلدي ينمو ويعظم في صدري، حتى عيل صبري، فبحت بسري، فكان مما ذكرت تقصيرك في أمري، فالله يجزيك أفضل من سؤالي وذكري. فقال له معاوية: مهلا يا يزيد، فقال: علام تأمرني بالمهل وقد انقطع منها الأمل؟ فقال له معاوية: فأين حجاك ومروءتك وتقاك؟ فقال يزيد: قد يغلب الهوى على الصبر والحجا، ولو كان أحد ينتفع فيما يبتلي به من الهوى يتقاه، أو يدفع ما أقصده بحجاه، لكان أولى الناس بالصبر داود عليه السلام، وقد خبرك القرآن بأمره. فقال معاوية: فما منعك قبل الفوت من ذكره؟ قال: ما كنت أعرفه، وأثق به من جميل نظرك، قال: صدقت، ولكن اكتم يا بني أمرك بحلمك، واستعن بالله على غلبة هواك بصبرك، فإن البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره، ولا بد مما هو كائن. وكانت أرينب بنت إسحاق مثلا في أهل زمانها في جمالها، وتمام كمالها وشرفها، وكثرة مالها، فتزوجها رجل من بني عمها يقال له عبد الله بن سلام من قريش، وكان من معاوية بالمنزلة الرفيعة في الفضل. ووقع أمر يزيد من معاوية موقعا ملأه هما، وأوسعه غما، فأخذ في الحيلة والنظر أن يصل إليها، وكيف يجمع بينه وبينها حتى يبلغ رضا يزيد فيها. فكتب معاوية إلى عبد الله بن سلام: وكان قد استعمله على العراق، أن أقبل حين تنظر في كتابي هذا لأمر حظك فيه كامل، ولا تتأخر عنه، فأعد المصير والإقبال. وكان عند معاوية بالشام أبو هريرة وأبو الدرداء، صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عبد الله بن

ص 218

سلام الشام، أمر معاوية أن ينزل منزلا قد هيئ له، وأعد له فيه نزله، ثم قال لأبي هريرة وصاحبه: إن الله قسم بين عباده قسما، وواهبهم نعما أوجب عليهم شكرها، وحتم عليهم حفظها، وأمرهم برعاية حقها، وسلطان طريقها، بجميل النظر، وحسن التفقد لمن طوقهم الله أمره، كما فوضه إليهم، حتى تؤدوا إلى الله الحق فيهم كما أوجبه عليهم، فحياني منها عز وجل بأعز الشرف، وسمو السلف، وأفضل الذكر، وأغدق اليسر، وأوسع علي في رزقه، وجعلني راعي خلقه، وأمينه في بلاده، والحاكم في أمر عباده، ليبلوني أأشكر آلاءه أم أكفرها، فإياه أسأله أداء شكره، وبلوغ ما أرجو بلوغه، من عظيم أجره، وأول ما ينبغي للمرء أن يتفقده وينظر فيه، فيمن استرعاه الله أمره من أهله ومن لا غنى به عنه. وقد بلغت لي ابنة أردت أنكاحها، والنظر فيمن يريد أن يباعلها. لعل من يكون بعدي يهتدي منه، بهديي، ويتبع فيه أثري، فإني قد تخوفت أن يدعو من يلي هذا الأمر من بعدي زهوة السلطان وسرفه إلى عضل نسائهم، ولا يرون لهن فيمن ملكوا أمره كفؤا ولا نظيرا، وقد رضيت لها عبد الله بن سلام لدينه وفضله ومروءته وأدبه. فقال أبو هريرة وأبو الدرداء: إن أولى الناس برعاية أنعم الله وشكرها، وطلب مرضاته فيها فيما خصه به منها، أنت صاحب رسول الله وكاتبه. فقال معاوية اذكروا له ذلك عني، وقد كنت جعلت لها في نفسها شورى، غير أني أرجو أنها لا تخرج من رأيي إن شاء الله، فلما خرجا من عنده متوجهين إلى منزل عبد الله بن سلام بالذي قال لهما، قال: ودخل معاوية إلى ابنته، فقال لها: إذا دخل عليك أبو هريرة وأبو الدرداء، فعرضا عليك أمر عبد الله بن سلام، وإنكاحي إياك منه، ودعواك إلى مباعلته، وحضاك على ملاءمة رأيي، والمسارعة إلى هواي. فقولي لهما: عبد الله بن سلام كفؤ كريم، وقريب حميم، غير أنه تحته أرينب بنت إسحاق، وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء، فأتولى منه ما أسخط الله فيه، فيعذبني عليه، فأفارق الرجاء، وأستشعر الأذى، ولست بفاعلة حتى يفارقها، فذكر ذلك أبو هريرة وأبو الدرداء لعبد الله بن سلام، وأعلماه بالذي أمرهما معاوية، فلما أخبراه سر به وفرح، وحمد الله عليه، ثم قال: نستمتع الله بأمير المؤمنين، لقد والى علي من نعمه، وأسدى إلي من مننه، فأطول ما أقوله فيه قصير، وأعظم الوصف لها يسير. ثم أراد إخلاطي بنفسه، وإلحاقي بأهله، إتماما لنعمته، وإكمالا لإحسانه، فالله

ص 219

أستعين على شكره، وبه أعوذ من كيده ومكره. ثم بعثهما إليه خاطبين عليه، فلما قدما، قال لهما معاوية: قد تعلمان رضائي به وتنخلي إياه، وحرصي عليه، وقد كنت أعلنتكما بالذي جعلت لها في نفسها من الشورى، فادخلا إليها، وأعرضا عليها الذي رأيت لها، فدخلا عليها وأعلماها بالذي ارتضاه لها أبوها، لما رجا من ثواب الله عليه. فقالت لهما كالذي قال لها أبوها، فأعلماه بذلك، فلما ظن أنه لا يمنعها منه إلا أمرها، فارق زوجته، وأشهدهما على طلاقها، وبعثهما خاطبين إليه أيضا، فخطبا، وأعلما معاوية بالذي كان من فراق عبد الله بن سلام امرأته، طلابا لما يرضيها، وخروجا عما يشجيها، فأظهر معاوية كراهية لفعله، وقال: ما أستحسن له طلاق امرأته، ولا أحببته، ولو صبر ولم يعجل لكان أمره إلى مصيره، فإن كون ما هو كائن لا بد منه، ولا محيص عنه، ولا خيرة فيه للعباد، والأقدار غالبة، وما سبق في علم الله لا بد جار فيه، فانصرفا في عافية، ثم تعودان إلينا فيه، وتأخذان إن شاء الله رضانا. ثم كتب إلى يزيد ابنه يعلمه بما كان من طلاق أرينب بنت إسحاق عبد الله بن سلام، فلما عاد أبو هريرة وأبو الدرداء إلى معاوية أمرهما بالدخول عليها، وسؤالها عن رضاها تبريا من الأمر، ونظرا في القول والعذر، فيقول: لم يكن لي أن أكرهها، وقد جعلت لها الشورى في نفسها، فدخلا عليها، وأعلماها بالذي رضيه إن رضيت هي، وبطلاق عبد الله بن سلام امرأته أرينب، طلابا لمسرتها، وذكرا من فضله، وكمال مروءته، وكريم محتده، ما القول يقصر عن ذكره. فقالت لهما: جف القلم بما هو كائن، وإنه في قريش لرفيع، غير أن الله عز وجل يتولى تدبير الأمور في خلقه، وتقسيمها بين عباده، حتى ينزلها منازلها فيهم، ويضعها على ما سبق في أقدارها. وليست تجري لأحد على ما يهوى، ولو كان لبلغ منها غاية ما شاء. وقد تعرفان أن التزويج هزله جد، وجده ندم، الندم عليه يدوم، والمعثور فيه لا يكاد يقوم، والأناة في الأمور أوفق لما يخاف فيها من المحذور، فإن الأمور إذا جاءت خلاف الهوى بعد التأني فيها، كان المرء بحسن العزاء خليقا، وبالصبر عليها حقيقا، وعلمت أن الله ولي التدابير. فلم تلم النفس على التقصير، وإني بالله أستعين، سائلة عنه، حتى أعرف دخيلة خبره، ويصح لي الذي أريد علمه من أمره ومستخيرة، وإن كنت أعلم أنه لا خيرة لأحد فيما هو كائن، ومعلمتكما بالذي يرينيه الله في أمره، ولا قوة إلا بالله.

ص 220

فقالا: وفقك الله وخار لك. ثم انصرفا عنها، فلما أعلماه بقولها تمثل وقال: فإن يك صدر هذا اليوم ولى * فإن غدا لناظره قريب وتحدث الناس بالذي كان من طلاق عبد الله امرأته قبل أن يفرغ من طلبته، وقبل أن يوجب له الذي كان من بغيته، ولم يشكوا في غدر معاوية إياه. فاستحث عبد الله بن سلام أبا هريرة وأبا الدرداء، وسألهما الفراغ من أمره، فأتياها. فقالا لها: قد أتيناك لما أنت صانعة في أمرك، وإن تستخيري الله يخر لك فيما تختارين فإنه يهدي من استهداه، ويعطي من اجتداه، وهو أقدر القادرين. قالت: الحمد الله أرجو أن يكون الله قد خار لي، فإنه لا يكل إلى غيره من توكل عليه، وقد استبرأت أمره، وسألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسي، مع اختلاف من استشرته فيه، فمنهم الناهي عنه، ومنهم الآمر به، واختلافهم أول ما كرهت من الله. فعلم عبد الله أنه خدع، فهلع ساعة واشتد عليه الهم. ثم انتبه فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال متعزيا: ليس لأمر الله راد، ولا لما لا بد أن يكون منه صاد، أمور في علم الله سبقت، فجرت بها أسبابها، حتى امتلأت منها أقرابها، وإن امرؤ انثال له حلمه واجتمع له عقله، واستذله رأيه، ليس بدافع عن نفسه قدرا ولا كيدا، ولا انحرافا عنه ولا جيدا، ولآل ما سروا به واستجذلوا له لا يدوم لهم سروره، ولا يصرف عنهم محذوره. قال: وذاع أمره في الناس وشاع، ونقلوه إلى الأمصار، وتحدثوا به في الأسمار، وفي الليل والنهار، وشاع في ذلك قولهم، وعظم لمعاوية عليه لومهم، وقالوا: خدعه معاوية حتى طلق امرأته، وإنما أرادها لابنه، فبئس من استرعاه الله أمر عباده، ومكنه في بلاده، وأشركه في سلطانه، يطلب أمرا بخدعة من جعل الله إليه أمره، ويحيره ويصرعه جرأة على الله. فلما بلغ معاوية ذلك من قول الناس. قال: لعمري ما خدعته. قال: فلما انقضت أقراؤها، وجه معاوية أبا الدرداء إلى العراق خاطبا لها على ابنه يزيد، فخرج حتى قدمها، وبها يومئذ الحسين بن عليه وهو سيد أهل العراق فقها ومالا وجودا وبذلا. فقال أبو الدرداء إذ قدم العراق: مما ينبغي لذي الحجا والمعرفة والتقى أن يبدأ به ويؤثره على مهم أمره، لما يلزمه حقه، ويجب عليه حفظه، وهذا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد شباب أهل الجنة يوم القيامة، فلست بناظر في شيء قبل

