الإسلام بين العلماء والحكام

الإسلام بين العلماء والحكام، تأليف عبد العزيز البدري.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوة الإسلام، حتى قيام الساعة. .. حفلت الدولة الإسلامية، في تاريخها الطويل، بمآثر جليلة سجلها العلماء في مواقفهم الخالدة والفذة مع الحكام، تلك المواقف التي اتسمت بالصدق والجرأة، والإخلاص لله ولدينه الحنيف، فكانوا نجوماً وضّاءة يهتدي بهم الحكام والمحكومون في ظلمات الحياة..

لقد أظهر العلماء في تلك العصور، عزة الإسلام، وأبانوا فيها حقيقة الشريعة الإسلامية الغراء، صافية نقية مكينة، في صلابة موقفها من الحكام المنحرفين عنها ولو قيد أنملة، وفي معالجتها لجميع شؤون الدولة التي يرأسها الحكام ويخضع لسلطانها المحكومون، كاشفين للعالم أجمع أثر صلابة الإيمان بالشريعة الغراء في النوازل والخطوب، متحملين بصبر وشجاعة، ما ينتج عن الجهر بكلمة الحق عند سلطان جائر، غير هيابين سلطان الحكام، ولا قوة الدولة ولا صولة الجند...

ولا غرابة في ذلك، فهم أهل لهذه المواقف لأنهم حملة لواء الشريعة الإسلامية الحقيقيون. إن الحكام الظالمين الذين تولوا أمر الإسلام حيناً من الدهر، لم يستطيعوا البتة تسخير العلماء الأبرار لتنفيذ أهوائهم أو السير في ركابهم المعوج مع ما أوتوا من قوة بأس وشدة جبروت، وتمكين في النيل. وكيف لا يكون ذلك، وقد نهي العلماء والمسلمون أجمع، أن يركنوا إليهم لقوله تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)( ).

لذلك نجد منهم المحاسبين للحكام، المنكرين عليهم سوء أفعالهم، وقبيح تصرفاتهم وفساد أقوالهم. كما نجد منهم، الناصحين لهم، الرافضين منحهم، الصابرين على محنهم. ومنهم المعرِضون عن مواجهتهم، والساعون لهذه المواجهة بقصد إسماعهم مقالة الإسلام صريحة جريئة لا غموض فيها ولا كنايات!! ولا استعارات ولا ذبذبة!! حيث لا يخافون لومة لائم.

ثم نراهم الركع السجد في سجون الحكام، يلتمسون رحمة الله، وطلب رضاه. يكتبون ويؤلفون ويهدون الناس إلى الطيب من القول، خدمة للإسلام ورعاية للمسلمين. وهذا ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم. مستحضرين قول رسولهم القدوة الحسنة صلى الله عليه وسلم:

(إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث... أو علم ينتفع به... الحديث)( ) لأنهم شموع تضيء وسرج تنير أينما حلوا.

أما في الجهاد ومقاتلة الأعداء، فهم في مقدمة الجند وعلى رأس النفيضة. وهكذا أثبت العلماء من قبل، أن وجودهم هو من أجل الإسلام وحده، وأنهم حقاً (ورثة الأنبياء) ( ) وسيرى القارئ الكريم، صدق هذا القول جلياً في حوادثهم ومواقفهم مثبتاً بين طيات هذا الكتاب. ذهبت الدولة الإسلامية: إذ استطاع الكافر المستعمر أن يقضي عليها –في غفلة من الأمة- بوسائله الاستعمارية الماكرة، وخيانة أبناء من أمتنا، الذين انطبعوا بثقافته الاستعمارية الكافرة، واستجابوا لإغرائه، وصدقوا وعوده البراقة: "وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً "( ).

بعد أن كانت هذه الدولة: الدولة الأولى في العالم، قرابة ألف سنة أو تزيد، حيث انتزعت زمام القيادة من دولتي الفرس والرومان ومن شايعهما ودار في فلكهما. حتى وصلت إلى درجة أنها إن أشارت إلى الشرق يطأطئ وإن أشارت إلى الغرب يومئ، وأضحت زهرة الدنيا حضارة ومدنية ورقياً، فاتجهت إليها الأنظار، وارتحل إليها أبناء الأقطار، يرتشفون من معينها الذي لا ينضب، ويستظلون بلوائها، إلى أن ترك المسلمون –حكاماً ومحكومين- حمل رسالتهم الخالدة، وتقاعس العلماء عن أداء مهمتهم، وتباطأوا عن حمل لواء شريعتهم بعد أن وقع اللواء... فانتقلوا من مركز القيادة إلى درك التبعية وصار المسلمون –حكاماً ومحكومين- يرددون ما يقوله أعداؤهم الحاقدون الكافرون المستعمرون الملحدون من شرق وغرب، عن إسلامهم، دون أن يقف علماؤهم الموقف المطلوب شرعاً من ذلك.

إن الإسلام اليوم: يريد من المسلمين –خصوصاً معشر العلماء- وهم على مفترق الطرق، أن يبذلوا أقصى الجهد ومنتهاه، في بيان أحكامه بصراحة وجرأة وحمل الدعوة إليه، جاعلين وجودهم قائماً على أساسه. فإذا هم لا ينصرون حقاً ولا يمنعون باطلاً، ولا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، ولا يحاسبون حكاماً ولا... فما فائدة وجودهم إذن..؟ وكان بطن الأرض خيراً لهم من ظهرها.

والعلماء الذين قصروا تجاه إسلامهم، فهزموا في المعركة معركة الإسلام والكفر، عليهم أن يقتفوا أثر السلف الصالح من العلماء العاملين ليجعلوا من الفشل الذي حاق بهم نصراً مبيناً ليعيدوا إلى الإسلام سيرته الأولى باستئناف حياة إسلامية، يعز بها الدين وعلماؤه وأتباعه، ويخذل بها الكفر وجنده وأنصاره.

ولنعد جميعاً إلى الله تعالى أولاً فعنده النصر المبين إن أخلصنا النية له، واتبعنا شرعه، ثم نقوم مستفرغين كل جهودنا لحمل راية الإسلام، وإقامة حكم القرآن، مضحين في سبيل إعلاء كلمة الله، ولو كره الظالمون والكافرون. ولنبتعد عن الكسل، ونذهب عن نفوسنا الاستكانة وننزع عنها حب السلامة التي سيطرت على بعضنا. فليست تلك والله من شيم العلماء الأبرار حملة الشريعة السمحاء، واتباع سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وليكن علماؤنا اليوم حقاً ورثة الأنبياء. يوزعون على المسلمين حكاماً ومحكومين ميراث نبيهم الكريم بالقسطاس المستقيم. لا ظالم فيه ولا مظلوم.

إن الإسلام اليوم، يريد من الحكام، الذين تولوا أمر المسلمين في بلادهم من أقصاها إلى أقصاها، أن يعودوا إلى أنفسهم فيحاسبوها على ما فرطت في جنب الإسلام.. وليعلموا أن حكمهم مهما طال، فإنه قصير في عمر أمتهم الطويل، وأيام العمر تمضي سراعاً، وضمة القبر بفتنته وسؤاله آتية لا ريب فيها، وحساب الله عسير. وعليهم أن يرجعوا إلى الإسلام الذي يدعون الإيمان به والانتساب إليه فالإيمان يعني التقيد بأوامره. وتحليل حلاله وتحريم حرامه، وتطبيق أحكامه في جميع شؤون حكمهم، وحمل الدعوة إليه، والقتال في سبيله، وإلا كان إيماناً لا ينفع لا في دنيا ولا في أخرى. وصدق فيهم قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ)( ).

لقد اعتز العلماء والحكام بالإسلام، حينما أدى كل منهما واجبه نحوه. ولكن حين ضيع الإسلام بالقعود عن حمل الدعوة إليه، والتضحية في سبيله. وبالإعراض عن تطبيقه، والحكم بغيره، صار حالنا ما نرى اليوم في جميع دنيا الإسلام، من ذهاب عز ومجد، وفقدان كرامة وسيادة، حتى طمع فينا أراذل القوم..

وبعد: فقد كانت (الاستراحة) الجبرية التي فرضت عليّ في داري والتي امتدت الأولى سنة بالتمام والكمال( ) من نعم الله تعالى علي، فقد شغفت بالتفتيش في بطون كتب السير والتاريخ والتراجم والطبقات، لمعرفة مواقف علماء السلف الصالح مع الحكام. طيلة وجود الدولة الإسلامية، منذ أن أقامها سيدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في مدينته المنورة إلى أن استطاع الكافر المستعمر أن يقضي عليها سنة 1343هـ. فدفعتني هذه المعرفة إلى تسجيل تلك المواقف بجزئياتها وكلياتها وجمعها مما تيسر لي ووفقت إليه. ولما جاءت الإقامة الجبرية الثانية( ) قمت مستعيناً بالله تعالى إلى تنسيقها والاختيار منها والتعليق عليها وكتابة ما يدور في فلكها ولا يخرج عن نهجها. بكتاب فجاءت كما سيرى القارئ الكريم.

إن تلك المواقف التي اقتطفتها من سير العلماء والحكام لم أقصد بها التاريخ إذ ليست من التاريخ ببعيد. بل هي منه في الصميم.

ولم أقصد بها ذكر تراجم العلماء والحكام. من الذين مضوا إلى ربهم سبحانه.

وإنما قصدت إلقاء أضواء على تلك المواقف التي أثبت فيها العلماء –كما قلت- أنهم حقاً ورثة الأنبياء، فهي إذن صور لا سير. ليس فيها من التفاصيل بقدر ما فيها من إبراز مواطن العبر والاستبصار.

وليس الذي ذكرتهم هم جميع العلماء الذين كانوا قائمين بواجبهم الشرعي، محافظين على ميراث النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هناك علماء وعلماء. منهم من ذكرهم التاريخ ومنهم من نسيهم وطوتهم السنون، ولن يخلو عصر من أمثالهم حتى تقوم الساعة إن شاء الله.

وأود هنا أن أذكر القارئ الكريم إلى نقطة مهمة جديرة بالالتفات إليها، هي أن مواقف علماء السلف الصالح رحمهم الله جميعاً، من حكامهم، في غلظة الكلام، وشدة الإنكار وعظيم المحاسبة –من الذين سنذكر حوادثهم- ومن وصف العلماء لبعض حكامهم بالظلم والجبروت والغرور وبشيء من الابتعاد عن شريعة الإسلام. التي أمروا أن يحكموا بها حكمهم وسلطانهم، وإن كان قد وقع من بعضهم ذلك، إلا أنه قد حصل بهم من الخير الكثير للمسلمين ما لم يحصل مثله بمن جاء بعدهم، أي والله.

وهؤلاء الحكام الذين عاصروا علماءنا الأبرار: ما كانوا يكرهون الإسلام ولا يستكبرون عن حكمه وتحكيمه، بل كانوا يطبقونه. ويرعون شؤون المسلمين على أساسه، وأعلنوا الحرب على أعدائه، ودافعوا عن بيضة المسلمين وحموا حمى الإسلام. ولكن مع ذلك، فقد نالت الدنيا من بعضهم، بعض الشيء، فحملهم على اتباع الهوى في بعض الأمور. حرصاً على الحكم والسلطان. وما أعظم فتنة الحكم والسلطان!! فلم يخلُ حكمهم من مظالم بارزة وسيئات ظاهرة جعلت العلماء يقفون في وجوههم منكرين عليهم تلك المظالم عاملين على رفع تلك السيئات بذلك. وقالوا عنهم ما قالوا.. لأن العلماء أرادوا منهم أن يكونوا على مثل ما كان عليه الخلفاء الراشدون –إذا هو المطلوب شرعاً من كل حاكم مسلم في كل حين- ووزنهم بمن كان قبلهم. فخفوا في الميزان، فظهر التخلف وانكشف التنكب، فلا يتوهم أحدتا أن الذين سنذكرهم من الحكام وموقف العلماء منهم، أنهم من أعداء الإسلام، أو من الكارهين له.

فكان ما كان مع أمر العلماء معهم. وإن كان أمر العلماء السلف الصالح مع هؤلاء الحكام وهم على ما ذكرنا فكيف يكون أمر علماء اليوم من حكامهم وهم على ما هم عليه؟؟

إن تاريخ العلماء والحكام من سلف الأمة، حافل بمواقف الاستبصار ومواطن الذكرى ومملوء بالدروس النافعة الرائعة، فنحن معشر العلماء، في جميع أنحاء البلاد الإسلامية، أحوج ما نكون اليوم إلى الاتعاظ بمواقف سلفنا من السادة العلماء رحمهم الله تعالى الذين تحلوا بصفة العلم والعمل، والتقى والزهد، والجرأة في الحق، والصلابة في التمسك بالعدل والمحافظة على حدود الشرع، وحمل الدعوة إلى الإسلام لإقامة شرعه في الأرض وتحكيم أنظمته في الدنيا والوقوف في وجه الحكام الظالمين الذين أعرضوا عن الله فأعرض الله عنهم. وبئست عاقبة الظالمين، لنعيد إلى الإسلام سيرته الأولى ولنستأنف حياة إسلامية كريمة، يعز بها الدين وعلماؤه وأتباعه ويخذل بها الكفر وجنده وأنصاره، ولتكون كلمة الإسلام هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى، والله بما تعملون خبير.

وما أحوج حكام اليوم في بلاد المسلمين إلى الاتعاظ بمن هلك من الحكام الظالمين والتأسي بمن أفضى إلى ربه مرضياً بعد إسلام حكم به، وعدل أقامه وخير نشره.

إن حكام اليوم بحاجة أكيدة إلى من يذكّرهم، ويصارحهم بحالتهم، ويدلهم على مواطن الداء ونافع الدواء بعد هذا الذي صرنا إليه –إنه والله مآل ما كان يطمع بمثله عدو لئيم وأثيم، وكافر مستعمر عنيد. والمسلمون أيضاً ما أحوجهم إلى معرفة شيء عن غيرة أسلافهم على الدين وأحكامه، ووقوفهم في وجه حكام زمانهم. إن مسؤولية الإسلام تقع عليهم كذلك، ولن ينجوا من الإثم إن قصروا في جنب الإسلام وأهملوا حملة الدعوة إليه. قال تعالى: "فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ "( ) عسى أن تكون هذه المعرفة محفزاً لعزائمهم الفاترة التي كادت أن تموت، وأخيراً وليس آخراً فإن هذا الكتاب كما ذكرت كتب في فترة –الاستراحة- الجبرية لذا فهو يعبر عن انطباعات خاصة وإحساسات معينة يدركها القارئ اللبيب.

و"وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" ( ) .

عبد العزيز البدري

بغداد 23 جمادى الآخرة 1385هـ-1/12/1965م.


العلماء والحكام في العصر الإسلامي

لم ترفل الأمة الإسلامية بالسعادة الحقة والرفاهية والأمن، ولم تشعر بالعزة والسيادة الكاملتين في الأرض إلا في ظل حكم الإسلام –ما في ذلك شك- ولم ترتح هذه الأمة من حكام بمثل ما ارتاحت حين تولى أمرها حكام مسلمون، آمنوا بالله واليوم الآخر وحافظوا على كتاب الله وسنة رسوله، ووقفوا عند حدودهما، والتزموا بأحكامهما. حضروا المساجد مع الرعية، وفتحوا لهم الأبواب، يكرمون الزائر، ويحترمون العالِم ويجلون الفقيه، يسمعون منهما النصح والإرشاد، ويتقبلون المحاسبة والإنكار، أما الجهاد في سبيل الله فقد كان رائدهم، لم يتخلوا عنه في أحلك الظروف التي مرت بهم، لأنهم آمنوا بقول الصديق الأعظم سيدنا أبي بكر رضوان الله عليه "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا" ( ) لذلك كثرة الفتوحات الإسلامية في زمانهم، وكانوا قادة الفتح الإسلامي العظيم، تلك الفتوحات التي أنقذت البلاد المفتوحة من جور الأديان وظلم الحكام وفساد المجتمع، ولا زالت آثار تلك الفتوحات العظيمة قائمة في العالم، وتلك حقائق ثابتة لا ينكرها إلا من خبثت طويته وفسد عقله وكان ذيلاً لأعداء الإسلام يردد ما يقولون ويصدق ما يفترون. كل ذلك من أجل الإساءة إلى الإسلام والطعن بحكمه العادل الذي ارتضاه المولى الكريم سبحانه وتعالى لعباده المسلمين.

إن بعض المؤرخين من سلف هذه الأمة، ذكروا حوادث لمظالم اقترفها بعض الحكام وإساءات ارتكبوها أثناء تطبيقهم لأنظمة الإسلام، لذا قام العلماء بواجبهم الشرعي فأنكروا تلك المظالم وعملوا على إزالة تلك الإساءات، ووقفوا المواقف الجريئة أمامهم في هذا السبيل، لأن العلماء، وهذا شأنهم في كل زمان، يريدون من الحكام أن يكونوا مطبقين لأحكام الشرع محسنين في تنفيذ أحكام الإسلام، فلا ظلم يقع ولا إساءة تحدث. فإذا أحدث حاكم إساءة أو ارتكب مظلمة سواء أكانت عن سوء قصد أو عن نية حسنة، فإن من واجب العلماء أن ينكروا عليهم ذلك وأن يحاسبوهم عليه، حفظاً على بيضة الإسلام، ورعاية لشؤون المسلمين، بل يعتبرون ذلك نصرة لهم مصداقاً لقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قلت يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه"( ).

ولم ينج الحكام من محاسبة العلماء لهم وإنكارهم عليهم، رغم ما كانوا عليه في أحوالهم بصورة عامة تجاه الإسلام، من تطبيق أحكامه ورعاية المسلمين على أساسه، والقيام بفريضة الجهاد، ولم يشفع ذلك لهم. إلا أن بعض الحكام كانت تضيق صدورهم لهذه الأفكار، ولم يستسيغوا مواقف العلماء معهم، حرصاً منهم على هيبة الحكم وحباً في السلطان، أو لغفلة ينسون الله فيها. وسبحان من لا يغفل. ولا يخطئ. لذا فإن الحكام الذين عاصروا علماءنا الأبرار من الذين ذكرت أخبارهم وسطرت حوادثهم، وموقف العلماء منهم، قد حصل بهم خير كثير للإسلام وفضل عظيم للمسلمين إذ كانوا يطبقون الإسلام عقيدة ونظاماً، والدليل على ذلك: أن الذي يطبق نظام الإسلام ويرعى عقيدته عملياً، هما شخصان في الدولة، الأول القاضي الذي يفصل الخصومات بين الناس، ويخبر بالحكم على سبيل الالتزام، والثاني الحاكم الذي يحكم الأمة سواء سمي هذا الحاكم أمير المؤمنين أو الإمام أو السلطان. أما القاضي فمن الثابت بشكل قطعي أن جميع القضاة الذين تولوا القضاء منذ عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلى انتهاء الحكم الإسلامي في الدولة العثمانية، كانوا يفصلون الخصومات المعروضة أمامهم وفق أحكام الإسلام، سواء أكان ذلك في القضايا الجزئية أم الحقوقية أم في قضايا الزواج والميراث مما سمي بالأحوال الشخصية. أم في البينات وسائر المعاملات، وكانت محكمة القضاء واحدة تقضي في كل الأمور حسب أحكام الشرع، ولم يرو أن محكمة قضائية في طول بلاد الإسلام وعرضها، قضت بقضية واحدة على غير أحكام الشرع، وأقرب دليل هو السجلات الخاصة بتلك المحاكم، والتي ما زالت محفوظة في العراق ومصر والشام والقدس واستانبول. وبقي الحال كذلك إلى أن فصلت المحاكم إلى شرعية ومدنية، وعند ذاك أخذت القضايا والخصومات المعروضة أمام المحاكم تقضي بغير أحكام الإسلام، وذلك في سنة 1336هـ 1918م حين سقطت آخر دولة إسلامية على يد الكافر المستعمر حتى أن القوانين التي بدأت تدخل بلاد المسلمين في سنة 1857م كقانون الجزاء وقانون التجارة وقانون الحقوق فإنها لم توضع موضع التطبيق إلا بعد أن نالت موافقة شيخ الإسلام –كبير العلماء- وأفتى بجوازها بأنها لا تخالف الأحكام الشرعية حتى أن العلماء لم يروا أي مبرر لإدخال القانون المدني إلى البلاد الإسلامية ولذلك وضعت (المجلة) كمواد قانونية في المعاملات مستندة على الأحكام الشرعية حسب فهم واضعيها، كل ذلك يدل بوضوح على أن المحاكم القضائية وقضاة المحاكم كانوا يحسمون جميع القضايا على أساس أحكام الإسلام، ولا زالت البلاد التي لم يدخلها الكافر المستعمر بجيوشه وإن دخلها بنفوذه تقضي محاكمها بأحكام الشرع. أما الحاكم فقد كان يطبق أنظمة الإسلام ويبرز هذا التطبيق في خمسة أمور، في الناحية الاجتماعية، والناحية الاقتصادية، والناحية التعليمية، والناحية السياسية داخلياً وخارجياً، وناحية الحكم، وهذه طبقت جميعها من قبل الحاكم في مختلف العصور الإسلامية، أما الناحية الاجتماعية وهي علاقة الرجل بالمرأة بالزواج والطلاق والنفقة وجميع ما يتصل بهذه العلاقة وهي التي سميت (الأحوال الشخصية) فإنها لا تزل قائمة وموجودة في جميع البلاد وإن غير بعض الحكام جزيئات فيها، رغم الابتعاد الحكام عن الإسلام كنظام وعدم تطبيق أحكامه في نواحي الحياة. أما الناحية الاقتصادية، فإنها تبرز في مسألتين، الأولى كيفية أخذ الدولة للمال من الأمة والثانية كيفية إنفاق هذا المال، أما من حيث أخذه، فكانت الدولة الإسلامية تأخذ الزكاة على الأموال والأراضي وعروض التجارة والمواشي والزروع والثمار، باعتبار الزكاة عبادة، لتقوم بتوزيعها على الذين لهم حق بها، من الأصناف الثمانية المقررة شرعاً، كما تأخذ الخراج والجزية وضرائب الكمارك بحكم إشرافها على التجارة في الصعيدين الداخلي والخارجي، وكانت تقوم على إدارة ما هو داخل في الملكية العامة، أو ملكية الدولة، كالمعادن والقنوات وغيرها من موارد بيت المال، أما من حيث إنفاق هذه الأموال فإنها كانت توزعها حسب الأحكام الشرعية، وقد طبقت أحكام النفقة على العاجز وحجرت على السفيه والمبذر، وأوجدت أماكن لأحكام الفقراء والمعسرين، ونفذت أحكام العمل والعمال، ومنعت الاحتكار والغش والاستغلال وكل وسائل الكسب غير المشروع. ومن الحق أن نقول إن بعض الحكام كانوا يسيئون تطبيق أحكام الشرع في هذه الناحية وكان البعض الآخر يحسن غابة الإحسان في رعاية هذه الناحية، تبعاً لنفسية الحاكم ومدى التزامه بالأحكام الشرعية، وموقف الأمة منه خصوصاً العلماء، فإذا حصل لبعض الحكام أن يقصر ويسيء فلا يعني هذا عدم التطبيق. أما الناحية التعليمية فإن الأساس الذي كان قائماً على هذه الناحية هو الإسلام بتركيز العقيدة الإسلامية حين التعليم ونشر الأحكام الشرعية المتعلقة بشؤون الحياة. وتعليم الثقافة الإسلامية والعلوم الأخرى. حتى أصبحت البلاد الإسلامية الخاضعة لحكم الإسلام موئلاً للعلوم ومقراً لدراسة المعارف. وكانت جامعاتها والمعاهد العلمية سواء أكانت في المساجد أو في دور خاصة، محط أنظار العلماء وأهل المعرفة ورواد العلوم وكانت لتلك الجامعات والمعاهد الأثر العظيم في توجيه التعليم ونشر الثقافة في مختلف العلوم، ومن هذه المعاهد والجامعات تخرج كبار العلماء والفلاسفة والمفكرون الذين لا زالت أبحاثهم ودراساتهم ومؤلفاتهم، موضع الإكبار، ومن معينها يستقي المفكرون ويورد المربون اليوم، وكل الذي حصل من تقصير في هذه الناحية هو ما كان قائماً في العصور المتأخرة من قلة المدارس ونضوب العلم والمعرفة. أما السياسة الخارجية والداخلية، ففي الناحية الداخلية كان يطبق نظام الإسلام على الأمة، وهذا قائم ما دامت الدولة الإسلامية قائمة، وإذا حصلت إساءة في تطبيق بعض تفصيلات نظام الإسلام فلا يعني هذا عدم وجوده، حيث أن المسلمين لم يرتضوا بغير الإسلام نظاماً لهم، كما لم يستوردوا نظاماً ولم يسمحوا بدخول نظام أجنبي، بل لم يترجموا أي نظام في الوقت الذي ترجموا الفلسفات الأجنبية والعلوم والمعارف، وفي الناحية الخارجية كانت علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدولة قائمة على أساس الإسلام، وكانت الدول في العالم تنظر إلى الدولة القائمة في العالم الإسلامي، دولة إسلامية فأحكام المعاهدات والجهاد وسائر الأعمال السياسية كانت تستنبط من أدلة الشرع وقد خلف العلماء ثروة هائلة من الأفكار الإسلامية في هذه الناحية وغيرها. أما نظام الحكم المطبق في العصور الإسلامية، فقد كان نظام حكم إسلامي، فكان جهازه إسلامياً حيث قام على سبعة أركان (1) الخليفة وهو رئيس الدولة (2) المعاونون للرئيس في الحكم (3) الولاة في الأقاليم (4) القضاة (5) الجيش (6) الجهاز الإداري (7) مجلس الشورى، وهذا الجهاز كان قائماً. وتفصيل ذلك: إن الأمة الإسلامية من لدن حياتهم في المدينة المنورة، حتى سنة 1342 هـ 1924م كان عليهم خليفة، وإن سمي في بعض العصور بالسلطان أو الملك( ) والمعاونون وهم الهيئة التنفيذية فقد كانوا موجودين في جميع العصور وإن وصفوا بلقب الوزراء في بعض العصور كالعصر العباسي أما الولاة والقضاة والجهاز الإداري فقد كانوا موجودين كذلك ولا زالت هذه المناصب موجودة في بعض الأقطار في العالم الإسلامي. أما الجيش فوجوده لا يحتاج إلى دليل إذ هو صاحب الفتوحات الإسلامية العظيمة وهو القوة الجبارة التي كانت ترهب الكفار في العالم. أما مجلس الشورى فإن من الأمانة في البحث أن نقول أنه لم يعن به من قبل الحكام عناية حقة إلا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. فقد كان غير هؤلاء يكتفون بأخذ المشورة من أفراد معينين وثقوا بهم، وهم الذين سموا بأهل الحل والعقد في بعض العصور ومنهم من اتخذ من معاونيه أو من معاونه الأقدم سبيلاً لتحقيق الشورى، وإن كان من الواجب أن يكون هذا المجلس قائماً لأنه من حق الأمة على الخليفة، لذا فالذي حصل في العصور المتأخرة في مسألة الشورى تقصير، ومع ذلك فإن الحكم كان إسلامياً، ولأن الشورى هي لأخذ الرأي بخلاف المجالس النيابية في النظام الديمقراطي فهي للحكم. وكل الذي يؤخذ على جمهرة الخلفاء هي مسألة بيعة الخليفة ومسألة استعمال القوة المادية في تولي الحكم. أما البيعة يومئذ فقد كانت تؤخذ لابن أو أخ أو من أسرة الخليفة القائم في حياته، ثم تجدد لذلك الشخص بعد فقدان ذلك الخليفة وهذه إساءة لتطبيق حكم البيعة، إذ البيعة شرعاً تعقد للرجل الذي ترضاه الأمة وتختاره بعد فقدان خليفتها، وإساءة تطبيق حكم البيعة هذه هي الشبهة التي حسبها البعض بأن نظام الحكم الإسلامي كان وراثياً في جل العصور الإسلامية وهو ما يعبر عنه بالنظام الملكي، وهذا يتنافى مع أحكام الإسلام في نظام الحكم. والحقيقة أن ولاية العهد أو الحكم الوراثي لا صلة له بالإسلام، وبالتالي لم يطبق في جميع العصور الإسلامية، حيث ذكرنا آنفاً أن الذي حدث في تلك العصور هي أن الخليفة كان يقوم بناء على بيعتين الأولى في حياة الخليفة القائم والثانية بعد وفاته، ولم ينصب خليفة دون بيعة، فكانت البيعة تؤخذ في تلك العصور من أهل الحل والعقد، ثم أُخذت من شيخ الإسلام –كبير العلماء- وهذا يتناقض مع مفهوم الوراثة أو ولاية العهد، لوجود البيعة الثانية وهي الأصل، والأولى كانت على سبيل الترشيح الإلزامي، ولو اكتفى بالأولى لصح القول وكانت تلك الشبهة، حقيقة قائمة لا شبهة، والبيعتان هاتان لا يقرهما الإسلام، وإنما بيعة واحدة تعلن فيها الأمة عمن تريده خليفة عليها بدون ضغط أو إكراه، يبايعها هو على تطبيق الإسلام وتبايعه هي على السمع والطاعة. أما استعمال القوة المادية في تولي الحكم، وفرض شخص معين نفسه على الأمة، وهي لا تريده ولا ترضاه حاكماً عليها، فهذا لا يجوز شرعاً ولا يقره الإسلام، ولو أن هذا الشخص أعلن أنه يطبق الإسلام ويرعى الأمة على أساسه، إذ الأمة هي صاحبة السلطان، ولها الحق كل الحق، أن تختار شخصاً معيناً ليكون نائباً عنها في الحكم وتولي السلطان. وهناك شبهة أخرى، وهي حدوث بعض الإساءات، ووقوع بعض المظالم من قبل بعض حكام الدولة الإسلامية، فحكم البعض على هذه الوقائع التأريخية، بعدم تطبيق الإسلام في ذلك الحين، إن هذه الشبهة ستزول حتما إذا لوحظت هذه الأمور. أولاً: إن تأريخ الحكم الإسلامي، وأحوال الحكام، لا تؤخذ من أعداء الإسلام أو من المبغضين له، أو من الذين دخلوا في الإسلام نفاقاً، لتحقيق مآرب خاصة؛ وإنما يؤخذ هذا التأريخ من ثقاة المؤرخين المسلمين المؤمنين، مع التحقيق الدقيق في ذلك إذ إن كثيراً من الحوادث نقلت بزيادة فيها، وإن بعض المؤرخين لم ينصفوا بعض الحكام، وإن عامل الاختلاف المذهبي كان له أثرة في كتابة الحوادث، ومنهم من خضع لأهواء الحكام حين الكتابة عن الذين سبقوهم في الحكم، فضلاً عن أنه لم يكتب تأريخ المجتمع الإسلامي كتابة تمحيصية دقيقة، وأن الذي كتب هو أخبار الحكام، وهذه لا تعطي صورة واضحة عن المجتمع الإسلامي، ولا عن حكم الإسلام. ثانياً: أن الباحث المدقق لا يجوز له أن يستعمل القياس الشمولي عن المجتمع، من تأريخ بعض أفراده أو حكامه، كما لا يجوز له أن يحكم على نواحي المجتمع كلها بالفساد، لفساد حاكمه، أو لفساد ناحية فيه، فليس من الصواب أن يحكم على المجتمع في العصر الأموي من تأريخ يزيد بن معاوية، أو الحجاج بن يوسف الثقفي، أو يحكم على المجتمع في العصر العباسي بالفسق والمجون والجواري الحسان، من قراءة كتاب الأغاني لأبي الفرج الذي ألّف عن أخبار أهل الهوى والمجون والشعراء، وإنما الصواب أن يحكم على المجتمع بالصلاح أو بالفساد من دراسة جميع نواحي المجتمع. ثالثاً: أن معرفة أحوال المجتمع وحياة أهل العصر تكون بمعرفة نوعية النظام الذي كان مطبقاً ومدى تطبيق الحاكم والمحكوم له، وهذه المعرفة تكون بدراسة ناحيتين والاطلاع على سيرهما بدقة. الأولى- معرفة مصادر النظام المطبق في الحياة في ذلك العصر. الثانية- معرفة مصادر التاريخ الذي يذكر كيفية تطبيق النظام. أما النظام فتعرف نوعيته وتفهم صحة معالجاته لمشكلات الحياة، ويحكم على صلاحه وسلامته أو على فساده وخطئه من معرفة مصادره الفقهية التي استند عليها. ومصادر نظام الإسلام هي الكتاب والسنة وما استند عليهما وأرشد إليهما، وهذه المصادر مفصلة مع الأحكام المستنبطة منها في الكتب الإسلامية، التي تعرف بكتب الفقه. وعلى هذا الأساس نجد أن النظام الذي كان مطبقاً في المجتمع في العصور الإسلامية كلها هو نظام إسلامي محض، حيث لم يوجد ولا نص فقهي واحد من غير الإسلام مما يدل على أن الإسلام كان مطبقاً وحده، ولو لم يكن كذلك، لذكرت نصوص أو نص واحد لمعالجة مشكلة من غير الإسلام. أما مصادر التاريخ وهي التي تذكر كيفية تطبيق هذا النظام من قبل الحاكم أو المحكوم وتذكر أحوال المجتمع وحياة أهل العصر فإنها تكون بدراسة الأمور التالية: كتب التاريخ: إن بعض هذه الكتب التي بين أيدينا اليوم خضعت للظروف السياسية وكانت تحشى بالتزوير والبهتان مدحاً أو ذماً وبالزيادة والنقصان إما بجانب الذين كتبت في أيامهم وإما ضد الذين كتبت عنهم في أيام غيرهم( )، ومن البديهي أن هذه لا قيمة لها من الناحية التاريخية الموثوقة وعلينا بالكتب التاريخية المعتبرة التي لا يتطاول إليها الشك، ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة أنه منحها مؤرخين يندر أن نجد أمثالهم في العالم كله لما بذلوه من جهد صادق في تحري الحقائق بكل أمانة وإخلاص. وإذا درسنا هذه الكتب بنزاهة علمية وقلبنا أوجه حوادثها، وربطنا بين تلك الحوادث تاريخياً وواقعياً نجد أن المجتمع في العصور الإسلامية، كان مجتمعاً إسلامياً وأن أهله من حكام ومحكومين كانوا يطبقون الإسلام. ولم يطبقوا غيره، بل لم يترجم العلماء نظام غيرهم ولو للاطلاع والرد كما فعلوا في الفلسفة، لأنهم كانوا في غنى عن ذلك. الآثار: والآثار مصدر مهم من مصادر التاريخ، وهذه إذا درست بدقة فإنها تعطي حقائق تاريخية، ومن يتتبع آثار المسلمين في بلادهم لم يجد أثراً غير إسلامي بل إن المسلمين تركوا لنا آثاراً عظيمة دلت على ذوقهم الإسلامي السليم، وعلى نفسيتهم الرائعة وعلى عقليتهم الإسلامية المبدعة. الرواية: الرواية من أصح المصادر التي يعتمد عليها في نقل الحوادث والوقائع وذلك كشأن كتب الحديث التي نقلت سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وكتاريخ الطبري وتاريخ ابن كثير، ومن مجموع هذه المصادر الثلاثة 1-الكتب 2-الآثار 3- الرواية، مع معرفة مصادر النظام، يكون الحكم على النظام وعلى كيفية تطبيقه، وإذا لاحظ الدارس المدقق ذلك كله، يحصل على نتيجة طيبة، ويحكم على أن المجتمع في كل العصور الإسلامية التي كانت تحكمه الدول الإسلامية، كان الإسلام مطبقاً وقائماً. ومن الجدير بالذكر أننا لا ننكر حدوث إساءات أو وقوع مظالم في بعض العصور الإسلامية، وفي ظل دولة الإسلام، بل إن حوادث كتابنا هذا التي قام عليها الكتاب لتدل دلالة واضحة على عدم الإنكار، ولكن نقول إن حوادث الظلم ووقائع الجور من قبل بعض الحكام لا تعني أن الحكام فساق فجار كافرون مارقون كما يتصور البعض أو يصور البعض، ولا تعني أن المجتمع غير إسلامي. وإنما تعني أن الأمة الإسلامية كانت في تلك العصور من أسعد الأمم لتطبيق أحكام الإسلام عليها، وتلك سعادة الأمة في كل حين، وأن لواء الإسلام كان خفاق [....] في الأرض، وأن دولة الإسلام كانت زهرة الدنيا وكانت أمنية الشعوب المظلومة أن تستظل بلوائها، وإن الحكام كانوا مسلمين وإن وقعت إساءات منهم، ولذلك وقف العلماء من بعضهم موقفاً صلباً وشديداً لوقوع إساءات منهم لم تصل إلى حد تغيير أحكام الشرع أو تبديل حكم من أحكام الإسلام، موقفاً لم يعرف الخور والاستكانة، بل منهم من قدم رأسه لمقصلة السياف أو ظهره للسياط والجلاد، حسبة لله تعالى، وقياماً بالواجب الذي فرضه الله تعالى على العلماء حملة الشرع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما نهى بعضهم عن مداخلة الحكام وتحريم التودد إليهم إلا لحماية صوت العلماء في وجه كل طاغية مما قد يصيبه من ضعف آت من تلك المداخلة، ومنهم من تعاون مع الحكام في إقامة الحق ونشر الخير عن طريق تولي المناصب القضائية ووظائف الدولة، ومع هذا وذاك فقد وجد منهم –العلماء- من يلبس الباطل ثوب الحق ويزين للحاكم مظالمه ويبرر سيئاته أن هؤلاء اشتروا الدين بعرض زائل من الدنيا فعليهم وزر صنيعهم ولا غرابة في ذلك لأنهم من البشر وليسوا ملائكة وهم يخطئون لأنهم من بني آدم (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) ( ).

سياسة العلماء والحكام

من أخطر المفاهيم الغربية، التي أدخلها الكافر المستعمر في بلاد المسلمين، عن طريق غزوه الثقافي: مفهوم –رجال الدين- ومن أخبث التهم وأكذب الحديث التي روجها هذا العدو اللئيم، أن يشبه خليفة المسلمين بالبابا، ويشبه الحاكم المسلم الذي يطبق الإسلام بالحاكم البابوي الذي له القداسة المطلقة، وله الحكم الفصل في كل أمر وقضية. إن كلمة (رجال الدين) تحمل مفهوماً خطيراً، ومعنى فاسداً سقيماً، وقد استطاع الكافر المستعمر أن يركزه عند المضبوعين بثقافته، فأصبحنا نسمعه منهم في كل مناسبة بل وصل الأمر أن رددها بعض علماء المسلمين اليوم، دون أن يدركوا مفهومها وحقيقة معناها. إن هذه الكلمة (رجال الدين) اصطلاح أجنبي، أطلقه الغربيون على القسس والرهبان والأساقفة، وصفاً لهم، وتقريراً لواقعهم، وذلك حينما قامت الثورة الفكرية في أوروبا تطالب بالإصلاح والتحرر من سيطرة الكنيسة ورجالها، تلك الكنيسة التي كانت تقف في وجه كل دعوة إصلاحية حسب المفاهيم الغربية وتتهمها بالمروق من المسيحية، الأمر الذي أدى إلى بقاء أوروبا قروناً عدة وهي واقعة تحت سيطرة الكنيسة وظلم رجالها، مما أدى إلى التأخر والفساد وشيوع الاضطراب النفسي والفكري وبالتالي المادي. فرجال الكنيسة كانوا يرون أن الإنسان فيه السمو الروحي والنزعة الجسدية، وأن السمو الروحي لا يلتقي مع النزعة الجسدية، وأن المادة منفصلة عن الروح، ومن هنا نشأ التناقض، فكان الفصل عندهم بين المادة والروح. ولما كان ترجيح إحدى النزعتين ضغطاً لوزن الأخرى، فقد حاول رجال الكنيسة التمسك بالسلطة الزمنية، إذ بها يستطيعون الإشراف على النزعتين، وتحقيق التوازن بينهما، فيعيش الناس بهناءة وسعادة.... هكذا كانوا يزعمون. ولكن لم يستطع رجال الكنيسة الإبقاء على السلطة الزمنية بأيديهم، فقد نازعهم فيها رجال الفكر فانتزعوها من أيديهم، وتركوا لهم أمور العبادة والطقوس الدينية يديرونها كيفما يشاؤون، وحسبما يريدونها، وقد رضي رجال الكنيسة بهذا الحال ووافقوا على هذا الواقع، ووجدوا في القول المأثور عندهم "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" خير عزاء وسلوان.. والخلاصة فقد استقل رجال الكنيسة بالسلطة الروحية، واحتفظ السياسيون بالسلطة الزمنية، ونتج عن هذا الاستقلال فصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن الدولة والحكم والسياسة وعن شؤون المجتمع وعلاقات الدولة. وأصبح من جزاء هذا الفصل، أن صار للدين مفهوم ضيق هو تدبير شؤون العبادة المسيحية، داخل الكنيسة، وصار لهذا الدين بهذا المعنى رجاله الخبيرون بشؤونه المتفرغون لخدمته ولتنظيم طقوسه وتراتيله ثم أطلق على هؤلاء –دون غيرهم- كلمة –رجال الدين- وصار مفهوماً ومعلوماً لدى الجميع أن رجال الدين لا شأن لهم في الحكم والسياسة ولا في شؤون الدولة وعلاقاتها، ولا في أفعال رئيس الدولة وتصرفاته، وإنما شأنهم وكل عملهم هو في العبادة، وهو كل الدين، ومن عمل منهم بخلاف ذلك فقد خرج على سلطان الكنيسة، وأصبح مارقاً منها منبوذاً من قبل رجال الاكليروس. كما كان من أثر هذا كله أن صار للدنيا رجال هم رجال السياسة والدولة، عرف عملهم وخصص منهم تفكيرهم بأنه لا علاقة له بالدين ولا برجال الدين، وبهذا يكمن الخطر وتكون الخطورة لهذا المفهوم وقد ركز فصل الدين ورجاله عن الدنيا ورجالها، وأصبح لرجال الدين إدارة تابعة للكنيسة كما عرفوا بلباس كهنوتي معين تختلف أشكاله وألوانه حسب درجات العلم الكهنوتي كما لهم ألقابهم الخاصة من مطران وشماس وقس وراهب وأسقف وبطريرك وكردنال ثم بابا. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن رجال الثورة والسياسيين في أوروبا من حقهم أن يفعلوا ما فعلوا تخلصاً من سيطرة الكنيسة وظلم رجالها، ففصلوا دينهم عن الحياة، وشؤونها ومنها الحكم والسلطان، لأن الدين المسيحي كما هو واقعه، وكما هي حقيقته دين أخلاق وعبادة فقط، لا دين نظام وتشريع لشؤون الحياة كلها، فليس فيه أنظمة للحكم ولا للاقتصاد ولا للسياسة.. الخ وليس فيه دولة تطبق تعاليم المسيحية، وترعى شؤون الناس في الحياة حسب هذا الدين، ولكنهم –والحق يقال- ليس من حق رجال الثورة أن يمنعوا القس والرهبان الخ.. من رعاية شؤونهم وشؤون الناس، ويبعدونهم عن الاشتغال بالسياسة والمشاركة في الحكم وما له صلة بالدولة، لأن من حق كل إنسان أن يرعى شؤونه بنفسه لا أن ترعى شؤونه وهو بمعزل عن ذلك، ولكن ما الحيلة وقد رضي بذلك القس والرهبان.. فلهم رأيهم وعليهم وزر ذلك، هذا من الناحية النظرية البحتة المقررة التي يحاولون إشاعتها بين المسلمين وفي ديارهم لإبعادهم عن الإسلام ولكن هذه الناحية لما لم تكن عملية ومخالفة لفطرة الإنسان وغير منسجمة مع حياته فقد خرج عليها الأسقف مكاريوس حين تولى رئاسة الجمهورية في قبرص. أما الإسلام فليس فيه رجال دين ولا رجال دنيا فكل مسلم هو رجل من رجال الإسلام، ومن يعتقد بالإسلام يسمى مسلماً والمسلمون جميعاً أمام دين الإسلام سواء. وليس في الإسلام سلطة دينية بالمعنى الكهنوتي ولا سلطة زمنية منفصلة عن الدين، بل السلطة واحدة، تقوم على أساس الإسلام وتطبق الإسلام وحده، لأن الإسلام دين والدولة جزء منه، والسياسة –وهي رعاية شؤون للناس- حكم شرعي من أحكامه، ولأن الإسلام عقيدة ونظام، أما كونه عقيدة فلأن أساسه يقوم على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وبالقضاء والقدر. وتلك هي عقيدة، وقد انبثقت عن هذه العقيدة، أنظمة الإسلام في الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع، والعقوبات والبينات والمعاملات الخ.. وهذه الأنظمة أحكام شرعية، استنبطها المجتهدون من الأدلة التفصيلية من الكتاب الكريم والسنة المطهرة وما استند عليهما وأرشد إليهما. وقد سمى الإسلام الذين تخصصوا في فهمه بالعلماء والفقهاء والمجتهدين، أما العلماء فلقوله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)( ). وقوله عليه الصلاة والسلام (أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء... الحديث)( ). أما الفقهاء فلقوله تعالى (لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ)( )، وقوله صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده)( ). وأما المجتهدون فلإقراره صلى الله عليه وسلم لقول معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن حين سأله صلى الله عليه وسلم بم تحكم إن لم تجد في الكتاب ولا في السنة فقال: (أجتهد رأيي ولا آلو)( ) ولم يشترط الإسلام لباساً معيناً للعلماء فكل من يفهم الإسلام يكون عالماً به مهما ارتدى من لباس، وكل من توسع في فهم الإسلام يكون فقيهاً وكل من كان قادراً على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها يكون مجتهداً. أما ما نراه على رؤوس العلماء من العمائم فهو لباس جميع المسلمين في العهد الإسلامي الزاهر، فالعلماء في ذلك العصر لم يتميزوا بلباس ليعرفوا به، وإنما عرفوا بالعلم والعمل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام العلماء وسيدهم كان جالساً مع أصحابه فجاء أعرابي فال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: هذا الأبيض المتكئ، فقال الرجل الأعرابي: يا ابن عبد المطلب، فقال النبي الكريم: (قد أجبتك).. فهذا الخبر( )، وأمثاله كثير، يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يتميز على أصحابه بلباس معين، ولكن لم يبق لباس العمامة زياً للمسلمين وإنما تبدل بأزياء أخرى اقتبسوها من الآخرين وقلدوهم فيها تقليداً، إلا أن العلماء ظلوا على زيهم الأول –وإن اختلفت أشكال العمامة- فهم إذن لم ينفردوا بزي وإنما بقوا على زيهم السابق، ولكن تغيير لباس المسلمين لأزيائهم جعل زي العلماء الثابت متميزاً عليهم. وليس من بحثنا هنا بيان الزي الذي يجوز والزي الذي لا يجوز، وإنما نريد أن نبين فقط أن العلماء لم يبتدعوا هذا الزي الذي هو عليهم اليوم وإنما هو لباس المسلمين الأولين جميعاً أو هو شبيه به، وليس من الواجب شرعاً أن يرتدي العمامة والجبة كل عالم، على أن هنالك رواية تشير أن القاضي أبا يوسف رحمه الله أول من خصص للعلماء زياً معيناً. أما الفصل بين دوائر المحاكم الشرعية والمحاكم الدينية فلم تكن في الإسلام. ولا يجوز أن تبقى ما دامت تشعر بفصل الدين عن شؤون الدولة. فالمحاكم واحدة تحكم بالإسلام وحده، كما أن الإسلام لا يقر كل دائرة تشعر بهذا الفصل. لذلك كان في الإسلام فقهاء وعلماء ومجتهدون وليس فيه رجال دين بالمعنى المفهوم اليوم. ثم إن هؤلاء العلماء والفقهاء والمجتهدين مهمتهم في الحياة حمل الدعوة الإسلامية إلى الناس، وبيان أحكام الله في كل مشكلة وحادثة، ومن واجبهم مناقشة الحكام ومحاسبة المسؤولين وإبداء النصيحة لهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو العمل السياسي لأن السياسة، كما مر (رعاية شؤون الناس) ومنهم من تولى رئاسة الدولة واشترك في تولي المسؤولية في الحكم وهذا شيء اعتيادي يتفق مع طبيعة الإسلام، لأن الدولة تحكم بالإسلام، وتتولى شؤون الرعية على أساسه، بل من شروط الأفضلية لرئيس الدولة الإسلامية أن يكون عالماً أو مجتهداً. وبعبارة أخرى إن العالم بالإسلام يقوم بأداء العبادة ويعلمها كما يشتغل بأمور السياسة، ويدعو إلى التمسك بالأخلاق الإسلامية كما يدعو إلى المحافظة وحسن تطبيق أنظمة الإسلام سواء بسواء يحاسب الحكام ويناقش المسؤولين ويعظ الرجال ويهدي الأطفال. والعالم في الوقت الذي يكون فيه حليف محراب وأليف تقوى، يكون بطل جهاد وفارس ميدان، وحين نراه واعظاً ومدرساً في المسجد نراه خطيباً ومرشداً في مجلس الشورى، فيه الاستعداد الكامل ليكون جندياً وقائداً جامعاً بين الرحمة والشدة، يفهم الحياة فهماً خاصاً يؤهله هذا الفهم المستنير أن يستولي على الدنيا بحقها وينال الآخرة بالسعي لها، وما ينطبق على العالم ينطبق على كل مسلم لأن مسؤولية الإسلام تقع على عاتق كل مسلم، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام (أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك)( ). فالمسلمون أجمع مشتركون في المسؤولية وإن كانت مسؤولية العلماء أعظم وأوثق ويؤيد عموم مسؤولية المسلمين قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (من أصبح –والخطاب عام- لا يهتم للمسلمين فليس منهم)( ). أما فيما يتعلق بالحاكم فقد ذكرنا نشوء السلطتين اللتين أصبحتا في أوروبا بعد ثورتها الفكرية، السلطة الروحية وهي بيد رجال الدين والسلطة الزمنية الدنيوية وهي بيد رجال الفكر. واستمرت هاتان السلطتان في اتفاق وتكافل بينهما، ولكن لم يمر عليهما وقت طويل، حتى ادعى رجال السلطة الروحية حقوقاً وانتحلوا لهم صفات وبمرور الزمن استطاعت هذه السلطة أن تجذب الناس لها، وتجمّع حولها الجموع، فهيأت للأمر عدته، وحسبت الحساب لكل طارئ، فاتخذت لها جيوشاً وأساطيل. وعند ذاك فرضت سلطانها وإرادتها على السلطة الزمنية، حتى أصبحت القيم والوصي عليها، فلا يبرم أمر إلا عن طريقها ولا ينفذ قول إلا إذا ارتضته وأقرته، ولكن لما ضاق ببعض الملوك ذرعاً بذلك فلم يتحملوا تصرفات تلك السلطة التي أخذت على أيديهم وشلت حركتهم وشاركتهم في الشؤون، وتدخلت في كل الأمور، أعلن هؤلاء الملوك وهم على جانب عظيم من القوة ولا زالوا يتمتعون بسلطتهم، أعلنوا المقاومة والثورة واستعملوا السلاح الحربي وأطلقوا النيران، وأخيراً تمكنت السلطة الزمنية من رفع يد تلك السلطة عنها بعد حروب طاحنة لم يشهد لها مثيل في ذلك القرن ولكن بقيت تحمل الولاء للكنيسة وتنازعها استقلالها حتى تم لها النصر الأخير بحدوث الوحدة الإيطالية 1870م ودخول جنودها إلى المملكة البابوية. فمثل هذه الأحداث الخطيرة لم تقع في بلاد المسلمين أثناء حكم الإسلام، ولن يسمح الإسلام بوقوعها يوماً ما، لأنها خلاف طبيعته، لأنه ليست فيه سلطتان، ولم يجعل الولاية على الأمة الإسلامية من قبل سلطتين، بل السلطة واحدة وهي تعني الحكم والسلطان وهي بيد الأمة وحدها قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)( ). فالله تعالى استخلف عباده المسلمين على الحكم والسلطان وقال تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ)( )، (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ)( )، أي جعلنا لكم فيها الحكم، وأعطيناكم السلطان، والأمة تنيب عنها رجلاً منها ليتولى الحكم، وليطبق الشرع، ولا تجب طاعته إلا في حدود الإسلام، فليست لهذا الحاكم قداسة، كما ليست له السيادة، وإنما القداسة لكتاب الله وسنة رسوله والسيادة للشرع الإسلامي وحده، (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)( )، (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)( ) أكمل هذه الآية الكريمة فقال (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)( )، فأين قداسة الحاكم المسلم وأين سيادته ومن حق الأمة أن تنازعه إذا اختلفت معه على شيء، وهذا أبو بكر الصديق خليفة رسول الله، يقول في خطابه الأول للمسلمين بعد أن بايعوه على الخلافة والحكم "أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني.. إلى أن قال.. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"( ). وهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين يقول يوماً على منبره: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقوّمه. فيجيبه أحدهم لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا، فلا يزيد أن يقول الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه، فأية قداسة لهذا الخليفة وأية سيادة لهذا الأمير، مع أنهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والمسلمون والعالم كله يعرف من هو أبو بكر ومن هو عمر.. ( ) ثم أن هناك فروقاً كثيرة بين منصب الخلافة الذي يتمتع به الحاكم المسلم وبين منصب البابوية الذي يتصف به البابا المسيحي. فالبابا ينتخبه الكرادلة وهم أرفع الرتب الكهنوتية في الديانة المسيحية الحالية، وعددهم سبعون، ويبقى البابا في منصبه حتى الموت. والخليفة رجل من المسلمين تنتخبه الأمة وتبايعه على تطبيق الشرع الإسلامي وتستطيع الأمة أن تنزع منه البيعة وتقصيه عن منصب الخلافة في حالة عجزه عن رعاية شؤونها، أو مخالفته للشرع وإساءته إليه. والبابا بيده النقض والإبرام، وخليفة المسلمين ليست بيده هذه الأشياء، بل يقول خليفة المسلمين عمر بن الخطاب: "وددت أن أخرج –أي من الدنيا- كما دخلت لا أجر ولا وزر" ( ) . والبابا من اختصاصه تفسير الكتاب المقدس، وله صلاحية وضع حد للتفكير فيه والاستنباط منه كما حدث في (التكيفات الاسكولانية) في الفائدة (الربا) التي قام بها (توماس من) ومن جاء بعده من رجال الكنيسة، وليس لخليفة المسلمين هذا وإنما له أن يستنبط الأحكام الشرعية لمعالجة المشاكل الواقعة وحل المشاكل القائمة، على أن يكون ممن تتوفر فيه شروط الاجتهاد، وله وحده أن يتبنى الأحكام الشرعية الاجتهادية لجعلها قانوناً ينفذ، والخليفة يُرد إذا أصدر أمراً فيه مخالفة لنص شرعي، وليس على الأمة طاعته في هذه المخالفة، لأن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"( ) وقوله: "لا طاعة لمن عصى الله" ( ) . وقد رد خليفة المسلمين وصحح فهمه ومن ذلك أن امرأة ردت سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة تحديد المهر، وتلت عليه الآية الكريمة: "وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً"( ). وقوله: "قنطاراً" يدل على إباحة التوسع في المهور فكيف يضع عمر حداً له؟. هذا ما ردت به الامرأة، أما سيدنا عمر فإنه أجابها بقوله: "أصابت امرأة وأخطأ عمر"( ). تلك فروق جوهرية بين منصب الخلافة والكرسي البابوي والتاريخ في طياته يحفظ مكانة الخليفة وأعماله وخضوعه لحكم الشرع وتسليمه لأمر الإسلام، كما يعرف البابا وقداسته.. وطاعته في كل أمر... ولكن العداء للإسلام والصليبية الحاقدة لأمة المسلمين، ولكن نهم وجشع الكافر المستعمر وكيده ومكره، استطاع أن يصور الحق الموجود بصورة الباطل المعدوم وبشعوذته المشهورة قدر أن يقلب الحقائق بكل ما أوتي من قوة، وأن يثبت الفرية العظمى وأن يدخلها في أذهان المضبوعين بثقافته ويجعلها عندهم كقضايا مُسلم بها ولا تقبل المناقشة، حتى وصل الحال بهؤلاء المضبوعين أن ينفروا من اسم الخليفة وتحمر وجوههم حنقاً من ذكر منصب الخلافة. ولسنا الآن بصدد الرد على افتراءات المفترين فيما يدعون، لأن قضية كون رئيس الدولة الإسلامية وهو خليفة المسلمين رئيساً سياسياً وكون الحاكم في الإسلام رجلاً من الأمة يخطئ ويصيب، وليست له قداسة القديسين ولا طاعة البابويين، قضية ثابتة مقطوع بها لا تقبل جدلاً، ولا تكون موضع نقاش لأن كل من له إلمام بسيط بأحكام الإسلام يعرف ذلك، وإنما نحن بصدد الكلام على اصطلاح (رجال الدين) الذي شاع في الغرب وجاء به الجهال إلى ديارنا تقليداً للغربيين، وشجعه الكافر المستعمر دسّاً وخبثاً، بقصد إبعاد العلماء عن الاشتغال في السياسة وشؤون الحكم ومراقبة الحكام، مع أن هذه من أحكام الإسلام، لا يمكن فصلها عنه بأي حال من الأحوال، وأن صلة العلم الشرعي بالحكم وثيقة، إذ وجوده قائم على تطبيق أحكام هذا العلم وصلة العالم بالحاكم وثيقة أيضاً لا يمكن فصلهما. فالحاكم يطبق الشرع ويرعاه بالتنفيذ وهذه سياسته والعالم يرعى الشرع بالتوضيح والبيان ويحاسب الحاكم على أساسه وهذه سياسته، فالعالم العامل له القدح المعلى في توجيه سياسة الحاكم ومراقبة تصرفاته، أما إن كان العالم سلبياً غير إيجابي، يتوقف عن بيان حكم الشرع في تصرفات الحاكم ويكتم ذلك ويتباعد عن خوض معترك الحياة فلا يبالي إن أعراض الحاكم في شرع الله ولا ينبس ببنت شفة إن أساء آخر أو أخذ (ثالث) الأمة بالشدة والجبروت والظلم الفظيع، فمثل هذه الأحوال لا يرتضيها الإسلام لعلمائه وحملة شريعته وبالتالي عليه الإثم العظيم. فالخلافة كما قال عنها فقهاؤنا رئاسة عامة في أمور الدنيا أي لإقامة الحياة على نهج الإسلام. والخليفة يحرس الدين بتنفيذ أحكامه ورعاية المسلمين على أساسه ويستمد سلطانه من مبايعة الأمة له، وإنابتهم إياه على كتاب الله وسنة رسوله فإن خرج عن مقتضى هذه النيابة خرج عن مقتضى الخلافة وكان حقاً على الأمة عزله فليس في الخلافة ما يخيف ولكن أعداء الإسلام صوروها على غير حقيقتها للتنفير عنها أولاً، وعن الإسلام ثانياً، مع أن من البديهي أن المسلمين لن يحيوا حياة كريمة تليق بمكانتهم وتحفظ كرامتهم، بل لن يكون إسلام الأمة موجوداً وجوداً حقيقياً إلا إذا استظلتهم راية خلافة الإسلام، وكان عليهم خليفة. وقد تبين من هذا أن العلماء سياسيون والحكام سياسيون، كل في مجال عمله ونوعية واجبه، الذي فرضه الله تعالى عليه، وأن مفهوم رجل الدين صفة لا تنطبق على واقع العالم المسلم وأن الخليفة أو حاكم المسلمين ليس بابا ولا قديساً.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العلماء

