الإطار الأخلاقي لأبحاث الجينوم والهندسة الوراثية البشرية

الإطار الأخلاقي لأبحاث الجينوم والهندسة الوراثية البشرية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

د.إيهاب عبد الرحيم محمد

المحتويات

1- تمهيد والمداخل للجدل الأخلاقي وسبب طرح علم الوراثة لتساؤلات أخلاقية

2- المبادئ الأساسية للأخلاقيات الطبية

3- الجينوم البشري – مقدمة

1-3: الفوائد المرجوة لدراسة الجينوم

   2-3: المخاطر المحتملة للأبحاث في مجالات الهندسة الوراثية

4- القضايا الأخلاقية المتعلقة بأبحاث الجينوم والهندسة الوراثية البشرية :

1-4: المضامين الأخلاقية للهندسة الوراثية البشرية

2-4:أخلاقيات الأبحاث المتعلقة بالوراثة البشرية

3-4 : استزراع الأعضاء (قطع الغيار البشرية) وزرع أعضاء الحيوان في البشر

4-4:الحتمية الجينية والإرث القديم لليوجينيا

5-4:تقنيات الإخصاب المساعد وتعديل البشر (الأطفال التفصيل)

6-4:المسح الاختباري الوراثي والاختبارات الجينية

7-4:الخلايا الجذعية

8-4:الاستنساخ البشري

9-4:المعالجة الجينية

5- من يمتلك جيناتنا؟ (قضية براءات الاختراع المتعلقة بالجينوم)

6-التمييز بين البشر على أسس جينية

7- رأي الدين:

1-7: الضوابط الشرعية للهندسة الوراثية

2-7: الإسلام والتحري الوراثي

3-7 :الإسلام والبصمة الوراثية

4-7: رأي شرعي في المسائل الأخلاقية المتعلقة بالأجنة الفائضة

5-7: رأي شرعي في حكم المشورة الوراثية قبل الزواج

6-7: رأي الدين في الاستنساخ


تمهيد

قبل أن نبدأ بتناول الجانب الأخلاقي للجينوم ، حري بنا أن نعرّف هذا الجينوم ، أو المجين Genome؛ وهو كامل الحمض الريبي النووي المنـزوع الأكسجين (أو الدنا اختصارا DNA) في كائن حي معين، بما فيه جيناته Genes . وتحمل تلك الجينات (المورثات) جميع البروتينات اللازمة لجميع الكائنات الحية . وبدورها تحدد هذه البروتينات ، ضمن أشياء أخرى، كيف يبدو شكل الكائن الحي ، وكيف يستقلب Metabolize جسمه الطعام أو يقاوم العدوى ، وأحيانا يحدد حتى الطريقة التي يتصرف بها . وبناء على هذا التعريف الضروري، يصبح مجال دراستنا هذه أشمل من مشروع الجينوم البشري الذي تم الانتهاء منه عام 2003، فيشمل – بالإضافة إلى ذلك المشروع العملاق- عددا من المجالات التي سنحاول في هذا البحث دراسة جوانبها الإيجابية والسلبية وخصوصا ضمن الإطار الأخلاقي وهو مصب اهتمامنا هنا. وتتضمن تلك المجالات: الاختبارات الوراثية (التنبؤية والتشخيصية، لحملة الأمراض الوراثية، التحري الوراثي (لعموم السكان وفي مجالات العمل، والتشخيص قبل الولادة) ؛ والمعالجة الجينية للأمراض الوراثية، أو تحسين الخلال غير المرضية؛ والمعالجات (أدوية جديدة أو غيرها من المعالجات التي تستهدف بصورة نوعية تلك الجينات المسببة للأمراض)؛ والاستنساخ (الاستنساخ التناسلي واستنساخ الخلايا الجذعية، وقطع الغيار البشرية)، بالإضافة إلى محاولة الإجابة عن بعض الأسئلة الملحة ذات الصلة الوثيقة بالموضوع ؛ مثل : من يمتلك جيناتنا؟ وهل يحق لأحد تسجيل براءات اختراع لتلك الجينات؟ كيف ستستخدم المعلومات الجينية ونتائج الاختبارات الوراثية ؟ هل يحق للجميع الحصول على الفوائد التي تعدنا بها ثورة الجينات؟ وماذا لم لو تم "التمييز" بين البشر على أسس وراثية؟ وذلك السؤال الأخير يجرنا لحديث ذو شجون عن تاريخ ومستقبل التحسين الوراثي أو اليوجينيا، وله جانب أخلاقي مهم سنتطرق إليه أيضا. ومن المهم أن نوضح هنا أنه لكي نتطرق إلى الجوانب الأخلاقية لكل هذه المستجدات،فإننا سنحتاج إلى ذكر نبذة علمية مختصرة عن كل منها كمدخل للطرح الأخلاقي للموضوع.

مداخل الجدل الأخلاقي

للمشاركة في الجدل الأخلاقي حول أبحاث الوراثة البشرية، علينا أولا:

1. أن نسأل أنفسنا: لماذا تطرح علوم الوراثة Genetics تساؤلات أخلاقية؟

2. أن نتدبر ونطبق المبادئ الأساسية للأخلاقيات الطبية ؛

3. أن نطوّر استراتيجيات سليمة لطرح آرائنا.

لماذا تطرح علوم الوراثة تساؤلات أخلاقية؟

إن المعلومات الوراثية ، بصورة عامة، لا تختلف بصورة جذرية عن غيرها من المعلومات الطبية؛ إلا أن لها خصائص مميزة لا تتوافر عادة في الأنواع الأخرى من المعلومات الطبية، مما يجعلها ذات طبيعة أخلاقية شائكة. وتشمل تلك الخصائص ما يلي:

- تأثيرها المباشر على بقية أفراد الأسرة.

- تأثيرها على الأزواج وعلى القرارات المتعلقة بالإنجاب.

- إمكانية التنبؤ بها Predictiveness (بالنسبة للأمراض التي تظهر في مرحلة لا حقة من الحياة)، وفي الوقت نفسه عدم يقينيتها (بالنسبة للجينات التي "تعرّض" الفرد فقط للإصابة بأمراض بعينها ).

- مجالها: يمكن الحصول على مدى واسع من المعلومات من عينة صغيرة من نسيج الجسم، وبعض تلك المعلومات غير متوقع وغير مرغوب فيه. فكل خلية تحتوي على كافة المعلومات الجينية لصاحبها ، بما فيها المعلومات المتعلقة بجينات غير تلك المقصودة بالبحث أصلا. ويثير ذلك تساؤلات حول كيفية محافظتنا على الخصوصية الوراثية Genetic privacy للفرد بمجرد الحصول على عينة من جسمه.


المبادئ الأساسية للأخلاقيات الطبية :

قبل أن نبدأ بعرض مبادئ الأخلاقيات الطبية Medical ethics، حري بنا أن نتساءل: ما هي الأخلاقيات؟ ... بصورة عامة، تحاول الأخلاقيات الإجابة على التساؤلات الفلسفية العريضة بخصوص ما يتوجب علينا فعله. وبرغم وجود نظريات أخلاقية متعددة تنطوي على قدر كبير من الاختلاف، إلا أن هناك قدرا كبيرا من الاتفاق حول المبادئ الرئيسية لغالبية تلك النظريات. وتُتَّخَذ المواقف الأخلاقية عندما يكون المرء قد فكّر بصورة واعية في مضامين مبادئه الأخلاقية Morality التي هي مجموعة من القواعد الأساسية التي توجه أفعالنا. وعندما نعلم سبب التزامنا بمجموعة من الدلائل الموجِّهة للأنشطة اليومية ، والتي كثيرا ما تتم بصورة غير واعية، نكون قد اتخذنا موقفا أخلاقيا. وبرغم الخلافات بين الفلاسفة فيما يتعلق بالنظرية الأخلاقية المجردة Abstract moral theory، وبرغم الاختلافات بين الناس عموما حول قضايا مثل الإجهاض، هناك – في الحقيقة – مجال من الاتفاق حول تلك الأشياء المهمة من الناحية الأخلاقية، والتي كثيرا ما يطلق عليها اسم المبادئ الأساسية لعلم الأخلاق. تمتلك تكنولوجيا الجينات Gene technology إمكانات هائلة لتحسين سبل المعالجة والوقاية من الأمراض التي تصيب البشر. لكنها، من الناحية الأخرى، تمتلك إمكانية التسبب بأذى عظيم. ولذلك فالسؤال الأخلاقي الأهم هنا هو : كيف يمكننا الموازنة بين الفوائد المرجوة والمخاطر المحتملة لتلك التقنيات؟ والإجابة هي بتطبيق بعض المبادئ الأساسية للأخلاقيات الطبية Medical ethics. كثيرا ما يتم شرح الأخلاقيات الطبية على أساس أنها "قديمة" أو "حديثة" ؛ فكانت الأخلاقيات الطبية القديمة في الأساس عبارة عن قائمة بالمسموحات والمحظورات على الطبيب ، والمبنية على الهيئات المهنية الطبية التي تحدد كل منها أخلاقيات الممارسة الخاصة بها. وكان المبدأ الأخلاقي الرئيسي هنا هو منفعة المريض؛ فطالما أن الطبيب يخدم المريض، فمسموح له (أو لها) أن يخدع المريض، أو يُكرهه على تناول دواء أو علاج معيّن ، أو– بصورة أكثر عمومية- أن يتصرف معه بصورة أبوية Paternalistic؛فعلى سبيل المثال، يبدأ قَسَم أبقراط Hippocratic Oath بالتعهد بالولاء والإخلاص لبقية العاملين في المجال نفسه (زملاء المهنة) ، لأن ذلك القسم كان قد وضع من أجل مجموعة طبية دينية يربطها نوع من الطقوس ؛ أما فيما يختص بعلاقة الطبيب بالمجتمع فهي غير مذكورة . فهل يمكن أن نشكل سلوك الطبيب بناء على علاقته ببقية زملائه ، ونغفل علاقته الإنسانية بالمجتمع؟ إن القسم يعطي للطبيب نوعاً من السلطة الأبوية المطلقة ، فهو يهتم بما هو مفيد -من وجهة نظر الطبيب- دون الالتفات إلى رغبات المريض نفسه وموافقته على استخدام أو الامتناع عن علاج معين، مما يعطي انطباعاً بأن مهمة الطبيب هي البحث عن مصلحتنا . ورغم أن الكثير من الأطباء والمرضى يسعدون بمثل هذا الموقف فإنه مرفوض في هذا العصر ، وخاصة بعد ظهور حركة حقوق المريض . أما الأخلاقيات الطبية الحديثة،فيتم التفكير بها بصورة مختلفة- كدراسة فلسفية للمبادئ المستبطنة لها. وفي الوقت الحالي، يعمل عدد أكبر من المختصين – بمن فيهم غير الأطباء- على وضع المعايير الأخلاقية ، والتي لا تتعدى مصلحة المريض أو منفعته كونها واحدا ضمن مبادئ أخلاقية متنافسة أخرى. وسنحاول فيما يلي التعرض لكل من تلك المبادئ بالتفصيل من حيث علاقتها بالوراثة البشرية :

1- المنفعة Beneficience ؛ وهي فعل ما فيه الخير لمصلحة المريض. والسؤال هنا هو:هل نحن نتصرف من أجل تحقيق أفضل مصلحة للفرد (المريض)؟ والمعنى العادي لهذا المبدأ هو ضرورة أن تكون الرعاية الصحية ذات منفعة للمريض، إضافة إلى اتخاذ خطوات إيجابية لإزالة الضرر عن كاهله. ويُنظر لهذه الواجبات باعتبارها أمورا بديهية كما أنها مقبولة على نطاق واسع كأهداف سليمة لمهنة الطب. وتطبّق هذه الأهداف على كل من المريض الفرد ، ومصلحة المجتمع ككل؛ فعلى سبيل المثال، تعد الصحة الجيدة لمريض بعينه هدفا طبيا مهما، كما أن مكافحة الأمراض عامة والوقاية من الأمراض الوراثية خاصة من خلال الأبحاث وتطبيق اللقاحات محققة للهدف نفسه بعد توسيع نطاقه ليشمل المجتمع ككل .وبرغم أن تلك الأبحاث قد تنطوي على مخاطر، فمن الواضح أن درجة المخاطرة التي يمكن اعتبارها معقولة تزداد بازدياد شدة Severity الحالة الوراثية التي يراد تحسينها. فعلى سبيل المثال،من الممكن أن نحظى بموافقة واسعة إذا حاولنا تجربة معالجات جديدة تكتنف المعالجة الجينية لسرطان القولون المهدد للحياة ، ولكننا لن نحصل على درجة الموافقة نفسها إذا حاولنا تجريب المعالجة بالجينات لمرض جلدي مزعج ، لكنه غير مهدد للحياة.

2- عدم إلحاق الأذى Non-maleficience؛ يتطلب منا هذا المبدأ ألا نقوم بالتسبب في ضرر أو أذى للمريض، سواء عمدا أو نتيجة للإهمال. وبصورة مبسطة، فنحن نعتبر أنه من قبيل الإهمال Negligence أن يقوم إنسان بتعريض إنسان آخر للخطر بصورة غير مبررة أو دون داع. وتدعم المعايير الأخلاقية والقانونية للمجتمع تطبيق معيار سليم للرعاية مبني على تجنب خطر إلحاق الأذى بالبشر أو تقليله إلى الحد الأدنى. وفي النموذج المهني للرعاية، يصبح الشخص مسؤولا أدبيا وقانونيا إذا فشل في الوصول إلى معايير الرعاية السليمة. وبرغم أنه من الواضح أن الأخطاء الطبية تقع بالفعل، إلا أن هذا المبدأ ينم عن التزام مبدئي من قبل مقدمي الرعاية الصحية بحماية مرضاهم وإبعاد الأذى عنهم.

3- احترام الاستقلالية الفردية Respect for individual autonomy:أي حفظ حق الفرد في التحكم في الرعاية الصحية الخاصة به ، والبُعد عن الإكراه. والسؤال البديهي هنا هو: هل تمت المحافظة على حرية الاختيار والموافقة المستنيرة بالنسبة لجميع الأفراد الذين شملتهم تطبيقات المعرفة الجينية؟ وهل ستحسن أم ستقلل المعرفة الجينية من قدرة الناس على التخطيط لحياتهم والتحكم فيها؟ تفترض أية فكرة حول اتخاذ القرارات الأخلاقية أن المشمولين في عملية اتخاذ قرارات مطلعة واختيارية هم أشخاص عقلاء. وفي القرارات المتعلقة بالرعاية الصحية، يعني احترامنا لاستقلالية المريض أنه يمتلك القدرة على القيام بأفعال بمحض إرادته، وعن وعي وفهم للأمور، وبدون تأثيرات خارجية قد تتحكم في اتخاذه للقرار الحر والإرادي للفعل. وهذا المبدأ بالذات هو أساس ممارسة "الموافقة المستنيرة " Informed consent في علاقة الطبيب بالمريض فيما يتعلق بالرعاية الصحية . 4- المساواة والعدل Equity and justice :ويعني ضمان كون جميع الأفراد يعاملون بالمساواة والعدل؛ولكن هل تتوفر المساواة لجميع أفراد المجتمع ، بغض النظر عن الجنس، والعِرق، والدين، والحالة الاقتصادية، في الوصول إلى التقنيات الجينية التي من شأنها أن تحسن من جودة وطول الحياة؟ وهل هناك تخصيص عادل ومبرَّر للموارد المتاحة؟ وهل هناك ثمة سبيل لضمان عدم التفريق بين أي منهم على أي أساس كان؟ وهل يتوجب على الدول المتقدمة إنفاق الملايين لتطوير معالجة جينية لمعالجة من يعانون من مرض وراثي نادر، في حين يمكن استخدام نفس تلك الأموال في الوقاية من الأمراض المُعدية التي تفتك بالملايين في البلدان النامية؟

ويمكن تطبيق المبادئ السابقة على جميع أوجه الممارسة الطبية، بما فيها الوراثة الطبية Medical genetics ؛ فهي تمثل دليلا لما هو مهم من الناحية الأخلاقية ، كما تزودنا بإطار مفاهيمي لمناقشة القضايا الأخلاقية، ولكنها لا تمثل دلائل قاطعة لا يمكن تغييرها؛ ففي الوراثة، كما هو الحال في بقية أفرع الممارسة الطبية، تكون عملية اتخاذ القرارات الأخلاقية معقدة وتحتاج لموازنة دقيقة للأمور، تستوجب أخذ الكثير منها بعين الاعتبار.

وباختصار، فعندم ا نقوم بتحليل قضايا الاكتشافات المتعلقة بالوراثة البشرية، علينا أن نطرح السؤالين التاليين: من سيتأثر بها؟ - الأفراد، أفراد الأسرة، الأزواج، الأطفال المستقبليين، والمجتمع ككل ؛ وكيف سيتأثرون بها؟

1- هل تزيد الفوائد المرجوة على المخاطر المحتملة؟ وهنا علينا أن نضع في اعتبارنا ليس فقط التأثيرات الصحية الآنية ، بل القضايا المرتبطة بالقانون، والتأمينات الصحية والاجتماعية، والتوظيف، والتفرقة، على نطاق أوسع. 2- هل هناك ضمان لحماية حقوق الآخرين؟ هل يتمتع هؤلاء بالحرية أو الاستقلالية لاتخاذ قراراتهم أو اختياراتهم الشخصية؟ هل تم تزويدهم بالمعلومات الكافية لتمكينهم من ذلك؟ وهل تمت حماية خصوصيتهم؟


الجينوم البشري- مقدمة

تخيل أن تهبط يوما على الأرض مركبة من الفضاء فيها الملايين من قصاصات الورق المجعدة وتغطيها نصوص مكتوبة بلغة غير مفهومة. وتخيل أن تُكلف أفضل العقول المفكرة مهمة تفسير هذه الرموز، فتستغرق هذه المهمة 10سنوات؛ لكن ترتيب هذه الأوراق ثم ترجمتها إلى لغة مقروءة و تصنيفها و نشرها في كتاب ضخم يستلزم 40 سنة إضافية . و هكذا، إلى أن تتم هذه المهمة، أخيرا، و نجلس لقراءة ذلك الكتاب من أوله إلى آخره. يحتوي هذا الكتاب على قصص عن ماضي و حاضر و مستقبل الجنس البشري، بدءا بأصول الحياة و وصولا إلى وصفة لعلاج مرض السرطان... يا لها من قصة خيالية مستبعدة الحدوث. لكن هذا هو تماما ما حدث مؤخرا... فبعد 50 عاما من التحضير، يمكننا فجأة أن نقرأ قصة الجينـات البشـرية كامـلـة... ألا وهي الجـيـنـوم. وضمن هذا السياق، يمكن في المستقبل القريب أن تجلس الأم التي ولدت حديثا تتأمل مولودها الرضيع ، وتبدأ في التحقق من سلامة جسده الضئيل: ذراعان؛ رجلان؛ قدمان؛ عشرة أصابع في كل من اليدين والقدمين؛ 46 كروموسوما؛ 30,000 جين؛ 3.2 بليون كيلو قاعدة . ومشروع الجينوم البشري Human Genome Project ( HGP) هو مشروع بحثي بدأ العمل به رسميا في عام 1990 ، وقد كان من المخطط له أن يستغرق 15 عاما ، لكن التطورات التكنولوجية أدت إلى تسريع العمل به حتى انتهى قبل الموعد المحدد له. ففي الرابع عشر من أبريل ،أعلن عن الانتهاء من المشروع بدقة تبلغ 99.99% قبل سنتين من الموعد المتوقع ، بحيث توافق ذلك الموعد مع الذكرى الخمسين لاكتشاف واطسون Watson وكريك Crick لبنية الحلزون المزدوج للدنا . وقد بدأ المشروع في الولايات المتحدة كجهد مشترك بين وزارة الطاقة Department of Energy (DOE)، والمعاهد الوطنية للصحة (NIH). وقد تمثلت الأهداف المعلنة للمشروع فيما يلي: • التعرف على الجينات التي يحتوي عليها الدنا DNA البشري ، وعددها 100,000 جين تقريبا . • تحديد متوالية Sequence القواعد الكيميائية التي تكون الدنا DNA البشري وعددها 3 بلايين. • تخزين هذه المعلومات على قواعد للبيانات Databases. • تطوير الأدوات اللازمة لتحليل البيانات. • دراسة القضايا الأخلاقية، والقانونية ، والاجتماعية التي قد تنتج عن المشروع (وهي من الخصائص التي تميز مشروع الجينوم البشري الأمريكي عن غيره من المشاريع المشابهة في جميع أنحاء العالم).