ص 221

الالمام به والدخول عليه، والنظر إلى وجهه الكريم وأداء حقه، والتسليم عليه، ثم أستقبل بعد إن شاء الله ما جئت له، وبعثت إليه، فقصد حتى أتى الحسين، فلما رآه الحسين قام إليه فصافحه إجلالا له، ومعرفته لمكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضعه من الإسلام. ثم قال الحسين: مرحبا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجليسه، يا أبا الدرداء، أحدثت لي رؤيتك شوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقدت مطلقات أحزاني عليه، فإني لم أر منذ فارقته أحدا كان له جليسا، وإليه حبيبا، إلا هملت عيناي، وأحرقت كبدي أسى عليه، وصبابة إليه. ففاضت عينا أبي الدرداء لذكر رسول الله، وقال: جزى الله لبانة أقدمتنا عليك، وجمعتنا بك خيرا. فقال الحسين: والله إني لذو حرص عليك، ولقد كنت بالاشتياق إليك. فقال أبو الدرداء: وجهني معاوية خاطبا على ابنه يزيد أرينب بنت إسحاق، فرأيت أن لا أبدأ بشيء قبل إحداث العهد بك، والتسليم عليك. فشكر له الحسين ذلك، وأثنى عليه وقال: لقد كنت ذكرت نكاحها، وأردت الارسال إليها بعد انقضاء أقرائها، فلم يمنعني من ذلك إلا تخيير مثلك، فقد أتى الله بك، فاخطب رحمك الله علي وعليه، فلتختر من اختاره الله لها وإنها أمانة في عنقك حتى تؤديها إليها، وأعطها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه. فقال أبو الدرداء: أفعل إن شاء الله، فلما دخل عليها قال لها: أيتها المرأة إن الله خلق الأمور بقدرته، وكونها بعزته، فجعل لكل أمر قدرا، ولكل قدر سببا، فليس لأحد عن قدر الله مستحاص، ولا عن الخروج عن علمه مستناص، فكان مما سبق لك وقدر عليك، الذي كان من فراق عبد الله بن سلام إياك، ولعل ذلك لا يضرك، وأن يجعل الله لك فيه خيرا كثيرا. وقد خطبك أمير هذه الأمة، وابن الملك، وولي عهده، والخليفة من بعده، يزيد بن معاوية. وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن أول من آمن به من أمته، سيد شباب أهل الجنة يوم القيامة، وقد بلغك سناهما وفضلهما، وجئتك خاطبا عليهما، فاختاري أيهما شئت؟ فسكتت طويلا. ثم قالت: يا أبا الدرداء لو أن هذا الأمر جاءني وأنت غائب عني أشخصت فيه الرسل إليك، واتبعت فيه رأيك، ولم أقطعه دونك على بعد مكانك، ونأي دارك، فأما إذ كنت المرسل فيه فقد فوضت أمري بعد الله إليك، وبرئت منه إليك، وجعلته في يديك، فاختر لي أرضاهما لديك،

ص 222

والله شهيد عليك، واقض فيه قضاء ذي التحري المتقي، ولا يصدنك عن ذلك اتباع هوى، فليس أمرهما عليك خفيا وما أنت عما طوقتك عميا. فقال أبو الدرداء: أيتها المرأة إنما علي إعلامك وعليك الاختيار لنفسك. قالت: عفا الله عنك، إنما أنا بنت أخيك، ومن لا غنى بها عنك فلا يمنعك رهبة أحد من قول الحق فيما طوقتك، فقد وجب عليك أداء الأمانة فيما حملتك، والله خير من روعي وخيف، إنه بنا خبير لطيف. فلما لم يجد بدا من القول والإشارة عليها. قال: بنية، ابن بنت رسول الله أحب إلي وأرضاهما عندي، والله أعلم بخيرهما لك، وقد كنت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا شفتيه على شفتي الحسين فضعي شفيتك حيث وضعهما رسول الله، قالت: قد اخترته ورضيته، فاستنكحها الحسين بن علي، وساق إليها مهرا عظيما، وقال الناس وبلغ معاوية الذي كان من فعل أبي الدرداء في ذكره حاجة أحد مع حاجته، وما بعثه هو له، ونكاح الحسين إياها، فتعاظمه ذلك جدا، ولامه لوما شديدا، وقال: من يرسل ذا بلاهة وعمى، يركب في أمره خلاف ما يهوى، ورأيي كان من رأيه أسوأ، ولقد كنا بالملامة منه أولى حين بعثناه، ولحاجتنا انتخلناه، وكان عبد الله بن سلام قد استودعها قبل فراقه إياها بدرات مملوءة درا، كان ذلك الدر أعظم ماله وأحبه إليه، وكان معاوية قد أطرحه، وقطع جميع روافده عنه، لسوء قوله فيه، وتهمته إياه على الخديعة، فلم يزل يجفوه ويغضبه، ويكدي عنه، ما كان يجديه، حتى عيل صبره، وطال أمره، وقل ما في يديه، ولام نفسه على المقام لديه، فخرج من عنده راجعا إلى العراق، وهو يذكر ماله الذي كان استودعها، ولا يدري كيف يصنع فيه، وأنى يصل إليه، ويتوقع جحودها عليه، لسوء فعله بها، وطلاقه إياها على غير شيء أنكره منها، ولا نقمة عليها. فلما قدم العراق لقي الحسين، فسلم عليه. ثم قال: قد علمت جعلت فداك الذي كان من قضاء الله في طلاق أرينب بنت إسحاق، وكنت قبل فراقي إياها قد استودعتها مالا عظيما درا وكان الذي كان ولم أقبضه، ووالله ما أنكرت منها في طول ما صحبتها فتيلا، ولا أظن بها إلا جميلا، فذكرها أمري، واحضضها على الرد علي، فإن الله يحسن عليك ذكرك، ويجزل به أجرك. فسكت عنه. فلما انصرف الحسين إلى أهله، قال لها: قدم عبد الله بن سلام وهو يحسن الثناء عليك، ويحمل النشر عنك، في حسن صحبتك، وما أنسه قديما من أمانتك

ص 223

فسرني ذلك وأعجبني، وذكر أنه كان استودعك مالا قبل فراقه إياك، فأدي إليه أمانته، وردي عليه ماله، فإنه لم يقل إلا صدقا، ولم يطلب إلا حقا. قالت: صدق، قد والله استودعني مالا لا أدري ما هو، وإنه لمطبوع عليه بطابعه ما أخذ منه شيء إلى يومه هذا، فأثنى عليها الحسين خيرا، وقال: بل أدخله عليك حتى تبرئي إليه منه كما دفعه إليك. ثم لقي عبد الله بن سلام، فقال له: ما أنكرت مالك، وزعمت أنه لكما دفعته إليها بطابعك، فادخل يا هذا عليها، وتوف مالك منها. فقال عبد الله بن سلام: أو تأمر بدفعه إلي جعلت فداك. قال: لا، حتى تقبضه منها كما دفعته إليها، تبرئها منه إذا أدته. فلما دخلا عليها قال لها الحسين: هذا عبد الله بن سلام، قد جاء يطلب وديعته، فأديها إليه كما قبضتها منه، فأخرجت البدرات فوضعتها بين يديه، وقالت له: هذا مالك، فشكر لها، وأثنى عليها، وخرج الحسين، ففض عبد الله خاتم بدره، فحثا لها من ذلك الدر حثوات، وقال: خذي، فهذا قليل مني لك، واستعبرا جميعا، حتى تعالت أصواتهما بالبكاء، أسفا على ما ابتليا به، فدخل الحسين عليهما وقد رق لهما، للذي سمع منهما. فقال: أشهد الله أنها طالق ثلاثا، اللهم إنك تعلم أني لم أستنكحها (1) رغبة في مالها ولا جمالها، ولكني أردت إحلالها لبعلها، وثوابك على ما عالجته في أمرها، فأوجب لي بذلك الأجر، وأجزل لي عليه الذخر إنك على كل شيء قدير، ولم يأخذ مما ساق إليها في مهرها قليلا ولا كثيرا. وقد كان عبد الله بن سلام سأل ذلك أرينب، أي التعويض على الحسين، فأجابته إلى رد ماله عليه شكرا لما صنعه بهما، فلم يقبله، وقال: الذي أرجو عليه من الثواب خير لي منه فتزوجها عبد الله بن سلام، وعاشا متحابين متصافيين حتى قبضهما الله، وحرمها الله على يزيد. والحمد لله رب العالمين.