الناس بلا علماء هم جهال، تتخطفهم شياطين الإنس والجن، من كل حدب وصوب وتعصف بهم الضلالات والأهواء من كل جانب. ومن هنا كان العلماء، من نعم الله تعالى على أهل الأرض، فهم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وحجة الله في أرضه، بهم تمحق الضلالة من الأفكار وتنقشع غيوم الشك من القلوب والنفوس، فهم غيظ الشيطان وركيزة الإيمان، وقوام الأمة، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدي بهم في ظلمات الحياة في البر والبحر، إذا انطمست النجوم وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فإذا طمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)( ). وهم ورثة الأنبياء قال عليه الصلاة والسلام: (.. وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء)( ) وقال عليه السلام حينما ذكر له رجلان أحدهما عابد والآخر عالم (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم أن الله وملائكته وأهل السموات والأرض وحتى النملة في جحرها وحتى الحوت في الماء ليصلون على معلم الناس الخير)( ). كل هذا الفضل للعلماء العاملين، الجريئين في الحق، المحبين للخير الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر المحاسبين للحكام الناصحين لهم، والساهرين على مصالح المسلمين المهتمين بأمور الأمة المتحملين كل أذى ومشقة في هذا السبيل. نعم كل ذاك الإكرام، للعلماء الذين يحرسون الإسلام، الأمناء على دين الله الداعين الحكام إلى تطبيقه، بلسان صدق، وجنان ثابت، الذين اتصفوا بخلق المرسلين، فكانت أعمالهم ترجماناً لتعاليم القرآن والسنة، يقولون للظالمين ظلمتم، وللمفسدين أفسدتم، وللعاصين لقد عصيتم الله، يصلحون ما فسد، ويقومون ما اعوج، لا يخشون أحداً من الناس، ولا يخافون لومة لائمة، يقولون للناس أجمع –حكاماً ومحكومين- تعالوا من هنا الدرب، درب الإسلام، طريق السلامة والنجاة صراط الله العزيز الحميد. لا يهابون سلطاناً جائراً، ولا حاكماً جباراً، لأنهم آمنوا بقول رسولهم ونبيهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي رواه السبط الجليل الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير بقول ولا فعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)( ). ولا يسكتون عن حق وجب إذاعته، ولا يكتمون حكماً شرعياً في قضية أو مشكلة سواء تعلقت بشؤون الأمة أم بعلاقات الدولة أم بتصرفات حاكم من الحكام، لأنهم آمنوا بقول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)( ) إلى قوله: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)( ) وقوله عليه الصلاة والسلام: (الساكت عن الحق شيطان أخرس)( ). ذلكم هم العلماء الذين استحقوا هذه التسمية المباركة، كما وصفهم الإسلام، وكما أرادهم الله لحملة كتابه ودينه، وكما ارتضاهم رسول الله ليكونوا ورثته في تبليغ رسالته إلى الناس. وسيشاهد القارئ الكريم، في الفصول التالية هذه الصفات الكريمة متمثلة في أقوال العلماء أنفسهم ومجسدة في مواقفهم مع الحكام الصالحين منهم والظالمين وعند ذاك سيدرك عملياً فضل العلماء على العابدين بل على الناس أجمعين.

الحكام وآيات الحكم

قال تعالى (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)( )وقال: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)( ) وقال: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)( ). هذه الآيات الكريمة نزلت في حق الكفار، ولم تنزل في حق المسلمين، إلا أنه لما جاء لفظ (من) عاماً وهو من ألفاظ العموم، ثم إن خواتيم الآيات أفادت العموم، فإن ذلك يدل على أنه يدخل فيها المسلون أيضاً، عملاً بالعموم الوارد في هذه الآيات. والحاكم المسلم إذا حكم بغير ما أنزل الله لا يكفر، إلا إذا اعتقد به، والذي يدل على أن الاعتقاد بغير ما أنزل الله هو الذي يجعل الحاكم كافراً لا مجرد الحكم قرائن كثيرة: 1- إن الآيات الثلاث نزلت في حادثة واحدة، فكون الله تعالى وصف حال من لم يحكم بما أنزل الله بقوله (فاسقون) و(ظالمون) قرينة واضحة تدل على أن وصفه لمن لم يحكم بما أنزل الله حين قال (كافرون) يراد منه ومن يعتقد، إذ الموضوع واحد وهو الحكم بغير ما أنزل الله، والموصوف متعدد بثلاث وهو الكفر والظلم والفسق، لذا كان لكل وصف من هذه الأوصاف الثلاثة حالة تحصل في موضوع الحكم. فالاعتقاد حالة إذا وجدت مع الحكم بغير ما أنزل الله كان الحاكم كافراً أو إذا لم يوجد الاعتقاد انعدمت صفة الكفر عنه، وانطبقت عليه صفة الظلم والفسق، فإذا حكم بغير ما أنزل الله ولم يعتقد به ولكنه لم يعط الحق حقه كان فاسقاً وظالماً، فاسقاً لارتكابه معصية لأنه حكم بغير ما أنزل الله وظالماً لأنه ظلم صاحب الحق، أو بعبارة أخرى يكون كافراً إن أنكر ما أنزل الله اعتقاداً ويكون ظالماً لأنه حكم بخلاف ما أنزل الله وفاسقاً لأنه خرج عن ما أنزل الله، لذا كان تعدد الموصوف لموضوع واحد قرينة دلت على أن قوله (كافرون) يراد منه الجاحدون اعتقاداً، ومثله قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة (ومن تركها فقد كفر) فتارك الصلاة لا يكفر إلا إذا تركها غير معتقد بوجوبها. 2- إن الآيات الثلاث نزلت في اليهود وهم كفار، والتقسيم يكون على من كان مثلهم، وحين الرجوع إلى سبب النزول نجد أنها نزلت حين رد اليهود حكم الله في رجم الزاني المحصن، وأبدلوه بالجلد، لذا كانوا كفاراً حيث أن حالهم فيه أمران: أحدهما رد ما أنزل الله عليهم لأنهم يرونه غير صالح. وثانيهما حكمهم بخلافه ولذلك كان الرد لما أنزل الله هو الشرط الأساسي في اعتبارهم كافرين إذا حكموا بغير ما أنزل الله. 3- أن الحكم فعل وليس اعتقاداً، والفعل إن كان مخالفاً لما أمر الله به كان معصية، ولم يكن كفراً، إلا إذا كان الفعل ذاته كفراً وذلك أن الفعل إما أن يكون مخالفاً لما أمر الله به من الأحكام، أو مخالفاً لما أمر الله به من الاعتقاد، فإن كان مخالفاً لما أمر الله به من الأحكام كان معصية ولا يكون كفراً، إلا إذا جاء نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت على أنه كفر، فطاعة الوالدين قد أمرنا بالقيام بها، ولا يتضمن الأمر أمراً بالاعتقاد، ولهذا كان عاق الوالدين عاصياً وليس بكافر، بخلاف فعل السجود لله، فإنه قد أمرنا به على سبيل الاعتقاد، وأمرنا بالعمل به تبعاً لذلك الاعتقاد، لأن أصل العقيدة الإسلامية أن لا معبود إلا الله، ومن هنا كان القيام بالسجود لغير الله كفراً، فمخالفة أوامر الله لا تكون كفراً، إلا إذا كانت مصحوبة بالاعتقاد، أي بعدم الاعتقاد بها أو عدم صلاحيتها، فالشرع أمرنا بالاعتقاد وأمرنا بالعمل، ويختلف حكم الأمر بالاعتقاد عن حكم الأمر بالعمل، ولما كان الحكم بغير ما أنزل الله مخالفاً لأمر العمل وليس مخالفاً لأمر الاعتقاد كان ترك ما أنزل الله معصية، ولم يكن كفراً على أن واقع الحكم بغير ما أنزل الله ليس عمل كفر وذلك لسببين، أحدهما، أن الشرع لم يقل عنه أنه كفر، ولذلك لا يعتبر عمل كفر، ويؤيد هذا أن بعض الخلفاء المسلمين حين أخذوا البيعة لأولادهم في حياتهم بالإكراه على مرأى ومسمع من بعض الصحابة وجلة العلماء وهو حكم بغير ما أنزل الله، ولا نعلم أحداً قال عن هؤلاء أنهم قد كفروا، والسبب الثاني هو أن الحكم بغير ما أنزل الله ليس فرعاً عن العقيدة الإسلامية كالسجود للصنم والصلاة أو الصلاة مع النصارى، ولذلك لم يكن عمل كفر وإنما هو نوع من مخالفة أمر الله، وليس نوعاً مما أمرنا الله بالاعتقاد به. فلو أن حاكماً حابى أحداً وهو سارق فحكم عليه بالسجن دون قطع اليد فهذا عاص أو ظالم وليس بكافر بخلاف ما لو حكم عليه بالسجن دون القطع راداً حكم القطع معتقداً خطأ قطع اليد وصواب الحكم بالسجن فهذا كافر بلا شك فكلا الحكمين حكم بغير ما أنزل الله وكلا الحاكمين حكما بغير ما أنزل الله ولكن قد فرق بينهما، فكان أحدهما عاصياً ظالماً والآخر كافراً، والتفريق بينهما إنما جاء بالاعتقاد، فلو أن الحكم بغير ما أنزل الله عمل كفر لكان حكمهما واحداً؟! ( ) لهذا وغيره فإن معنى الآية يكون ومن لم يحكم بما أنزل الله راداً له كما فعل اليهود الذين نزلت بحقهم هذه الآية، حين حكموا بغير ما أنزل الله عليهم رادّين ما أنزل الله غير معتقدين بصلاحه لهم، فهم كفار، ومفهوم المخالفة، أن من حكم بغير ما أنزل الله غير راد له فليس بكافر. وهذا الرأي في فهم الآية هو رأي كبار المفسرين، قال الطبري في تفسيره (حدثني المثنى قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ " قال من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق، ثم قال (فإن قال قائل فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله فكيف جعلته خاصاً، قيل إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم بكتابه جاحدين فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون وكذلك القول عن كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس رضي الله عنه، لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي). وقال القرطبي في تفسيره ما نصه (قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، الظالمون، الفاسقون، نزلت كلها في الكفار ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء وقد تقدم وعلى هذا المعظم، أما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل فيه إضمار أي من لم يحكم بما أنزل الله راداً للقرآن وجحوداً للرسول الكريم فهو كافر، قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد، فالآية عامة على هذا قال ابن مسعود والحسن وهي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقدا ذلك ومستحلاً له، فأما من فعل ذلك وهو غير معتقد أنه ارتكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، قال ابن عباس رضي الله عنهما ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفر)( ). وقال الرازي في تفسير ما نصه (قال عكرمة قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا إن أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك له فعلا فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم)( ). وقال البيضاوي (ومن لم يحكم بما أنزل مستهيناً به منكراً له فأولئك هم الكافرون لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ولذلك وصفهم بقوله الكافرون الظالمون الفاسقون فكفرهم لإنكاره وظلمهم بالحكم على خلافه وفسقهم بالخروج عنه)( ) وجملة القول أن كل حاكم حكم بغير ما أنزل الله ولم يعتقد بأحكام الكفر مؤولاً حكمه هذا فإنه مسلم ظالم فاسق قد ارتكب معصية، أما من حكم بغير ما انزل الله معتقداً الصلاح بما يحكم هو بما يسن من قوانين وأنظمة وأن ما أنزل الله من أحكام لا صلاح فيها فهو كافر بلا شك. ( )

الحكام

" إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به " ( ) -حديث شريف- وجود الحكام للناس أمر لازم لهم، لزوم الماء للحياة، إذ لا سعادة للبشر إلا بهم. ولا عدلاً قائماً، ولا حقاً ظاهراً إلا بسلطان الحكام، فالناس فوضى بدونهم، ولن يصلح الناس فوضى، لا تقام فيهم أحكام الشرع، ولا تطبق عليهم حدود الإسلام ولا تنفذ أنظمته ولا يأمن الناس على حياتهم ولا تحقق رفاهية، ولا يدفع عدو طامع مع هذه الفوضى، ولقد عبر سيدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله الجامع (إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به)( ). ومن أجل ذلك بوأ الله تعالى للحكام مكاناً علياً، وأنزلهم منازل كريمة، فكانوا ظل الله في الأرض، وأحبابه يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر )( ) وقوله : (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل)( ). ذلكم هم الحكام الذين يستحقون هذه المنازل، وينعمون بذلك النعيم المقيم، وهم الذين وصفهم الإمام العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه والإمام التقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه والعالم الصالح الحسن البصري وقاضي القضاة أبو يوسف بأوصاف خاصة. أما عمر فيقول من كتاب له إلى عامله أبي موسى الأشعري: (أما بعد فإن أسعد الولاة من سعدت به رعيته وإن اشقى الولاة من شقيت به رعيته وإياك والتبسط، فإن عمالك يقتدون بك وإنما مثلك مثل الدابة رأت مرعى محضراًً فأكلت كثيراً حتى سمنت فكان سمنها سبب هلاكها لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل)( ). وقوله في كتاب وجهه إلى عموم ولاته: "أيها الناس إن الله عظيم حقه فوق حق خلقه فقال فيما عظم من حقه (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)( ) ألا وأني أبعثكم أمراء لا جبارين ولكن بعثتكم أئمة الهدى، يهتدى بكم فردوا على المسلمين حقوقهم ولا تضربوهم فتذلوهم ولا تحمدوهم فتفتنوهم ولا تغلقوا الأبواب دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم ولا تستأثروا عليهم فتظلموهم"( ). أما علي فيقول من كتاب إلى واليه على مصر مالك بن الأشتر النخعي: "اعلم يا مالك أني وجهتك إلى بلاد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض عليهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك". وإياك ومساماة( ) الله في عظمته، والتشبه به في جبروته فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى( ) من رعيتك، فإن لم تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حرباً حتى ينزع أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد. ولا تنقضن سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء من مضي تلك السنون فيكون الأجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمقها في العدل وأجمعها لرضا الرعية)( ) أما الحسن البصري فيقول مجيباً حين سأله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أن يصف له الإمام العادل (إن الله جعل الإمام العادل قوام كل ماثل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف وهو القائم بين الله وبين عباده. يسمع كلام الله ويسمعهم وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، وهو كالعبد الذي ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، وهو الذي لا يحكم في عباد الله بحكم الجاهلية، ولا يسلك بهم سبيل الظالمين، ولا يسلط المستكبرين على المستضعفين، فهو وصي اليتامي، وخازن المساكين يربي صغيرهم ويمون كبيرهم( ). أما قاضي القضاة أبو يوسف. فيقول في مقدمة كتابه الخراج الذي وجهه إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد: (.. وإن الله بمنه ورحمته وعفوه جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه، وجعل لهم نوراً يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور، فيما بينهم وبين ما اشتبه من الحقوق عليهم وإضاءة نور ولاة الأمر إقامة الحدود ورد الحقوق إلى أهلها بالتثبت والأمر البين وإحياء السنن التي سنها القوم الصالحين أعظم موقعاً، فإن إحياء السنن من الخير الذي يحيا ولا يموت، وجور الراعي هلاك الرعية، واستعانته لغير أهل الثقة والخير هلاك العامة). تلك صفات عامة جاءت على ألسنة حاكمين عدلين وعالمين صالحين، ينبغي للحكام أن يتصفوا بها، أثناء حكمهم للأمة الإسلامية، ورعايتهم لها، من أجل إحسان تطبيق الإسلام، ولتعيش الأمة في حياة، ملؤها العدل والإنصاف، والشعور بالاطمئنان النفسي والاستقرار الفكري. أما الصفات الواجبة والمفروضة للحكام حتى يصح بها حكمهم شرعاً، وتعقد بها البيعة الصحيحة لخلافتهم الإسلامية، وهي ما عبر عنها علماء الشريعة الإسلامية بشروط الخلافة، فهي: 1- أن يكون الحكام مسلمين، فلا يصح أن يكون على المسلمين حاكماً غير مسلم، وبالتالي لا تجب طاعته، ولا ينفذ أمره، لأن الله تعالى يقول: (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)( ) وتولي الحكم هو أعظم السبل للحاكم على المحكوم، ولقوله تعالى (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) أي من المسلمين. 2- أن يكون الحكام رجالاً، فلا يصح أن يكونوا من النساء لقوله صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) ( ) ونفى الفلاح عمن يرضون بحكم المرأة، نفي جازم وتحريم قاطع لورود (لن) التي هي من صيغ النفي التأبيدي –ومن المعلوم أن سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم نطق بهذا حين سمع أن بوران بنت كسرى قد تولت الحكم بعد أبيها. وهذا مما يعين أن النفي الجازم والتحريم القاطع هو لتولي المرأة الحكم. 3- أن يكون الحكام ممن بلغوا الحلم، فلا يصح أن يكونوا دون ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "تعوذوا من امارة الصبيان"( ) (رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق)( ) ومن رفع الله عنه التكليف والمحاسبة ومن كان لا يصح تعرقه إلا بأمر وليه الذي يرعاه فأنى يكون حاكماً يتعرف بأمور الأمة ويرعى شؤونها وهو من أعظم التكاليف الشرعية التي يوجب عليها المحاسبة من قبل الله في الآخرة ومن قبل الأمة في الدنيا إن قصر فيها. 4- أن يكون الحكام من العقلاء، فلا يصح أن يكونوا مجانين أو معتوهين، لرفع القلم والتكليف عنهم كما مر في الحديث السابق، ثم إن العقل مناط التكليف الشرعي، ومن زال عقله سقط عنه وجوب التكليف، وتولي الحكم من أكبر التكاليف الشرعية وأعظمها كما لا يخفى. 5- أن يكون الحكام عدولاً، فلا يكونوا فسقة، والفاسق هو الخارج عن طاعة الله جزئياً أو كلياً، ثم إن الإسلام اشترط العدل في قبول شهادة الشاهد "وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ "( )، ومن كانوا أعظم من الشهود وهم الحكام أولى بالعدل. لذا يكونون من ذوي السيرة الحسنة والأخلاق الكريمة قال عليه السلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"( ). 6- أن يكون الحكام أحراراً غير عبيد، لأن العبيد ملك لأسيادهم فلا يملكون التصرف بأنفسهم ومن كان هذا حالهم فلا يملكون ولاية على الأمة. ومن فضل الله تعالى وخير الإسلام أن هذا الصنف من البشر قد زال وغير موجود بالحقيقة، لتحرير الإسلام لهم ولسده الباب عمن يأتي بعدهم إلا بالمعاملة بالمثل فإن استعبد منا العدو استعبدنا منه وإلا فلا... قال تعالى: "فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء "( ). تلك هي الصفات المفروضة في كل من يتولى أمر المسلمين ويصبح حاكماً عليهم، نائباً عنهم في تنفيذ إسلامهم عقيدة ونظاماً، وهي التي عبر عنها فقهاؤنا بشروط انعقاد الخلافة للحاكم. وهناك صفات أو شروط أفضلية فصلها العلماء وذكروا أدلتها منها أن يكونوا من العرب أو من قريش، وأن يكونوا ممن لهم العلم والمعرفة بالشريعة الإسلامية التي وجدوا من أجل تطبيقها. سواء أكانوا مجتهدين أو متبعين لحكم شرعي لمجتهد آخر اقتنعوا بصحته لانطباقه على أدلة الشرع المعتبرة، وأن يكونوا شجعاناً ومن ذوي الآراء المستنيرة والبصيرة الوقادة. تلك أهم صفات أو شروط الأفضلية التي وردت بها السنة والآثار على سبيل الأفضلية لتولي الحاكم الحكم. ( ) ومن هذا يتضح أن المطلوب شرعاً –والمفروض- ديناً- أن يتصف الحاكم بصفات الانعقاد الستة التي أشرنا إليها حتى يصح توليه لأمر الأمة الإسلامية. لذلك إن تعدد المرشحون للخلافة المتصفون بصفات الانعقاد لمنصب الخلافة والحكم فللأمة أن تختار من اتصف بصفات الأفضلية اتباعاً للأفضل. ومن الجدير بالذكر هنا أن الحاكم واحد على الأمة الإسلامية –ومنها الشعب العربي- وفي البلاد الإسلامية –ومنها العربية- ولحكم الإسلام. وهذه الوحدة في الحاكم وفي الأمة وفي البلاد ولحكم الإسلام ثابتة بشكل قطعي. ويظهر ذلك من أحاديث سيدنا الرسول الأعظم ومن إجماع الصحابة الكرام ومن واقع المسلمين في العصر الإسلامي الزاهر الذي هو خير القرون. فسيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليعطه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)( ) ويقول: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)( ) وقتاله واجب إن كان لا يندفع إلا بالقتل. أما إجماع الصحابة وهو من أدلة الشرع المعتبرة لأن إجماعهم يكشف عن دليل شرعي فإنهم رضوان الله عليهم أجمعوا على وحدة الحاكم أو الخليفة مثل إجماعهم على وجوب وجوده. لذلك لا يجوز أن يكون للمسلمين أكثر من حاكم واحد، كما لا يجوز أن تكون لدى المسلمين دول إسلامية متعددة، بل الدولة الإسلامية واحدة، وحاكم المسلمين واحد. كما كان عند المسلمين في عصورهم الأولى والتي اتبعتها بإحسان. ثم إن هذا البيان لصفات الحاكم ووحدته ساقنا إلى جواب لسؤال متوقع في الذهن، لا بد من ذكره. ولأننا لسنا من أولئك الذين يدعون إلى الإسلام بشكل مفتوح وبطريقة غامضة، لذا فإنه لا بد من إجابة لهذا السؤال المتوقع، بشكل واضح مفهوم بحيث يضع القارئ الكريم أصبعه عليه –كما قيل-. كيف يتم نصب هذا الحاكم؟ وكيف يوجد اليوم؟، إن نصب حاكم المسلمين يتم بالبيعة( ) له. البيعة فرض على كل المسلمين رجالاً ونساء من البالغين، لأن الحاكم نائب عنهم في تولي الحكم والسلطان. وهذه البيعة ثابتة بأدلة الشرع المعتبرة، ومن بيعة الرسول الكريم، ومن أمره صلى الله عليه وسلم لنا ببيعة الإمام، ومن المعلوم أن بيعة سيدنا الرسول الكريم لم تكن بيعة على النبوة، لأن النبوة تطلب إيماناً لا بيعة، وإنما البيعة تكون على الحكم والتنفيذ لا على الإيمان والتصديق، ولما كانت كذلك، لذا نجد سيدنا الرسول الكريم ينيب عنه في تولي الحكم بالمدينة المنورة وهي عاصمة الدولة الإسلامية، حين غيابه عنها، فلو كانت بيعة على النبوة لما جازت هذه النيابة، يقول عبادة بن الصامت الصحابي الجليل (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره... الحديث)( ) وقوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه إن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له... الحديث)( ). وقوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)( ) فأخبر عنهن أنهن مؤمنات وبين البيعة بطاعتهن له أن لا يعصينه في معروف. فالبيعة بيد المسلمين، وهي من الحقوق الشرعية التي منحهم إياها الإسلام، وببيعتهم ينعقد الحكم للحاكم أو الخلافة للخليفة، لأن الحاكم –كما قلنا- نائب عنهم في تولي الحكم والسلطان. أما طريقة إعطاء البيعة فإنها تصح بكل وسيلة من الوسائل التي تحقق مفهوم البيعة كالمصافحة أو الكتابة أو النطق بها فردياً وجماعياً وغير ذلك. إلا أن هذه البيعة ليست شرطاً أن يباشرها كل المسلمين وإن كانت من حقهم جميعاً لأنها فرض كفاية، وفرض الكفاية إذا أتمه البعض سقط عن الباقين،ولكن الشرط الأساسي فيها أن يمكن جميع المسلمين من هذه البيعة وأن تنال رضاهم، وهذا الرضا إن لم يكن إجماعياً يكون جماعياً، فإذا عبر عنه أهل الحق والعقد حسب التعبير الفقهي وهم الذين يمثلون المسلمين أو عير عنه بمجلس الشورى المنتخب أو المسلمين أنفسهم صح كل ذلك. أما طريقة قيام البيعة، فإن الدارس لطريقة نصب الخلفاء الراشدين التي سكت عنها جميع الصحابة وأقروها، مع أنها من ألزم الأمور وأعظم الواجبات لأنها يتوقف عليها كيان المسلمين واستمرار حكم الإسلام، يصل هذا الدارس إلى أن الخليفة المراد نصبه، قد تناقشوا عليه قبل البيعة. وحين يستقر الرأي على أشخاص، يعرض هؤلاء على المسلمين ليختاروا رجلاً منهم ثم تكون البيعة، لذلك كان الحكم الشرعي في ذلك بما هو آت: إن الذين يمثلون الأمة من أهل الحل والعقد، أو مجلس الشورى، يتناقشون بمن يصلح للخلافة، والحكم وتوفر فيه شروطها، ثم يحصرون المرشحين لها حيث أن الصحابة الكرام طلبوا من سيدنا عمر بن الخطاب أن يستخلف فاستخلف الستة المشهورين، وهذا بمثابة حصر، وقد رضي الصحابة بهذا الفعل فكان إجماعاً والإجماع من الأدلة الشرعية المعتبرة وبعد الحصر يطلب من الأمة أن تختار أحدهم، ومن ينال أكثرية الأصوات يصبح خليفة أو حاكماً ثم تؤخذ له البيعة ويتحقق هذا بكل الأساليب التي تضمن الرضا والاختيار، كأساليب الانتخابات المعروفة. هذه هي الطريقة الشرعية في نصب الخليفة أو إيجاد الحاكم الذي يتولى أمر المسلمين، ويكون ذلك في حالة موته أو عزله، ويراد إيجاد شخص مكانه، ويكون ذلك في دولة إسلامية قائمة. وبهذا تم الجواب على السؤال الأول واعتقد بذلك كفاية لمن أراد العلم والمعرفة، أما لمن يريد التفاصيل فعليه بكتب الفقه التي تعرضت لهذا الموضوع. ومن ذلك الأحكام السلطانية للماوردي أو لأبي يعلى. أما إذا لم يكن هذا الواقع موجوداً، أي لم تكن هنا دولة إسلامية فلم تكن خلافة كما هي الحال منذ زوال الخلافة الإسلامية سنة 1343هـ و1924م حتى يومنا هذا، فإن جميع الأقطار الإسلامية خصوصاً منها العربية، فيها القابلية الكاملة والأهلية التامة، لإيجاد هذه الدولة وإقامة هذا الخليفة على شرط أن تتوفر في هذه الأقطار هذه الأمور: 1- أن يكون القطر متحرراً من كل سيطرة أجنبية كافرة. 2- أن تكون حماية هذا القطر في الداخل والخارج تستند على قوة المسلمين. 3- أن يباشر الرئيس الأعلى لهذا القطر بتنفيذ الإسلام عقيدة ونظاماً وأن يستعد لحمل الدعوة إليه. 4- أن يكون هذا الرئيس ممن تتوفر فيه على الأقل صفات انعقاد الخلافة التي مر ذكرها ومتى توفرت هذه الأمور بايع أهل قطر هذا الرئيس بيعة قائمة على الرضا به على أقل تقدير والأفضل أن يعلن للأمة مستفتياً إياها فيمن تريد عليها خليفة، وإذا تمت له البيعة، وجد الحاكم والخليفة وقامت الدولة الإسلامية، وعند ذاك يصبح فرضاً على مسلمي الدنيا الانضواء تحت راية الدولة وطاعة رئيسها الخليفة وإلا كانوا آثمين عند الله تعالى. أما إذا بويع لخليفة آخر في قطر آخر أو في بلد من قطر ذلك الخليفة المبايع أولاً، وجب على المسلمين أن يعلنوا تمسكهم بالأول ورفض ما سواه، وإن أبوا قوتلوا وحوربوا لصريح سيدنا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) وقوله (.. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) ( ) وقد مر الحديثان. وبهذا حصل الجواب للسؤال الثاني. وعليه فقد أصبح فرضاً على المسلمين أن يقيموا هذا الحاكم ويوجدوا هذا الخليفة اليوم لتكون دولتهم إسلامية وإلا كانوا آثمين، فوق كون أن حياتهم لا تستقر، وأوضاعهم لا تصحح، ونفسياتهم لا تطمئن، ولن يكون الفلاح والنجاح والسعادة نصيبهم في هذه الدنيا، مهما ابتدعوا من أنظمة حكم، واستوردوا من قوانين، إلا بالرجوع إلى الإسلام، وإقامة حاكم وهو الخليفة يطبق عليهم شرع الله...


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صلاح الصنفين من الناس

نعم صلاح الناس بصلاح العلماء والحكام، وفسادهم بفساد علمائهم وحكامهم ذلك ما نطق به الصادق المصدوق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء)( ) وهذا ما أثبته الواقع العملي في كل عصر وفي كل مصر. الناس فئتان، فئة تتبع العلماء، متأثرة بتوجيههم، ومقتفية أثرهم في الطاعة والانقياد لله وللرسول، سائرة على نهجهم بالتقيد بأحكام الإسلام، عاملة معهم في محاربة الكفر والمنكر، وكل ما لا يمت إلى الإسلام بصلة، مؤيدة إياهم في كل خير ونفع يعود للأمة أجمع، فيحصل بذلك الصلاح. وفئة تخضع لسلطان الحاكم إن كانوا صالحين، فتخاف عقابهم وتحسب حسابهم، وتخشى بطشهم إن أساءت وظلمت وأفسدت في المجتمع، فتعمل الخير بما يأمروهم هؤلاء، من طاعة ومعروف وإحسان بين الناس، فيحصل بذلك الصلاح. وبعبارة أخرى: الناس بين رجلين: رجل يرى العالم قدوة له، لأنه يشاهده طيب القلب حسن السيرة كريم الأخلاق يحب العدل، ويكره الظلم، يقول الحق ولو على نفسه، يقارع الظالمين بسلطان فكره، ويجابه المعتدين على أحكام الشرع بقوي حجته، إن رأى حاكماً جائراً أنكر عليه وإن رأى حاكماً فاسقاً نصحه وأعانه على الخير، فيحصل الإصلاح ويصلح الناس. ورجل يرى حاكمه تقياً مؤمناً، ساهراً ليله وقاضياً نهاره، في خدمة الأمة ورعاية الخلق، حارساً أميناً للإسلام، يغضب إذا انتهكت حرمات الله، ويحزن إذا عطلت شعائر الله، يسره إقامة العدل، ويسوؤه وقوع الظلم ولو على فرد واحد من رعيته لأنه مسؤول عنهم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته)( ) كبير المسلمين يجعله أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ابناً، وبهذا يحصل الصلاح والإصلاح. ومتى يصير الصنفان على غير ما وصفناه: كأن يكون الحاكم فاسداً مفسداً، يعمل بعمل الجاهلية، ويدعو بدعوة جاهلية، فالظلم سجيته، والكفر رائده، وسلب الأموال وإنفاقها في شهواته وملذاته. وإشباع نزوات اتباعه وجلاوزته ديدنه، وقتل النفوس عمله، يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله، متقصداً أو متأولاً، يرى رقي بلاده وسعادة أمته بغير الإسلام، ويرى العدل يقوم والحق يكون بما يسن هو من قوانين، وكلما ابتعد عن الإسلام في قوانينه وأنظمته هذه، كلما كان تقدمياً متحرراً غير رجعي، لا يتصف بالجمود!! وأمام هذا نراه يسكت الألسنة، ويعقل الأقلام ويأخذ بالشبهات وقد فتح سجونه منذراً بها، وهدد بمعتقلاته مخوفاً بدهاليزها، والعلماء تجاهه، بين ساكت عنه، ينكر ولا يغير، ولا ينصح ولا يصدع بكلمة أو ينبس ببنت شفة، ارتضى بالعافية، والتمس لنفسه المعاذير، والتشبث بالتأويل لآيات القرآن، وأحاديث الرسول الكريم فتراه يعمد ما فيه الحث على الجهاد، فيستدل به على جواز القعود عن مجاهدة أعداء الإسلام لأنها في نظره تهلكة، كما في قوله تعالى : (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)( ) وما التهلكة إلا الشح والبخل في الإنفاق في سبيل الله، والبطء عن استجابة داعي الجهاد. وبين متفقه يرى الحكمة في السكوت عن جرائم الحكام، ضارباً الكف على الكف آسفاًً ومتألماً ومتأولاً، قائلاً لا يمكن الإصلاح ولا محل للإنكار. فقد عم البلاء وظهر الفساد، فما عاد ينفع قول ولا إرشاد، وليس هناك أذن تسمع، ولا قلب يعي، ولا حيلة للعلماء، في دفع هذا البلاء، وإزالة هذا الفساد، ولا عليهم إن سكتوا وانزووا، فالله يأخذ الظالمين وما هم له بمعجزين، هذه بعض أقوالهم أو معانيها، ونسوا قول الله تعالى: (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)( ) فإذا آل أمر العلماء والحكام على ما ذكرنا وقد وقع هذا المآل في بلاد الإسلام فحق على من عنده بقية من علم وفضل من تقوى، أن يصدع بالحق ويرفع صوته به ولو كان وحده في الميدان: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)( ) وحق على المسلمين أن يؤازروه ويعينوه. وعليهم جميعاً أن يرددوا قول الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)( ). إن الفساد قد استحكم في الأرض، فأخذ أشكاله وألوانه، فساد في أنظمة الحياة وقوانينها، وفساد في أجهزة الحكم، فساد في إدارة الدولة، فساد في الأفكار السائدة في المجتمع، فساد في المشاعر المتحكمة عند عموم الناس، والحكام يرعون ذلك كله ويتبجحون به ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ونشاهد بعض العلماء قانعا بصلواته يؤديها، إذا وعظ بالمناسبة كان وعظه يميت القلوب ولا يحييها، وقد عافه الناس لتكراره ولبعده عن واقع حياتهم، وأحاسيس مجتمعهم، ومنهم من يحجم عن بيان فساد الأنظمة وكشف أعمال الحكام رهبة أو رغبة؟!، أما فساد الأفكار فلا يمسها بسوء خوفاً من ثورة الفاسقين عليه واستنكارهم له. ومنهم من استولى على المذياع وارتقى المنابر يسبح بحمد الحاكم ويقدس أمره، ويذكر كل خير وبرّ منسوباً إلى حكمه، وما يعمله غيره كان بتوجيه منه. ومنهم من يزين عمله ويؤول نصوص الإسلام لتوافق ما سن الحكام من أنظمة فاسدة وقوانين ظالمة، وكثيراً ما سمعنا منهم تأييد الاشتراكية، وتأويل النصوص الشرعية في سبيلها، محاولين بذلك إقناع العوام بأنها من الإسلام أو لا تخالف الإسلام. وهذا الموقف الذي وقفه البعض من الاشتراكية تزلفاً إلى الحكام والتماساً لرضاهم، وقفوه كذلك من الديمقراطية، لأن بعض الحكام يدعون لها ويعملون على تطبيقها وتنفيذها مع أن كلاً من الاشتراكية والديمقراطية أنظمة فاسدة، خارجة عن الإسلام ومخالفة له كل المخالفة( ). ومنهم من وجدناه ونسمع به، أنه سعى على قدميه ذاهباً إلى قصورهم وأماكن حكمهم ليقيدوا أسماءهم في سجل التشريفات عند كل مناسبة وكل سفرة في غير سبيل الله، فهؤلاء علماء السوء وخطباء الفتنة الذين صدقوا كذب الحكام وأعانوهم على الظلم واستجابوا لأهوائهم، وبرروا أعمالهم، إن هؤلاء حذرنا منهم سيدنا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وتبرأ من فعالهم، وأبان عاقبتهم في الآخرة. قال عليه الصلاة والسلام : (سيكون أمراء فسقة جورة فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد على الحوض)( ) وقوله : (إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، فأما المؤمن فيحجزه إيمانه وأما المشرك فيقمه كفره ولكن أتخوف عليهم منافقاً عالم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون)( ). وقوله (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بل كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهي عن المنكر وآتيه)( ). (قيل يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال اجتناب المحارم ولا يزال فوك رطباً ويذكر الله، وقيل له أي الأصحاب أفضل؟ فقال الذي إذا ذكرت أعانك وإذا نسيت ذكرك، وقيل أي الناس شر؟ قال: العلماء إذا فسدوا)( ). وقال الإمام علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك، فالجاهل يغر الناس بتنسكه والعالم يغرهم بتهتكه. ( ) يقول حجة الإسلام الغزالي( ): العلماء ثلاثة، إما مهلك نفسه وغيره وهم المصرحون بطلب الدنيا المقبلون عليها، وإما مسعد نفسه وغيره وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهراً وباطناً وإما مهلك نفسه مسعد غيره وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره. وقصده في الباطن قبول الخلق وإقامة الجاه، فانظر من أي الأقسام أنت.. وعلى ذكر حجة الإسلام الغزالي فإنه رضي الله عنه يعتقد واعتقاده الحق، أن التبعة الكبرى في كل فساد يظهر في البلاد الإسلامية تقع تبعته على العلماء، وهم من الأسباب الرئيسية في فساد الأوضاع، لأنهم ملح الأمة وإذا فسد الملح فما الذي يصلحه؟ ويتمثل الغزالي ببيت خوطب به العلماء: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد ويذكر رحمه الله في هذا الباب، كيف رضت قلوب الناس، واشتدت الغفلة عن الآخرة فيذكر أسباب ذلك ومنها مرض العلماء واعتلالهم وهم أطباء القلوب والعقول ثم أردف يقول: إن الأطباء هم العلماء وقد استولى عليهم المرض، فالطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً والمرض مزمناً. ثم يرد حجة الإسلام فساد الحكام إلى فساد العلماء، وذلك حينما يترك العلماء واجبهم نحو الحكام. فيقول: (... فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين ولكنهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم، ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء. وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا فلم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال( )). هذا قوله في علماء زمانه فما يقول في علماء هذا الزمان؟ -فتأمل يا أخي فإذا كان هذا حال العلماء المفسدين دنيا وأخرى. فما حال الحكام الظلمة الذين عاثوا في البلاد الفساد. هذا ما يخبرنا به رب العالمين وسيد المرسلين، قال تعالى (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)( ) وقال: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)( ) وقوله: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء)( ). وقال سيدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (أيما راع غش رعيته فهو في النار)( ) وقال: (من استرعاه الله رعية ثم لم يحطها بالنصيحة إلا حرم الله عليه الجنة)( ). وهنا لا بد من القول، إن المقياس والميزان لمعرفة كون العالم فاسداً أم صالحاً، وكون الحاكم ظالماً أم عادلاً، هو الإسلام لا شيء غيره، ولا شيء معه. فأعمال العلماء وأفعال الحكام وتصرفاتهم وسلوكهم في الحياة ومع الناس وتحديد موقف بعضهم لبعض كل ذلك يوزن بميزان الإسلام، ويقاس بمقياس الشرع، فبقدر تمسكهم بالإسلام وتطبيقهم له وحملهم لدعوته، ورعايتهم لأحكامه وخدمتهم لأتباعه يكون الصلاح ويكون العدل، وبعكسه يظهر الفساد ويسود الظلم، وإن كان العالم فيلسوفاً والحاكم عبقرياً، قال تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)( ) وقال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )( ).

العلماء والاصطلاحات الحديثة

من المعروف عند العلماء أن الاصطلاح هو (اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى( )). والاصطلاحات كثيرة منها المصطلحات العلمية والفنية والاصطلاحات التي عند كل أهل بلد، ومنها الاصطلاحات التي تحمل أفكاراً خاصة ومفاهيم معينة ذات وجهة نظر في الحياة، وضعها أهلها وأصحابها تعبيراً عن أفكارهم وأرائهم وأنظمتهم ومبادئهم وهذه الاصطلاحات هي موضوع البحث. حيث أن لها الأثر الكبير على صفاء الإسلام وعلى نقاء دعوته ووضوح أحكامه، مثل المصطلحات الحديثة التي انتشرت وذاعت في البلاد الإسلامية في هذا العصر، كالاشتراكية والديمقراطية والرأسمالية والدستور والحريات والمبدأ الخ. ولجواز استعمال هذه الاصطلاحات قاعدة. (كل لفظ يحمل اصطلاحاً موجوداً معناه في الإسلام فلا مانع شرعاً من جواز استعماله بذكره أو بالدعوة إليه، أما إذا كان الاصطلاح يخالف معناه ما في الإسلام من معان فلا يجوز ذكره على سبيل الدعوة إليه، وإن قيد بوصف إسلامي له، لأنه تعبير وضع بالأصل لفكر معين أو نظام خاص عرف به أصحابه وحملته( ). وقد اتخذ العلماء المعاصرون مواقف متعددة إزاء هذه الاصطلاحات الحديثة، فهم واحد من ثلاثة. إما أن يكون عالماً بحقيقة الاصطلاح مدركاً واقعه الفكري ومعناه، لذلك فقد وقف منه الموقف الشرعي، فبين فساد تلك المصطلحات ذات المعاني المخالفة للإسلام، المناقضة للأحكام الشرعية، كاصطلاح الاشتراكية والديمقراطية والرأسمالية الخ (لأن الاشتراكية قامت على أساس إلغاء الملكية الفردية كلياً أو جزئياً وعلى فكرة التأميم باغتصاب الملكية الفردية وهذا لا يجوز شرعاً ولأن الديمقراطية من معانيها أن الشعب هو الذي يضع نظامه بنفسه لا ربه وخالقه. وهذا كفر في نظر الإسلام ولأن الرأسمالية من معانيها أنها تسمح بطغيان الملكية الفردية وعدم تحديدها بالكيفية وإفساح الطريق أمامها إذ الحلال عندها ما حل بالكف لذلك فإنها تفرض سيطرة أصحابها في الحياة وتحكمهم في المجتمع من غير حد ولا قيد)( ) فالاحتكار، والاستغلال رائدها والربا وابتزاز الأموال طريقها. بين ذلك بكل صراحة في خطبة أو مقالة أو كتاب، فجزاه الله خيراً حيث نطق بالحق ولم يخش إلا الله سبحانه وتعالى. وإما أن يكون عالماً بحقيقة الاصطلاحات واعياً لمعانيها المقررة لذلك تجده يستعملها ويذكرها في خطبه ومقالاته وكتبه ويدعو لها ويصفها بالإسلامية فيقول بالاشتراكية الإسلامية والديمقراطية الإسلامية الخ إما دجلاً واستجابة لأهواء الحكام ولنوال رضا العوام وحباً بالدنيا وزينتها فتراه يؤول النصوص الشرعية وبتحايل على الأحكام لتحقيق مقاصده ونواياه. وإما خطأ ولشبهة في ذهنه حيث فسر التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع الذي دعا إليه الإسلام. فسر ذلك بالاشتراكية من باب تقريب الإسلام إلى الأذهان ودفاعاً عن الدين الذي يحمل الدعوة إليه، وهذا التفسير خطأ محض إذ أن مثل هذا الاصطلاح يحمل معاني مخالفة للإسلام مناقضة للأحكام الشرعية التي جاءت منظمة للملكية الفردية ومحددة لكيفيتها لا كميتها وفي هذا التفسير والقول، (... إغواء وترويض للعقول بقبول الاشتراكية بمعناها الحقيقي وفي هذا إيهام وطمس للحقائق وذلك لا يجوز شرعاً)( ) وإلا فكيف يصح أن يقال الخمر الإسلامي؟ أو العهر الإسلامي؟ أو إسلامية الربا أو إسلامية الزنا. فوصف الاصطلاحات بالإسلامية لا يخرج معانيها المقررة لا من الذهن ولا من واقعها.

