الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الثاني - الباب السادس)
البـاب السـادس المرشد العام الجديد يتبوأ منصبه والبلاد أمام تطورات جديدة الدعوة تحتل مكان الصدارة
مقـدمـة : كان مفروضا أن يكون أول عمل يستهدفه المرشد العام الجديد حين يتولي قيادة الدعوة أن يتفرغ تفرغاتاما لإعادة تنظيم صفوف أتباعه وجنوده ، بعد أن عدت عليهم يد الظلم ، وعملت بكامل طاقتها علي تشتيت شملهم ، وتفريق جمعهم وتقطيع أرحامهم ، وتمزيقهم كل ممزق ... وقد يستغرق ذلك في الدعوات الوضعية أقصد الدعوات غير الربانية الأعوام والسنين حتى يلم الشعث ، وترنق الفتوق ، وتضمد الجروح ، ويرمم ما تهدم ، ويرفع البناء . والمرشد العام حين ألقيت إليه مقاليد الأمور ، وجد نفسه أمام سيل جارف من المطاليب الخطيرة تلح عليه بنداءات مدوية من كل جانب .. كلها بنت ساعتها ، لا تحتمل التأجيل ولا تقبل التأخير .. فاسترداد سمعة الدعوة التي لطخها المفترون ، والحشد الكبير من الشباب الذين ألقي بهم عهد الظلم في غياهب السجون ، ومنشآت الدعوة ومؤسساتها في آلاف الشعب من دور ونواد رياضية ومدارس ومعاهد ومساجد ومطابع وصحف ومستوصفات وأراض زراعية ومناجم ومحاجر وغيرها .. وقد اغتصبتها السلطات الغاشمة ودمرت أكثرها ... لكن نداء واحدا جد أخيرا وكان في سمع المرشد العام أعلي صوتا ، وأقوي دويا من كل النداءات ؛ لأنه صادر من الوطن المسلوب الحرية ، المهضوم الحقوق ، المقهور الشخصية ، وقد استيقظ أخيرا حراسه الرسميون بعد أن فرطوا طويلا في حقه .... فأي هذه النداءات يجيب ؟ . أما الإخوان المثخنون بالجراح من أثر المحنة الجائحة فقد اعتادوا أن يضمدوا جراحهم بأيديهم ، فأتاحوا لمرشدهم الجديد أن يستجيب للنداء الطارئ الجديد . والمرشد العام الجديد رجل يميل بطبيعته إلي الهدوء والتنسك ومناجاة ربه .. وكان يحلم بتلك الأيام التي ينهي فيها عمله بالقضاء لينعم بما حرمه منصبه القضائي منه طول حياته – بالانتظام في كتائب الإخوان في الجو الروحي الخالص ، ويستمتع بالليالي الربانية التي تذوب فيها متاعب الحياة وتتلاشي في بحار القرب من الله والتضرع إليه في وقت السحر مع هذه الصفوة المختارة التي يقضون هذه الليالي بين راكع وساجد وضارع وخاشع .. لقد كان الرجل يحلم بتلك الأيام ، وجاءت تلك الأيام ولكن الحلم لم يتحقق فما كادت تتاح له الفرصة حتى وجد نفسه أمام أمور جسام لم تمهله لحظة .. رأي نفسه مطالبا بأداء حقوق نحو الوطن الغالي الذي يهتف كل أخ مسلم مهما ناله من ظلم بقول الشاعر : بلادي وإن جارت علي عزيزة وقومي وإن ضنوا علي كرام وهكذا نزل الرجل إلي الميدان من أول يوم ، ونفسه تائقة إلي" الجو الروحي الغامر .. ولكن الميدان لم يدع له فرصة إلي ما تتوق إليه نفسه إلا خلسا ... أما المتلمسون للبرءاء العيب ، دعوتهم إلي ميدان السياسة .. ويستدلون علي ذلك بأنه قد نقل الإخوان من صميم العام قد نزل بالإخوان إلي ميدان السياسة ولم يدعها لحظة من نهار . وإلي هؤلاء نعيد القول فنقول : ماذا كنتم تريدون أن يكون موقف الخوان – وقد كانولا يحثون الحكام دائما علي منابذة المستعمر العداء- وجاءت حكومة آخر الأمر وأخذت بنصيحتهم ، ودعتهم إلي المشاركة في حمل العبء معها فغي نتائج هذه المنابذة .. هل كنتم تريدون أن يتخلف الإخوان ويتنكروا لدعوتهم ويقولوا للحكومة : دعونا نعكف علي الخطب والمحاضرات والعبادة وأذهبوا أنتم وحدكم واجهوا العدو .. ؟! وقد تكون في غني عن أن نذكر هؤلاء وغيرهم بأن العمل علي تحرير البلاد من ربقة الاستعمار – بالنسبة لدعوة تريد للبلاد