ومع اكتشافنا لغوامض ومكنونات الجينوم البشري، يزداد وضوح كون العديد من الأمراض التي نصاب بها نحن البشر ، وحتى استجاباتنا للعوامل المُعدية ، تتأثر بصورة كبيرة بتركيبتنا الجينية. ومن هنا يمكننا الاستنتاج بأن هذه المعرفة المتنامية تمتلك إمكانية طبية هائلة لتحسين كل من نوعية ، وطول الحياة البشرية.

وأول هذه المجالات تأثيرا على المجتمع ستكون تلك القضايا المتعلقة بالاختبارات الجينية Genetic testing؛ فقد تم بالفعل تطوير التقنيات اللازمة لتفسير وظائف العديد من الجينات البشرية . وعلى أية حال، فقد لا يكون الاستخدام الواسع النطاق للمعالجة الجينية والاستنساخ بعيدا عنا كثيرا، وبالتالي فإن القضايا المتعلقة بهما تحتل اليوم بالفعل موقعا متميزا من اهتمامات المجتمع العلمي.

1-3:الفوائد المرجوة من دراسة الجينوم : يتيح مشروع الجينوم البشري فوائد جمة للبشرية ، يمكننا توقع بعضها بينما سنفاجأ بالبعض الآخر. أما الفوائد المتوقعة للعلاج بالجينات فهائلة، ويمكن تلخيصها في عدة مجالات كالتالي:

  • الطب الجزيئي (Molecular medicine) :

- تحسين تشخيص الأمراض. - الاكتشاف المبكر للاستعداد للإصابة بالأمراض الوراثية. - المعالجة بالجينات وأنظمة التحكم بالأدوية. - علم جينوميات الأدوية Pharmacogenomics ؛ لتصميم أدوية تستهدف أمراضا وراثية بعينها .

  • الجينوميات الجرثومية Microbial genomics:

- مصادر جديدة للطاقة (الوقود الحيوي Biofuels). - مراقبة البيئة لاكتشاف الملوثات. - الوقاية من الحرب البيولوجية والكيميائية. - التخلص من النفايات السامة بطرق مأمونة وفعالة في الوقت نفسه. - فهم القابلية للتعرض للأمراض والكشف عن الأهداف الحيوية التي يجب أن تستهدفها الأدوية الجديدة.

  • تقييم المخاطر Risk assessment:

- تقييم الضرر الصحي والمخاطر الناتجة عن التعرض للإشعاع ، بما فيها التعرض لجرعات إشعاعية منخفضة. - تقييم الضرر الصحي والمخاطر الناتجة عن التعرض للكيماويات المطفرة Mutagenic chemicals والسموم المسببة للسرطان. - تقليل احتمالية التعرض للطفرات الوراثية.

  • الدراسات السكانية والأنثروبولوجية:

- دراسة التطور عبر طفرات الطريق الجنسي Germline في السلالات البشرية المختلفة. - دراسة أنماط هجرة المجموعات السكانية المختلفة استنادا إلى التوريث الجيني للإناث Female genetic inheritance. - دراسة طفرات الكروموسوم “Y” لتتبع سلالات وأنماط هجرة الذكور .

  • استخدامات الدنا DNA في مجال الطب الشرعي :

- التعرف على المشتبه بهم ،ممن قد يطابق الدنا DNA الخاص بهم الأدلة الموجودة في مسرح الجريمة. - تبرئة الأشخاص المتهمين بالخطأ في الجرائم . - التحقق من علاقات البنوة وغيرها من قضايا النسب. - التعرف على الأنواع الحية المهددة بالانقراض والمحمية كمساعدة لمسؤولي هيئات حماية الحياة البرية (ويمكن استخدامها في ملاحقة منتهكي قوانين حماية الحياة البرية). - التعرف على البكتريا وغيرها من الجراثيم التي قد تلوث الهواء، أو الماء، أو التربة أو الغذاء. - التحقق من التوافق النسيجي بين المتبرع والمتلقي في برامج زراعة الأعضاء.

2-3:المخاطر المحتملة للأبحاث في مجالات الهندسة الوراثية : - عندما تصبح المنابلة الجينية Gene manipulation إجراءً دقيقا، سيواجه الآباء المتوقعون بمجموعة واسعة من الاحتمالات. سيرغبون ، بطبيعة الحال، في أن يتأكدوا خلال المرحلة الجنينية Embryo stage لنسلهم، من قيام المعالجين بالجينات بتصحيح أية مشكلات قد تنشأ بسبب وجود جينات معيبة. وقد يطلب الآباء أيضا من أولئك المعالجين رفع معدلات ذكاء أطفالهم؛ أو إضافة بضع بوصات إلى أطوالهم؛ أو منحهم قدرات رياضية متفوقة، أو شعر مجعد، وعيون زرقاء، وبشرة متوافقة مع أحدث صرعة. - من المرجح أن تكون احتمالات عملية التحويل الوراثي Genetic transformation واسعة، لكن ذلك سيكون متاحا فقط للآباء الأغنياء. ولن يكون الحصول على " الأطفال التفصيل" Designer babies ميسور التكلفة بالنسبة للمواطنين العاديين . ومن الممكن أن يسبب وجود نوع خاص من الأشخاص الذين يفترض ، منذ ولادتهم ، أنهم " متفوقين " ، مشكلات اجتماعية خطيرة؛ ويمكن أن تحظى المعالجة الوراثية بقبول عام أوسع إذا أمكن منع احتمال توافرها فقط كمعالجة مميزة للأغنياء وحدهم. ويتوقع فيليب كيتشر Kitcher، مؤلف الكتاب المعنون "حيوات قادمة: الثورة الوراثية والاحتمالات البشرية" ،أن تلك الشكاوى المتعلقة بالعلاج بالجينات ستكون نادرة، إذا- حسب قوله: " ضمن المجتمع المستقبلي فرصا متساوية لكل مواطنيه (و) إذا اهتم أولا بالاحتياجات الصحية العاجلة قبل إيجاد الفرص لتحسين القدرات" . -يجب علينا أيضا أن نضع في اعتبارنا تأثيرات الهندسة الوراثية في المجالات الاجتماعية والسياسية. ونظرا لأن الفوائد الطبية للهندسة الوراثية باهظة التكاليف، لن يتمكن الأفراد الفقراء ، ولا الأمم الفقيرة من تحملها- على الأقل خلال السنوات القليلة القادمة. ونتيجةً لذلك، فمن المرجح أن تتسع الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء. - قد تؤثر قراءة الجينوم الخاص بكل إنسان على فرصه في التوظّف أو الحصول على التأمين الصحي، وخصوصا إذا كشفت تلك القراءة عن قابليته للإصابة بمرض قد يعيقه في مرحلة متأخرة من حياته ، كالسرطان مثلا. -على الصعيد النفسي والعلاقات الشخصية ؛ من المرجح أن الشخص حين يعرف أسرار جيناته سيعاني مرارة نفسية مستمرة قد لا تحمد عقباها إذا تبين قابليته للإصابة بمرض لا يرجى شفاؤه ، وقد تؤثر تلك الحالة على علاقاته الشخصية، فقد يُرفض تزويجه أو قد يطلب أحد الزوجين الانفصال عن شريكه عند الاطلاع على جينومه إذا تبين قابليته للإصابة بمرض معوّق.


4-القضايا الأخلاقية المتعلقة بأبحاث الجينوم والهندسة الوراثية البشرية: 1-4:المضامين الأخلاقية للهندسة الوراثية البشرية: برغم الفوائد المحتملة الكثيرة التي يمكن أن تجنيها البشرية من تقنيات الهندسة الوراثية البشرية، إلا أن هناك مخاوف وتساؤلات كثيرة تثيرها هذه التقنيات ؛فما هو مصير الأسرة هل هذه المؤسسة ستحتفظ بمعنـاهـا وشكلها الحالي ؟أم أن المستقبل سيحمل صورة جديدة لأسرة مختلفة تماما ؟ وإذا استطاع العلماء أن يختصروا مدة الحمل في أجهزة –خارج الرحـم -فـهـل هذا يعنى أن معنى الأمومة تغير ؟ بمعنى آخر :ما هو مصير (مفهوم) الأمومة؟ ماذا سيحدث له ؟بل ماذا سيحدث لصورة الأنثى في المجتمعات التي نشأت منذ بداية وجود الإنسان على فكرة أن رسالتها الأساسية فـي الحـيـاة هـي حفظ وتنمية الجنـس البشري؟ ثم ما هو مصير الطفل نفسه؟ هل ينتسب إلى الأم أم الجهاز الذي نما فيه ؟ وإذا أصبحـت عـمـلـيـة الحـصـول على طفل بهذه السهولة –كما يعتقد البعض–ألا يؤدي هذا إلى ظهـور ما يسمى (بتجارة الرقيق)؟ وإن كنا سنشتري ونبيع الأجنة الحية فـهـل نحن في الطريق إلى استحداث شكل جديد من أشـكـال الـعـبـوديـة ؟ أضف إلى كل ذلك أن الإنسان في المستقبل لن ينظر إلى الأسرة كمؤسسة يضمن من خلالها استمرار وجوده بالإنجاب- فهو قادر على الحصول على ما يريد من خلال زيارته لأحد "متاجر الأجنة" . وأخيرا ،فإن عملية كهذه تمس أهم مفهوم ارتبط بالإنسـان وجـاهـد للمحافظة عليه- أعني (قدسيته).فالإنسان كان من وجهة نظر كل الأديان أقدس المخلوقات؛ ولذلك تعتبر حياته أقدس من أن تسلب أو تتعرض للعبث فهل سيحدث ذلك الآن؟ ألن يتغير معنى القدسيـة بدخولنا في عصر الهندسة الوراثية والتكنولوجيا البيولوجية ؟ لقد قدمت الهندسة الوراثية بعض الحلول التي لم يـكـن مـن الـسـهـل الوصول إليها من قبل ولكن هناك مخاطر لابد أن توضع في الاعتـبـار ... فما الذي يمكن أن يحدث لو أن العلماء توصلوا إلى نتائج خاطئة أدت إلى تشكيل مخلوق لا يمكن التخلص مـنـه أو أن جـرثـومـة خـطـرة خـرجـت مـن المختبر وتكاثرت بسرعة وأدت إلى نشر وباء في العالم يمكن أن يقضي على البشرية كلها ؟ثم إلى أي حد يمكن أن يصل العلماء في كشفهـم عن أسرار الحياة البشرية؟هل يمكن مثلا تخليق الحياة نفسها ؟ومن هو الشخص أو المؤسسة التي لها الحق في تقرير ما إذا كانت تجارب العلماء آمنة أو تحمل طابعا أخلاقيا؟ وإلى أي حد يمكن لتلاعبنا بالجينات وتحكمنا فيها أن يؤثر على نظرتنا لأنفسنا وموقعنا في هذا الكون ؟ لقد وجد الإنسان نفسه يتحول إلى مجرد مجموعة من رموز وراثية يمكن عن طريق حلها معرفة تكوينه الوراثي ومن ثم السيطرة عليه .وهذا يعنى أن قدسية حياته وأسرارها أصبحت عرضة لأن تنتهك .وهنا سيطرت عليه فكرة أثارت الرعب عند الكثيرين من المعارضين وهي أنه يمكن تخليق أو خلق الإنسان وبالتالي ندخل في المنطقة المحرمة دينيا .ثم إن مصـيره ومصير الأجيال القادمة أصبح في يد العلماء ...فهل يمكن أن نسمح باستمرار مثل هذه التجارب الوراثية أم أننا يجب أن نمنعها نهائيا ؟وهل الفوائد التي سنجنيها من هذا المجال تكفى لتبرير استمراره ؟أهي تعادل الأضرار المترتبة عليها ؟وهل من حقنا أن نحدد مصير الأجيال القادمة سواء بقبولنا لاستمرار التجارب أو منعنا لها؟


2-4: أخلاقيات الأبحاث المتعلقة بالوراثة البشرية: (أ)الموافقة المستنيرة Informed consent : يصف هذا المصطلح التزام الأطباء أو الباحثين بالسماح للمرضى (أو المشاركين في الأبحاث الوراثية) بأن يكونوا مساهمين نشطين فيما يتعلق بالرعاية التي يتلقونها أو المشاركة في الأبحاث . وبالتالي، فالموافقة المستنيرة تستمد جذورها من مفهوم الاختيار المستقل أو الحق في تقرير المصير. والموافقة المستنيرة مطلوبة في جميع الأبحاث التي يحتمل أن يتم الربط فيها – بصورة مباشرة أو غير مباشرة- بين البيانات الجينية وبين المشاركين في البحث. وتذكر أدبيات الأخلاقيات الحيوية خمسة عناصر في تحليلها للموافقة المستنيرة ، وهي:

1- الإفصاح Disclosure (عن المعلومات للمريض/المشارك).

2- الفهم Comprehension (من قبل المريض/ المشارك للمعلومات التي سيتم الكشف عنها).

3- الأهلية Competence (قدرة المريض / المشارك على اتخاذ القرار).

4- الطوعية Voluntariness (قدرة المريض / المشارك على اتخاذ قراره بنفسه دون إكراه).

5- الموافقة Consent (من قبل المريض / المشارك).

ويشمل "الإفصاح" فيما يتعلق بموافقة المريض/ المشارك، كلِِ من "توفير" المعلومات ذات الصلة بالبحث من قبل الطبيب و"فهم" المريض لتلك المعلومات، وكلاهما من المتطلبات الضرورية لصحة الموافقة. ومن وجهة النظر الأخلاقية،يعد الإفصاح المتماشي مع المبدأين الأخلاقيين لاستقلالية المريض واحترام الأشخاص، مهما لكونه يشجع مشاركة المريض المستنيرة والفعالة في القرارات المتعلقة بالرعاية الصحية . وبالإضافة إلى ذلك ، يشجع الإفصاح على إقامة علاقة مستمرة تسودها الثقة بين المريض وطبيبه المعالج . أما "الأهلية" فهي القدرة على فهم المعلومات المتعلقة بقرار ما ، وعلى إدراك العواقب المعقولة المتوقعة لاتخاذ هذا القرار أو عدم اتخاذه. ويلاحظ أن تلك القدرة تقتصر على قرار واحد بعينه؛ فقد يكون الشخص قادرا على اتخاذ قراره بشأن محل سكنه، على سبيل المثال، لكنه غير قادر على اتخاذ قراره فيما يتعلق بتناول دواء أو المشاركة في بحث طبي. واتساقا مع المبادئ الأخلاقية، يجب أن يُسمح للأشخاص المؤهلين باتخاذ قراراتهم المستنيرة. وعلى أية حال، فالمبدأ الأخلاقي القائل بعدم إلحاق الأذى يوجب على الطبيب حماية الأشخاص غير المؤهلين من اتخاذ القرارات التي من شأنها أن تعرضهم للأذى ، أو تلك التي لم يكونوا ليتخذوها لو كانوا مؤهلين بدرجة كافية .

أما "الطوعية" ، فتشير إلى حق المريض في اتخاذ القرارات المتعلقة بعلاجه أو مشاركته في الأبحاث الجينية دون أن يتعرض لأية تأثيرات أو ضغوط داخلية أو خارجية من أي نوع. والضغوط الخارجية هي ما يهمنا هنا ضمن الإطار الأخلاقي ، وتشمل قدرة الآخرين على فرض إرادتهم على المريض بالقوة، أو الإكراه، أو التلاعب . ومن المهم هنا التأكيد على أن مطلب الطوعية لا يعني ضمنا أنه يتوجب على الطبيب الامتناع عن إقناع المريض بقبول النصيحة . ويتضمن "الإقناع" مخاطبة المريض بقدر عقله في محاولة لإقناعه بمميزات التوصية المطلوبة . وتنبع أهمية الطوعية من كونها متطلبا أخلاقيا لصحة القرار بالموافقة. وتستمد جذورها من العديد من المفاهيم الأخلاقية ذات الصلة، مثل الحرية، والاستقلالية، والقدرة على اتخاذ القرارات الشخصية .

(ب) خصوصية المعلومات الوراثية Privacy of genetic information:

إن الأفراد (أو الوالدين في حالة الأجنة والأطفال) الذين يخضعون للفحوص والتحريات الجينية ليسوا هم وحدهم من يهمهم الاطلاع على نتائج تلك الاختبارات؛ فأفراد الأسرة، والأزواج وأرباب العمل المحتملون، وشركات التأمين ، ووسائل الإعلام (في حالة كون المفحوص شخصية عامة أو شهيرة) والحكومة، كلهم قد يرغبون في الحصول على معلومات بخصوص البنية الوراثية لشخص بعينه ، كما أن اهتماماتهم قد لا تكون متعلقة بمصلحة هذا الفرد أصلا. ومن هنا لابد أن نتساءل: إلى أي مدى يتوجب على الفرد أن يحول دون وصول معلوماته الوراثية إلى أيدي الآخرين؟ ومن بين القضايا الأخلاقية التي تنشأ هنا هي ما إن كان يحق للطبيب أو غيره من العاملين في مجال خدمات الاختبارات الوراثية أن يكشف عن نتائج تلك الاختبارات دون علم المريض أو رغما عنه إلى طرف ثالث .

والقاعدة الأخلاقية الأساسية هنا لا تختلف عن تلك المتبعة بخصوص البيانات الطبية عموما ، وهي: لا يمكن الكشف عن البيانات الخصوصية المتعلقة بهوية المريض ، دون تفويض منه، سوى عندما يلزم حماية الآخرين من الأذى أو عندما يكون الكشف عن تلك المعلومات مفروضا بقوة القانون (مثل إبلاغ سلطات الصحة العامة بنتائج اختبارات فيروس العوز المناعي المكتسب "الإيدز").

وتسعى كثير من الدول لإنشاء "بنوك للدنا" DNA Banks يشمل عينات من الحمض النووي لجميع المشتبه بهم في القضايا الجنائية وكذلك جميع المشاركين في برامج التحري الوراثي بغرض استخدامها في القضايا المتعلقة بالتعرف على الهوية في مجالات الطب الشرعي والبحث الجنائي. لكن أهم الاعتراضات الأخلاقية على التوسع في حفظ المعلومات الجينية للأفراد هي التهديد الذي يمثله ذلك لخصوصية الفرد المعني (بل ولخصوصية أفراد عائلته المقربين).

ويختلف حفظ عينات من الدنا للفرد عن حفظ بصمات أصابعه مثلا، فبصمات الأصابع لا تحمل سوى معلومات عن فرد واحد بعينه، وهو صاحبها، أما المعلومات التي تحتوي عليها عينة الدنا فهي أكثر حساسية لأنها لا تتعلق بالشخص المعني فحسب، بل إن لها تأثيرا على أقاربه الذين يرتبط معهم بعلاقة دم .

وفيما يتعلق بالحق في الخصوصية الجينية، من الممكن تحديد أربعة مكونات لذلك ، وهي: 1- الحق في خصوصية المعلومات (والتي تتضمن حقوقا فرعية فيما يتعلق بالسرية Confidentiality وعدم ذكر الاسم Anonymity). 2- حق الفرد في التحكم في الولوج الملموس إلى جسده. 3- الحق في التحكم الشخصي والانتقائي في استخدام الخدمات الوراثية. 4- الحق في المحافظة على الحقوق الحصرية فيما يتعلق بخصوصية جينات الفرد.

وقد جادل البعض بأن الدنا يشبه "دفتر يوميات مستقبلي" لأنفسنا (لأنه يحتوي على المعلومات المتعلقة بحالتنا الصحية الحاضرة والمستقبلية)،ولذا فإن حقنا في حمايته من "القراء" غير المرغوبين يعد أمرا حتميا من أجل المحافظة على سيطرتنا التامة والمستقلة على المعلومات الشخصية والحساسة لكل منا .

وبالإضافة إلى المجادلات المتعلقة بتجميع عينات المادة الوراثية ، والتي قد يكون لها ما يبررها في حالات التحريات الجنائية، إلا أن هناك مخاوف أخلاقية أخرى متعلقة بالاحتفاظ بتلك العينات بعد انتهاء البحث أو التحقيق، فيرى العديد من الباحثين أن ذلك يمثل تهديدا خطيرا للخصوصية. وقد أوصت لجنة الوراثة البشرية HGC في المملكة المتحدة بضرورة إعدام العينات الموجودة حاليا في المختبرات التي قامت بتحليلها بناء على طلب الشرطة أو نقلها من ملكية الشرطة إلى مختبر مركزي يخضع لشروط معينة من حيث السرية والخصوصية. ويعتبر ذلك في نظر العديد من جماعات حقوق الإنسان خطوة مهمة في سبيل طمأنة الرأي العام من المخاوف المتعلقة بتلك الأبحاث، إلا أن البعض يرون أن قضية أمن وخصوصية البيانات الوراثية أقل أهمية من قضايا الخصوصية التي يثيرها أخذ تلك العينات والاحتفاظ بها دون الحصول على الموافقة المستنيرة للأفراد المعنيين؛ فانتهاك الخصوصية لا يمكن تصحيحه بإنشاء أرشيفات دولية مأمونة للبيانات الوراثية ، بل بالمحافظة والتأكيد على مبدأ الحق في خصوصية الجسم .