وإما أن يكون جاهلاً بحقيقة هذه الاصطلاحات غير مدرك لواقعها الفكري ومعانيها فهو كسول لا يكلف نفسه عناء البحث والتحقيق لذلك أخذ يردد تلك الاصطلاحات ذات المعاني المخالفة للإسلام ولأحكام الشرع كالاشتراكية والديمقراطية.. دون أن يدرك خطورتها على الفكر الإسلامي. ولكن بعض هذا الصنف استمر في جهله رغم تذكير المذكورين فأورده المهالك، والبعض الآخر ساقته تقواه فسرعان ما يعود إلى الحق. حين يدرك خطر هذه الاصطلاحات على الدين ويتبين له أن الدعوة لمثل هذه الاصطلاحات هي دعوة إلى غير الإسلام بل هي دعوة لهدمه حيث يمهد الطريق لتحكيم غير الإسلام في الحياة. وتثبيت سوى الإسلام في الأذهان. وهو لم يخلق لهذه الغاية ولم يوجد في هذه الدنيا من أجل أن يخلط بين أفكار ودعوة الإسلام وأفكار ودعوة الجاهلية الحديثة وإنما وجد من الإسلام فقط لا يحمل إلا دعوته، ولا ينشر إلا أفكاره ولا يستعمل إلا اصطلاحاته والمصطلحات التي لا تناقض معانيها أحكامه وأفكاره..

العلماء وآية التهلكة

"كثيراً ما يستشهد بعض العلماء –وأقول العلماء تجاوزاً- في سائر البلاد الإسلامية بجزء من آية التهلكة، وهي قوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)( ). يستشهدون بهذا الجزء في معرض الدفاع عن أنفسهم، حينما يطالبون أن ينكروا على الحكام الظالمين، وأن يتصدوا لأفعال المسؤولين الفسقة، وذلك ببيان زيف أعمالهم وكشف تصرفاتهم للأمة، وإبداء رأي الإسلام وحكم الشرع في تلك الأفعال والتصرفات، قائلين بأن المطلب فيه هلاك وتهلكة، وقد نهينا عن ذلك، وليتهم وقفوا عند هذا الحد واكتفوا بإثم السكوت وفساد هذا الاستشهاد الذي في غير محله، بل توغل بعضهم في هذا الإثم، فلاموا وأنكروا على من يقوم بمهمته الشرعية وواجبه الشرعي الإسلامي، نحو هؤلاء الحكام، حين يأمرهم وينهاهم ويحاسبهم ويعيب أفعالهم المنكرة وتصرفاتهم الشاذة". وإذا لحق هذا القائم بواجبه، والمؤدي مهمته، بعض الأذى والتضييق والملاحقة قالوا عنه: أذى نفسه وعرض حياته للتهلكة، يقولون هذا عنه وهم يحفظون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لامرئ شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به فإنه لن يقدم أجله ولن يحرمه رزقاً هو له )( ) ويرددون قول الإمام علي رضي الله عنه: (.. وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق وأفضل ذلك كلمة عدل عند إمام جائر( )) ويتناسون مواقف علماء السلف الصالح مع الحكام في جميع العصور الإسلامية الذين قاموا بواجبهم خير قيام، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وحاسبوا حكامهم ولم تأخذهم في الله لومة لائم فصبروا على كل أذى لحقهم مهما عظم وكثر، وكأن يحسبون ذلك كفارة للذنوب، وزكاة للأعمال، وشفاعة له يوم العرض الأكبر على الله يوم القيامة. أما هذه الآية التي يستشهد بجزء منها هؤلاء (الجبناء) فهي قوله تعالى في سورة البقرة. (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). ذكر الإمام الرازي في تفسيره، ناقلاً عن أبي عبيد والزجاج، أن التهلكة هي الهلاك. وقال الإمام الطبرسي في تفسيره أيضاً التهلكة والهلاك واحد، وأصل الهلاك الضياع وهو مصير الشيء بحيث لا يدري أين هو. أما تفسير الآية الكريمة، فإنه لما فرض الله تعالى الجهاد في سبيله، وواجب نشر دينه بالفتح، عقب بذكر الإنفاق في سبيل ذلك، واعتبر هذا الإنفاق في الجهاد من أعماله ومن مقوماته الأساسية. فقال تعالى (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)( ). فالجهاد يكون بقتال الأعداء كما يكون بالإنفاق عن ذلك، قال تعالى (انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)( ). فالآية الكريمة خاصة بالإنفاق في سبيل الله والجهاد. جاء في تفسير ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية قال البخاري (وذكر سنده) (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) نزلت في الإنفاق. وذكر أيضاً: (قال رجل للبراء بن عازب –الصحابي الجليل رضي الله عنه- إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال لا. قال الله لرسوله (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك)( ) إنما نزلت في الإنفاق. وجاء في تفسير الرازي عند تفسير هذه الآية: (أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار فحثهم بذلك على التمسك بالجهاد وهو كقوله تعالى ليهلك من هلك عن بينة). والذي يوضح هذا المعنى جلياً من الآية أنها نزلت في الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله والجهاد، والتارك لذلك معرض نفسه لهلاك الدنيا والآخرة هلاك الدنيا بالخسران وغلبه الأعداء حين ترك الجهاد مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا)( ) وهلاك الآخرة بعقاب الله يوم القيامة، بسخطه والابتعاد عن رحمته، لعدم قيامه بما أمر وواجب عليه. نعم إن الذي يوضح ذلك ما ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة. فقد روى أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن جرير وابن مروديه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ( ) وهم من أئمة المحدثين، عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران، قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى فرقه ومعنا أبو أيوب الأنصاري –الصحابي الجليل رضي الله عنه- فقال ناس ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب نحن اعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبباً فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبينا صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا، فنقيم فيهم فنزل فينا (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. أهـ. وذكر الإمام الرازي في تفسيره عند تفسير هذه الآية أيضاً. روي أن قوماً حاصروا حصناً فقاتل رجل حتى قتل، فقيل ألقى بيده إلى التهلكة فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبوا أليس الله تعالى يقول: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ. أهـ.) ( ) ولا أريد أن أكثر من نقل أقوال المفسرين وآراء أئمة العلماء في تفسير هذه الآية الكريمة، لأن أقوالهم جميعاً لا تخرج عن هذا المعنى وعن هذا التفسير الذي أشرت عليه، ولأن كثيراً من آيات الله تعالى وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، دعت إلى الجهاد بنوعيه، القتال والإنفاق في سبيله، ومقاومة الظالمين ومحاسبة المسؤولين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلت الصبر على ما قد يصيب الداعي لذلك من أذى واضطهاد، من عزم الأمور، مما عزمه الله وأوجبه على عباده المسلمين وفي مقدمتهم السادة العلماء، واعتبرت هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة السكوت عن ذلك وترك هذا الواجب هو الهلاك بعينه والتهلكة نفسها. وسيجد القارئ الكريم صوراً من الحوادث والمواقف التي قام بها علماء السلف الصالح مع حكامهم، فأظهروا فيها عزة الإسلام وقوة الإيمان، كما أثبتوا فيها أنهم حقاً من العلماء الرجال، الذين لا يخيفهم بطش حاكم ولا إرهاب سلطان، ولا قوة جند ولا ظلام سجون أو معتقلات. كل ذلك سيجده القارئ في الفصول التالية.

العلماء يحاكمون الحكام

أراد الله سبحانه وتعالى، لدينه الإسلام، أن يكون نظاماً عالمياً للحياة، وعقيدة خالدة للبشر لإسعادهم إلى قيام الساعة، فجعل فيه سلطاناً، ليقوم بتطبيق نظامه ونشر عقيدته في العالم، ورعاية شؤون الناس على أساسه. وإن هذا السلطان جعله الله تعالى للأمة، ولكن الأمة بمجموعها لا يمكن أن تتولى هذا السلطان، لذلك فإنها تختار منها رجلاً ليقوم بهذا السلطان نيابة عنها، ثم إن الله تعالى أبقى للأمة بمجموعها حق محاسبة هذا الرجل الذي تولى السلطان عنها، وأولته أمرها، إن قصّر في رعاية شؤونها، أو حاد عن أحكام الإسلام في تطبيقه ونشره. ولم يكتف الإسلام بجعل هذه المحاسبة حقاً للأمة، تكون مخيرة في القيام به أو تركه، بل جعله فرضاً عليها، وجعل ذلك على علماء الأمة فرض عين –لأنهم قادة الأمة الحقيقيون والثلة الواعية فيها والقائمة على أمر الدين والمبلغة لأحكامه والداعية إليه- فقال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)( ). وهل إنكار المنكر إلا المحاسبة؟ والأمر بالمعروف إلا النصيحة القائمة على دعوة الخير والخير هو اتباع القرآن الكريم والسنة المطهرة، كما يقول الإمام محمد الباقر رضي الله عنه ناقلاً ذلك عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم( ). كما رتب الإسلام عقاباً ينزله على من لم يقم بهذا الغرض أو ينفذ ذاك الواجب، فهدد وأنذر وتوعد، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير بقول ولا فعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)( ). فمصير الحاكم الظالم دخول النار، بسخط الله تعالى يوم القيامة، ومثله مصير من لم يحاسبه أو يقوم بالإنكار عليه، وقال عليه الصلاة والسلام: (لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعنكم كما لعن بني إسرائيل)( ). وبشر رسول الله بعاقبة الذين يحاسبون الحكام وينكرون عليهم كلما لزم ذلك بأنهم من زمرة الشهداء، بل من أسيادهم فقال عليه الصلاة والسلام: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله)( ). وفوق كون هؤلاء ينجون من عذاب الله وشدة عقابه فقال تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)( ). وجعل الله سبحانه وتعالى خيرية هذه الأمة محققة بأداء هذا الواجب فقال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)( ). فخيرية هذه الأمة ملازمة لها ما أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر ودعت إلى الله وحده وإلا فلا. وقد فهم الحكام الصالحون من سلف هذه الأمة، هذا الحق وآمنوا به، كما أدركوا هذا الغرض واعتقدوا به، فسمحوا للقيام بهذا الحق وأداء هذا الغرض من غير حد أو تحديد، بل نجد منهم من يطلب بنفسه من الأمة أن تحاسبه على كل عمل وتصرف وتقومه في كل خطأ قد يصدر منه، ما داموا مخلصين يبتغون وجه الله في حكمهم وسلطانهم، فهذا خليفة رسول الله أبو بكر الصديق رضوان الله عليه يقول عندما استلم الحكم: (... فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم...)( ). وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومه)( ) وهل هذا التقويم إلا المحاسبة؟؟ والإسلام أوجب على الحاكم الذي يتولى أمر المسلمين أن يسمع لمن يحاسبه وأن يفسح صدره لذلك، كما أمره أن يخضع لهذه المحاسبة إن كانت موافقة لأحكام الإسلام ومنعه من أي عقاب يفرضه على أي فرد من أجل هذه المحاسبة ولو جاءت شديدة والقول فيها غليظاً. ولنسمع جواب ذلك الأعرابي لطلب عمر في تقويمه (والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا) فيؤمن عمر لقوله ويحمد الله مسروراً من هذا الجواب (الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوّم عمر بسيفه)( ) فسيدنا عمر يرضى بتقويم اعوجاجه وتصحيح خطئه بالسيف نعم بالسيف، وحكام اليوم وعبيدهم لا يرضون بتقويم اعوجاجهم بالكلام نعم بالكلام، فتأمل يا أخي. وقال آخر إليه (اتق الله يا عمر) فأجابه أحد الحاضرين أتقول هذا لأمير المؤمنين، ولكن سيدنا عمر نهره بتلك القولة التي صارت مثلاً لكل حاكم صالح (لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها)( ). وأوصى أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه جميع ولاته أن يقبلوا محاسبة من حاسبهم ما دام في تلك المحاسبة طاعة الله فقال (.. فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه وتجنب من يرديه وأصاب السلامة ببصر من بصره وطاعة هادٍ أمره)( ). وأغلظ رجل على أمير المؤمنين معاوية في الكلام فقيل له (أتحلم على مثل هذا فقال إني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لا يحولوا بيننا وبين سلطاننا)( ). وبعد: فهذه حوادث من سيرة العلماء في العهد الإسلامي تبين صوراً صادقة وتجسد المواقف في محاسبة العلماء للحكام. .. كانت من جملة غنائم المسلمين، أبراد إيمانية، فقام أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يقسم هذه الغنائم بالعدل، وقد أصابه منها برد: كما أصاب ابنه عبد الله مثل ذلك، كأي رجل من المسلمين، ولما كان سيدنا عمر بحاجة إلى ثوب وهو الطويل في الجسم، فقد تبرع له عبد الله ببرده، ليصنع منها ثوباً يكفيه، ثم وقف يخطب الناس وعليه هذا الثوب، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله (أيها الناس اسمعوا وأطيعوا..) فوقف له سلمان الفارسي الصحابي الجليل ليحاسبه فقال له: (لا سمع لك علينا ولا طاعة)، فقال سيدنا عمر ولمَ؟ قال سلمان (من أين لك هذا الثوب وقد نالك برد واحد وأنت رجل طوال؟) فقال: (لا تعجل) ونادى (يا عبد الله) فلم يجبه أحد فقال: (يا عبد الله بن عمر) فقال (لبيك يا أمير المؤمنين) قال: (ناشدتك الله البرد الذي ائتزرت أهو بردك ؟ فقال اللهم نعم: قال سلمان الآن مر نسمع ونطع)( ). إن قال قائل هذا عمر وهو نسيج وحده وذاك سلمان وهو الصحابي الجليل قلنا إذن اسمع. وقف أمير المؤمنين معاوية يوماً على منبره، بعد أن قطع بعض الأعطيات المالية عن أفراد المسلمين. فقال: اسمعوا وأطيعوا فقام إليه أبو مسلم الخولاني ليحاسبه عن هذا التصرف الخاطئ، فقال لا سمع ولا طاعة يا معاوية، قال ولمَ يا أبا مسلم، فقال: يا معاوية كيف تمنع العطاء وإنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك، فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال للحاضرين مكانكم، وغاب ساعة عن أعينهم ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني سمعت رسول الله يقول: (الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحد فليغتسل)( ) وإني دخلت فاغتسلت، وصدق أبو مسلم إنه ليس من كدي ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم( ). وإن قال قائل هذا معاوية وهو المشهور بالحلم وذاك أبو مسلم ولا زالت الأمة بخير حكاماً ومحكومين، قلنا إذن اسمع: قال الإمام سفيان الثوري: لما حج المهدي –أبو جعفر المنصور- قال لا بد لي من سفيان، فوضعوا لي الرصد حول البيت فأخذوني بالليل، فلما مثلت بين يديه أدناني، ثم قال لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمرنا، فما أمرتنا من شيء صرنا إليه، وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه، فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟ قال لا أدري لي أمناء ووكلاء، قلت فما عذرك غداً، إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما حج قال لغلامه كم أنفقت في سفرنا هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر ديناراً فقال ويحك أجحفنا بيت مال المسلمين( ) وقد علمت ما حدثنا به منصور بن عمار وأنت حاضر ذلك وأول كاتب كتبه في المجلس، عن إبراهيم عن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( رب متخوض في مال الله ومال رسول الله فيما شاءت نفسه له النار غداً )( )، فيقول أبو عبيد الكاتب أحد متزلفي الحاشية، أمير المؤمنين يستقبل بمثل هذا؟ فيجيبه سفيان –بقوة المؤمن وعزة المسلم- اسكت إنما أهلك فرعون هامان وهامان فرعون( ). وإن قال آخرون –هذا المهدي وذاك سفيان كبير علماء عصره، والرأي العام لا زال إسلامياً يسمع هذا ويؤيده ولا يجد غرابة في ذلك. قلنا إن شعلة الإيمان لا زالت تضيء قلوب العلماء في عصور عديدة وهم لا زالوا يدركون مهمتهم في الحياة، وإن كان بعض الحكام يومئذ قد أصابهم بعض التنكب عن جادة الحق فتضيق صدورهم لمحاسبة العلماء لهم. ولكن بأي شيء كانوا يقابلون تلك المحاسبة، هذا ما يختلف فيه الحكام، ويتفاوتون فيه تبعاً لتفاوت إيمانهم بالإسلام. فلنسمع: لقد أقبل الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله على عمارة الزهراء أيما إقبال وأنفق من أموال الدولة في تشييدها وزخرفتها ما أنفق وهي في حقيقة حالها مجموعة من القصور الفاخرة وكان يشرف بنفسه على شؤون البناء والزخرفة حتى شغله ذلك ذات مرة عن شهود صلاة الجمعة. وكان منذر بن سعيد يتولى خطبة الجمعة والقضاء، ورأى خروجاً من تبعة التقصير فيما أوجبه الله على العلماء، أن يلقي على الخليفة الناصر درساً بليغاً يحاسبه فيه على إسراف إنفاقه في مدينة الزهراء، ورأى أن يكون ذلك على ملاء من الناس في المسجد الجامع بالزهراء. فلما كان يوم الجمعة اعتلى المنبر والخليفة الناصر حاضر والمسجد غاص بالمصلين وابتدأ خطبته قارئاً قول الله تعالى (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ( ) آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)( ) حتى وصل إلى قوله (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى)( ) ثم مضى في ذم الإسراف على البناء بكل كلام جزل وقول شديد ثم تلا قوله تعالى (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)( ) وراح يحذر وينذر ويحاسب حتى ادّكر من حضر من الناس وخشعوا وأخذ الناصر من ذلك بأوفر نصيب، وقد علم أنه المقصود به فبكى وندم على تفريطه. غير أن الخليفة لم يتحمل صدره لتلك المحاسبة العلنية ولشدة ما سمع، فقال شاكياً لولده الحكم والله لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري، فأسرف علي وأفرط في تقريعي.. ثم استشاط غيظاً عليه، متذكراً كلماته، وأراد أن يعاقبه لذلك!! فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة جمعة، وجعل يلزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع قرطبة. تلك هي عقوبة الخليفة الناصر –أن لا يصلي خلف منذر في صلاة الجمعة- لذلك الخطيب الذي تجاوز الحد في الكلام..!! ولكن لما رأى ولده الحكم تعلق والده بالزهراء والصلاة في مسجدها العظيم قال له: (فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة به إذ كرهته؟ ولكن الناصر زجره قائلاً: (أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه (لا أم لك) يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعاً مثل منذر في ورعه وصدقه ولكن أحرجني فأقسمت ولوددت أني أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي –منذر- بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله فما أظننا أنا نعتاض عنه أبداً)( ). وهذا الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى، يقف على منبره محاسباً المقتفى لأمر الله ومنكراً عليه تولية يحيى بن سعيد المشهور بابن المزاحم الظالم، القضاء، فقال مخاطباً له: وليت على المسلمين أظلم الظالمين، فما جوابك غداً عند رب العالمين أرحم الراحمين. فارتعد الخليفة وعزل المذكور لوقته( ). تولى العز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء، خطابة جامع دمشق من قبل الملك الصالح إسماعيل، في ربيع سنة 637هـ. ولكن لم يدم هذا المنصب للعز طويلاً، إذ عزل منه في سنة 638هـ أثر محاسبة العز رحمه الله تعالى للملك إسماعيل في حادثة الخيانة السياسية المشهورة، لأن العز لم يرض أن تدنس قدسية منبر الجامع التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالمداهنة والسكوت على الحق. فكان جزاؤه أن عزل وحبس. وإليك الحادثة بالتفصيل: ... يذكر المؤرخون الثقاة، أن الملك إسماعيل، خاف من نجم الدين بن أيوب حاكم مصر، فتحالف مع الإفرنج الصليبيين ليساعدوه على نجم الدين، وسلم إليهم لقاء هذه المساعدة قلعة صفد وبلادها وقلعة الشقيف وبلادها، ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالها، جبل عامل وسائر بلاد الساحل( ) وكانت مواقع مهمة، وزيادة على ذلك، أذن الملك إسماعيل للفرنج في دخول دمشق وشراء السلاح( )، ولكن العز لم يكتف بتلك الفتوى، بل حاسب الملك إسماعيل على فعلته المذكورة هذه، من على المنبر في يوم الجمعة وذم الملك على هذه الخيانة وكشف خطورتها للأمة، وقع من الخطبة الدعاء له، وكان الدعاء يومئذ للسلطان رمز الولاء والطاعة له، وصار يدعو في الخطبة بدعاء منه: (...اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أولياؤك، وتذل فيه أعداؤك، ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك)، والناس يضجون بالدعاء. وكان الملك إسماعيل غائباً عن دمشق فأخبر بذلك فورد كتابه بعزل العز بن عبد السلام عن الخطابة واعتقاله، ولما قدم إلى دمشق أفرج عنه، وجعل عقابه بالإقامة الجبرية بداره، وأن لا يفتي الناس( ). وهذا شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، بموقفه الرائع من محاسبة غازان التتري، وهو رابع ملك مسلم من التتار.

.. وردت الأنباء في أواخر سنة 698هـ بزحف غازان التتري وجيشه من إيران نحو حلب، وفي وادي سلمية يوم 27 ربيع الأول سنة 699هـ التقى جمع غازان بجمع الناصر بن قلاوون، وبعد معركة حامية الوطيس هزم جمع الناصر وولى الجند وأمراؤهم الأدبار، ونزع أعيان دمشق إلى مصر يتبعون سير الناصر، حتى خلت دمشق من حاكم أو أمير أو أعيان البلاد، ولكن شيخ الإسلام بقي صامداً مع عامة الناس، فاجتمع شيخ الإسلام مع من بقي من أعيان البلاد، واتفق معهم على تولي الأمور وأن يذهب هو على رأس وفد من الشام لمقابلة غازان، فقابله في بلدة النبك، وقد دارت بينهما مناقشة عنيفة، بل محاسبة شيخ الإسلام لغازان على تصرفه هذا ونكثه للعهد، وكلمه كلاماً قوياً شديداً، أشار إليه ابن كثير في تاريخه( ) وفصله كما سمعه من الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن عمر البالسي الذي كان من أعضاء وفد المقابلة.

قال البالسي : (إن الشيخ ابن تيمية قال لغازان، وترجمانه يترجم كلام الشيخ: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا: فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك كانا كافرين، وما غزوا بلاد الإسلام بعد أن عاهدونا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت لابن تيمية مع غازان أمور قام بها ابن تيمية كلها لله وقال الحق ولم يخش إلا الله عز وجل.

ثم قرب غازان إلى الوفد طعاماً فأكلوا إلا ابن تيمية، فقيل له: ألا تأكل؟ فقال كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟ وغازان مصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه، وإن غازان من شدة مما أوقع في قلبه من الهيبة والمحبة، سأل من هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله، ولا أثبت قلباً منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه، فأخبر بحاله، وما هو عليه من العلم والعمل ثم طلب منه غازان الدعاء، فقال الشيخ يدعو فقال اللهم إن كان عبدك هذا إنما يقاتل لتكون كلمتك العليا، وليكون الدين كله لك، فانصره وأيده، وملكه البلاد والعباد، وإن كان قد قام رياء وسمعة وطلباً للدنيا ولتكون كلمته هي العليا وليذل الإسلام وأهله، فأخذ له وزلزله ودمره وأقطع دابره، وغازان يؤمن على دعائه، ويرفع يديه –قال البالسي- فجعلنا نجمع ثيابنا خوفاً من أن تتلوث بدم ابن تيمية إذا أمر بقتله، فلما خرجنا من عنده قال قاضي القضاة نجم الدين وغيره، كدت أن تهلكنا وتهلك نفسك والله لا نصحبك من هنا، فقال وإني والله لا أصحبكم –قال البالسي- فانطلقوا عصبة، وتأخر هو في خاصة نفسه ومعه جماعة من أصحابه، فتسامعت به الخواتين والأمراء أصحاب غازان فأتوه يتبركون بدعائه وهو سائر إلى دمشق، ووالله ما وصل إلى دمشق إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه وكنت أنا من جملة من كان معه، وأما أولئك الذين أبوا أن يصحبوه فخرج عليهم جماعة من التتار فشلحوهم –أي سلبوهم ثيابهم وما معهم-) أهـ( ). تلك صور من مواقف محاسبة العلماء للحكام، وذاك هو حكم الإسلام، في وجوب محاسبة الحكام، وفي عقابه الله تعالى لمن لم يقم به: أو لم يفسح المجال له، وقد تمسك المسلمون بذلك –حكاماً ومحكومين- وقاموا به خير قيام كما أسلفنا.


إن محاسبة الحكام بالإنكار على أعمالهم المخالفة للشرع، أو أقوالهم المتناقضة مع الإسلام، لا تعني مطلقاً الإساءة إلى أشخاصهم، لأن كل إنسان سوى النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، معرض للخطأ والضلال، فالإنكار عليهم بمحاسبتهم تصلحهم وتقوّم اعوجاجهم، والسعيد من وعظ فاتعظ وحوسب فاستقام. ولكن الكافر المستعمر، لما استطاع أن يقضي على الدولة الإسلامية وإزالة نظام الخلافة من الوجود، جاء على أثر ذلك بحكام من أبناء المسلمين باسم المسلمين، لا ليحكموهم بالإسلام، ولكن ليحكموهم بغيره.. وإذا طالب المسلمون بإسلامهم، وحاسب العلماء حكامهم، تجهمت الوجوه وتقطبت العيون، وضاقت الصدور، وغضبت النفوس.. لم كل ذلك يا قوم؟؟ والإسلام دين الله الذي ارتضاه للناس، عبادة وأخلاقاً ودولة وحكما، وتشريعاً وأنظمة، لسائر شؤون الحياة، والحكام قد تولوا أمر المسلمين، والمسلمون أهل البلاد..؟؟ وقد قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)( ). وقد يتساءل البعض قائلاً، لما لا يُمكّن دعاة الإسلام من محاسبة حكامهم والكفاح في سبيل دينهم سياسياً، وحكام البلاد الإسلامية ومنها العربية يدعون إلى الديمقراطية ويطبقونها كذاك.. ومن مفاهيمها حرية الرأي التي منها النقد كذا.. وجواب ذلك عند الراسخين في العلم، وعند النابهين من الأمة عند الحكام أنفسهم؟!

الحكام يسألون العلماء

الجواب على الأسئلة من واجبات العلماء، والزوغان في الجواب من علامات النفاق والساكت عنه والكاتم له، ملعوناً ومطروداً من رحمة الله. وهو شيطان أخرس، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)( )، وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام (الساكت عن الحق شيطان أخرس)( ). والجرأة في الجواب الموصوفة بالصدق من أمارات الإيمان، وبالأخص إذا كان السائل حاكماً. والقصد من الجواب الإرشاد إلى الحق، وبيان وجه العدل للسائل، وقد ذكر الإمام الغزالي –رحمه الله تعالى- في إحيائه طرقاً لذلك، أذكر منها ما يخص أجوبة العلماء للحكام. 1- التخمين في الجواب والإغلاظ فيه (فإن كان هذا النوع من الإرشاد يخاف منه غضبة الحاكم فتحدث فتنة يتعدى شرها وسوؤها على الآخرين لم يجز سلوك هذا الطريق، وإن هذا النوع لا يخاف إلا على نفس العالِم فجائز ومندوب، لأن علماء السلف كانوا يستعملون ذلك، وهم يدركون أنهم بسلوك هذا الطريق يتعرضون للأذى أو القتل أو لأنواع العذاب، لأنهم كانوا يعدون هذا شهادة في سبيل الله وأذى في سبيله ينالون الأجر العظيم والمنزلة السامية عند الله، لقوله صلى الله عليه وسلم (خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك)( ) وليس في ذلك تهلكة ولا هو دخل في معنى قوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)( ) كما أشرنا إلى ذلك في فصل سابق( ) ووصف النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب (قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم)( ) . ( ) يقول الإمام الغزالي في إحيائه (ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار، قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك ومحتملين أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله)( ). وهذه صور رائعة في أجوبة العلماء للحكام تبرز صلابتهم في التمسك بدينهم ولو أدى إلى فقدان المهج والأرواح. ولنضرب أمثلة لذلك: ..جيء بالعالم حطيط الزيات إلى الحجاج، فلما دخل عليه قال: أنت حطيط؟ قال: نعم. قال حطيط: سل عما بدا لك فإني عاهدت الله عند المقام( ) على ثلاث خصال إن سئلت لأصدقن وإن ابتليت لأصبرن وإن عوفيت لأشكرن. قال الحجاج فما تقول فيّ؟ قال: أقول فيك أنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة، قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، قال: أقول أنه أعظم جرماً منك، وإنما أنت خطيئة من خطاياه، فأمر الحجاج أن يضعوا عليه العذاب، فانتهى به العذاب إلى أن شقق له القصب، ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال، ثم جعلوا يمدون –يسلتون- قصبة قصبة، حتى انتحلوا لحمه، فما سمعوه يقول شيئاً، فقيل للحجاج إنه في آخر رمق، فقال أخرجوه فارموا به في السوق، قال جعفر –وهو الراوي- فأتيته أنا وصاحب له، فقلنا له: حطيط ألك حاجة؟ قال: شربة ماء، فأتوه بشربة ثم استشهد، وكان عمره ثماني عشرة سنة رحمه الله( ). شهادة في سبيل الله نالها حطيط وتلك مظلمة للحجاج يبوء بإثمها وعليه عقابها الشديد يوم يجتمع الخصوم عند مليك مقتدر عادل. لما دخل عبد الله بن علي دمشق، بعد أن أجلى بني أمية عنها، طلب الأوزاعي، فتغيب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه، قال الأوزاعي: "دخلت عليه وهو على سرير وفي يديه خيزرانة، والمسودة عن يمينه وشماله، معهم السيوف مصلتة، والغمد والحديد، فسلمت عليه فلم يرد، ونكث بتلك الخيزرانة التي في يده ثم قال: "يا أوزاعي ما ترى فيما صنعناه من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد، والبلاد؟ أجهاداً ورباطاً هو؟" فقلت "أيها الأمير سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول، سمعت محمد بن إبراهيم التميمي يقول، سمعت علقمة بن وقاص يقول، سمعت عمر بن الخطاب يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات وإن لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"( ). فنكث بالخيزرانة أشد ما ينكث، وجعل مَن حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: "يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة"( ). فنكث بها أشد من ذلك، ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ قلت: "إن كانت في أيديهم حراماً فهي حرام عليك أيضاً، وإن كانت حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعي" فنكث أشد ما كان ينكث قبل ذلك ثم قال: "ألا نوليك القضاء؟". قلت: "إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك وإني أحب أن يتم ما ابتدأوني به من الإحسان". فقال: "كأنك تحب الانصراف؟" قلت: إن ورائي حرماً، وهن يحتجن إلى القيام عليهن وسترهن، وقلوبهن مشغولة بسببي. انتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف( ). روي أن أبا جعفر المنصور استدعى ابن طاوس أحد علماء عصره، ومعه مالك بن أنس رحمهما الله تعالى فلما دخلا عليه، أطرق ساعة ثم التفت إلى ابن طاوس، فقال له: حدثني عن أبيك يا ابن طاوس (ابن كيسان التابعي) فقال حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله)( ) فأمسك ساعة، قال مالك فضممت ثيابي مخافة أن يملأني من دمه، ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا ابن طاوس: قال نعم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)( ) قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأني من دمه، فأمسك عنه ثم قال: ناولني الدواة، فأمسك ساعة حتى اسود بيننا وبينه ثم قال: يا ابن طاوس ناولني هذه الدواة، فأمسك عنه، فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ فقال أخشى أن تكتب بها معصية لله، فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني، قال ابن طاوس ذلك ما كنا نبغي منذ اليوم، قال مالك فما زلت أعرف لابن طاوس فضله( ) مع شدة هذه الموعظة ورد طلب المنصور بهذا الأسلوب العنيف أجاب المنصور معاتباً: قوما عني. قال القعقاع بن حكيم: كنت عند المهدي وأتي بسفيان الثوري كبير علماء المسلمين في عصره، فلما دخل عليه سلم ولم يسلم بالخلافة، والربيع قائم على رأسه متكئاً على سيفه يرقب أمره، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق وقال له: يا سفيان تفر ههنا وههنا وتظن أن لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ فقد قدرنا عليك الآن. أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ قال سفيان: إن تحكم فيّ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع له: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ أتأذن لي أن أضرب عنقه، فقال له المهدي، اسكت ويلك وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى لسعادتهم، اكتبوا عهده على قضاة الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم، فكتب عهده ودفعه إليه، فأخذه وخرج ورمى به في دجلة، وغاب عن أنظار الناس فطلب في كل بلد، فلم يوجد فعين مكانه شريك النخعي( ). هؤلاء الحكام كانوا يدركون ما يقولون ويؤمنون بما ينطقون بأن قتل العالم شقاء يحصل عليه القاتل وسعادة ينالها المقتول. قال الفضل بن الربيع: كنت بمنزلي ذات يوم وقد خلعت ثيابي وتهيأت للنوم، فإذا بقرع شديد على بابي فقلت في قلق من هذا، قال الطارق: أجب أمير المؤمنين، فخرجت مسرعاً أتعثر في خطوي فإذا بالرشيد قائماً على بابي وفي وجهه تجهم حزين، فقلت يا أمير المؤمنين: لو أرسلت إليّ أتيتك فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء أطار النوم من أجفاني وأزعج وجداني شيء لا يذهب به إلا عالم تقي من زهادك، فانظر لي رجلاً أسأله. ثم يقول الربيع حتى جئت به إلى الفضل بن عياض، فقال الرشيد امض بنا إليه، فأتيناه، وإذا هو قائم يصلي في غرفته وهو يقرأ قوله تعالى (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)( ) ( ) فقال الرشيد إن انتفعنا بشيء فبهذا، فقرعت الباب، فقال الفضل: من هذا؟ قلت أجب أمير المؤمنين، فقال: ما لي ولأمير المؤمنين، فقلت: سبحان الله أما عليك طاعته؟ فقال: أو ليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس للمؤمن أن يذل نفسه)( ) فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف الرشيد كفي إليه، فقال أواه من كف ما الينها إن نجت من عذاب الله تعالى. قال الربيع: فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فقال الرشيد: خذ فيما جئناك له يرحمك الله، قال الفضل بن عياض وفيما جئت وقد حملت نفسك ذنوب الرعية، التي سمتها هوانا وجميع من معك من بطانتك وولاتك تضاف ذنوبهم يوم الحساب، فبك بغوا وبك جاروا وهم مع هذا أبغض الناس لك وأسرعهم فراراً منك يوم الحساب، حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم، أن يحملوا عنك سقطاً –جزءاً- من ذنب ما فعلوه، ولكان أشدهم حباً لك أشدهم هرباً منك ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب ورجاء بن حياة –وهم ثلاثة من العلماء الصالحين- قال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليّ، فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك فيها الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبا وأوسطهم عندك أخاً وأصغرهم عندك ابناً، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك. وقال رجاء بن حياة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك وأكره لهم ما تكره لنفسك ثم مت إن شئت. وإني أقول لك: يا هارون إني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام، فبكى هارون. قال ابن الربيع: فقلت أرفق بأمير المؤمنين، فقال: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟ ثم قال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة)( ) فبكى الرشيد ثم قال: هل عليك دين؟ فقال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قال الرشيد: إنما أعني دين العباد فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا وقد قال عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)( ). فقال الرشيد: هذه ألف دينار خذها وأنفقها على عيالك وتقوّ بها على عبادتك، قال: سبحان الله، أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟ قال ابن الربيع: فخرجنا من عنده، فقال هارون: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين اليوم( ). وكيف لا يكون سيد المسلمين في زمانه وهو القائل: لو زهد العلماء في الدنيا خضع لهم الجبابرة. نعم هذا سيد المسلمين اليوم، لصدق حديثه وقوة إيمانه وزهده العظيم في الحياة وصلابة موقفه مع أمير المؤمنين الذي جاءه ملتمساً التذكر فاستمع باكياً وخرج شاكراً. أدخل على أبي جعفر المنصور، العالم الجليل سفيان الثوري، وسأله أن يرفع إليه حاجته، فأجابه: اتق الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجوراً، فطأطأ المنصور رأسه ثم عاد عليه السؤال، فأجابه: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم. فطأطأ المنصور شاكراً ثم كرر السؤال، ولكن سفيان تركه وانصرف( ). حين قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وهو يريد مكة، أرسل إلى عالمها الجليل أبي حازم فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، فقال سليمان: يا أبا حازم، كيف القدوم على الله؟ قال: يا أمير المؤمنين، أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان، وقال: ليت شعري ما لي عند الله؟ قال أبو حازم: أعرض نفسك على كتاب الله تعالى، حيث قال: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)( ). قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريباً من المحسنين، قال: يا أبا حازم، أي عباد الله أكرم؟ فقال: أهل البر والتقوى، قال: فأي الأعمال أفضل؟ فقال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم، قال: أي الكلام أسمع؟ فقال: قول الحق عند من تخاف وترجو. قال: فأي المؤمنين أخسر؟ فقال: رجل خطأ في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره، قال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه؟ فقال: أوتعفيني؟ قال: لا بد فإنها نصيحة تلقيها إلي. فقال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضا منهم، حتى قتلوا منهم مقتله عظيمة وقد ارتحلوا عنها، فلو شعرت بما قالوا وما قيل لهم. فقال رجل من جلسائه: بئسما قلت. قال أبو حازم: إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبينه للناس ولا يكتمونه( ). أسمعت يا أخي مقالة الشيخين الجليلين سفيان وأبي حازم لخليفتين المنصور وسليمان بأيديهما كل أسباب القوة وهل علمت نتيجة صدق الجواب، وخشونة الكلام وقسوة اللفظ عند من يخشى الله تعالى ولو ساعة من نهار. دعا عمر بن هبيرة فقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة، وأهل الشام، فجعل يسألهم واحداً واحداً، ثم طلب منهم الانصراف وخلا بالشعبي عالم أهل الكوفة، وبالحسن البصري عالم أهل البصرة، فأقبل على الشعبي فقال: يا أبا عمرو: إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها، ورجل مأمور على الطاعة، ابتليت بالرعية ولزمني حقهم، فأنا أحب حفظهم وأتعهد ما يصلحهم مع النصيحة لهم، وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم فيه، فأقبض طائفة من عطائهم، فأضعه في بيت المال، ومن نيتي أن أرده عليهم، فيبلغ أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو، فيكتب إليّ أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا إنفاذ كتابه، وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة، فهل عليّ في هذا تبعة؟ وفي أشباهه من الأمور، والنية فيها على ما ذكرت. قال الشعبي: فقلت أصلح الله الأمير، إنما السلطان والد يخطئ ويصيب، قال: فسر بقولي وأعجب به، ورأيت البشر في وجهه، وقال: فلله الحمد، ثم أقبل على الحسن، فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ قال: لقد سمعت قول الأمير يقول: إنه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها، ورجل مأمور على الطاعة، ابتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم. والتعهد بما يصلحهم، وحق الرعية لازم له وحق عليك أن تحوطهم بالنصيحة، وإني سمعت عبد الرحمن بن سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة)( )، ويقول الأمير إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم، وأن يرجعوا إلى طاعتهم فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو، فيكتب إلي أن لا ترده، فلا أستطيع رد أمره، ولا أستطيع إنفاذ كتابه، وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين، والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله تعالى فإن وجدته موافقاً لكتاب الله فخذ به وإن وجدته مخالفاً لكتاب الله فانبذه، يا ابن هبيرة، اتق الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب العالمين، يزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، فتدع سلطانك ودنياك خلف ظهرك، وتقدم إلى ربك وتنزل على عملك. يا ابن هريرة: إن الله ليمنعك من يزيد وإن يزيداً لا يمنعك من الله وإن أمر الله فوق كل أمر، وإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، وإني أحذرك بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين. فقال ابن هبيرة: أربع على ظلعك، وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين، فإن أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحكم، وصاحب الفضل، وإنما ولاه الله ما ولاه من أمر هذه الأمة، لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته، فقال الحسن: يا ابن هبيرة: الحساب من ورائك سوط بسوط، وغضب بغضب والله بالمرصاد. يا ابن هبيرة: إنك إن تلق من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلق رجلاً يغرنك ويمنيك، فقام ابن هبيرة وقد بسر وجهه وتغير لونه. قال الشعبي فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف، وما شهدنا مشهداً إلا برز علينا، وقال لله تعالى، ثم قال الشعبي: أنا أعاهد الله أن لا أشد سلطاناً بعد هذا المجلس فأحابيه( ).. لا عجب من موقف هذا الإمام، فهو من جُل التابعين وصلحاء المؤمنين وزهاد العلماء، ولكن إن تعجب فاعجب من أمثال ابن هبيرة عامل يزيد بن معاوية لذلك الكلام الشديد. أرأيت موقف هؤلاء الحكام مع ظلمهم؟! مع سادة العلماء وأئمة المسلمين. .. عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، قال حدثني عمي محمد بن علي قال: إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، وفيه ابن أبي ذؤيب، وكان والي المدينة الحسن بن زيد قال: فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئاً من أمر الحسن بن زيد، فقال الحسن هذا، يا أمير المؤمنين: سل عنهم ابن أبي ذؤيب قال: فسأله فقال: ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب، فقال: اشهد أنهم تحطم في أعراض الناس، كثير الأذى عليهم، فقال أبو جعفر قد سمعتم فقال الغفاريون: يا أمير المؤمنين سله عن الحسن بن زيد، فقال يا ابن أبي ذؤيب ما تقول في الحسن بن زيد، فقال أشهد أنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه، فقال سمعت يا حسن ما قال فيك وهو الشيخ الصالح، فقال يا أمير المؤمنين سله عن نفسك؟ فقال ما تقول فيّ؟ قال تعفيني يا أمير المؤمنين: قال أسألك بالله ألا أخبرتني، قال تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك، قال والله لتخبرني: قال أشهد أنك أخذت المال من غير حقه، فجعلته في غير أهله، وأشهد أن الظلم ببابك فاش، قال: فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه، ثم قال: أما والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم والديلم والترك، بهذا المكان منك، قال: فقال ابن أبي ذؤيب: يا أمير المؤمنين قد ولي أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم، وأصغر أنوفهم، قال فخلى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله، قال: والله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك. فقال ابن أبي ذؤيب والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك المهدي، قال فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لما انصرف من مجلس المنصور، لقيه سفيان الثوري فقال: يا أبا الحارث. لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار، ولكن ساءني قولك له (ابنك المهدي) فقال يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في المهد( ). بمثل هذه الصراحة المتناهية نطق العالم الجليل ابن أبي ذؤيب وبمثل هذا الجواب نطق المنصور مسبقاً جوابه بالقسم الأعظم "والله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك". لما اشتدت الجفوة بين الشيخ منذر بن سعيد والخليفة عبد الرحمن الناصر نتيجة محاسبة المنذر له في إسرافه على بناء الزهراء كما ذكرنا في الفصل السابق، أراد ولده الحكم أن يزبل ما بينهما فاعتذر له عند الخليفة فقال: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح وما أراد إلا خيراً، لو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك: ويريد بالبنية هنا القبة التي بناها الناصر بالزهراء واتخذ قراميدها من فضة وبعضها مغشى بالذهب وجعل سقفها نوعين صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة يستلب الأبصار شعاعها –فلما قال له ولده ذلك، أمر ففرشت بفرش الديباج، وجلس فيها لأهل دولته، ثم قال لقرابته ووزرائه، أرأيتم أم سمعتم ملكاً كان قبلي صنع مثل ما صنعت؟ فقالوا لا والله يا أمير المؤمنين، وإنك الأوحد في شأنك، فبينما هم على ذلك، إذ دخل منذر بن سعيد ناكساً رأسه، فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته، فأقبلت دموع المنذر تنحد على لحيته –لسوء ما رأى- وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكن، مع ما أتاك الله تعالى وفضلك به على المسلمين حتى ينزلك منازل الكافرين، فاقشعر الخليفة من قوله وقال له: انظر ما تقول كيف أنزلني الله منازلهم، فقال نعم: أليس الله تعالى يقول: (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)( ) فوجم الخليفة ونكس رأسه ملياً وجعلت دموعه تنحدر على لحيته ثم أقبل على المنذر، وقال له جزاك الله خيراً وعن الدين خيراً فالذي قلت هو الحق، ثم قام من مجلسه وأمر بنقض سقف القبة وأعاد قراميدها تراباً على صفة غيرها( ) وهكذا أرشد هذا الجواب الخليفة ولو كان الجواب مؤذياً حقاً، لأن الناصر من الذين يعتقدون بالإسلام ويطبقونه ومن المؤمنين بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)( ). لما ولي الرشيد الخلافة، زاره بعض العلماء مهنئين له، بما صار إليه من أمر الخلافة إلا أن سفيان الثوري كبير العلماء لم يزره، وكان هارون مؤاخياً له من قبل ذلك، ويجالسه ويستمع إليه، فاشتاق هارون إلى زيارة سفيان، ليخلو به ويحدثه، ولكن سفيان أعرض عن ذلك، فاشتد ذلك على هارون، فكتب إليه كتاباً يقول فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري. أما بعد، يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى، آخى بين المؤمنين، وجعل ذلك فيه وله، واعلم أني قد آخيتك مؤاخاة لم أصرم بها حبك ولم أقطع بها ودك وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا، لما أجد لك في قلبي من المحبة، واعلم يا أبا عبد الله إنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهناني بما صرت إليه، وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي، وقرت به عيني، وإني استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت إليك كتاباً شوقاً مني إليك شديداً، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل". فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده، فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته، فقال: عليّ برجل من الباب، فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني، فقال: يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة، فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم سل عن سفيان الثوري، فإذا رأيته فألق كتابي هذا إليه، وعِ بسمعك وقلبك جميع ما يقول، فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به، فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة فسأل عن القبيلة فأرشد إليها، ثم سأل عن سفيان، فقيل له: هو في المسجد. قال عباد: فأقبلت إلى المسجد فلما رآني قام قائماً وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال عباد: فوقعت الكلمة في قلبي فخرجت، فلما رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي، ولم يكن وقت صلاة، فربطت دابتي بباب المسجد ودخلت، فإذا جلساؤه قد نكسوا رؤوسهم، كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إليّ رأسه، وردوا السلام علي، فبقيت واقفاً فما منهم أحد يعرض عليّ الجلوس وقد علاني من هيبتهم الرعدة، ومددت عيني إليهم، فقلت إن المصلي هو سفيان، فرميت بالكتاب إليه، فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه، كأنه حية عرضت له في محرابه، فرجع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه فقلبه بيده، ثم رماه من كان خلفه، وقال: يأخذه بعضكم يقرؤه، فإني أستغفر الله أن أمسّ شيئاً مسه ظالم بيده، قال عباد فأخذه بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية تنهشه ثم فضه وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب، فلما فرغ من قراءته، قال: اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه. فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة، فلو كتبت إليه في قرطاس نقي، فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به، ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا، فقيل له: ما نكتب؟ قال: اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال، هارون الرشيد الذي سلب حلاوة الإيمان. أما بعد: فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودك وقلبت موضعك، فإنك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك، بما هجمت به على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه، وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك، أما أني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة عليك غداً بين يدي الله تعالى. يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله تعالى، والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والأرامل والأيتام، أم رضي بذلك خلق من رعيتك، فشد يا هارون مئزرك وأعد للمسألة جواباً، وللبلاء جلباباً، واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل، فقد رزئت في نفسك إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً وللظالمين إماماً إلى أن يقول: واعلم يا هارون أني قد نصحتك وما أبغيت في النصح غاية، فاتق الله يا هارون في رعيتك واحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته، وأحسن الخلافة عليهم. واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك، وهو صائر إلى غيرك، وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحداً بعد واحد، فمنهم من تزود زادا نفعه، ومنهم من خسر دنياه وآخرته وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته، فإياك إياك أن تكتب لي كتاباً بعد هذا فلا أجيبك عنه والسلام( )". تلك –يا أخي الكريم- صور واقعة وأحداث شاخصة، سجلها تاريخ علماء أمتك المجيدة بمداد من نور وإيمان، نور يضيء الطريق المدلهم الحالك، وإيمان يملأ القلوب بالخوف الشديد من الله وحده ولنيل رضوانه، اتبعها السادة العلماء، سالكين سلوك الغلظة في الجواب على أسئلة الحكام، وإنذارهم وتوعدهم بصريح العبارة وشدة الكلام، لإيقاظ الغافلين منهم عن ذكر الله، الآمنين مكره العظيم، ولإفهامهم أن في الدنيا رجالاً لا يخافون بطشهم، ولا يرهبون سلطانهم، وأنهم وجدوا من أجل الإسلام وحده. أما الحكام فقد استسلموا لعزة الإسلام وانقادوا طائعين أو مكرهين لأجوبة العلماء لأنهم يعرفون حق العلم وسلطانه ويؤمنون بوجوب توقير العلماء. أما الطريق الثاني الذي ذكره الإمام الغزالي في سلوك العلماء لجواب الحكام إذا سألوهم أو طلبوا منهم الكلام فهو: التلطف بالجواب من غير نفاق، والتعريض بالسائلين من غير جبن والتعريف بأحكام الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وإن كان الجواب لا يوافق أهواء الحكام أو لا يحقق رغباتهم. وهذا الطريق قد سلكه العلماء قديماً وحديثاً، وقد امتلأ تأريخهم الحافل بمثل هذه الحوادث وقد بلغت من الكثرة ما جعلني أختار منها ما أراه مناسباً، يثير العظة ويؤخذ منه العبرة، وهذا ما نقصده ونسعى إليه. .. قال مقاتل بن سليمان، دخلت على حماد بن سلمة، فإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس وفي يده مصحف يقرأ فيه، وجراب فيه علمه، ومطهرة يتوضأ منها، فبينما أنا جالس إذا دق الباب، فقال حماد: يا حبيبة اخرجي فانظري من هذا؟.. فقالت رسول محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة، فأذن له فدخل، فقال بعد أن سلم أما بعد: فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها والسلام. فقال: يا حبيبة هلم الدواة ثم قال لي: اقلب كتابه. واكتب أما بعد: فأنت صبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً فإن وقعت لك مسألة فأتنا وسل ما بدا لك، وإن أتيتني فلا تأتني بخيلك ورجلك فلا أنصحك ولا أنصح إلا نفسي والسلام. فبينما أنا جالس إذ دق الباب فقال: يا حبيبة أخرجي فانظري من هذا؟ قالت محمد بن سليمان قال: قولي له يدخل وحده، فدخل وجلس بين يديه ثم ابتدأ فقال: مالي إذا نظرت إليك امتلأت منك رعباً. قال حماد: حدثني ثابت البناني قال سمعت أنساً يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العالِم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء وإذا أراد به أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء)( )، فقال ما تقول رحمك الله في رجل له ابنان وهو عن أحدهما أرضى، فأراد أن يجعل له في حياته ثلثي ماله؟ فقال حماد : لا يفعل رحمك الله، فإني سمعت أنساً يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أراد الله أن يعذب عبداً من عباده في حياته وفقه إلى وصية جائرة)( ) فعرض عليه مالاً فلم يقبل وخرج.( ) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : (نعم الأمراء على أبواب العلماء وبئس العلماء على أبواب الأمراء)( ) فتأمل يا أخي هذا الحديث النبوي الكريم. انتفض أهل الموصل على أبي جعفر المنصور، وقد اشترط المنصور عليهم أنهم إن انتفضوا تحل دماؤهم له، فجمع المنصور الفقهاء وفيهم الإمام أبو حنيفة فقال: أليس صحيحاً أنه عليه السلام قال: (المؤمنون عند شروطهم)( ) وأهل الموصل قد شرطوا ألا يخرجوا عليّ وقد خرجوا على عاملي وقد حلت لي دماؤهم، فقال رجل منهم، يدك مبسوطة عليهم وقولك مقبول فيهم، فإن عفوت فأنت أهل للعفو وإن عاقبت فبما يستحقون. فقال لأبي حنيفة: ما تقول أنت يا شيخ ألسنا في خلافة نبوة وبيت أمان؟ فأجاب أنهم شرطوا لك ما لا يملكون (وهو استحلال دمائهم) وشرطت عليهم ما ليس لك، لأن دم المسلم لا يحل إلا بأحد معان ثلاث( ) فإن أخذتهم أخذت بما لا يحل، وشرط الله أحق أن توفي، فأمرهم المنصور بالقيام فتفرقوا ثم دعاه وحده وقال يا شيخ القول ما قلت انصرف إلى بلادك ولا تفت الناس بما هو شين على إمامك فتبسط أيدي الخوارج( ). امتنع المنصور بحكم الشرع الذي نطق به أبو حنيفة ولو أنه لم يوافق هوى نفسه ولم يستجب لرغبته الخاصة، إن الشرع فوق كل الميول والأهواء قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)( ). دخل أحدهم على سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان تكلم: فقال يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال: إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غشه، فكيف بمن نأمن غشه ونرجو نصحه، قال: يا أمير المؤمنين، إنه تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله تعالى ولم يخافوا الله فيك، حرب الآخرة سلم الدنيا، فلا تأمنهم على من ائتمنك الله عليه، فإنهم لم يألوا في الأمانة تضيعاً وفي الأمة خسفاً وعسفاً، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليس بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: أما إنك قد سللت لسانك وهو أقطع من سيفك، قال: أجل يا أمير المؤمنين ولكن لا عليك( ). نعم أجوبة العلماء للحكام هي للحكام أنفسهم لا عليهم وكيف لا وهي تعين درب النجاة من الوقوع في الأخطاء، والحاكم المسلم يعلم أن كل خطأ جالب للإثم يسيء إلى الرعية التي ولته أمرها ليحسن الرعاية بها. لما خرج الظاهر (بيبرس) إلى قتال التتار بالشام أخذ فتاوى العلماء بجواز أخذ مال من الرعية يستنصر به على قتالهم، فكتب له فقهاء الشام بذلك فأجازوه، فقال: هل بقي من أحد؟ فقيل له: نعم، بقي الشيخ محيي الدين النووي فطلبه فحضر فقال له: اكتب خطك مع الفقهاء. فامتنع، فقال: ما سبب امتناعك فقال: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير (بندقدار) وليس لك مال ثم منّ الله عليك وجعلك ملكاً، وسمعت عندك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة من ذهب وعندك مائتا جارية لكل جارية حق من الحلي، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليك بالبنود والصرف بدلاً من الحوائص، وبقيت الحواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية، فغضب (الظاهر) من كلامه وقال: اخرج من بلدي –يعني دمشق-، فقال: السمع والطاعة. وخرج إلى (نوى) فقال الفقهاء: إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن يقتدى به فأعده إلى دمشق، فرسم برجوعه، فامتنع الشيخ وقال: لا أدخلها والظاهر فيها، فمات بعد شهر( ). اعتذر الحاكم لأنه علم من هو النووي علماً وتقوى ولكن النووي رفض هذا الاعتذار بإباء وشمم ليعطي درساً بليغاً بأن الحكام يحرم عليهم الإساءة إلى مسلم وكيف للعالم ولو اتبعها بالاعتذار. (يقول صاحب كتاب من أخلاق العلماء، حدثني صديقي الكريم محمد فهمي الناضوري (باشا) عن أحمد افندي بدوي عن أبيه عن جده، وكان من شيوخ الأزهر في زمن الخديو اسماعيل. قال: لما وقعت الحرب بين مصر والحبشة وتوالت الهزائم على مصر لوقوع الخلاف بين قواد جيوشها، ضاق صدر الخديو لذلك، فركب يوماً مع شريف (باشا) وهو محرج، فأراد أن يفرج عن نفسه، فقال الشريف: ماذا تصنع حينما تلم بك ملمة تريد أن تدفعها؟ فقال: يا أفندينا، إن الله عودني إذا حاق بي شيء من هذا ألجأ إلى صحيح البخاري يقرؤه لي علماء أطهار الأنفاس، فيفرج الله عني. قال: فكلم الخديو شيخ الجامع الأزهر، وكان الشيخ العروسي، فجمع له صلحاء العلماء، جمعاً وأخذوا يتلون في البخاري أمام القبة القديمة في الأزهر، قال: ومع ذلك ظلت الهزائم تتوالى، فذهب الخديو ومعه شريف إلى العلماء، وقال لهم محنقاً: أما إن هذا الذي تقرؤونه ليس صحيح البخاري، أو إنكم لستم العلماء الذين نعهدهم من رجال السلف الصالح، فإن الله لم يدفع بكم ولا بتلاوتكم شيئاً، فوجم العلماء، وابتدره شيخ من آخر الصف يقول له: منك يا إسماعيل فإنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم )( ): فزاد وجود المشايخ وانصرف الخديو ومعه شريف، ولم ينبسا كلمة، وأخذ العلماء يلومون القائل ويؤنبونه، فبينما هم كذلك إذا بشريف باشا قد عاد يسأل: أين الشيخ القائل للخديو ما قال؟ فقال الشيخ: أنا. فأخذه وقام، وانقلب العلماء بعد أن كانوا يلومون الشيخ يودعونه وداع من لا يأملون أن يرجع، وسار شريف بالشيخ إلى أن دخلا على الخديو في قصره، فإذا به قاعد في البهو وأمامه كرسي أجلس عليه الشيخ، وقال له: أعد يا أستاذ ما قلته لي في الأزهر، فأعاد الشيخ كلمته وردد الحديث وشرحه، فقال له الخديو: وماذا صنعنا حتى ينزل بنا هذا البلاء؟ قال له: يا أفندينا، أليست المحاكم المختلطة حتى فتحت بقانون يبيح الربا؟! أليس الزنا برخصة؟! أليس الخمر مباحاً؟! أليس أليس، وعدّد له منكرات تجري بلا إنكار، وقال: كيف تنتظر النصر من السماء؟ فقال الخديو: وماذا نصنع وقد عاشرنا الأجانب وهذه هي مدنيتهم؟ قال الشيخ: إذن فما ذنب البخاري وما حيلة العلماء؟ ففكر الخديو ملياً وأطرق طويلاً ثم قال له: صدقت صدقت، وأمر فرتبت له في (الرزنامجة) ثلاثون جنيهاً، وعاد الشيخ بعد هذا إلى الأزهر، وإخوانه قد يئسوا منه فكأنما قد خلق جديداً( ). وهكذا يستجيب مثل هذا الحاكم لمقالة العالم الصادق ويتبع الاستجابة بالإكرام والتقدير.