وفاة معاوية

قال: وذكروا أن عتبة بن مسعود قال: مر بنا نعي معاوية بن أبي سفيان (2)

(هامش)

(1) استنكحها: أي أني لم أتزوجها إلا... (2) أجمعوا على وفاته سنة 60. واختلفوا في وقت وفاته، وفي مدة خلافته ومقدار عمره: أنظر في ذلك الطبري 5 / 323 - 324 مروج الذهب 3 / 3 تاريخ خليفة ص 226 فتوح ابن الأعثم 4 / 265 الأخبار الطوال وتاريخ اليعقوبي والإستيعاب تر 4977 وأسد الغابة تر 4977 والإصابة تر 8074 ومآثر الإنافة 1 / 109 ابن الأثير التاريخ 2 / 524. = (*)

ص 224

ونحن بالمسجد الحرام. قال: فقمنا فأتينا ابن عباس، فوجدناه جالسا قد وضع له الخوان، وعنده نفر. فقلنا: أما علمت بهذا الخبر يا بن عباس؟ قال: وما هو؟ قلنا: هلك معاوية. فقال: ارفع الخوان يا غلام، وسكت ساعة، ثم قال: جبل تزعزع ثم مال بكلكلة، أما والله ما كان كمن كان قبله، ولما يكن بعده مثله. اللهم أنت أوسع لمعاوية فينا وفي بني عمنا هؤلاء لذي لب معتبر، اشتجرنا بيننا، فقتل صاحبهم غيرنا، وقتل صاحبنا غيرهم، وما أغراهم بنا إلا أنهم لا يجدون مثلنا، وما أغرانا بهم إلا أنا لا نجد مثلهم، كما قال القائل: ما لك تظلمني؟ قال: لا أجد من أظلم غيرك. ووالله إن ابنه لخير أهله، أعد طعامك يا غلام. قال: فما رفع الخوان حتى جاء رسول خالد بن الحكم إلى ابن عباس، أن انطلق فبايع. فقال للرسول: اقرئ الأمير السلام، وقل له: والله ما بقي في ما تخافون، فاقض من أمرك ما أنت قاض، فإذا سهل الممشى وذهبت حطمة الناس (1)، جئتك ففعلت ما أحببت. قال: ثم أقبل علينا فقال: مهلا معشر قريش، أن تقولوا عند موت معاوية: ذهب جد بني معاوية، وانقطع ملكهم، ذهب لعمر الله جدهم، وبقي ملكهم وشرها بقية هي أطول مما مضى، إلزموا مجالسكم وأعطوا بيعتكم. قال: فما برحنا حتى جاء رسول خالد فقال: يقول لك الأمير: لا بد لك أن تأتينا. قال: فإن كان لا بد، فلا بد مما لا بد منه، يا نوار هلمي ثيابي، ثم قال: وما ينفعكم إتيان رجل إن جلس لم يضركم؟ قال: فقلت له: أتبايع ليزيد، وهو يشرب الخمر، ويلهو بالقيان، ويستهتر بالفواحش؟ قال: مه: فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آت ممن يشرب الخمر، أو هو شر من شاربها، أنتم إلى بيعته سراع؟ أما والله إني لأنهاكم، وأنا أعلم أنكم فاعلون ما أنتم فاعلون، حتى يصلب مصلوب قريش بمكة، يعني عبد الله بن الزبير.

كتاب يزيد بالبيعة إلى أهل المدينة

قال: وذكروا أن نافع بن جبير قال: إني بالشام يوم موت معاوية، وكان

(هامش)

= وفي العلة التي أصابته قال: الطبري النفاثات وفي ابن الأثير: التفاتات وفي ابن الأعثم: أصابته اللقوة في وجهه. قلت لعل ذلك نتج عن ارتجاج قوي في الدماغ أودى بحياته (قيل مات من يومه). (1) يريد ازدحام الناس. (*)

ص 225

يزيد غائبا، واستخلف معاوية الضحاك بن قيس بعده، حتى يقدم يزيد، فلما مات معاوية خرج الضحاك على الناس، فقال: لا يحملن اليوم نعش أمير المؤمنين إلا قرشي. قال: فحملته قريش ساعة. ثم قال أهل الشام: أصلح الله الأمير. اجعل لنا من أمير المؤمنين نصيبا في موته، كما كان لنا في حياته. قال: فاحملوه، فحملوه وازدحموا عليه، حتى شقوا البرد الذي كان عليه صدعين. قال: فلما قدم يزيد دمشق بعد موت أبيه إلى عشرة أيام (1)، كتب إلى خالد بن الحكم (2)، وهو عامل المدينة (3): أما بعد، فإن معاوية بن أبي سفيان، كان عبدا استخلفه الله على العباد، ومكن له في البلاد وكان من حادث قضاء الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه فيه، ما سبق في الأولين والآخرين لم يدفع عنه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فعاش حميدا، ومات سعيدا، وقد قلدنا الله عز وجل ما كان إليه، فيا لها مصيبة ما أجلها، ونعمة ما أعظمها، نقل الخلافة، وفقد الخليفة، فنستوزعه الشكر، ونستلهمه الحمد، ونسأله الخيرة في الدارين معا، ومحمود العقبى في الآخرة والأولى، إنه ولي ذلك، وكل شيء بيده لا شريك له، وإن أهل المدينة قومنا ورجالنا، ومن لم نزل على حسن الرأي فيهم، والاستعداد بهم، واتباع أثر الخليفة فيهم، والاحتذاء على مثاله لديهم، من الإقبال عليهم، والتقبل من محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم، فبايع لنا قومنا، ومن قبلك من رجالنا، بيعة منشرحة بها صدوركم، طيبة عليها أنفسكم، وليكن أول من يبايعك من قومنا وأهلنا (4): الحسين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن جعفر، ويحلفون على ذلك بجميع الإيمان اللازمة، ويحلفون بصدقة أموالهم غير عشرها، وجزية رقيقهم، وطلاق

(هامش)

(1) في فتوح ابن الأعثم 5 / 2 بعد ثلاثة أيام ، ولعله يريد هنا أي بعد انقضاء عشرة أيام على قدومه إلى دمشق، وهو مناسب. (2) تقدمت الإشارة إلى أنه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. (3) قارن مع الطبري 5 / 338 فتوح ابن الأعثم 5 / 10. (4) ذكر أن يزيد أرسل إلى الوليد بن عتبة كتابا آخر غير كتاب التعزية بمعاوية في صحيفة كأنها أذن فارة قال فيها: أما بعد فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام (نص الطبري 5 / 338 وانظر ابن الأثير 2 / 529 والأخبار الطوال ص 227 وفتوح ابن الأعثم 5 / 10) وفيه زيادة: فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه. وزيد فيه أيضا اسم عبد الرحمن بن أبي بكر وهو خطأ فقد مات عبد الرحمن قبل وفاة معاوية. (*)

ص 226

نسائهم، بالثبات على الوفاء، بما يعطون من بيعتهم، ولا قوة إلا بالله، والسلام.

إباية القوم الممتنعين عن البيعة

قال: وذكروا أن خالد بن الحكم (1)، لما أتاه الكتاب من يزيد فظع به، فدعا مروان بن الحكم، وكان على المدينة قبله، فلما دخل عليه مروان، وذلك في أول الليل. قال له خالد (1): احتسب صاحبك يا مروان، فقال له مروان: اكتم ما بلغك، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم أقرأه الكتاب، وقال له: ما الرأي؟ فقال: أرسل الساعة إلى هؤلاء النفر، فخذ بيعتهم، فإنهم إن بايعوا لم يختلف على يزيد أحد من أهل الإسلام، فعجل عليهم قبل أن يفشى الخبر فيمتنعوا، فأرسل إلى الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر (2)، فلما أتاهم الرسول قال عبد الله بن الزبير للحسين: ظن يا أبا عبد الله فيما أرسل إلينا؟ (3) فقال الحسين: لم يرسل إلينا إلا للبيعة، فما ترى؟ قال: آتيه، فإن أراد تلك امتنعت عليه، فدعا الحسين مواليه وأهل بيته، وأقعدهم على الباب، وقال لهم: إن ارتفع صوتي فاقتحموا الدار علي، وإلا فمكانكم حتى أخرج إليكم. ثم دخل على خالد (1)، فأقرأه الكتاب، فقال الحسين: رحم الله معاوية. فقالا له: بايع، فقال الحسين (4): لا خير في بيعة سر، والظاهرة خير، فإذا حضر الناس كان أمرا واحدا، ثم وثب أهله، فقال مروان لخالد (1): أشدد يدك بالرجل، فلا يخرج حتى يبايعك، فإن أبى فاضرب عنقه. فقال له ابن الزبير: قد علمت أنا كنا أبينا البيعة إذ دعانا إليها معاوية، وفي نفسه علينا من ذلك ما لا تجهله، ومتى ما نبايعك ليلا على هذه الحال، تر أنك أغضبتنا على أنفسنا، دعنا حتى نصبح، وتدعو الناس

(هامش)

(1) كذا، وقد مرت الملاحظة أنه الوليد بن عتبة وليس خالد بن الحكم. (2) في الطبري وابن الأثير لم يرسل إليه بل أرسل فقط إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير يدعوهما، وقد أقنعه مروان بعدم الإتيان به لأنه كما قال مروان: فإني لا أراه يرى القتال، ولا يحب أن يولى على الناس إلا أن يدفع إليه هذا الأمر عفوا. (3) وكان الوليد قد أرسل إليهما في وقت لم يكن يجلس فيه إلى الناس ولا يأتيه في مثله أحد إلا لأمر هام مستعجل (الطبري). (4) في الطبري: فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، ولا أراك تجتزئ بها مني سرا دون أن نظهرها على رؤوس الناس علانية. (5) يشير ابن الأثير والطبري إلى أن ابن الزبير لم يأته بل أرسل إليه أخاه جعفر ووعده أن يأتيه مع الناس غدا، وقد خرج ابن الزبير من ليلته إلى مكة. (*)

ص 227

إلى البيعة، فنأتيك فنبايعك بيعة سليمة صحيحة، فلم يزالا به حتى خلى عنهما وخرجا. فقال مروان لخالد (1): تركتهما، والله لا تظفر بمثلها منهما أبدا، فقال خالد (1): ويحك أتشير علي أن أقتل الحسين، فوالله (2) ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها، وما أحسب أن قاتله يلقى الله بدمه إلا خفيف الميزان يوم القيامة. فقال له مروان مستهزئا: إن كنت إنما تركت ذلك لذلك فقد أصبت.

خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية

قال: وذكروا أن يزيد بن معاوية عزل خالد بن الحكم (1) عن المدينة، وولاها عثمان (3) بن محمد بن أبي سفيان الثقفي، وخرج الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير إلى مكة وأقبل عثمان بن محمد (3) من الشام واليا على المدينة ومكة وعلى الموسم في رمضان، فلما استوى على منبر بمكة رعف، فقال رجل مستقبله: جئت والله بالدم، فتلقاه رجل آخر بعمامته. فقال: مه، والله عم الناس. ثم قام يخطب، فتناول عصا لها شعبتان، فقال: مه، شعب (4) والله أمر الناس، ثم نزل. فقال الناس للحسين: يا أبا عبد الله، لو تقدمت فصليت بالناس؟ فإنه ليهم بذلك إذ جاء المؤذن، فأقام الصلاة، فتقدم عثمان فكبر، فقال للحسين يا أبا عبد الله، إذا أبيت أن تتقدم فاخرج. فقال: الصلاة في الجماعة أفضل. قال: فصلى، ثم خرج، فلما انصرف عثمان بن محمد من الصلاة، بلغه أن الحسين خرج. قال: اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلبوه، فطلب، فلم يدرك. قال: ثم قدم المدينة، فأقبل ابن ميثاء بسراح له من الحرة، يريد الأموال التي كانت لمعاوية، فمنع منها، وأزاحه أهل المدينة عنها، وكانت أموالا اكتسبها معاوية، ونخيلا يجد منها مئة ألف وسق (5) وستين ألفا، ودخل نفر من قريش والأنصار على

(هامش)

(1) الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. (2) العبارة في الطبري: والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسينا، سبحان الله! أقتل حسينا أن قال: لا أبايع! (وانظر ابن الأثير - ابن الأعثم - الأخبار الطوال). (3) في الطبري وابن الأثير: عمرو بن سعيد الأشدق. وبقي إلى سنة 61 حيث عزله وولى مكانه الوليد بن عتبة ثم عزله سنة 62 وولى مكانه عثمان بن محمد بن أبي سفيان وكان فتى غر حدث غمر لم يجرب الأمور ولم يحنكه السن ولم تضرسه التجارب. (4) شعب: تفرق. (5) الوسق: من المكاييل، وهو ستون صاعا أو حمل بعير (القاموس). (*)

ص 228

عثمان، فكلموه فيها فقالوا: قد علمت أن هذه الأموال كلها لنا، وأن معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يعطنا قط درهما فما فوقه، حتى مضنا الزمان، ونالتنا المجاعة، فاشتراها منا بجزء من مئة من ثمنها، فأغلظ لهم عثمان في القول، واغلظوا له. فقال لهم: لأكتبن إلى أمير المؤمنين بسوء رأيكم، وما أنتم عليه من كمون الأضغان القديمة، والأحقاد التي لم تزل في صدوركم، فافترقوا على موجدة، ثم اجتمع رأيهم على منع ابن ميثاء القيم عليها، فكف عثمان بن محمد عنهم، وكتب بأمرهم إلى يزيد بن معاوية. قال عبد الله بن جعفر: جاء كتاب عثمان بن محمد بعد هدأة من الليل، وقد كنت انصرفت من عند يزيد، فلم ألبث أن جاءني رسوله، فدخلت عليه، والشمعة بين يديه، وهو مغضب قد حسر عن ذراعيه، والكتاب بين يديه، فقال: دونك يا أبا جعفر هذا الكتاب، فاقرأه، فرأيت كتابا قبيحا، فيه تعريض بأهل المدينة وتحريش. ثم قال: والله لأطأنهم وطأة آتي منها على أنفسهم. قال ابن جعفر: فقلت له: إن الله لم يزل يعرف أباك في الرفق خيرا، فإن رأيت أن ترفق بهم وتتجاوز عنهم فعلت، فإنما هم أهلك وعشيرتك، وإنما تقتل بهم نفسك إذا قتلتهم. قال: أقتل وأشفي نفسي، فلم أزل ألح عليه فيهم، وأرفقه عليهم، وكان لي سامعا ومطيعا، فقال لي: إن ابن الزبير حيث علمت من مكة، وهو زعم أنه قد نصب الحرب، فأنا أبعث إليه الجيوش، وآمر صاحب أول جيش أبعثه أن يتخذ المدينة طريقا، وأن لا يقاتل، فإن أقروا بالطاعة، ونزعوا عن غيهم وضلالهم، فلهم علي عهد الله وميثاقه، أن لهم عطاءين في كل عام، ما لا أفعله بأحد من الناس طول حياتي، عطاء في الشتاء، وعطاء في الصيف، ولهم علي عهد أن أجعل الحنطة عندهم كسعر الحنطة عندنا، والحنطة عندهم سبعة آصع (1) بدرهم، والعطاء الذي يذكرون أنه احتبس عنهم في زمان معاوية فهو علي أن أخرجه لهم وافرا كاملا، فإن أنابوا وقبلوا ذلك، جاوز إلى ابن الزبير، وإن أبوا قاتلهم، ثم إن ظفر بها أنهبها ثلاثا، هذا عهدي إلى صاحب جيشي لمكانك ولطلبتك فيهم، ولما زعمت أنهم قومي وعشيرتي. قال عبد الله بن جعفر: فرأيت هذا لهم فرجا، فرجعت إلى منزلي فكتبت إليهم من ليلتي كتابا

(هامش)

(1) آصع جمع صاع، وصاع أهل المدينة يأخذ أربعة أمداد. والمد: هو رطل وثلث بالعراقي وقيل هو رطلان (اللسان) (*)

ص 229

إلى أهل المدينة، أعلمهم فيه قول يزيد، وأحضهم على الطاعة والتسليم، والرضا والقبول لما بذل لهم، وأنهاهم أن يتعرضوا لجيوشه، وقلت لرسولي: اجهد السير، فدخلها في عشر، فوالله ما أرادوا ذلك ولا قبلوه، وقالوا: والله لا يدخلها عنوة أبدا.

كتاب يزيد إلى أهل المدينة

قال: وكتب يزيد إلى أهل المدينة كتابا، وأمر عثمان بن محمد يقرأه عليهم، فقدم الكتاب المدينة، وعثمان خائف، فقرأه عليهم، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإني قد نفستكم حتى أخلفتكم، ورفعتكم حتى أخرقتكم (1)، ورفعتكم على رأسي ثم وضعتكم، وأيم الله لئن آثرت أن أضعكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقل منها عددكم وأترككم أحاديث تتناسخ كأحاديث عاد وثمود، وأيم الله لا يأتيكم مني أولى من عقوبتي، فلا أفلح من ندم (2).

ما أجمع عليه أهل المدينة ورأوه من إخراج بني أمية

قال: وذكروا أنه لما قرئ الكتاب، تكلم عبد الله بن مطيع ورجال معه كلاما قبيحا، فلما استبان لهم أن يزيد باعث الجيوش إليه، أجمعوا على خلافهم (3)، واختلفوا في الرياسة أيهم يقوم بهذا الأمر. فقال قائل: ابن مطيع،

(هامش)

(1) أخرقتكم: جعلتكم خرقى أي حمقى. (2) قارن مع العقد الفريد 4 / 388. (3) لم يكن كتاب يزيد إلى أهل المدينة السبب في خلافهم عليه، وقد يكون هو العامل الذي حرك الأسباب الحقيقية لتحرك أهل المدينة خاصة ودفعها إلى الواجهة حيث أخذت المواجهة بين المدنيين والحكم الأموي المتمثل بيزيد الطابع الصدامي والأكثر دموية. ولحركة المدينة أسباب كثيرة منها سياسية ومنها اقتصادية واجتماعية وأهم هذه الأسباب: - السياسة الأموية التي وضع معاوية بن أبي سفيان خطوطها الأولى كانت وراء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالمدينة والتي دفعت بها إلى حدود الضيق والفقر (انظر تفاصيل حول هذه السياسة أوردها د. إبراهيم بيضون في كتابه الحجاز والدولة الإسلامية 250 وما بعدها) - القهر السياسي الذي عانى منه الحجاز عامة، والمدينة ومكة خاصة حيث حظر على زعمائها تجاوز الاهتمامات الاجتماعية والثقافية بعد انتقال الخلافة إلى الشام - رفض الحكم الأموي، وقد جاء غياب معاوية فرصة لإظهار هذا الرفض من الخفاء إلى العلن وقد كان غيابه مؤشرا للانفجار المرتقب، وقد كان وجوده عاملا في منعه أو تجميده. = (*)

ص 230

وقال قائل: إبراهيم بن نعيم، ثم اجتمع رأيهم أن يقوم بأمرهم ابن حنظلة، وهرب عثمان بن محمد منهم ليلا فلحق بالشام، ثم أخذوا مروان بن الحكم وكبراء بني أمية، فأخرجوهم عن المدينة، فقالوا: الشقة بعيدة ولا بد لنا مما يصلحنا، ولنا عيال وصبية (1)، ونحن نريد الشام. قال: فاستنظروا عشرة أيام، فانظروا. ثم اجتمع رأي أهل المدينة أن يحلفوا كبراء بني أمية عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لقوا جيش يزيد ليردونهم عنهم إن استطاعوا، فإن لم يستطيعوا مضوا إلى الشام ولم يرجعوا معهم، فحلفوا لهم على ذلك، وشرطوا عليهم أن يقيموا بذي خشب (2) عشرة أيام، فخرجوا من المدينة، وتبعهم الصبيان، وسفهاء الناس يرمونهم بالحجارة، حتى انتهوا إلى ذي خشب، ولم يتحرك أحد من آل عثمان بن محمد، ولم يخرج من المدينة، فلما رأت بنو أمية ما صنع بهم أهل المدينة من إخراجهم منها، اجتمعوا إلى مروان، فقالوا: يا أبا عبد الملك ما الرأي؟ قال: من قدر منكم أن يغيب حريمه فليفعل، فإنما الخوف على الحرمة، فغيبوا حرمهم، فأتى مروان عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، بلغني أنك تريد الخروج إلى مكة، وتغيب عن هذا الأمر، فأحب