أن تحكم حكما إسلاميا – هو الخطوة الأولي التي لابد منها ولا مفر من العمل علي تحقيقها لسببين : الأول – أن الإسلام دين لا يرضي للمنتسبين إليه أن يعيشوا تحت سيطرة غيرهم من الأمم ، وإلا كانوا آثمين (• • • ) . الثاني – أن المستعمر بطبيعة هدفه من الاستعمار يحتل البلاد التي يحتلها ليستغل خيراتها لنفسه ، وليسخر أهلها لخدمة أغراضه .. ولا يتأتي له ذلك إلا بحجب أسباب القوة عن هذه البلاد ، وبنشر وتمكين أسباب الضعف فيها من فقر وجهل ومرض وفساد ، حتى لا تقوي في يوم من الأيام فتفكر في مقاومته – والمستعمرون علي اختلاف نزعاتهم الاستعمارية يحولون بكل الوسائل بين الشعوب الإسلامية التي يستعمرونها وبين الحكم الإسلامي . لهذا فإن دعوة الإخوان المسلمين – بعد أن استوي صفها واكتملت تكويناتها – قد جعلت أول خطوة تخطوها لتحقيق برنامجها الإسلامي ، هي تحرير الوطن الإسلامي من ربقة الاحتلال ، وإطلاقه من أسر الاستعمار . ثم نرجع إلي ما كنا بصدده من مواجهة العائبين بالموقف الذي وجد المرشد العام الجديد نفسه أمامه فنسألهم هل كان أمام الرجل من خيار وقد وجد نفسه في هذا الموقف من أول يوم .. وظل هذا الموقف علي أشده أعواما متتالية لم يهدأ له أوار .. وإذا كان من وجه للعجب ، فعجب أن رجلا أبل من مرض خطير وهو في سن ما بعد الستين استطاع أن يتحمل هذا العبء الثقيل ، ويضطلع بهذا الجهد المضني المتصل طيلة تلك المدة دون كلل إعياء . الفصل الأول : الضغط الشعبي للإخوان يبلغ أقصي مداه الحكومة تلغي معاهدة سنة 1936 : اقترن انتخاب العام الجديد انتخابا رسميا يحدث جلل في تاريخ مصر السياسي هو إعلان الحكومة المصرية إلغاء معاهدة 1936 . فقد أعلنت الحكومة إلغاء المعاهدة يوم 10/10/1951 وأعلن انتخاب المرشد العام يوم 19/10/195 .. فهل مدلول معين أم جاء يمحض المصادفة ؟ والذي نعلمه – وقد علمه القراء من الفصول السابقة – أن حكومة الوفد منذ رأيت الحكم وهي دائبة البحث عن وسائل التعويق وأساليب المماطلة لتسد بها الطريق أمام استرجاع الإخوان المسلمين حقوقهم القانونية التي سلبهم إياها أمر الحل الغاشم .. وكانت هذه الحكومة في خلال تلك المدة منذ آل إليها الحكم في منتصف يناير سنة 1950 حتى هذا التاريخ يداعبها الأمل في أن تستطيع الحصول علي حقوق البلاد في الحرية والاستقلال بطريق التفاهم والمفاوضة مع الانجليز ، ولكنها وصلت آخر الأمر إلي طريق مسدود ... ولم يعد أمامها إلا طريق انتزاع هذه الحقوق انتزاعا ... ولما كان لكل ميدان رجال ، فقد صارت الاستعانة بالإخوان أمر لا مفر منه .. وإذن فليخطبوا ودهم ... هذا من جانب الحكومة . أما من جانب الإخوان فإنهم ما كادوا يلمحون في الحكومة الاتجاه الجاد إلي نبذ المفاوضة مع الغاصب – وهو مطلب طالما طالبوا به كل الحكومات السابقة – حتى نسوا مواقف هذه الحكومة منهم ، وهبوا لهذا الاتجاه مؤيدين .. فنشرت الصحف في اليوم التالي لإعلان إلغاء المعاهدة ما يلي : " يسر الإخوان المسلمين أن تنجز الحكومة وعدها في إلغاء المعاهدة ، ويستقبلون بالتقدير تلك الخطوات المباركة التي تتمثل في مراسيم إلغاء المعاهدة واتفاقيتي السودان وفي إصدار الدستور السوداني ، وتغيير لقب الملك إلي ملك مصر والسودان . وينتظر الإخوان المسلمون كما تنتظر الأمة جمعاء الخطوات الإيجابية الحاسمة التي ينبغي أن تسارع الحكومة إلي اتخاذها لصيانة الاستقلال وتحقيق آمال البلاد ، مؤكدين لها أن الشعب كله من ورائها ، يشد أزرها في الجهاد المقدس لتطهير البلاد من آخر أثر للاحتلال " . ثم عقدوا مؤتمرا بدارهم المؤقتة