العلماء ينصحون الحكام

يحرص العلماء الصالحون –دائماً- على إبداء النصيحة والموعظة الحسنة للحكام، حرصاً جعلهم يتحملون كل مشقة وأذى في هذا السبيل، ويبذلون كل جهدهم لتحقيق هذا المطلب الشرعي الكريم، لأن الدين النصيحة كما يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، (الدين النصيحة.. قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)( ) ولأن الله تعالى يقول: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ..)( ) وهل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف إلا نصيحة وموعظة حسنة.. وكانت النصيحة للحكام في مقدمة المنتصحين، لأن نصيحتهم وانتصاحهم فيه الخير كل الخير لهم ولمن يتولون أمرهم لذلك رأى جلة علماء السلف الصالح أن إبداء النصيحة للحكام، أجدى من الثورة عليهم والخروج على سلطانهم. حين لم يروا كفراً بواحاً أو إلحاداً في آيات الله تعالى، أو تغير أحكام الشرع، يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى (هم يلون من أمورنا الجمعة والفيء والثغور والحدود والله لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وإن ظلموا. والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون)( ). وقد أجاب الإمام مالك بن أنس عندما سئل عن قتال الخارجين على الخليفة، فقد قال قائل له: أيجوز فقال: إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز، فقال السائل: فإن لم يكن مثله فقال دعهم ينتقم الله من ظالم لظالم ثم ينتقم من كليهما( ) ثم يعلق الأستاذ الشيخ أبو زهرة على مقالة الإمام مالك هذه بقوله: ولسنا ندري في أي دولة قال هذا أفي الدولة الأموية أم في الدولة العباسية، ولعل الأقرب أن ذلك كان في عصر الدولة العباسية لأنه عصر نضج مالك –الفكري والفقهي- ولا يصلح أن يفهم من هذا أنه يوالي الأمويين دون العباسيين، فإن منطقه الذي سار عليه في حياته لا ينطق بذلك، ثم هو –رحمه الله تعالى- قد وضح الصورة (المثالية بين يدي سائله فقال إن كان الخليفة عمر بن عبد العزيز في تقواه وعدله وإقامة الحدود ورفقه بالناس، وإلا فليذروهم في غيهم يعمهون)( ) ويوضح هذا المعنى في تفضيل النصيحة للحكام الذين يسيئون في تطبيق الإسلام الموصوفين بالحكام الظلمة لا الكفرة الذين أعرضوا عن تطبيق الإسلام وتحكيم القرآن معتقدين بصحة هذا الإعراض– على الخروج عليهم، وقف الحسن البصري كبير العلماء في العصر الأموي، وقد سأله البعض عن الخارجين على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فأجاب (لا تكن مع هؤلاء ولا هؤلاء فقال رجل من أهل الشام، ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ فغضب وخط بيده ثم قال ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد. ولا مع أمير المؤمنين). ولم يكن هذا الموقف خاصاً بهذين الإمامين الجليلين بل هو موقف الإمامين سعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل وأضرابهما فاكتفى هؤلاء بالنصيحة وإبداء الموعظة الحسنة لحكامهم. تلك التي لم تخل من شدة في الكلام وتخويف بالله المنتقم الجبار، وها هي صور من هذه النصائح والمواعظ.. كتب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى رسالته الشهيرة، إلى هارون الرشيد، يعظه فيها وينصح وقد جاء في مقدمتها أما بعد: فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك فيه رشداً، ولم أدخر فيه نصحاً، تحميد الله وأدبا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتدبره بعقلك وردد فيه بصرك وارعه سمعك، ثم اعقله بقلبك، واحضر فهمك، ولا تغيبن عنه ذهنك، فإن فيه الفضل في الدنيا وحسن ثواب الله في الآخرة. اذكر نفسك في غمرات الموت، وكربة ما هو نازل بك منه، وما أنت موقوف عليه بعد الموت من العرض على الله سبحانه ثم الحساب ثم الخلود بعد الحساب، وأعد الله عز وجل ما يسهل عليك أهوال تلك المشاهد وكربها، فإنك لو رأيت سخط الله تعالى وما صار إليه الناس من ألوان العذاب وشدة نقمته عليهم، وسمعت زفيرهم في النار وشهيقهم مع كلوح وجوههم وطول غمهم وتقلبهم في دركاتها على وجوههم، ولا يسمعون ولا يبصرون، ويدعون بالويل والثبور، وأعظم من حسرة إعراض الله عنهم وانقطاع رجائهم وإجابته إياهم بعد طول الغم، بقوله: (اخسئوا فيها ولا تكلمون)( ). ثم قال له: لا تأمن على شيء من أمرك من لا يخاف الله، فإنه بلغني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال (شاور في أمرك الذين يخافون الله)( )، احذر بطانة السوء وأهل الردى على نفسك فإنه بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي ولا خليفة إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالاً( )..)( ) ثم قال: لا تجر ثيابك فإن الله لا يحب ذلك، فقد بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من جرّ ثيابه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)( ) أطع الله في معصية الناس ولا تطع الناس في معصية الله، فقد بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)( )، إلى آخر تلك الرسالة العظيمة الجريئة، التي احتوت على كل معاني الإيمان، والدعوة إلى التمسك بأحكام الإسلام وحدوده وآدابه، وهي موعظة حقاً تجل منها القلوب ونصيحة صادقة تذرف عليها العيون، وتقرب المسلم من ربه لتنال رضاه، إن انتصح بها، واستمع إليها، وجعلها موضع التطبيق والتنفيذ، وقد تقبلها الرشيد بقبول حسن –وشكر الإمام مالكاً عليها، وتلك من صفات الحاكم المسلم، ونستمع إلى نصيحة أخرى إليه، جاءت من الإمام أبي يوسف القاضي-. إذا لم يفت هذا القاضي الجليل من تقديم النصيحة للرشيد في مقدمة كتابه الخراج الذي وضعه بناء على طلب الرشيد جاء في مقدمة هذا الكتاب.. يا أمير المؤمنين: إن الله وله الحمد، قد قلدك أمراً عظيماً ثوابه أعظم الثواب وعقابه أشد العقاب، قلدك أمر هذه الأمة، فأصبحت وأمسيت وأنت تبني لخلق كثير، قد استرعاكهم الله، وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم وولاك أمرهم، وليس يلبث البنيان إذ أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه على من بناه وأعان عليه، فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية، فإن القوة في العمل بإذن الله، لا تؤخر عمل اليوم إلى غد، فإنك إذا فعلت ذلك أضعت، إن الأجل دون الأمل فبادر الأجل بالعمل.. فإنه لا عمل بعد الأجل، إن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى ربه، فأتم الحق فيما ولاك الله وقلدك ولو ساعة من نهاره، فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راعٍ سعدت به رعيته، ولا تزغ فتزيغ رعيتك، وإياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب، وإذا نظرت إلى أمرين، أحدهما للآخرة والآخر للدنيا فاختر أمر الآخرة على أمر الدنيا، فإن الآخرة تبقى والدنيا تفنى، وكن من خشية الله على حذر، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء، القريب والبعيد، ولا تخف في الله لومة لائم، واحذر فإن الحذر بالقلب وليس باللسان، واتق الله فإنما التقوى بالتوقي ومن يتق الله يتقه... إني أوصيك يا أمير المؤمنين بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما استرعاك الله، وأن لا تنظر في ذلك إلا إليه وله، فإنك إن لا تفعل تتوعر عليك سهولة الهدى، وتعمى في عينيك وتتعفى رسومه ويضيق عليه رحبه، وتنكر منه ما تعرف، وتعرف منه ما تنكر، فخاصم نفسك خصومة من الفلج لها لا عليها، فإن الراعي المضيع يضمن ما هلك على يديه مما لو شاء رده عن مواطن الهلكة، بإذن الله، وأورده أماكن الحياة والنجاة، فإذا ترك ذلك أضاعه وإن تشاغل بغيره كانت الهلكة عليه أسرع وبه آخر وإذا أصلح كان أسعد من هنالك بذلك ووفاه الله أضعاف ما وفى له، فاحذر أن تضيع رعيتك فيستوفي ربها حقها منك، ويضيعك بما أضعت أجرك، وإنما يدعم البنيان قبل أن ينهدم. وإنما لك من عملك ما عملت فمين ولاك الله أمره، فلست تنسى. ولا تغفل عنهم وعما يصلحهم فليس يغفل عنك، ولا يضيع حظك من هذه الدنيا في هذه الليالي والأيام كثرة تحريك لسانك في نفسك بذكر الله تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. نبي الرحمة وإمام الهدى...( ) هكذا كان علماء السلف الصالح، يستغلون كل فرصة تمكنهم من إيصال نصائحهم إلى الحكام، وهل هناك فرصة أعظم، من أن يطلب الرشيد وضع كتاب له في الأموال أو قل في النظام الاقتصادي ليتبناه ويأمر بتنفيذه، فينتظره الرشيد بفارغ الصبر وثم تكون مقدمة هذا (النظام) كما ذكرنا منها. حقاً إنها لنصيحة لله ولرسوله.. ولأئمة المسلمين. وهذا الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه، يقول لأبي جعفر المنصور حين استدعاه في إحدى المرات، ناصحاً له... لا تقبل في ذي رحمك وأهل الرعاية من أهل بيتك، قول من حرم الله عليه الجنة، وجعل مأواه النار، فإن النمام شاهد زور، وشريك إبليس في الإغراء بين الناس، فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)( )، ونحن لك أنصار وأعوان، لملكك دعائم وأركان، ما أمرت بالمعروف والإحسان وأمضيت في الرعية أحكام القرآن، وأرغمت بطاعتك الله أنف الشيطان، وإن كان يجب عليك في سعة وكثرة علمك ومعرفتك بآداب الله أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، فإن المكافي ليس بالواصل وإنما الواصل، من إذا قطعته رحمة وصلها، فصل رحمك يزد الله في عمرك، ويخفف عنك الحساب يوم حشرك (لقد صدق الصادق رحمه الله تعالى فإن العلماء مع الحكام ما أمر الحكام بالمعروف والإحسان وأمضوا في الرعية أحكام القرآن وأرغموا لطاعتهم لله أنف الشيطان ومن هذه المعصية مشاركة العلماء للحكام في تولي المسؤولية). قال المنصور: قد صفحت عنك لقدرك، وتجاوزت عنك لصدقك، فحدثني عن نفسك بحديث اتعظ به ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات. قال الصادق: عليك بالحلم، فإنه ركن العلم. واملك نفسك عند أسباب القدرة، فإنك إن تفعل ما تقدر عليه، كنت كمن شفى غيظاً، أو تداوى حقداً أو يحب أن يذكر بالصولة، واعلم أنك إن عاقبت مستحقاً لم تكن عناية ما توصف إلا العدل، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال التي توجب الصبر، قال المنصور: وعظت فأحسنت وقلت فما وجزت( )... وهذا الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي قال محدثاً عن نفسه، بعث إليّ أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل، فأتيته، فلما وصلت إليه سلمت عليه بالخلافة، فرد علي واستجلسني، ثم قال لي: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم قلت: انظر يا أمير المؤمنين أن لا تجهل شيئاً مما أقول، قال وكيف أجهله وأنا أسألك عنه، وفيه وجهت إليك، وأقدمتك له، قلت أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به. قال الأوزاعي: فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور، وقال هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسي وانبسطت في الكلام، فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ايما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سبقت إليه فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد إثماً ويزداد الله بها سخطاً عليه)( ). يا أمير المؤمنين: من كره الحق فقد كره الله إن الله هو الحق المبين.. إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم، لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بهم رؤوفاً رحيماً، مواسياً لهم بنفسه من ذات يده، محموداً عند الله وعند الناس، فحقيق بك أن تقوم له بالحق، وأن تكون بالقسط له فيهم قائماً، ولعوراتهم ساتراً، لا تغلق عليك دونهم الأبواب، ولا تقيم دونهم الحجاب، تبتهج بالنعمة عندهم وتبتئس بما أصابهم من سوء.. يا أمير المؤمنين: قد كنت من شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم. وكل له عليك نصيب من العدل، فكيف بك إذا انبعث منهم فئام ورام فئام، وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه. يا أمير المؤمنين: حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة ببستاك ويروع بها المنافقين فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له: يا محمد، ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك، وملأت قلوبهم رعباً( ). فكيف بمن شقق أستارهم وسفك دماءهم وأجلاهم عن بلادهم وغيبهم الخوف منه... يا أمير المؤمنين: إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذا لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك، يا أمير المؤمنين: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو ماتت سخلة على شاطىء الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها( ). فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك... يا أمير المؤمنين: قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارة مكة أو الطائف أو اليمن، فقال النبي عليه السلام: يا عباس يا عم النبي (نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها)( ) نصيحة منه لعمه وشفقة عليه، وأخبره أنه لا يغني عنه عن الله شيئاً إذ أوحى الله إليك، (وأنذر عشيرتك الأقربين)( ) فقال: (يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة بنت محمد أني لست أغني عنكم من الله شيئاً لي عملي ولكم عملكم)( ). وقد قال عمر بن الخطاب، الأمراء أربعة، فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله، يد الله باسطة عليه بالرحمة، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (بشر الرعاة الحطمة( ) فهو الهالك وحده)( ) وأمير أترع نفسه وعماله فهلكوا جميعاً. ثم قال: يا أمير المؤمنين: إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى، وإنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه، فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك ثم نهضت فقال إلى أين؟ فقلت إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله فقال: أذنت لك وشكرت نصيحتك وقبلتها قال محمد بن مصعب: فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا. وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك( ). هكذا كان الحكام يستمعون إلى نصائح العلماء. معهدين على تنفيذها والعمل بموجبها، بل كانوا يسمعونها من أي وعاء خرجت، لذلك لم نجد غرابة من الحكام الصالحين، حينما يستمعون إلى مثل هذه النصائح وهي تخرج من فم امرأة أو صبي لم يبلغ الحلم ولنقرأ نصيحة امرأة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثم نصيحة الصبي لسيدنا عمر بن عبد العزيز. خرج رضي الله عنه من المسجد يوماً، ومعه الجارود العبدي، فبينما هما خارجان إذ بامرأة على ظهر الطريق. فسلم عليها عمر فردت عليه التحية، ثم قالت رويدك يا عمر حتى أكلمك كلمات قليلة، قال: يا عمر عهدي بك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ تصارع الفتيان، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية. واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت( ). قال الجارود: هيه قد اجترأت على أمير المؤمنين. فقال عمر دعها أما تعرف هذه يا جارود؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سمائه. فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها. أراد بذلك قوله تعالى (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ)( ).. ( ) حينما ولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، وفدت الفود من كل بلد، لبيان حاجتها وللتهنئة فوفد عليه الحجازيون، فتقدم غلام هاشمي للكلام وكان حديث السن، فقال عمر: لينطلق من هو أسن منك، فقال الغلام. أصلح الله أمير المؤمنين. إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. فإذا منح الله عبداً لساناً لافظاً وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام وعرف فضله من سمع خطابه ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في الأمة من هو أحق بمجلسك هذا منك، فقال عمر: صدقت، قل ما بدا لك، فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين: نحن وفد تهنئة لا وفد مرزئه. وقد أتبناك لمن الله الذي من علينا بك، ولم يقدمنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتيناك من بلادنا، وأما الرهبة فقد أمنا جورك بعدلك.( ) فقال عمر: عظني يا غلام: فقال أصلح الله أمير المؤمنين، أن ناساً من الناس غرهم حلم الله عنهم وطول أملهم وكثرة ثناء الناس عليهم فزلت بهم الأقدام فهووا في النار. فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك وكثرة ثناء الناس عليك، فتزل قدمك فتلتحق بالقوم، فلا جعلك الله منهم، وألحقك بصالحي هذه الأمة، ثم سكت. فقال عمر: كم عمر الغلام، فقيل هو ابن إحدى عشرة سنة، ثم سأل عنه فإذا هو من ولد سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهم، فأثنى عليه خيراً ودعا له. وتمثل قائلاً: تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كم هو جاهل فإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل كتب الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى إلى مجير الدين الوزير في الدولة السلجوقية والوزراء يومئذ هم مفتاح الدولة وموجهوها والمباشرون للأمور وهم أصحاب الحل والعقد. (إن إغاثة الخلق واجبة على الجميع، فقد تجاوز الظلم عن الحدود ولم أستطع أن أشاهد هذا الظلم، فهاجرت من طوس ولي سنة، حتى لا أشاهد هؤلاء الظلمة الذين لا يحملون رحمة ولا يرعون حرمة وقد ألجأتني بعض الضرورات إلى زيارة البلد فوجدت الظلم مستمراً لم ينقطع)( ). ثم يقول إلى فخر الملك بعد أن ذكر المظالم وسوء أوضاع البلاد فحذره قائلاً: (وقد نصحت للعميد كثيراً ولكنه مل يقبل النصيحة وأصبح عبرة للعالمين ونكالاً للآخرين، اعلم يا فخر الملك، إن هذه الكلمات لاذعة مرة قاسية لا يجرؤ عليها إلا من قطع أمله عن جميع الملوك والأمراء، فأقدرها قدرها فإنك لا تسمعها من غيري وكل من يقول غير ذلك فاعلم أن طمعه حجاب بينه وبين كلمة الحق)( ). بمثل هذه النصائح القيمة التي خرجت من قلوب مؤمنة متفقهة، ونطقتها ألسن عالمة جريئة صريحة، لم تعرف النفاق والمداراة وسمعتها أذن واعية عاهدت الله تعالى على رعاية الأمة على أساس شرع الله وإقامة حكم القرآن. فكانوا نعم العلماء ونعم الحكام...

العلماء ومواجهة الحكام

لعلماء السلف الصالح رحمهم الله تعالى آراء في مواجهة الحكام، وأحوال يقررونها في غشيان مجالس الحكام تبعاً لحال الحكام، وواقعهم من حيث عدلهم وظلمهم، أو من حيث مدى تعلقهم بالإسلام وتطبيقهم له، أو الإساءة والإعراض عنه. فبالنسبة للحكام العادلين الحريصين على تطبيق الشريعة، المنفذين لحدود الله المقيمين لشعائر الإسلام، إن هؤلاء لا خلاف بين العلماء في جواز مواجهتهم وغشيان مجالسهم، إن لم تكن مندوبة. بل واجبة، لما يترتب على هذه المواجهة من إعانة على إقامة العدل واستمرار وجوده، وتحقيق الخير وإدامته لأبناء الأمة الإسلامية. وهو داخل في عموم قوله تعالى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى)( ). وهل هناك تعاون أسمى من تعاون العلماء مع الحكام، على رعاية مصالح الأمة، على أساس أحكام الإسلام، التي يحملها العلماء وينفذها الحكام، ولذلك كان العلماء والحكام يسارعون للاجتماع والمواجهة كل بالآخر، لتحقيق هذه الرعاية بأجلى صورها. أما بالنسبة للحكام الآخرين، الموصوفين بالحكام الظلمة، وهم الذين أعرضوا عن أحكام الإسلام كلياً أو جزئياً في حكمهم، وهم بنفس الوقت يدعون الإيمان بالإسلام، ويشهدون شهادة الحق، وربما أدوا العبادات مع المسلمين. فهؤلاء يقسم الإمام الغزالي رحمه الله أحوال مواجهتهم إلى ثلاثة: الحالة الأولى وهي الدخول عليهم: (فهو مذموم جداً في الشرع وفيه تغليظات وتشديدات وردت الأخبار والآثار فيها، ننقلها لتعرف ذم الشرع له، ثم نتعرض لما يحرم منه وما يباح وما يكره على ما تقتضيه الفتوى في ظاهر العلم). ثم يمضي حجة الإسلام في سرد الأخبار المتعلقة بالحكام الظلمة نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم. (فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم أو كاد أن يسلم، ومن وقع معهم في دنياهم فهو منهم)( ). وذلك لأن من اعتزلهم سلم من إثمهم ولكن لم يسلم من عذاب يعمه معهم إن نزل بهم، لتركه المنابذة والمنازعة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولم يرد على الحوض)( ) الخ... ثم يقول: الحالة الثانية: أن يدخل عليهم السلطان الظالم زائراً فجواب السلام لا بد منه، وأما القيام والإكرام له فلا يحرم، مقابلة له على إكرامه، فإنه بإكرام العلم والدين مستحق للإحماد، كما أنه بالظلم مستحق للإبعاد، فالإكرام بالإكرام، والجواب بالسلام، ثم يجيب عليه (على العالم) بعد أن وقع اللقاء أن ينصحه ويرشده إلى طريق المصلحة إن كان يعرف طريقاً على وفق الشرع. الخ. ثم يقول: الحالة الثالثة: أن يعتزلهم فلا يراهم ولا يرونه، وهو الواجب، إذ لا سلامة إلا فيه، فعليه أن يعتقد بغضهم على ظلمهم، ولا يحب بقاءهم، ولا يثني عليهم ولا يستخبر عن أحوالهم الخ... ثم يجيب الغزالي على سؤال متوقع فيقول: فإن قلت فقد كان علماء السلف يدخلون على السلاطين فأقول: نعم. تعلم الدخول منهم ثم ادخل، ثم حكى مستشهداً على ذلك: أن هشام بن عبد الملك. قدم حاجاً إلى مكة فلما دخلها، قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل يا أمير المؤمنين قد تفانوا، فقال: من التابعين. فأتي بطاوس اليماني –العالم الجليل رحمه الله- فلما دخل عليه، خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم عليه بأمرة المؤمنين ولكن قال: السلام عليك يا هشام، ولم يكنه، وجلس بإزائه وقال: كيف أنت يا هشام، فغضب هشام غضباً شديداً، حتى همّ بقتله، فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله، ولا يمكن ذلك... فقال: يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: وما الذي صنعت؟ فازداد غضباً وغيظاً. قال هشام: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبل يدي، ولم تسلم بأمرة المؤمنين ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت كيف أنت يا هشام. فقال: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك، فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني، ولا يغضب علي، وأما قولك لم تقبّل يدي. فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لا يحل لرجل أن يقبّل يد أحد إلا امرأته من شهوة، أو ولده من رحمة، وأما قولك لم تسلم بأمرة المؤمنين، فليس كل الناس راضين بأمرتك فكرهت أن أكذب، وأما قولك لم تكنني فإن الله سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا داود، يا يحيى، يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: تبت يدا أبي لهب، وأما قولك جلست بإزائي، فإني سمعت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام. فقال هشام: عظني، قال: سمعت من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، يقول: إن في جهنم حيات كالقلال( ) وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. ثم قام وهرب. ثم إن الإمام الغزالي يذكر في هذا الفصل من كتابه إحياء علوم الدين، فيقول: (ولا يجوز الدخول عليهم إلا بعذرين، أحدهما أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام، وعلم أنه لو امتنع أوذي، أو فسد عليهم طاعة الرعية، واضطربت عليهم أمر السياسة. فيجب الإجابة، لا طاعة لهم، بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية. الثاني: أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه، أو عن نفسه، إما بطريق الحسبة أو بطريق التظلم وذلك رخصة بشرط أن لا يكذب ولا يثني عليهم، ولا يدع نصيحة يتوقع قبولها فهذا حكم الدخول)( ). فعلماء السلف الصالح كان بعضهم يتحرج من مواجهة هؤلاء الحكام تعففاً وزهداً، وإبعاداً من الوقوع في الشبهات أو لإظهار صلابتهم وقوتهم ومن أولئك الإمام سعيد بن المسيب مع عبد الملك بن مروان. فقد رووا أن عبد الملك بن مروان لما حج وقدم المدينة، وقف على باب المسجد المبارك، ثم أرسل إلى سعيد بن المسيب رجلاً يدعوه ولا يحركه. فأتاه الرسول وقال: أمير المؤمنين واقف بالباب يريد أن يكلمك، فقال سعيد: ما لأمير المؤمنين إليّ حاجة، وما لي إليه حاجة، وإن حاجته إليّ لغير مقضية، فرجع الرسول وأخبر عبد الملك بذلك، فقال ارجع إليه إنما أريد أن أكلمه ولا تحركه، فرجع إليه، وأعاد الكلام، فقال له سعيد ما قال أولاً، فقال له الرسول: لولا أنه تقدم إليّ فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك وتقول مثل هذه المقالة، فقال سعيد إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو بك، وإن كان غير ذلك، فلا أحل موتي حتى يقضي ما هو قاضي، فرجع الرسول وأخبره بذلك فقال عبد الملك: رحم الله أبا محمد أبى إلا صلابة( ). وكان الآخرون من علماء السلف يواجهون هؤلاء الحكام ولكن كانت مواجهتهم يحدث فيها ما يحدث كما هو آت أو شبيه به.. فهذا الإمام الغزالي يدخل على السلطان سنجر بن مالك شاه السلجوقي، ليدفع الظلم عن المسلمين في أموالهم وأرواحهم، ومن قوله له: (.. أسفاً إن رقاب المسلمين كادت تنقض بالمصائب والضرائب، ورقاب خليك كادت تنقض بالأطواق الذهبية)( ). وهذا الإمام ابن تيمية، شكا إليه رجل من المسلمين فطلوبك الكبير وظلمه له، -وكان المذكور فيه جبروت، فدخل شيخ الإسلام وتكلم معه في ذلك، فقال فطلوبك: أنا كنت أريد أن أجيء إليك لأنك عالم زاهد. قال ذلك مستهزئاً، فأجابه: لا تعمل علي دركوان، هكذا بخط المصنف ولعلها تعني لا تستهزئ فقد كان موسى خيراً مني وفرعون كان شراً منك، وكان موسى يجيء إلى باب فرعون كل يوم ثلاث مرات ويعرض عليه الإيمان( ). وهذا عمرو بن عبيد العالم المعتزلي، يدخل على المنصور، وقال: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل يقفك ويسائلك عن مثقال ذرة من الخير والشر، وإن الأمة خصماؤك يوم القيامة، وإن الله عز وجل لا يرضى منك إلا بما ترضاه لنفسك، ألا وإنك لا ترضى لنفسك إلا بأن يعدل عليك –وإن الله عز وجل لا يرضى منه إلا بأن تعدل في رعيتك، وإن وراء بابك نيراناً تتأجج من الجور. فقال سليمان بن مجالد وهو واقف على رأس المنصور: يا عمرو قد شققت على أمير المؤمنين، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، من هذا؟ قال: أخوك سليمان بن مجالد، قال عمرو: ويلك يا سليمان، إن أمير المؤمنين يموت وإن كل ما تراه يفقد، وإنك جيفة غداً بالفناء، ولا ينفعك إلا عمل صالح قدمته، ولقرب هذا الجوار أنفع لأمير المؤمنين من قربك، وإن كنت تطوي عنه النصيحة، وتنهي من ينصحه، يا أمير المؤمنين إن هؤلاء اتخذوك سلماً إلى شهواتهم، قال المنصور: فاصنع ماذا؟ ادع لي أصحابك أوليهم، قال: ادعهم أنت بعمل صالح تحدثه، ومر بهذا الخناق فليرفع عن أعناق الناس واستعمل في اليوم الواحد عمالاً كلما رابك منهم ريب، أو أنكرت على رجل عزلته ووليت غيره، فوالله لئن لم تقبل منهم إلا العدل، ليتقربن به إليك من لا نية له فيه( ). وهذا الليث بن سعد عالم مصر يدخل على الرشيد، فيسأله الرشيد: ما صلاح بلدكم؟ فقال: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا إجراء النيل، وصلاح أمره ومن رأس العين يأتي الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت العين، قال: صدقت يا أبا الحارث( ). تلك صورة ما يحدث في مواجهة العلماء للحكام، وفيها العبرة... أقول: إن مواجهة الحكام فيها ما فيها، لأن النية قد تحسن في أول الدخول عليهم، ثم تتغير بإكرامهم أو بالطمع فيهم، ولا يتماسك العالم المواجه عن مداهنتهم أو السكوت عن الإنكار عليهم، وقد كان الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول: "ما أخاف من إهانتهم لي وإنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم"( ). ولكن إذا كان العالم بصيراً بحاله، متمكناً من إيمانه، واثقاً بنفسه، وقد دعت الحاجة الشرعية لذلك، فلا أرى مانعاً من هذه المواجهة، وقد كان علماء سلفنا يدخلون بهذه النية، فنجد الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى يصرح بذلك ويفعله فيقول: حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئاً من العلم والفقه أن يدخل على كل سلطان ويأمره بالخير وينهاه عن الشر، حتى يتبين دخول العالم من غيره، فإذا كان فهو الفضل الذي لا بعده فضل( ). وعلى هذا الأساس ينبغي أن يواجه علماء اليوم الحكام، وما أشد الحاجة إلى ذلك، لتحقيق هذه المقاصد السامية التي أمر بها الإسلام، سيما وأن حكام المسلمين قد أحيطوا بحاشية أقل ما يقال فيهم، أنهم ليسوا من العلماء، بل ليسوا من أولئك الذين يدركون واجب المرافقة وحقوق الصحبة، التي توجب النصح والتذكير إلى كل خير وتقوى، هذا ما نريده من السادة علمائنا، ولكن يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: هل يسمح الحكام بهذه المواجهة؟ وهل الحكام مستعدون لاستقبال العلماء في مجالسهم؟ وإلى أي مدى يكون الاستعداد؟ وهل يمكن للعلماء قول ما يريدون؟؟

العلماء ومنح الحكام

اختلف العلماء في قبول منح الحكام أو أُعطياتهم، تبعاً لاختلاف آرائهم في ذلك لذلك كانوا أقساماً. القسم الأول: كان يرفض أخذ المال من الحاكم، ويبتعد عنه، ومن هؤلاء أبو حنيفة وسفيان الثوري، والفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وعمرو بن عبيد والطبري وابن المسيب وأضرابهم لأن أعطيات الحكام ومنحهم، كانت يومئذ بمثابة امتحان يجربه بعض الحكام للعلماء، لمعرفة مقدار الولاء لهم. لذلك كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يرفض كل منحة وعطاء، وهو يعلم أن رفضه هذا يعرضه للأذى والمضايقة. فقد روى أبو طالب المكي في مناقبه (أنه أرسل إليه أبو جعفر المنصور بجائزة عشرة آلاف درهم وجارية، -كانت الأعطيات والمنح تسمى جوائز- وكان عبد الملك بن حميد وزير أبي جعفر فيه كرم وجودة في الرأي، فقال لأبي حنيفة عندما رفضها: أنشدك الله، إن أمير المؤمنين يطلب عليك علة، فإن لم تقبل صدق على نفسك ما ظن بك، فأبى عليه، فقال –الوزير- أما المال فقد أثبته في الجوائز وأما الجارية فاقبلها أنت مني، أو قل عذرك، حتى أعذرك عند أمير المؤمنين فقال أبو حنيفة: إني ضعفت عن النساء وكبرت، فلا أستحل أن أقبل جارية لا أصل إليها ولا أجرؤ أن أبيع جارية خرجت من ملك أمير المؤمنين). وفي الوقت الذي كان رحمه الله تعالى يرد جوائزهم ومنحهم برفق كان يرد هداياهم كذلك. (لقد وقع بين المنصور وزوجه الحرة شقاق بسبب ميله عنها، وطلبت العدل منه، فقال لها بمن ترضين في الحكومة –التحكيم- بيني وبينك، قالت: بأبي حنيفة، فرضي هو أيضاً، فأحضره وقال له: يا أبا حنيفة، الحرة تخاصمني فانصفني منها، قال: ليتكلم أمير المؤمنين، قال: يا أبا حنيفة، كم يحل للرجل أن يتزوج من النساء فيجمع بينهن؟ فقال: أربع، قال: وكم يحل له من الإماء؟ فقال: ما شاء ليس لهن عدد، قال: أيجوز لأحد أن يقول خلاف ذلك؟ فقال لا. قال المنصور قد سمعت، فقال أبو حنيفة: إنما أحل الله هذا لأهل العدل، فمن لم يعدل أو خاف ألا يعدل فينبغي أن لا يجاوز الواحدة، قال الله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً)( ) فينبغي أن نتأدب بأدب الله، ونتعظ بمواعظه، فسكت أبو جعفر وطال سكوته، فقام أبو حنيفة وخرج، فلما بلغ منزله أرسلت إليه زوج المنصور الحرة- خادماً ومعه مال وثياب وجارية وحمار مصري، فردها وقال للخادم: اقرئها السلام وقل لها: إنما ناضلت عن ديني وقمت بذلك المقام لله، لم أرد بتلك تقرباً إلى أحد ولا التمست به دنيا.( ) أما سفيان الثوري، والفضيل بن عياض، فقد وضح موقفهما هذا برفض العلماء، حين سقنا حادثة جوابهما على سؤال هارون الرشيد في فصل الحكام يسألون العلماء. أما عمرو بن عبيد، فقد دخل على أبي جعفر المنصور يوماً فلما نصحه ووعظه وأراد الخروج قال المنصور: قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، قال لا حاجة لي فيها، قال المنصور: والله تأخذها، قال عمرو والله لا آخذها، وكان المهدي ولد المنصور حاضراً، فقال: يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟ فالتفت عمرو إلى المنصور وقال: من هذا الفتى؟ قال هو ولي العهد ابني المهدي، فقال: أما والله لقد ألبسته لباساً ماهراً من لباس الأبرار، وسميته باسم ما استحقه، ومهدت له امراً: أمتع ما يكون به، أشغل ما يكون عنه ثم التفت عمرو إلى المهدي فقال: نعم يا ابن أخي إذا حلف أبوك حنثه عمك لأن أبا أباك أقوى على الكفارات من عمك. فقال له المنصور: هل من حاجة؟ قال لا تبعث إليّ حتى آتيك. فقال إذن لا تلقاني، فقال هي حاجتي، ومضى فاتبعه المنصور طرفه وقال: كلكم يمشي رويداً، كلكم يطلب صيداً، غير عمرو بن عبيد( ). أما أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فقد كان نافراً من أعطيات الحكام ومنحهم أشد النفور، زاهداً فيها حتى أنه كان يرفضها ولو جاءت عن طريق تولية عمل من أعمال الدولة. عندما جاء الإمام الشافعي إلى بغداد للمرة الثانية التي أقام فيها لنشر مذهبه وكان الإمام أحمد يلتزم مجالس الشافعي. وما كان يفارقه إلا لسفر من أجل طلب حديث نبوي، ولقد لاحظ الشافعي أن أحمد ينوي السفر إلى اليمن لأخذ الحديث من عبد الرزاق بن همام. ومشقة السفر هذه بعيدة وأنها تحتاج إلى إنفاق مال وأحمد لا يجد ذلك، وكان الأمين قد كلف الشافعي أن يختار قاضياً إلى اليمن فوجد الشافعي أن من تسهيل مهمة أحمد أن يكون قاضياً فيها، فيجتمع إلى عبد الرزاق بن همام، ويأخذ ما يريد من غير مشقة مضنية، ولكن الإمام احمد رفض طلب الشافعي هذا وقال له وهو شيخه الذي يكن له كل الاحترام والتقدير، يا أبا عبد الله إن سمعت منك هذا ثانية لم ترني ثانية عندك( ). ويروى كذلك، أن المأمون دفع إلى شيخ من شيوخ الحديث في عصره مالاً ليقسمه على رجال الحديث والمشتغلين فيه، لأنه علم أن فيهم من يحتاج إلى النفقة فأراد أن يعينهم على ما خصصوا أنفسهم له، وأخذ هؤلاء المال، أما أحمد بن حنبل فقد رفض العطاء، وقد عرف أنه المعوزين( ). ولكن الإمام أحمد اضطر مرة لأخذ هذه الأعطيات ولكن انظروا هل لمستها يده؟ وماذا فعل بها، فقد روي أن وزير المتوكل كتب له: إن أمير المؤمنين قد وجه إليك جائزة ويأمرك بالخروج إليه، فالله أن تستغني، وترد المال فيتسع القول لمن يغضبك( ). فأحمد يبدد ظلمات السعاية إلى القبول ولكنه لا يمسه. ويأمر ولده صالحاً بأخذه ثم يوزعه في اليوم الثاني على أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل التجمل والحاجة وكأنه يرى أنهم أولى بمال المسلمين منه وحرموا عطاهم( ). وهذا الإمام الطبري. عرضت عليه الجوائز فرفض وعرضت عليه ولاية المظالم والقضاء فرفض. وأشار عليه صحبه قائلين في هذا الثواب وتحيي سنة قد درست. فهزمهم قائلاً: أظن اني لو رغبت في ذلك نهيتموني عنه( ). وهذا سعيد بن مسيب. قد كان له في بيت المال بضعة وثلاثن ألفاً عطاءه، فكان يدعى إليها فأبى ويقول لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان( ). القسم الثاني: كان يأخذ أعطيات الحكام، بقصد إنفاقه وتوزيعه على طلبة العلم وعلى إخوانه من العلماء، الذين أصيبوا بالفاقة والعوز ليعيش هؤلاء في حياة كريمة تليق بمكانة العلم ومنزلة العلماء. والجدير بالذكر أن هذا القسم في الوقت الذي يقبل أخذ الأعطيات من الحكام. كان هذا الأخذ لا يثنيهم عن محاسبتهم والإنكار عليهم وإبداء النصح الكريم لهم. ومن هؤلاء الحسن البصري والإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما. فمالك كان لا يتحوب (لا يتأثم) من الأخذ من الخلفاء لأنه مال المسلمين، ومن أحق به من أهل العلم الذين وقفوا أنفسهم على تعليم الناس أمور دينهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وهم بذلك كالجند وقفوا أنفسهم لحماية الثغور من الأعداء لكيلا يثلموا فيها ثلمة ينفذون منها إلى الأمة، فإنه إذا كان الجند كذلك. فالعلماء لمنع الضلال ولئلا يثلم الدين الثلم الذي يصل إلى قلوب الأمة فتزل القدم بعد ثبوتها وتذرق السوء( )... القسم الثالث: كان يأخذ الحظ المقسوم له من الحكام، وفي نفس الوقت يقوم بواجب الشرع نحوهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هؤلاء بعض أئمة أهل البيت الكريم كالإمام جعفر الصادق، فقد كانوا يأخذون من الحكام حظ بني هاشم من الأموال، وكذلك الإمام الشافعي كان يأخذ حظه من سهم بني المُطلب من الغنيمة، وكان هؤلاء رحمهم الله تعالى ينفقون هذا المال على العلماء وطلبة العلم. تلك أقسام العلماء في موقفهم من أعطيات الحكام ومنحهم، في ذلك الزمان الذي كانت أموال أكثر الحكام من الحلال الطيب. أما إذا تغيرت مصادر أموال الحكام وتبدلت، فما موقف السادة العلماء منها. فالإمام الغزالي يقول فيها حكماً: ولنسمعه (.. إن أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو أكثرها: وكيف لا، والحلال هي الصدقات والفيء والغنيمة: ولا وجود لها، وليس يدخل منها في يد السلطان ولم يبق إلا الجزية، وإنها تؤخذ بأنواع من الظلم لا يحل أخذها به، فإنهم يجاوزون حدود الشرع في المأخوذ والمأخوذ منه، والوفاء له بالشرط. ثم إذا نسب ذلك إلى ما ينصب إليهم من الخراج المضروب على المسلمين، ومن الصادرات والرشا وصنوف الظلم لم يبلغ عشر معشار عشيرة( )). ثم يرد الإمام الغزالي على بعض علماء عصره، من الذين يقبلون منح الحكام وأعطياتهم. وقد استدلوا في ذلك، بأن علماء السلف كانوا يقبلونها ولا يرون بأساً في ذلك. مبيناً الفرق بين الأوضاع الأولى، وأوضاع عصره فيقول: (إن الظلمة في العصر الأول –لقرب عهدهم بزمان الخلفاء الراشدين- كانوا مستشعرين من ظلمهم، ومتشوقين إلى استمالة قلوب الصحابة والتابعين، وحريصين على قبولهم عطاياهم وجوائزهم. وكانوا يبعثون إليهم من غير سؤال وإذلال، بل كانوا يتقلدون المنة بقبولهم، ويفرحون به، وكانوا يأخذون منهم ويفرقون، ولا يطيعون السلاطين في أغراضهم ولا يغشون مجالسهم، ولا يكثرون جمعهم ولا يحبون بقاءهم، بل يدعون عليهم، ويطلقون الألسنة، وينكرون المنكر عليهم، فما كان يحذر أن يصيبوا من دينهم بقدر ما أصابوا من دنياهم. ولم يكن بأخذهم بأس. أما الآن فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمعوا في استخدامهم، والتكثر بهم والاستعانة بهم في أغراضهم، والتجمل بغشيان مجالسهم، وتكفيهم المواظبة على الدعاء والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم، فلو لم يذل الآخذ نفسه بالسؤال أولاً، وبالتردد في الخدمة ثانياً، وبالثناء والدعاء ثالثاً، وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعاً، وبتكثير جمعه في مجلسه وموكبه خامساً، وبإظهار الحب والولاء والمناصرة له على أعدائه سادساً، وبالتستر على ظلمه ومقابحه ومساوئ أعماله سابعاً، لم ينعم عليه بدرهم واحد، ولو كان في فضل الشافعي رحمه الله مثلا، فإذاً لا يجوز أن يؤخذ منهم هذا الزمان. ما يعلم أنه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني، فكيف يعلم أنه حرام، أو لا نشك فيه. فمن استجرأ على أموالهم وشبه نفسه بالصحابة والتابعين فقد قاس الملائكة بالحدادين)( ). وواقع حالنا اليوم في جميع البلاد الإسلامية، كحال أولئك الحكام الذين حكم الغزالي بحرمه منحهم وأعطياتهم. إن لم نقل أشد سوءاً وأعظم إثماً. أما ما يأخذه العلماء اليوم من أموال. مقابل قيامهم بالوظائف المعروفة من إمامة وخطبة وتدريس ووعظ وإفتاء.. فهو لتفرغهم عن العمل الذي يكسبون به. لذا كان أخذهم لهذا المال جائزاً. حتى لو كان من غير الأوقاف التي أوقفها أصحابها من المسلمين لصرفها بهذا الشأن. إلا أن الذي يريده الإسلام هو أن هذا الأجعال والمرتبات التي يأخذها العلماء اليوم، مقابل وظائفهم المعروفة. لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تكون أداة للسكوت عن منكر الحكام، والتقاعس عن بيان ما يرونه خطأ وضلالاً حتى لو أغضب الحكام، لأن هؤلاء الحكام إن تجرأوا أو زادوا إنما على أثامهم، فمنعوا العلماء عن أداء حقهم في المال فإن الرزق بيد الله وحده. والعلماء أعلم الناس في ذلك. ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينقص وزناً كما نطق به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.. والله وحده هو الذي يتولى الصالحين.