(هامش)

= - فشل الخليفة يزيد أمام الأزمات الخطيرة التي واجهت حكمه وانغماسه (حسب الروايات) بالترف والمجون واستغراقه حتى العبث في حياته الخاصة ساهم في إذكاء روح المعارضة وتجرؤها على الاعلان عن نفسها. - ضربه الرموز الإسلامية بمنتهى العنف، حيث رأى في أتباعه هذه السياسة مدخلا إلى إثبات حضوره السلطوي لكن هذا شجع المعارضة على المبادرة إلى اتخاذ موقف علني ضده - ثورة الحسين التي كانت السباقة إلى رفض الأمر الواقع والتي انتهت بمأساة دموية في العراق وأوقعت النظام الأموي في ارتباك شديد. - حركة ابن الزبير التي استطاعت أن تستثمر النقمة المتزايدة على الحكم الأموي - وجود الوالي عثمان بن محمد بن أبي سفيان والذي وصفه بأنه غر قليل التجربة حديث السن وإخفاقه في التعاطي مع المستجدات الخطيرة في مكة والمدينة - محاولة أهل المدينة (الأنصار) إعادة التوازن الذي اختل منذ السقيفة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن دعوة ابن الزبير للمدينة لبيعته بعد مقتل الحسين لم يرافقها في المدينة كثير من الحماسة فقد انقسمت بين مؤيد له ومتحفظ ومتردد، لكن اللقاء مع ابن الزبير تمحور حول هدف كبير مشترك هو الإطاحة بالخليفة الأموي. وما تولي عبد الله بن حنظلة (من الأوس)، (وهو ما سيرد بعد أسطر) إلا الإشارة على التوجه الأنصاري لأهل المدينة. وهذا ما سيؤدي إلى استفراد المدينة في الحملة العسكرية التي استهدفتها. (1) كانوا نحوا من ألف رجل (رواية الطبري). (2) ذو خشب: واد بالمدينة. (*)

ص 231

أن أوجه عيالي معك. فقال ابن عمر: إني لا أقدر على مصاحبة النساء. قال: فتجعلهم في منزلك مع حرمك. قال: لا آمن أن يدخل على حريمي من أجل مكانكم. فكلم مروان علي بن الحسين، فقال: نعم، فضمهم علي إليه، وبعث بهم مع عياله، قال: ثم ارتحل القوم من ذي خشب على أقبح إخراج يكون، وإسراع خوفا منهم أن يبدو للقوم في حبسهم، وجعل مروان يقول لابنه عبد الملك: يا بني إن هؤلاء القوم لم يدروا ولم يستشيروا، فقال ابنه: وكيف ذلك؟ قال: إذ لم يقتلونا أو يحبسونا، فإن بعثوا إلينا بعثا كنا في أيديهم، وما أخوفني أن يفطنوا لهذا الأمر فيبعثوا في طلبنا فالوحى الوحى والنجاء النجاء (1).

إرسال يزيد الجيوش إليهم

قال: فلما أجمع رأي يزيد على إرسال الجيوش، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا أهل الشام، فإن أهل المدينة أخرجوا قومنا منها، والله لأن تقع الخضراء على الغبراء (2) أحب إلي من ذلك. وكان معاوية قد أوصى يزيد فقال له: إن رابك منهم ريب، أو انتقض عليك منهم أحد، فعليك بأعور بني مرة مسلم بن عقبة، فدعا به فقال: سر إلى هذه المدينة بهذه الجيوش (3)، وإن شئت أعفيتك، فإني أراك مدنفا منهوكا. فقال: نشدتك الله، أن لا تحرمني أجرا ساقه الله إلي، أو تبعث غيري، فإني رأيت في النوم شجرة غرقد تصيح أغصانها: يا ثارات عثمان، فأقبلت إليها، وجعلت الشجرة تقول: إلي يا مسلم بن عقبة، فأتيت فأخذتها، فعبرت ذلك أن أكون أنا القائم بأمر عثمان، ووالله ما صنعوا الذي صنعوا إلا أن الله أراد بهم الهلاك. فقال يزيد: فسر على بركة الله، فأنت صاحبهم، فخرج مسلم فعسكر وعرض الأجناد، فلم يخرج معه أصغر من ابن عشرين، ولا أكبر من ابن خمسين على خيل عراب، وسلاح شاك، وأداة كاملة، ووجه معه عشرة آلاف بعير تحمل الزاد حتى خرج،

(هامش)

(1) قال الطبري: أن مروان بن الحكم كتب كتابا وأرسله إلى يزيد مع ابنه عبد الملك بن مروان وكان في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإنه قد حصرنا في دار مروان بن الحكم، ومنعنا العذب، ورمينا بالجبوب، فيا غوثاه يا غوثاه. (2) الغبراء: الأرض، والخضراء: السماء. (3) في الطبري وابن الأثير: اثنا عشر ألف. وفي فتوح ابن الأعثم: عشرون ألف فارس وسبعة آلاف راجل. (*)

ص 232

فخرج معه يزيد فودعه. قال له: إن حدث بك حدث فأمر الجيوش إلى حصين بن نمير، فانهض بسم الله إلى ابن الزبير، واتخذ المدينة طريقا إليه، فإن صدوك أو قاتلوك فاقتل من ظفرت به منهم، وانهبها (1) ثلاثا، فقال مسلم بن عقبة: أصلح الله الأمير، لست بآخذ من كل ما عهدت به إلا بحرفين. قال يزيد: وما هما؟ ويحك. قال: أقبل من المقبل الطائع، وأقتل المدبر العاصي. فقال يزيد: حسبك، ولكن البيان لا يضرك، والتأكيد ينفعك، فإذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها، أو نصب لك الحرب، فالسيف السيف، أجهز على جريحهم، وأقبل على مدبرهم، وإياك أن تبقي عليهم، وإن لم يتعرضوا لك، فامض إلى ابن الزبير. فمضت الجيوش، فلما نزلوا بوادي القرى، لقيتهم بنو أمية خارجين من المدينة، فرجعوا معهم، واستخبرهم مسلم بن عقبة عما خلفهم، وعما لقوا، وعن عددهم. فقال مروان: عددهم كثير، أكثر مما جئت به من الجيوش، ولكن عامتهم ليس لهم نيات ولا بصائر، وفيهم قوم قليل لهم نية وبصيرة، ولكن لا بقاء لهم مع السيف، وليس لهم كراع ولا سلاح، وقد خندقوا عليهم وحصنوا. قال مسلم: هذه أشدها علينا، ولكنا نقطع عنهم مشربهم، ونردم عليهم خندقهم. فقال مروان: عليه رجال لا يسلمونه، ولكن عندي فيه وجه سأخبرك به. قال: هاته. فقال: اطوه ودعه حتى يحضر ذلك. قال: فدعه إذا. ثم قال لهم مسلم: تريدون أن تسيروا إلى أمير المؤمنين، أو تقيموا موضعكم هذا، أو تسيروا معنا؟ فقال بعضهم: نسير إلى أمير المؤمنين، ونحدث به عهدا، فقال مروان: أما أنا فراجع. فقال بعضهم لبعض: قد حلفنا لهم عند المنبر لئن استطعنا أن نرد الجيش عنهم لنردنه فكيف بالرجوع إليهم. فقال مروان: أما أنا فراجع إليهم. فقال له قوم: ما نرى أن تفعل، فإنما تقتلون بهؤلاء أنفسكم، والله لا أكثرنا عليهم لمسلم جمعا أبدا. فقال مروان: أنا والله ماض مع مسلم إلى المدينة، فمدرك ثأري من عدوي، وممن أخرجني من بيتي، وفرق بيني وبين أهلي، وإن قتلت بهم نفسي، فلم يرجع مع مسلم من بني أمية غير مروان وابنه عبد الملك، وكان مجدورا فجعله بذي خشب

(هامش)

(1) في الطبري: فأبحها ثلاثا . (*)

ص 233

فلما أيقن أهل المدينة بقدوم الجيوش إليهم تشاوروا في الخندق وقالوا: قد خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخندقوا المدينة من كل نواحيها. ثم جمع عبد الله بن حنظلة أهل المدينة عند المنبر، فقال: تبايعوني على الموت وإلا فلا حاجة في بيعتكم. فبايعوه على الموت (1)، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنما خرجتم غضبا لدينكم، فأبلوا إلى الله بلاء حسنا ليوجب لكم به الجنة ومغفرته، ويحل بكم رضوانه، واستعدوا بأحسن عدتكم، وتأهبوا بأكمل أهبتكم، فقد أخبرت أن القوم قد نزلوا بذي خشب، ومعهم مروان بن الحكم، والله إن شاء مهلكه بنقضه العهد والميثاق عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصايح الناس، وجعلوا ينالون منه ويسبونه. فقال لهم: إن الشتم ليس بشيء، ولكن نصدقهم اللقاء، والله ما صدق قوم قط إلا نصروا، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنا بك واثقون، وعليك متوكلون، وإليك ألجأنا ظهورنا ثم نزل. وكان عبد الله بن حنظلة لا يبيت إلا في المسجد الشريف، وكان لا يزيد على شربة من سويق يفطر عليها إلى مثلها من الغد.