بحي الظاهر للطلاب بمناسبة بدء العام الدراسي . ونشرت الصحف عن هذا المؤتمر قائلة : إنهم أصدروا قرارات بصدد إلغاء المعاهدة واتفاقيتي السودان . وفي 19 من الشهر نفسه ، وفي نفس يوم انتخاب المرشد العام أصدرت الهيئة التأسيسية البيان التالي : " بسم الله الرحمن الرحيم " ( •• • •• • ) . يؤكد الإخوان المسلمون ما جاء في بيانهم السابق من تقدير للخطوات الوطنية المباركة التي تتمثل في مراسيم إلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي السودان ، ولما كانت الحكومة بسبيل اتخاذ إجراءات إيجابية لتنفيذ هذه المراسيم ، والرد علي اعتداءات الانجليز الأخيرة ، فإن الإخوان المسلمين ووحدة الوادي والتخلصمن كل آثار الاستعمار . وإن الإخوان يحثون الشعب علي أن يثق بنفسه ، ويؤمن بحقه ويعلم أن مستقبله بيده لا بيد غيره ، وأن التضحية والجهاد هما طريق الحرية ، وأن الاتحاد والتعاون هما السبيل إلي الغاية ، وأن التنازع والفرقة يبددان قوي الأمة ، ويذهبان بريحها ( • ) والإخوان يدعون الأمة إلي التذرع بالجلد والحكمة واجتناب الحركات الفردية وغير المنظمة ، فإنها لا تؤدي إليخير . وما ينفع الأمة في هذا الموقف العصيب إلا الروية والإعداد والتنظيم ووقوف الحكومة والشعب صفا واحدا . ألا وأن الإخوان ليهيبون بالأمة والحكومة أن ترجع إلي الله ، وتعلم أن ما عنده من النصر لا ينال بالمعاصي ولا يدرك بالقعود ، وأن تستمد منه العون فيما اعتزمته من جهاد صادق وكفاح مرير ( •• • ) رحم الله إمامنا الشهيد وشهداء المة جميعا ، وأيد بالقوة والعافية جرحانا وأثابنا فتحا قريبا " . وبعد يومين أي في 21/10/1951 ظهرت جريدة المصري وفي صدرها العنوات التالي :
المرشد العام للإخوان المسلمين يتحدث إلي " المصري " الظروف الحاضرة تستوجب الإفراج عن المسجونين السياسيين فقد كان سبب سجنهم هو العداء المباشر للانجليز
قال المرشد العام : وجهة نظرنا في أننا نري أن الظروف التي تجتازها البلاد تستوجب أن تصدر الحكومة عفوا عن المسجونين السياسيين ، فالقانون يبيح العفو عن المسجون بسبب أي جريمة – ومع ذلك فقد كان عداء هؤلاء المسجونين للانجليز هو السبب المباشر للحكم عليهم بالسجن .. ونحن لا نريد أن نلح علي الحكومة في ذلك لأن الإلحاح فيه وينقص من الشعور بإدراكها لهذه الحقيقة .
• الإخوان تعودوا النظام :
وسأله المندوب عن حملة الصحف الانجليزية علي الإخوان المسلمين وتحميلها إياهم مسئولية الحوادث التي وقعت بالقتال فقال : نحن لا نهتم بما تنشره الصحف الانجليزية ؛ لأنه بعيد عن الحق . وقد عمل الانجليز دائما علي محاربة الإخوان .. وعلي أي حال فإن موقف الإخوان من الحالة الحاضرة مبين في القرارات التي صدرت عن المركز العام والتي تتلخص في أننا نؤيد الحكومة فيم أصدرته من مراسيم . ونحن ننتظر الخطوات التي ستتخذها في سبيل تحقيق الغاية المرجوة ... وما زلنا ننتظر – أما ما وقع في الإسماعيلية وبورسعيد فلم يصدر أصلا عن الإخوان ، وحسبك أنك لا تجد في المعركة جريحا واحدا أو حتى ذا ثوب مقطوع من الإخوان .. والإخوان المسلمون تعودوا النظام ، ولا يمكن أن يصدر عنهم حركة طيش أو تسرع .
• في انتظار ما تقرره الحكومة :
يقول المندوب : وقد أجاب علي سؤال وجهته إليه عما إذا كان الإخوان يستعدون لكفاح عملي ضد الانجليز كما حدث في حرب فلسطين قائلا : نحن في انتظار ما تقرره الحكومة . والكفاح العملي قد يأخذ صورا مختلفة غير القتال ، كالمقاطعة الاقتصادية .. وإنما إذا قررت الحكومة القتال فالأمة كلها من ورائها ولن يحيد الإخوان بطبيعة الحال .