العلماء ومحن الحكام

لقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أن يفتنهم ويختبرهم، ليميز الخبيث من الطيب. (الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)( ). ولقد اعتاد الظالمون من الحكام، أن يضطهدوا الذين يخالفونهم في سلوكهم المنحرف، ويناهضونهم في أفكارهم الباطلة، ولم يسايروهم في أهوائهم، وينزلوا بهم، أنواع المحن، بعد أن أعرضوا عن أشكال المنح التي قدمها الحكام إليهم، في ذلة وصغار، ولكن أنّى للنفوس الكريمة، ذات المعدن الطيب أن تغرى بمال، أو يسيل لعابها على فتات الدنيا، أو تستمال بعرض زائل من الحياة. أما المحن فقد استعدوا لها. وتحملوا نارها بصبر وجلد، وصابروا شدة بأسها بعزم واحتساب لأنهم فقهوا قول الله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)( ) وآمنوا بقول الخالق العظيم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)( ). وكان أئمة المسلمين من السادة العلماء الذين اشرأبت الأعناق إليهم إجلالاً وتقديراً وولاء، في مقدمة الذين أصابتهم المحن ونزلت بهم الشدائد الصعاب فخرجوا منها ظافرين ظاهرين، مصداقاً لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. (لا تزال طائفة من أمتي على أمر الله لا يضرها من خالفها)( ). وقوله (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة)( ) نعم انتصروا بعد ما ظلموا. وظفروا من بعد محنهم وظهر الحق الذي آمنوا به. ولو استشهد بعضهم في سبيل ذلك، لأن النصر الحقيقي هو، نصر العقيدة أو ظهور الحق جلياً للعيان، الذي كان سبباً في تلك المحن ولأن البقاء في الدنيا هو للعقيدة والحق أما الممتحنون فلهم بقاء الذكر الجميل لهم على مر الدهور. وهذا كائن ولو لم يخطر ببالهم لأنهم أخلصوا العمل والتضحية لله وحده، بل البقاء الأكبر الذي يرجونه هو بقاء السعادة واستمرار النعيم في دار الخلد والتفيؤ بظلال الجنة ونوال رضوان الله في الآخرة وهذا هو البقاء الحق وللنصر المبين والظفر المنشود. ولقد صدق الإمام ابن القيم في نوتيته حيث يقول: والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن وبذاك يظهر حزبه من حربه ولأجل ذاك، الناس طائفتان إن المراد بهذه الفصل –العلماء ومحن الحكام- هو بيان المحن التي أنزلها الحكام بالعلماء ظلماً وعدواناً، إما بتحرش منهم، لأن الحكام يزعجهم وتكرب نفوسهم أن يكون بين ظهرانيهم علماء لهم من الإحساس المرهف، والتفكير المستنير ما يجعلهم واقفين بالمرصاد لكل من تصرفاتهم، قادرين على كشف تلك التصرفات للأمة لتعرفها، فتحدد موقفها من ذلك، فينزل الحكام بهم المحن، للقضاء على جانب المعارضة والإنكار. وإما أن يُسمع العلماء، مقالة الإسلام بكل جراءة وشجاعة، فتضيق بذلك صدورهم، ويبطشون بهم. وأما الحكام يحملون العلماء على شيء، فيأبى إيمانهم ذلك، فيكون العقاب ويقع الأذى. وأما العلماء يعلنون مخالفتهم لنهج معين من سلوك الحكام، فيغضب الحكام وتثور ثائرتهم، وتنتهي هذه الثورة بالحبس أو الضرب المبرح. وأما العلماء يرفضون منحة حاكم، أو قرباً دعوا إليه فيحصل التعذيب لأن طلب الحكام لا يرد مهما كان، ذلك هو فهمهم السقيم. ومحن الحكماء لعلمائنا الأبرار التي سنذكرها هي من هذه الأنواع، وهي التي يحتاجها اليوم الصنفان من الناس العلماء والحكام، لأخذ العبرة. وهل هناك عبرة أعظم من أن نذكر علماءنا الأبرار الذين ضحوا بأنفسهم وتحملوا العنت والسوء، فنترحم عليهم ونذكرهم بخير كلما مرت أسماؤهم، أما أولئك الحكام الذين ساموا علماءنا سوء العذاب، فلهم الخزي وعليهم الإثم.. "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ"( ). إن العلماء الذين امتحنوا في دينهم ومن اجل إسلامهم كثيرون، فذكر بعضهم يغني، وإن كانت النفس والفكر تتوقان إلى تعدي البعض والمزيد فيه... لذا فقد اخترت –أولاً- ذكر المحن التي أصابت الأئمة الكرام الذين أجمعت الأمة الإسلامية على اتباع نهجهم في فهمهم الإسلام، وهم الإمام جعفر الصادق، الإمام أبو حنيفة النعمان، الإمام مالك بن أنس، الإمام محمد بن إدريس الشافعي، الإمام أحمد بن حنبل، الإمام البخاري، الإمام أحمد بن تيمية، ليرى المعتقدون بصحة نهجهم، والسالكون طريقهم في الفهم، ما كان عليه أئمتهم الكرام رضوان الله عليهم، ليكون الإيمان بنهجهم كله، وبجميع جوانبه، وذلك هو الاقتداء الحق، والاتباع الصحيح. ثم إني –ثنيت- بذكر محنة إمامين من الذين سبقوهم بالإيمان وهما سعيد بن مسيب وسعيد بن جبير ومثلهما من الذين اتبعوهم بإحسان العز بن عبد السلام وأحمد السرهندي لتكمل العبرة، وتحسن الذكرى، وإن كانت المحن بقيت قائمة يصبها الظالمون من الحكام على علمائنا (الرجال) إذ لم يخل منها عصر مما فات، ولعلها لن تنقطع حتى قيام الساعة والخروج من هذه الدنيا، ما دام في الحياة علماء أبرار يقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم، وما دام الحكام ظالمون، يعملون لإضلال الأمة ويفسدون في الأرض. وأرى من الأمانة العلمية للتاريخ الإسلامي أن أؤكد المعنى الذي أشرت إليه، وإني على ذكر حوادث مهمة من التاريخ الإسلامي، إذ أنها تتعلق برؤساء الدولة الإسلامية وعلمائها الأبرار، في فترات من عصورها الزاهرة، هي أن الحكام الذين أنزلوا المحن الشديدة بالسادة العلماء، ما كانوا بالحقيقة، وواقع الأمر، يكرهون الإسلام، ولا يأبون السير وفق هداه، إذ أنهم لم يطبقوا غيره وإن أساء بعضهم فيه، ولكن قد أصابتهم فتنة الحكم والسلطان وما أعظمها وما أكثرها.. وأن الإنسان سوى الأنبياء غير معصوم من الوقوع في الخطأ، وارتكاب الإثم، لذلك فقد تعثر هؤلاء في سيرهم وأصابهم بعض التنكب في سلوك النهج الصحيح، والعلماء تجاه هذا أنكروا عليهم تعثرهم، وعارضوا تنكبهم إذ قاسوهم بالخلفاء الراشدين، الذين هم المثل الأعلى للحكام المسلمين بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، فظهر البون بينهما، فكان الصراع بين الحكام والعلماء وكانت المحن... فعلى كل فهم حكام مسلمون، ودولتهم التي كانوا عليها دولة إسلامية، ولم تشقى الأمة الإسلامية، ولم يتمكن أعداء الإسلام من النيل منه إلا حين ذهبت دولة الإسلام، وانطمست معالمها من الوجود. والعلماء مأجورون على مواقفهم الصلبة تجاه الإسلام، ومشكورون على تضحيتهم في سبيل إعزاز الدين ورفع لوائه خفاقاً بالنصر المبين. والحكام الذين أساءوا إليهم وظلموهم نكل أمرهم إلى الله تعالى مرددين قوله الكريم: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ"( ).

محنة سعيد بن المسيب

لا تملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكي لا تحبط أعمالكم.( ) -ابن المسيب- ... عجز عبد الملك بن مروان بما أوتي من دهاء، أن يجر إلى صفوفه سيد التابعين، من جمع بين العلم والعبادة، والتقوى والورع، سعيد بن المسيب رضي الله عنه. قال سعيد: (حججت أربعين حجة( ).. وما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة).. وهو القائل: (ما أعزت العباد نفسها بمثل طاعة الله. ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله).. إن دهاء عبد الملك وشراكه لم توقع سعيداً فيها. وإن وده.. وتذلله لم تنطل على سعيد لينال رضاه، وكلما التمس عبد الملك قرباً أو كسب وداً من سعيد كان الإعراض نصيبه، والإنكار على أفعاله حليفه. (دعي إلى نيف وثلاثين ألفاً ليأخذها فقال: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم)( ). مرت الأيام.. فتقدم عبد الملك إليه يرجو منه أن يزوج ابنته لابنه الوليد حين استخلفه، ولكن سعيد يرفض، ويأبى هذا القرب! وينفر من هذه المصاهرة بإباء وشمم، إباء العلماء وشمم الأتقياء.. غير مبال بما يجلب عليه هذا الرفض من بأس وأذى. لأنه قرب ومصاهرة لم يرد بها وجه الله والدار الآخرة، وعصمة النفس من الشهوات الفاسقة. وأمام هذا الرفض لابن أمير المؤمنين، فإنه يزوج بنفسه طالب العلم في حلقته بمسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أبا وداعة من ابنته الفقيهة العابدة. وإليكم الحادثة كما جاءت عن الزوج الكريم.. (قال أبو وداعة كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها، ولما أردت أن أقوم قال: هلا حدثت امرأة غيرها. فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: إن أنا فعلت تفعل؟ قال نعم. ثم حمد الله وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وزوجني (ابنته) على درهمين... وفي مساء ذلك اليوم وإذا بالباب يقرع فقلت: من هذا؟ قال: سعيد. ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وفتحت. وإذا بسعيد بن المسيب، فظننت أنه بدا له –أي ظهر له رأي غير الذي رآه فجاء يعتذر- فقلت فما تأمرني؟ قال: رأيتك رجلاً عزباً قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب ورد الباب)( )... هذا فعل سعيد مع أحد أفراد المسلمين، مع طالب علم، وذلك فعله مع حاكم المسلمين بسطوته وسلطانه، فتأمل يا أخي. وحين ذاك عجز عبد الملك وأُسقط في يده، فلم ينفعه دهاؤه، بل لم ينفعه اصطناع تقربه أو تزلفه. ولكن ماذا فعل عبد الملك مع سعيد بعدئذ. هنا جاءت المحنة وحلت النكبة بسعيد ولكنه صبر عليها واحتسب ذلك عند الحي القيوم. (.. قال يحيى بن سعيد، كتب هشام بن إسماعيل والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان أن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان إلا سعيد بن المسيب. فكتب: إن عرضه على السيف فإن مضى فاجلده خمسين جلدة وطف به في أسواق المدينة –فلما قدم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يسار وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله، على سعيد بن المسيب، وقالوا: جئناك في أمر، قد قدم كتاب عبد الملك إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فأعطنا إحداهن. فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب فلا تقل لا ولا نعم، قال: يقول الناس بايع سعيد بن المسيب، ما أنا بفاعل، وكان إذا قال لا لم يستطيعوا أن يقولوا نعم، قالوا: تجلس في بيتك ولا تخرج إلى الصلاة أياماً، فإنه يقبل منك إذا طلبك من مجلسك فلم يجدك؟ قال: فأنا أسمع الآذان فوق أذني حيّ على الصلاة حي على الصلاة. ما أنا بفاعل، قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره فإنه يرسل إلى مجلسك فإن لم يجدك أمسك عنك، قال: أفرقاً من مخلوق –أخوفاً من مخلوق الله- ما أنا متقدم شبراً ولا متأخر، فخرجوا وخرج إلى صلاة الظهر فجلس في مجلسه الذي كان فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه، فأتى به فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين –بيعة للوليد ومثلها لسليمان في وقت واحد- فما رآه لم يجب أخرج إلى السدة فمدت عنقه وسلت السيوف. فلما رآه قد مضى أمر به مجرداً فإذا عليه ثياب من شعر. فقال لو علمت ذلك ما اشتهرت بهذا الشأن. فضربه خمسين سوطاً ثم طاف به أسواق المدينة فلما ردوه والناس منصرفون من صلاة العصر قال: إن هذه الوجوه ما نظرت إليها منذ أربعين سنة( ).. ومنعوا الناس أن يجالسوه. فكان من ورعه إذا جاء إليه أحد يقول له قم من عندي، كراهية أن يضرب بسببه( )).. (.. عندما ضرب هشام بن إسماعيل والي المدينة لعبد الملك بن مروان الإمام سعيد بن المسيب لامتناعه عن إعطاء البيعة لولي عهده (الوليد وسليمان) ضرباً مبرحاً خمسين سوطاً وطاف به تبان من شعر حتى بلغ رأسه الثنية. فلما كروا به قال أين تكرون بي؟ قالوا إلى السجن قال: والله لولا أني ظننت أنه الصلب ما لبست هذا التبان أبداً).. وفي رواية (أما والله لو علمت أنهم لا يزيدونني على الضرب ما لبست لهم التبان، إنما تخوفت أن يقتلوني فقلت تيان أستر من غيره. وفي رواية دخل أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فجعل يكلم سعيداً ويقول إنك خرقت به فقال: يا أبا بكر اتق الله وآثره على من سواه، قال: فجعل أبو بكر يردد عليه إنك خرقت به ولم ترفق، فجعل سعيد يقول: إنك والله أعمى البصر أعمى القلب، قال: فخرج أبو بكر من عنده، وأرسل إليه هشام بن إسماعيل فقال: هل لأن سعيد بن المسيب منذ ضرباه؟ فقال أبو بكر.. ما كان أشد لساناً منه منذ فعلت به ما فعلت فاكفف عن الرجل.. ثم أخلى سبيله.. وفي السجن أيضاً يقول عبد الله بن يزيد الهذلي (دخلت على سعيد بن المسيب السجن فإذا هو قد ذبحت له شاة فجعل الأهاب على ظهره، وجعلوا له بعد ذلك قضيباً رطباً وكان كلما نظر إلى عضديه قال اللهم انصرني من هشام( )).. تلك من إساءات الحكام في تطبيق الإسلام، إن البيعة لا تؤخذ من الأمة بالقوة أو الإكراه، ولا بضرب السياط على الظهور، ولا باعتقال وحبس المعرضين عنها، وإنما تؤخذ عن رضا الأمة وموافقتها، لأن البيعة هي الطريقة الشرعية في نصب الحاكم وهي طريقة التعبير عن رضا الأمة عن الحاكم المنتخب فإذا قرر هذا شرعاً ومثله قد قرر أن الحاكم هو نائب عن الأمة في تنفيذ الإسلام ووكيل عنها في الحكم، فكيف يباح استعمال القوة بأشكالها وألوانها في سبيل إقرار هذه البيعة لتحقيق شرعية النيابة والوكالة. (اللهم انصرني من هشام) تلك دعوة مظلوم على ظالم. ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب. فاستجاب الله تعالى هذه الدعوة، وأزال سلطان هشام ومن ولاه. فليحذر الظالمون من دعوة المظلومين، بذاك نطق الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم( ). ولكن هل انتهت محنة الإمام الورع؟ لا لا. فقد جاءته محنة أخرى، فصبر عليها كما صبر على أختها من قبل.. (.. استعمل عبد الله بن الزبير جابر الأسود الزهري على المدينة المنورة فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير فقال سعيد بن المسيب لا حتى يجتمع الناس فضرب ستين سوطاً فبلغ بذلك ابن الزبير فكتب إلى جابر يلومه ويقول ما لنا ولسعيد دعه( )).. ...(وكان جابر هذا قد تزوج الخامسة قبل أن تنقضي عدة الرابعة، فلما ضرب سعيد بن المسيب صاح به سعيد والسياط تأخذه: (والله ما ربَّعت على كتاب الله، يقول الله "فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ " وإنك تزوجت الخامسة قبل انقضاء عدة الرابعة، وما هي إلا ليال فاصنع ما بدا لك فسوف يأتيك ما تكره)( ). وقد صدق سعيد، فما مكث جابر إلا يسيراً حتى قتل ابن الزبير، وكانت نهاية جابر السوداء المظلمة، وتلك عاقبة الظالمين. وهكذا عاش سعيد ممتحناً في دينه وهكذا شأن المتقين الأبرار، رحم الله سعيداً فقد جاد بنفسه في سبيل الحق وإقامة العدل فلم تزعزع إيمانه المحن بل زادته إيماناً ويقيناً بأن للدين صولة وللإسلام قوة ولا غرو في ذلك لأنه من العلماء الرجال... أعلمت أخي القارئ أن كل (جرم) سيد التابعين ابن المسيب في نظر عبد الملك بن مروان أنه لم يبايع ولي عهده، ولأنه امتنع عنها لوجود نص شرعي يحفظه، فهو حجة عليه يوم القيامة. وتلك إساءة عبد الملك ومظلمة سجلها عليه التاريخ وأنكرتها عليه الأمة وغضب عليه رب العالمين، ومن ينجو من عقاب هذه المظالم، وسيقال له يوم القيامة: "وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ"( ) نعم سيسأل كل حاكم عما اجترحه من سيئات ومظالم في حق أمته، ولو كان (عموماً) مطبقاً للإسلام منفذاً لأحكام القرآن حامياً للثغور مدافعاً عن بيضة المسلمين كعبد الملك. وكيف تكون المسؤولية والمحاسبة حين لا يكون الحكام كذلك؟ لا شك أن المسؤولية اليوم أعظم والمحاسبة يجب أن تكون أشد، إذ حكام الأمس الذين ذكرتهم في هذا الكتاب كالملائكة بالنسبة لحكام اليوم!! (مات سعيد سنة إحدى وتسعين هـ. وله من العمر 74 عاماً).

محنة سعيد بن جبير

وشى بي واشٍ في بلد الله الحرام أكله إلى الله تعالى. -ابن جبير- قال خصيف يوماً: كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاوس، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير)( ). تلك شهادة عالم حصيف هو الشيخ خصيف... في إمامنا الممتحن. كان ابن جبير من الذين يناوئون حكم عبد الملك بن مروان، لإساءة الأخير في حكم الرعية المسلمة، ولوقوع مظالم في عهده. وكان الحجاج بن يوسف، فاسق بني ثقيف، والياً لعبد الملك، يأخذ بالشبهات، ويتحرى المناوئين في جميع البلاد الإسلامية، لحكم أميره وسيده.. فيصب المحن عليهم، دون هوادة، ولا خوف من الله، المقتدر الجبار، وكان خالد بن عبد الله القسري والياً على مكة المكرمة- زادها الله مثابة وأمنا- وقد علم بوجود ابن جبير في ولايته، فألقى القبض عليه، واعتقله، ثم أراد أن يتخلص منه، لمعرفته بأن سعيداً، قد أوتي لساناً ناطقاً، وقلباً حافظاً، وسرعة بديهة بإلقاء الحجة القوية لإسكات خصمه. إذ هو ليس من أولئك الذين يخشون رهبة حاكم، ولا بطش سلطان في سبيل معتقده غير مبال بالنتائج مهما كانت. ودفعاً للوقوع في لجة المخاصمة وخضم المنافسة التي لا تضمن نصره وخوفاً من مس شعور أهل مكة. الذين يدينون بالولاء والاحترام لابن جبير، أرسله مخفوراً مع إسماعيل بن واسط البجلي، إلى الحجاج بن يوسف. وهنا تبدأ المحنة، ثم تشتد صورتها مع لقاء الحجاج طاغية العراق، وفي هذا اللقاء، غير الكريم، جرت المناقشة والمخاصمة الفكرية، كان سعيد فيها فارس الميدان، وصاحب لواء النصر والظفر، حيث كان فيها جريئاً، لا تلين قناته، صلباً لا يضعف سيف لسانه، يقول الحق، وهو يعلم أنه مفارق الدنيا، بسبب ذلك. (قال الحجاج: ما اسمك؟ سعيد: سعيد بن جبير. الحجاج: بل أنت شقي بن كسير. سعيد: بل كانت أمي أعلم باسمي منك. الحجاج: شقيت أمك وشقيت أنت. سعيد: الغيب يعلمه غيرك. الحجاج: لا بد لك بالدنيا ناراً تلظى. سعيد: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً. الحجاج: فما قولك في محمد؟ سعيد: نبي الرحمة وإمام الهدى. الحجاج: فما قولك في علي أهو في الجنة أم هو في النار؟ سعيد: لو دخلتها وعرفت من فيها، عرفت أهلها. الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟ سعيد: لست عليهم بوكيل. الحجاج: فأيهم أعجب إليك؟ سعيد: أرضاهم لخالقي. الحجاج: فأيهم أرضى للخالق؟ سعيد: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. الحجاج: أحب أن تصدقني. سعيد: إن لم أحبك لن أكذبك. الحجاج: فما بالك لم تضحك؟ سعيد: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار. الحجاج: فما بالنا نضحك؟ سعيد: لم تستو القلوب.) ذلك هو المشهد الأول من هذه المناقشة، أو قل الفصل الأول من المحنة، وقد بدا فيها الحجاج أنه غير قادر على إخضاع سعيد إليه، أو حمله على إعطاء الولاء لأميره وسيده، ولو بالإشارة أو التلميح.. ولم ينفعه التهديد بالقتل، كما لم تفده غلاظة الكلام، وقبح الاتهام.. وهنا يسلك الحجاج طريقاً آخر، لعله يصل فيه إلى ما يريد ويحصل على مبتغاه من سعيد. (ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت، فجمعه بين يديه، فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء للدنيا إلا ما طاب وزكا).. وهكذا ينتهي المشهد الثاني من هذه المحنة، فلم ينفع الحجاج هذا الإغراء بالمال والذهب، كما لم تسعفه منحه التي أومأ بها، فليس ابن جبير من عباد المال، ولا من الذين يبيعون دينهم بدنياهم، لذا فقد لقنه درساً لن ينساه، في أن المال، أعظم وسيلة لإصلاح الأعمال، وصلاح الآخرة، إن جمع بطريق الحلال الطيب.. لاتقاء فزع يوم القيامة، "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ"( ). ثم يسلك الحجاج سبيلاً آخر. (ثم دعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ بالناي، بكى سعيد، فقال: ما يبكيك؟ أهو اللعب؟ قال سعيد: هو الحزن، أما النفخ فذكرني يوماً عظيماً يوم ينفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت من غير حق، وأما الأوتار فمن الشاة تبعث يوم القيامة. فسعيد ليس من هواة الطرب ولا من رواد النادي والعود، وإنما من هواة الحق ورواد الإسلام الذي وهب حياته له، فإعراضه عن ذلك وإظهار حزنه حين تذكر الآخرة وشدة عذابها، فكان درساً آخر لقنه إياه، وإدراك المسلم ذلك دائماً، لما عصى الله، أو خالف أمراً من أوامره، وبعد أن أسقط في يده، وفشلت جميع تلك السبل، هنا اشتدت المحنة قليلاً، فعلا غضب الحجاج، وفقد أعصابه، وكاد ينهي هذه المحنة بمشاهدها، أو يصل إلى نهايتها، ولكن تريث إلى حين، لعله يحظى بشيء من سعيد. (قال الحجاج ويلك يا سعيد: فقال لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة. قال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك؟ فقال اختر أنت لنفسك، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة؟. فقال: أتريد أن أعفو عنك؟ فقال: إن كان العفو فمن الله وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر).. عند ذاك ضاق الحجاج ذرعاً بسعيد، ولم يطق صبراً عليه، وهو يتلقى منه هذه الأجوبة الجريئة والتي كانت سهاماً تصيب قلبه.. فأمر بإنهاء المحنة. (قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فردوه إليه، وقال: ما أضحكك؟ فقال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط. وقال: اقتلوه، فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. قال الحجاج: وجهوا به لغير القبلة. قال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله. قال الحجاج: كبوه على وجهه. قال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. قال الحجاج: اذبحوه. قال سعيد: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة.. اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي). فذبح من الوريد إلى الوريد. ولسانه رطب بذكر الله.. وبهذا انتهت محنة سعيد بن جبير باستشهاده. وبقيت المحن تصيب أمثاله، من الذين أعرضوا عن الحكام بكليتهم. لإعراض الحكام عن الله وعن دينه وشريعته. وهكذا شأن الله مع عباده المؤمنين الصابرين. فلم يُضيّع إيمانهم، أو لم ينسهم ذكره في أوقات محنتهم، وهم قادمون إليه، وكيف ينساهم.. أو يضيعهم.. ومحنتهم كانت في سبيله، ومن أجل إعزاز دينه. لذا قيل لهم: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)( ). قيل للحسن البصري رحمه الله تعالى: إن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير. فقال: "اللهم أنت على فاسق ثقيف. والله لو أن من بين المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله عز وجل في النار". (وقال أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه..( )).

محنة جعفر الصادق

من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه -الصادق- .. الصبر على ظنون الحكام من المحن –واستدعاء الحكام للصابرين، للتحقيق معهم في هذه الظنون بجو إرهابي عنيف من المحن أيضاً، وإرسال عيون الدولة لمراقبة التصرفات، وإحصاء الأنفاس وإرصاد الكلمات من المحن كذلك. ثم أليس من المحنة أن يوصي الإنسان أهله قبل كل استدعاء. لأنه لا يعلم مصيره ولا ما يجري له خلال هذا الاستدعاء. لأنه استدعاء ليس للتكريم.. تلك هي محنة إمامنا الجليل جعفر الصادق رضي الله عنه. مع أبي جعفر المنصور. لقد حدّث الصادق آباؤه الأئمة الطيبون، حدّثوه عن خذلان الناس لجده أبي عبد الله الحسين –رضي الله عنه- في ساعة العسرة، كما حدثوه عن الخيانة التي كانت سبباً بإنزال الفاجعة العظمى بأهل البيت، بيت النبوة والرسالة، تلك التي سوّدت وجه تاريخ الأمة الإسلامية، حيث قتل ابنُ دعيّها ابنَ نبيها... ولا حول ولا قوة إلا بالله. كما رأى الصادق عمه الإمام زيداً، كيف كانت نهايته ونهاية أولاده، حين اعتمد على من اعتمد، فخانوا الإمام ونكثوا العهود، فحلت النكبة وكانت المصيبة، حيث قتل الإمام زيد قتلة آثمة، ثم نبش قبره من بعد ما وري عليه التراب، فصلب جثمانه الطاهر، وذبح أبناؤه البررة. وقد مرت تلك الفاجعة ولكنها تركت ندوباً في نفس الإمام الصادق صفي زيد ورفيق صباه، وزادته بحال الشيعة في عصره، الذين كانوا يغرون ولا ينصرون ويتكلمون ولا يفعلون- ويحرضون وعند الشديدة يفرون، وأن المغرور من يخدع بهم. (كما قال إمام الهدى عليّ كرم الله وجهه في إخوان لهم قبل)( ). وكما قال الإمام السبط الحسين يوم فاجعته بالطف. ثم رأى –رضي الله عنه- أخيراً فعل المنصور بأولاد عمومته الأخوين الكريمين محمد بن عبد الله بن الحسن وأخيه إبراهيم حين خرج الأول في المدينة والثاني في العراق على حكم أبي جعفر المنصور. وشاهد بأم عينيه حوادث المحن. ووقائع المصائب، من مطاردة وملاحقة وتشريد وسجون ومصادرة أموال بأهل البيت النبوي الكريم حتى لم تنج من ذلك، تلك الشيبة الطاهرة عميد هذا البيت الرفيع العماد عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط، فمات في السجن مكموماً سنة 145 عقيب هذا الخروج. .. في هذا الجو الإرهابي الفظيع، عاش الإمام الصادق، فكان لا بد أن يصيبه شيء من ذيول ذلك الإرهاب العنيف ولو أنه وقف بعيداً عن ذلك الخروج. ولو أن المنصور كان يصانعه الود والاحترام. فالمنصور كان يتوجس خيفة من الإمام الجليل، وهذه الهواجس تدفعه إلى الشك أحياناً، وهناك من يجعل الشك عنده يقيناً بالتزوير والدس اللئيم. فكان يرسل عليه العيون والجواسيس، لإرصاد كلماته، التي كان يلقيها في حلقة درسه، كما يرصد حركاته وتصرفاته. إلا أن هذه المراقبة الشديدة، التي كان المنصور فيها بارعاً، بحيث كانت تقع دون أن يشعر الإمام بثقلها، وإن كان يعلم بوجودها. ولكن عندما تبلغ هذه الشكوك منزلة الظن الغالب على التصديق، التي كان يأتي بها رجال دائرة مباحثه، فإنه يستدعيه بغير تكريم، وهو ذلك الإمام الصابر على فواجع أهل بيته ونكبات بني عمومته. حين حصل خروج الأخوين الكريمين، همس رجال المباحث في أذن المنصور أن الإمام الصادق، يؤيد خروجهما. بل هو من ورائهما، والحقيقة خلاف ذلك فاستدعاه للتحقيق معه، وقد استعمل المنصور في هذا غلظة القول، وسلك سبيل الإساءة في هذا التحقيق، ولم يراع نور الهدى، وطيب الأرومة، ووقار الشيخوخة، التي بلغت السبعين، ولا حرمة القربى أو صلة الرحم أو مكانة العلم. ومن ذلك مناقشته وتحقيقه حين كان في الكوفة بعد أن بلغ الصادق وصيته لأهله (قال المنصور: أنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل البيت من بني العباس، وما يزيدك الله بذلك إلا شدة حسد ونكد، وما تبلغ به ما تقدره). فقال الإمام الصادق، والله يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من ذلك: هذا ولقد كنت في ولاية بني أمية وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر، فوالله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني شيء مع جفائهم الذي كان لي، وكيف أصنع هذا الآن وأنت ابن عمي، وأمس الخلق بي رحماً، وأكثر عطاء وبراً، فكيف أفعل ذلك، فأطرق المنصور ساعة.. ثم قال: يا جعفر ما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشق عصى المسلمين؟ تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء؟ .. قال الصادق: لا والله يا أمير المؤمنين ما فعلت، ولا هذه كتبي ولا خطي لا خاتمي –كان المنصور قد أخرج له كتباً إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض البيعة. فانتضى من السيف ذراعاً فما زال يعاقبه وجعفر يعتذر إليه، ثم أغمد السيف وأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال أظنك صادقاً)( ). هذه أجوبة الصادق برقتها وصدقها، وذاك كلام المنصور بخشونته وقسوته وكل منهما يعتز بسلطان يعتمد عليه. فإمامنا الصادق يعتز بسلطان الله الذي يغلب كل سلطان ولو بعد حين: والمنصور يعتز بسلطان الحكم وقوة الجند. وهو زائل ولو بعد حين وما أن انتهت مسألة الخروج خروج الأخوين الكريمين: انتهت حتى استدعى المنصور الإمام جعفر من المدينة المنورة، مرة أخرى إلى بغداد. فكتب إلى واليه وابن عمه داود بن علي أن يسير إليه جعفر بن محمد ولا يرخص له في التلوم (التمكث) والبقاء وكان القصد من ذلك، هو التحقيق معه في التهمة الموجه إليه بأنه يجمع الزكاة من جميع الآفاق وأنه مد بها محمد بن عبد الله بن الحسن فكان التحقيق التالي. (المنصور: يا جعفر ما هذه الأموال التي يجيبها لك المعلى بن خنيس؟)( ) الصادق: معاذ الله من ذلك يا أمير المؤمنين. المنصور: ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق؟ الصادق: نعم أحلف بالله أنه ما كان شيء من ذلك. المنصور: بل تحلف بالطلاق والعتاق. الصادق: أما ترضى بيميني بالله الذي لا إله إلا هو. المنصور: لا تتفقه عليّ. الصادق: وأين يذهب الفقه مني؟ المنصور: دع عنك هذا فإني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك هذا حتى يواجهك. فأتوه بالرجل وسألوه بحضرة جعفر فقال نعم هذا صحيح. وهذا جعفر بن محمد الذي قلت فيه ما قلت: الصادق: أتحلف أيها الرجل أن الذي رفعته صحيح؟ الرجل: نعم: ثم ابتدأ باليمين فقال: والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب الحي القيوم. الصادق: لا تعجل في يمينك فإنني أستحلفك. المنصور: ما أنكرت من هذا اليمين؟ الصادق: إن الله تعالى حي كريم يستحق من عبده إذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له ولكن قل أيها الرجل: أبرأ إلى الله من حوله وقوته وألجأ إلى حولي وقوتي لصادق بر فيما أقول. المنصور: احلف بما استحلف أبو عبد الله به. (قال راوي هذا الخبر فحلف الرجل بهذه اليمين، فلم يستتم الكلام حتى خر ميتاً فراع المنصور وارتعدت فرائصه، وقال للصادق يا أبا عبد الله سر من عندي إلى حرم جدك إن اخترت ذلك، وإن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبك، فوالله لا قبلت قول أحد بعدها أبداً). على هذه الأحوال المضطربة، والنفوس القلقة التي لا تعرف مصيرها المحتوم. وبهذه الظنون المريبة التي عقوبتها الإعدام، أو السجن المؤبد. وتلك العيون المحدقة والأحاسيس المرهفة التي تحصي الأنفاس، وترصد الكلام: وتلك التحقيقات التي تعدت هذا العدد الذي ذكرناه والتي أبى الحكام فيها أن يتركوا إمامنا العظيم، في هداءة العلم يعلم الناس الطيب من القول والمأثور من جوامع الكلم النبوي، وهو الإمام في فقه الكتاب والسنة. كما لم يتركوه وشأنه، يسبح الله في محرابه، مناجياً بذكر الآخرة، ويدعو على أولئك الظالمين، الذين فتكوا بالعترة النبوية الطاهرة، وقطعوا أغصان الدوحة النبوية المحمدية، مات الصادق موتة الصديقين والشهداء، فعليه سلام الله ورضوانه في الخالدين( )..).

محنة أبي حنيفة النعمان

خذ العفو وأمر بالمعروف وتغافل عما لا يعنيك وبادر في إقامة الحقوق. -أبو حنيفة- .. كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، غير راض على سياسة أبي جعفر المنصور بشكل عام، وخصوصاً قسوته وشدته مع خصومه، وخصوم آبائه العباسيين، وكانت المخاصمة شديدة والقسوة عنيفة مع العلويين، ومن يظهر التودد إليهم أو الترحم عليهم. والإمام أبو حنيفة كغيره من أئمة المسلمين وأجلاء العلماء، يحبون العلويين ولهم مكانة طيبة في قلوبهم. ثم إن الإمام رحمه الله تعالى جريء في فتاواه، صريح في أجوبته، شديد في محاسبته لأبي جعفر، كثير النقد لأحكام قضاته، وتصرفات ولاته، تمثلت به رجولة العالِم وشجاعة المؤمن، وصلابة الفقيه المتمسك بأحكام الشرع، لا يعرف نفاقاً ولا يسلك طريقاً منحرفاً في دعوته، ولا يهاب سطوة سلطان ولا يخشى قوة حاكم في قولة الحق، والمنصور أبو جعفر عرف هوى الإمام وأدرك نزعته السياسية والروحية، وتلك نزعة لم تنل رضاه، وهوى يغضبه وسلوك لا يريده، ولكن.. ماذا يفعل مع رجل عالم أوتي لساناً صادقاً وتأثيراً روحياً دفاقاً، يعمل ما لا يعمل الحسام. لأن ألسنة العلماء وهي غضاب تعمل ما لا تعمل السيوف العضاب. ثم في أي درب يسير عليه المنصور مع إمام أحبه الناس وملك قلوبهم. فمنه تؤخذ الفتوى وبه يقتدى. لسلامة قلبه وحسن سيرته وسعة علمه، ومزيد تقواه، وكلما تقرب منه شبراً ابتعد عنه الإمام ذراعاً ملتمساً بذلك إسكاته أو جره إلى صفوفه فكان قرباً لم يرد به وجه الله تعالى والدار الآخرة. لذلك فليس من السهولة والحالة هذه أن ينزل بإمامنا محنة أو يوقع به أذى. دون أن يلتمس المبررات التافهة، والذرائع الباطلة لتكون سبباً ظاهرياً لها. فعل ذلك في الوقت الذي عجز أن يؤاخذ إمامنا الجليل على مولاته لآل سيدنا علي رضي الله عنهم تلك التي نعتقد أنها السبب الخفي المباشر لمحنته. ولا حير في هذه المولاة بل هي مما دعا إليها الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام. فلا حق لحاكم مثل أبي جعفر أن يؤاخذ أحداً بسببها. ولكنها العصبية العائلية وحب السلطان التي تعمي البصائر والأبصار عن رؤية الحق الواضح. ومن الأسباب الظاهرة التي اتخذها المنصور ذريعة لمحنته الجائرة، أن أبا حنيفة كان جريئاً في بيان خطأ حكم القضاة في المسائل التي تعرض عليهم خصوصاً إذا خالفت رأيه الذي يعتقده صواباً، فيشكوه القضاة ليمتنع عن ذلك. (فقد روي أن ابن أبي ليلى القاضي، نظر في أمر امرأة مجنونة قالت لرجل يا ابن الزانيين، فأقام عليها الحد في المسجد قائمة وحدها حدين حداً لقذف أبيه، وحداً لقذف أمه، فبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال أخطأ فيها في ستة مواضع. أقام عليها الحد في المسجد، ولا تقام الحدود في المساجد، وضربها قائمة والنساء يضربن قعوداً، وضرب لأبيه حداً ولأمه حداً ولو أن رجلاً قذف جماعة كان عليه حد واحد، وجمع بين حدين ولا يجمع بين حدين، حتى يخف أحدهما، والمجنونة ليس عليها حد، وحد لأبويه وهما غائبان ولم يحضرا فيدعيا، فبلغ ذلك ابن أبي ليلى فدخل على الأمير فشكاه إليه، وحجر على أبي حنيفة. وقال لا يفتي فلم يفتِ أياماً)( ). وهكذا بدأت المحنة تدنو منه شيئاً فشيئاً وهو صابر مصابر محتسب، المحنة أخذت بالتتابع سريعة تنذر بوقوعها حيث سلك المنصور سبلاً أخرى، فأرسل إليه هدية ثمينة وهو يعلم أنها مردودة عليه لا محالة. ولكنه فعل ذلك ليضيف سبباً آخر وحجة أخرى. ولعل من المناسب إعادة ذكرها هنا لتسلسل الموضوع (أرسل إليه أبو جعفر بجائزة عشرة آلاف درهم وجارية، وكان عبد الملك بن حميد وزيره.. فقال لأبي حنيفة عندما رفضها: أنشدك بالله أن أمير المؤمنين يطلب عليك علة فإن لم تقبل صدق على نفسك ما ظن بك فأبى...)( ). وحين أراد المنصور أن يحرج أبا حنيفة ويتخذ من رفضه لمنحه وعطاياه ممسكاً أرسل إليه وقال له: (فلم لا تقبل صلتي فقلت (أي قال أبو حنيفة) ما وصلني أمير المؤمنين في ماله بشيء فرددته ولو وصلني بذلك لقبلته إنما أوصلني أمير المؤمنين من بيت مال المسلمين ولا حق لي في بيت مالهم، إني لست ممن يقاتل من ورائهم، فآخذ ما يأخذه المقاتل، ولست من ولدانهم فآخذ ما يأخذ الولدان، ولست من فقرائهم فآخذ ما يأخذه الفقراء...)( ). ثم هاك سبباً آخر. لقد مر بنا أن إمامنا الممتحن، أبان وجهة نظره في قتال أهل الموصل. وكان جوابه ذاك الذي أغاظ المنصور، فأسرها في نفسه واحتفظها عنده. وهنا برر للمنصور سبباً آخر وطلباً قد يكون وجيهاً، وذريعة ظنها محكمة ليجعل منها في إنزال المحنة بإمامنا الجليل، والمنصور يعلم مسبقاً أن طلبه مردود عليه أيضاً. ذلك هو توليه رئاسة القضاة في الدولة الإسلامية، فإن امتنع أخذه بهذا المنع، جهرة وأمام الناس، ملتمساً بذلك عذراً عند العوام –وهم سواد الناس- الذين لا يدركون بواطن الأمور ولا دوافع المطالب، مطالب الحكام، ثم إن أبا حنيفة وهو شيخ الفقهاء في العراق، وهو بحر في العلم لا تكدره الدلاء، فمن الصواب أن يكره على تولي القضاء لرفع منار العدل والحق في إرجاء الدولة، وليس في الإكراه ظلم ظاهر عند العوام... وإن رضي بهذه التولية تم الصلح بينهما وحسم النزاع، وآمن الإنكار، وانتهت المناوأة، وأنى له عند ذاك أن ينكر ويناوئ ويعترض وقد أصبح من رجالات الدولة، ومن المسؤولين في الحكم والمشتركين فيه. بهذا سولت للمنصور نفسه، فأقدم عليه بحزم. استدعى المنصور أبا حنيفة وعرض عليه تولي هذا المنصب الخطير، فامتنع وأعرض ولنسمع الحادثة من إمامنا نفسه: (.. إن هذا دعاني للقضاء فأعلمته أني لا أصلح، وأني لا أعلم أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولكنه لا يصلح للقضاء إلا رجل يكون له نفس يحكم بها عليك، وعلى ولدك وقوادك، وليست تلك النفس لي، إنك لتدعوني فما ترجع نفسي حتى أفارقك)( ). وجاء في هذا الرفض في مجلس آخر عن الربيع بن يونس: (رأيت أمير المؤمنين ينازل أبا حنيفة في أمر القضاء وهو يقول له: اتق الله ولا تدع أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم عليك ثم هددتني أن تغرقني في الفرات أو إلى الحكم لاخترت أن أغرق. لك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك فلا أصلح لذلك، فقال: كذبت أنك تصلح. فقال: قد حكمت على نفسك، كيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك كذاباً( )؟ وهنا حصل المنصور على ما يريد، ونال ما بيت في نفسه، فأنزل به المحنة... أذكرها بروايتها كما رويت في كتب المناقب. روي عن داود بن راشد الواسطي، أنه قال: (كنت شاهداً حين عذب الإمام ليتولى القضاء، كان يخرج كل مرة فيضرب عشرة أسواط حتى ضرب عشرة ومائة سوط، وكان يقال له: اقبل القضاء، فيقول: لا أصلح فلما تتابع عليه الضرب؟ قال خفياً: (اللهم أبعد عني شرهم بقدرتك) فلما أبى دسوا عليه السم فقتلوه)( ). (وروي أن أبا جعفر المنصور حبس أبا حنيفة على أن يتولى القضاء ويصير قاضي القضاة فأبى حتى ضرب مائة وعشرة أسواط وأخرج من السجن على أن يلزم الباب)( ). (وروي أن المنصور حبسه وضيق عليه مدة، وكلم المنصور بعض خواصه فأخرج من السجن ومنع من الفتوى والجلوس للناس والخروج من المنزل، فكانت تلك حالته إلى أن توفي)( ). تلك محنة الإمام أبي حنيفة، منعاً عن التدريس والإفتاء. وإقامة جبرية في الدار، وضرباً بالسياط، وحبساً في السجن ثم قتلاً بالسم إن صدقت الرواية، كل ذلك لأنه أبى أن يساير الحكام في أهوائهم وأن يوافق على أعمالهم وأن يستجيب لطلباتهم... وهكذا ينبغي أن يكون العلماء في كل حين إن كانوا علماء حقاً... (.. مات أبو حنيفة كما يموت الصديقون والشهداء وكان ذلك سنة 150هـ وكان في الموت راحة لذلك الضمير المضيء ولذلك الوجدان الديني المرهف، ولذلك القلب القوي، ولذلك العقل الجبار، ولتلك النفس الصبور، التي لاقت الأذى فاحتملته، لاقته من المخالفين له في الآراء ورميت في كل رمية، فتحملتها مطمئنة راضية مرضية، ولقيت الأذى من السفهاء ثم لقيته من الأمراء والخلفاء. وما ضعفت وما وهنت، وإذا كان للنفوس جهاد، ولجهادها ميادين، فأبو حنيفة رضي الله عنه كان أعظم أبطال ذلك النوع من الجهاد، وممن انتصر في كل ميادينه. وكان جلداً في جهاده قوياً في جلاده، حتى وهو يلفظ النفس الأخير فهو يوصي بأن يدفن في أرض طيبة لم يجر عليها غضب، وألا يدفن في أرض اتهم أمير بأنه غصبها حق يروى أن أبا جعفر عندما علم ذلك قال: (من يعذرني من أبي حنيفة حياً أو ميتاً( )..). وبموته رضي الله عنه انتهت محنته ثم تتابعت المحن تنزل بأقرانه من أئمة المسلمين...

محنة مالك بن أنس

سئل عن الخارجين على الحكام أيجوز قتالهم؟ قال: نعم إن خرجوا على مثل عمر بن عبد العزيز. قالوا: فإن لم يكونوا مثله؟ قال دعهم ينتقم من ظالم لظالم ثم ينتقم من كليهما. -مالك- في البلد الطيب وفي مركز الإشعاع الفكري والروحي، وفي موطن النور المحمدي وفي حرم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي جوار المصطفى حبيب الرحمن، وبين القبر الشريف والمنبر العظيم، القبر الذي يضم تربة سيد الخلق وإمام المرسلين صلى الله عليه وسلم والمنبر الذي رفعت عليه كلمة الإسلام عالية المنبثقة من كلمة التوحيد، حيث أخذت تدوي في المشرقين. لتهدي الضال وتبصر العمي وتنير درب المظلومين والمحرومين، وتحدد سبيل تحرير الشعوب من ربقة عبودية البشر. وطريق التخلص من سيطرة الطغاة، وحكم الجائرين ومن على هذا المنبر كان العلماء ينهلون من معينه الذي لا ينضب ومنه يستلم القادة العسكريون وأمراء الأجناد أوامر السير نحو الفتوحات. ويأخذ الحكام والولاة نصيبهم من التعليمات والتوجيهات هناك بين القبر والمنبر. الروضة المباركة التي ما جلس أحد فيها هنيهة بروحه وجسده إلا وشعر أنه حقاً في الجنة من ذاك الرحاب الطاهر. كان الإمام مالك بن أنس يأخذ كامل زينته من طيب ولباس. ووافر حظ من حسن الأدب جالساً على منصة متواصفة يبين للناس ويعلم، هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قائلاً: حدثني فلان بن فلان أن صاحب هذا القبر قد قال: والناس يسمعون، وكأنما على رؤوسهم الطير، وهم بين ناصت بكل جوارحه ليصن قلبه ويحفظ عقله، وبين كاتب يسجل على قرطاس. وكان مما حدّث به هذا الإمام الجليل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس على مستكره طلاق)( ). ... وما أن نطق بهذا الحديث الصحيح. وإذا بالألسن تتداوله ذائعة أمره، حتى شاع وانتشر بين الخلق في مدينة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام. ثم أخذت التأويلات لهذا الحديث تجري على قدم وساق. كل طائفة وجدت فيه بغيتها وعضت عليها بالنواجذ لأن فيه مستنداً شرعياً لما عزمت عليه من أمر مما بيتت من فعل. فالمناوئون لحكم أبي جعفر المنصور وجدوا فيه مستنداً قوياً على التحلل من بيعة المنصور لأنها جاءت –كما اعتقدوا- عن طريق الإكراه. إذ قاسوا البيعة على الطلاق فقالوا: وليس على مستكره بيعة). وأنصار محمد بن عبد الله بن الحسن رضي الله عنهم وجدوا فيه متكئاً حين خروج هذا الإمام الجليل. أما الحكام من أبي جعفر وولاته فقد وجدوا في نشر هذا الحديث خطراً عليهم وعلى كيانهم، لذلك حاولوا أن يمنعوا الإمام مالكاً من التحدث به. ولكنه لم يفعل، وهددوه فلم يسمع. لأنه يؤمن بأن الله أوجب على العلماء أن يبينوا للناس ما نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكتمونه ولم يكن الإمام مالك من الجبناء الذين يكتمون أحكام الإسلام. إرضاء لهوى الحكام، أو خوفاً من بطشهم وجبروتهم أو أسواطهم وأغلالهم، عند ذاك نزلت المحنة ووقع الأذى، والسؤال الذي يرد؟ من أنزل بإمامنا هذه المحنة فباء بأثمها وتولى كبرها، وحصد شرها؟ الروايات التاريخية تشير إلى ما يلي: .. أن أبا جعفر (نهاه أن يحدث بهذا الحديث ثم دس إليه من يسأله عنه فحدث به على رؤوس الناس فضربه( )). ومثل هذا روى ابن عبد البر في الانتقاء. (لما ادعى مالك بن أنس وشور وسمع منه وقبل قوله شنف له الناس( )) وحسدوه ونعتوه بكل شيء، فلما ولى جعفر بن سليمان على المدينة سعوا به إليه وكثروا عليه عنده، وقالوا لا يرى إيماناً ببيعتكم هذه شيء. وهو يأخذ بحديث رواه: (ثابت بن الأحنف في طلاق المكره لا يجوز)( ). (بعد أن ذكر هياج أهل المدينة على المنصور في أول أمره، أنه أرسل إليهم ابن عمه (جعفر بن سليمان). فاشتد في أهل المدينة الخلاف وأخذت البيعة للخليفة، فسعى حسدة الإمام مالك إلى الأمير أنه يفتي بالأيمين على مكره فيحل بهذا ما أبرمتموه مما قام على الاستكراه، فأراد أن يبدر فيه فقيل لا تبدر فإنه أكرم الناس على الخليفة فدس إلى مالك بعض ثقاته فأفتاه على طمأنينة منه، فلم يشعر إلا ورسول جعفر فيه فأتوا به فتنهك الحرمة وضربه سبعين سوطاً أضجعته بعد انتهاء الفتنة)( ). والذي يبدو في هذه الروايات أن الذي تولى كبر هذه المحنة ونفذها هو ابن عم المنصور –جعفر بن سليمان- وكان المنصور على علم بذلك وإن لم يكن من ظاهر الواقع ضارباً أو آمراً بالضرب. (ونحن لا نستطيع أن ننفي أن يكون ذلك بعلم ورضا من المنصور الداهية الذي كان على علم بما يجري داخل دولته وخاصة من كبارها وأن الذي كان على عالم بداخل بيت مالك حتى يعرف أنه كان يأمر خادمه بإدارة الرحى حتى لا يسمع الجيران صوت ابنته من البكاء جوعاً ما كان يجهل بما يجري)( ). ولكن الخبث السياسي الذي يحمله أصحابه من الحكام يجعلهم يحملون إثم الأفعال وكبر المحن غيرهم لتكون لهم فرصة البراءة لأنفسهم عند اللزوم بين الناس إذا وجدوهم قد أنكروا هذا الإثم وسخطوا من تلك المحن لظهور الظلم فيها، أما الله فلا تخفى عليه خافية فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهذا ما اتبعه المنصور مع مالك، عندما برأ الأخير من جراحه وطلب إليه الاجتماع بمنى في موسم الحج. يقول مالك (لما وصلت على أبي جعفر وقد عهد إليّ أن آتيه في الموسم قال لي: والله الذي لا إله إلا هو ما أمرت بالذي كان ولا علمته، إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين ظهرهم وإني أخالك أماناً لهم من عذاب ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة، فإنهم أسرع الناس إلى الفتن، وقد أمرت بعدو الله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على قتب وأمرت بضيق محبسه والاستبلاغ في اتهامه ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه، فقلت عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه قد عفوت عنه لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته منك قال: فعفا الله عنك وأوصلك)( ). ومثل هذا روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة. تلك عظمة مالك من تسامحه واحتسابه السبعين سوطاً لله، له بها ثواب الصابرين ومثوبة المؤمنين... (وبهذا انتهت محنته وعاد إلى دروسه وصنف كتابه الموطأ بعد ذلك ولكن المحن لم تزل قائمة بأقرانها( ))...