3-4: استزراع الأعضاء (قطع الغيار البشرية) وزرع أعضاء الحيوان في البشر: لقد تقدمت العلوم الطبية كثيرا منذ أن أجريت أول عملية ناجحة لزرع الأعضاء البشرية في عام 1954. وتعتبر عمليات زرع القلب، والكلى، والكبد من العمليات شبه الروتينية حاليا ، كما يزداد عدد عمليات زرع الأعضاء المتعددة في وقت واحد- مثل القلب والرئتين ، والكلى والبنكرياس. ولكن مع ازدياد عدد العمليات المجراة، يزداد أيضا عدد المرضى الذين ينتظرون دورهم في الحصول على أعضاء صالحة للتبرع ؛ فهناك ما يزيد على 60,000 إنسان في جميع أنحاء العالم ممن يحتاجون لزراعة الأعضاء سنويا في المتوسط، غير أنه لا يتوفر سوى نحو 34,000 عضو للزرع ، ويموت الكثير من أولئك المرضى أثناء الانتظار.

هل تمثل قطع الغيار البشرية مستقبل الطب؟ يستمر السباق المحموم بين العلماء في جميع أنحاء العالم للحصول على طريقة لمنع المرضى من الوفاة نتيجة لفشل الأعضاء الحيوية بالجسم. وفي كل عام ، تتوالى الاكتشافات المتعلقة باستزراع خلايا وأعضاء الجسم البشري. ويأمل العلماء في أن يأتي اليوم الذي يتمكنون فيه من "إنتاج" قطع غيار لجميع أعضاء الجسم البشري وبكميات كافية؛ فعلى سبيل المثال، ففي عام 1997، لم يحصل سوى 2,300 من أصل 40,000 من مرضى القلب في الولايات المتحدة على القلب الجديد الذي يحتاجونه. ويأمل الباحثون في أن يتمكنوا من "توجيه" الخلايا الجذعية ، بحيث تتحول إلى أعضاء محددة قابلة للزرع في أجسام المرضى. والمشكلة حتى يومنا هذا هي أنه لا أحد يدري كيف يمكن أن يتم عمل ذلك ، وبالتالي فقد تكون الأعضاء البشرية المزروعة حلما بعيد المنال، على الأقل في الوقت الحالي. وتشير التجارب التي أجريت على الخلايا الجذعية للفئران ، إلى أنه إذا تم حقن تلك الخلايا في أعضاء فئران أخرى ، كالقلب على سبيل المثال، فستتمايز تلك الخلايا الجذعية إلى الخلايا الخاصة بذلك العضو ، لكن ذلك أمر مختلف عن استزراع قلب كامل قابل للزرع في جسم المريض، كما أن ذلك قد لا يكون مفيدا من وجهة النظر الطبية . على الرغم من كون عزل الخلايا الجذعية يعد فتحا علميا مهما، فقد يستغرق تحقيق الخطوة التالية - وهو إعداد التعليمات والطرق اللازمة لتوجيه تلك الخلايا إلى التحول إلى أعضاء قابلة للزرع - سنوات عديدة. وحتى لو أصبح بالإمكان استزراع عضو بشري كامل ، فقد تظل المشكلات المتعلقة برفض الجسم للعضو الغريب قائمة وبانتظار الحل. وباستخدام كل ما يتوافر لديهم من معلومات ، يتوقع الباحثون أننا سنتمكن في المستقبل من تصنيع كلية أو كبد أو قلب للمريض الذي يحتاج إليها. وقد تساعد عمليات تصنيع الأعضاء البشرية أيضا المصابين بالأمراض المزمنة مثل مرض ألزهايمر (الخرف الشيخوخي)، ومرض باركنسون (الشلل الرعاش)، والداء السكري ، وغيرها من الاضطرابات الوراثية. وتشمل التطورات المحتملة أيضا تجديد حيوية (Regeneration) بعض المفاصل ، أو العظام ، أو الجلد في مرضى الحروق. وهناك العديد من المشكلات التي يتوجب حلها قبل زرع عضو جديد في جسم المريض؛ وتكمن أهم الأولويات في توفير إمداد دموي لهذا العضو الجديد . وقد أجريت عدة أبحاث على أدوية جديدة لحث تكون أوعية جديدة (Angiogenesis) ، بحيث يحصل العضو الجديد على كفايته من الدم . وتتمثل المشكلة الثانية في أن العضو الجديد كثيرا ما يلفظه الجهاز المناعي للجسم ، ويحاول العلماء التغلب على تلك المشكلة بطرق شتى، منها تعديل البنية الوراثية للخلايا المزروعة بحيث تتوافق مع الجهاز المناعي للجسم المستقبل.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

استخدام الحيوانات كقطع غيار للإنسان

يعتبر زرع الأعضاء البشرية ، مثل القلب والرئتين والكبد والكلى، من متبرعين بشريين إلى مرضى من البشر أمرا مألوفا في عالم اليوم . و نتيجة لعدد من العوامل ،تتباين معدلات البقاء على قيد الحياة لمدة ثلاث سنوات بعد عملية الزرع ، لكنها تبلغ حاليا في المتوسط نحو 75%. ولسوء الحظ، فنحن نعرف جميعا مدى ارتفاع الطلب وقلة المعروض على تلك الأعضاء الثمينة القابلة للزرع . وعلى الرغم من وجود الكثير من المتبرعين "المحتملين" بالأعضاء - والذين يزيد عددهم بكثير عن الحاجة الفعلية للأعضاء ، فلا تزيد نسبة أولئك الذين يتوفون "بصحة جيدة" ممن أعدوا العدة للتبرع بأعضائهم بعد الوفاة لمساعدة الآخرين ، عن 20%. ويعد ذلك غريبا بالقياس إلى نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه معهد جالوب (Gallup) في عام 1993 لمعرفة توجهات الجمهور الأمريكي تجاه التبرع بالأعضاء. ويمكن إيجاز نتائج الاستطلاع كما يلي: 1- 85% ممن شملهم الاستطلاع يدعمون فكرة التبرع بالأعضاء للزرع. 2- 69% يرغبون في ، أو يحتمل أن يرغبوا في، التبرع بأعضائهم بعد الوفاة. 3- 93% مستعدون للتبرع بأعضاء أقاربهم المتوفين إذا طلب منهم ذلك قبل الوفاة ؛ بينما لا يوافق سوى 47% إذا لم يناقش الأمر قبل الوفاة.

وعلى اعتبار ما سبق ، نجد أن هناك مشكلة كبرى فيما يتعلق بتوافر الأعضاء البشرية للزرع ، مما يستوجب على المجتمع الطبي التفكير جديا في استخدام الحيوانات كمصادر محتملة لقطع الغيار اللازمة للبشر . وبدون التوقف لإجراء المزيد من التقييم للعيوب الجسيمة التي تنطوي عليها عمليات الزرع الغيري (Xenotransplantation)- وهي استخدام أعضاء حيوان ما للزرع في جسم فرد من نوع حي آخر، ومنها الإنسان، والمعضلات الأخلاقية التي تنطوي عليها هذه العمليات ، والبدائل المتاحة ، ودور الصناعات البيوتكنولوجية ؛ ستظل تلك الفكرة منطلقة عمليا بسرعة مذهلة.

الجوانب الأخلاقية لنقل أعضاء الحيوان للإنسان

على الرغم من أن الإنسان هو سيد هذا الكون ، إلا أن هناك من يرى أنه لا يحق له استخدام الحيوانات في تجاربه العلمية دون رقابة ولا ضوابط أخلاقية ، فحتى الحيوانات مخلوقات لها صفات خاصة بها يجب احترامها والتعامل معها بصورة أخلاقية ، فحتى حيوانات المختبر وفئران التجارب يجب التعامل معها بطريقة إنسانية ، كما يجب ألا تجرى مثل تلك التجارب إلا عندما تكون فوائدها المحتملة للبشر أكبر بكثير من تكلفتها - المادية والأخلاقية على حد سواء.

الحتمية البيولوجية والإرث القديم-الجديد لليوجينيا

ظهرت حركة تحسين النسل في القرن التاسع عشر، وهي من بنات أفكار فرانسيس جالتون Glaton -ابن عم تشارلز داروين. وقد صاغ جالتون مصطلح Eugenics في عام 1883من الأصل الإغريقي Eugenes بمعنى "ذو نسب جيد، أو يمتلك خصائص وراثية متفوقة " . اعتقد جالتون أن جميع صفاتنا، من الجمال إلى القدرات العقلية، هي خصائص موروثة ويمكن قياسها. وقد تجول في جميع أنحاء بريطانيا في رحلته الشهيرة، ومسماكه في يديه ، لأخذ قياسات ما رأى أنه يمثل أساسا للحصول على جنس متفوق. وسرعان ما حذا حذوه علماء يشبهونه في التفكير. وفي الولايات المتحدة، استخدم الطبيب صمويل مورتون Morton مجموعته الخاصة المكونة من أكثر من ألف جمجمة "لإثبات" أن البشر يمكن تصنيفهم من الأعلى إلى الأدنى ، اعتمادا على حجم الجمجمة وشكلها. أما نتائج أبحاثه فقد كانت كالتالي: البيض على القمة، السود في ذيل القائمة، بينما أتى السكان الأصليون لأمريكا الشمالية في المنتصف !

كان تلميذ جالتون، كارل بيرسون Pearson، يشغل منصب أستاذ اليوجينيا في الكلية الجامعية University College بلندن، كما كان يؤمن بقوة بالداروينية الاجتماعية ، وقد كتب يقول : "يقودني التاريخ إلى طريق ما، طريق واحد لا سواه، نتجت عنه درجات عليا من الحضارة، وبالتحديد، الصراع بين الأجناس، وبقاء الجنس الأكثر لياقة جسديا وعقليا ".

وقد اتفق أيضا أنه كان منهجيا ممتازا ، وأحد مؤسسي علم الإحصاء الحديث. ويتعلم كل طالب في السنة الأولى لعلم الإحصاء كيف يتم حساب المعامل "r" (راء) لبيرسون، وهو المعامل الأساسي للارتباط Correlation coefficient، ويتعلم اختبار " مربع كاي" Chi square للحكم على المعنوية أو الاعتداد الإحصائي، وهو اختراع آخر لبيرسون. وقد طوّر بيرسون معامل الارتباط – جزئيا- لأنه أراد العثور على طريقة أكثر دقة للربط بين الظواهر التي يمكن قياسها، مثل اختبارات الذكاء، للخصائص البيولوجية المستبطنة (يعرض موقع الإنترنت الخاص بقسم الإحصاء بكلية الجامعة بلندن ، وبكل فخر، إنجازاته كعالم بالرياضيات التطبيقية، لكنه يتجاهل بذكاء كتاباته عن الأعراق والوراثة).

وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، جذبت برامج اليوجينيا التي ترعاها الدولة مساندة واسعة، ليس فقط من قبل العنصريين اليمينيين Right-wing racists ، ومؤيدي الدراوينية الاجتماعية Social Darwinism ،بل وأيضا من قبل تقدميين مثل الكاتب الإيرلندي الشهير جورج برنارد شوShaw ، وشيوعيين مثل ج.ب.س. هالدين Haldane، وج . د.برنال Bernal، بالإضافة إلى مارجريت سانجرSanger ،وهي منادية بالمساواة بين الجنسين، ونصيرة لتحديد النسل .

وقد أجازت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية قوانين يوجينية تسمح للدولة بأن تُعقم sterilize كُرها من يُظن أنهم "بلهاء" Imbeciles ، بينما تشجع الناس ذوي الخصائص المرغوبة على إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال . وعلى حد قول القاضي أوليفر وينديل هولمز Holmes: "نحن نريد الناس الأصحاء ، الودودين ، المستقرين عاطفيا ، المتعاطفين ، والأذكياء . نحن لا نريد المعتوهين،ولا البلهاء، ولا العالة، ولا المجرمين" .

انتهت الحركة اليوجينية بالولايات المتحدة فعليا بعد انكشاف سياسات النازي اليوجينية، والتي تضمنت إبادة فئات بأكملها من الناس ، وإجراء التجارب الطبية على الأشخاص الذين يعتبرون أدنى من الناحية الوراثية . ومنذ ذلك التاريخ، ظلت أوروبا القارية مُحصنة عمليا ضد أي إحياء لليوجينيا ، وأصبحت- في واقع الأمر- منطقة غير مناسبة للعديد من أنماط الأبحاث الوراثية .

كان هناك اعتراضان مهمان على السياسات اليوجينية القديمة ، ربما لا ينطبقان في الأغلب على أية يوجينيا مستقبلية، في الغرب على الأقل . الاعتراض الأول هو أن برامج اليوجينيا لم تكن تستطيع تحقيق الأهداف التي سعت إليها بالتقنية التي كانت متوفرة في ذلك الوقت . والعديد من العيوب والشذوذات التي كان اليوجينيون Eugenicists يعتقدون أنهم ينتخبون لتجنبها من خلال التعقيم القسري Forced sterilization ،كانت نواتج أليلات متنحية Recessive alleles – أي أليلات يلزم تجمعها من كلا الوالدين حتى تظهر تأثيراتها في النسل . وسيظل كثير من الأشخاص الأسوياء ظاهريا حاملين “Carriers” لهذه الجينات ، وينشرون تلك الخصائص في جميعة الجينات Gene pool ، ما لم يمكن تحديد هويتهم –بصورة ما- ومن ثم تعقيمهم هم أيضا. وهناك العديد من "العيوب" Defects الأخرى التي إما أنها لم تكن عيوباً على الإطلاق (مثل بعض أنماط الذكاء المنخفض) ، أو التي كانت نتاجا لعوامل غير وراثية التي كان بالإمكان معالجتها بتحسين الصحة العامة . وعلى سبيل المثال ، هناك بعض القرى الصينية بها مجموعات كبيرة من الأطفال ذوي مكافئ الذكاء المنخفض - ليس بسبب عوامل وراثية سيئة ،بل بسبب المستويات المنخفضة من اليود Iodine في غذاء الأطفال .

وهذا الاعتراض ،المبني على أن اليوجينيا مستحيلة تقنياً ، لا ينطبق إلا على تلك التقنيات التي توفرت في أوائل القرن العشرين ، كالتعقيم القسري . وفي الوقت الحالي ،تسمح التطورات التي تحققت في مجال التحري الوراثي للأطباء بالتعرف على حاملي الصفات المتنحية قبل أن يقرروا أن يكون لهم أبناء ، وقد تتيح لهم في المستقبل التعرف على الأجنة التي تحمل خطرا عاليا لوجود شذوذات Abnormalities، لأنها ورثت أليلين متنحيين . وتتوفر اليوم معلومات من هذا النوع؛ على سبيل المثال، فمن بين أفراد مجموعة مثل اليهود الاشكينازيين ، والذين لديهم احتمالات أعلى من الطبيعي لحمل جين مرض تاي- زاكس المتنحي ، قد يُقرر اثنان من هؤلاء الحَمَلة Carriers ألا يتزوجا أو ألا يكون لهما أبناء . وفي المستقبل، ستقدم هندسة الطريق الجنسيGerm-line engineering إمكانية التخلص تماما من مثل هذه الأليلات الضارة المتنحية في جميع أفراد ذرية حامل بعينه، وإذا أصبح العلاج رخيصا وسهلا بما فيه الكفاية، فمن الممكن أن نفكر في إزالة شبه كاملة لجين معين من مجموعات سكانية بأكملها .

أما الاعتراض الرئيسي الثاني على الأشكال التاريخية من اليوجينيا فهو أنها كانت قسرية Coercive ومدعومة من قبل الدولة. وبطبيعة الحال، فقد تمادى النازي في ذلك إلى حدود مرعبة بقتل الناس "الأقل مرغوبية" أو إجراء التجارب عليهم. لكن حتى في الولايات المتحدة ، كان بوسع إحدى المحاكم أن تقرر أن شخصا ما أبله أو مغفل Moron(وهي مصطلحات كانت تعرّف ، كما هو الحال في كثير من الحالات العقلية ، بصورة فضفاضة للغاية) ، وأن تحكم بتعقيمه أو بتعقيمها قسراً . أما الاعتراض الثاني على اليوجينيا ، والمستند على كونها مدعومة من قبل الدولة ، فلا يرجح أن يكون له وزن كبير المستقبل ، لأن قلة فقط من المجتمعات الحديثة ينتظر أن ترغب في العودة إلى لعبة اليوجينيا . فمنذ الحرب العالمية الثانية ، تحركت الغالبية الساحقة من الدول الغربية بطريقة حاسمة ، باتجاه حماية أقوى للحقوق الفردية. ومن بين أهم هذه الحقوق، نجد الاستقلالية Autonomy في اتخاذ القرارات الخاصة بالإنجاب .

أما اليوجينيا الألطف، والأرق ،التي تلوح في الأفق الآن فستكون، إذن، مسألة اختيار شخصي من قبل الأبوين ، وليست أمرا تقوم دولة البطش بفرضه على مواطنيها. وحسب قول أحد المعلقين: " كانت اليوجينيا القديمة ستستلزم الانتخاب المستمر لاستيلاد الأكفاء Fit واستبعاد غير الصالحين Unfit ؛ أما اليوجينيا الجديدة فستسمح –من ناحية المبدأ- بتحويل غير الصالحين إلى أعلى المستويات الوراثية" . ويقوم الوالدان بالفعل باتخاذ مثل هذه الخيارات عندما يكتشفان ، عن طريق دراسة السائل الأمنيوسي (بزل السلى Amniocentesis)، أن هناك احتمال كبير لأن يصاب طفلهم بالبله المغولي (متلازمة داون Down’s syndrome )، فيقرران عمل إجهاض . ويرجح أن تؤدي اليوجينيا الجديدةفي المستقبل القريب إلى زيادة معدلات الإجهاض ،وإلى نبذ عدد أكبر من الأجنة،مما سبب المقاومة القوية لهذه التقنية من قبل معارضي الإجهاض . ومع ذلك، فهذه اليوجينيا لن تنطوي على إكراه البالغين أو تقييد لحقوقهم الإنجابية ؛ بل على العكس من ذلك، فسيتوسع المدى المتاح من الخيارات الإنجابية بشكل دراماتيكي ؛ وكذلك سيكفون عن القلق بشأن العقم ،والعيوب الولادية Birth defects،ومجموعة كبيرة من المشاكل الأخرى .

لكن الأمر لا يقتصر على الخيارات الإنجابية وحدها، كما يحذر أستاذ علم الاجتماع، تروي داستر، فهو يرى أن التطورت الحديثة في مجال التقنيات الوراثية قد يكون لها تأثير على المجموعات السكانية المتميزة وراثيا ، مثل اليهود ، والاسكندنافيين، والأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية والعرب، باعتبار أن تلك التقنيات الحديثة ستجعل التعرّف على تلك المجموعات السكانية أسهل، مما يترك الباب مفتوحا أمام التمييز الجيني Genetic discrimination، ومن ثم اليوجينيا في المستقبل. ويحثّ داستر الجمهور على الاطلاع الجيد على تلك التقنيات الحديثة وتدبّر الاستخدامات المحتملة لها، سواء كانت تلك جيدة أم سيئة .

ويخشى البعض من أن يقود التقدم في مجال هندسة الجينات إلى برنامج مدعوم من قبل الدولة لليوجينيا لإنتاج جنس حاكم متفوق وراثيا على غيره من الأجناس.أما السيناريو الأكثر معقولية، خاصةً في الأمم الغربية التي "تثمّن" الحرية والاختيار الشخصيين، فهو أن التحسين الوراثي للنسل ستوجهه قرارات الوالدين الشخصية. ويصف نيكولاس أجار التدخلات الجينية المقبولة أخلاقيا على أنها "علاجية"، أي تلك التي تهدف لتجنب العيوب التي لا توجد في البشر الأسوياء، ويقول أن الهندسة اليوجينية تحدث عندما يكون الهدف هو " إنتاج أفراد تتخطى قدراتهم حدود المستوى الطبيعي" . ويرى أجار بأنه قد توجد بعض التدخلات المسموح بها والتي يمكن إدراجها تحت مسمى يوجينية ؛ ويستخدم تحسين الذكاء والقوة البدنية كمثالين لذلك . وبطبيعة الحال، سيتمتع الأغنياء بأولوية تحقيق الاستفادة من التحسين الوراثي، لكن، مثلما يحدث مع أي تكنولوجيا جديدة، سيصبح ذلك أقل تكلفة بمرور الوقت. وفي نهاية الأمر، سيكون أغلب الناس قادرين على شراء التكنولوجيا؛ وقد يصبح التحري الوراثي و” إصلاح “ الأجنة المعيبة جزءا روتينيا من الرعاية قبل الولادة .