• لا كتائب حتى الآن :
وسألته عما إذا كانوا ينوون تكوين كتائب أسوة بما فعلته الهيئات الأخرى فكان رده : ليس عندنا كتائب ، ولم ندرس بعد هذه المسألة .
• لا اعتماد علي الدول الأجنبية :
ثم وجهت إليه سؤالا عما أبداه البعض من رأي بشأن الاستعانة بدول أجنبية في كفاحنا ضد الانجليز فال : إننا لا تومن بمعاونات من الدول الأجنبية ؛ لأنها جميعا ذات مصالح ، ورأينا أن تعتمد الأمة علي نفسها فقط . واستطرد سعادته يقول : إنه كان من الواجب ألا يعاون المصريون الانجليز منذ تاريخ احتلالها لبلادنا ، وألا يعمل مصري واحد في معسكراتهم ، فقد أدي ذلك إلي رسوخ أقدامهم في البلاد وامتناعهم عن الجلاء علي وجه الإطلاق .. ولكن مع ذلك فإن الأمر لا يزال في أيدينا .. ونستطيع أن نمنع عنهم جهود عمالنا ، وتقطع عنهم جميع معاوناتنا الاقتصادية ، وأن تتبع دستور القرآن ففيه كل وسائل حريتنا . وفي 22/10/1951 نشرت " المصري " ما يلي تحت هذا العنوان :
جواسيس انجليز لمراقبة الإخوان
الإسماعيلية – لمندوب المصري – علمت أن السلطات الانجليزية في الإسماعيلية قد أوفدت جواسيس إلي القاهرة ، مهمتهم الوحيدة هي تقضي أنباء الإخوان المسلمين وجمعها ورفعها في تقارير إلي مركز القيادة العسكرية . وقد عاد أحدهم اليوم بعد أن جمع المعلومات . وكان ضمن ما قام به من جولات زيارة منطقة جيل الجيوشي . وفي 27/11/1951 نشرت " المصري " عنوانا يعرض صفحاتها الولي هذا نصه :
كتائب الإخوان المسلمين تخوض المعركة في الإسماعيلية
وكتبت تحته ما يلي : أذاعت وكالة الأسوستيديوس العالمية نبأ من الإسماعيلية تقول فيه : قيل اليوم إن الإخوان المسلمين بدأوا يشتركون في المعركة بدليل أن بعض الفدائيين كانوا يتكلمون اللغة الانجليزية بطلاقة لا يمكن أن تتوفر لجمهور الشعب . وقد أوردت هذه المقتطفات مما نشر بالصحف في تلك الحقبة من الزمن لاسيما ما نشر في جريدة " المصري " لسان حال الحزب الحاكم ، لأنقل إلي القارئ إحساس الحكومة وإحساس الشعب وإحساس المستعمر نحو الإخوان المسلمين باعتبارهم معقد الرجاء ومناط الأمل والعنصر الفعال . فالمستعمر قد عرف قوة الإخوان من قبل في فلسطين ، عجم عودهم ، فهو عليم بأنهم العنصر الوحيد الذي يخشي بأسه ، ويرهب جانبه ؛ لأنهم فدائيون حقا لا يبالون بالموت ، ولا يعرفون النكوص علي الأعقاب .
• موقف ساذج للحكومة :
ولما كانت الحكومة حديثة عهد بمواجهة مثل هذا الموقف الذي وجدت نفسها فيه فجأة ، نتيجة إعلانها إلغاء المعاهدة ، فإنها ظنت أن علي القوات الشعبية أن تحشد لتقف مع الجيوش البريطانية في القتال وجها لوجه .. ولكن تجارب الإخوان أثبتت أن المناوشة وحرب العصابات هي مهمة القوات الشعبية ، وإذ صارت الحكومة علي رأس قوي النضال فعليها أن تخطط لهذه القوي وتنظمها .. وهذا هو ما أشار إليه المرشد العام في حديثه إلي جريدة " المصري " وهو نفس ما أشار به الأستاذ الإمام ونقلناه عنه في آخر الباب السابق .. وقد أدي عدم فهم الحكومة لدورها هذا وعدم قيامها بهذا التنظيم إلي سلوك بعضهذه القوى سلوكا معيبا شكا منه الأهلون . وكان المستعمر يريد أن يستدرج الإخوان ويستغل حماسهم ويستغل جهل الحكومة بطرق المقاومة ... فالحكومة – بسذاجة منها وعن طريق صحفها – تخرج الإخوان فينزلون إلي ميدان المعركة نزول جيش لجيش فحصدتهم دون رحمة – ولكن المرشد العام كان أحصف من أن تجوز عليه هذه الخدعة ، وأصر علي مواصلة المقاومة بطريقة حرب العصابات ، التيكان ضحاياها أقل عدد ممكن ، ولكنها سببت للقوات المحتلة أفدح الخسائر ، وسلبتهم الشعور بالأمن ، وشتتت النوم من عيونهم ، حتى اضطروا إلي ترحيل أسرهم . ودعا المرشد العام في نفس الوقت إلي تنظيم عملية هي في ظاهرها سلبية ، لكنها أدت بهذه القوات إلي الشعور لأول مرة بالحرمان والإرهاق والجوع ، وهي تتلخص أن تتكفل بإلحاق من يستجيب لهذا الحث من العمال والمقاولين بأعمال في دوائر الحكومة .