محنة أحمد بن حنبل

إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتي يتبين الحق. -ابن حنبل- تبنت الدولة الإسلامية في أواخر حكم المأمون سنة 218 هـ الفكرة القائلة بخلق القرآن الكريم، واستعملت قوة سلطانها وصرامة جندها في تنفيذها. وأنزلت المحن الشداد بالمعارضين والمخالفين لها، بل والساكتين من الذين توقفوا فيها. واستمر هذا التبني حتى حكم المعتصم والواثق إلى أن جاءت سنة 234هـ ، فآن للدولة في بداية حكم المتوكل أن ترفع هذا التبني وتبطله وبذاك خلصت الأمة من شروره ومحنه. وتبني الدولة في ذلك خاطئ حتى لو كانت الفكرة المتبناة صحيحة لأنها مما يتعلق بفروع العقيدة الإسلامية لا بأصولها. وفروع العقيدة لا يكون فيها التبني من قبل الدولة الإسلامية وذلك بإلزام الناس بها وجبرهم على اعتناقها. ولكيلا تخرج رعيتها ما دامت هذه الفروع لا تناقض أصول العقيدة، تلك التي تجعل الفرد مسلماً ويكون معتنقوها مسلمين، وبدون الإيمان بأصول العقيدة يكون الكفر والخروج من حضيرة الإسلام. وكيف وأن تلك الفكرة –خلق القرآن الكريم- خاطئة وحمل الناس على اعتناقها بالقوة –قطعاً للرؤوس وضرباً بالسياط وإغلالاً بالآسار وحبساً بالسجون –جريمة يتولى إثمها أصحابها والمنفذون لها. ولكن هكذا رغب المأمون فسلك هذا الطريق غير المأمون!! والذي يهمنا من محنة هذا الإمام الجليل وأقرانه الذين شاركوه فيها أن نذكر مواطن المحنة ونسجلها كما وردت في كتب الثقات من المؤرخين. أما فيما يتعلق بها ويدور في فلكها فسيكون نصيب ذكرها الإيجاز لا التفصيل. أصحاب هذه الفكرة هم المعتزلة. والمعتزلة قالوا إن القرآن الكريم مخلوق لأن الله تعالى خلقه وأنزله على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال جمهرة الفقهاء والمحدثين، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى بأن القرآن غير مخلوق لأنه كلام الله وكلامه غير مخلوق. وتوقف آخرون عن بيان رأيهم في ذلك لأسباب اعتقدوا بها. ولكن المعتزلة استطاعوا لقربهم من المأمون واستوزارهم له أن يحملوا المأمون على اعتناق فكرتهم هذه وتنفيذها بقوة سلطانه، وذلك عن طريق تبنيها من قبل الدولة. واستمر هذا التبني إلى حكم المعتصم والواثق وبداية حكم المتوكل بوصية يوصي بها الحاضر اللاحق. ونفذ المأمون هذه الفكرة بأربع مراحل. المرحلة الأولى: استعمل المأمون أسلوب حرمان العلماء والفقهاء والمحدثين من وظائف الدولة وعدم قبول شهادتهم في القضاء، وذلك في حالة معارضتهم لهذه الفكرة وعدم قبولها إياها. يوضح هذا ما جاء في كتابه الأول إلى عامله على بغداد إسحاق بن إبراهيم، وهذا نصه: (... فاجمع من بحضرتك من القضاة واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشفهم عما يعتقدون في خلق القرآن وأحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق فيما قلده الله واستحفظ من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث، ولم يره، والامتناع عن توقيعها عنده)( ). المرحلة الثانية: حرمان المخالفين من أعطيات الدولة من الذين يتولون التعليم والإرشاد ويتصدون للفتوى، أمثال عفان بن مسلم، إذ يقول: (فقال لي إسحق: إن أمير المؤمنين أمر إن لم تجبه يقطع عنك ما يجرى عليك وإن قطع عنك أمير المؤمنين قطعنا نحن أيضاً، فقلت له: قال الله تعالى (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فسكت عني إسحاق)( ). المرحلة الثالثة: وفيها اشتدت المحنة ضراوة، إذ جعل عقاب المخالفين والمعارضين الضرب بالسياط، والآسار بالأغلال والطرح بزنزانات السجون ثم إرسالهم إليه مخفورين. وأمر بتنفيذ ذلك حاكم بغداد كما جاء في كتابه الثالث إليه: (... فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في الطريق حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين ويسلمهم إلى من يؤمر بتسليمهم، لينطقهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعاً على السيف إن شاء الله ولا قوة إلا بالله)( ). المرحلة الرابعة: وقد بلغ العقاب أوجه وهو الإعدام بقطع الرؤوس عن الهامات وأمر بتنفيذ هذا العقاب واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم، فجاء بكتابه الرابع إليه: (.. فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قال بمقالته، إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح والشرك المحض عند أمير المؤمنين، فإن تاب منها فأشهر أمره وأمسك عنه وإن أصر على شركه ودفع أن يكون القرآن مخلوقاً بكفره وإلحاده فاضرب عنقه بالسيف وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه)( ). وبهذا انتهى تعيين أساليب التنفيذ، فدخلت المحنة مرحلتها الأخيرة وسارع إسحاق حاكم بغداد إلى طاعة أميره. فاجتمع بكبار علماء بغداد وكان من جملتهم إمامنا أحمد لمناقشتهم وجرى الامتحان. وكانت الأجوبة متفاوتة في الصراحة والجرأة، فمنهم الموفق بين رأيه الخاص ورأي الدولة، ومنهم المتأول، ومنهم الآخذ بقاعدة التقية؟؟ ولكن أربعة منهم في هذا المجلس ربط الله تعالى على قلوبهم فثبتهم ورضوا بحكم الله تعالى فيهم، فأعلنوا رأي الإسلام كما يعتقدونه في هذه الفكرة بوضوح متحملين كل مشقة في هذا السبيل، وهم إمامنا أحمد ومحمد بن نوح وعبيد الله القواريري، وسجادة. عند ذاك أخذ هؤلاء الأربعة الكرام مصفدين في الأغلال وأدخلوا زنزانات السجن.. ينتظرون.. وفي اليوم التالي جيء بهم إلى حاكم بغداد لإعادة السؤال عليهم. وأعطوا فرصة الإجابة، فأجاب سجادة بما تريد الدولة، فأطلق سراحه... ثم أتيحت لهم الفرصة الثانية، فلحق القواريري بصاحبه وبقي اثنان الله ثالثهما ابن حنبل وابن نوح رضي الله عنهما. وسجادة والقواريري قد أخذا بالرخصة، وإمامنا وصاحبه قد أخذا بالعزيمة فكانا أفضل من أخويهما. وكان سلوكهما هو السلوك الأصح وهو الطريق الأحق وهو المفروض على أمثالهما من الأئمة الذين يهتدى بهداهم ويقتدى بهم. لأنهما رضي الله عنهما لو سلكا سبيل أخويهما. لضل الناس واعوج الطريق بهم وكان الفساد ولظن الناس –وليس لهم علم بما في الصدور- أن ذلك هو الحق وهو الذي ارتضاه أئمتهم وعلماؤهم دنيا وعقيدة. ولذلك يقول إمامنا أحمد (إذا أجاب العلم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق) فحق على العلماء الرجال أن يثبتوا في المحن ويجهروا بالحق ليحفظوا على الناس دينهم. ويأمن الإسلام شر الطعن به وتكون محنهم طريقاً إلى نشره وسبيل العض عليه بالنواجذ. وهذا ما نطق به أحمد وأقرانه. وهذا ما أراده واعتقده. وهذا ما تحقق ووقع.. وسيجد القارئ الكريم ذلك واضحاً من خلال تفصيل هذه المحنة. نفذ حاكم بغداد أمر الخليفة. فحمل الفقيهين على الإبل موثقين في الأغلال. ليواجهوا المأمون في طرسوس. وفي الطريق، وقع ما حدث به المؤرخون الثقات بما هو آت، جاء في طبقات الشافعية وذكر ابن الجوزي بسنده إلى ابن جعفر الأنباري أنه قال: لما حمل أحمد إلى المأمون، أخبرت، فعبرت الفرات فإذا هو جالس فسلمت عليه، فقال: (أي أحمد بن حنبل) –يا أبا جعفر تعنيت، فقلت ليس في هذا عناء. وقلت له أنت اليوم رأس والناس يعتقدون بك. فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن. ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله. وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا كان الرجل –يعني المأمون- إن لم يقتلك تموت ولا بد من الموت، فثق بالله ولا تجبهم إلى شيء. قال: فجعل –أحمد يبكي ويقول ما شاء الله ما شاء الله( ) وفي الطريق أيضاً. ذكر أبو نعيم وغيره( ) أن أحمد بن غسان المكلف بإشخاص أبي حنبل إلى المأمون قال: فلما صرنا إلى (أذنه) ورحلنا منها وذلك في جوف الليل فتح لها بابها فلقينا رجل ونحن خارجون من الباب وهو داخل فقال: البشرى؟ قد مات الرجل –يعني المأمون-. وقال أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل: فصار أبي ومحمد بن نوح إلى طرطوس وجاء نعي المأمون من (البذندون) فردا في أقيادهما إلى الرقة وأخرجا من الرقة في سفينة مع قوم محبسين فلما صارا بعانات (وتسمى اليوم عانه) توفي محمد بن نوح رحمه الله تعالى وتقدم أبي فصلى عليه، ثم صار أبي إلى بغدد وهو مقيد، فمكث بالياسرية أياماً ثم صير إلى الحبس في دار اكتريت عند دار عمارة، ثم نقل بعد ذلك إلى حبس العامة في درب الموصلية. نعم مات محمد بن نوح في الطريق. فكان شهيداً مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (... ومن مات في سبيل الله فهو شهيد..)( ) فاستراح وذهب إلى ربه راضياً مرضياً وقد أدى الذي عليه وبقي الذي على إخوانه العلماء.. وانتهت بذلك محنته ولكن صاحبه ابن حنبل، لا زال في المحنة منتظراً.. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)( ). وفي سجن أحمد الذي طرح فيه ثمانية وعشرين شهراً. بقي صامداً فلم يغير رأيه ولم يبدل موقفه. وكلما ازدادت المحنة ويلات ازداد إيماناً وثقة بربه وبكتابه الذي يكافح من أجله. ورغم محاولات إقناعه بالعدول عن رأيه، واستجابة أمر الدولة اتسعت المحنة واشتدت وبلغت أقصاها، رغم شفاعات الشافعين الذين قاموا بها متبرعين من أنفسهم... قال إسحاق بن حنبل –عم إمامنا أحمد- "كنت أتكلم مع أصحاب السلطان والقواد في خلاص أبي عبد الله، فلم يتم لي الأمر، فاستأذنت على إسحاق بن إبراهيم فدخلت عليه وكلمته. فقال لحاجبه: اذهب معه إلى ابن أخيه. ولا يكلم ابن أخيه بشيء إلا أخبرتني به". قال إسحاق بن حنبل: فدخلت على أبي عبد الله ومعي حاجبه، فقلت: يا أبا عبد الله قد أجاب أصحابك وقد أعذرت فيما بينك وبين الله، وبقيت أنت في الحبس والضيق. فقال أبو عبد الله: يا عم، إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل، متى يتبين الحق؟ قال: فأمسكت عنه. ثم قال: فذكر أبو عبد الله ما روي في التقية من الأحاديث. فقال: كيف تصنعون بحديث خباب؟ إن كان قبلكم ينشر أحدهم بالمنشار ثم لا يصده ذلك عن دينه( ). قال: فيئسنا منه. ثم قال: لست أبالي بالحبس، ما هو إلا ومنزلي واحد، ولا قتلا بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط، وأخاف أن لا أصبر. فسمعه بعض أهل الحبس وهو يقول ذلك. فقال: لا عليك يا أبا عبد الله. ما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي. فلما سمع ذلك سري عنه( ). وذكر أبو نعيم ومثله المقريزي: (حدثنا محمد بن جعفر وعلي بن أحمد والحسين بن محمد قالوا: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل قال: قال أبي رحمه الله لما كان في شهر رمضان لليلة سبع عشرة خلت منه، حولت من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم (حاكم بغداد) وأنا مقيد بقيد واحد يوجه إلي في كل يوم رجلان سماهم أبي قال أبو الفضل صالح هما أحمد بن رباح وشعيب الحجام يكلماني ويناظراني فإذا أرادوا الانصراف دُعي بقيد فقيدت به، فمكثت على هذه الحالة ثلاثة أيام، وصار في أرجلي أربعة أقياد)( ). ثم ماذا حدث لإمامنا بعد ذلك. هذا ما يحدثنا به الإمام نفسه، فقال حاكياً حاله: (... فلما كانت الليلة الرابعة بعد العشاء الآخرة وجه المعتصم ببغا –وهو رسوله- إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بحملي، فأدخلت على إسحاق، فقال: يا أحمد، إنها والله نفسك. إنه قد حلف ألا يقتلك بالسيف، وأن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس. أليس قد قال الله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً)( ) أفيكون مجعولاً إلا وهو مخلوق؟ فقلت له: قد قال الله تعالى: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ)( ) أفخلقهم؟ فقال: اذهبوا به، فأنزلت إلى شاطئ دجلة وأحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان، ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق فقال بغا لمحمد المحاربي بالفارسية: ما تريدون من هذا الرجل؟ قال: يريدون أن يقول القرآن مخلوق. فقال: ما أعرف شيئاً من هذا إلا قول لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقرابة أمير المؤمنين من رسول الله. ولما وصلنا إلى الشط أخرجت من الزورق، فجعلت على دابة والأقياد عليّ. وما معي أحد يمسكني. فجعلت أكاد أخرّ على وجهي، حتى انتهى بي إلى الدار، فدخلت ثم عرج بي إلى حجرة فصيرت في بيت منها، وغلق عليّ الباب، وأقعد عليه رجل وذلك في جوف الليل وليس في البيت سراج)( ). ثم ماذا فعل في تلك الزنزانة الضيقة المظلمة؟؟ وكيف كان ينهي ليله البهيم؟؟ أسمعه يقول: (فاحتجت إلى الضوء فمددت يدي أطلب شيئاً فإذا أنا بإناء فيه ماء وطست فتهيأت للصلاة فقمت أصلي)( ). بالصلاة قضى إمامنا أحمد ليله، وهل هناك أحب إليه من الصلاة ومن مناجاة ربه الذي يمتحن من أجل قرآنه وذكر المجيد، وكم للصلاة خشوع ولها قبول إن كانت في وقت السحر، وفي ساعات الشدة والمحن؟ وفي الصباح جرت المحاكمة الأولى للإمام على الوجه الذي يرويه هو رضي الله عنه: (فلما أصبحت جاءني الرسول فأخذ بيدي فأدخلني الدار وإذا هو جالس (المعتصم) وابن أبي دؤاد حاضر وقد جمع أصحابه، والدار غاصة بأهلها، فلما دنوت منه، سلمت فقال ادنه ادنه، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ثم قال لي: اجلس، فجلست وقد أثقلتني الأقياد. فلما مكثت هنيهة، قلت، تأذن في الكلام؟ فقال: تكلم. قلت: إلام دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي إلى أي شيء دعا إليه صلى الله عليه وسلم) فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله. فقلت أنا أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قلت: إن جدك العباس يحكي أن وفد عبد القيس، لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله. فقال: أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم.( ) قال المعتصم: ما تقولون في القرآن؟ قلت له: ما تقول في علم الله؟ فسكت فجعل يكلمني هذا وهذا فأردّ على هذا وأكلم هذا. ثم قلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول به ما أراده فقال ابن أبي داود: أنت تقول إلا ما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت له: تأولت تأويلا، فأنت أعلم وما تأولت ما يحبس عليه ويقيد عليه، فقال ابن أبي داود هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع وهؤلاء قضاتك والفقهاء، فسلهم. فقال لهم (المعتصم) ما تقولون؟ فيقولون يا أمير المؤمنين هو ضال مضل مبتدع). تلك مقالة علماء السوء وطلاب الدنيا وعبيد أهوائهم. حينما يخاصمون قرناءهم في المعتقد، ويخالفونهم في الرأي في كل زمان. ثم قال الإمام أحمد: (ولا يزالون يكلمونني وجعل صوتي يعلو على أصواتهم. فقال لي إنسان منهم: قال الله تعالى (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ)( ) أفيكون محدث إلا مخلوق؟ فقلت له: قال الله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)( ) والذكر هو القرآن وتلك ليس فيها ألف ولا لام. فجعل ابن سماعة (وهو من قضاة المعتصم) لا يفهم ما أقول. فجعل يقول لهم ما يقول؟ فقالوا إنه يقول كذا وكذا. فقال لي إنسان منهم حديث خباب يا هذا تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه. فقلت له: نعم هكذا هو)( ). فجعل ابن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظ متغيظاً عليه. فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فتكلم. فلما قارب الزوال قال لهم: قوموا. وهكذا انتصر الإمام عليهم بفكره وقوي حجته وخاب المبطلون؟ فالمعتصم يستمع إلى تلك المناقشة أو المحاكمة التي علا فيها صوت الحق المتمثل بحجج أحمد وبراهينه من الصباح حتى قاربت صلاة الظهر. ثم اتبع المعتصم أسلوباً آخر لعل به يزحزح أحمد عن إيمانه ومعتقده. يقول الإمام أحمد: "ثم احتبس (أي المعتصم) عبد الرحمن بن إسحاق فخلا بي وبعبد الرحمن، فجعل يقول لي: أما تعرف صالحاً الرشيدي؟ كان مؤدبي وكان في هذا الموضع جالساً، وأشار إلى ناحية من الدار، فتكلم وذكر القرآن فخالفني فأمرت به فسحب ووطئ. ثم قال: ما أعرفك؟ ألم تكن تأتينا؟ فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين: أعرفه منذ ثلاثين سنة، يرى طاعتك والحج والجهاد معك( ). وهو ملازم لمنزله. فجعل يقول (المعتصم): والله إنه لفقيه وإنه لعالم، وما يسرني أن يكون مثله معي، يرد على أهل الملل، ولئن أجابني إلى شيء، له فيه أدنى فرج، لأطلقن عنه بيدي ولأطأن عقبه، ولأركبن إليه بجندي. ثم يلتفت إلي ويقول: ويحك يا أحمد ما تقول؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما طال بنا المجلس ضجر فقام فرددت إلى الموضع الذي كنت فيه". رجع الإمام إلى سجنه الضيق وهو مقيد الأغلال مرفوع الرأس ثابت الإيمان، قوي الجنان، شاكر ربه على توفيقه إياه ونصره في تلك المناقشة وفي تلك السبيل ذات التهديد المرعب والإغراء العريض. ثم يقول الإمام أحمد رضوان الله عليه: "ثم وجه إلي برجلين هما صاحب الشافعي (عبد الرحمن بن إسحاق) وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد، فيناظراني فيقيمان معي حتى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام. فجعلا يأكلان وجعلت أتعلل حتى ترفع المائدة. وأقاما إلى غد، وفي خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي: يا أحمد يقول أمير المؤمنين ما تقول؟ قلت له: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به. فقال لي ابن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في السبعة فمحوته ولقد ساءني أخذهم إياك، وإنه والله ليس السيف أنه ضرب بعد ضرب. ثم يقول لي: ما تقول؟ فأرد عليه نحواً مما رددت عليه". هكذا يدعي شيخ المعتزلة وهو صاحب فكرة المحنة؟ محاولة منه لإرجاع الإمام عن معتقده لينتصر مذهبه، ولكن محاولاته باءت بالفشل الذريع. ورجع ابن أبي دؤاد إلى منزله ليستعد للمناقشة في اليوم الثاني. ثم يقول الإمام أحمد: "وفي اليوم الثاني دخلت على المعتصم فقال: ناظروه وكلموه، فجعلوا يتكلمون، هذا من هنا وهذا من هنا. فأرد على هذا أو هذا. فإذا جاءوا بشيء من الكلام بما ليس في كتاب الله وسنة رسوله ولا فيه خبر ولا أثر، أقول لهم: ما أدري ما هذا. فيقول: يا أمير المؤمنين إذا توجهت له الحجة علينا وثب، وإذا كلمناه بشيء يقول ما أدري ما هذا. فيقول: ناظروه. ثم قال: يا أحمد إني عليك شفيق... وكان إذا انقطع الرجل (أي إذا لزمته الحجة فأفحم ولا يستطيع ردا) اعترض ابن أبي دؤاد". ثم يقول الإمام أحمد: "ثم أمرهم بعد ذلك بالقيام وخلا بي وبعبد الرحمن بن إسحاق، فيدور بيننا كلام كثير، ومن خلال ذلك قال: تدعو أحمد بن أبي دؤاد فأقول ذلك إليك، فيوجه فيجيء فيتكلم، فلما طال بنا المجلس قام. ورددت إلى الموضع الذي كنت فيه، وجاءني الرجلان اللذان كانا بالأمس فجعلا يتكلمان فدار بيننا كلام كثير. فلما كان وقت الإفطار جيء بالطعام على نحو مما أتِيَ به في أول ليلة فأفطروا وتعللت وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار (وهو الواسطة بين الإمام والمعتصم) فيمضي إليه برسالة على نحو ما كان في أول الليلة، حتى إذا كدت أن أصبح أخرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد أحملها بها إذا توجهت إليه، فقلت لبعض من كان معي المتوكل بي: أريد خيطاً، فجاءني بخيط، فشددت به الأقياد وأعدت التكة في سراويلي، ولبستها كراهية أن يحدث شيء من أمري فأتعرى". بقي الإمام يومين بلا طعام.. لأنه صائم فاستعد بذلك روحياً على استعداده فكرياً. إذ قد رفض أن يأكل من طعام القوم... لأنه في ضيافة الله. نعم استعد لذلك روحياً وفكرياً. للجلسة الثالثة من محاكمته، التي سيكون فيها إعطاء القرار النهائي... ولم ينس احتياطه لعورته أن تكشف، لأنه قرر الصمود والثبات لكل ضرب أو سيف حتى يلقى العليم الخبير. أما خصومه فقد استعدوا أيضاً ولكن غير استعداده. وجاء اليوم الثالث وتأيدت ظنون الإمام. قال الإمام: (فلما كان في اليوم الثالث أدخلت عليه (المعتصم) والقوم حضور. فجعلت أدخل من دار إلى دار. وقوم معهم السيوف، وقوم معهم السياط وغير ذلك من الزي والسلاح. وقد حشيت الدار بالجند ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء حتى صرت إليه. قال: ناظروه وكلموه، فعادوا بمثل مناظرتهم. فدار بيننا وبينهم كلام كثير، حتى إذا كان في الوقت الذي كان يخلو بي فيه نحاني ثم اجتمعوا وشاورهم ثم نحاهم ودعاني. فخلا بي وبعبد الرحمن بن إسحاق، فقال لي ويحك يا أحمد، أنا والله عليك شفيق وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني فأجبني؟. فقلت (يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله) وهنا ضاقت نفس المعتصم كما ضاق لسانه عن النطق الجميل كما سيضيق عليه قبره، يوم قيامته، فأصدر أوامره الجهنمية بإنزال العقاب الذي ما بعده عقاب. قال الإمام أحمد: (فلما ضجر (المعتصم) وطال المجلس، قال: عليك لعنة الله. لقد كنت طمعت فيك. خذوه: خلعوه ثيابه؟ اسحبوه: فأخذت فسحبت ثم قال: العقابين والسياط، فجيء بالعقابين والسياط. وقد كان صار إلى شعرتان من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فصررتهما في كم قميصي. فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي. فوجه إليّ ما هذا مصرور في كم قميصك، فقلت شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم. وسعى بعض القوم إلى القميص ليخرقه في وقت ما أقمت بين العقابين فقال لهم: لا تخرقوه انزعوه عنه. فظننت أنه درى عن القميص الخرق لسبب الشعر الذي كان فيه، ثم صيرت بين العقابين وشدت يدي وجيء بكرسي فوضع لي، وابن أبي دؤاد قائم على رأسه (المعتصم) والناس أجمعون قيام ممن حضر، فقال لي ممن شدني خذ نابي لخشبتين بيدك وشد عليهما، فلم أفهم ما قال: فتخلعت يدي بما شددت ولم أمسك الخشبتين. ويقول ولده صالح "ولم يزل أبي رحمه الله يتوجع منها من الرسغ إلى أن توفي" ثم قال: للجلادين تقدموا. فنظر إلى السياط فقال ائتوا بغيرها، ثم قال تقدموا فقال لأحدهم: ادنه أوجع قطع الله يدك. فتقدم فضربني سوطين ثم تنحى –وكان الإمام يذكر كلاماً عند كل ضربة سوط، قال المقريزي في المقضى فلما ضرب (أحمد) سوطاً قال بسم الله فلما ضرب الثاني قال لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق. فلما ضرب الرابع قال: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)( ) فضربه تسعين وعشرين سوطاً وكانت تكة سراويله قد انقطعت فنزل السراويل إلى عانته. فتلت الساعة ينتهك فرمى أبو عبد الله (إمامنا) طرفه إلى السماء وحرك شفتيه فما كان أسرع من أن بقي السراويل لم ينزل. قال ميمون: فدخلت على أبي عبد الله بعد سبعة أيام فقلت يا أبا عبد الله رأيتك يوم ضربوك قد انحل سراويلك فرفعت طرفك إلى السماء ورأيتك تحرك شفتيك فأي شيء قلت؟ قال: اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به الورش إن كنت تعلم أني على صواب فلا تهتك لي سراً). وبعد تلك السياط الشداد وإمامنا صابر محتسب يذكر الآخرة ويرجو رحمة ربه، والناس قيام ينظرون. قال الإمام ثم قام (المعتصم) حتى جاءني وهم يحدقون به. فقال ويحك يا أحمد تقتل نفسك. ويحك أجبني أطلق عنك بيدي. فجعل بعضهم يقول لي: ويحك إمامك على رأسك قائم، وجعل عجيف (وهو من رجاله) ينخس بقائم سيفه ويقول: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول: ويلك الخليفة على رأسك قائم، ثم يقول بعضهم يا أمير المؤمنين دمه في عنقي، ثم رجع فجلس على الكرسي، ثم قال للجلاد: ادنه شد قطع الله يدك ثم لم يزل يدعو جلاداً بعد جلاد فيضربني سوطين ويتنحى وهو يقول: شد قطع الله يدك. ثم قال إليّ الثانية فجعل يقول: يا أحمد أجبني فجعل عبد الرحمن بن إسحاق يقول لي، من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت؟ هذا يحيى بن معين وهذا أبو خثيمة وابن أبي إسرائيل وجعل يعدد من أجاب، وجعل هو (المعتصم) يقول ويحك أجبني فجعلت أقول نحواً مما كنت أقوله لهم. في هذا البحران من الضغط والإرهاب يغفر فاه بالموت الزؤام وسيدنا الإمام صامد كالجبل الأشم. والجلادون الذين يتناوبون على ضربه بالسياط الضرب المبرح وقد بلغوا مائة وخمسين جلاداً لا يستطيعون أن يحركوه عن اعتقاده قيد أنملة. وهنا تشتد النفوس حماقة والقلوب غيضا وأيدي الجلادين قوة فيعلن المعتصم من يقتله؟ فجاء الجلاد أبو الدن فقال: أنا، قال: المعتصم بكم تقتله؟ قال: بخمسة عشر أو عشرين فقال شد قطع الله يدك. يقول الإمام: (ثم جعل يقول للجلاد شد قطع الله يدك. فذهب عقلي وما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق القيد، فقال إنسان ممن حضر. إنا كبيناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية( ) ودسناك. قلت ما شعرت بذلك). نعم كيف يشعر. وقد تعهد أبو الدن الجلاد الأحمق. أن يزهق روح إمامنا بضربات معدودات. وإن ذهب شعور عقله فإن قلبه الكبير بقي حياً ذا حراك وشعور تامين يلهج بذكر الله. قال الإمام (فجاؤوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتقيأ. فقلت: لا أفطر. ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم فنودي بصلاة الظهر. فصلينا الظهر فقال ابن سماعة (قاضي المعتصم) صليت والدم يسيل من ضربك فقلت: قد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثغب دماً. فسكت ثم خلى عنه فصار إلى المنزل ووجه إليّ برجل من السجن ممن يبصر الضرب ويعالج منها. فنظر إليه فقال إنما والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط ما رأيت ضرباً أشد من هذا لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه. ثم أدخل ميلاً في بعض تلك الجراحات فقال لم يثقب فجعل يأتيه ويعالجه). كل ذلك الضرب وكل هذه الجراحات وكل تلك السجون المظلمة والزنزانات الضيقة، وكل تلك القيود والأغلال ثم الركل بالأقدام وهو فاقد الشعور. وكل هذه المحنة التي ما بعدها محنة، إمامنا صابر مصابر بين صلاة وصيام. من أجل الحفاظ على عقيدة الإسلام، وحماية القرآن من القول المريب فيه. نعم، كل هذا تحمله الإمام بثبات وشجاعة ثم نسمعه يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ولوددت أن أنجو من هذا الأمر كفافاً لا عليّ ولا لي. وبعد هذا الضرب وبعد تلك المعالجة الطبية لجروحه، ماذا حدث لإمامنا؟ وهل انتهت محنته؟ هاج الناس وماجوا لأنهم رأوا صدق إمامهم، وازدادوا وثوقاً بصحة معتقدهم. وأن ما عليه أحمد هو الحق، وكادت أن تحدث ثورة تعصف بالمعتصم. فأدرك المعتصم ذلك، وسارع إلى قطع دابرها بهذه الحيلة الماكرة. قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: دعا المعتصم إسحاق عم أحمد بن حنبل، ثم قال للناس: تعرفونه؟ قالوا: نعم، فانظروا إليه ثم قال لإسحاق: أليس صحيح البدن –ويشير بذلك إلى الإمام أحمد- فقال برأسه نعم، ولو أنه فعل ذلك لوقع شر لا يقدر على دفعه. فلما قال قد سلمته إليكم صحيح البدن هدأ الناس وسكتوا)( ). ولولا هذا الهياج وهذه البوادر للثورة لكان المعتصم قد أخذ باقتراح ابن أبي دؤاد وطرح إمامنا في السجن... يقول الإمام: (وكان ابن أبي دؤاد يحث الخليفة على حبسي ويقول له يا أمي المؤمنين احبسه فإنه فتنة. فلا يجد بداً أن يخلي عني ولولا ذلك لكان قد حبسني وقال المعتصم لهم: ليس هذا كما وصفتم).. وعاد الإمام إلى بيته لا يقوى على السير مكللاً بالنص المبين، مرتدياً تاج العز والفخار. وقد أثبت للملأ أجمع أن لله تعالى رجالاً يغضبون له. وأن للقرآن حماة يذودون عنه. وأن للدين أنصاراً يجودون بأنفسهم حين يعز الناصر ويكثر الواتر بتسلط الظلمة على رقاب الأمة. .. ثم عاد الإمام إلى درسه ووعظه بعد أن التأمت جروحه وشفيت أوجاعه. وذهبت عنه وعثاء المحنة. ولكن هل ذهبت عنه المحنة وعن قرنائه إلى غير رجعة، لا، لا. فقد عادت إليه المحنة عندما تولى الواثق الحكم بعد المعتصم، فاستمرت المحن تصب على أقرانه من السادة العلماء. قلنا إن الإمام أحمد عاد إلى درسه ووعظه فالتف الناس حوله، ووجدوا فيه العالم التقي والفقيه المحنك الذي ترتاح إليه النفوس، تستمع إلى وعظه القلوب وأنه إمام العصر الذي تتمثل فيه الرجولة بأسمى معانيها. ولما علم الواثق بذلك كله. ضاق صدره فأنزل به محنة ولكنها ليست ضرباً بالسياط وحبساً بالسجون وتضييقاً وملاحقة كما فعل أبوه المعتصم. إذ رأى أن هذا النوع من المحنة زادت إمامنا محبة عند سواء الناس وجمهرة الأمة. ورفعت منزلته وعظم احترامه، وانتشر معتقده، وفشى فكره وكان نصيب ما تبنته الدولة وما يعتقده رئيسها التراجع والضمور. فأصدر أمره الجائر الآتي: (لا تجمعن إليك أحداً ولا تساكني في بلد أنا فيه). فأفام الإمام أحمد في داره لا يخرج إلى صلاة ولا يشهد جنازة ولا يلقي درساً، حتى مات الواثق، أليس في ذلك محنة له؟؟... أما قرناء الإمام أحمد فقد أنزل بهم الواثق أشكال المحن. فهذا أحمد بن نصر الخزاعي، قد تأثر بسلوك الإمام أحمد فحقد أشد الحقد على الدولة وأخذ يلمزها في دروسه ويعلن بصراحة اعتقاده الذي هو اعتقاد الإمام ابن حنبل. قال المقريزي وغيره: فأما أحمد بن نصر فكان من أهل الدين والصلاح والأمارين بالمعروف... دعاه الواثق إلى القول بخلق القرآن فأبى، فأمر بضرب عنقه فضرب. وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما. ومثلها في الجانب الغربي. أما جسده فصلب بسر من رأى (مدينة سامراء) وفي رواية أخرى: وامتحنه الواثق بالقرآن فأبى أن يقول إنه مخلوق وشتمه الواثق فرد عليه. فضرب عنقه وصلب بسر من رأى ووجه برأسه فنصب ببغداد( ) فهل هناك فظاعة في القتل وتمثيل في الجسم أشد من ذلك وأعظم؟ وحين سمع ذلك الإمام أحمد قال: رحم الله أحمد بن نصر ما كان أسخاه لقد جاد بنفسه! وهذا نعيم بن حماد وكان رحمه الله من كبار علماء مصر، مشهوراً بالصدق وغزارة المعرفة، ناطقا بالحق، جريئاً في دحض الباطل، لذا فقد أعلن صحة المعتقد في مسألة خلق القرآن، مخطّئاً الدولة فيما ذهبت إليه. قال المقريزي في المقضي: (وأما نعيم بن حماد فكان من أهل مرو طلب الحديث بالحجاز والعراق. ثم نزل مصر، ثم أشخص منها في خلافة الواثق، وسئل عن القرآن فلم يوافقهم على ما أرادوا منه، يعني القول بخلقه فحبس حتى مات)( ). وهذا أبو يعقوب البويطي، تلميذ الإمام الشافعي الذي تولى خلفه درسه بعد موته. وكان الربيع بن سليمان من أقران البويطي، فقد حكي عنه: (لقد رأيت البويطي مصفداً في أغلاله وسمعته يقول: والله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن دخلت عليه (يعني الواثق) لأصدقنه، فمات في السجن)( ). وهكذا أنزلت المحنة بأقران أحمد من فضلاء الأمة وعلماء دينها، وجيء بهم مصفدين في الأغلال من أرجاء الدولة إلى الواثق، ليأخذوا نصيبهم من هذه المحنة حتى أن عوام الأمة من الذين اتبعوا أئمتهم واعتقدوا رأيهم، ولم ينجوا من هذه المحنة. وذلك أن أسارى المسلمين الذين وقعوا في أيدي البيزنطيين. رأت الدولة بأمر الواثق أن تفاديهم وتفك أسرهم. ولكن مَنْ مِن هؤلاء الأسارى تخلص من هذا الأسر ونجا من عذاب الروم وهو بين أيدي العلوج أسير؟؟. هذا ما يحدثنا به المسعودي. (وحضر هذا الفداء مع خاقان رجل يكنى أبا رملة. من قبل أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة يمتحن الأسارى وقت المفاداة فمن قال منهم بخلق التلاوة فودي به وأحسن إليه –بدفع دينارين له- ومن أبى ترك بأرض الروم. فاختار جماعة من الأسارى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك وأبى أن يسلم الانقياد إلى ذلك فنالته محن ومهانة إلى أن تخلص( )...). وبهذا تعاظمت البلوى، واشتدت المحن، وبلغ الاضطهاد منها، وسمت هذه الأحوال، حتى صارت مسألة خلق القرآن حديث كل الناس من أفراد الرعية في الدولة، وهم بين مادح ومثنى على من وقعت عليهم المحن وأصيب بشرورها ومترحم على شهدائها، وبين منكر تصرف الدولة في ذلك. للقسوة التي استعملتها والاصطهاد الذي قامت به بل صارت هزلاً يتندر بها البعض. ومن ذلك ما يروى أن عبادة المضحك دخل يوماً على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين أعظم الله أجرك في القرآن؟ فقال: ويلك القرآن يموت، قال: يا أمير المؤمنين كل مخلوق يموت، بالله يا أمير المؤمنين بم يصلي الناس التراويح فضحك الواثق وقال: قاتلك الله أمسك. ولما وصل الحال إلى هذا الحد، خفف الواثق من غلوائه.. ورفع كل اضطهاد جديد بشأن ذلك. ولكن أمر تبني المسألة هذه، لا زال باقياً في الدولة، وكان ذلك في أواخر حياته، وقد روي أن سبب هذا التخفيف يعود إلى سماعه تلك المناقشة التي يحدثنا عنها صاحب النجوم الزاهرة وغيره( ).. أشخص شيخ من أذنه إلى الواثق فأمره أن يناظر أحمد بن دؤاد في هذا الموضوع. قال الشيخ: يا أحمد خبرني عن مقالتك هذه، أهي واجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه ما قلت؟ فقال أحمد نعم: قال الشيخ، أخبرني عن رسول الله حين بعثه الله هل ستر شيئاً مما أمر به؟ لم يرد أحمد عليه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه واحدة. فقال الواثق واحدة. ثم قال الشيخ: أخبرني عن الله حين قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)( ) أكان الله وهو الصادق في إكمال دينه أم أنت الصادق في نقصانه؟ حتى تقال مقالتك؟ فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ اثنتان فقال الواثق نعم: ثم قال الشيخ، عن مقالتك هذه أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤاد علمهما. فقال الشيخ: فدعا الناس إليها؟ فسكت. فقال الشيخ يا أمير المؤمنين ثلاث فقال الواثق: نعم. ثم قال الشيخ، فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن علمها أن يمسك عنها ولم يطالب أمته بها. فقال ابن أبي دؤاد نعم. فقال الشيخ واتسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ذلك فقال نعم. فقال الشيخ: أفلا وسعك ما وسعه ووسع الخلفاء بعده؟ وفي رواية للدميري في كتاب حياة الحيوان، شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي تدعو أنت الناس إليه، ليس يخلو أن تقول علموه أو جهلوه فإن قلت علموه وسكتوا وسعني وإياك من السكوت وأوسع القوم. وإن قلت جهلوه وعلمته أنت فيا لكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم شيئاً وأنت تعلمه.. بهذا انتهت المناقشة فأمر الواثق بإطلاق سراح الشيخ الأدنى في الحال، ذلك من أسباب التخفيف ولكن التبني في الدولة كما ذكرنا لم يرفع وإن رفع الاضطهاد وإنزال المحن بالمخالفين. وما أن تولى المتوكل الحكم في الدولة بعد الواثق ومضت على حكمه سنتان( ) وهو يرى ما جر هذا التبني من سوء على الأمة والدولة معاً. فأمر بإلغاء هذا التبني وهدد بإنزال العقاب بمن يتحدث في هذه المسألة، وفك المسجونين، وأكرم المتضررين وبذلك انتهت المحنة إلى غير رجعة. قال السبكي: وقد طال أمر الفتنة وطال شرها واستمر من سنة ثمان عشرة ومائتين 218هـ إلى سنة أربع وثلاثين ومائتين 234هـ فرفعها المتوكل في مجلسه ونهى عن القول بخلق القرآن وكتب بذلك إلى الآفاق( ). وهكذا أثبت الأئمة من علماء المسلمين أنهم دائماً المنار الوضاء والسراج المنير في مدلهم الأحداث، والخريتون الماهرون في مجاهل الوقائع، والصابرون المصابرون في المحن والنوائب من أجل دينهم وإسلامهم. دين الحق الذي أكرمهم الله بحمل لوائه وتحمل تبعاته. -محنة الشافعي- إن كان رفضاً حب أهل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي.( )

محنة الشافعي

... إن تسعة من العلوية تحركوا وإني أخاف أن يخرجوا وإن هاهنا رجلاً من ولد شافع المطلبي لا أمر لي معه ولا نهي، يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه( ). تلك هي قولة والي اليمن، من كتابه إلى الرشيد يستعديه فيه على أولئك النفر التسعة وعلى رأسهم الشافعي. وتلك بداية المحنة التي أنزلت بإمامنا الشافعي العظيم رضوان الله عليه. إن الرواة جميعاً قد اتفقوا على أن سبب هذه المحنة هي ولاؤه لإمام الهدى سيدنا علي وأولاده رضي الله عنهم وأرضاهم، فكان هذا الولاء هو الجريمة الكبرى، وكان هذا الحب هو الخيانة العظمى، التي يجب أن يعاقب عليها الشافعي بالإعدام ضرباً بالسيف... وإن كان النفر التسعة قد عاقبهم الرشيد بالإعدام لمجرد التحرك لا الخروج فعلاً إن صدق الوالي بقوله فما ذنب الشافعي الذي لم يتحرك؟ ولم يشرع في الخروج؟ ولكن الأهواء إذا سيطرت على القلوب أعمتها عن رؤية الحق، وإقامة العدل. والشيطان –نعوذ بالله من شره- إذا اتخذ إماماً وولياً ساق أولياءه بعصاه السحرية إلى الإجرام، ودفع أتباعه إلى الفساد في الأرض، وبطانة السوء الذين فقدوا التقوى، تجعل من البريء مجرماً، ومن الحب والولاء.. خيانة. إن حقيقة هذا الأمر: هي أن الإمام الشافعي، عندما كان بمكة زادها الله شرفاً، مع والدته لم يكن له عمل يعتاش به. فأشار بعض القرشيين على والي اليمن الذي مر بمكة أن يشغل الشافعي في ولايته ويستعين به في أمره هناك. يقول الشافعي: (ولم يكن عند أمي ما تعطيني ما أتحمل به فرهنت داراً فتحملت معه (أي مع الوالي) فلما قدمنا عملت له على عمل). وفي عمله باليمن بمدينة نجران، أقام الحق ونشر العدل فكان شخصية إسلامية بعقليتها الرائعة ونفسيتها المستقيمة حتى شاع ذكره الطيب في بطاح مكة وأطراف نجران، ورأوا فيه مثلاً صالحاً لمن يتولى أمراً من أمور الناس. يقول الشافعي: (وليت بنجران وبها بنو الحارث بن عبد الله المدان وموالي ثقيف وكان الوالي إذا أتاهم صانعوه فأرادوني على ذلك فلم يجدوا عندي)( ). ولما لم يقبل مصانعة، ولم يداهن واليه ورئيسه، بل وقف له بالمرصاد يمنعه من أية مظلمة يريد إيقاعها بمن يتولى أمرهم، ولم يكتف إمامنا بذلك بل يحاسبه في كل أمر وينكر عليه كل سوء، وهو الذي يملك لساناً كما يقول الوالي الغشوم الظلوم: (يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه) وبهذا وحده ضاق صدر هذا الوالي وأبت نفسه إلا أن يسيء إلى الشافعي، وكيف يستطيع أن يصيبه بسوء أو يلحق به أذى، وهو قد ملك القلوب( )حباً وأسر النفوس، فدبر له أمراً بأن أشركه مع النفر التسعة بالتهمة الخطيرة المعروفة.. التي يفتح لها الرشيد أُذنيه بل حواسه جميعاً، لينزل به عقابها الصارم. وبهذه المكيدة يتخلص الوالي من هذا الذي وقف في طريق تنفيذ أهوائه وإشباع نزواته.. وحال دون تسلطه على رقاب الأمة.. أوثق التسعة وعاشرهم الشافعي، وصفدوا بالآسار وأيديهم مغلولة إلى أعناقهم، وساروا من اليمن السعيد متوجهين إلى بغداد لملاقاة الرشيد، بصحبة ثلة من الجند للتحقيق معهم في هذه التهمة الخطيرة؟؟ تهمة الخيانة العظمى، ليأخذ المارد الخائن نصيبه من العقاب!! دخل العشرة على الرشيد وهم مصفدون بالأغلال، والنطع والسيف بين يديه، والجند شاكي السلاح قد أخذوا أماكنهم في قاعة المحكمة بقصر الخلافة ينتظرون إيماء الرشيد لهم، لا يعصونه في أمر ويفعلون ما يأمرون. بهذا الجو الإرهابي الفظيع الذي ينطق بقطع الرؤوس عن أجسادها ويصرخ بأن النصر للقوي!! جرت المحاكمة فقتل التسعة رحمهم الله. أما الشافعي: فقد أنجاه الله ونصره. وهو الضعيف الذي طلب المدد من الحي القيوم فأمده وأنقذه في ساعة عسرته واستجاب له فكان من الناجين وحيث أتاه الله من براعة اللسان وذربه وقوى الحجة ومنطقها السليم المقنع، وبما قذفه في قلب قاضي القضاة محمد بن الحسن من شفقة وطلب شفاعة وتقديم شهادة.. قال الشافعي وهو بين النطع والسيف والموت يفغر فاه. وقد وجهت إليه التهمة. (يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه والآخر يراني عبده أيهما أحب إلي. قال الرشيد الذي يراك أخاه. فقال ذلك أنت يا أمير المؤمنين إنكم ولد العباس وهم ولد علي ونحن بنو المطلب، فأنتم ولد العباس تروننا إخوانكم وهم يروننا عبيدهم)( ). أما شهادة قاضي القضاة وشفاعته، فقد حضر محمد بن الحسن محاكمته، وكان بين الشافعي وابن الحسن التقاء سابق في بغداد والتقاء العلماء يكون دائماً للعلم ومدارسة الفقه وبحث في المسائل الشرعية وإدلاء كل منهم بدلوه. فبعد أن قال الشافعي مقالته تلك. أخذ يبين أن له حظاً من العلم والفقه أنه عند ذلك قال أن محمد بن الحسن يشهد على ذلك. فسأله الرشيد فأجاب (له من العلم حظ كبير). ثم أتبع قائلاً (وليس الذي رفع عليه من شأنه). وتلك شفاعته. فقال الرشيد (فخذه إليك حتى أنظر في أمره)( ). وبهذا تخلص الشافعي من ذلك الاتهام الخطير، ونجا من عقوبته.. وتلك محنة الشافعي، الأيدي مغلولة إلى الأعناق بمعية جند الرشيد من اليمن إلى بغداد، ثم الموت يقترب منه. وقد لاح بين عينيه لولا عناية الله وحسن توفيقه. السبب الحقيقي هو قيامه بالواجب الملقى عليه باعتباره عالماً أخذ الله منه الميثاق لبيان أحكام الشرع والوقوف في وجه الظالمين الطغاة ومن ثم قيامه بعمله في نجران الذي أحسن فيه وقطع به الطريق على واليه وحال دون شهواته ونزواته. ذلك السبب الذي أفرغه الوالي الغشوم الظلوم بقالب آخر له دافع في حياة الشافعي هو ولاؤه للإمام علي وأبنائه البررة وحسبه بذلك جريمة يعاقب عليها في دنيا الحكام اللئام.. لقد كانت هذه المحنة محنة ساقها الله لإمامنا، ليختبره في إيمانه. ولينصرف إلى العلم ومدارسة الفقه واستخراج الأحكام لمعالجة مشاكل الحياة. وليأخذ ما عند محمد بن الحسن من علم وفقه وهو صاحب الإمام العظيم أبي حنيفة ورفيق الإمام أبي يوسف. بدل تلك الولاية في اليمن. وقد كان ذلك والحمد لله. ولئن ولت محنة الشافعي ونجا منها فإن المحن الأخرى بأشكالها لا زالت بانتظار رجالها من السادة العلماء.

محنة البخاري

ليس في دنيا الإسلام مثل الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في زمانه، فهو أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم كما لقب به. ذلك ما شهد به شهود عدول من أقرانه الذين يعرفون فضله وعلمه، ولنسمع إلى شهادة أحدهم فيه: (قال أحمد بن حمدون الصفار، رأيت مسلم بن الحجاج –وهو الحافظ المحدث صاحب صحيح مسلم- جاء إلى البخاري فقبل عينيه وقال: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله.. ثم سأله عن حديث كفارة المجلس... فذكر له علته فلما فرغ قال مسلم لا يغضبك إلا حاسد وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك)( ). نعم ليس في الدنيا مثله، فقد وهبه الله تعالى قوة من الحظ، وضبطاً في النقل وقدرة في فهم العلل. والتمييز بين الصحيح والسقيم. وكتابه الجامع الصحيح الذي اتفق عليه جمهور علماء المسلمين. بأنه أصح كتاب بعد كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، دلالة صدق على ذلك. وكيف لا يكون كذلك. وهو الحجة الثبت والحافظ الأعظم لسنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وتقريراً والذي لا يستطيع أحد أن يجاريه في الضبط والإتقان، سنداَ ومتناً. (دخل مرة إلى سمرقند فاجتمع بأربعمائة من علماء الحديث بها. فجعلوا متون الأحاديث على غير أسانيدها وخلطوا في الأسانيد فاأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق. ثم قرؤوها على البخاري يقصدون امتحانه فرد كل حديث إلى إسناده، وقوم تلك الأحاديث والأسانيد كلها، ولم يقدروا أن يأخذوا عليه سقطة في إسناد ولا متن وكذلك وضعوا له في بغداد فأذعنوا له بالفضل والسبق)( ). لقد عرف إمامنا البخاري في طيلة حياته. بأنه كان رضي الله عنه كثير الورع على درجة عظيمة من الزهد. الأمر الذي كان يرى في ابتعاده عن الحكام وفي زهد الاتصال بهم. سلامة لدينه وأماناً من تجريح تقواه. ولأنه أراد التفرغ اللازم للاشتغال في جمع أحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. والاعتناء بها عناية تليق بمكانها. وهي بلا ريب المصدر الثاني للإسلام. لذلك انصرف إليها بكليته، يجوب أقطار الإسلام على راحلته وفي بعض الأسفار مشياً على الأقدام. ليأخذ الحديث من ثقاة رواته. قال رضي الله عنه (دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة العربية –مرتين وإلى البصرة أربع مرات. وأقمت في الحجاز ستة أعوام ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع المحدثين) وانصرافه هذا جعله لا يفكر إلا بالحديث حتى في ساعات الجهاد حين كان حارساً مع صاحب له لحماية ثغر من ثغور المسلمين، كما سيأتي في فصل قادم( ). ومن كان هذا حاله فأنى له أن ينشىء علاقة مع الحكام أياً كانت العلاقة سلباً أو إيجاباً. لذا فقد أصبح هو في واد والحكام في واد آخر. ولكن الظلمة من الحكام لا يرضون سلوك مثل هذا السبيل، لأنهم يريدون من عالم المسلمين أن يكون معهم في كل حين في سرائهم وضرائهم، يجلس مجالسهم، ويستمع إلى قولهم، يسبح بحمدهم ويقدس أمرهم.. أما إن أبى، منكراً لأحوالهم الشاذة، محاسباً لأعمالهم الخاطئة واقفاً بالمرصاد، ينصح ويرشد، لا يقبل ظلمهم ولا يرضى سوء صنيعهم فإنهم يغضبون ويحمقون، شافين غليلهم بإنزال عذاب المحن بهم، ليستريحوا منهم، ولن تستريح ضمائرهم إن كانت عندهم ضمائر.. أما أن يرفض قرباً طلبوه، واتصالاً أرادوه، جالساً على التل لا يريم، مكباً على درسه وتدريسه، وعلمه وتعليمه، يستقبل الدارسين ويجيب سؤال السائلين، لا يرفض متعلماً يأتيه، ولكنه لا يأتي هو إليه، لأن العلم يؤتى ولا يأتي إكراماً للعلم وعزة لحامليه، إن فعل ذلك العالم، ثارت ثائرة الظلمة من الحكام، وغضبوا عليه، منتقمين لأنفسهم كيف يرد طلبهم..؟ وطلب الحكام مهما كان لا يرد كما يزعمون، قاتلهم الله أنى يؤفكون، ومحنة إمامنا البخاري من هذا النوع الأخير. وقد يرى البعض أن هذه المحنة سهلة بسيطة، عند قراءتها للوهلة الأولى. وربما حسبوها من قبيل الاضطهاد الخفيف أو المضايقة التي ما كان ينبغي أن تقع أو تصيبه، لا من قبيل محنة أولئك الأئمة الكرام التي مر ذكرها.. ولكن الحقيقة أنها محنة وأنها نكبة بالنسبة لرجل تجاوز الستين عاماً، إذ هو شيخ عاش لا لذاته، وإنما من أجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قضى عمره وأفنى زهرة حياته يلتمس الحديث الشريف ويجمعه، ناذراً نفسه لخدمة الحديث الشريف منذ كان عمره عشر سنين: (أفهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب. قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل)( ). في أسفار بعدت فيها الشقة، فلا طائرات ولا سيارات إنما دواب وأقدام ليسهل فهم الشريعة الإسلامية لمن يجيء بعده، وليأخذوا من معين ما جمع، وهو معين لا ينضب، ويروون من بحره العذب النمير ويرتعون من ربيع رسول الله صلى الله عليه وسلم في روضة وغدير. فرجل يعيش في أفق السنة المحمدية، ويسعى لتنقيب الأحاديث النبوية، بمشقة وعناء، لا يعرفهما إلا من ذاق طعمهما، ثم يقدم إنتاجه هدية مسداة لطلاب الحديث في حلقة درسه أو غيرها.. وبعد هذا أو ذاك يجازى مثل ما جوزي. حقاً إنها محنة ذات إهانة بالغة، لا يتقدم على إنزالها إلا من حرم طعم الإيمان، ولم يعرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدراً. ولنسمع قصة المحنة: (فقد حدث الرواة أن أمير خراسان خالد بن أحمد الذهلي طلب من الإمام البخاري وهو في بلده بخارى أن يحضر إليه ليسمع أولاده منه، فأبى أن يذهب قائلاً: في بيتي يؤتى العلم. فأراد الأمير أن يعزف الناس عن السماع منه فلم يقبلوا من الأمير، فأمر بنفي البخاري من بلده إلى بلدة (خرتنك) على فرسخين من سمرقند. وهناك مرض وعلى أثره مات في ليلة عيد الفطر عن اثنين وستين سنة. ولكن الله وهو العليم الخبير سبحانه وتعالى ينتقم من الظالمين ويثأر للمظلومين، ولو بعد حين فهو يمهل ولا يهمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)( ). وصلت أنباء المحنة إلى بغداد، فقامت بغداد وقعدت وعم الاستياء، لمحنة التقي الورع العدل الثبت. فأسرها الموفق بن المتوكل وهو أخو الخليفة المعتمد في نفسه، متحيناً الفرصة لينتقم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويثأر لإمام المحدثين وأمير الحفاظ أجمعين. وها هي الفرصة قد دنت فاستعد لها الموفق، وماذا عمل... فقد حدثنا به ثقات المؤرخين. حان موسم الحج، فوصل أمير خراسان خالد بن أحمد الذهلي إلى بغداد. وما أن سمع الموفق بقدومه، حتى أصدر أمره باعتقاله مخفوراً... ثم طرح في السجن حتى يذوق الموت( ) ليأخذ جزاءه فيه فمات هناك وذلك جزاء الظالمين ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.