ويجب التشديد هنا على أن التحسين الوراثي لا يضمن النتائج: فبيئة الفرد، وتجاربه، وجهدهتشارك أيضا في تشكيل مقدرة ذلك الفرد. ولذا يتوجب على الأشخاص المحسّنين وراثيا أن يتنافسوا مع الأشخاص العاديين وراثيا لإثبات أنفسهم، مما يعطي الأشخاص "العاديين" فرصة ليظهروا أنه بوسعهم الأداء بنفس الكفاءة ، أو أفضل.

وللتخلص من إرث اليوجينيا العنصرية، يرى فرانسيس فوكوياما، على سبيل المثال، أن نُسقط استخدام مصطلح اليوجينيا المثُقل عند الإشارة إلى الهندسة الوراثية المستقبلية ، وأن نستبدل به مصطلح استيلاد Breeding – وتعني بالألمانية Züchtung ، وهي اللفظة التي استخدمت أصلا لترجمة اصطلاح داروين؛ الانتخاب Selection .

5-4: تقنيات الإخصاب المساعد وتعديل البشر (الأطفال التفصيل): قبل نحو خمسين عاما، ظلت وسائل الإعلام تردد أنه بحلول الألفية الثالثة سيعيش البشر في مدن مغطاة بالقباب ، ويقوم الرجال الآليون بتلبية جميع متطلباتهم، كما سينتقلون إلى أعمالهم بأجهزة طيران محمولة على ظهورهم... ولم يتحقق أي من ذلك. أما الآن، فتخبرنا نفس وسائل الإعلام – مهما تغيرت أساليبها أو تطورت تقنياتها- أننا نوشك على أن نشهد عالما من البشر المحسنين وراثيا،أو الأطفال "التفصيل"، وهو أمر مشكوك فيه تماما بنظر الكثيرين . و"الأطفال التفصيل" Designer babies هو اصطلاح يستخدمه الصحفيون والمعلقون –لكن ليس العلماء- لوصف العديد من التقنيات الإنجابية ، والتي تشترك فيما بينها بأنها تمنح الوالدين مزيدا من التحكم فيما سيكون عليه شكل نسلهما. ويتحقق ذلك من خلال التقدم في ثلاثة مجالات علمية: 1- تقنيات الإخصاب المساعد : فخلال العقود الثلاثة التي تلت ولادة لويز براون ، أولى "أطفال الأنابيب" في العالم، ساعدت تقنيات الإخصاب المساعد عددا لا يحصى من النساء في جميع أنحاء العالم على الحمل وإنجاب الأطفال. ويعيش بيننا اليوم مئات الآلاف من الأشخاص الذين ولدوا بفضل تقنيات الإخصاب ( دمج البويضة والحيوان المنوي) خارج الرحم. وتتضمن التقنيات الإنجابية المتطورة الأخرى تجميد الأجنة، والتبرع بالبويضات والحيوانات المنوية، والرحم المستأجر- والتي تثير قضايا أخلاقية ودينية مستعرة، إضافة إلى الحقن المباشر للحيوانات المنوية داخل البويضة. 2- منابلة الخلايا والكروموسومات Cell and chromosome manipulation : مع تنامي معرفتنا بالبنية الدقيقة للخلايا الحية نتيجة لتطور وسائل التصوير الإلكترونية ، باتت قدرتنا على نقل الكروموسومات مدخلا إلى تطورات مهمة في مجال الاستنساخ ، كما ستؤدي معرفتنا بالخلايا الجذعية إلى تحقق العديد من المعالجات الجديدة. ومع تنامي معرفتنا بكيفية حدوث التكاثر على المستوى الجزيئي، سيكون بوسعنا المزيد من التحكم في المراحل المبكرة من نمو طفل بعينه. 3- علم الوراثة والجينوميات Genetics and Genomics: مع اكتمال خريطة الجينوم البشري في عام 2003، بدأ بالكاد فهمنا لكيفية تأثير الدنا على النمو البشري. وقد نتمكن في يوم من الأيام من تفعيل أو تعطيل قطع معينة من الدنا ، أو استبدال بعضها محل الأخرى، وهناك أبحاث جارية في هذا السياق بالفعل.

وقد ظهر في السنوات الأخيرة العديد من المعضلات الأخلاقية حول التقنيات الوراثية والإنجابية الحديثة ؛فبرغم أنه من غير القانوني في معظم البلدان اختبار جنس الجنين بغرض انتقاء جنس المولود، إلا أن هذا الإجراء واسع الانتشار؛ وفي دراسة أجريت بمدينة بومباي الهندية، اتضح أن نسبة مذهلة (7997 من أصل 8000) من الأجنة المجهضة كانت إناثا، كما أنه في كوريا الجنوبية أصبحت حالات الإجهاض تلك واسعة الانتشار لدرجة أن 65 بالمائة من الأجنة المجهضة للأم التي لديها طفلين هم من الذكور، ربما لأن الزوجين لا يريدان الحصول على بنت ثالثة. وقد تراوحت نسبة من يدعمون حظر الإجهاض على هذه الأسس من 100% في البرتغال إلى 22% فقط في الصين . مما لا شك فيه أن المنابلة الجينية للتخلص من أمراض مميتة مثل التليف الكيسي Cystic fibrosis ستكون أمرا مفيدا للبشرية، لكن هل لو تمكنا – مثلا- من التدخل في الجينات لمنع السمنة سيصبح ذلك أفضل نجاح طبي للقرن الحادي والعشرين أم علامة مرضية على مجتمع من النحاف؟ سيحتاج البشر الذين يمتلكون القدرة على تشكيل بنيتهم الجينية لتحديد ما هو "طبيعي" ؛ ولنتساءل هنا عما إذا كان البشر المصابون بالتخلف العقلي ، أو العمى، أو الهوس الاكتئابي ، معيبون أم أنهم مجرد تباينات من المعيار البشري الجمعي؟ وتتوالى الأسئلة الأخلاقية بخصوص تحسين السلالة البشرية : فأين يقع الحد الفاصل للقبول بين منع العيوب الولادية الوخيمة من ناحية، وبين محاولة صنع جنس من البشر "الكاملين" عن طريق الهندسة الوراثية، من الناحية الأخرى؟ فمن المؤكد أن هناك بعض الوالدين ممن يرغبون في الحصول لأبنائهم على بعض "التحسينات" التي تمنح أولئك الأبناء فرصا لم يحظ آباؤهم بها، سواء من حيث القدرات العقلية ، أو الذاكرة ، أو القدرات البدنية والرياضية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ماذا لو فضّل طفل تمت هندسته وراثيا ليتفوق في كرة القدم، أن يعزف على الكمان مثلا؟... في العالم الطبيعي حيث يتوالد البشر تقليديا، لا يلام أحد على بنيته الجينية؛ لكن في عالم التحسينات الوراثية والأطفال التفصيل؛ ماذا لو قرر الوالدان عدم إجراء تحسين وراثي معين كان الابن يود لو امتلكه؟ وعلى العكس من ذلك ،ماذا لو اختار الوالدان منح ابنتهما صفة لم تكن ترغب في امتلاكها؟ هل ستغضب؟ وهل سيحق لها مقاضاة والديها في المستقبل؟ مثل هذه المواقف التخيلية قد تتسبب في قدر هائل من الضرر النفسي والجسدي، فقد أشارت بعض الدراسات الحديثة إلى أن بعض الجينات الحاملة لصفات مرغوبة قد تحمل في طياتها صفات أخرى غير مستحبة، بل وضارة أحيانا. ومثال ذلك أن نفس الجين المسبب لمرض الهوس الاكتئابي يحمل صفات الإبداع الفني؛ فإذا قمنا "بتعطيل" الجينات المسببة للأمراض العقلية ، فسنحرم العالم من مبدعين من أمثال فان جوخ van Gogh وهمنجواي Hemingway، وإدجار ألان بو Poe. وبالإضافة إلى ذلك ، فإن التلاعب بالجينات الذي يفيد الفرد قد لا يكون كذلك بالنسبة للمجتمع ككل؛ فلو أضفنا إلى جينوم (مجين) أبناءنا تلك الجينات المسببة لطول العمر في فئة ضئيلة من المجتمع لمنحهم أعمارا أطول ،ماذا سيحدث لو عاش جمع البشر إلى عمر 100 أو 120 عاما؟ بالقطع سيصبح العالم أكثر ازدحاما من أن يكفي لسكانه، ناهيك عن أن يؤوي الأجيال القادمة. وهناك معضلة أخلاقية أخرى بهذا الخصوص، وهي أن التحسينات الوراثية لن تكون مجانية- بل باهظة التكاليف؛ فهل سيؤدي ذلك إلى خلق فجوة جينية جديدة بين الأغنياء والفقراء؟ وهل سيعني ذلك أن أطفال الأثرياء سيحصلون على جينات تمكنهم من الحصول على الذكاء، والصحة ، وطول العمر، بينما يتوجب على أطفال الفقراء أن يتحملوا أقدارهم كما هي؟ ثم ماذا عن طبيعة الأبوة ذاتها؟ فاليوم أطفالنا هم أبناؤنا بالفعل؛ فنصف صفاتهم الوراثية يأتي من الأب، ويأتي النصف الآخر من الأم . أما الأطفال التفصيل، فسيمتلكون جينات لا تنتمي إلى أي الأبوين؛ فهل سيؤدي ذلك إلى الشعور بالعزلة "الجينية" بين الأب وابنه مثلا؟

6-4:التحري الوراثي والاختبارات الوراثية: تم تعريف التحري الوراثي على أنه " فحص البنية الوراثية (الجينية) لفرد ما- سواء كان جنينا، أو طفلا صغيرا ، أو بالغا ناضجا- بحثا عن أدلة تشير لاحتمال كون هذا الفرد سيصاب بعيب أو مرض وراثي، أو سينقله ." وبصورة أكثر دقة ، يمكننا تعريف التحري الوراثي على أنه أي نوع من إجراءات انتقاء الأفراد لإجراء مزيد من الاستقصاءات الهادفة للاكتشاف أو الاستبعاد المبكر للأمراض الوراثية أو اكتشاف قابليتهم للإصابة بمثل تلك الأمراض. وعند تطبيقه على عشيرة أو مجموعة سكانية بعينها من الأفراد الذين لا تظهر عليهم أعراض المرض، والذين لا يوجد لديهم تاريخ شخصي أو عائلي للمرض ، من أجل الإشارة لكونهم معرضين لدرجة عالية من خطر الإصابة بالمرض أكثر من عموم السكان .

أما الاختبار الوراثي فيعرّف على أنه استخدام إجراءات معينة لتحديد الوضع الجيني للأفراد الذين يُشك بالفعل في كونهم معرضين لخطر مرتفع للإصابة بحالة وراثية معينة .

وكثيرا ما يستخدم اصطلاحي "التحري الوراثي " Genetic screening ، و"الاختبار الوراثي" Genetic testing كمترادفين ، بيد أنه من المهم التفريق بينهما ، لأن التحري الوراثي يفضي بنا إلى قضايا أخلاقيا ونفسية-اجتماعية لا تنطبق على الأنواع الأخرى من الاختبارات الوراثية العامة. وعلى أية حال، فكثير من القضايا المنهجية والأخلاقية التي تنطبق على التحري الوراثي تكون ذات صلة كذلك بالأنواع الأخرى من الاختبارات الوراثية . أما التفريق الأساسي بين التحري الوراثي والاختبار الوراثي فيتمثل في أنهما يختلفان فيما يتعلق بالمجموعات السكانية (العشائر) المستهدفة لكل منهما. ومن المهم أيضا ملاحظة أن اصطلاحي "اختبار وراثي" Genetic test، و"تحليل وراثي" Genetic analysis كثيرا ما يستخدمان للدلالة على أمر واحد هو الفحص الفعلي في المختبر للعينات الوراثية . تتضمن المجالات التي تركز عليها الاختبارات الوراثية ما يلي: - التشخيص قبل الولادة Prenatal diagnosis: وهو تحديد ما إن كان الجنين معرضا لخطر الإصابة بأي من الأمراض أو الخلال Traits الوراثية التي يمكن التعرف عليها. ويتم إجراء التشخيص قبل الولادة باستخدام عينات من السائل الأمنيوسي (السلوي) Amniotic fluid ، أو الخلايا الجنينية، أو الخلايا الدموية للأم أو الجنين أو بتنظير الجنين Fetoscopy، وهي تقنية تستخدم آلة تصوير مثبتة على إبرة يتم إدخالها إلى الرحم لرؤية الجنين. ومنذ بدأت عمليات التحري قبل الولادة في عام 1966 ، ارتفع عدد العيوب الاستقلابية والاضطرابات الوراثية التي يمكن تشخيصها قبل الولادة بصورة كبيرة، كما أن هناك نقاشا حول إلزام الوالدين المشاركين في برامج الإخصاب خارج الرحم (أطفال الأنابيب) بالخضوع لهذه الاختبارات في حال كونهم معرضين لخطر الإصابة بمرض وراثي. وفي تلك الحالات، تضمن الاختبارات التشخيصية قبل الانغراس Preimplantation testing أن الأجنة الخالية من الأمراض أو المشاكل الوراثية وحدها هي التي يتم زرعها داخل الرحم .

- تحري الأطفال حديثي الولادة Newborn screening : ويتضمن تحليل عينات من الدم أو الأنسجة المأخوذة من حديثي الولادة لاكتشاف الأمراض الوراثية التي يمكن أن يؤدي التدخل المبكر فيها إلى تجنب تعرض أولئك الأطفال لمشكلات صحية خطيرة أو للوفاة. وقد بدأ استخدام تلك الطريقة في أوائل الستينات من القرن الماضي ، حيث أمكن اختبار الأطفال حديثي الولادة للإصابة بمرض استقلابي نادر ، هو بيلة الفينيل كيتون Phenylketonuria (PKU)، والذي يسبب التخلف العقلي، لكن من الممكن الوقاية منه باتباع نظام غذائي معين .

- تحري الحَمَلةْ Carrier screening: ويهدف للتعرف على الأفراد المصابين بشذوذ جيني أو كروموسومي قد يؤدي إلى مشكلات في نسل الشخص الخاضع للتحري. ويمكن أن يؤدي اختبار عينات الدم أو الأنسجة إلى اكتشاف الإصابة بخلل جيني معين ، أو وجود تغيرات في كروموسوم معين ، أو تغير في الدنا مرتبط بمرض وراثي في شخص لا تظهر عليه أعراض المرض . ويمكن حاليا إجراء تحري الحملة لعدد من الأمراض الوراثية مثل فقر الدم المنجلي، ومرض تاي-زاكس، والتليف الكيسي Cystic fibrosis، وحثل دوشين العضلي Duchenne muscular dystrophy، والناعور (مرض نزف الدم) Hemophilia، ومرض هنتنجتون Huntington's disease، والورام الليفي العصبي Neurofibromatosis.

- اختبارات الطب الشرعي Forensic testing: وهي أحدث المجالات التي يتم من خلالها الاستفادة من المعلومات الجينية، وتسعى لاكتشاف الارتباط الوراثي بين المشتبه بهم وبين الأدلة التي تُكتشف خلال التحقيقات الجنائية. وقد استخدمت بالفعل نتائج الاختبارات الوراثية كدليل على البراءة أو الإثم في القضايا المنظورة أمام المحاكم . ويرى منتقدو هذه الطريقة أن هناك احتمال لحدوث أخطاء في نتائج مختبرات الطب الشرعي ، حيث أنها كثيرا ما تجري اختباراتها مرة واحدة، بعكس المختبرات البحثية، والتي تجري الاختبار عدة مرات. كما أن هناك مخاوف أخلاقية بخصوص خصوصية بيانات الدنا DNAالتي يتم الحصول عليها خلال التحقيقات الجنائية، والتي يتم حفظها في بنوك المعلومات التابعة للشرطة ، وهو ما سنتطرق إليه لاحقا.

- تحري الحساسية (الاستعداد للإصابة) Susceptibility screening: ويستخدم في التعرف على العاملين الحساسين للمواد التي توجد في مقار أعمالهم والتي قد تسبب إعاقات في المستقبل. وفي عام 1986، كتب مورتون هانت Hunt أن 390,000 عامل يصابون بالإعاقة بفعل الأمراض المهنية في الولايات المتحدة سنويا، ويرى أن تلك الأمراض تتراكم بفعل فرط الحساسية الجينية، لأن زملاءهم في العمل لا يتأثرون بالتعرض لنفس تلك المواد .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المضامين الأخلاقية للتحري الوراثي

إن تقنيات التدخل الوراثي، مثل الهندسة الوراثية، والمعالجة الجينية البشرية ، والتحري الوراثي ، تثير العديد من التساؤلات الأخلاقية. وفيما يتعلق بالتحري الوراثي، يتفق معظم الباحثين وعلماء الأخلاق على أهمية تشخيص مرض مثل متلازمة ليش-نيهان ،والتي تصيب ضحاياها بعد الولادة مباشرة ، وتؤدي لحياة قصيرة وشديدة الإيلام ،تتسم بالتخلف الشديد، والعنف، وإيذاء الذات. وقليل من علماء الأخلاق هم من يعترضون على التحري الوراثي بحثا عن مثل تلك الأمراض، طالما كان الإجهاض يمثل خيارا متاحا بموجب القانون. لكن الأمر يختلف فيما يتعلق بتشخيص اضطراب مثل مرض ألزهايمر العائلي Familial Alzheimer's disease، والذي لا توجد له أعراض حتى يصيب المرضى في عمر يبدأ من 45 سنة ، أو في حالة الكلية المتعددة الكيسات Polycystic kidney disease والتي لا تظهر أعراضها سوى لدى البلوغ ،مع تطور بطيء للمرض أحيانا. وقد زودنا برنامج اكتشاف فقر الدم المنجلي خلال سبعينات القرن العشرين، بنموذج أخلاقي واسع القبول ، والذي تضمن المشاركة الطوعية في برنامج المسح الوراثي الذي أشارت المعايير التي وضعت خلال تلك الفترة إلى أنه يعد أمرا مقبولا إذا كان الاضطراب الوراثي خطيرا، وكان الاختبار دقيقا، والعلاج أو التدخل المطلوب لمنعه متوافرا، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة الموازنة بين تكلفة تقنية التحري المستخدمة وبين الفوائد المرجوة من البرنامج. أما الآن، فتبدو هذه المعايير غير كافية في ضوء تعدد الطرق والمدى الهائل للوراثة الجزيئية في عالم اليوم؛ مما يطرح مشكلة تعريف ما يمكن أن يسمى "بالمرض"- فهل حالة تظهر نفسها في مرحلة متأخرة من العمر، مثل الكلية المتعددة الكيسات، تستحق أن يطلق عليها في الأساس اسم "مرض" ؟ وهل المرضى الحاملين لجين معين يتواجد بنسبة أكبر من المعتاد في المصابين بسرطان معين ، ممن يعيشون لسنوات طويلة دون الإصابة بالمرض، أو لا يصابون به أصلا، يصح أن يطلق عليهم "مرضى"؟ وهذا السؤال الأخير مهم على وجه الخصوص في الوقت الحاضر مع الانتهاء من رسم خريطة كامل الجينوم البشري، فهناك خطر أخلاقي من توسيع دائرة من لا تنطبق عليهم تعريفاتنا لما هو طبيعي وصحيح. ويمكننا فهم الجدل الأخلاقي حول ما يمكن تسميته مرضا من خلال سؤالين كبيرين هما: مَن يقرر ما إن كان الاختبار سيجرى أم لا؛ وما الذي سيحدث للمعلومات الناتجة عنه؟ فمن الواضح أن التحري الوراثي تقنية وجدت لتبقى في المستقبل، لذلك فالسؤال الملح هنا هو: من سيستخدم تلك التقنية ؟ وما هي القيود الاجتماعية التي سنطبقها بخصوصها؟ فهناك تناقض ظاهري بين حقيقة التباين الوراثي بين الناس، وبين المثال الديمقراطي الذي يقول بأن جميع المواطنين قد "خلقوا سواسية". وتتضمن العواقب المحتملة للتحري الوراثي من وجهة النظر الأخلاقية ما يلي :

- التمييز على أسس جينية Genetic discrimination: فالأشخاص المصابون بشذوذات جينية- برغم أنها قد لا تظهر جميعها في صورة خلل وظيفي أو مرض- قد يمنع عنهم التأمين على الحياة، والتأمين الصحي، أو الحصول على التعليم أو الوظائف المناسبة.