قدوم الجيوش إلى المدينة

قال: وذكروا أن أهل الشام لما انتهوا إلى المدينة عسكروا بالجرف (2)، ومشوا رجالا من رجالهم، فأحدقوا بالمدينة من كل ناحية لا يجدون مدخلا، لأنهم قد خندقوها عليهم، والناس متلبسون السلاح، قد قاموا على أفواه الخنادق، وقد حرصوا أن لا يتكلم منهم متكلم، وجعل أهل الشام يطوفون بها والناس يرمونهم بالحجارة والنبل من فوق الآكام والبيوت، حتى خرجوا فيهم وفي خيلهم، فقال مسلم لمروان: أين ما قلت لي بوادي القرى؟ فخرج مروان حتى جاء بني حارثة، فكلم رجلا منهم، ورغبه في الضيعة، وقال: افتح لنا طريقا، فأنا أكتب بذلك إلى أمير المؤمنين، ومتضمن لك عنه شطر ما كان بذل لأهل

(هامش)

(1) وقيل إن المدينة قسمت أرباعا وعلى كل ربع منها قائد. وقيل إن عبد الله بن مطيع كان على قريش من أهل المدينة، وعبد الله بن حنظلة الغسيل على الأنصار، ومعقل بن سنان على المهاجرين (أنظر الطبري 5 / 487 ابن الأثير 2 / 596 الأخبار الطوال ص 265، وابن الأعثم 5 / 294). (2) الجرف: موضع قرب المدينة. (*)

ص 234

المدينة من العطاء وتضعيفه، ففتح له طريقا، ورغب فيما بذل له، وتقبل ما تضمن له عن يزيد، فاقتحمت الخيل، فجاء الخبر إلى عبد الله بن حنظلة، فأقبل، وكان من ناحية الطورين، وأقبل عبد الله بن مقطع، وكان من ناحية ذناب، وأقبل ابن أبي ربيعة، فاجتمعوا جميعا بمن معهم، بحيث اقتحم عليهم أهل الشام، فاقتتلوا حتى عاينوا الموت، ثم تفرقوا.

غلبة أهل الشام على أهل المدينة

قال: وذكروا أن عبد الله بن أبي سفيان قال: وقعت مع قوم عند مسجد بني عبد الأشهل، منهم عبد الله بن زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتل مسيلمة الكذاب، ومعه عبد الله بن حنظلة، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص، وإبراهيم بن فارط، وإبراهيم بن نعيم بن النجار، فهم يقاتلون ويقولون للناس: أين الفرار؟ والله لأن يقتل الرجل مقبلا خير له من أن يقتل مدبرا. قال: فاقتتلوا ساعة، والنساء والصبيان يصيحون ويبكون على قتلاهم، حتى جاءهم ما لا طاقة لهم به، وجعل مسلم يقول: من جاء برأس رجل فله كذا وكذا، وجعل يغري قوما لا دين لهم، فقتلوا وظهروا على أكثر المدينة. قال: وكان على بشر بن حنظلة يومئذ درعان، فلما هزم القوم طرحهما. ثم جعل يقاتلهم وهو حاسر حتى قتلوه، ضربه رجل من أهل الشام ضربة بالسيف قطع منكبه، فوقع ميتا. فلما مات ابن حنظلة صار أهل المدينة كالنعم بلا راع، شرود يقتلهم أهل الشام من كل وجه، فأقبل محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وإن جراحه لتنفث دما، وهو يقاتل ويحمل على الكردوس منهم فيفض جماعتهم، وكان فارسا، فحمل عليه أهل الشام حملة واحدة حتى نظموه بالرماح، فمال ميتا. فلما قتل انهزم من بقي من الناس في كل وجه، ودخل القوم المدينة، فجالت خيولهم فيها يقتلون وينهبون. قال: وخرج يومئذ عبد الله بن زيد بن عاصم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخيل تسرع في كل وجه قتلا ونهبا. فقيل له: لو علم القوم باسمك وصحبتك لم يهيجوك، فلو أعلمتهم بمكانك؟ فقال: والله لا أقبل لهم أمانا، ولا أبرح حتى أقتل، لا أفلح من ندم، وكان رجلا أبيض طويلا أصلع، فأقبل عليه رجل من أهل الشام وهو يقول: والله لا أبرح حتى أضرب صلعته وهو

ص 235

حاسر. فقال عبد الله: شر لك خير لي، فضربه بفأس في يده، فرأيت نورا ساطعا في السماء، فسقط ميتا. وكان يومه ذلك صائما، رحمه الله. قال: فجعل مسلم يطوف على فرس له ومعه مروان بن الحكم على القتلى. فمر على عبد الله بن حنظلة، وهو ماد أصبعه السبابة. فقال مروان: أما والله لئن نصبتها ميتا فطالما نصبتها حيا، داعيا إلى الله. ومر على إبراهيم بن نعيم، ويده على فرجه، فقال: أما والله لئن حفظته في الممات لقد حفظته في الحياة. ومر علي محمد بن عمرو بن حزم وهو على وجهه واضعا جبهته بالأرض، فقال (1): أما والله لئن كنت على وجهك في الممات لطالما افترشته حيا ساجدا لله. فقال مسلم: والله ما أرى هؤلاء إلا من أهل الجنة. ومر على عبد الله بن زيد وبين عينيه أثر السجود، فلما نظر إليه مروان عرفه، وكره أن يعرفه لمسلم فيحز رأسه. فقال له مسلم: من هذا؟ فقال بعض هذه الموالي وجاوزه، فقال له مسلم: كلا، وبيت الله لقد نكبت عنه لشيء. فقال له مروان: هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن زيد. فقال: ذاك أخزى ناكث بيعته حزوا رأسه. وكان قصر بني حارثة أمانا لمن أراد أهل الشام أن يؤمنوه، وكانوا بنو حارثة آمنين ما قتل منهم أحد، وكان كل من نادى باسم الأمان إلى أحد من قبيلة بني حارثة أمنوه رجلا كان أو امرأة ثم ذبوا عنه حتى يبلغوه قصر بني حارثة، فأجير يومئذ رجال كثير ونساء كثيرة، فلم يزالوا في قصر بني حارثة حتى انقضت الثلاث. قال: وأول دور انتهبت والحرب قائمة دور بني عبد الأشهل، فما تركوا في المنازل من أثاث ولا حلي ولا فراش إلا نقض صوفه، حتى الحمام والدجاج كانوا يذبحونها، فدخلوا دار محمد بن مسلمة، فصاح النساء، فأقبل زيد بن محمد بن مسلمة إلى الصوت، فوجد عشرة ينهبون، فقاتلهم ومعه رجلان من أهله حتى قتل الشاميون جميعا، وخلصوا منهم ما أخذوه، فألقوا متاعهم في بئر لا ماء فيها، وأبقى عليها التراب، ثم أقبل نفر من أهل الشام، فقاتلوهم أيضا،

(هامش)

(1) مر عليه مروان بن الحكم وكأنه برطيل من فضة فقال: رحمك الله! فرب سارية قد رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها (الطبري). (*)

ص 236

حتى قتل زيد بن محمد أربعة عشر رجلا، فضربه بالسيف منهم أربعة في وجهه. ولزم أبو سعيد الخدري بيته (1)، فدخل عليه نفر من أهل الشام، فقالوا: أيها الشيخ، من أنت؟ فقال: أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا ما زلنا نسمع عنك، فبحظك أخذت في تركك قتالنا، وكفك عنا، ولزوم بيتك، ولكن أخرج إلينا ما عندك. قال: والله ما عندي مال، فنتفوا لحيته، وضربوه ضربات، ثم أخذوا كل ما وجدوه في بيته حتى الصواع (2) وحتى زوج حمام كان له. وكان جابر بن عبد الله يومئذ قد ذهب بصره، فجعل يمشي في بعض أزقة المدينة، وهو يقول: تعس من أخاف الله ورسوله. فقال له رجل: ومن أخاف الله ورسوله؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبي (3)، فحمل عليه رجل بالسيف ليقتله، فترامى عليه مروان فأجاره، وأمر أن يدخله منزله، ويغلق عليه بابه، وكان سعيد بن المسيب رحمه الله لم يبرح من المسجد، ولم يكن يخرج إلا من الليل إلى الليل، وكان يسمع إذا جاء وقت الأذان أذانا يخرج من قبل القبر الشريف، حتى آمن الناس، فكان سعيد يقول: ما رأيت خيرا من الجماعة (4)، ثم أمر مسلم بالأسارى، فغلوا بالحديد، ثم دعا إلى بيعة يزيد، فكان أول من بايع مروان بن الحكم، ثم أكابر بني أمية، حتى أتى على آخرهم. ثم دعا بني أسد، وكان عليهم حنقا، فقال: أتبايعون لعبد الله يزيد ابن أمير المؤمنين ولمن استخلف عليكم بعده، على أن أموالكم ودماءكم وأنفسكم خول له، يقضي فيها ما شاء؟ قال يزيد بن عبد الله بن زمعة: إنما نحن نفر من المسلمين لنا ما لهم وعلينا ما

(هامش)

(1) وفي رواية الطبري وابن الأثير أنه خرج من منزله ودخل كهفا في الجبل. فلحقه رجل من أهل الشام، ولما عرفه انصرف عنه. (2) الصواع: الكوز الذي يشرب به. (3) في رواية ابن كثير 8 / 244 فقد أخاف ما بين هذين - ووضع يده على جبينه قال الدارقطني: تفرد به سعد بن عبد العزيز لفظا وإسنادا. قال ابن كثير: وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخيص في لعنة يزيد بن معاوية.. وقد انتصر لذلك أبو الفرج ابن الجوزي في مصنف مفرد وجوز لعنته. (4) قال ابن كثير عن المدائني: وجئ إلى مسلم بسعيد بن المسيب فقال له: بايع! فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر، فأمر بضرب عنقه، فشهد رجل أنه مجنون فخلى سبيله. (*)