محنة العز بن عبد السلام

من آثر الله على نفسه آثره الله والمخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزاز الدين. -العز بن عبد السلام- انعقد إجماع كل المصادر للسير من كتب الطبقات والتراجم التي ذكرت سلطان العلماء العز بن عبد السلام على أنه رحمه الله تعالى، اشتهر بصفة عالية سامية فوق صفات هديه وسلوكه المبارك، بل غلبت على جميع تلك الصفات هي صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حتى قال السبكي مفتتحاً ترجمته (القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه)( ). وقال الكتبي (وكان أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم)( ). وقال ابن العماد الحنبلي (وهذا مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)( ). وهل يستطيع مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يعرف ماهيتهما وحقيقتهما ومعناهما. نوجز هذا المعنى بكلمات.. المعروف ما عرفه الشرع والمنكر ما نكره، ومن هنا جاء علمه الغزير حتى لقب بسلطان العلماء ومن كان هذا شأنه وتلك صفته لا ينجو من محن واضطهاد في حياته علماً بأن إنكار منكر الحكام هو محاسبتهم. لذلك فقد تتابعت عليه المحن وأصابه الاضطهاد المرير. إن الواجب الشرعي يدعونا أن نقر هنا إقراراً متأسفين فيه، محزونين على وقوعه. هي أن المحنة الأولى التي نزلت بهذا الشيخ الجليل والمحن التي نزلت بعده على الشيخ الجليل ابن تيمية رحمهما الله تعالى، كان سببها الاختلاف الفكري في المسائل الفقهية والقضايا الكلامية المعتمدة على النصوص الظنية في ثبوتها ودلالتها، ذلك الاختلاف الذي رقي من رتبة الاختلاف الاجتهادي الذي يخطئ ويصيب صاحبه فيه، فله أجران إن أصاب، وأجر واحد إن أخطأ وهو ما يقره الإسلام، بل هو الدليل الأعظم على الحيوية الفكرية في الشريعة الإسلامية وعلى طاقة اتساعها في الأمور والمسائل، والتي أبعدت الضيق والإحراج عن الأمة الإسلامية في مختلف العصور. أقول رقي هذا الاختلاف برحمته من هذه الرتبة إلى رتبة التعصب المذهبي المقيت بشؤمه ومقته، الذي نهى عنه الإسلام، والذي أدى إلى الفتن والأذى بين المختلفين وتفسيق وتبديع بعضهم البعض مستعينين بالحكام في بعض الأحيان، لإيذاء الخصوم وإنزال المحن بالمخالفين. مما أدى إلى اضطهاد شيوخ العلماء، وإلى الاضطراب الفكري والنفسي بين الأمة، في الوقت الذي كانت الأمة الإسلامية بعلمائها وعامتها في غنى عن ذلك. ولكن قاتل الله التعصب المذهبي المقيت... أعود فأقول: إن أول محنة نزلت بشيخنا الجليل كانت بفتنة الحنابلة الواقعة في زمن السلطان الأشرف بن الملك العادل الأيوبي بدمشق. يقول الذهبي: (كان للأشراف ميل إلى المحدثين والحنابلة وفي عصره حصلت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد وتعصب عز الدين بن عبد السلام على الحنابلة وجرت خبطه)( ). ويقول الكتبي (ولما كان في دمشق سمع من الحنابلة أذى كثيراً رحمه الله)( ) وكان هذا الأذى الذي أصاب شيخنا بسبب الاختلاف في مسألة كلامية ليست من أصول العقيدة الإسلامية، أن فرضت عليه الإقامة الجبرية في داره ولا يفتي أحداً من الناس ولا يجتمع بأحد منهم( ). وبقي الشيخ رحمه الله في هذه (الاستراحة؟) الجبرية برهة من الزمن وتحدث أهل الشام بما حل بشيخهم المفضل، وتهامس العلماء بينهم وتلاوموا على تفريطهم في نصرة الشيخ ومعتقده، حتى قيض الله من ينتصر له عند السلطان ذلك هو شيخ السادة الحنفية في زمانه الشيخ جمال الدين الحصيري رحمه الله. وهناك في دار السلطنة قال السلطان للشيخ الحصيري بعد مناقشته في المسألة: "ونحن نستغفر الله مما جرى ونستدرك الفارط في حقه والله لأجعلنه أغنى العلماء، وأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته ومخاللته". ولما فاز السلطان باجتماعه به في مرض أصابه طالباً محاللته قال له: "أما محاللتك فإني في كل ليلة أحالل الخلق وأبيت وليس لي عند أحد مظلمة وأرى أن يكون أجري على الله ولا يكون على الناس".. ثم قدم له مائة دينار مصرية وهدية فردها قائلاً: (هذا اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا). وقبل هذه الاجتماعة أمر السلطان بالإمساك عن الكلام في مسألة (الكلام) وأن لا يفتي فيها أحد بشيء سداً لباب الخصام. والسلطان الأشرف يردد (لقد غلطنا في حق ابن عبد السلام غلطة عظيمة). وما أن مرت السنون، وإذا بالشيخ العز يمتحن مرة أخرى لأنه أنكر على سلطان الشام وحاكم دمشق خيانته السياسية للأمة الإسلامية. وفيما يلي موجز المحنة وسببها كما يحدثنا بها الإمام السبكي في طبقاته، والمقريزي في سلوكه( ). إن خلافاً نشأ واشتد، وخصاماً طفق منذراً بالكيد والحرب بين الأخوين، سلطان الشام الملك الصالح إسماعيل، وسلطان مصر الصالح نجم الدين أيوب. في سنة 638هـ أوجس إسماعيل خيفة من نجم الدين، فاستعان بالصليبيين أعداء الإسلام، وتحالف معهم على قتال أخيه، وأعطاهم مقابل ذلك مدينة صيدا على رواية السبكي وكذلك قلعة صفد وغيرها على رواية المقريزي وغيره، وأمعن إسماعيل في هذه الخيانة فسمح للصليبيين أن يدخلوا دمشق ويشتروا منها السلاح وآلات الحرب وما يريدون، وأثار هذا الصنيع المنكر استياء المسلمين وعلمائهم. فهب الشيخ العز واقفاً بوجه الخيانة والخائنين، وأفتى بتحريم بيع السلاح لهم. وصعد على منبر جامع الأموي بدمشق في يوم الجمعة حيث كان خطيبه الرسمي وأعلن الفتوى، وشدد في الإنكار على السلطان وفعلته المنكرة وخيانته الفظيعة للأمة الإسلامية. وقطع من الخطبة الدعاء للسلطان إسماعيل وهو بمثابة الإعلان بنزع البيعة ورفع الولاء عن السلطان يومئذ وصار يدعو بدعاء منه: (اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أولياؤك وتذل فيه أعداؤك ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك...). والمصلون يضجون بالتأمين على دعائه، ولم يكن السلطان حاضراً تلك الخطبة إذ كان خارج دمشق، ولما أعلمه رجاله بذلك أمر بعزل الشيخ من خطبة الجمعة، واعتقاله مع صاحبه الشيخ ابن الحاجب المالكي لاشتراكه معه في هذا الإنكار. وكان أنصار الشيخ العز قد أشاروا عليه بأن يغادر البلاد وينجو بنفسه من يد السلطان، وأعدوا له وسائل الهرب، ولكنه رحمه الله تعالى أبى ذلك وألحوا عليه، فأصر على الإباء، فعرضوا عليه أن يختبئ في مكان أمين لا يهتدي إليه السلطان ورجاله، فرفض هذا العرض أيضاً وقال (والله لا أهرب ولا أختبئ وإنما نحن في بداية الجهاد، ولم نعمل شيئاً بعد. وقد وطنت نفسي على احتمال ما ألقى في هذا السبيل. والله لا يضيع عمل الصابرين)( ). (ثم لما قدم إسماعيل إلى دمشق أفرج عنهما بعد الاعتقال. ولكن العز بن عبد السلام أُمر بملازمة داره وأن لا يفتي ولا يجتمع بأحد البتة، فاستأذنه في صلاة الجمعة –مؤتماً بإمامها- وأن يعير إليه طبيب أو مزين (حلاق) إذا احتاج إليهما وأن يدخل الحمام فأذن له في ذلك).. ومرت الأيام، والشيخ في إقامته الجبرية، وقد منع من الإفتاء والاتصال بأحد من إخوانه أو طلابه، وتعطلت هوايته المفضلة، وواجبه المقدس –الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فطلب الهجرة من دمشق قاصداً مصر. وأُفرج عنه بعد محاورات ومراجعات، فأقام بدمشق ثم انتزع منها إلى بيت المقدس. فوافاه الملك الناصر داود في الفور فقطع عليه الطريق. وأخذه وأقام بنابلس مدة. وجرت له معه خطوب ثم انتقل إلى بيت المقدس حيث أقام مدة. ثم جاء الصالح إسماعيل والملك المنصور صاحب حمص وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس.. يقصدون الديار المصرية، فسير الصالح إسماعيل بعض خواصه إلى الشيخ بمنديله، وقال له: تدفع منديلي إلى الشيخ وتتلطف به غاية التلطف وتستنزله وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال، فإن وافقك فتدخل به عليّ، وإن خالفك فاعتقله في خيمته إلى جانب خيمتي. فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه زيادة، أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير! فقال الشيخ والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده. يا قوم أنتم في واد وأنا في واد. الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به. فقال الرسول: يا شيخ قد رسم لي أن توافق على ما يطلب منك، وإلا اعتقلتك، فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان. وكان الشيخ يقرأ القرآن –في معتقله- والسلطان يسمعه. فقال يوماً لملوك الفرنج تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ فقالوا نعم. قال هذا أكبر قسوس المسلمين، قد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه ثم أخرجته فجاء إلى القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم!! فقالت له ملوك الفرنج: (لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها). تلك إجابة الفرنج إلى السلطان الخائن التي كانت سهماً في قلبه وإنكاراً متضمناً لفعله، والفضل ما شهدت به الأعداء. وذلك قول السلطان العبد لأسياده الفرنج يفتخر بخيانته!!. ثم وقعت الحرب بين الأخوين وكانت الدولة والنصر للسلطان نجم الدين أيوب على رغم قلة جيشه في العدد والعُدد بالنسبة لجيش إسماعيل وخلفائه. وتلك عاقبة الخائنين... في كل حين. وبذلك نجا الشيخ من أسر السلطان الخائن، ووصل إلى مصر مكرماً معززاً، وتولى فيها منصب قاضي القضاة. وثالثة الأثافي من محنه تعرضه للقتل بسبب أمره ببيع أمراء الدولة في المزاد العلني.. ولكن الله تعالى حفظه وخذل خصومه. .. كان لمماليك الأتراك نفوذ في الدولة الإسلامية في أواخر حكم العباسيين. وامتد نفوذهم حتى أصبحوا أمراء في الدولة أيام حكم نجم الدين أيوب في مصر وكان الشيخ العز قاضياً للقضاة فيها، وقام رضوان الله عليه، مصلحاً لأمر القضاء، منفذاً بحزم أحكام الشرع لا تأخذه في ذلك لومة لائم، فنظر في حقيقة قضية أولئك الأمراء التي أثارها هو، ثم أصدر قضاءه الآتي: قال السبكي( ): (ذكر كائنة الشيخ مع أمراء الدولة من الأتراك... وهم جماعة ذكروا أن الشيخ لم يثبت عنده أنهم أحرار وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين. فبلغهم ذلك: فعظم الخطب فيه، واحتدم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراء ولا نكاحاً. وتعطلت مصالحهم بذلك. وكان من جملتهم نائب السلطنة فاشتاط غضباً، واجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلساً وينادي عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به. فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمير أخرى، ومشى خلفهم من القاهرة قاصداً نحو الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد، حتى لحقه غالب المسلمين، لم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤبه له يتخلف ولا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم، فبلغ السلطان الخبر، وقيل له متى راح ذهب ملكك فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع واتفقوا معهم على أن ينادى على الأمراء، فأرسل نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه، فانزعج النائب فقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف مسلول في يده فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ، فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تغير وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب وسقط السيف منها وأرعدت مفاصله، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال يا سيدي خير أي شيء تعمل؟ قال أنادي عليكم وأبيعكم: قال ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟ قال: أنا، فتم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير. وهذا لم يسمع قبله أحد، رحمه الله ورضي عنه. نعم لم يسمع بمثله، ولم يقع شبيه له بعد، فلله رجال، وللإسلام أنصار وللمسلمين قادة هم العلماء، وللقضاء قضاة يقيمون الحق ويحافظون على حدود الله ويقضون بالقسطاس المستقيم. لا يرهبون حاكماً ظالماً ولا يخشون سلطاناً جائراً. ولكن كيف نرى خلفاءهم وهم معظم قضاة اليوم يقضون بغير ما أنزل الله... ويدعون أنهم مسلمون. فيا أيها العزيز مسناً وأهلنا الضر... -محنة ابن تيمية- قال ابن الحريري: (إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟)( ). تلك شهادة عدل هو قاضي القضاة ابن الحريري رحمه الله. حقاً إنه شيخ الإسلام، لأنه رحمه الله تعالى، كان جبلاً في العلم، إماماً في الفقه، فقه الكتاب والسنة، مجاهداً بقلمه ولسانه، سهماً سلطه الله تعالى على المبتدعين وأصحاب الأهواء، فضلاً عن جهاده بنفسه وسنانه في حروب التتار والكسرويين. وله القدح المعلى في تثبيت الأمة أيام البأساء والضراء وحين البأس، وهو في مقدمتها للذود عن كرامتها وعزها، كلما ادلهم الخطب ونزلت نازلة بالمسلمين. يقول ابن سيد الناس( ): (.. إلى أن دب إليه أهل بلاده الحسد، وأكب أهل النظر منهم بما ينتقد عليه لتبديعه سهاماً، وزعموا أنه خالف طريقتهم وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه). وانتهت به هذه المنازعات وتلك المقاطعات إلى المحن الشداد، تحملها صابراً مصابراً محتسباً. وإن قلنا في محنة سلطان العلماء العز بن عبد السلام أن محنته الأولى كانت بسبب الاختلاف الفكري المشوب بالتعصب المذهبي المقيت، فإن جميع محن شيخ الإسلام كانت بنفس السبب مع اختلاف موضوعية الفكر والمعتقد. والذي يهمنا من محن شيخ الإسلام هو ذكر مواطنها مع إيجاز أسبابها، محتفظين برأينا الخاص في هذه الأسباب، لأن موضوعنا هنا ليس تحقيقاً فقهياً ولا دراسة كلامية عقائدية، حتى نبين صحة الأسباب أو خطأها. إلا أن الذي نود أن نؤكده ثانية، هو أن هذه الأسباب القائمة على الخلاف الفقهي والعقائدي، لم تكن من أصول الشرع ولا من أركان العقيدة الإسلامية التي يكفر منكرها أو منكر أصل منها، كما لم تكن من نصوص الشرع القطعية في ثبوتها وولاتها، التي لا اجتهاد فيها ولا خلاف. ولما لم تكن كذلك، فليس من التصرف الصحيح، أن يستغلها المخالفون له في الرأي والاجتهاد، فيغرروا بها قلوب الحكام ويكبروها عندهم بالقدر الذي أغضبهم، فاستعملوا نفوذهم لإنزال المحن بالشيخ. والمخالفون يعرفون، كما يعرف غيرهم، أن حكامهم يومئذ ليس لهم حظ كبير في العلم والفقه، حتى يحكموهم في هذا الخلاف، وإنما الحكام هم جنود من الأتراك، أهلتهم شجاعتهم وبسالتهم في الحروب أن يتولوا أمر المسملين حيناً من الدهر. ولكن المخالفين له، لم يأخذوا بأقوال الأئمة المأثورة عنهم، ومن ذلك مثلاً: قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب. وقولهم: إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط. وقولهم: كل رجل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب الروضة الشريفة. ولم يسلكوا نهج هؤلاء الأئمة من أصحاب المذاهب الإسلامية رحمهم الله تعالى، في خلافاتهم في المسائل الفقهية والأمور الكلامية مع بعضهم بل ومع أصحاب المذهب الواحد وإنما سلكوا، عفا الله عنهم، مجتهدين، غير هذا السبيل، فوقعت المحن، وذلك ما قرره شيخ الإسلام في مخالفيه، فقال: (ولا يخلو الرجل –أي من هؤلاء المخالفين- إما أن يكون مجتهداً أو مخطئاً أو مذنباً، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفو عنه، والثالث الله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين). ومن محنه رحمه الله تعالى ما نقله صاحب الكواكب الدرية: (... أنه في شهر ربيع الأول سنة 698 وقع بدمشق محنة للشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية وكان الشروع فيها من أول الشهر وكان سببها ترجيحه مذهب السلف في الصفات على مذهب المتكلمين). هذا هو السبب للمحنة الأولى، أما مواطنها هي ورفيقاتها من المحن فقد ذكر المؤرخون لها( ). أنه رحمه الله تعالى، بعد أن أجاب على سؤال ورد من حماه في مسائل العقيدة، وذاع أمرها بين الناس وقف بعض علماء الشام، من ذلك: موقفاً غير حميد، إذ اتصلوا بنائب السلطان في دمشق، وحدثوه بسببها مستعظمين أمرها، حاكمين عليها بالزوغان، ومخالفة ما عليها إجماع المسلمين، فدعاهم شيخ الإسلام لعقد جلسة للمناقشة بحضور (نائب السلطنة الأقدم. وظهوره –رحمه الله- عليهم بالحجة والبرهان ورجوعهم إلى قوله طائعين ومكرهين). وقد تبع هذا المجلس، واستدعاؤه من قبل السلطان في مصر، لوصول أنباء الخلاف إليه وسار رحمه الله في صحبة قاضي الشافعية عقد له مجلس حين وصوله بحضور القضاة وأكابر الدولة. وفي هذا المجلس امتنع الشيخ من التحاكم إلى زين الدين بن مخلوف قاضي المالكية، والسبب في ذلك، أن ابن مخلوف جمع بين الادعاء والقضاء في هذه القضية. فقال الشيخ: "من الحاكم في؟ فقيل له: القاضي المالكي، فقال الشيخ: كيف تحكم في وأنت خصمي، فغضب غضباً شديداً وانزعج: وحبس الشيخ رحمه الله تعالى وآل أمره إلى الحبس المعروف بالجب وشاركه في حبسه أخواه شرف الدين وزين الدين". نزل الشيخ في الحبس في شهر رمضان سنة 705 ومكث فيه سنة ونصف السنة، وفي خلال هذه المدة، حاول نائب السلطان في القاهرة، أن يوفق بينه وبين المخالفين له، لضغط الناس في الشام. الذين يعرفون للشيخ مكانته ومنزلته. ورجاه بحضور المجلس للمناقشة، ولكن الشيخ امتنع، وصحب بدله أخويه، وانعقد المجلس للمناقشة واشتد فيه النقاش، ولم يحصل الاتفاق ثم جاء الأمير الشامي، عيسى بن مهنا، إلى الشيخ في حبسه، وأقسم عليه ليخرجن وليذهبن معه إلى دار نائب السلطان في القاهرة، فخرج معه، وانعقد المجلس وحصلت المناقشة مع الفقهاء، وامتنع القضاة من الحضور، وانتهى المجلس على خير، فأوضح لهم معتقده، مؤيداً ذلك من الكتاب والسنة حسب فهمه لهما. بقي الشيخ في مصر، معلماً ومرشداً، وقد صفح عن كل من أذاه قائلاً: "لا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه عليّ، أو ظلمه أو عدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أريده لنفسي، والذين كذبوا وظلموا هم في حل من جهتي) وبذلك انتهت هذه المحنة، ولكن القضاء –قضاء الله تعالى- لا زال مخبئاً له محناً أخرى، وعليه أن يصبر، لينال ثواب الصابرين، وهكذا كان. استمر الشيخ في دروسه وإرشاده في القاهرة، واستطاع أن يوجد له في هذه الإقامة المؤقتة، أنصاراً ومريدين يحاكمون رأيه ومعتقده، وأخذ كعادته يبين رأيه في مسائل الكلام، ومدى مخالفة بعضها لعقيدة السلف التي يعتنقها، وانتقد الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى في بعض أفكاره( )، حتى ضج مخالفوه من أتباع ابن عربي ولم يتحملوا هذا النقد الفكري وحسبوا ذلك طعناً وتجريحاً للشيخ الأكبر ابن عربي، فذهبوا بجموعهم إلى دار السلطنة يشكون منه، فأمر السلطان لحل هذا النزاع، بعقد مجلس للمناظرة (بدار العدل). فانعقد المجلس وحصلت المناقشة، وخرج المخالفون منه لا يلوون على شيء، بعد نصرة الفقهاء له وسكوت القضاة عنه. وليت الأمر انتهى بذلك، ولكن استمرت (المنازعات والمقاطعات) حتى ضاقت الدولة ذرعاً، وضجر السلطان ولم تجد الدولة وسيلة لحسم هذه (المنازعات والمقاطعات) إلا أن تتجه نحو شيخ الإسلام. فخير بين ثلاث. إما أن يخرج من القاهرة ذاهباً إلى الشام مسقط رأسه، وإما إلى الاسكندرية بشرط أن لا يثير مثل هذه المسائل، ولا يتعرض بها بالنقد، وإما العودة إلى السجن، فاختار السجن متمثلا بقول الله تعالى حكاية عن قول يوسف الصديق عليه السلام: (السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)( ). ولكن إلحاح طلابه ومريديه دفعه إلى الرضا بالذهاب إلى الشام وقبول الشرط. فركب خيل البريد في اليوم الثامن عشر من شوال سنة 707 هـ، وما أن سار مرحلة، حتى جاءه أمر السلطان بالعودة إلى القاهرة، وهناك بلغه قاضي القضاة، بأمر الحبس (قال بعضهم له: ما ترضى الدولة إلا بالحبس، وقال: قاضي القضاة: وفيه مصلحة له). وطلب من شمس الدين التونسي المالكي، أن يحكم، فقال: ما ثبت عليه شيء، ثم طلب من نور الدين الزاووي المالكي، فتوقف ولم يحر جواباً، وهنا أنقذ الشيخ موقفهم، وقال: أنا أمضي إلى السجن، واتبع المصلحة.. فأرسل إلى حبس القضاة، وأذن بأن يكون عنده من يخدمه). فأي مصلحة هذه سواء أكانت للدين أو للمسلمين، أن يحبس عالم، وهو غير متهم لا في أمر ديني أو دنيوي؟؟. هل العلماء وجدوا في هذه الدنيا، من أجل حمل الإسلام ونشر علومه بين الناس، أم في السجن يرقدون؟ وبسجن القضاة مكث سنة ونصف السنة أيضاً. ولكن هذا الحبس كان بمثابة إقامة جبرية، سمح للفقهاء والعلماء أن يزوروه فيه. كما سمح للطلاب أن يأخذوا عنه. ولا عيان للدولة أن يستفتوه، وبقي على هذا الحال حتى خرج من سجنه هذا، بقرار من مجلس القضاة والفقهاء، عقد في المدرسة الصالحية، وألزموا به الدولة، وبهذا تظهر قوة العلماء أنهم إن اجتمعوا –في كل حين- على شيء وقرروا فيه رأياً نفذ، وخضعت له الدولة مجبرة، وإن خالف رأيها. وعاد الشيخ إلى دروسه وتعليمه، وفي ذلك الوقت عزل السلطان الناصر ابن قلاوون نفسه، وتولى عنه الملك المظفر بيبرس الحاشنكير، وكان هذا الملك مريداً للشيخ نصر المنجي، وهو من أتباع الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى، لذلك فقد استطاع أن ينفي شيخ الإسلام إلى الاسكندرية، ولكنه سمح له هناك بالتدريس والإفتاء، وبقي في نفيه هذا، حتى عاد الناصر بن قلاوون بعد سبعة أشهر إلى حكم الشام والقاهرة. وما أن وصل إلى القاهرة وجلس على دست الحكم في يوم مشهود، هو يوم عيد الفطر المبارك 709هـ، حتى فكر في أمر هذا الشيخ، فاستدعاه في اليوم الثاني من العيد مكرماً معززاً، ولم يكتف السلطان الناصر بهذا التكريم، بل طلب منه الفتوى، في من آذوه وأوردوه المهالك. وهم بنفس الوقت قد مالأوا خصمه في السلطان والحكم: مما أدى إلى عزل نفسه. وطلب منه أن يقول كلمته في القوم، ومنهم ابن مخلوف المالكي الذي أمر بحبسه الأول، فأصدر شيخ الإسلام هذه الفتوى في خصومه. (بأن دماءهم حرام عليه وأنه لا يحل إنزال الأذى بهم. فقال له السلطان أنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مراراً. فقال الشيخ: من آذاني فهو في حل. ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه وأنا لا أنتصر لنفسي). ولم يكتف الشيخ بهذا الحكم الذي أرضى الله ورسوله وجماعة المسلمين. بل شفع لهم طالباً العفو عنهم قائلاً للسلطان: "وإذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم". وحين سمع ابن مخلوف المالكي ما قاله الشيخ فيهم قال: (ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر، وقدر علينا، فصفح وحاج عنا). لله درك رحمك الله وأرضاك. ولا غرابة في ذلك فقد كنت العالم التقي الذي يبتغي بعمله وجه الله والدار الآخرة. وبهذا انتهت هذه المحنة، ولكن بقي لها ذيول، ومن ذيولها: أنه في اليوم الرابع من شهر رجب 711هـ (امتدت إليه أيدي أثيمة بالضرب، فتجمع أهالي الحسينية سكان محلة سيدنا الحسين رضي الله عنه بالقاهرة –وفيها محل سكناه..) ليثأروا للشيخ، فردهم، فألحوا عليه فمنعهم قائلا: (إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله؟ فإن كان الحق لي فهم في حلّ مني. وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولم تستفتوني فافعلوا ما شئتم؟؟ وإن كان لله فالله يأخذ حقه إن شاء) وعاد الشيخ إلى دمشق، ولكن عودته لها، لم تكن للراحة والاستجمام في مصايف بلودان ودمر، بعد ما أصابه من شدة وبأس في مصر وإنما عاد إليها مجاهداً يحمل السيف وهو قد تجاوز الخمسين عاماً. نعم عاد مجاهداً، فقد صحبه السلطان الناصر وهو على رأس جيش المسلمين لملاقاة التتار، وفي الطريق وصلت أنباء هذا الجيش المظفر إلى التتار، فرجعوا خائبين لا يلوون على شيء. قال ابن كثير (ثم إن الشيخ بعد وصوله إلى دمشق، واستقراره بها، لم يزل ملازماً للاشتغال في سائر العلوم، ونشر العلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطلوبة، والاجتهاد في الأحكام الشرعية. ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده، من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يخالفهم( ) أو يخالف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة). وكان من جملة مخالفته للقول المشهور من أصحاب المذاهب الأربعة، مسألة الحلف بالطلاق، فهو رحمه الله يراه لا يقع الطلاق به، ولا تنفصم به عقد الزوجية. وله دليله الشرعي في ذلك، ولما أفتى بها وطار خبرها، استنكر ذلك فقهاء المذاهب، فاجتمع به قاضي القضاة وأشار عليه بترك الافتاء بهذه المسألة فقبل الإشارة المتضمنة نصحه، وما أن مرت الأيام به، حتى عاد إلى الفتوى بها ووجد أن عموم البلوى يدفعه إلى الجهر بها. ولما علم السلطان الناصر، أن ابن تيمية عاد إلى فتواه هذه، كتب إليه كتاباً في 19 رمضان 719هـ يؤكد عليه إشارة قاضي القضاة، ولكنه رحمه الله رفض هذه الإشارة، رغم تأكيدات المنع وإشارات القضاة، عند ذاك قرر نائب السلطنة في دمشق حبسه في القلعة، وبقي محبوساً فيها خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً. ولما يئس الجميع من رجوعه وامتناعه، أمر السلطان الناصر بإطلاق سراحه، وكان ذلك في 10 محرم الحرام 721هـ، وخرج من السجن، متمسكاً بفتواه تلك. وانتهت بهذا محنته هذه، ولكن بقيت في انتظاره محن أخرى، كانت هي الأخيرة والتي مات فيها. الفقهاء والقضاة من ذوي الشأن، لم يتحملوا نقده، كما لم يطيقوا صبراً على فتاويه، فهو يفتي بما يراه صواباً وإن خالف من خالف من الفقهاء والعلماء، لأنه ينظر إلى الدليل الشرعي، وقول الصحابة الكرام، ويسوقه هذا النظر إلى رأي معين يعتقد بصوابه فيعلنه بجرأة، ولا يلزم الناس بما يقول من فتوى إذا ما كان قاضياً، وإنما كان مفتياً، يسأله السائل فيجيب، ولا يملك أي فقيه أو مجتهد مهما بلغ في العلم، أن يلزم الناس بآرائه الاجتهادية ما دام الرأي معتمداً على نص ظني الدلالة والثبوت، وهو يحمل أكثر من رأي واحد، وإنما الإلزام يكون في الرأي الذي يعتمد على نص قطعي الدلالة والثبوت، ولا موضع للاجتهاد فيه، كما يكون الإلزام فيما تتبناه الدولة من آراء وأحكام. وسار الشيخ على هذا النهج (ولم يزل كذلك إلى أن ظفروا له بجواب يتعلق بمسألة شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين)( ). وكان قد أجاب به نحو عشرين سنة فشنعوا عليه بسبب ذلك. وكبرت القضية( ) وورد مرسوم السلطان في شعبان من سنة ستة وعشرين (وسبعمائة) بجعله في القلعة (محبوساً) فأخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، وأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المدة على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب، والرد على المخالفين وكتب على تفسير القرآن.. وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل الأمر إلى أن منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب ولم يتركوا له دواة ولا قلماً وكتب عقيب ذلك بفحم يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النقم. ويحسن بنا أن نختم محنته بل محنه، بذكر بعض ما كتبه بالفحم وهي تصور نفسيته، وتبرز شخصيته. معبرة عما يجول في خاطره في تلك المحنة التي كانت عليه من أعظم النقم). يقول رحمه الله: "كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو القوي العزيز العليم الحكيم، ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، فالعبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائماً على كل حال، ويستغفر من ذنوبه، فالشكر يوجب المزيد من النعم، والاستغفار يدفع النقم، ولا يقضي الله للمرء من قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". مكث شيخ الإسلام بسجنه هذا خمسة أشهر قاضياً أيامه الأخيرة، في (التلاوة والعبادة والتهجد). فلازمه المرض عشرين يوماً وفي أثنائها زاره وزير دمشق لعيادته (فلما جلس أخذ يعتذر ويلتمس منه أن يحلله مما عساه يكون قد وقع منه في حقه من تقصير، فأجابه: "إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق وأحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي لكونه فعل ذلك مقلداً معذوراً ولم يفعله لحظ نفسه، وقد أحللت كل أحد ما بيني وبينه إلا من كان عدواً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم". وبهذا الصفح الجميل، وبتلك النفس الصابرة، انتقل إلى جوار ربه الكريم، وقد روى عنه ابن القيم وهو رفيقه في الحبس أن آخر ما تلاه من القرآن العظيم وفاضت روحه: عند قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ،فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)( )..

محنة أحمد السرهندي

... تولى حكم الهند سنة 963هـ رجل من ملوك المغول من أحفاد تيمور، يدعى جلال الدين أكبر، وما أن تربع على كرسيه، حتى سام مسلمي الهند سوء العذاب، اضطهد علماءهم، وآذى رجالهم، وضيق على عامتهم قتلاً وتشريداً واعتقالاً، وعاث في البلاد الفساد؛ هذا حاله مع المسلمين، أما مع الإسلام، فقد أعلن الحرب عليه، حرباً شعواء لا هوادة فيها، مبتدئاً فسخ نبوءة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مدعياً بأن عصر النبوءة قد انتهى إلى هذا الألف من الأعوام: وبدأ عصر الألف الثاني، بإمامته العظمى، وأنه صاحب الكلمة، لا يعصى في أمر، ولا يرد له حكم، حسب (المحضر) الموقع عليه من رجالات الهند، ومن العلماء الذين زلت بهم القدم في هذه (الفتنة الأكبرية) ومن خالف أمره، وأعرض عن حكمه، كان السجن المؤبد، أو القتل الزؤام جزاءه وعقابه، فحرم ذبح البقر وكتابة التاريخ الهجري، كما حرم تسمية رجالات قصره وأعوان حكمه بأسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وأباح ذلك لعبيده وخدمه، تحقيراً وامتهاناً للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وحلل الخمر والقمار والخنزير والزواج من بنات الهندوك الوثنيين، ثم لم يكتف بهذا الكفر الصريح، بل شرّع ديانة جديدة، وابتكر طقوساً وشعائر متعبداً وآمراَ بها. فكانت صلاته على طريقة براهمة الهند، مولياً وجهه شطر الشمس، ومثل هذا الكفر والزيغ والإلحاد كثير وكثير.. حتى وقعت الأمة الإسلامية بهذا القطر العزيز، بمحن ونكبات ومصائب جمة يتشقق منها القلب ويضيق عنها نطاق النطق، وألحقها من الاضطهاد ما لم تره البشرية في تاريخها، إلا في عهد التتار والمغول. في هذا الواقع الأليم، الذي يعج بالكفر والإلحاد والاضطهاد، عاش الشيخ أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السرهندي رحمه الله تعالى( ). ورأى تلك الحالة وهو في زهرة شبابه، ولمس هذا الشهر المستطير، وهو في مرحلة طلبه للعلم. وما أن تخرج عالماً، أصبح في عداد المشائخ: الذين يتأثر الناس بكلامهم ويستمعون إلى إرشادهم، عرضت له أسنى المناصب في هذه الدولة، فرفضها بإباء وشمم، لأنها خسة ومهانة. وما كان لمثله أن يشارك في تثبيت هذه الدولة الكافرة، ويوطد أركان حكمها الفاسد، وإنما دعوته –دعوة الإسلام- بجرأة وشجاعة، إنه يريد تقويم حكام هذه الدولة، والقضاء على الدولة وإزاحتها من الوجود، لتحل محلها دولة الإسلام، تحفظ الشرع، وتقيم الحدود، ويرعى أبناء الأمة على أساسه، لا يرضى بذلك بديلاً، ولا يقبل عن الإسلام تحويلاً. ولقد تم له ما أراد –الحمد لله- وحقق ما عزم عليه، مستلهماً التوفيق من الله وطالباً النصر منه: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين)( ). ولكن هل يحصل له ما يريد؟ وهل يحقق ما عزم عليه، دون محنة واضطهاد؟ فلننتظر.. استمر الشيخ رحمه الله تعالى، بدعوته التي أوقف نفسه عليها، وهكذا شأن العلماء الرجال، فأخذ يجمع الناس على ما عزم عليه، فاستجاب له خلق كثير، فكثر أتباعه ومريدوه، فازداد، رحمة الله عليه، همة ونشاطاً، لا يعرف السأم والملل، وفي تلك الأثناء، هلك هذا الطاغية الجبار الملحد سنة 1014هـ وانتهت بهلاكه فكرة الإمامة العظمى المزعومة، وخلفه ابنه جهان كير. أما الشيخ فانتبه للأمر، وأخذ له عدة، واتخذ من إصلاح الحاكم الجديد، نقطة ابتداء، فبصلاح الحاكم وصلاح العلماء من أمثال شيخنا الكريم، تصلح البلاد، ويصلح الناس، وتلك نظرة مقررة في الشرع، ولذلك قال رحمه الله: "إن الملك –الجديد- قد أفسده المفسدون فثار على الدين وانحرف عن الجادة، ولكن ليس هو الدولة كلها، وليس هو الشعب كله، وقد كتب عليه الموت، وهو خاضع للسنن الإلهية، فيموت ويخلفه غيره، فلا بد أن أؤدي رسالتي وأتصل ببلاطه وأركان دولته، ولا موجب للقنوط من الفطرة الإنسانية، فالصلاح فيها أصيل، والفساد عليها طارئ، فلأجرب ولأحاول، وإن الله ناصر من نصره، وخاذل من خذله( )". بتلك الروح العالية وبهذا الفهم الصحيح، أخذ يتصل ويكاتب (أمراء الجيش ورؤساء الدوائر الحكومية، ممن آنس فيهم رشداً، ينبههم من نوم الغفلة، ويلفت أنظارهم إلى ما أتت به الفتنة الكبرية، من مصيبة وبلاء للدين الحق، وما جرته من وبال على المسلمين( )). ولنقرأ رسالته إلى قائد (من قواد الجيش الركن الأعظم للدولة في عهد جهان كير- خانخاتان-.. أن ميدان البطولة الإسلامية لا يزال خالياً ينتظر فارساً من فرسان الإسلام. فهل تسبق إلى هذه السعادة، وتحرز قصب السبق، وتنصر هذا الدين المظلوم، وتغضب لهذا الحق المهضوم، وتبلغ بجهادك إلى حيث لا يبلغه المتعبدون الصائمون القائمون. فمهلاً يا أهل الغيرة والفتوة ويا أهل الشهامة والمروءة( )). وما أن سمع رجال حاشية الملك جهان كير، بتلك الرسائل، حتى أخذتهم العزة بالإثم، ورأوا في وجود الشيخ رحمه الله خطراً عليهم وأن اتصالاته المريبة يخشى منها على الدولة، وعلى الملك نفسه، فأوغروا صدر الملك عليه وهمسوا في أذنه، خطر دعوة الشيخ واتصالاته، وأشاروا عليه –كائدين- أن يطلبه إلى البلاط، ويمتحنه بذلك تكون المحنة... وبهذا يقضي عليه وعلى دعوته: تلك هي المكيدة. وهذه هي المؤامرة. لأن رجال الحاشية الملكية، وجلاوزة الملك، يعرفون حقا، صلابة الشيخ في إيمانه وقوة عوده في يقينه، وجرأته في مخالفته لما عليه الملك في أحواله الخاصة والعامة، فلا تلين له قناة، ولا يجامل أحداً، ملكاً كان أو مملوكاً، راعياً أم رعية، وسوف لا يسجد للملك عند المقابلة، كما يقتضي العرف الديبلوماسي المقيت، وإن سأله الملك، فستكون أجوبته جريئة صريحة، ولن ترضي الملك، فتقع المحنة، ويصيبه شررها من اضطهاد ونحوه. وافق الملك على إشارة رجال حاشيته، واستدعى الشيخ إلى قصره وبلاطه فاستجاب الشيخ، ولكنه رحمه الله كما قال الكائدون، عندما دخل قصره، نبهه إلى السجود، فامتنع: ودخل مسلماً بتحية الإسلام، فاستشاط غيظاً وغضباً وقام هائجاً. وسأل منكراً ما هذا؟ أخرجوه، وأمر باعتقاله في الحال. وأخذ مخفوراً، وطرح في سجن حصن كواليار في قلب مدينة الهند. لبث الشيخ في السجن بضع سنين يشتغل بالعبادة ويدعو المسجونين معه إلى الإسلام. فأسلم على يده كما جاء في دائرة المعارف الإسلامية مئات المسجونين( ). (وصار الجناة من السارقين وقطاع الطريق، يؤدون العبادة ويسجدون للحيّ القيوم سبحانه وتعالى، وأصبحوا يأتمرون بأوامر الشيخ، وظهرت عليهم الصفات الخلقية الكريمة. فتنبه لذلك مدير السجن، وكتب إلى الملك رسالة خاصة يخبره فيها أن المحبوس الشيخ السرهندي، ليس من شأنه أن يحبس، وإنما هو ملك قلما ينجب الدهر مثله، فإن رأى الملك أطلقنا سراحه وأكرمناه بما يستحقه، فندم الملك على ما ظهر منه من بوادر الشدة في شأن الشيخ، وأمر بإحضاره إلى مقر المملكة، ولما بلغه خبر دنوه من العاصمة، بعث الأمير (خوم) ولي عهد المملكة.. لاستقباله والترحيب بمقدمه( )).. كل ذلك فعل لأنه تحرى أخبار الشيخ بنفسه ودرس حياته، فوجد به العالم العامل والشيخ الصادق، فأخذ يكسب وده، ويتقرب إليه. عاد الشيخ منصوراً، فقد أدى واجبه في السجن، وها هو يؤدي واجبه الشرعي عند الملك. دخل الشيخ عليه، وأعاد التحية بالسلام: فرد الملك التحية وتلقاه بالترحاب.. والاعتذار.. كان يوم هذه المقابلة في ليلة رمضان المبارك، وأبى الملك إلا أن يضيف الشيخ عنده في هذا الشهر الكريم. ورجاه أن يسمعه ما يدور في خاطره، وأن يحدثه عما يريد، وأن يخبره بحقيقة دعوته، فاستجاب الشيخ مستبشراً بذلك، فهذا يوم طالما تمناه.. قضى الشيخ شهر رمضان في ضيافة الملك، وفي بلاطه، محدثاً إياه عن الإسلام وعدله، شارحاً له واقع الخلفاء، والصالحين الذين تولوا حكم المسلمين. وقد وهبه الله صدقاً في اللهجة وحسناً في التعبير، وسلامة في العرض والملك ينصت له، فبدأ الصلاة خلفه، وأقام صلاة التراويح، وأخذت أصداء آيات القرآن الكريم تجلجل في رحاب القصر، وعاش الملك في جو روحي عبق، حتى استطاع الشيخ بفضل الله وتوفيقه أن يغير قلب الملك وفكره. فأحب الإسلام واعتقد به، وأعلن ذلك للأمة بمرسوم أصدره يحمل الأوامر التالية: 1- تحريم السجود للملك. 2- الإذن بذبح البقر. 3- تعيين القضاة ورجال الحسبة في كل بلد. 4- إعادة بناء المساجد المهدمة. 5- إبطال القوانين المعارضة للشريعة الإسلامية( ). وهكذا أخذ الولد الصالح المؤمن ينقض ما أبرمه الوالد الكافر الفاسد، حسب قول الشيخ وأمره، ولقد صدق من قال: إن الملوك لتحكم على الورى وعلى الملوك لتحكم العلماء استأذن الشيخ الملك الصالح، بالرجوع إلى بلده فأذن له معززاً مكرماً، فعاد الشيخ إلى زاويته بسرهند، مستمراً على النصح والإرشاد، يعلم أتباعه ومريديه، وليحملوا رسالته، وليواصلوا من ارتقاء سلم الكمال بالدولة نحو الإسلام، بعد أن تركها الشيخ في وضع حسن، أمن المسلمون فيها على دينهم وزال عنهم ما أصابهم من هم وغم، ومحن واضطهاد. وقد حمل الشيخ أمانة الإسلام، في حمل دعوته وتحكيم شرعه في أعناق خلفائه وأولاده الذين تولوا الأمر بعده. مات الشيخ وعمره عمر نبيه صلى الله عليه وسلم راضياً مرضياً وسيكون إن شاء الله معه في جنة الخلد: (والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبيلنا وإن الله لمع المتقين)( ).

خاتمة الفصل

لم تعقم الأمة الإسلامية، وهي الودود الولود، من إنجاب علماء عاملين، أو شخصيات إسلامية، جمعوا بين العلم الغزير والرجولة الحقة، بعد أولئك الذين امتحنوا في دينهم، وعذبوا من أجل إسلامهم، الذين أحبوا الموت في سبيل الله، كما أحب غيرهم الحياة، من علماء السلف الصالح رضوان الله عليهم، بل لم يضن الله سبحانه وتعالى، وهو الجواد الكريم، على عباده المؤمنين، بأن جعل منهم صفوة طيبة، من أهل العلم والمعرفة في كل حين، تنذر وتبشر، وترشد وتعلم، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تمنع الظلم، وتنصر المظلومين، وتبين طريق الفلاح والنجاح، طريق الإسلام المستقيم، سالكة درب أولئك العلماء الرجال، في طريق حمل الدعوة الإسلامية، وتحكيم شرع الله في كل علاقات المجتمع، علاقات الدولة، وعلاقات الأفراد والجماعات، محاسبين الحكام ناصحين الرعاة، واقفين بشجاعة بوجه الكافر المستعمر، وعملائه وأذنابه، من حكام الظلم والسوء، من الذين فرطوا في جنب الإسلام، وساموا أمته عذاب الهون. وإني حين ذكرت محن أولئك السادة العلماء، من أئمة الدين، ومشايخ الإسلام، لم أقصد بذلك حصرها فيهم، ووقوفها عند حدهم، وإنما قصدت الاستشهاد والتمثيل، للعبرة والاتعاظ... فقد تتابعت المحن تترى، نازلة بالعلماء، على اختلاف نوعية تلك المحن، في كل عصر: وفي كل مصر، من أرض الإسلام المباركة، وستبقى المحن تنزل بالعلماء الرجال، ما دام هناك حكام تركوا الحكم بما أنزل الله. وتضيق صدورهم في المطالبة به، وحمل الدعوة إليه، وما دام هناك علماء يؤدون واجبهم الشرعي، وينطبق عليهم وصف العلماء الذين يريدهم الإسلام.