- التفرقة في المعاملة: فقد يحرض أرباب العمل على تعيين فقط أولئك الأشخاص الذين تُظهر جيناتهم أنهم مقاومون للمخاطر الصحية المرتبطة بمواقع عملهم – وهو ما يعد بالنسبة لهم خيارا أرخص من جعل بيئة العمل أكثر أمنا للجميع.

- اليوجينيا: قد يتم تطبيق ضغوط اجتماعية أو سياسية على الأفراد لاتخاذ قرارات إنجابية على أساس المعطيات الوراثية؛ فالتزاوج بين من يمتلكون الجينات المرغوبة سيتم تشجيعه، بينما قد يتم تثبيط التزاوج بين فردين يمتلكان صفات وراثية متنحية خطيرة، كما أن النسوة الحوامل بأطفال بهم شذوذات جينية قد يُشجعن – أو يُكرهن- على الإجهاض.

- الحتمية الجينية Genetic determinism: وهي الاعتقاد بأن الخصائص السلوكية والشخصية ، مثل الذكاء أو السلوك الإجرامي ، تنتج في معظمها عن بنية الفرد الجينية، وبالتالي فهي تطبق توجها قدريا Fatalistic على الصحة والمرض . ومن الممكن أن يستخدم ذلك الأسلوب لتبرير التعصب ، وللاستمرار في ممارسة أوجه الظلم على أسس عرقية أو إثنية، وبالتالي قد يتم خلق طبقة اجتماعية من "المنحطين جينيا".

وبالإضافة إلى ما سبق، هناك أسئلة أخلاقية محيرة أخرى تلوح في الأفق:

- بمجرد أن يصبح بالإمكان أن نجري الاختبارات – بصورة سريعة ومأمونة- على آلاف من الحالات الوراثية، هل يُتوقع من الأطباء ضرورة إجراء مثل تلك الاختبارات؟ هل سيكون الأطباء مسؤولين – أو مذنبين- وقتها في حالة عدم قيامهم بإجراء الاختبارات أو عدم إبلاغهم للوالدين بكل صغيرة وكبيرة في بنية جنينهم الوراثية ؟

- مَن سيقوم بالتشاور مع المرضى بخصوص مغزى بنيتهم الوراثية، وكيف ستكون ردة فعل الناس تجاه معرفتهم بنيتهم الجينية المميزة ؟

- هل ستمنع شركات التأمين الصحي منح بوالص التأمين للأشخاص الحاملين لجينات مسببة لأمراض ذات تكلفة اقتصادية مرتفعة؟ وهل ستفعل ذلك شركات التأمين على الحياة؟ وهل يحق لأي منها عمل ذلك في الأساس ؟

- هل ستُسن القوانين لحماية الأفراد من "التمييز الجيني" من قبل الشركات الخاصة؟

- كيف يمكن المحافظة على سرية المعلومات الوراثية ؟ وكيف يمكن الوقاية من استخدام تلك المعلومات في التفريق في المعاملة أو الفرص بين البشر؟ وعلى اعتبار أن بعض الاختبارات ستكشف عن معلومات تتعلق بأفراد آخرين من نفس الأسرة، فهل من الممكن حماية خصوصية أولئك الأقارب؟

- هل يمتلك الناس الحق في عدم التعرف على جيناتهم؟ وهل تمتلك الأمهات الحق في اختيار عدم تعريض أجنتهن لمثل تلك الاختبارات؟

وعند التفكير في أجوبة على تلك الأسئلة المحيرة، يكون من الحصافة تذكُّر أن أقل من نصف جميع الأمراض والإعاقات المعروفة يُعتقد أنها ناتجة عن عوامل وراثية. ومن المرجح أن نكتشف أن كلا منا يحمل عددا كبيرا من الجينات التي تجعله "عرضة" للإصابة بالعديد من الحالات المرضية، فنحن جميعا نتشارك في كوننا بشرا. وسنصاب – جميعا- بالمرض في وقت ما من حياتنا، كما أننا سنصاب بكل تأكيد – لو بقينا على قيد الحياة –بالشيخوخة ثم الموت. وربما كانت هذه الحقيقة بالذات هي ما سيخفف من حكمنا بخصوص من سيتم تحريه بحثا عن أمراض وراثية، حيث قد نجد أنفسنا نوزن بنفس الميزان.

ولتجنب الوقوع في تلك المزالق الأخلاقية ، هناك عدد من المعايير الأخلاقية والقانونية التي أوصت اللجنة الوزارية الأوروبية باتباعها في مجالات التحري الوراثي ، والتي تشمل:

1- تمثل الفعالية مطلبا لازما لكي يكون التحري أخلاقيا. ومع ذلك، يجب أن نضع في اعتبارنا أن التحري قد يكون فعالا وغير أخلاقي في الوقت نفسه.

2- يجب الموازنة بدقة بين فوائد ومضار التحري في المجموعة السكانية المستهدفة وفي الأفراد، مع الوضع في الاعتبار تكلفته الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى توخي العدالة والمحافظة على الحقوق والحريات الفردية. 3- إن عدم الإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالجوانب السلبية والإيجابية للتحري الوراثي أمر لا أخلاقي، وينتهك استقلالية الفرد.

4- يجب أن يكون القرار بالمشاركة في برنامج التحري بمحض الاختيار الحر للفرد، كما أن التشخيصات والمعالجات التي تلي ذلك المسح يجب أن تستلزم موافقة حرة ومنفصلة عن سابقتها. ولا يجب استخدام أية ضغوط لإجبار الفرد على اتباع أي من تلك الإجراءات.

5- إن الحق في الخصوصية يستلزم أن نتائج الاختبارات، كقاعدة عامة، يجب ألا يتم إبلاغها لمن لا يرغبون في الاطلاع عليها، وأن يتم تجميعها، وتخزينها ، وتداولها بصورة سرية، وأن يتم توفير الحماية الكافية لها. ويفضل عدم إخضاع الأفراد الذين لا يرغبون في معرفة النتائج لبرامج التحري الوراثي .

6- يمكن أن يكون تحري حديثي الولادة مبررا إذا كان لهذا التدخل التشخيصي فائدة صحية مباشرة للطفل. وفيما عدا ذلك، يجب تأجيله حتى يكون الطفل قادرا على اتخاذ قراره بنفسه.

7- يجب عدم إطلاع أي طرف ثالث على البيانات الشخصية المستقاة من التحري الوراثي ، ما لم يُعط الشخص المعني موافقته الصريحة على ذلك أو وفقا لقوانين البلد المعني.

8- عند طرح برنامج التحري كخدمة وإجرائه أيضا لأغراض بحثية، فإن قرار إتاحة البيانات الطبية الشخصية الناتجة عن ذلك البرنامج لأغراض البحث يجب اتخاذه بحرية، ودون ضغط. ويجب ألا يؤدي قرار الفرد بعدم المشاركة في البحث إلى منعه من المشاركة في برنامج التحري الوراثي .

ويجب التشديد هنا على أنه إذا كان التحري الوراثي أداة قوية للمستقبل فإنه ليس إلا أداة فحسب؛ وهو يستطيع أن يوسع مجال معرفتنا ويساعدنا على تخطيط استراتيجيات تعطي فرصا أفضل للعيش في صحة ..ولكنه ليس بمجرد الآلة الجديدة أو الفكرة المبتدعة أو الطريقة الفضلى والأسرع والأكفأ لفـعـل شـتـى مـا كـنـا نفعله دائما .وإنما يجب النظر إلى التنبؤ الوراثي بالمعنى الحرفي على أنه أمر له القدرة على تغيير طريقة حياتنا .فهو سيدخل أولويات جديدة بالنسبة لبعض أهم القرارات المصيرية التي يجب علينا اتخاذها –قرارات عن المهنة التي نختارها والمكان الذي نعيش فيه والشخص الذي نتزوجه -.فهو باختصار ينفذ إلى الصميم من حياتنا. وعلى اعتبار أن المعرفة هي القوة –وهي التي تقدم في التنبؤ الوراثي فرصا للاختيار لم تكن لتتواجد من قبل،إلا أن القوة قد يساء استغلالها بـنفس سهولـة الاستفادة منها ؛فإذا أفشت عينة دم أو بول واحدة معلومات تنبئ عن إمكانية استهداف المرء ، ليس فقط بدنيا بل أيضا نفسيا، فإن ذلك يكون بمثابة تقديم الجيفـة المفضلة إلـى ضباع الكلمة وعُقبانها ؛ فالأمر في الحقيقة هو أن ثمة تقدما علميا يتيح لنا الولوج إلى ما في داخل كل فرد يتم فحصه بالتحري الوراثي فيكشف عن أسرار طبية قد تكون ذات طبيعة متفجرة .وهنا يتضح جليا وجود تناقض ؛فالتنبؤ الوراثي الذي يبدو أنه يعطي لكل شخص تحكما أكبر في مصيره يخلق أيضا الإمكانية لأن تستخدم جماعة أخرى هذه المعرفة لانتزاع هذا التحكم منه .


الخلايا الجذعية Stem cells

تم التعرف على الخلايا الجذعية المضغية للفئران منذ عام 1981 ،لكن جيمس طومسون (Thomson) من جامعة ويسكونسين الأمريكية أعلن في أواخر عام 1998 أنه تمكن من زرع الخلايا الجذعية الجنينية البشرية في المختبر.‎ ويتم زرع خلايا مرحلة الكيسة الأريمية (Blastocyst) وهي مرحلة مبكرة من الجنين تحتوي على نحو 100 خلية‎ وتتحول الطبقة العليا من الكيسة الأريمية عادة إلى المشيمة ،أما الطبقة الداخلية فيمكن فصلها وزرعها في مزرعة للخلايا الجذعية المضغية.‎وما نجهله حتى الآن فهو كيف نمايز (Differentiate) هذه الخلايا إلى الخلايا التي نحتاجها لإصلاح الأنسجة البشرية ـ مثل العصبونات (Neurons) وخلايا العضلة القلبية وخلايا الدم والبنكرياس والغضروف والجلد‎ وعلى أية حال فبمجرد أن يتم تحديد عوامل النمو الضرورية ربما أمكن استخدام هذه الخلايا الجذعية المضغية بصورة مباشرة بدلا من الحاجة لتمايزها إلى أعضاء أولا .‎ لكن استخدام الخلايا الجذعية الجنينية يثير عددا من القضايا الأخلاقية الشائكة; فالكثير من الناس يرى أنه من غير المقبول أن تستخدم خلايا الأجنة البشرية بهذه الطريقة ولهذا السبب يتسم اكتشاف الخلايا الجذعية البالغة (Adult stem cells) بكونه غاية في الأهمية.‎ وقد ظلت الخلايا الجذعية مثل خلايا نخاع العظم معروفة منذ مدة طويلة‎، إلا أنه في أواخر عام 1998 ،أعلن فريد جايج (Gage) من معهد سولك للدراسات البيولوجية أنه اكتشف خلايا جذعية عصبية (Neural stem cells) في الدماغ البشري،‎ وفتح ذلك احتمال تمكّن الأطباء من معالجة التلف الدماغي باستخدام طعم (Implant) من الخلايا الجذعية العصبية والتي تم تحريضها على التمايز ، كما تمكن العلماء من عزل وزراعة خلايا جنينية قادرة على التحول إلى أعضاء الجسم المختلفة- إذا توافرت لها الظروف الملائمة. ويأمل العلماء في أن تتيح تلك التقنية إمكانية الحصول على أعضاء بشرية جديدة قابلة للزرع في أجسام المرضى الذين يحتاجون إليها. وفي ليلة رأس السنة لعام 2003، تمت تسمية الدكتور مارتن إيفانز Evans ،الأستاذ بكلية علم الوراثة للثدييات بجامعة كارديف البريطانية، للحصول على درجة فارس في القوائم السنوية التي تمنح بموجبها ملكة بريطانيا الألقاب. كان الشرف الأكبر هو الاعتراف بأبحاثه الرائدة في واحد من أكثر مجالات العلم إثارة للجدل- وهي أبحاث الخلايا الجذعية . أدت المضامين الأخلاقية، بالإضافة إلى التحديات العلمية التي تنطوي عليها أبحاث الخلايا الجذعية في البشر ، لجدال مستعر في جميع أنحاء العالم. ويرجع سبب ذلك جزئيا إلى أن إنتاج أجنة للحصول على الخلايا الجذعية منها أمر لا يقبله كل الناس ، بالإضافة إلى أن العملية ذاتها مشابهة بشكل غير مريح لفرع آخر مثير للجدل من العلوم الطبية: وهو الاستنساخ Cloning. في سبعينيات القرن العشرين، أوضح إيفانز – الذي كان يعمل وقتئذ في جامعة كامبردج- مع زملائه أنه بالإمكان أخذ الخلايا الجذعية من أجنة الفئران ومن ثم زرعها في مزرعة بالمختبر. ومنذ ذلك الحين، تحقق العديد من التطورات الهائلة؛ بدءا من ولادة أولى أطفال الأنابيب في العام 1978 إلى استنساخ النعجة دوللي في العام 1996. ويجري العلماء حاليا أبحاثهم على طرق يمكن بها استخدام الخلايا الجذعية لشفاء أمراض بشرية مثل مرض باركنسون ، ومرض ألزهايمر ، والداء السكري Diabetes.

الأخلاقيات المرتبطة بأبحاث الخلايا الجذعية

بعيدا عن التحديات الفنية، فالقضايا الأخلاقية معقدة بدورها ، وكانت المملكة المتحدة هي أول دولة تأخذها على محمل الجد. ففي العام 1978، ومع ولادة أولى أطفال الأنابيب، لويز براون Brown، بات من الواضح أن هناك حاجة ملحة لتشريع ينظم الأبحاث المتعلقة بالأجنة. ونتيجة لذلك، تم تشكيل لجنة في العام 1984 برئاسة البارونة وارنوك Warnock ، وقد أفضت تقاريرها إلى مشروع قانون الإخصاب وعلم الأجنة البشري ، الذي تم إقراره في النهاية عام 1990. وتتحكم في تنفيذ ذلك القانون هيئة الإخصاب وعلم الأجنة البشري (HFEA)، التي تنظم عمليات تصنيع، وإخصاب، والتخلص من الأجنة المستخدمة في الأبحاث وفي علاج العقم. وفي عام 2001، تم توسيع معايير القانون لتشمل الأبحاث المتعلقة بالخلايا الجذعية الجنينية والاستنساخ العلاجي. والهيئة HFEA مفوضة- إذا تحققت من توافر شروط صارمة- بإصدار التراخيص التي تسمح بإجراء الأبحاث على الأجنة البشرية. ولا يسمح التشريع سوى بالعمل على الأجنة البشرية التي تقل أعمارها عن 14 يوما، وعندها لا تزال تمثل كرة من الخلايا غير المتمايزة، دون دليل على وجود خلايا عصبية من أي نوع، أو أي شيء قد يكون لديه أي إحساس. ولا تعطي الهيئة HFEA تصريحها إلا إذا لم يكن هناك أي بديل لاستخدام الأجنة البشرية؛ فالقانون يحظر تماما أية محاولة للاستنساخ الإنجابي البشري- بمعنى زرع أجنة مستنسخة في رحم امرأة. لكن الدول الأخرى لم يكن تفكيرها تقدميا بهذه الصورة، فكما يقول الدكتور جيليو كوسو Cossu، مدير معهد أبحاث الخلايا الجذعية بميلانو، إيطاليا، والذي تعوق التشريعات الإيطالية الحالية أبحاثه بدرجة كبيرة:" لقد وافق البرلمان الإيطالي مؤخرا على قانون سيء يتعلق بالإنجاب المساعَد Assisted reproduction ، حيث يحظر ذلك القانون تجميد الأجنة وأية أبحاث محتملة على الخلايا الجذعية البشرية." وفي أمريكا، رفض الرئيس بوش تقديم تمويل حكومي لأبحاث الخلايا الجذعية الجنينية، وحظر إنتاج أية خطوط جديدة من الخلايا الجذعية. وهناك ما بين 24 إلى 60 خطا موجودا حاليا، بناء على ما نستمع إليه ، لكنه ليس من السهل على العلماء الوصول إلى أيها. ويقول هيجنز:" المشكلة هي أنه لو توفر لديك التمويل الخاص، فيمكنك أن تفعل أي شيء ترغب فيه ، إذ أن القانون غير صارم فيما يتعلق بالأبحاث التي تتلقى تمويلا خاصا." وعند طرح السؤال :هل من الأخلاقي أن نستخدم الخلايا الجذعية طبيا؟لا يمكن ألا يكون هذا الموضوع مثيرا للجدل، لكن ما هي الأسباب الحقيقية وراء الدعوة لوضع قيود على أبحاث الخلايا الجذعية؟ بما يفيد هنا أن نستمع إلى رأيين متقابلين من مختصين بهذا الموضوع؛ فمن بين من يجيبون بنعم، نجد الدكتور كريس هيجنزHiggins، وهو مدير مركز العلوم الإكلينيكية التابع للمجلس الوطني للأبحاث بالمملكة المتحدة، والذي يقول :"أعتقد أن هذا الجدل قد استهلك تماما، فقد عبر المعارضون لإجراء الأبحاث على الأجنة البشرية عن رأيهم مرارا وتكرارا وفقدوا حجتهم. والتشريع البريطاني بهذا الخصوص يعد واحدا من أفضل وأنظف وأقوى التشريعات في العالم؛ فهو لا يسمح بإجراء الأبحاث سوى على الأجنة التي يقل أعمارها عن 14 يوما ، مع الحصول على تصريح من هيئة الإخصاب وعلم الأجنة البشري HFEA، كما يحظر القانون أي شكل من أشكال الاستنساخ الإنجابي. وبالإضافة إلى ذلك، فإذا أردت التوقف عن العمل على الأجنة البشرية لأغراض علاجية، لأمراض خطيرة مثل الشلل الرعاش والداء السكري، فمن المنطقي أنك لا تستطيع الوقوف بعيدا والسماح بتقنيات أطفال الأنابيب، لأنها – بدورها- تستخدم الأجنة البشرية أيضا. فإذا أردت عدم إجراء أبحاث على الأجنة البشرية كلية، ففي رأيي أن علاج الأمراض المستعصية أهم من علاج العقم . ولنكون منصفين، فعلينا إلغاء التشريع المتعلق بأطفال الأنابيب وإنهاء الحمل، وهو أمر لن يحدث." وعلى الجانب المقابل، ترفض ذلك الدكتورة هيلين وات Wattمديرة مركز ليناكر لأخلاقيات الرعاية الصحية ، وهو مركز يساعد الكاثوليك على تفهم وجهة نظر الكنيسة فيما يتعلق بالقضايا المثيرة للخلاف، وفي هذا الخصوص، تعبر د.وات عن رأيها بقولها : "من غير المقبول أن تقتل إنسانا لتساعد آخر. نحن لا نقتل الرضع لعلاج الأطفال في سن العاشرة، ولا الأطفال في سن العاشرة لعلاج البالغين. والاستنساخ العلاجي يصنع الأجنة البشرية تماما بنفس الطريقة المتبعة في الاستنساخ الإنجابي ، الفرق الوحيد هو أن النسيلة Clone لا يتم زرعها في جسد امرأة؛ وإنما يتم الاحتفاظ بها حية في المختبر لعدة أيام. وبعد ذلك يتم استخلاص خلاياها للاستخدام في التجارب- وهي عملية تعمل على قتلها. ومن الواضح أن هذه العملية أبعد ما تكون عن اعتبارها "علاجية" بالنسبة للنسيلة ، والتي تنتهك حقوقها بمحاولة تحويل الفرد الحي بداخلها إلى علاج لإنسان آخر. فالجنين هو كائن بشري حي منذ أبكر مراحل نموه، فقد بدأنا جميعا حياتنا كأجنة ، ولم تتواجد مرحلة ما لم نكن نمتلك فيها حقوقا وغايات بشرية ، بما فيها الحق في البقاء على قيد الحياة والحماية من أن يعتدى علينا."