• وموقف متناقض أيضا :
وكان المتبادر إلي الخاطر أن الحكومة – وقد اتجهت اتجاها جادا – أن يكون اتجاهها هذا اتجاها متوائما مع روح الدين وخلقه ، فتعلق أماكن العبث واللهو الحرام ، وتأخذ بالأحكام الإسلامية في المال والعرض والنفس ، حتى يزول من الصدور الحرج من التناقض الصارخ في الحياة المصرية ، فبينما شباب يركبون الخطر ، ويواجهون الموت في ساحات القتال مع العدو يري آخرون يتمرغون في أعطاف اللهو والمجون . ولقد شيع الإخوان في خلال الخمسة عشر يوما الأولي من شهر يناير 1952 ثلاثة شهداء من طلبة الجامعات هم " عادل محمد غانم " الطالب بكلية طب عين شمس " وعمر شاهين " الطالب بآداب القاهرة ، و " أحمد المنيسي " الطالب بطب القاهرة – وكان تشييع جنازة الشهيدين الأخيرين في مدينة الزقازيق .. وأترك لجريدة " المصري " بعد أن وصفت روعة الجنازة ، واشتراك جميع الطوائف فيها . ونشرت صورة للمشيعين يتقدمهم المرشد العام أترك لها أن تذكر ما حدث في أثناء سير الجنازة إذ قالت : " ومن المفارقات أنه في أثناء تشييع الجنازة في الزقازيق .. ، والجنازة الجليلة تسير الهويني لتوديع الشهداء الأبطال إلي مكانهم في الخالدين – حدث أن دخل إلي الصفوف عمال إحدى السينمات لتوزيع إعلانات عن عرض الأفلام بها . وإذا كان القارئ الآن قد امتلأ حقدا علي هؤلاء العمال وعلي الذين أرسلوهم لتوزيع الإعلانات في هذه اللحظات الخاشعة ، فإنه لا محالة يعذر المشيعين إذا كانوا قد اعتدوا علي هؤلاء العمال بالضرب وعلي دار السينما ببعض التلف " . هذا ما كتبته الجريدة .. ونحن لا ننظر إلي الحدثة في ذاتها ، وإنما ننظر إلي ما توحي به إلي النفوس من معان تثبط الهمم وتعد العزائم .. وإذا كان هو ما حدث في الأقاليم – التي من طبيعتها التمسك إلي حد ما بالقيم – فما بالك بما يحدث في القاهرة والإسكندرية في نوادي القمار ودو السينمات والمسارح والكباريهات ؟! . وإذا لم تذكر المحن القاسية الشعب والحكومة بالله الذي بيده وحده النصر فمن يذكرون الله ويرجعون إليه ، ومتى يحكمون شريعته ومتى يلتزمون حدوده ؟
• المرشد العام يضبط المشاعر ويحدد الموقف بحزم :
والإخوان بطبيعتهم – كما قدمنا – إذا ذكر الجهاد والاستشهاد نسوا كل شيء وخفوا إلي ساحة الموت . ركضا إلي الله بغـير زاد إلا التقـي وعمـل المعـاد ولكن المرشد العام – وهو الرجل الذي حنكته التجارب ، والذي اجتمعت في يديه كل الخيوط – كان هو الرجل القادر علي ضبط هذه المشاعر وحسن توجيهها ، فهو لا ينسي أنه – قبل كل شيء – صاحب دعوة شاملة هدفها إرساء قواعد الحكم الإسلامي في البلاد ، ولا ينسي أن القابضين علي زمام الأمور في البلاد لازالوا هم أعداء هذا الهدف ، والغارقين في بحار اللهو والعبث والمجون ... وفي الوقت الذي يري أن دعوته تلزمه بإجلاء المستعمر عن البلاد يري أنها تلزمه أيضا بتطهير أداة الحكم من أئمة الفساد والمجون . فبينما كان كل أخ من الإخوان المسلمين يتحفز فرحا وجذلا للذهاب إلي الميدان ، كان المرشد العام مشغولا بإيجاد حل لهذه المعادلة الصعبة التي تجمع بين الاحتلال الخارجي والفساد الداخلي وكيفية التخلص منهما معا .. والمشقة الكبرى أمام الرجل كانت تتمثل في أنه بعد العدة فعلا لحل المعادلة ولكنه لا يستطيع أن يبوح لأحد بما يعد ، ولا حتى للإخوان أنفسهم . وأكتفي هنا بهذه الإشارة العابرة ، فتوضيح هذا الموضوع ليس هذا موضعه ، وإنما يأتي موضعه في الجزء الثالث من هذه المذكرات إن شاء الله .. ولكني أورد