العلماء في سجون الحكام

(رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)( ) -قرآن كريم- ... من سنة الله تعالى في خلقه: أن يقع النزاع بين الفجور والتقوى، وأن تكون الغلبة للتقوى في نفس من هدى الله، والخسران للفجور في نفس من أضل الله. ولذلك ومنذ القدم كان ولا يزال التنازع يقع بين الخير والشر والعدل والظلم والحق والباطل، فمنذ أن عصى إبليس أمر ربه في السجود لآدم، بدأ الشر المتمثل بإبليس يتنازع مع الخير المتمثل في أمر الله تعالى، ولكن مهما طال النزاع واشتد، ومهما كسب الشر من نصر، فالبقاء للخير لأنه الأصلح، ولأن سنة الخالق العظيم قضت بذلك: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)( ) (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ)( )، أي فولا دفع الله بعض الناس عن المنكرات والمعاصي بسبب البعض لفسدت الأرض. ولا ريب أن الدافعين هم العلماء والفقهاء القائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن أمر الله هو الحق والعدل والخير، وأن هوى إبليس هو الباطل والظلم والشر، ومن اتبع هوى إبليس كان من جنده وأنصاره وعبيده، لذلك وقع النزاع بين العلماء والحكام: وقد النزاع بين من يحمل أمر الله وبين من يتركه وراء ظهره، وكلما اشتد النزاع ثبت العلماء والسائرون على هديهم، وتفنن الحكام الظالمون في وسائل الكيد بهم، لإخماد صوت الحق والخير والعدل وابتدعوا مختلف الوسائل لتحقيق ما يريدون، ومن ذلك فرض الإقامة الجبرية أو سجنهم أو نفيهم أو الحكم عليهم بالموت. وإن استطاع الحكام أن يحبسوا أجسام العلماء فإن قلوب تلك الأجسام وعقولها، كانت منطلقة تعرج تارة وتحط أخرى في ساحات التفكر ومواطن التأمل، ولم ولن يستطيع الحكام أن يعرقلوا عروجها أو ينكبوا سيرها، مهما أوتوا من براعة وخبث في ثقل القيود والأصفاد. إذن فلتكن السجون للعلماء، ما داموا يحملون قلوباً خاشعة لرب العالمين، وعقولاً مفكرة في آلاء الله ونعمه. وأعظم تلك النعم على الإطلاق –الدين- الإسلام الشريعة، التي يحملون رايتها. أما العلماء فقد كانوا يتلقون تلك الأوامر الجائرة بصدر رحب راضين بقضاء الله تعالى، صابرين على هذه المحن وتلك الابتلاءات التي ترفع درجاتهم نحو الفردوس الأعلى، أو تمحوا لهم سيئاتهم: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)( ). إن تلك السجون كانت للعلماء عملية صهر وسبك خرجوا كالكبريت الأحمر. ولنقرأ جميعاً قول سلطان العلماء العز بن عبد السلام وهو يتلقى أمر الحكم، حين بلغه به الوزير بالإقامة الجبرية في داره، وأن لا يفتي ولا يجتمع بأحد. (يا غرز إن هذه الشروط من نعم الله الجزيلة عليّ، الموجبة للشكر على الدوام، أما الفتيا فقد كنت والله متبرماً بها وأكرهها، وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم، ولولا اعتقادي أن الله أوجبها عليّ في هذا الزمان لما كنت تلوثت بها، والآن قد عذرني الحق، وسقط عني الوجوب، وتخلصت ذمتي، ولله الحمد والمنة، وأما ترك اجتماعي بالناس ولزومي البيت، فما أنا في بيتي الآن، وإنما أنا في بستان ومن سعادتي لزوم بيتي، وتفرغي لعبادة ربي، والسعيد من لزم بيته، وبكى على خطيئته، واشتغل بطاعة الله تعالى، وهذا تسليك من الحق وهدية من الله إلي، أجراها على يد السلطان وهو غضبان، وأنا بها فرحان، والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك هذه الرسالة، المتضمنة لهذه البشارة، لخلعت عليه، ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة وصلّ عليها فقبلها وقبّلها)( ). ثم لنقرأ أيضاً قول شيخ الإسلام ابن تيمية، حين ورد الأمر بسجنه في قلعة دمشق، بعد أن أظهر السرور، (إني كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير عظيم، ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة) ولما دخل القلعة متوجهاً إلى السجن الخاص به. ورأى أسوارها، قال مستشهداً ومتمثلاً بقول الله تعالى: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ)( ).( ) تلك من أجوبة العلماء الرجال. حين يستلمون أوامر الحكام الظالمين، وهي أجوبة يكفي ذكرها بدون تعليق: وهي تعبر عن نفسياتهم عند الشدائد والمحن. إن هؤلاء السادة رحمهم الله تعالى: كانوا إذا حلوا ضيوفاً في قلاع السجون أو جدران البيت جبراً عنهم، فإنهم يقضون أيامهم. وينهون مدة محكومياتهم بالعبادة والتأليف، حيث أن معظم الحكام، كانوا يقتصرون بعقوبة العلماء على حبس أجسامهم، فيكون الفكر طليقاً والعقل حراً، يقرأ ويؤلف، إلا أن هناك حكاماً كانوا لا يكتفون بحبس الأجساد، بل يزيدون ظلماً واضطهاداً، بالضرب المبرح والتعذيب الشديد كما حدث للإمام أحمد بن حنبل وأمثاله. فيحبس العقل مع الجسم، وإنما يكون التأليف والقراءة، لأمثال هؤلاء، وهم مكبلون بالحديد والسلاسل أو يتقلبون تحت السياط، أو يعالجون الجروح!! إننا نجد أولئك الذين حلوا في سجون الحكام، كانوا يؤلفون ويكتبون بأفق فكري عال، وفي ارتقاء وسمو فجاءت مؤلفاتهم قيمة، وكتاباتهم جليلة، كما كانت نفسياتهم صافية عالية، في الاتجاه إلى الله تعالى. وحسن عبادته، أما وعظ الذين معهم وإرشادهم، فقد كانت على درجة عظيمة من الاهتمام والرعاية. ومن هنا كانت سجون الحكام للعلماء نعمة وخيراً كثيراً، سيقت إليهم، وإن فاتهم هذا وذاك، فإنه لم يفتهم ذكر الله في نفوسهم تضرعاً وخفية، حيث أن قلوبهم مستغرقة بالاتجاه إلى العلي الأعلى، لطلب عفوه ورضاه، وذلك الخير العميم، الذي لا يبغ شأوه الكثيرون. وها إني أذكر وقائع من أحوال العلماء في سجون الحكام: هذا فقيه جليل من فقهاء السادة الحنفية، شمس الأئمة السرخسي (أملى كتابه المبسوط في الفقه وهو المطبوع بثلاثين مجلداً وهو في السجن (باوزجند) إذ كان محبوساً في الجب بسبب كلمة نصح بها الخاقان وكان يملي من خاطره من غير مطالعة في كتاب وهو في الجب وتلاميذه في أعلى الجب. وقال عند فراغه من شرح العبادات. هذا آخر شرح العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات أملاه المحبوس عن الجمع والجماعات.. وقال في آخر شرح الإقرار. انتهى شرح الإقرار المشتمل من المعاني على ما هو من الأسرار، بإملاء المحبوس في مجلس الأشرار، وله كتاب في أصول الفقه وشرح السير الكبير أملاه وهو في الجب ولما وصل إلى باب الشروط حصل له الفرج)( ). وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية: فإنه لما حل في سجن القلعة الذي مات فيه (اقبل على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب والرد على المخالفين، وكتب على تفسير القرآن العظيم جملة كبيرة، تشتمل على نفائس جليلة، وهو ما ظهر له من بعد في تفسير القرآن العظيم، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل الأمر إلى أن منع من الكتابة والمطالعة وأخرجوا ما عنده من الكتب، فصار يكتب بأعقاب الخشب التي صارت إلى الفحم)( ). قال ابن قيم الجوزية، وهو الذي حبس مع شيخ الإسلام بسجن القلعة، قال لي مرة –يعني شيخ الإسلام- المحبوس مَن حَبَس قلبه عن ربه، والمأسور من أسر هواه، وسمعته يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. وهذا الإمام الفقيه ابن رشد، فإنه لم يمتنع عن التأليف حتى في أثناء نكبته التي عوقب فيها، وهو في أقصى درجات الشيخوخة ألف في حبسه كتابه الشهير "المنطق"( ). وهذا القاضي بكبار بن قتيبة (لما اختلف مع أصحاب أحمد بن طولون في ولاية العهد وأراد حبسه، استأجر له داراً، وحبسه فيها، وكان فيها طاق (نافذة) يجلس يتحدث فيها، ويكتب عنه وهو في السجن)( ). وهذا الإمام الأعظم أبو حنيفة: عندما أدخل السجن بعد أن ضرب بالسياط بين أيدي أبي جعفر المنصور، وابن هبيرة، كانت أمه تزوره في السجن. وفي يوم قالت له (يا نعمان إن علما ما أفادك غير الضرب والحبس لحقيق بك أن تنفر عنه –فأجابها- يا أمه لو أردت الدنيا لوصلت إليها، ولكني أردت أن يعلم الله أني صنت العلم ولم أعرض نفسي فيه للهلكة)( ). وهذا ابن نجيم... وهذا ابن القيم، وهذا وهذا فكلهم في سجون الحكام يقضون مدة محكومياتهم في التأليف والعبادة. تلك أمثلة حية، من أحوال العلماء في سجون الحكام. وهي تعبر عن الروح القوي الذي يتقمصها السادة العلماء كما تصور العقلية الإسلامية السامية، التي كانوا يتصفون بها، وتبرز النفسية الإسلامية الرائعة التي كانوا يعيشون بها، حتى كانوا شخصيات إسلامية ممتازة. يشار إليها بالبنان ويقتدي بها جميع المسلمين. وبقيت هذه الأحوال وأمثالها واقعة على من بعدهم من العلماء في كل العصور والأمكنة. ولم يخل من ذلك عهد ولا حصر حتى اليوم..

العلماء والجهاد

أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله.( ) -حديث شريف- لقد فهم العلماء الجهاد، بأنه الدعوة إلى الإسلام، والقتال في سبيل الله تعالى. فكان الجهاد بذلك حرباً هجومياً على كل من يقف حجر عثرة في سبيل نشر الإسلام في العالم، وعلى كل من يحول دون سيادة الشرع الإسلامي الحنيف في الأرض. قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)( ). وهنا يحسن بنا بيان معنى الآية الكريمة، وتوضيح مفهوم الجهاد، معتمدين على العلماء أنفسهم في تفاسيرهم الجليلة. حين أمر الإسلام بقتال الأعداء، ممن كانوا خارج دولته، وليس بينهم وبين الدولة الإسلامية، ميثاق ولا معاهدة بقوله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ) فإنه أمر أن يسبق هذا القتال، دعوة هؤلاء الأعداء، للدخول في دين الإسلام، دعوة تعطيهم فكرة عامة وواضحة عن هذا الدين، وعن حياتهم التي سيعيشونها بظله وتحت رايته، فإن هم استجابوا وصاروا مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وإن لم يستجيبوا لدعوة الإسلام والدخول فيه، دعوا إلى إعطاء الجزية، وهي ضريبة مالية تؤخذ من القادرين عليها ممن بلغوا الحلم من الرجال دون النساء (وهي مقابل الزكاة التي تؤخذ من المسلمين) مع ضمان حق القيام بعباداتهم، وإجراء عليهم كل ما يتعلق بأحوالهم الخاصة، من مطعومات ومشروبات ومن طلاق وزواج وميراث، وهي التي تسمى اليوم (بالأحوال الشخصية) حسب دينهم، ولا يكرهون على الدخول في دين الإسلام استجابة لأمر الله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)( ). ولهم في هذا الحالة، من حقوق إقامة العدل والإنصاف والرعاية، كالمسلمين، لقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)( ). كل ذلك مقابل أن يرضوا بحكم الإسلام، وأن يستظلوا تحت رايته، ويحملوا التابعية للدولة الإسلامية، أما إذا لم يستجيبوا لهذه الدعوة أيضاً، فأبوا الرضا بسلطان الإسلام وحكمه، فإن الله تعالى أمر بقتلهم، قتالاً اشترط فيه، أن لا يتخلله غدر ولا إفناء، ولا تدمير أو تخريب، كما ليس فيه قتل لمن لم يقاتل من المدنيين، ولا يد له في تعويق نشر الإسلام وعرقلة سيادة الشرع، كالنساء والأطفال والعجزة، مع إطعام أسراهم، وعدم تعذيبهم، فكان القصد من هذا القتال (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) والفتنة لها معان متعددة منها التعذيب والاضطهاد، ومنها الصد عن الدين والإعراض عن الإسلام، ومنها الفساد والمنكر والإضلال والشرك، ونحو ذلك، وكل هذه المعاني، لها سند من الكتاب الكريم والسنة المطهرة. أما معنى الفتنة في هذه الآية الكريمة، فإنها تعني الكفر والإشراك، ويوضح هذا المعنى، سياق الآية الكريمة، فلنعد إلى قراءتها ثانية: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ). وحين أمر سبحانه وتعالى بقتال هؤلاء الكفار والمشركين حتى لا يكون كفر أو إشراك (فِتْنَةٌ) في الأرض فإنه أمر بقتال هؤلاء لقصد ثان وهو أن (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) من أجل أن يسود الإسلام العالم وتعم كلمته الأرض. وبعبارة أخرى، كما يقول الرازي في تفسيره (وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويثبت الإسلام... وهو نظير قوله تعالى (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)( ). أما قوله تعالى: (فَإِنِ انتَهَواْ) فالمعنى فإن انتهوا عن الكفر فأصبحوا مسلمين أو تمسكوا بدين غير دين الإسلام. ولكنهم رضوا بسلطان الإسلام وخضعوا لدولته، فلا يجوز قتالهم. ومعنى الانتهاء هنا مثل قوله تعالى: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)( ) أما قوله تعالى: (فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ). فالمعنى أن انتهوا عن ذلك –كما مر- فلا قتال إلا على الذين ينتهون عن الكفر: ولا يقبلون بسلطان الإسلام، وإصرارهم على هذا الامتناع وعدم الانتهاء هو الظلم لأنفسهم، كما قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). وقد سمى الله تعالى هذا القتال –وهو قتال حق- عدوانا لأنه كان جزاء العدوان، فصح إطلاق اسم العدوان عليه، وهو كقوله تعالى (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا)( ) وقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)( ). ويؤيد هذا المعنى لهذه الآية الكريمة: آيات الله تعالى العديدة، وأحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم المستفيضة، التي دعت إلى الجهاد وبينت غايته ومقصده السامي النبيل، ويؤكده أيضاً عمل الرسول الأعظم وعمل خلفائه، الذين تولوا الحكم والسلطان بعده. أما الآيات الكريمة، فمنها قوله تعالى: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)( ). وقوله: (انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)( ). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)( ). أما الأحاديث النبوية فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله). وقوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)( ). وأما عمله صلى الله عليه وسلم فقد قضى حياته في المدينة المنورة ثلاث عشرة سنة( ) مجاهداً، يقاتل الكفار والمشركين. حتى تم له فتح الجزيرة العربية وما جاورها استجابة لأمر الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)( ). وأما عمل الخلفاء المسلمين، أو نقول عمل الدولة الإسلامية التي تولى رئاستها الخلفاء، فإن الجهاد والفتح للبلدان امتد إلى ثلثي العالم. وأن جهادهم هذا ما كان إلا تنفيذاً لما عليهم من واجب وهو تبليغ الإسلام للناس أجمعين، على وجه يلفت الأنظار، وذلك بتطبيق أحكام الإسلام على سكان البلاد المفتوحة، ونشر أفكاره بين صفوف أهلها لأن عقيدة الإسلام عقيدة عالمية، إذ هي عقيدة لكل إنسان، ولأن نظام الإسلام، نظام عالمي، وهو نظام لكل إنسان، بغض النظر عن القومية واللغة والبلاد. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)( ). وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)( ). لذلك لم تكن الفتوحات الإسلامية، القائمة على الجهاد، من أجل استغلال الشعوب واستعمارها، ولا من أجل نهب خيرات البلاد واستثمارها كما يصور الكافر المستعمر، ويزعم المضبوعون بثقافته الاستعمارية الخبيثة. وإنما كان الجهاد وفتوحاته من أجل شيء واحد وواحد فقط، هو حمل الدعوة الإسلامية وإنقاذ شعوب العالم من حياة الشقاء والتعاسة. وإخراجهم من الظلم والظلمات التي يعيشونها بسبب فساد أنظمتهم وضلال أفكارهم، وخطأ عقيدتهم، إخراجهم من ذلك كله، إلى نور الإسلام، وضياء القرآن، وإلى العبادة الكاملة والطمأنينة الحقة، من تطبيق نظام الإسلام، ونشر عقيدته الصافية النقية. تلك آيات الله تعالى: وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمله والخلفاء، والذين جاءوا بعده، بينت الغاية من الجهاد، والقصد من الفتوحات، من أنها لإعلاء كلمة الله في الأرض، وحمل الدعوة إلى الإسلام، ورفع راية التوحيد في العالم خفاقة بالنصر المبين. فلما فهم العلماء ذلك، وأدركوه، بل وعلموه، وقاموا بهذا الجهاد المقدس وهم يعرفون أنه فرض كفاية: إذا أتمه البعض سقط عن الباقين، ومن أولى من العلماء في القيام بأفضل الأعمال، وأجل القربات، وأعظم الطاعات وأكرم العبادات وهو الجهاد في سبيل الله؟. بل من أولى منهم لنوال الشهادة في الجهاد، والشهيد كما يعلمون من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وله درجة تدنو من درجة الأنبياء والمرسلين، بل هو معهم في جنات النعيم. أما إذا هاجم العدو بلاد المسلمين، أو احتل أرضهم، فإن الجهاد يصبح فرض عين على كل مسلم ومسلمة، من القادرين على حمل السلاح ومقاتلة العدو، والعلماء في مقدمتهم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم وألسنتهم.وتلك شواهد محسوسة، من قيام العلماء بالجهاد المقدس، بنوعيه العيني والكفائي، ضاربين صفحاً عن ذكر علماء الصحابة الكرام رضي الله عنهم، لأنهم جميعاً مجاهدون، وقد جاهدوا في سبيل الله بدون استثناء، حتى وصل إلينا هذا الدين العظيم عن طريق جهادهم المبرور. أما علماء التابعين وعلماء العصور التي تلتهم، فنمسك عن ذكر أولئك الذين جاهدوا بأموالهم، أو الذين حرضوا على الجهاد بلسانهم، فلسنا نريد شاهداً من ذلك. وإنما نقتصر على أولئك الذين حملوا السيف، وخاضوا ميدان المعارك الحربية، وهم بين الأسنة والرماح وتحت ظلال السيوف، وبين صهيل الخيل وقعقعة اللجم، أو مرابطين على الثغور في القيظ والريح والبرد الشديد، ساهرين على حماية ثغور المسلمين، حارسين عليها، وقد جمعوا بين الأفضلين العلم والجهاد.. وهؤلاء بلغوا من الكثرة حداً لا يحصرهم العد، ويكفينا أن نذكر بعضهم، لأننا لا نريد تسجيل فهرست بأسمائهم لأن ذلك يطول، ولا يحصل المقصود، ولذا يكفينا أن نضرب المثل لبعضهم: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)( )..

عبد الله بن المبارك

فهذا الإمام الجليل كان يحج سنة ويجاهد أخرى، حتى أنه مات بعد انصرافه من الجهاد فتوفي في هيت في رمضان سنة 181هـ. قال الحسن بن الربيع: (خرج فارس من المسلمين ملثم فقتل فارساً من العدو كان قد فعل بالمسلمين، فكبر له المسلمون، فدخل في غمار الناس ولم يعرفه أحد فتتبعته حتى سألته بالله أن يرفع لثامه فعرفته. وقلت: أخفيت نفسك مع هذا الفتح العظيم، الذي يسره الله على يدك؟. فقال: الذي فعلت له لا يخفى عليه)( ). وخرج من الشرك فارس، فانتدب له: فإذا وقعت الصلاة فسأله التنحي وصلى ركعتين( ). فلما ذهب إليه، قال الفارس المشرك حتى أصلي أنا: وجعل يصلي إلى الشمس، فلما خر ساجداً، قال ابن المبارك هممت أن أغدر به فإذا قائل أسمعه (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)( )، فتركت الغدر، فلما قال لي –الفارس المشرك- لِمَ تحركت؟ قلت أردت الغدر بك، قال فلم تركته؟ قلت لأني أمرت بتركه: قال: الذي أمرك بترك الغدر أمرني بالإيمان والتحق بصف المسلمين)( ). يقول ابن خلكان عن هذا الإمام الجليل. (هو الحافظ شيخ الإسلام المجاهد. التاجر. صاحب التصانيف والرحلات. جمع الحديث والفقه والعربية وأيام العرب والشجاعة والسخاء.. وله كتاب في الجهاد وهو أول من صنف فيه) داعياً له بحماس لذلك يقول في الدعوة إلى الجهاد: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

	لعلمت أنك في العبادة تلعب
 

أو كان يتعب خيله في باطل

	فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
 

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا

	رهج السنابك والغبار الأطيب
 

ولقد أتانا من مقال نبينا

	قول صحيح صادق لا يكذب
 

لا يستوي غبار خيل الله في

	أنف امرئ ودخان نار تلهب
 

هذا كتاب الله ينطق بينا

	ليس الشهيد بميت لا يكذب( )
 

الإمام الشافعي

وهذا الإمام الفقيه المجتهد العظيم (لما قدم مصر سافر إلى الاسكندرية ليرابط بثغرها وبقي سبعة أيام ووجهه إلى البحر في مراقبة الخطر)( ). وكيف لا يرابط في ثغور المسلمين هذا الإمام الجليل وهو يعلم قول نبيه صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله)( ). وقوله (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن فتنة القبر)( ).

اسماعيل بن محمد البخاري

وهذا إمام الحديث: يحدثنا عنه صاحبه في الثغر الحربي المسمى بـ (فرير) (كان البخاري يقضي الليل في التيقظ لجمع الحديث ولصلاة السحر. ثم قلت له يوماً: إنك تحمل نفسك كل هذا ولا توقظني؟ فأجابني: أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك. وفي يوم كان البخاري قد تعب في تصنيف كتاب التفسير. فاستلقى على قفاه فقلت له: سمعتك تقول يوماً: إني ما أتيت شيئاً بغير علم قط منذ عقلت. فأي علم بهذا الاستلقاء. فأجابني: أتعبنا أنفسنا في هذا اليوم. وهذا ثغر من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح وآخذ أهبة لذلك، فإذا عاصفنا العدو كان بنا حراك)( ).

محنة أحمد بن تيمية

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية. فإن حوادث جهاده كثيرة. فقد كان العالم المجاهد الذي جمع بين السيف والقلم ومن حوادث جهاده: إن التتار حين جاءوا بجموعهم إلى الشام سنة 702هـ أرجف المرجفون، وخرجت القلوب من جنوبها، حيث استعدت الجيوش من مصر والشام لملاقاة تلك الجموع، وقد أخذ دعاة الهزيمة والتردد ينشرون الفزع في القلوب، أما ابن تيمية فكان يثبت القلوب ويعدهم بالنصر والغلبة، تالياً عليهم قول الله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)( ). حتى إنه كان يحلف بالله: إنكم لمنصورون، فيقول بعض الأمراء له: قل إن شاء الله، فيقول: أقولها تحقيقاً لا تعليقاً، فاطمأنت القلوب وسكنت النفوس، ولكن دعاة الهزيمة أتوا الناس من ناحية أخرى متذرعين بقولهم: كيف نقاتل المسلمين؟؟ إن ذلك ليس بجائز شرعاً. يقولون هذا الزعم وكأنهم مهاجمون وليسوا مدافعين. عندئذ تقدم ابن تيمية بجرأة الحقيقة الشرعية في هذا القتال والمقاتلين. فيقول: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والمظالم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة. ثم قال مصرحاً: (إذا رأيتموني في ذلك الجانب –أي مع التتار- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني)( )، فتحركت القلوب وثارت نخوتها الإسلامية، ثم امتطى، رحمه الله تعالى، صهوة جواده وخرج إلى ميدان القتال محارباً ومحرضاً، فلما كان لمثله أن يدعو إلى الثبات في الجهاد، وهو ينكص على عقبيه، بل يتقدم الجموع لينال الشهادة في سبيل إعزاز كلمة الدين وراية الإسلام. وذهب إلى (مرج الصفر) وهو قريب من دمشق وابتدأت الموقعة الحربية التي تسمت في تاريخ بموقعة (مشقجب) وذلك في شهر رمضان سنة 702هـ وتلاقى الجمعان. ووقف العالِم المجاهد موقف الموت، مقاتلاً، وهو يثبت القلوب من حوله بقتاله وفِعاله، وقد اجتمع بالسلطان قبل الموقعة، يحثه على الجهاد والقتال ورد المعتدين الآثمين، حيث بلغه أن السلطان متردد في القتال فما كان من السلطان إلا أن تحمس وطلب منه أن يقف بجانبه في المعركة. فقال شيخ الإسلام: (السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معه). وقد حث الجند وأمراءهم على الإفطار ليتقووا على القتال، وكان يروي لهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة الكرام في غزوة الفتح: (إنكم ملاقو العدو والفطر أقوى لكم)( ). وكان رحمه الله يدور على الأجناد يأكل معهم من شيء معه، ليبين أن إفطارهم أفضل ليقووا به على القتال. ووقعت الواقعة واشتد القتال، واشترك فيه ابن تيمية ووقف هو وأخوه موقف الموت، وأبلوا بلاء حسناً، وصدق أهل الشام وجند مصر ما عاهدوا الله عليه، فاستمر القتال طوال اليوم الرابع من رمضان، حتى إذا جاء العصر أذن الله تعالى بالنصر، فظهر جند مصر والشام، وانحسر جند التتار، فلجأوا إلى اقتحام الجبال والتلال، وجند السلطان الناصر، أو بالأحرى جند ابن تيمية، وراءهم يضربون أقفيتهم، ويرمونهم عن قوس واحدة حتى انبلج الفجر، ونادى المنادي: الله أكبر، حي على الصلاة. وبذلك الإعلان، انكشفت الغمة، وزال خطر التتار، فكانت هزيمة منكرة، منوا فيها بالخسران المبين، ولم تقم لهم بعدها قائمة، فأمن الشرق والغرب عاديتهم( ).

القاضي أسد بن الفرات

وهذا القاضي الشيخ أسد بن الفرات. قاد جيشاً عظيماًً لفتح صقلية. فخرج على رأس الجيش في ربيع 212 هـ وكان يوماً مشهوداً. حيث خرج وجوه أهل البلد يشيعونه. لم يبقَ أحد من رجال الدولة إلا شيعه. ولما ركب هذا العالم المجاهد. وسار في حفل عظيم من الناس. تحفه حملة الأعلام والسيوف. قال وهو في هذا الموضع منوهاً بفضل العلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. والله يا معشر الناس، ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط، وما رأيت ما ترون إلا بالأقلام، فأجهدوا أنفسكم وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكابروا عليه واصبروا على شدته فإنكم تنالون به الدنيا والآخرة. ثم ركب البحر سنة 212هـ ونزل في مدينة (فأزر) من بلاد صقلية، والتقى الجمعان، فحمل المسلمون على أعدائهم: حملة شعواء. وهو على رأس النفيضة، يحرض المؤمنين على القتال قولاً وفعلاً، فدارت الدائرة على جيش الروم. ودك حصوناً واستولى عليها: وحاصر (سركوسة) وفي أثناء الحصار. أصيب بجراحات بالغة سال منها الدم على اللواء الذي يحمله حتى فاضت روحه إلى ربها راضية مرضية. وحين رأى الجنود استشهاد قائدهم استبسلوا مجاهدين الروم. حتى أرغموهم على الهروب لا يلوون على شيء، وكتب زيادة الله والي إفريقية إلى الخليفة المأمون: بأن الله تعالى أتم فتح صقلية على يد القاضي أسد بن الفرات.

أحمد بن عرفان

تتابعت الأخبار من مقاطعة (بنجاب) في الهند. بأن السيك اضطهدوا المسلمين شر اضطهاد وتفننوا في تضييق الحياة على اتباع الإسلام، فتجاسروا على هتك أعراضهم، وقتل الأبرياء منهم، والفتك بالشيوخ والعجزة. وتجرأوا على تعطيل الشعائر الدينية، فأغلقوا المساجد. كل ذلك حدث لضعف الحكومة المغولية واشتداد وطأة السيك حيث تولوا الأمر في (بنجاب) وما جاورها. وصلت أخبار الاضطهاد إلى مسامع السيد أحمد بن عرفان: فاستشاط غيظاً. وأبدى ألماً وحزناً. فجمع أصحابه وأتباعه ومريديه. فحدثهم بتلك الأخبار المؤلمة التي أصابت إخوانهم المسلمين في (بنجاب) ودعاهم إلى الجهاد، فاستجابوا لدعوته. وأعلن الزحف نحو البنجاب. فتحرك المجاهدون زرافات ووحداناً إلى الحدود الشمالية الغربية حتى استقروا هناك، حيث جعلوها قاعدة حربية لهم، ومركزاً لدعوتهم. وهناك بايع العلماء وفيهم الشيخ عبد الحي ختن الشاه عبد العزيز والشيخ إسماعيل بن عبد الغني بن ولي الله بايعوا السيد أحمد بالإمارة وتبعهم المجاهدون. (وكان ذلك في جمادى الآخرة يوم 12 من سنة 1242هـ وبدأت المناوشات ونشبت المعارك. واضطرمت نيران الحرب، وتتابعت زهاء أربع سنوات، كان النصر فيها حليف المجاهدين بقيادة السيد أحمد على قلة عددهم وعددهم. حتى استولوا على مدينة بشاور العظيمة فأعلنوا فيها حكم الإسلام. وطبقوا الشريعة السمحة عليها وعلى القرى المجاورة لها. وقد ازداد المجاهدون مهابة وإجلالاً في عيون الأعداء، وفرح المسلمون وعظم رجاؤهم بهذا النصر العظيم حيث سيكون فاتحة أمل بعود الإسلام ثانية إلى ربوع الهند. ولكن مما يتألم القلب لسماعه.. ما كان من مقاومة علماء السوء وغدر رؤساء العشائر وفتكهم بالأبرياء وتوددهم إلى أعداء الإسلام –عند ذاك- غادر السيد –أحمد- ومن معه من المجاهدين إلى الحدود الشمالية الغربية، وقصدوا بلاد (كشمير) وأرادوا اللجوء إلى جبالها وكهوفها، إلى أن (استمرت معركة شديدة، بين الفريقين في طريقهم إليها في (بالاكوت) –موضع بين كشمير والحدود الشمالية الغربية- استشهد فيها الإمامان المجاهدان، السيد أحمد بن عرفان والشيخ إسماعيل بن عبد الغني بن ولي الله، وذلك في يوم الجمعة 24 من ذي القعدة سنة 1246هـ رحمهما الله تعالى).

عز الدين القسام

كان الشيخ القسام رحمه الله تعالى، إماماً وخطيباً لجامع الاستقلال في مدينة حيفا بفلسطين. وقد عرف رحمه الله بشجاعته وصلابته في الحق وتفانيه في خدمة الإسلام، وحين رأى حالة المسلمين في بلاده، وسيطرة الكفار المستعمرين الانكليز عليهم، وهم الذين يوالون اليهود ويمدونهم بالسلاح والعتاد، اختار جماعة من إخوانه المؤمنين، وأخذ يدربهم سراً على حمل السلاح، وينفث فيهم روح المصابرة على جهاد الأعداء، حتى استطاع رحمه الله أن يكوّن منهم كتيبة. (ولما رأى وعلم حاكم لواء حيفا وهو من الانكليز بما يفعله الشيخ، أرسل إليه وقال له: يا شيخ إنك متحرك وذو نشاط مناوئ لنا، فرد عليه قائلاً: بعد أن أخرج المصحف الشريف من جيب جبته، هذا الكتاب العظيم يأمرنا بالجهاد ولا نخالفه، ثم إن الشيخ أعلن الجهاد عن طريق الفتك بالانكليز، فخرج هو يقود كتيبته يترصدون العدو، فقتل أفراداً منهم في مدينة بيسان. ثم سار بمن نجا حتى وصل أحراش يعبد بالقرب من مدينة جنين. فاتخذها مقراً له، وفي 19 تشرين الثاني 1935م استشهد أحد أفراد الكتيبة عندما كان يراقب الطريق، وفي فجر اليوم التالي طوقت قوات بريطانية ضخمة، تلك الأحراش تساعدها طائرات استكشافية وبعد قتال استمر حتى العاشرة صباحاً انتهت المعركة باستشهاد الشيخ القسام وأربعة من كتيبته وأسر الباقون. وقد قتل جندي بريطاني وجرح اثنان جراحاً بالغة( ). (فأصدرت السلطة بلاغاً بالحادث نعتت به الشيخ القسام وصحبه بالأشقياء. ورغم خطورة الموقف وإرهاب الانكليز استطاع المسلمون أن يشيعوا المجاهدين الشهداء باحتفال عظيم، جرت في أثنائه مع قوة بريطانية مناوشة، أدت إلى ارتدادها وتحطيم نوافذ دائرة البوليس وأبوابها. وقد هز هذا الحادث البلاد هزاً عنيفاً فيصح اعتباره مقدمة لثورة 1936م( ). استمر الجهاد بعده... ودخلت الجيوش... الثمانية المعروفة. ولم يترك بعض العلماء الجهاد( )، ولكن كانت النتيجة المخزية... بإنشاء دولة إسرائيل لتكون رأس جسر للاستعمار، ثم حولت قضية هذا الوطن المقدس، من قضية إسلامية بين المسلمين جميعاً، وبين اليهود ومعهم الكافر المستعمر إلى قضية محلية بين العرب واليهود، ثم انتقلت من قضية سياسية عسكرية إلى قضية لاجئين وحدود وتعويضات. مع أن هذه القضية في الحقيقة والواقع، قضية المسلمين أجمع والنزاع فيها نزاع بين حق المسلمين وباطل اليهود ومعهم الاستعمار، وفي مقدمته أمريكا وبريطانيا، وأنها قضية سياسية عسكرية، وليس لها إلا حل واحد. هو النزول للجولة الثانية، والعودة إلى مواصلة القتال ولو كلف تحرير هذا الوطن المقدس من رجس الكفار والمستعمرين، استشهاد ملايين المسلمين. لأن هذا جهاد في سبيل الله، وهو فرض على جميع المسلمين.

عبد القادر الجزائري

تبوأ الشيخ عبد القادر بن الشيخ محيي الدين الحسني أكبر مركز بين العلماء في المغرب، فقد كان رحمه الله فقيهاً ذا عبقرية إسلامية فذة. .. وفي السنة الثانية من احتلال الكفار المستعمرين الفرنسيين لأرض الجزائر سنة 1348هـ اجتمع علماء الجزائر وأصحاب الكلمة فيها. وأبدوا الرأي في مسجد مدينة مسكر. وبايعوا الشيخ عبد القادر على الإمارة والجهاد لتحرير أرض الجزائر من الغاصبين المعتدين، وإقامة الشرع الإسلامي الحنيف في البلاد، فأنشأ رحمه الله حكومة إسلامية، برئاسته، لتحقيق هذه الغاية. وحين علم الكافر المستعمر الفرنسي، بظهور الشيخ عبد القادر وحكومته الإسلامية، تملكه الفزع والهلع. فشن حرباً هجومية مسعورة، للقضاء على كل استعداد عسكري لها. ولإبادة المجاهدين وحكومتهم، إلا أن الشيخ عبد القادر، رد هذا الهجوم، بشكل عنيف جداً، مما أرغمهم على بقائه، معتصماً في داخل الحصون والقلاع. ولما عجز الجنرال (دي ميشال) (ولم يتمكن من فك الحصار المضروب حول رحاله في وهران وستغانم، وكادت الجيوش المجاهدة، تسحق القوات الاستعمارية داخل الحصون، لو لم يمل القائد الفرنسي إلى المراوغة، فأرسل إلى الأمير الشيخ عبد القادر، يطلب منه التماس الصلح من فرنسا ودس بين سطور رسالته عبارات التهديد والتخويف، بقوة فرنسا الهائلة التي تعد أكبر قوة في العالم)( ). ولكن الشيخ عبد القادر أجابه إجابة القائد المؤمن، الواثق بنصر الله، الفاهم للإسلام العالم بأحكام الشرع المتعلقة بالجهاد ومقاتلة الكفار. فقال رحمه الله تعالى: (إن ديننا يمنعنا من طلب الصلح ابتداء، ويسمح لنا بقبوله إذا عرض علينا.. وإن المفاوضة التي تطلبونها يجب أن تكون مبنية على شروط محترمة منا ومنكم..). والشيخ بقوله هذا يشير إلى قوله تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ)( )، ثم استطرد الأمير الشيخ قائلاً في جوابه: (كيف تفاخرون بقوة فرنسا ولا تقدرون القوة الإسلامية، مع أن القرون الماضية أعدل شاهد على قوة المسلمين وانتصاراتهم على أعدائهم. ونحن وإن كنا ضعفاء على زعمكم، فقوتنا بالله الذي لا إله إلا هو لا شريك له. ولا ندعي بأن الظفر مكتوب لنا دائماً، بل نعلم أن الحرب سجال يوم لنا ويوم علينا. غير أن الموت سر لنا وليس لنا ثقة إلا بالله وحده لا شريك له. لا بعَدد ولا بعُدد وإن دوي الرصاص وصهيل الخيل في الحرب لآذاننا خير من الصوت الرخيم. ثم يتحدى الجنرال دي ميشال وقواته قائلاً (متى خرجتم من وهران مسافة يوم أو يومين يظهر للعيان من يستحق الفخر بنا)( ). تلك إجابة العالم المجاهد؟ فكان جوابه كالصاعقة التي أذهلت هذا القائد الكافر الغر النزق.. إن هذا العالم الرجل، ليس من أولئك الرؤساء الذين تخور أعصابهم للتهديد والوعيد. كما لم يكن من أولئك الذين يتربعون على كراسي الحكم شهوة للحكم. فإذا هُددوا وأُنذروا ركعوا وخروا ساجدين.. متمرغين على الأعتاب، بل على الأقدام، في سبيل المحافظة على تلك الكراسي الزائفة والزائلة. عند ذاك، أعلن الشيخ الجهاد، فاستجاب لندائه الأبرار من جند الرحمن وأنصار الإسلام، وحزب الله، على جند الكفر وأنصار الاستعمار وحزب الشيطان، فدام جهاده المبارك هذا سبعة عشر عاماً، وكان هذا الإعلان الخالد أول شرارة لإشعال نار الحرب المقدسة ضد الباغين المعتدين، فدخل المعارك الحربية، وكانت سجالاً بين الفئتين يوم لنا ويوم علينا، ثم استمر العلماء المجاهدون من أهل الجزائر، كلما استشهد عالم قام آخر وأخذ العلماء يتولون القيادة في الجهاد، من الشيخ بومعزي إلى الشيخ بوبغلة إلى الشيخ الحداد إلى الشيخ محمد المقراني إلى الشيخ أبي عمامة، وهكذا حتى استلم راية الجهاد قادة جبهة التحرير الجزائري، وكانت نهاية هذا الجهاد على الشكل القائم اليوم في أرض الجزائر المسلمة.

الشيخ محمد المهدي

... أقرت بلاد السودان الدعوة الإسلامية التي يقود لواءها الشيخ محمد بن عبد الله المهدي، وهو الفقيه بأحكام الإسلام، الشيخ المربي في الطريقة السمانية( ) المنتشرة يومئذ في القطر السوداني حيث أخذت هذه الدعوة تسري بين الناس، وقد انضوى تحت لواء دعوته جمهرة كبيرة من المسلمين. إن الشيخ رحمه الله تعالى حين رأى تسلط الكفار المستعمرين الانكليز على مصر والسودان، أصدر فتواه المشهورة بإعلان الجهاد ضدهم، وكان ذلك سنة 1881م، أما الانكليز فقد سيروا جيشاً عظيماً تعداده عشرة آلاف مقاتل (بقيادة هيكس باشا إلى السودان، فاشتبك مع قوات المهدي في البركة الواقعة على نحو سبعة وثلاثين ميلاً من جنوب شرقي الأبيض. وكان النصر في هذه المعركة للشيخ المهدي، إذ استطاع أن يبيد هذه القوات عن بكرة أبيها. واستمرت انتصارات الشيخ في مقاتلة القوات البريطانية، مما جعل السودان كله يخضع لسلطان الشيخ، وقد اضطرت بريطانيا العظمى أن تستسلم بعد تلك الحروب. وكانت الحكومة البربطانية قد استعدت للتنازل نهائياً عن السودان وبعثت بالجنرال غوردن قامع ثورة(ثايينج) في الصين، إلى الخرطوم لكي ينقذ الأوربيين الذي ما انفكوا يعيشون هناك ويعود بهم إلى مصر. وفي الحال بعث هذا القائد بكتاب إلى المهدي، ليبدي فيه استعداده للاعتراف به سلطاناً على كردفان... فأجابه المهدي طالباً إليه الاستسلام. وبعد ذلك أي في سنة 1884م، تقدم جيش بريطاني في النيل وهزم قوات المهدي المعسكرة في المراكز الأمامية عند المتحة، ولكن أم درمان استسلمت في 15 كانون الثاني 1885م، وفي ليل 25-26 كانون الثاني شن المهدي على رأس أتباعه هجوماً عنيفاً على المدينة، وقتل غوردن في قصره. انتقل المهدي وحكومته إلى الخرطوم بعد أن خضعت السودان له، وبذلك حرر هذا العالِم المجاهد بلاده من رجز الكفر والاستعمار حتى توفاه الله تعالى على أثر مرض في سنة 1885م. رحم الله المهدي وأجزل ثوابه وأنعم عليه برضوانه. -السيد أحمد الشريف السنوسي- الإمام أحمد بن السيد محمد السنوسي من المشايخ الأربعة الكبار للطريقة السنوسية الذين تولوا أمرها بالتعاقب، ونشروا تعاليمها القائمة على الكتاب والسنة. فكانت مدرسة تعلم المسلمين الجهاد، والتجرد لله سبحانه وتعالى، وعدم الركون إلى الدنيا والشجاعة في الحق وقد اندفع أتباعها بتوجيه من مشايخها، يجاهدون الكفرة المستعمرين بقلوب امتلأت إيماناً، وبجرأة قل نظيرها، وبنظام دقيق وهو بعض ما تعلموه في زواياهم المبثوثة هنا وهناك. والسيد أحمد كما يقول شكيب أرسلان: (حبر جليل وسيد غظريف وأستاذ كبير، من أنبل الناس جلالة قدر وسراوة حال، ورجاحة عقل قاتل الايطاليين إذ انضم إلى الدولة العثمانية فحمل لواء الجهاد وحده وسارت برقة وطرابلس تحت لوائه( ). وهو من قادة المجاهدين والعلماء العاملين، قد أوقف نفسه لنشر الإسلام وإعادة مجده وسلطانه. ووقف في وجه الكافر المستعمر الفرنسي إحدى عشرة سنة من 1902م إلى 1913م والكافر المستعمر الإيطالي ما يزيد على السبع سنين. لقد عرف عن السيد المجاهد، المصابرة على الجهاد، والاستماتة في مقاتلة الأعداء، فهو في الوقت الذي كان يجمع الجموع للجهاد ويحرضهم على القتال مبيناً فضله وعظيم أجره وجزيل ثوابه، كان يقود المجاهدين في ساحات الوغى. ومن ذلك: قاد السيد الجليل رحمه الله المجاهدين في الموقعة المعروفة يوم الجمعة التي حدثت من يوم 16 أيار 1913م قرب درنة، فأبلى السيد والمجاهدون بلاء حسناً، وكانت الدولة والنصرة من نصيب السيد المجاهد المصابر: (بحيث اعتقد الكثيرون أن النصر جاء كرامة لوجود السيد)( ). نصرهم الله تعالى في هذه الموقعة والمواقع الأخرى، في الوقت الذي كان سلاحهم السيف وأمثاله وهو المعروف بالسلاح الأبيض. أما سلاح الأعداء فالمدافع والرصاص مع تفاوت كبير في العدد والعدد بين الفئتين، ولكن صدق الله تعالى حيث يقول (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)( ) -عمر المختار- ... ومن التلاميذ النجباء والمريدين الصادقين للإمام أحمد السنوسي، الشيخ عمر المختار الذي سطع نوره ولمع نجمه في الانتصار الساحق الذي حققه الله تعالى على يده، في معاركه ضد أعداء الله الإيطاليين، بعد أن تولى قيادة المجاهدين في برقة على أثر انسحاب القائد عزيز المصري، (فشكل جيشاً وطنياً جعل من خطته الدفاع والتربص بالعدو حتى إذا خرج الطليان من مراكزهم انقض المجاهدون عليهم فأوقعوا بهم شر مقتلة وغنموا منهم أسلاباً كثيرة أمدتهم في الحقيقة بأكثر الأسلحة والعتاد ودواب النقل مما كانوا في حاجة ملحة إليه جميعه، وظل الحال على هذا المنوال حتى نشبت الحرب "العظمى" العالمية الأولى في أغسطس 1914م)( ). واستمرت المعارك بعد ذلك بينه رحمه الله وبين الأعداء وكتب الله تعالى له النصر والظفر كلما دخل معركة (حتى أدخل تغييراً على الموقف في برقة وأحيى آمال السنوسيين في القدرة على مواصلة الكفاح بنجاح ضد إيطاليا)( ). وفي يوم 11 سبتمبر 1931 وقع أسيراً بيد الأعداء بعد أن جرح واستشهد من معه من المجاهدين. وقال كلمته التي خاطب بها الأعداء: "إن القبض عليّ ووقوعي في قبضة الطليان إنما حدث تنفيذاً لإرادة المولى عز وجل وأنه وقد أصبحت الآن أسيراً بأيدي الحكومة فالله سبحانه وتعالى وحده يتولى أمري. وأما أنتم فلكم الآن وقد أخذتموني أن تفعلوا بي ما تشاؤون وليكن معلوماً أني ما كنت في يوم من الأيام لأسلم لكم طوعاً)( )!. لله در هذه الروح الإيمانية العالية التي لم تعرف الخور ولا الجبن وأنى للخور والجبن أن يدخلا في ذلك القلب الطاهر الذي يشهد الله في كل حالة ومقالة. ثم حوكم على طريقة الكافر المستعمر ونصبت المشنقة قبل المحاكمة وأمام الجموع الغفيرة التي أجبرت على الحضور، نفذ حكم الإعدام ولسانه وقلبه وحاله يردد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله( ).

علماء العراق في ثورة العشرين

لما أعلن الحسين بن علي شريف مكة المكرمة، ثورته بعصيانه وتمرده على الدولة الإسلامية (الدولة العثمانية) في تسعة شعبان المشؤوم 1334هـ 10حزيران 1916م. عمل الانكليز على دعم ثورته –عصيانه- كثيراً. فقد أمدوه بالمال والسلاح والعتاد. ومهدوا للأسرى العرب الذين كانوا يقاتلونهم في صفوف الجيش العثماني للالتحاق بالثورة المذكورة. ثم إن الكافر المستعمر الانكليزي –خان العهود- وهو خوان العهد دائماً- التي قطعها للحسين بن علي.. واحتل بغداد على يد رأس من رؤوس الكفر والاستعمار الجنرال مود في صبيحة 11 آذار 1917م وأخذ يفرض سطوته وجبروته واستعماره على العراق. واحتل البلاد العراقية شيئاً فشيئاً فنجم عن ذلك (تفسخ في الأخلاق واضطراب في الأحكام وامتهان لكرامات وأنات في الصدور بحيث أصبح سوء الإدارة عاماً قوياً من العوامل التي أدت إلى نشوب نار الثورة)( ). وقد شهد جميع المؤرخين بلا استثناء سواء أكانوا من المسلمين أم غيرهم: أن فتاوى العلماء والأعلام في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء والكاظمية، وغيرها، التي أعلنت الجهاد ومقاتلة الانكليز: لأن الجهاد أصبح فرضاً على كل مسلم ومسلمة إذا احتل العدو بلاد المسلمين. نعم كانت هذه الفتاوى هي التي دفعت العشائر العراقية إلى القتال لتحرير أرض العراق من رجس الكفر والاستعمار ولم يكتف بعض العلماء بفتواهم هذه. وإنما حملوا السلاح واشتركوا في الحرب. فقادوا المجاهدين في بعض المعارك. وكان منهم السيد محمد سعيد الحبوبي حيث قاد المجاهدين في واقعة (الشعيبة والبرجسية) وأبلى بلاء حسناً. (حيث بقي في مقدمة المحاربين وعلى رأس المجاهدين في الشعيبة حتى عاد الجميع فعاد معهم( ) ومنهم الإمام الشيخ مهدي الخالصي حيث جمع الجموع وشكل كتائب الجند في مدرسته بالكاظمية وقاد المجاهدين ودخل المعارك الحربية، ومات بالسم( ) كما حدثني ولده الشيخ محمد الذي اشترك معه بعد أن أبعد عن العراق في إيران حين استقام الأمر للانكليز وتشكل الحكم الوطني). الحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوة الإسلام إلى يوم القيامة.


الفهرست

  • الاهداء
  • المقدمة
  • العلماء والحكام في العصر الإسلامي
    • سياسة العلماء والحكام
    • العلماء
    • الحكام وآيات الحكم
    • الحكام
    • صلاح الصنفين من الناس
    • العلماء والاصطلاحات الحديثة
    • العلماء وآية التهلكة
    • العلماء يحاكمون الحكام
    • الحكام يسألون العلماء
  • العلماء ينصحون الحكام
  • العلماء ومواجهة الحكام
  • العلماء ومنح الحكام
  • العلماء ومحن الحكام
    • محنة سعيد بن المسيب
    • محنة سعيد بن جبير
    • محنة جعفر الصادق
    • محنة أبي حنيفة النعمان
    • محنة مالك بن أنس
    • محنة أحمد بن حنبل
    • محنة محمد الشافعي
    • محنة البخاري
    • محنة العز بن عبد السلام
    • محنة أحمد بن تيمية
    • محنة أحمد السرهندي
  • خاتمة الفصل
  • العلماء في سجون الحكام
  • العلماء والجهاد
    • عبد الله المبارك
    • الإمام الشافعي
    • الإمام البخاري
    • الإمام ابن تيمية
    • أسد بن الفرات
    • أحمد بن عرفان الهندي
    • عز الدين القسام الفلسطيني
    • عبد القادر الجزائري
    • محمد بن عبد الله المبدي السوداني
    • عمر المختار
  • علماء العراق في ثورة العشرين
  • مصادر الكتاب
  • آثار المؤلف


مصادر الكتاب

فهرست بمصادر الكتاب كما جاءت في حواشيه

1- القرآن الكريم: طبعة مطبعة حنفي بمصر

2- الأحاديث النبوية: البخاري، مسلم، والترمذي، أبو داود، ابن ماجة والبيهقي، البغوي، الطبراني، أبو نعيم الحاكم أحمد.

3- سراج الملوك: للطرطوسي

4- تاريخ الطبري

5- الكامل لابن الأثير

6- تفسير الرازي

7- تفسير البيضاوي

8- نهج البلاغة: شرح محمد عبده

9- نهاية الأرب: للنويري

10- العقد الفريد لعبد ربه

11- البيان والتبيين: للجاحظ

12- الإحياء: للإمام الغزالي

13- العدالة الاجتماعية: لسيد قطب

14- المسند: تحقيق أحمد محمد شاكر

15- من أخلاق العلماء: للشيخ سليمان

16- قلائد الجواهر: للشيخ أبي بحر التادفي

17- طبقات: للسبكي

18- السلوك: للمقريزي

19- مختصر منهاج السنة: للذهبي

20- تذكرة الحفاظ: للذهبي

21- الفتوحات المكية: لابن عربي

22- المخزون

23- المناقب: لابن الجوزي

24- ضحى الإسلام: أحمد أمين

25- مالك: لأبي زهرة

26- أبو حنيفة: لأبي زهرة

27- أحمد بن حنبل

28- الشافعي

29- ابن تيمية

30- الصادق

31- الخراج: لأبي يوسف

32- بحار الأنوار: للشيخ عباس القمي

33- الإمام الصادق: للشيخ المظفري

34- رجال الدعوة في الإسلام: للندوي

35- فوات الوفيات: للكتبي

36- المحاسن والمساوئ: للبيهقي

37- تلبيس إبليس: لابن الجوزي 38- المدارك 39- الرحمة الغنية 40- أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح: للجندي 41- حلية الأولياء: لأبي نعيم 42- طبقات: لابن سعد 43- وفيات الأعيان: لابن خلكان 44- تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي 45- المناقب: لأبي طالب المكي 46- المناقب: لأبي البزازي 47- تاريخ ابن كثير 48- الانتقاء- لابن عبد البر 49- الإمامة والسياسة: لأبي قتيبة 50- المقفى للمقريزي 51- طبقات الشافعية 52- تاريخ الذهبي 53- تاريخ اليعقوبي 54- تاريخ أبي الفداء 55- تاريخ الخلفاء للسيوطي 56- التنبيه والإشراف للمسعودي 57- النجوم الزاهرة: للأتابكي 58- الحديث والمتحدثون: لأبي زهو 59- فتح الباري: للعسقلاني 60- مفتاح السنة: للبغوي 61- شذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي 62- سير أعلام النبلاء لأحمد بن عثمان الذهبي 63- واإسلاماه لأبا كثير 64- حياة ابن تيمية للبيطار 65- نزهة الخواطر 66- نظرة إجمالية في تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند والباكستان للندوي 67- الفوائد البهية في تراجم الحنفية 68- رفع الأسر عن قضاة مصر لابن حجر العسقلاني 69- الفخري في الآداب السلطانية لابن الطقطقي 70- النور السافر في أخبار وأعيان القرن العاشر للشيخ العيدروسي 71- ابن تيمية للشيخ المراغي 72- القضية الفلسطينية اكرم زعيتر 73- الإسلام في القرن التاسع عشر –كارل بروكلمان ترجمة نبيه أمين فارس 74- الثورة الجزائرية لأحمد الخطيب 75- الإعلام للزركلي 76- من تاريخ ليبيا نقولا زيادة 77- منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد 78- عمر المختار ضحية الاستعمار الوحشي لمحمود شلبي 79- السنوسية دين ودولة للدكتور محمد فؤاد شكري 80- محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري 81- المقاومة السرية لكامل الشريف

آثار المؤلف

1- الإسلام ضامن للحاجات الأساسية.

2- حكم الإسلام في الاشتراكية.

3- الإسلام بين العلماء والحكام.

4- الإسلام حرب على الاشتراكية والرأسمالية (في طريق الطبع).

5- كتاب الله الخالد –القرآن الكريم- (في طريق الطبع)