ومنذ شهور ،يخوض السياسيون مناقشات حامية حول أخلاقيات استخدام الأجنة المخزنة في عيادات الخصوبة من أجل أبحاث الخلايا الجذعية ، لكن العلماء لا يركزون أنظارهم على الأجنة وحدها؛ فهم يريدون بويضات أيضا ، والهدف هو نقل الخلايا الجسدية – وهي تقنية معقدة لدمج البويضات التي أزيلت أنويتها بخلايا بالغة، بغرض إنتاج سلالات من الخلايا الجذعية الجنينية المتخصصة  من أجل دراسة أصول الأمراض ومن ثم البحث عن علاجات جديدة لها . وتتم تلك العملية بواسطة بويضات "تتبرع" بها نسوة راغبات في ذلك. و تنطوي تلك العملية المعقدة على تعريض المرأة لأسابيع من الحقن بالهرمونات وتحليلات الدم، وفي النهاية يتم الحصول على البويضة جراحيا، لذلك فهي تثير قضايا أخلاقية حول مدى أمان هذه العملية، وحول مدى وجوب دفع أموال لأولائك النسوة مقابل وقتهن وجهدهن ( يتراوح المبلغ الذي تحصل عليه الواحدة بين 5000 و20000 دولار)، وبالتالي فهل تصبح تلك عملية تجارية؟ وهل من الأخلاقي أن تقوم المرأة ببيع بويضاتها؟ وذلك بالإضافة إلى السؤال الأهم وهو: هل المخاطر بالنسبة للنسوة المتبرعات أقل من المنافع المفترضة؟ أم العكس؟

الاستنساخ البشري

الاستنساخ (أو التنسيل Cloning )هو اصطلاح علمي يستخدم لوصف عملية صنع نسخة وراثية مطابقة للأصل من خلال نقل أنوية الخلايا الجسدية هو التقنية التي جذبت الاهتمام خلال السنوات الأخيرة ، وفيها يتم نقل نواة خلية جسدية إلى بويضة لصنع جنين متطابق وراثيا مع النواة المتبرع بها ، ويمكن استخدام ذلك الجنين في مجال الأبحاث ، أو المعالجة (وهو الاستنساخ العلاجي Therapeutic cloning)، كما أنه من الممكن – نظريا- أن ينمو لتكوين طفل مستنسخ؛ وهي عملية تسمى الاستنساخ التوالدي Reproductive cloning. وعلى أية حال، فهناك عدد قليل جدا من العلماء من يقبلون مثل هذا الاستخدام للتقنية. وفي نهاية عام 2002 ، أعلن عن استنساخ الطفلة حواء Eve بوساطة علماء ينتمون إلى ما يسمى " الطائفة الرائيلية " وبعد ذلك بأيام أعلن عن استنساخ أطفال آخرين من قبل الطائفة نفسها، ولكن لم يكن ثمة تأييد لصحة ادعائهم من قبل أي مختبر عالمي مستقل ، بل إن معظم المختبرات العالمية المعروفة بخبراتها العريقة في مجال الاستنساخ شككت بصحة الادعاءات الرائيلية. و يقدم رائل ( مؤسس الطائفة) نفسه على أنه نبي ويدعو إلى تفسير علمي جديد للإنجيل ، ويزعم أن الحياة البشرية على الأرض أقامها أشخاص من كوكب آخر وصلوا في أطباق طائرة إلى الأرض قبل 25 ألف سنة ، وأن البشر تكاثروا عبر الاستنساخ ، ويدّعي إن الاستنساخ سيسمح للبشرية بالوصول يوماً ما إلى الخلود . وفي يناير 2004، ادعى باحث يوناني اسمه بانايوتيس زافوس Zavos أنه زرع جنينا مستنسخا في رحم امرأة، وقد كانت استجابة المختصين في معظمها تتسم بالازدارء الجماعي ، فكما علق كريس هيجنز: " عند إجراء هذه التجارب على الحيوانات، يكون هناك احتمال كبير لوجود تشوهات جنينية ، وبالتالي فإن زرع شيء في امرأة - ليس من المحتمل ، بل من المرجح- أن يكون غير مأمون، يعتبر أمراً لا يمكن أن يغتفر ." ويمضى السير مارتن إيفانز إلى أبعد من ذلك، فيقول بحزم:" أعتقد أنه يجب اعتقاله ؛ فإذا ذهبت إلى وسائل الإعلام وأخبرتهم بأني أقوم بخنق النساء في كل ليلة، وهو أمر غير قانوني أيضا، أعتقد أنني سأصبح عرضة للشبهات . ومن المؤسف على وجه الخصوص أن أناسا مثله، ممن يقومون في الغالب بالدعاية لأنفسهم ، يدّعون أنهم علماء." ينص مرسوم المجلس الأوروبي عن الاستنساخ البشري على أن " تحويل الإنسان إلى آلة عن طريق التخليق المتُعمد لبشر متطابقين وراثيا ،هو أمر مناف للكرامة الإنسانية Human dignity، وبالتالي فهو يمثل استخداما خاطئا للطب والبيولوجيا(علم الأحياء) ". آثار نجاح إيان ويلموت Wilmutفي إنتاج النعجة دوللي المستنسخة عام1997 قدرا هائلا من الخلاف والتأمل حول إمكانية استنساخ إنسان من خلايا بالغة . وأدى طلب الرئيس الأمريكي وقتها – بيل كلينتون- النصيحة من اللجنة القومية الاستشارية للأخلاقيات الحيوية حول هذا الموضوع ، إلى دراسة أوصت بحظر التمويل الفيدرالي لأبحاث الاستنساخ البشري ، وتعليق Moratorium مثل هذا النشاط في الشركات والمؤسسات الخاصة ، وإلى أن يأخذ الكونجرس بعين الاعتبار إجراء حظر تشريعي . قبل أن يتم استنساخ (النعجة) دوللي بنجاح، تطلب الأمر أكثر من 270 محاولة فاشلة ،حدث العديد منها في مرحلة الانغراس Implantation، ومع ذلك ولد نحو 30% من جميع الحيوانات التي استنسخت من ذلك التاريخ وبها شذوذات خطيرة . وُلدت دوللي ولها كروموسومات ذات أطراف Telomeres قصيرة ، كما لم تعش لتصل إلى عمر النعجة المولودة طبيعيا، فقد ماتت في الرابع عشر من فبراير 2003- أي أن عمرها لم يصل إلى ست سنوات، في حين أن بنات جنسها من النعاج يعشن عادة نحو 12 سنة – أي ضعف المدة التي عاشتها دوللي. فلو علمنا أن الخلية التي استخدمت لاستنساخ دوللي كان قد تم الحصول عليها من نعجة عمرها ست سنوات؛ فلو جمعنا عمر الخلية التي صنعت منها دوللي مع العمر الذي عاشته فسيكون حوالي 12 عاما، وهو متوسط العمر الذي تعيشه الأغنام عادة ؛ مما يطرح تساؤلا حول إمكانية وجود نوع من البرمجة لطول العمر بحيث أن السنوات الست التي عاشتها دوللي هي مجرد استمرار برنامج الحياة الذي تضمنته نواة الخلية التي استخدمت في استنساخ دوللي، فهل يمكن الافتراض هنا بأن العمر الذي يعيشه الحيوان (أو الإنسان) المستنسخ سيتناسب عكسيا مع عمر الخلية المستخدمة في عملية الاستنساخ؛ فإذا جرى- على سبيل المثال- استنساخ شخص يبلغ من العمر ستين عاما فمن الممكن أن نتصور أن عمر الطفل الناتج عن عملية الاستنساخ سيكون قصيرا،وستظهر عليه علامات الشيخوخة ، بما فيها الأمراض، مبكرا- مما قد يؤدي إلى الموت في سن الطفولة ؛ مما يثير تساؤلات أخلاقية حول ما يمكن أن نسببه من أضرار للطفل المستنسخ. وإن صحت هذه التوقعات ، فلابد أن العلماء سيعيدون النظر جديا في الفوائد المرجوة من عملية الاستنساخ، فمن المسلّم به أننا لا نود إنتاج طفل بشري قبل أن تتوفر لدينا فرصة أعلى بكثير للنجاح ، وحتى عندئذ فإن عملية الاستنساخ قد تنتج عيوبا لا تظهر إلا بعد سنين .

المعالجة الجينية (Gene therapy)

تتمثل المعالجة الجينية الجسدية Somatic gene therapy، في محاولة تغيير الدنا DNA داخل عدد كبير من الخلايا المستهدفة ، عادة بإدخال المادة الوراثية المعدّلة بواسطة فيروس أو "ناقل" Vector . وقد أجري عدد من محاولات المعالجة الجينية الجسدية في السنوات الأخيرة ، غير أنها لم تلق إلا نجاحا ضئيلا نسبيا . والمشكلة هي أن الجسم يتكون من ترليونات الخلايا ؛ لذا فلابد من تعديل المادة الوراثية لما يصل إلى ملايين الخلايا إذا أُريد للعلاج أن يكون فعالا . كما أن الخلايا الجسدية المعنية تموت مع الفرد المعالَج ، إن لم يكن قبله ؛ لذلك فليس لهذا العلاج ثمة آثار باقية عبر الأجيال . ومن المرجح أن تنجح المعالجة الجينية أكثر في علاج الأمراض التي تنتج عن عيوب في جين واحد. وقد تمت الموافقة بالفعل على المعالجة الجينية للاستخدام في معالجة أمراض مثل العوز المناعي المركب الوخيم (SCID) ، وفرط كوليسترول الدم العائلي، والتليف الكيسي، وسرطان المبيض والمثانة وغيرها، وتستمر المحاولات في التعرف على المزيد من تلك الأمراض وتجربة معالجتها بتقنية المعالجة الجينية. أما القضايا الأخلاقية التي تثيرها المعالجة الجينية فيمكن إيجازها في صورة عدد من الأسئلة ومن ثم محاولة الإجابة عليها :

أ-ما هو الطبيعي وما هي الإعاقة أو الاضطراب، ومن يحدد ذلك؟

باعتبار أنه من المعتقد أن كل شخص يتميز ببنية وراثية فريدة تختلف عن جميع من عداه من البشر، كيف يمكننا أن نأتي بدلائل على ما هو طبيعي؟ فمما لا شك فيه أن كل إنسان يحتوي جينومه (مجينه) على العديد من العيوب ، فهل هذا يعني أنه لا يوجد إنسان "طبيعي"؟ وهل من الممكن أن نعرّف كون الجينوم طبيعيا بناء على المظهر الخارجي Phenotype لصاحبه؟ ويجرنا هذا لسؤال آخر: هل الشخص الذي يحتوي جينومه (مجينه) على عيب ومع ذلك لا يظهر عليه أي مرض ظاهري مصاب باضطراب وراثي؟ وأخيرا: من يمتلك الحق في تقرير ذلك كله؟ هل هي الحكومات؟ أم الأمم المتحدة؟ ... ليس ثمة إجابة واضحة لعدم وجود سابقة مشابهة للاستناد إليها.

ب-هل تعد الإعاقة مرضا؟ وهل تحتاج لعلاج أو للوقاية منها؟

لا يتم في الوقت الحالي تصنيف الإعاقات على أنها أمراض، لكن هل سنحتاج لإعادة التفكير في ذلك مستقبلا؟ وإذا أجيز تشريع ينص على أن المعالجة الجينية لا يمكن أن تستخدم سوى لمعالجة الأمراض، فهل سيتم التخلي عن أصحاب الإعاقات؟ فماذا عن أولئك المصابين بالعمى مثلا بسبب عيب وراثي؟ قد لا تستطيع المعالجة الجينية أن تفعل لهم شيئا، لكنها قد تفيد أطفالهم في المستقبل. ولابد هنا من السؤال مجددا: من سيقرر ذلك؟


ج-هل البحث عن شفاء يحط من قيمة الأفراد المصابين حاليا بإعاقات؟

من خلال بحثنا ، ببساطة، عن "شفاء" لتلك الإعاقات، فهل نحن نعني ضمنا أن الأشخاص المصابون حاليا بتلك الإعاقات هم غير أسوياء بصورة ما؟ ومن ثم : هل من المحتمل أننا نؤذيهم نفسيا؟ أم هل نمارس عليهم نوعا من التفرقة اليوجينية ؟ ومَن يحق له أن يتخذ القرار النهائي في مثل تلك الأمور.


د-هل المعالجة الجينية الجسدية (والتي تُجرى على الخلايا البالغة للأشخاص المعروف إصابتهم بالمرض) أقل أم أكثر أخلاقية من المعالجة الجينية من خلال تغيير الطريق الجنسي Germline gene therapy (والتي تجرى على الخلايا الجنسية مثل البويضة والحيوانات المنوية وتمنع الصفة الوراثية من الانتقال إلى الأجيال التالية) ؟ هل هو أخلاقيا أكثر أن نعالج شخصا بالغا ويفترض أنه قادر على اتخاذ قراره بنفسه ، أم أن نمحو المرض تماما من ذلك الطريق الجيني عن طريق إجراء المعالجة على البويضة والحيوان المنوي قبل أن يندمجا؟ هل هو أخلاقي أن نحاول محو هذا المرض من الوجود باستخدام المعالجة الجينية؟ لو نظرنا إلى العلوم الطبية خلال القرن الماضي أو نحوه، لوجدنا أن هذا كان هو الهدف المنشود مع كل الأمراض، أما الآن فلدينا وسيلة لتنفيذ تلك المهمة على عدد من الأمراض الوراثية المنتقاة ، فهل هذا هو الصواب؟ وهل يتوجب علينا امتلاك هذه المقدرة أصلا؟ هناك كثيرون ممن يوافقون وآخرون يعترضون؛ فيقول البعض أننا نحاول لعب دور الإله بينما يدّعي آخرون أننا نغير مسار التطور الطبيعي، فهل هذا صحيح؟

هـ-إن المحاولات المبدئية للمعالجة الجينية باهظة التكاليف؛ فمن سيمكنه الحصول على تلك المعالجات حين توافرها؟ ومن سيمكنه أن يدفع مقابل استخدامها؟

تعد تكلفة المعالجة الجينية ، وتقنيات الهندسة الوراثية عموما، من أكبر مخاوف عموم الناس؛ فمن سيمكنه دفع تكلفة تلك التقنيات؟ و لا أحد يعرف ما إذا كانت الهندسة الوراثية ستصبح يوما رخيصة وسهلة المنال كالفحص بالموجات فوق الصوتية والإجهاض ، فالكثير يعتمد على ما يفترض أن تكون عليه فوائدها. وأكثر المخاوف شيوعا لدى باحثي الأخلاقيات البيولوجية المعاصرين هي أن الأثرياء وحدهم هم من سيمكنهم الحصول على هذا النوع من التقنية الوراثية . لكن ،على سبيل المثال، لو تمكنت إحدى التقنيات الحيوية في المستقبل من إيجاد طريقة مأمونة وفعالة للهندسة الوراثية لعلاج مرض وراثي مميت، فسيزيد الدعم المتوفر لها على الفور . لكن السؤال هنا هو: هل من الخلق تحديد سعر لمثل تلك المعالجات؟ فإذا قصرنا هذه المعالجة على أولئك الذين يمكنهم دفع مئات الألوف من الدولارات، فهل يعني ذلك اعترافا منا بأن الطبقة الموسرة "متفوقة" على بقية طبقات المجتمع؟ وهل يعني ذلك أننا نعود ثانية لمنزلق اليوجينيا؟

5- من يمتلك جيناتنا؟ (قضية براءات الاختراع المتعلقة بالجينوم):

إن القضايا الأخلاقية المتعلقة بتسجيل ] براءات اختراع[ للجينات Gene patenting وللدنا معقدة ومتشابكة مع غيرها من قضايا الأخلاقيات الحيوية، مثل الموافقة المستنيرة Informed consent، وموضوع الجسم البشري كملكية ، وكذلك بحقوق الحيوان وزرع أعضاءه في الإنسان (الزرع الغيري)، والتي ناقشنا كلا منها في موضعه ضمن سياق هذا البحث. ولفهم الضجة التي تثار حول تسجيل الجينات باسم شركة أو كيان بعينه ، سنعود إلى الوراء قليلا، وتحديدا إلى عام 1975، حيث عقد في شهر فبراير من هذا العام مؤتمر أطلق عليه مؤتمر أسيلومار Asilomar conference، حول مشروعية إجراء تجارب الهندسة الوراثية ومأمونية الأنماط المختلفة من أبحاث الدنا المأشوب ، واعتبر ذلك المؤتمر علامة فارقة فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية والتوجيه الذاتي للعلماء . ومنذ عام 1975، اتخذت الحكومات دورا أكبر في عنونة وتنظيم القضايا المتعلقة بالتقنية الحيوية حسب ظهورها، مثل الأغذية المعدلة الوراثية ، والاستنساخ، والجينوم. ولإدراكه بأن الخطاب المتعلق بالأخلاقيات الحيوية قد لا يتمكن من مجاراة التطورات الحادثة في الأبحاث الوراثية ، عمل جيمس واطسون Watson – وهو من اكتشف مع فرانسيس كريك في عام 1953 البنية الشبيهة بالحلزون المزدوج للدنا ، وأول رئيس لمشروع الجينوم البشري في عام 1990- على تخصيص جزء من التمويل الفيدرالي للمشروع (تبلغ هذه النسبة حاليا 5%) لدراسة المضامين الأخلاقية، والقانونية، والاجتماعية ELSI للأبحاث الوراثية البشرية. وبرغم الميزانية الهائلة المخصصة للجنة ELSI ، والتي تبلغ 10 ملايين دولار سنويا،فإنها لا تزال غير قادرة على ملاحقة التطورات الهائلة في هذا المضمار. وبراءات الاختراع الخاصة بالجينات هي في الأساس مخترعات قانونية لتنظيم العلم. ولابد أن تكون الموضوعات التي يتم إصدار براءات اختراع لها جديدة ومفيدة. وبالتالي فهي في حد ذاتها لا هي أخلاقية ولا غير أخلاقية ؛ لكن استخداماتها ،على أية حال، قد تكون أخلاقية أو غير أخلاقية . ويجرنا هذا إلى سؤال مهم: ما هي استخدامات الجينات؟ في علم البيولوجيا، تقوم الجينات بحمل ونقل المعلومات الوراثية ، بالإضافة إلى تنظيم أو قيادة الخلية بغرض التكاثر. وفي قانون براءات الاختراع ، فإن الكيفية التي يتم بها تعديل الجينات من قِبل البشر قد تصنّف على أنها عملية Process، أو صناعة Manufacture، أو توليفة من المواد، أو أي تحسين على ما سبق، أو- باختصار- كوسيلة أو كغاية . وبالتالي، فصاحب براءة الاختراع ليست عليه أية التزامات قانونية أو أخلاقية بخصوص استعمال براءة اختراعه. والحق الوحيد الممنوح له هو استبعاد الآخرين من استخدامه. ويعني هذا الحق الحصري أن استخدام الجينات لم يعد حقا خالصا لمن قاموا بمعالجة Processingالجين المعني. وبالإضافة إلى ذلك، يسري هذا الحق لمدة 20 عاما، وهو ما يمثل معظم- إن لم يكن كل- الفترة التي يكون فيها الفرد قادرا على الإنجاب. وبيت القصيد هنا هو أن تمكين ثمة كيان قانوني ، مثل شركة تجارية، من امتلاك براءات اختراع متعلقة بمواد وراثية ، يمكن أن يؤدي إلى إمكانية فَقد القدرة على إعطاء نسل (التعقيم) بموجب القانون de jure، وفي بعض الحالات ،قد تؤدي إلى التعقيم بحكم الواقع de facto ، مثل بذور Terminator المسجلة ببراءة اختراع لشركة مونسانتو ، والتي لا يمكنها إنتاج سوى محصول واحد بسبب التعديل الوراثي الذي أدخل عليها. إن منح براءات اختراع للجينات هو تفكيك ملكية الجينوم إلى حقوق عدة مثل حق الامتلاك، وحق الاستخدام، وحق البيع، وحق التخلص. وعليه فإن تسجيل الجينات يمثل تحديا لتعريف المجتمع للتكاثر ذاته؛ فالتكاثر قد يعني استنساخ ، أو تضخيم، أو صنع نسخ مماثلة في الكمية، وذلك باستخدام "والد" واحد فقط. وتنطوي قوانين تراخيص براءات الاختراع في معظم البلدان على ثغرات عديدة يمكن النفاذ منها؛ ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تختص بالأمر جهتان هما مكتب براءات الاختراع الأمريكي ومحكمة الاستئناف الأمريكية- الشعبة الفيدرالية ، وكلاهما يمتلك نظاما لمنح براءات الاختراع يحتاج بشدة لإعادة النظر فيه ؛ فقد أدى الخلاف حول الاندفاع لتسجيل براءات الاختراع لتتابعات القواعد النتروجينية بالجينات Gene sequences التي ليس لها استخدامات معروفة أو واضحة إلى غضب شعبي عارم ، والمناداة بوضع ضوابط صارمة على مثل هذه الممارسات . ويتأتى السبيل الوحيد لوضع مثل هذه الضوابط الضرورية على الفرعين التنفيذي والقضائي للحكومة الفيدرالية ، من خلال الفرع الثالث لتلك الحكومة، وهو الفرع التشريعي؛ فبدون التحرك على مستوى المؤسسات، هل سيعيد التاريخ نفسه، وتعود سلطة منح براءات الاختراع إلى الكونجرس الأمريكي، مثلما كان الأمر عليه قبل قرون؟ .