ص 237

عليهم. فقال مسلم: والله لا أقيلك، ولا تشرب البارد بعدها أبدا، فأمر به، فضربت عنقه. ثم أتي بمعقل بن سنان، وكان معقل حاملا لواء قومه يوم الفتح مع رسول الله، فلما دخل عليه قال له: أعطشت يا معقل؟ قال: نعم أصلح الله الأمير، قال: حيسوا له شربة (1) من سويق اللوز الذي زودنا به أمير المؤمنين، فلما شربها قال له: رويت؟ قال: نعم. فقال مسلم: أما والله لا تبولها من مثانتك أبدا، فقدم، فضربت عنقه، ثم قال: ما كنت لأدعك بعد كلام سمعته منك تطعن به على إمامك، وكان معقل قد طعن بعض الطعن على يزيد قبل ذلك، فيما بينه وبين مسلم، على الاستراحة بذلك (2)، ثم أمر بمحمد بن أبي الجهم وجماعة من وجوه قريش والأنصار، وخيار الناس والصحابة والتابعين، ثم أتي بعبد الله بن الحارث مغلولا. فقال مسلم: أنت القائل: اقتلوا سبعة عشر رجلا من بني أمية، لا تروا شرا أبدا؟ قال: قد قلتها، ولكن لا يسمع من أسير أمر، أرسل يدي، وقد برئت مني الذمة، إنما نزلت بعهد الله وميثاقه، وأيم الله لو أطاعوني وقبلوا مني ما أشرت به عليهم ما تحكمت فيهم أنت أبدا. فقال له مسلم: والله لأقدمنك إلى نار تلظى، ثم أمر به فضربت عنقه. فقال مروان: قد والله سقيتني من دماء هؤلاء القوم، إلا ما كان من قريش، فإنك أثخنتها وأفنيتها. فقال مسلم: والله لا أعلم عند أحد غشا لأمير المؤمنين إلا سألت الله أن يسقيني دمه. فقال: إن عند أمير المؤمنين عفوا لهم، وحلما عنهم ليس عندك. وجعل مروان يعتذر إلى قريش، ويقول: والله لقد ساءني قتل من قتل منكم. فقالت له قريش: أنت والله الذي قتلتنا، ما عذرك الله ولا الناس، لقد خرجت من عندنا، وحلفت لنا عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لتردنهم عنا، فإن لم تستطع لتمضين ولا ترجع معهم، فرجعت، ودللت على العورة، وأعنت على الهلكة، فالله لك بالجزاء. قال: فبلغ عدة قتلى الحرة يومئذ من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الناس، ألفا وسبع مئة (3)، وسائرهم من الناس عشرة آلاف،

(هامش)

(1) في الطبري وابن الأثير: العسل. (2) وكان ذلك بطبرية، وقد ذكر الخبر في الأخبار الطوال ص 266 وابن الأعثم 5 / 297 والطبري 5 / 492 وابن الأثير 2 / 599 وفي قتل معقل قال بعضهم: يقتل سكان المدينة عنوة * وقد أصبحوا صرعى بكل مكان أصبحت الأنصار تبكي سراتها * وأشجع تبكي معقل بن سنان (3) في عدد من قتل في المدينة أقوال: قال خليفة في تاريخه ص 250: فجميع من أصيب من = (*)

ص 238

سوى النساء والصبيان. قال أبو معشر: دخل رجل من أهل الشام على امرأة نفساء من نساء الأنصار معها صبي لها، فقال لها: هل من مال؟ قالت: لا والله ما تركوا لي شيئا. فقال: والله لتخرجن إلي شيئا أو لأقتلنك وصبيك هذا. فقالت له: ويحك إنه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم معه يوم بيعة الشجرة، على أن لا أزني، ولا أشرق، ولا أقتل ولدي، ولا آتي ببهتان أفتريه، فما أتيت شيئا فاتق الله. ثم قالت لابنها: يا بني، والله لو كان عندي شيء لافتديتك به. قال: فأخذ برجل الصبي، والثدي في فمه، فجذبه من حجرها، فضرب به الحائط فانتثر دماغه في الأرض، قال: فلم يخرج من البيت حتى اسود نصف وجهه، وصار مثلا. قال أبو معشر: قال لي رجل (1): بينا أنا في بعض أسواق الشام، إذا برجل ضخم، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: رجل من أهل المدينة، قال: من أهل الخبيثة؟ قال: فقلت له: سبحان الله، رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها طيبة وسميتها خبيثة! قال: فبكى، فقلت له: ما يبكيك، قال: العجب والله، كنت أغزو الصائفة كل عام زمن معاوية، فأتيت في المنام فقيل لي: إنك تغزو المدينة، وتقتل فيها رجلا يقال له: محمد بن عمرو بن حزم، وتكون بقتله من أهل النار. قال: فقلت: ما هذا من شأن المدينة، ولا يقع في نفس مدينة الرسول. قال: فقلت: لعلها بعض مدائن الروم، فكنت أغزو ولا أسل فيها سيفا، حتى مات معاوية، وولي يزيد، فضرب قرعة بعث المدينة، فأصابتني القرعة. قال: فقلت: هي هذه والله، فأردت أن يأخذوا مني بديلا، فأبوا، فقلت في نفسي: أما إذا أبوا، فإني لا أسل فيها سيفا، قال: فحضرت الحرة، فخرج

(هامش)

= الأنصار مئة رجل وثلاثة وسبعون رجلا، وجميع من أصيب من قريش والأنصار ثلاثمئة رجل وستة رجال. وقد ذكر خليفة ص 240 وما بعدها أسماء من قتل يوم الحرة. وانظر ما ذكر في عدد من قتل: ابن الأثير 2 / 600 سير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 220 العقد الفريد 4 / 390 مروج الذهب 3 / 85 النجوم الزاهرة 1 / 161 وابن الأعثم 5 / 295. (1) اسمه محمد بن عمارة (ابن الأثير 2 / 600). (*)

ص 239

أصحابي يقاتلون، وجلست في فسطاطي، فلما فرغوا من القتال، جاءنا أصحابنا، فقالوا: دخلنا وفرغنا من الناس، فقال بعض أصحابي لبعض: تعالوا حتى ننظر إلى القتلى، فتقلدت سيفي وخرجت، فجعلنا ننظر إلى القتلى ونقول: هذا فلان، وذا فلان، فإذا رجل في بعض تلك الدارات في يده سيف، وقد أزبد شدقاه، وحوله صرعى من أهل الشام، فلما أبصرني قال: يا كلب احقن عني دمك. قال: فنسيت والله كل شيء، فحملت عليه، فقاتلته فقتلته، فسطع نور بين عينيه وسقط في يدي، قلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا محمد بن عمرو بن حزم، فجعلت أدور مع أصحابي، فيقولون: هذا فلان، وهذا فلان. فمر إنسان لا يعرف، فقال: من قتل هذا، ويحكم يريد محمد بن عمرو بن حزم! قتله الله، والله لا يرى الجنة بعينه أبدا (1).

عدة من قتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم

قال: وذكروا أنه قتل يوم الحرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلا، ولم يبق بدري بعد ذلك، ومن قريش والأنصار سبع مئة، ومن سائر الناس من الموالي والعرب والتابعين عشرة آلاف (2)، وكانت الوقعة في ذي الحجة لثلاث (3) بقين منها سنة ثلاث وستين. قالوا: وكان الناس يعجبون من ذلك أن ابن الزبير لم يصلوا إليه إلا بعد ستة أشهر، ولم يكن مع ابن الزبير، إلا نفر قليل، وكان بالمدينة أكثر من عشرة آلاف رجل، والله ما استطاعوا أن يناهضوهم يوما إلى الليل.

كتاب مسلم بن عقبة إلى يزيد

قال: وذكروا أن مسلما لما فرغ من قتال أهل المدينة ونهبها، كتب إلى يزيد بن معاوية بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله يزيد بن معاوية أمير المؤمنين من مسلم بن عقبة، سلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله، فإني أحمد الله

(هامش)

(1) زيد عند ابن الأثير: فأتيت أهله فعرضت عليهم أن يقتلوني فلم يفعلوا وعرضت عليهم الدية فلم يأخذوا. (2) تقدمت الإشارة إلى ذلك (أنظر صفحة 237 حاشية رقم 3). (3) عند ابن الأثير والطبري: لليلتين بقيتا. (*)

ص 240

إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد: تولى الله حفظ أمير المؤمنين والكفاية له، فإني أخبر أمير المؤمنين أبقاه الله، أني خرجت من دمشق ونحن على التعبئة التي رأى أمير المؤمنين يوم فارقنا بالعافية، فلقينا أهل بيت أمير المؤمنين بوادي القرى، فرجع معنا مروان بن الحكم، وكان لنا عونا على عدونا، وإنا انتهينا إلى المدينة فإذا أهلها قد خندقوا عليها الخنادق، وأقاموا على أنقابها الرجال بالسلاح وأدخلوا ماشيتهم، وما يحتاجون لحصارهم سنة فيما كانوا يقولون، وإنا أعذرنا إليهم، وأخبرناهم بعهد أمير المؤمنين، وما بذل لهم، فأبوا، ففرقت أصحابي على أفواه الخنادق، فوليت الحصين بن نمير، ناحية ذناب وما والاها، وعلى الموالي وجهت حبيش بن دلجة (1) إلى ناحية بني سلمة، ووجهت عبد الله بن مسعدة إلى ناحية بقيع الغرقد (2)، وكنت ومن معي من قواد أمير المؤمنين ورجاله في وجوه بني حارثة، فأدخلنا الخيل عليهم حين ارتفع النهار، من ناحية عبد الأشهل بطريق فتحه لنا رجل منهم بما دعاه إليه مروان بن الحكم إلى صنيع أمير المؤمنين، وما تضمن له عنه من قرب المكان، وجزيل العطاء، وإيجاب الحق، وقضاة الذمام، وقد بعثت به إلى أمير المؤمنين، وأرجو من الله عز وجل، أن يلهم خليفته وعبده عرفان ما أولى من الصنع وأسدى من الفضل، وكان أكرم الله أمير المؤمنين من محمود مقام مروان بن الحكم، وجميل مشهده، وسديد بأسه، وعظيم نكايته لعدو أمير المؤمنين، ما لا إخال ذلك ضائعا عند إمام المسلمين وخليفة رب العالمين إن شاء الله، وسلم الله رجال أمير المؤمنين، فلم يصب منهم أحد بمكروه، ولم يقم لهم عدوهم من ساعات نهارهم أربع ساعات، فما صليت الظهر - أصلح الله أمير المؤمنين - إلا في مسجدهم، بعد القتل الذريع، والانتهاب العظيم، وأوقعنا بهم السيوف وقتلنا من أشرف لنا منهم، وأتبعنا مدبرهم وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناهم ثلاثا كما قال أمير المؤمنين، أعز الله نصره، وجعلت دور بني الشهيد المظلوم عثمان بن عفان، في حرز وأمان، فالحمد لله الذي شفى صدري من قتل أهل الخلاف القديم، والنفاق العظيم، فطالما عتوا، وقديما ما طغوا. وكتبت إلى أمير المؤمنين، وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنفا مريضا،