هنا بعض نصوص نشرت في صحيفة " المصري " في تلك الحقبة ، قد تلقي قراءتها بعض الضوء علي الموضوع ، لاسيما بعد أن تكشفت الأمور ووقعت الأحداث التي كان يحضر لها المرشد العام ، وأصبحت بالنسبة للناس الآن تاريخا يدرس – وإن كان محرفا – بعد أن كانت في الوقت الذي نؤرخ له آمالا في ضمير الغيب . وهذه النصوص تتصل في مجموعها بأمر كان يشغل بال الشعب والحكومة والمحتل نفسه ، وهو إبراز موقف الإخوان المسلمين محددا مفصلا من أحداث الساعة .. وقد تصدي بعض الإخوان المسئولين لتحديد هذا الموقف : بعضهم مدفوع بالتشوف الملح إلي إحراز الشهادة . والبعض الآخر – ممن يعيشون في مععمة المعركة ورأوا بأعينهم المآسي الدامية التي خلفها الاعتداء البريطاني الآثم علي السويس – مدفوع بالأمل في منح فرصة للمنكوبين من أهل تلك المدينة وضواحيها لإصلاح بعض شأنهم ، وإعداد أنفسهم ليكونوا في موقف أفضل للدفاع عن أنفسهم . وقد نشرت الصحف رأي الأستاذ محمد طاهر منير رئيس شعبة الإخوان المسلمين بالسويس وهو يمثل نظرة أهل المنطقة التي جنت عليها نظرة الحكومة الساذجة لطريقة المقاومة وتركها الحبل علي الغارب للأهالي العزل المجردين من كل سلاح ومن كل خبرة لمواجهة جيوش الاحتلال المجهزة بأحدث وسائل التجهيز . ثم نشرت بعد ذلكرأي الأخ الشيخ محمد الغزالي عضو مكتب الإرشاد في ذلك الوقت وهو يمثل الفئة الأخرى في كلمة له بعنوان " لن تبلغ هدفها إلا إذا نظفت جبهتها الداخلية – رأي الإخوان المسلمين في الموقف " هذا نصها : " إن الإسلام الذي يعمل الإخوان المسلمون في حدوده ، له توجيهات واضحة بإزاء الموقف الحاضر . فلأول مرة التقي القانون الشرعي والقانون الوضعي علي اعتبار الانجليز في هذا الوادي محاربين لا أمان لهم ولا عهد . وكان من بشائر الخير أن اتفقت الحكومة والشعب علي تحمل هذا الموقف ، ومواجهة تبعاته بروح من الإصرار الواجب والكفاح المحمود ، والإسلام لا يظاهر هذه الحركة فحسب بل يؤجج نارها ، ويرمي لها بوقودها منم الفدائيين والشهداء . ويجب أن يعلم أن الإسلام إلا إذا نظفت جبهتها الداخلية من المنتهزين والمصطادين في الماء العكر ، فإن الالتواء بعناق الأمة عن غايتها التي أتحدت عليها قد يصيب نهضتها بانتكاس وخيم العاقبة . ولذلك وضع الإسلام له أشد العقاب ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم فاضربوه بالسيف كائنا من كان " . وفي حدود تعاليم الإسلام السابقة يمكن أن تعرف حقيقة السياسة التي لا يتخلي عنها الإخوان المسلمون غير ناظرين إلي أحزاب أو أشخاص .. ومن الحقائق المقررة في أذهان الإخوان المسلمين جميعا : 1 – أنه لا يجوز بقاء أي جندي انجليزي لا في مصر وحدها ، بل في ربوع العالم الإسلامي كله . 2 – أن الإخوان المسلمين يسوون في نظرهم بين أخطار الشيوعية الوافدة ، والخلل الاجتماعي القائم ؛ لأنهم ينادون بالاشتراكية الإسلامية ، وفيها وحدها الإنقاذ مما تعانيه ومما نتوقعه . 3 – ولما كانت مصر طليعة الكتلة الإسلامية التي يدور النزاع العالمي علي استغلالها ، فإن الإخوان يرفضون الارتباط بأية كتلة معتدية ، وهم يحاربون فقط من يعتدي علي أرضهم . ذلك ومن البديهي أن الإخوان الداعين إلي تحكيم كتاب الله ليسوا هم الذين يشاركون في الحكم بغير ما أنزل الله . وقد أدي الإخوان واجبهم في معركة القتال . وللأمة أن تعتمد علي رجولتها دائما في رد الأذى ودفع العدوان . وقد يلحق بهذا المعني الذي نحن بصدده مقال للأستاذ إحسان عبد القدوس نشره في