لماذا براءات الاختراع؟

- إن أبحاث الجينوم "ستصبح العمود الفقري لصناعة الأدوية خلال القرن الحادي والعشرين، وذلك لأنها ستوفر المعلومات الأساسية لإنتاج الأدوية والمعالجات الجديدة الأخرى. وعلى أية حال، فمن أجل الاستفادة من هذه المكتشفات، سيوجب أن يتم استغلالها تجاريا ؛ وبالتالي ضرورة أن يصاحب ذلك حماية حقوق الملكية الفكرية ، وبكلمات أخرى- تسجيل براءات الاختراع . - يختص المكتب الأمريكي لبراءات الاختراع، وغيره من الهيئات المانحة للتراخيص في البلدان الأخرى، بمنح البراءات للاختراعات أو الاكتشافات الأصلية، والمفيدة وغير المسبوقة. - من غير الواضح ، على أية حال، ما الذي يتوجب على الشركات فعله لإثبات أن الأبحاث الجينية التي ترغب في الحصول على براءات اختراع بشأنها "مفيدة" ؛ هل سيتوجب عليها العثور على طريقة لاستغلال الجينات ، أم سيكفي التخمين بهذا الخصوص؟


من يحاول الحصول على براءات اختراع للجينات؟

- تقدمت المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة بأول أربعة طلبات للحصول على براءات اختراع لبيانات متعلقة بالجينوم في عام 1991، وقد تم رفض تلك الطلبات. - بعد ذلك ، قامت شركات خاصة عديدة بالتقدم بطلبات مبدئية لتسجيل براءات اختراع متعلقة ببيانات الجينوم زاد عددها على 127,000.

قضية كريج فينتر:

اكتمل مشروع الجينوم البشري رسميا في عام 2003. وبالنسبة لمشروع شعبي كان قد حدد لانتهائه عام 2010، يعد ذلك تقدما فعالا بدرجة مدهشة. ويرجع سبب تعجيل موعد التسليم بهذه الصورة الدراماتيكية إلى رجل واحد هو كريج فينتر Craig Venter . ونتيجة عزلته عن المجتمع العلمي الأمريكي بسبب عنف سياساته المتعلقة بمنح براءات الاختراع أثناء عمله في المعهد الوطني للصحة NIH، فقد أنشأ معهدا مستقلا للأبحاث أطلق عليه اسم معهد الأبحاث الجينومية The Institute for Genomic Research، أو "تيجرTIGR" اختصارا، ثم أعلن في مايو 1998 إنشائه لشركة Celera genomics ، حيث تعني "Celera" السرعة ، وهي شركة خاصة أعلن أنها ستكون أول من ينتج الجينوم البشري. كان "فينتر" مدعوما من قبل شركة Applied Biosystems ، والتي ساعدها على تطوير أول كمبيوتر محدّد لتتابع القواعد النتروجينية بالجين Gene sequencer . كانت جرأة "فينتر" لاستباق مشروع الجينوم البشري HUGO ليصبح أول من "يقرأ" الجينوم البشري ، قد أصابت المجتمع العلمي بالصدمة والغيظ، وخصوصا عندما أعلن أنه ينوي تسجيل براءة اختراع لكل جين في خلايانا يقوم هو باكتشافه ، وبالتالي عدم إتاحة الوصول العام والمجاني لهذه المعلومات الأساسية عن أنفسنا ، مم يعد في نظر الأغلبية سلوكا يتسم بالوقاحة. لكن ذلك لم يثن "فينتر" عن عزمه ، فقد أعلن وقتها أنه سينهي مشروع الجينوم بحلول عام 2001 (ادّعى أنه يمتلك بالفعل "مسودة أولية" عنه )، ولتحقيق ذلك، فقد عمل على تشغيل 300 من أقوى أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة المخصصة للأغراض المدنية في العالم-بلغت قيمتها 80 مليون دولار أمريكي على مدار الساعة، لالتهام الكميات الهائلة من البيانات خلف الشفرة الجينية البشرية – والتي تساوي كم المعلومات التي يحتوي عليها 1000 دليل للهواتف. ولم يتمكن المشروع HUGO من تسريع وتيرة عمله إلا بشراء أجهزة مشابهة لتلك ، مما أدى في النهاية إلى الانتهاء من المشروع في وقت مبكر. وقد تعرّض فينتر لهجوم علماء المشروع الحكومي للجينوم، على اعتبار أنه يعتزم التربح من البيانات الخاصة بالجينوم البشري، لكن الذي حدث أن فينتر جعل الوصول إلى المعلومات التي توصلت إليها شركته مجانيا، قبل أن يترك شركة سيليرا في عام 2002 لينشئ مؤسسته الخاصة للأبحاث التي لا تهدف للربح . والنقطة المهمة هنا هي أنه برغم كل الخوف والاشمئزاز الذي سببته أفعال فينتر في جميع أرجاء المعمورة، هناك شيء واحد مؤكد؛ فلو لم يكن قد دلف إلى عالم قراءة الجينوم البشري، لكانت التطبيقات العلاجية لفك الشفرة الجينية أبعد بعشرة سنوات عن إنقاذ حياة البشر عما هي عليه الآن.

الجدل ضد براءات الاختراع: - يوافق أغلب العلماء ، حتى أكثرهم سذاجة، على أن البراءات ضرورية لحماية الأعمال الأصلية وإتاحة الفرصة للحصول على الدخل اللازم لتمويل الأبحاث التالية .لكن البراءات تمنح عادة للاختراعات ، وليس الاكتشافات، وللأشياء التي لا تنشأ في الطبيعة ، ولها استخدامات محددة.ولا ينطبق أي من ذلك بحق على تتاليات الدنا DNA "الخام" ، حيث أن الحصول على براءة للدنا خاصتنا يشبه تسجيل حقوق الملكية الفكرية Copyrights للحروف التي تتكون منها قصيدة أو مسرحية ، وليس العمل الأدبي ذاته . - ويتمثل الاعتراض الرئيسي على منح براءات بخصوص الجينات البشرية في كون ذلك يهدد استقلالية الفرد، وهو المبدأ الرئيسي في أن يكون كل منا سيد نفسه ، وعلى وجه الخصوص مالكا لجسده، وبالتالي لا يحق لفرد ما أن يحصل على حق شرعي بالتحكم في جسد شخص آخر أو جزء منه؛ وهو ما يثير المخاوف بخصوص "الكرامة" البشرية . - وفيما يتعلق بمنح براءات الاختراع تخص الدنا البشري، فيمكن تناول الأمر من خلال التركيز على الأسئلة الأخلاقية التي تطرحها الاستعمالات الأربعة الرئيسية التالية لمتتاليات الدنا البشري ، وهي؛

1- الاختبارات التشخيصية: وهي منح براءات اختراع خاصة لمنتجات بعينها ، وليس لتتابعات الدنا البشري، برغم أن هذه المنتجات قد تعتمد على تتابعات الدنا تلك. فإذا ما وُضع في الاعتبار مدى مطابقة منح براءات اختراع للاختبارات التشخيصية المبنية على الدنا البشري للمعايير القانونية، وما إذا كانت تسبب تأثيرات ضارة، ومدى الحاجة الفعلية لها ، وكذلك مدى الحاجة لمثل هذا النوع من الحماية القانونية للشركات الصانعة ، سنجد أنه نادرا ما يمكن تبرير منح مثل تلك البراءات،والأفضل أن تطبق عليها نفس المعايير المتبعة في طلبات منح براءات الاختراع لتتابعات الدنا.

2- الدنا البشري كأداة بحثية: تستخدم كثير من تتابعات الدنا في الواقع كأدوات بحثية فقط؛ إذ ليس لها قيمة علاجية أو تشخيصية مباشرة. وكما سبق القول، فإن قضية منح براءات اختراع لتلك التتابعات تثير عددا من الأسئلة الأخلاقية ،منها : هل يؤدي حجب الترخيص ببراءات اختراع لها إلى تثبيط الابتكار؟ وهل هي تزيد من تكلفة الأبحاث؟ أم أنها تزيد من صعوبته؟

3- المعالجة الجينية: فبعض تتابعات الدنا التي قد يكون لها استخدامات متعلقة بالمعالجة الجينية سيكون لها تطبيقات محمية بموجب براءات اختراع ، لكن ما نود إثارته هنا هو أن معرفة ارتباط جين ما بمرض بعينه يكتنفه جدل أخلاقي من حيث أن تلك العملية تنطوي على "اكتشاف" معلومات وراثية، وبالتالي لا تنطبق عليها معايير الابتكار، ومن ثم لا يمكن تبرير منح براءات اختراع لها إلا في أحوال نادرة للغاية ؛ إذ لابد أن تكون المتوالية الجينية معروفة، وأن تكون مرتبطة بحدوث مرض معين، وأن يمكن – عند النجاح في نقل الجين المعني إلى جسم المريض- تحقيق تحسن في بعض أعراض ذلك المرض.

4- استخدام الجينات في صنع بروتينات علاجية: ومن أمثلة الأدوية الناجحة في هذا المجال الإريثروبويتين (EPO) – والذي يؤدي إلى ازدياد عدد الكريات الحمراء في الدم، الأمر الذي يمكنها من حمل كمية أكبر من الأكسجين الذي يحتاج إليه الجسم، وخاصة في التمرينات الرياضية ؛ وتنطوي هذه العملية في الحقيقة على أخذ المعلومات الوراثية و"تحويلها" إلى منتجات ملموسة ، وبالتالي فمن الممكن تبرير منح براءات اختراع –كمنتجات- للبروتينات العلاجية المصنّعة بهذه الطريقة، وذلك بسبب استخدام طريقة تعتمد على تتابعات الدنا .

ومن الضروري هنا التأكيد على أهمية قصر منح براءات الاختراع على حالات محدودة للغاية، وأن يكون ذلك هو الاستثناء وليس هو القاعدة . وتتضمن القضايا الأخلاقية المستقبلية المخاوف المتعلقة باتجاهات قد تتخذها الأبحاث في هذا المجال؛ فهناك توقع في القطاع التجاري بأن أنواعا أخرى من الاختبارات التشخيصية ، مما لا تستند في عملها على جينات منفردة بل ربما على عدد من الجينات، لها قيمة تنبؤية ضعيفة في الغالب، ستحاول الاستحواذ في المستقبل على حماية قانونية بموجب براءات الاختراع؛ وهنا سنقوم بحماية اختبارات تشخيصية تختص بما يمكن أن نطلق عليه اسم "الجينات الاحتمالية" لأمراض شائعة ، وهذه يحتمل أن تتسبب في تقييد معرفتنا بالسبل الكيميائية-الحيوية التي قد يكون لها تطبيقات أوسع بكثير في المستقبل، مما يضر بالبشرية على وجه العموم.


6- قضية المساواة وعدم جواز التمييز بين البشر على أسس جينية: لم يظهر مفهوم "التمييز الجيني" Genetic discrimination في قاموسنا سوى منذ فترة قصيرة، لكن هذه المشكلة أصبحت موثقة جيدا ، ففي ما يقرب من 500 حالة في الولايات المتحدة وحدها، مُنع أفراد وأعضاء أسر من التوظيف أو فقدوا التأمين على حياتهم بناء على إصابتهم باضطرابات وراثية واضحة أو مفترضة ؛ فنتائج الاختبارات الوراثية تُدرج عادة في الملف الطبي للشخص المعني. وعندما يتقدم شخص ما للحصول على تأمين على الحياة أو الصحة أو ضد الإعاقة، قد تطلب شركة التأمين الاطلاع على تلك السجلات قبل اتخاذ قرار بشأن منحه التأمين المطلوب، كما أن أصحاب الأعمال قد يحق لهم الاطلاع على السجلات الطبية لموظفيهم. ونتيجة لذلك، فقد تؤثر نتائج الاختبارات الوراثية على التغطية التأمينية للشخص أو على فرصه في التوظّف. ولذلك فالأشخاص الذين يتخذون القرارات بالموافقة على عمل اختبارات جينية، يجب عليهم أن يضعوا في اعتبارهم إمكانية ألا تظل تلك النتائج طي الكتمان إذا أدرجت في ملفاتهم الصحية ، مما يثير قضية أخلاقية تناولناها مسبقا في القسم المخصص لبحث خصوصية المعلومات الوراثية. وكثير ممن عانوا من التمييز هم أفراد أصحاء إكلينيكيا ولا تظهر عليهم أيِِ من أعراض الأمراض الوراثية المعروفة. وفي كثير من الحالات ، تعطي الاختبارات الوراثية احتمالات غير مؤكدة ولا تعطي تنبؤات محددة لقابلية الإصابة بمرض بعينه. وحتى في أكثر الحالات الوراثية تحديدا، وهي قليلة العدد أصلا، يكون هناك تباين واسع فيما يتعلق ببداية ظهور الأعراض الإكلينيكية ومدى شدتها. لكن مشكلة التمييز بين البشر على أساس حالتهم الصحية ليست جديدة، ولا هي مقتصرة على الحالات الوراثية ، فنحو 30% من جميع طلبات التأمين الصحي الفردي في الولايات المتحدة يتم رفضها على أسس طبية ؛ فطوال سنوات عديدة،حُرم الملايين من الأمريكيين من الاشتراك في تأمين صحي مفيد لهم بسبب تاريخهم الطبي ، مثل الإصابة بالداء السكري أو الإيدز أو ارتفاع ضغط الدم الوخيم وغيرها من الأمراض المكلفة اقتصاديا. ولن تؤدي الثورة الجينية إلى تغيير هذه المشكلة ، بل ستزيد عدد الأفراد المتضررين منها . وبالإضافة إلى ذلك، فأن تصنيف كل إنسان عند ولادته حسب تركيبته الجينية ينطوي على خطر تشكيل مجتمع تقيّم فيه حياة بعض الأفراد على أنها أدنى من غيرها . فقد تصبح الاختيارات مثل التعليم، والمعاشات التقاعدية والوظائف محدودة بالنسبة لذوي البنية الوراثية الضعيفة أو الأدنى، مما يخلق "طبقة جينية دنيا" Genetic underclass؛ قد يرتبط الوصم فيها بحدوث بعض أنواع المخاطر الجينية. وبرغم أن التحري الوراثي قبل الولادة وإجهاض الأجنة الحاملة "لمخاطر وراثية كبيرة" ليس مفروضا من قبل معظم الحكومات، إلا أنه قد يصبح أكثر شيوعا في المستقبل. كما أن قوانين غالبية الدول لا تحتوي على نصوص صريحة تمنع شركات التأمين أو أرباب الأعمال من استخدام نتائج الاختبارات الوراثية لرفض منح التغطية التأمينية أو منع تعيين موظف ما. وبرغم وجود العديد من القوانين التي استنت لحماية الأفراد ضد التمييز الجيني، إلا أن مجال الاختبارات الجينية يشهد تطورات متسارعة ، كما أن تلك القوانين لا تغطي جميع الحالات المحتملة.

كيف يمكن التقليل من خطر التمييز الجيني؟ يمكن ذلك من خلال تحقيق ما يلي: 1- الاحتفاظ بنتائج الاختبارات الوراثية بصورة منفصلة عن السجلات الطبية المعتادة للمريض، وبالتالي يقل احتمال اكتشافها عند طلب الاطلاع على ملفه الطبي. وكثير من عيادات الوراثة تحتفظ بما يسمى "بالملفات الشبحية" Shadow filesلهذا الغرض، وهي ملفات طبية غير مدرجة في نظام الملفات الطبية الأساسي للعيادة، رغم أن هذه الممارسة قد تتغير بموجب القوانين الجديدة المنظمة لطريقة حفظ الملفات الطبية. وعلى أية حال، فمن حق المرضى أن يطلبوا من أطباء الرعاية الصحية الأولية لهم عدم إدراج تلك البيانات في الملفات الطبية التي يحتفظون بها. 2- سماح بعض عيادات الأمراض الوراثية للمرضى أن يجروا الاختبارات الوراثية بدون تسجيل أسمائهم، و تحت أسماء مستعارة- وهي استراتيجية تستخدم أحيانا عند إجراء الاختبارات المشخصة لفيروس العوز المناعي البشري المسبب لمرض الإيدز. وعلى أية حال، فكثير من المؤسسات الطبية ترفض هذه الطريقة لاعتبارات قانونية وأخلاقية، مثل صعوبة الاتصال بأولئك المرضى لاحقا إذا لزم الأمر، أو في حالة النصب على شركات التأمين.


رأي الدين

=الضوابط الشرعية للهندسة الوراثية

يرى الدكتور أحمد كنعان أن القضايا الوراثية تعتبر قضايا مستحدثة تطرق أبواباً جديدة تماماً لم يسبق لأهل الفقه أن واجهوها من قبل، وبما أن تلك القضايا يترتب عليها أحكام شرعية عديدة، فإنَّ التجارب والدراسات والبحوث التي تجرى في حقل الهندسة الوراثية يجب، إلى جانب الضوابط العلمية التي يقررها أهل البيولوجيا،أن تخضع لبعض الضوابط الشرعية التي أوجزها فيما يلي:

1-بما أن الهندسة الوراثية يمكن أن تُغيِّر التركيبةَ الفطريَّةَ التي رَكَّبَ الخالقُ عزَّ وجلَّ عليها خَلْقَه, فيجب أن يكون حاضراً في أذهاننا - ونحن نخوض في حقل الهندسة الوراثية - ذلك الوعيد الخبيث من إبليس بإغواء آدم لتغيير خلق اللّه, حيث قال: (ولآمرنَّهُم فليُغَيِّرُنَّ خلقَ اللّه) سورة النساء : 119؛ وهذا يعني أن نحذر من الوقوع في المحظور، فلا نرتكب مثل هذا التغيير الشيطاني، كأن نستهدف بالهندسة الوراثية مثلاً إنتاج سلالات بشرية متفوِّقة ذات صفات خارقة للعادة كما يتخيَّل بعض العلماء، فهذا الفعل قد يُخِلُّ بالتركيبة العضوية والاجتماعية والنفسية لبني البشر. ولذا فإن التغيير المستهدف بالهندسة الوراثية يجب أن يكون مشروعاً، كأن يكون مثلا لعلاج تشوه أو مرض، أو لإنتاج أعضاء بديلة تنفع في زراعة الأعضاء، وما شابه ذلك من الأغراض المشروعة التي بيَّنا بعضها في السطور السابقة، وقد أكد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي أنه "لا يجوز استخدامُ أيٍّ من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في الأغراض الشَّريرة والعدوانيَّة، وفي كلِّ ما يَحْرُمُ شرعاً، ومن ذلك العبث بشخصيَّة الإنسان ومسؤوليته الفردية أو التَّدَخُّل في بنية المورثات بدعوى تحسين السُّلالة البشرية".

2-يجب على المشتغلين بالهندسة الوراثية أن يتجنبوا الممارسات المحرَّمة, مثل التجارب التي تؤدي إلى اختلاط الأنساب ونحوها.

3-يجب أن تخضع شتى التجارب والتطبيقات العملية التي تجري في حقل الهندسة الوراثية للإشراف العلمي والشرعي الدقيق من قبل هيئة شرعية علمية متخصِّصة تضم علماء متخصصين بالهندسة الوراثية إلى جانب فقهاء متمرسين بالفقه الطبي، وذلك منعاً لاستغلال هذا العلم في أغراض غير مشروعـة، ودرءاً للأخطار المحتملـة التي قد تنجم عن العبث في هذا الحقل الحيوي الدقيق.

4-من الحكمة عدم التسرع بإبداء الرأي الشرعي في المسائل المتعلقة بالهندسة الوراثية، وإرجاء الحكم فيها حتى تستبين أبعادها بصورة جلية لا تحتمل اللَّبس, وعندئذ يمكن إصدار الحكم الشَّرعي لكل مسألة منها، وهذا الحكم يجب أن يكون مدعماً بالأدلة الشرعية الوافية، وأن يصاحبه ذكر التحفظات الشرعية إذا لزم الأمر. 5-بما أن الإسلام يحض على العلم في شتى أبوابه, فإن مواصلة الدراسات والبحوث في حقل الهندسة الوراثية أمر مرغوب فيه، لما فيه من آمال عريضة تعد بعلاج الكثير من الآفات المستعصية التي لم يهتد الطب إلى علاج ناجع لها حتى الآن.