(هامش)

(1) بالأصول: دجلة تحريف. (2) بقيع الغرقد: مقبرة المدينة. (*)

ص 241

ما أراني إلا لما بي، فما كنت أبالي، متى مت بعد يومي هذا، وكتب لهلال المحرم سنة ثلاث وستين. فلما جاءه الكتاب، أرسل إلى عبد الله بن جعفر وإلى ابنه معاوية بن يزيد، فأقرأهما الكتاب، فاسترجع عبد الله بن جعفر وأكثر، وبكى معاوية بن يزيد، حتى كادت نفسه تخرج، وطال بكاؤه، فقال يزيد لعبد الله بن جعفر: ألم أجبك إلى ما طلبت، وأسعفتك فيما سألت، فبذلت لهم العطاء وأجزلت لهم الإحسان، وأعطيت العهود والمواثيق على ذلك؟ فقال عبد الله بن جعفر: فمن هنالك استرجعت، وتأسفت عليهم، إذ اختاروا البلاء على العافية، والفاقة على النعمة، ورضوا بالحرمان دون العطاء، ثم قال يزيد لابنه معاوية: فما بكاؤك أنت يا بني؟ قال: أبكي على قتل من قتل من قريش، وإنما قتلنا بهم أنفسنا. فقال يزيد: هو ذاك، قتلت بهم نفسي وشفيتها قال: وسأل مسلم بن عقبة قبل أن يرتحل عن المدينة عن علي بن الحسين، أحاضر هو؟ فقيل له: نعم. فأتاه علي بن الحسين، ومعه ابناه، فرحب بهما، وسهل وقربهم، وقال: إن أمير المؤمنين أوصاني بك. فقال علي بن الحسين: وصل الله أمير المؤمنين وأحسن جزاؤه ثم انصرف عنه. ولم يكن أحد نصب للحرب من بني هاشم، ولزموا بيوتهم، فسلموا، إلا ثلاثة منهم تعرضوا للقتال، فأصيبوا (1).

موت مسلم بن عقبة ونبشه

قال: وذكروا أن مسلم بن عقبة ارتحل عن المدينة، وهو يجود بنفسه (2)، يريد ابن الزبير بمكة، فنزل في بعض الطريق، فدعا الحصين بن نمير فقال له: يا برذعة الحمار، إنه كان من عهد أمير المؤمنين إن حدث بي حدث الموت أن أعهد إليك، فاسمع، فإني بك عالم، لا تمكن قريشا من أذنك إذا قدمت مكة فتبول (أي قريش فيها)، فإنما هو الوفاق (3)، ثم النفاق ثم الانصراف ثم مات

(هامش)

(1) ذكر المسعودي في مروج الذهب 3 / 85 أن اثنين من آل أبي طالب قتلا: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وجعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، ومن بني هاشم غيرهما: الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وحمزة بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب. (2) وكانت علته الذبحة (الأخبار الطوال ص 267). (3) في العقد الفريد 4 / 391: الوقاف ثم الثقاف ثم الانصراف. الوقاف يعني الوقوف في حرب أو خصومة. والثقاف: الجلاد. (*)

ص 242

فدفن في ثنية المشلل (1)، فلما تفرق القوم عنه، أتته أم ولد ليزيد بن عبد الله بن زمعة، وكانت من وراء العسكر تترقب موته، فنبشت عنه، فلما انتهت إلى لحده، وجدت أسود من الأساود منطويا في رقبته، فاتحا فاه، فتهيبته. ثم لم تزل به حتى تنحى لها عنه فصلبته على المشلل. قال الضحاك: فحدثني من رآه مصلوبا يرمى كما يرمى قبر أبي رغال (2).

فضائل قتلى أهل الحرة رحمهم الله تعالى

قال: وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في سفر من أسفاره فلما مر بحرة بني زهرة، وقف فاسترجع.. فقالوا: ما هو يا رسول الله؟ قال: يقتل في هذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي (3). قال: وذكروا أن عبد الله بن سلام وقف بالحرة زمان معاوية بن أبي سفيان، فقال: أجد في كتاب يهود الذي لم يبدل ولم يغير، أنه يكون هاهنا مقتلة قوم يحشرون يوم القيامة واضعي سيوفهم على رقابهم، حتى يأتوا الرحمن تبارك وتعالى، فيقفون بين يديه، فيقولون: قتلنا فيك. قال: وذكروا عن داود بن الحصين قال: عندنا قبور قوم من قتلى الحرة، فقل ما حركت إلا فاح منها ريح المسك. وقال بعضهم: عن عبد الله بن أبي سفيان عن أبيه قال: رأيت عبد الله بن حنظلة في منامي بأحسن صورة، معه لؤلؤة، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أقتلت؟ قال: بلى، فلقيت ربي، فأدخلني الجنة، فأنا أسرح في ثمارها حيث شئت، قلت: فأصحابك ما صنع بهم؟ قال: هم معي، وحول لوائي هذا الذي ترى لم تحل عقدته بعد. وقال ابن سيرين رحمه الله تعالى: رأيت كثير بن أفلح رضي الله عنه في النوم، فقلت له: ألست قد استشهدت؟ قال: ليس في الإسلام شهادة، ولكنها الندباء. وقال

(هامش)

(1) ثنية المشلل: جبل بالمدينة. وقيل مات بالأبواء.. (مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا) وقيل بالقديد (قاله المسعودي) وقيل بثنية هرشى. (2) أبو رغال: بكسر الراء قيل هو رجل من ثمود كان يقيم بالحرم يدافع عنه فلما خرج أصابته النفمة، وقيل كان دليلا للأحابيش لما توجهوا إلى مكة، وقيل كان عشارا جائرا. رجم قبره لكراهة الناس له. (3) رواه البيهقي في الدلائل 6 / 473 من طريق أيوب بن بشير المعافري رفعه قال البيهقي: هذا مرسل. وقد روي عن ابن عباس في تأويل آية من كتاب الله عز وجل ما يؤكده ونقله ابن كثير في البداية والنهاية عن الفسوي 6 / 233 وهو في تاريخ الفسوي 3 / 327. (*)

ص 243

الأعرج: كان الناس لا يلبسون المصبوغ (1) من الثياب قبل الحرة، فلما قتل الناس بالحرة استحبوا أن يلبسوها وقالوا: لقد مكث النوح في الدور على أهل الحرة سنة لا يهدأون. وقال عبد الله بن أبي بكر كان أهل المدينة أعز الناس وأهيبهم، حتى كانت الحرة، فاجترأ الناس عليهم فهانوا. قال الزهري: بلغ القتلى يوم الحرة من قريش والأنصار، ومهاجرة العرب ووجوه الناس سبع مئة، وسائر الناس عشرة آلاف (2). من أخلاط الناس والموالي والعبيد، قال وأصيب نساء وصبيان وكان قدوم أهل الشام المدينة لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وستين، انتهبوها ثلاثا حتى رأوا هلال المحرم، ثم أمسكوا بعد أن لم يبقوا أحدا به رمق، وقتل بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلا، ولم يبق بعد ذلك بدري. وقالوا: قال عيسى بن طلحة: قلت لعبد الله بن مطيع: كيف نجوت يوم الحرة؟ قال: رأيت ما رأيت من غلبة أهل الشام، وصنع بني حارثة الذي صنعوا من إدخالهم علينا وولى الناس، فذكرت قول الحارث بن هشام يوم بدر (3). وعلمت أنه لا يضر عدوي مشهدي ولا ينفع وليي، فتواريت، ثم لحقت با بن الزبير، وكنت أعجب كل العجب أن ابن الزبير لم يصلوا إليه ستة أشهر، ولم يكن معه إلا نفر يسير، قوم من قريش من الخوارج، وكان معنا يوم الحرة ألفا رجل، كلهم ذوو حفاظ، فما استطعنا أن نحبسهم يوما إلى آخر الليل. تم الجزء الأول من كتاب الإمامة والسياسة ويليه الجزء الثاني

(هامش)

(1) يريد الثياب المصبوغة بالسواد. ذلك يرمز إلى الحداد على قتلى أهل الحرة. (2) تقدمت الإشارة إلى عدد من قتل، راجع ما لاحظناه قريبا. (3) وكان الحارث بن هشام قد فر يوم بدر من القتال، وقد هجاه حسان بن ثابت على فراره ومما قاله: ترك الأحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طمرة ولجام ملأت به الفرجين فارمدت به * وثوى أحبته بشر مقام وبنو أبيه ورهطه في معرك * نصر الإله به ذوي الإسلام فقال الحارث بن هشام يجيب حسان ويعتذر من فراره يوم بدر: الله أعلم ما تركت قتالهم * حتى حبوا مهري بأشقر مزبد وعرفت أني إن أقاتل واحدا * أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي فصددت عنهم والأحبة فيهم * طمعا لهم بعقاب يوم مفسد (*)


الجزء الثاني

المصادر