الإسلام والتحري الوراثي

الاهتمام بالنواحي الصحية للفرد والأسرة والمجتمع، هو شغل الأمم والشعوب، بغية تكوين مجتمع يتمتع أفراده بالقوة البدنية والعقلية، ولهذا فقد انبرت الهيئات والمؤسسات الصحية في كل مجتمع، إلى رعاية أفراده صحياً، سواء قبل الولادة أو بعدها، لتجنيبهم الأمراض التي قد تصيبهم لأسباب بيئية أو وراثية، وقد فتح اكتشاف الجينوم البشري وحل رموز الشفرة الوراثية في عصرنا، المجال لإمكانية الاستفادة منه في مجالات الرعاية الصحية المختلفة التي منها: تحسين النسل وإنجاب ذرية قوية لا تحمل الكثير من الأمراض الوراثية، باختيار أزواج حاملين لصفات وراثية معينة، مثل: قوة البنية، أو طول القامة، أو قوة المناعة، أو زيادة الخصوبة، أو شدة الذكاء، أو عدم حمل أمراض وراثية خطرة من أسلافهم، أو نحو ذلك من صفات مرغوبة• وقد رغَّب الشارع في الزواج، لأنه يحقق المقصود من إنجاب النسل الذي تعمر به الأرض، إذ روي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "النكاح سنتي، فمن رغب عن سني فليس مني" ، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ." كما رغَّب كل من يريد الزواج باختيار الشريك الذي يتحقق بالزواج منه، المقصود الشرعي من الزواج، ومن الصفات التي رغَّب الإسلام في توخيها عند إرادة الزواج: الدين، والعفة، والصلاح، والكفاءة، والخصوبة، وحسن الخلق، والبكارة، والزواج من غير القريبات. وتفيد هذه النصوص أن الإسلام وإن رغّب في الزواج، إلا أنه رغّب في توخي بعض الصفات في الطرف الذي يُراد الزواج منه، من شأنها تحقيق دوام العشرة بين الزوجين، وتحقيق مقصود الشارع من إنجاب النسل الكثير الصالح، الذي يتحقق به إعمار الأرض• وتحقيق توفر هذه الصفات لا يتأتى إلا باختيار الصالح من الأزواج: ديناً، وكفاءة، وخلقاً، وصلاحاً، وعفة، وبكارة، وخصوبة، وبعض هذه الصفات المرغوبة لا يمكن الوقوف على حقيقتها، ومدى توافرها في الطرف الذي يُراد الزواج به، إلا بإجراء الفحوص الطبية السابقة على الزواج، وبالتالي فإن إجرائها قبل الزواج يعد أمراً مشروعاً، لأنه وسيلة إلى تحقيق هدف رغّب فيه الشارع، وللوسائل حكم غاياتها. ولما كان إنجاب النسل القوي أمراً مشروعاً، فقد استُحدث من وسائل الفحص الجيني، ما يمكن به معرفة ما إذا كان الزواج بين اثنين يحملان جينات معينة سيترتب عليه إما إنجاب نسل سوي، أو نسل يحمل أمراضا أو تشوهات وراثية تُضعف منه، ولهذا فإن ذلك الفحص مشروع، لأنه وسيلة إلى تحقيق مقصود الشارع، ومن ثمَّ فلا يوجد مانع شرعي من توخي الصفات الوراثية في مريد الزواج ذكراً كان أو أنثى تحقيقا للصفات التي رُغِّب فيها شرعاً في النصوص السابقة، وذلك لأن توخي هذه الصفات الوراثية يتحقق به إنجاب الذرية القوية، التي تعمر الأرض، ويتحقق بها مقصود الشارع من الزواج •


الإسلام والبصمة الوراثية (DNA Fingerprinting)والجينوم

قبل اتخاذ توصياته بخصوص الضوابط والمعايير الشرعية والأخلاقية لأبحاث الجينوم البشري ، أقر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التعريف التالي للبصمة الوراثية: "البصمة الوراثية هي البُنية الجينية التي تدل على هوية كل إنسان بعينه ، وأفادت البحوث والدراسات العلمية أنها من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة ، لتسهيل مهمة الطــب الشرعي. ويمكن أخذها من أي خلية( بشرية) من الدم ،أو اللعاب،أو المني،أو البول،أو غيره ." وبعد إجراء دراسة ميدانية مستفيضة للبصمة الوراثية ، والاطلاع على البحوث التي قدمت في الموضوع من الفقهاء والأطباء والخبراء، توصل مجلس المجمع الفقهي الإسلامي إلى القرارات التالية : أولاً: لا مانع شرعاً من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي واعتبارها وسيلة إثبــات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص لخبر ( ادرؤوا الحدود بالشبهات)، وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع ، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة . ثانياً: إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لابد أن يحاط بمنتهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لابد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية . ثالثاً: لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب .ولا يجوز تقديمها على اللعان. رابعاً: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً ، ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة ، لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصوناً لأنسابهم . خامساً: يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية :

أ- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها ، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه .

ب- حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفــال ونحوها ، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب .

ج- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم ، بسبب الحوادث أو الكوارث أو الحروب ، وتعذر معرفة أهلهم ، أو وجود جثث لم يمكن التعرف علــى هويتها ، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين.

سادساً: لا يجوز بيع الجينوم البشري لجنس ، أو لشعب ، أو لفرد ، لأي غرض، كما لا تجوز هبته لأي جهة ، لما يترتب على بيعه أو هبته من مفاسد.

وبالإضافة إلى ذلك ، فقد تضمنت الوثيقة الإسلامية لأخلاقيات الطب والصحة ، بندا خاصا عن بحوث الهندسة الوراثية، ينص على أنه:

1. لا يجوز إجراء أي بحث أو القيام بأي معالجة أو تشخيص يتعلق بمجين ( جينوم ) شخص ما إلا بعد إجراء تقييم صارم ومسبق للأخطار والفوائد المحتملة المرتبطة بهذه الأنشطة مع الالتزام بأحكام الشريعة في هذا الشأن ، والحصول على القبول المسبق والحر والواعي من الشخص المعني ، وفي حالة عدم أهليته للإعراب عن هذا القبول يجب الحصول على القبول أو الإذن من وليه مع الحرص على المصلحة العليا للشخص المعني . وفي حالة عدم أهلية الشخص المعني للتعبير عن قبوله لا يجوز إجراء أي بحوث تتعلق بمجينه ( جينومه ) ما لم يكن ذلك مفيدا لصحته فائدة مباشرة وبموافقة وليه . 2. ينبغي احترام حق كل شخص في أن يقرر ما إذا كان يريد أولا يريد أن يحاط علما بنتائج أي فحص وراثي أو بعواقبه . 3. لا يجوز لأي بحوث تتعلق بالمجين ( الجينوم ) البشري أو لأي من تطبيقات هذه البحوث ، ولا سيما في مجالات البيولوجيا وعلم الوراثة والطب أن تعلو على الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية واحترام حقوق الإنسان التي يعترف بها الإسلام ولا أن ينقص من الحريات الأساسية والكرامة الإنسانية لأي فرد أو مجموعة أفراد .

4-7: رأي شرعي في المسائل الأخلاقية المتعلقة بالأجنة الفائضة: في خلال عمليات الإخصاب خارج الرحم، يتبقى عادة عدد من البويضات المخصبة في المختبر؛ إذ يمكن تلقيح عشرين بويضة ولا يستخدم منها إلا اثنين أو ثلاثة مثلا، فما هو حكم البقية الفائضة؟ يطرح ذلك الموضوع عددا من القضايا الأخلاقية والشرعية التي يمكن إيجازها فيما يلي:

1 ـ هل يجوز إهدارها والإزهاق بها أو يحرم ذلك؟

2 ـ هل يجب الدية بإهدارها؟

3 ـ هل يعزل له من الإرث سهمها؟

4 ـ ما هو الحكم بالنسبة إلى عدة صاحبتها؟

5 ـ هل يعطّل الحد الشرعي بالنسبة إلى صاحبتها؟

6 ـ من يملك التصرف فيها؟

7 ـ هل يجوز نقلها في رحم صاحبتها بعد وفاة زوجها أو بعد طلاقها؟

ويجيب على تلك التساؤلات مؤلف كتاب الفقه والمسائل الطبية كما يلي:

أمّا السؤال الأول فجوابه أنّه لا مصرف للبويضات الفائضة إلاّ رحم صاحبتها أيام حياة زوجها، فإن أمكن وجب إبقائها على الأحوط حتى تنقل إليها، وأن لم يمكن ولو بانصراف صاحبتها عنها فلا بد من اتلافها حذراً من استعمالها على نحو يحرم شرعاً.

نعم، إذا كانت البويضات في الاُنبوبة في مسير حياتها الإنسانية وأمكن ذلك طبياً ولم يستلزم مؤونات كثيرة فالأحوط لزوماً إبقاءها، بل إذا تعلق بها الروح وجب حفظها كلما أمكن فإنها نفس محترمة يحرم إتلافها، بلا فرق بين كونها في رحم أو في أنبوبة أو في محل آخر. وجواب السؤال الثاني أنّه إذا وجب إهدارها لا دية لها، وإذا تعلق بها الروح وأمكن حفظها وجب الدية جزماً على من أتلفها، وإذا لم تتعلق بها الروح وكانت في مسيرها إلى الحياة الإنسانية فالأحوط لزوماً وجوب الدية بالشرطين المذكورين، (أيّ إمكان حياتها إلى ولادتها في الأنبوبة طبا ووجود من يقوم بمؤنتها).وعلى كلٍ فالأحوط للطبيب أنْ لا يخصب البيضات أكثر من حاجة صاحبتها. وجواب الثالث أنّها إذا تعلق بها الروح وخرجت من الأنبوبة إنسانا حياً يرث أباه، وقد مرّ الأشكال في نسبه إلى صاحبة البويضة، فإنّ الحكم بأمومتها مع قوله تعالى: (إنْ اُمهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم) مشكل، وإذا علموا بعدم خروجها حية فلا يعزل له سهم وأما إذا شكّ فالأحوط عزل السهم له، وكذا إذا علم بخروجه حياً من الأنبوبة .ويمكن أن يقال بعدم وجوب عزل سهم له، لان موضوعه الحمل ولا يصدق على ما في الأنبوبة حمل بوجه، فإذا خرج حياً وقد قسم الورثة الإرث بينهم عليهم ان يرد كل واحد من سهمهم ما يبلغ حق الحي المذكور.

وأما جواب الرابع فهو منفي جزماً، فإن وجود البويضة في الأنبوبة لا تجعلها حاملاً، وهذا واضح. 

وجواب الخامس أنّه لا يعطل الحد عليها، نعم إذا فرضنا الجنين في معرض الخروج عن الأنبوبة حياً ولا توجد له حاضنة ومربية سواها ففي جريان الحد عليها تردد، وتحقيقه في محله. وجواب السادس أنْ حق الأولوية لصاحب الحيوان المنوي وصاحبة البويضة، وإذا مات أحدهما سقط حق الاستفادة عن البويضة المخصبة نهائياً. وأما جواب الاَخير فهو أن النقل المذكور غير جائز.

=رأي في حكم المشورة الوراثية (الإرشاد الجيني ) قبل الزواج

يقول الدكتور ناصر بن عبد الله الميمان الأستاذ المساعد بقسم الشريعة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، في سياق بحثه عن المشورة الوراثية من منظور فقهي، ومدى شرعية إلزام جميع الراغبين في الزواج بالخضوع لاختبارات التحري الوراثي  :

استناداً للفوائد المترتبة على هذه الوسيلة ، وبناء على ما فيها من دفع للضرر قبل وقوعه ، ولتحقيقها للمقاصد الشرعية في الأحكام من صيانة النفس والنسل ، فإن عمل هذا الفحص جائز ، مع اشتراط الوسيلة المباحة الآمنة ، ويجب في الحالات التالية :

1 ـ إذا انتشر الوباء في مجتمع معين أو مجموعة عرقية معينة .

2 ـ إذا ألزم به ولي الأمر فإن طاعته واجبة في هذا المعروف لأنه تصرف منوط بالمصلحة ، ويتحمل الضرر الحاصل فيه لأنه من قبيل تحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام. والقول بوجوبه مطلقاً بعيد لأن فيه إيجاب حق لم يأت الشرع به ولم يدل عليه ، وفيه حرج على المكلفين نفسياً ومالياً ويترتب على القول بوجوبه مطلقاً مفاسد ربما أدت إلى إحجام الشباب عن الزواج ، وحيث أن هذا الفحص لا يبحث سوى مرض واحد أو اثنين ونتائجه ليست متحققة في الواقع بشكل كامل ، وربما تخطئ وتصيب ، وقد يحدث المرض الوراثي بعوامل أخرى.

وإذا قلنا بالوجوب المطلق فإن هذا الحكم ستكون مآلاته على خلاف ما قصد منه، فإنه بالنظر في الواقع إذا وزن القول بالوجوب المطلق بميزان المصالح والمفاسد يظهر لنا كثيراً من المفاسد التي ستنشأ عن تطبيق هذا الحكم ، الأمر الذي يخالف مقصود الأصل الذي يسعى إليه المجتهد .

رأي الدين في الاستنساخ في البشر (Human cloning)

خلط بعض الباحثين بين عملية الاستنساخ وطفل الأنابيب وحاولوا الربط بينهما، إلا أن الحقيقة العلمية والشرعية تخالف ذلك للفرق الشاسع بين الحالتين، ففي عملية طفل الأنابيب تكون البويضة من الأم والحيوان المنوي من الزوج وكلاهما خلية جنسية، كما أن الزوجة في عصمة زوجها وفي أثناء حياته ولا وجود لطرف ثالث في العملية وبهذا تختلف عملية طفل الأنابيب عن عملية الاستنساخ. من ناحية أخرى ربط آخرون بين عملية الاستنساخ وزراعة الأعضاء، إلا أنه من الناحية الشرعية والقانونية لا وجود لمثل هذا الربط لأنه ولأسباب أخلاقية فإن عملية الاستنساخ إذا حدثت فسيكون لمخلوق كامل الأهلية له كافة الحقوق الإنسانية ولا يجوز شرعاً وقانونا أن يتم العبث بهذا المخلوق.

ويقول د. نصر فريد واصل ،مفتي جمهورية مصر العربية أن الإجماع قائم على أن الاستنساخ البشري غير جائز من الناحية العلمية والطبية والإنسانية وحتى الأخلاقية والاجتماعية، وأكد على أن العلم يقوم على ثلاث ـ الإيمان والأخلاق وخدمة البشرية ـ وأن يحافظ العلم على الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وأي خلل في هذه الضروريات هو فساد للبشرية التي خلقها الله سبحانه.

وأفاد د. عبد المعطي بيومي ،أستاذ العقيدة في جامعة الأزهر أن القاعدة الشرعية تقول ما زاد ضرره على نفعه فهو حرام. وقد أكدت الحقائق الآن أن للهندسة الوراثية ضرراً أكثر من أن تكون نافعة ويطبّق ذلك على عملية الاستنساخ . والواضح أنه من الناحية الشرعية فإن المفاسد المترتبة على عملية الاستنساخ متعددة، إلا أنه لم تصدر فتاوى شرعية متعلقة بهذا النوع من العمل الطبي من علماء المسلمين، إلاّ أن البعض منهم أبدى رأياً بهذا الخصوص . وقال إن الإسلام يرفض مثل هذه العمليات التي أفسدت العلم والبحث العلمي، وأن منطق الشرع الإسلامي بنصوصه المطلقة وقواعده الكلية ومقاصده العامة يمنع دخول الاستنساخ في عالم البشر لكثرة المفاسد الأخلاقية والشرعية المترتبة عليه ومنها ما يلي:

1- الاستنساخ ينافي سنّة العلاقة الزوجية: إن عملية الاستنساخ تنافي العلاقة الزوجية التي حث عليها الدين الإسلامي برافديه من القرآن والسنّة النبوية الشريفة، ذلك أن الله سبحانه قد خصّص في خلقه كل مخلوق من ذكر وأنثى سواء الإنسان أو الحيوان أو الطيور أو الحشرات أو النبات. وقد أشار القرآن الكريم بذلك في مواضع عديدة منها: "وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا" ، "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى . مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى." . بينما نرى أن عملية الاستنساخ تقوم على الاستغناء عن أحد الجنسين والاكتفاء بجنس واحد. ولهذا فإن الاستنساخ في الواقع ضد الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها، فالإنسان بفطرته يحتاج إلى الجنس الآخر ليس فقط لمجرد التناسل والتكاثر، بل ليسكن إليه ويكمل كل منهما الآخر مصداقاً لقول الله تعالى: " بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ."؛ "هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنّ َ.". من ذلك يتضح أن الاستنساخ هو في الواقع مفسدة عظيمة وليس للإنسان مصلحة به، بل يسبب مشكلات أخلاقية عديدة؛ فهو لا يحقق سكن كل من الزوجين إلى الآخر، ويطمس صلة الرحمة والمودة للذرية، ويمحو جو الأسرة والأمومة الحانية والأبوة الراعية، كما لا يحقق ما يحتاجه الطفل البشري من رعاية وعيش كريم في ظلال الأسرة وحماها ورعايتها، لذلك وجب على الطبيب المسلم أن ينأى بالعلم الذي يتسلح به والخبرة المكتسبة من أن يقوم بهذا العمل للمفسدة الناتجة عنه.

2- الاستنساخ ينافي صفة التنوع: خلق الله الكون على قاعدة التنوع، وقد وردت بصور متعددة في القرآن الكريم، وذكر الله تعالى في كتابه: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ .". والملاحظ أن خاصية الاستنساخ تناقض صفة التنوع، ذلك أن الاستنساخ يقوم على تخليق نسخة مطابقة تماما للشخص المستنسخ، وعليه تترتب مفاسد كثيرة منها ما ندركه والبعض الآخر قد لا ندركه وجزء ثالث قد ندركه بعد حين. ومن المفاسد أيضاً أن الاستنساخ قد يؤدي إلى أعمال الشر في القانون البشري، شأنه في ذلك شأن ما قد حدث عند استخدام المواد النووية في المجال الطبي وإنتاج الطاقة، ثم تحول ذلك لاستخدامها في القتل والتدمير كأسلحة فتّاكة قد تقضي على البشرية عند استخدامها في التدمير وإهلاك الحرث والنسل.


3- العلاقة بين الشخص المستنسخ والمستنسخ منه: مثل هذا الأمر ينتج عنه قضية شائكة ذلك أنه من الواضح أن كل منهما غير الآخر فعلى الرغم من حمله نفس الصفات الكروموسومية ،الجسمية والعقلية والنفسية ،إلا أن كل منهما لم يأت في نفس اللحظة، بل بينهما فترة زمنية قد تكون سنة أو عقوداً، وحيث إن الزمن متغير، أي أن لكل زمن بيئته وثقافته وتربيته فلا شك أن ذلك سيجعل من المستنسخ شخصاً آخر في سلوكه ومعارفه، لأن ذلك من الصفات المكتسبة ولا يمكن استنساخها. لذلك يطرح في هذه الحالة سؤال مشروع هو: ما هي الصلة التي تربط بين المستنسخ والمستنسخ منه؟ هل هو ابن وأخ وشخص غريب عنه؟ وقـد يقول البعض أن المستنسخ هو ابن للأم التي وضع في رحمها وحملـت بـه وولدتـه، ويدللـون على ذلك قـول الله تعالى: " إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ." ويرى بعض الباحثين إن قول هذا البعض غير صحيح ويخالف ما ذكره الله تعالى في هذه الآية الكريمة لعدم معرفة من هو أب هذا المستنسخ، كما أن خاصية الاستنساخ قد تحدث بين خلية امرأة وبويضة امرأة أخرى، أو خلية امرأة وبويضتها ثم تزرع في رحمها، لهذا ففي هذه الحالة لا وجود لذكر، وهو أمر مخالف للشرع والعقل والمنطق. كذلك قد يقول البعض الآخر أن المستنسخ توأم للمستنسخ منه، ذلك أن التوأمين مخلوقان من بويضة واحدة، وهذا أمر أيضاً مخالف للشرع والمنطق، ذلك أن الأخوة رابطة متفرعة من الأبوة والأمومة، فكيف لنا إثبات الفرع دون إثبات الأصل؟