مجلة روزاليوسف في نفس هذه الفترة نقتطف منه الفقرات التالية : " لا أستطيع أن أتحدث عن القوى الشعبية ، وأنسي جماعة الإخوان المسلمين .. وأنا أحد المؤمنين بأن الدعوة الدينية هي دائما أقرب الدعوات إلي نفوس الطبقة الشعبية .. والإخوان المسلمون اليوم – كما كانوا بالأمس – هم الذين يمثلون دعوة الدين إلي الجهاد ، وبفضل دعوتهم هذه شهدت ساحات فلسطين أبطالاً منهم وقفوا وقفة العمالقة ، وهتفوا باسم الله ، فإذا بالبطل منهم وفي صدره عشرة أبطال ... ولا يستطيع ضابط ممن اشتركوا في حملة فلسطين أو مراقب ممن راقبوا معاركها ، أن ينكر فضل متوطعي الإخوان المسلمين فيها ، أو ينكر بطولتهم وجسارتهم علي الموت ، والعبء الكبير الذي تحملوه منها راضين فخورين مستشهدين في سبيله . أين هم اليوم في ساحات القتال ؟ .. لنكن منصفين .. لقد عاد الإخوان من حملة فلسطين وفي ظهر كل منهم خنجر مسموم .. عادوا ليشردوا ويعتقلوا وليروا رجلهم الأول يغتال في ظلام – فهل تتكرر عليهم المأساة لو اشتركوا في حرب التحرير ؟ وهل من حقهم أن يسألوا أنفسهم مثل هذا التساؤل ؟ وهل كفر نبي بدينه وتخلي عن دعوته لمجرد أنه خدع في فريق من أنصاره ، أو أوذي من بني قومه ؟! أقولها وفي القلب أمل لا يزال قويا .. فيوم أن يتحرك الإخوان المسلمون ، ويعرفون كيف يتحركون وإلي أين ، فيومئذ اكتملت لمصر قواها الشعبية وضمنت لأيام الجهاد الاستمرار " . ولما كانت الصورتان اللتان أبرز الفريقان موقف الإخوان فيهما ونشرتهما الصحف يبدوان كأنما هما مختلفان .. فقد أشفق بعض محبي الإخوان عليهم وكتبوا يريدون أن يسمعوا من المرشد العام القول الفصل . وهنا تقدم الأستاذ سيد قطب – وكان حتى ذلك الوقت لا يزال في صفوف المتعاطفين مع الإخوان – تقدم بطلب الكلمة الفاصلة من المرشد العام ، فنشر له " المصري " في أول يناير 1952 الكلمة التالية تحت عنوان "رأي الإخوان ورأي الإسلام" وهذا نصها : " سرني أن أقرأ في " المصري " أمس كلمة الأخ الأستاذ محمد الغزالي عن موقف الإخوان المسلمين من الكفاح الشعبي في هذه الأيام ، بعد ذلك اللبس الذي وقع عند الكثيرين من قراءة كلمة الأخ الحاج طاهر منير رئيس شعبة الإخوان بالسويس ، والتي أشار فيها إلي السلم لو جنح الانجليز إلي السلم . إن حساسية الناس شديدة في هذه الأيام . وكل إشارة إلي مسألة الانجليز ، ولو كانت مشروطة بشرط أن يكفوا هم عن العدوان بالجلاء عن البلاء – تقابل من الناس بالتشكك وعدم القبول ، مما يدل علي عزيمة هذا الشعب أن يكافح إلي النهاية ، وبلا هوادة . أنه لا الأخ الحاج طاهر منير رئيس شعبة بالإخوان بالسويس ولا الأخ الأستاذ محمد الغزالي عضو مكتب الإرشاد يملك أن يقول كلمة الإخوان الرسمية . فقانون الإخوان يجعل هذه الكلمة الرسمية من حق المرشد العام . وهذه الكلمة الصريحة الواضحة التي قالها الأستاذ الغزالي كان يحسن أن تكون هي الكلمة الرسمية التي يقولها الإخوان ، فالناس في حاجة ماسة إلي كلمة صريحة واضحة رسمية من الإخوان في هذه الأيام ؛ لأن هنلاك ما يدعو إلي قولها .. وأصدقاء الحركة الإسلامية من أمثالي هم أحرص عليسماع هذه الكلمة فينا تواجهه البلاد من أحداث . إن دور الإسلام في الكفاح الشعبي دور إيجابي دائما . والشعب يكافح اليوم من أجل غايتين جليلتين : التحرر المطلق من كل استعمار أجنبي . والعدالة الاجتماعية المطلقة من كل استغلال . ورأي الإسلام في هاتين الغايتين واضح .. فما هو رأي الإخوان ؟ ومعذرة إذا سألت هذا السؤال ، فإن رأي الإخوان يجب أن يكون واضحا في مناهج وبرامج محددة ، لا يحيل إحالة غامضة إلي رأي الإسلام بل أن تقول وتعلن : ما هو رأي الإسلام الذي يراه الإخوان . إن الإسلام ليس هو الاشتراكية وليس هو الشيوعية كما أنه بكل تأكيد ليس هو الرأسمالية وعندما توازن هذه المذاهب بالنظرية الإسلامية تبدو محاولات صغيرة قاصرة ، وأوضاعا وقتية محدوجة ، فهي لا تعالج إلا الجانب المادي في حياة الإنسانية ، بينما يتولي الإسلام علاج البشرية بكل مقوماتها الإنسانية . غير أن آراء الإسلام في كل حقل من حقول الحياة يمكن أن تصور تصويرا مغرضا مشوها إذا تركت بغير تحديد واضح في صورة مناهج وبرامج محددة في كل جانب من جوانب الحياة . وبما أن دعوة الإخوان تمثل دعوة الإسلام فإنه ينبغي أن يعلنوا للناس هذه المناهج المحددة وهذه البرامج الواضحة .. وليست العلاقة بيننا وبين الاستعمار إلا جانبا واحدا تشمله هذه البرامج علي أساس صريح . إن أصدقاء الإخوان – قبل منافسيهم – هم الذين يطلبون هذا الإيضاح .. وهذا وقته ، بعد ما استرد الإخوان نشاطهم واستأنفوا جهادهم . ( ) .
• المرشد العام يحسم الموقف :
وهنا رأي المرشد العام أن يقول الكلمة الفاصلة ، فلفت النظر إلي أمور ذات بال هي صلب الموضوع ، ولكنها غائبة عن أذهان الشعب والحكومة ، الذين ظنوا أن النصر ينتزع من الله انتزاعا مع مخالفتهم عن أمره وإعراضهم عن شرعيته وهو الذييقول : ( • ) ، وقد نشرت كلمة المرشد العام في جريدة " المصري " في 3/1/1952 تحت عنوان : الإخوان . الإخوان " وهذا نصها : " كثر تساؤل الناس عن موقف الإخوان المسلمين في الظروف الحاضرة .. كأن شباب مصر كله قد نفر إلي محاربة الانجليز في القتال ولم يتخلف إلا الإخوان المسلمون .. وكأن دور اللهو والمجانة أغلقت وحرمت علي اللاهين والماجنين .. وكأن الجالسين في ظل ظليل ، وعيش رغد ، وأمن لا خوف فيه ، ومكاسب لا يدري أحلال هي أم حرام .... تركوا ذلك كله وأخذوا في الجد من العمل والمر من الكفاح ... ولم يجد هؤلاء وأولئك للإخوان عذرا واحدا يجيز لهم الاستبطاء بعض الشيء ، ولم يفطن أحد إلي أنهم كانوا إلي وقت غير بعيد مقيدين بقيود لا تسمح لهم بالحركة ، ولا يزال شبابهم المكافح رهن السجون . وأيا كان غرض المتسائلين نمن تساؤلهم فإن الإخوان لن يتكلموا إلا إذا شاءوا ، ويحبون أن يؤدوا واجبهم في صمت . وخير لهم وللأمة أن تنطق أعمالهم وهم لا ينطقون ، ولا يريدون أن يقولوا ما قال واحد منهم – ليس له حق التعبير عنهم – إنهم قد أدوا واجبهم في معركة القتال . فإن هذا غلو لا جدوى له ولا خير فيه . ولا يزال بين ما فرضه الله عليهم من الكفاح وبين الواقع أمد بعيد . والأمور إلي أوقاتها ( • ) . قال الكاتب الجليل الأستاذ سيد قطب : " إن دور الإسلام في الكفاح الشعبي دور إيجابي دائما ، والشعب يكافح اليوم من أجل غايتين جليلتين : التحرر المطلق من كل استعمار أجنبي ، والعدالة الاجتماعية من كل استغلال ، ورأي الإسلام واضح .. فما رأي الإخوان ؟ فإذا كان رأي الإسلام في ذلك واضحا فما معني السؤال ؟ .. إن رأي الإخوان كذلك واضح ، فهم يطلبون أن يحكم الإسلام تحكيما تاما في حياة الأمة كلها ، فهو دين متكامل غير قابل للتجزئة ، يسير بالحياة في نظام عجيب ، كلما دققت فيه النظر وجدته مما لا يمكن أن ينقص منه شيء أو يزاد عليه شيء . وقد أخذ الإخوان المسلمون أنفسهم فنقلوه فيما طوقهم تنفيذه .. والكاتب الجليل يعلم أن أساس النظام الاجتماعي التربية والتعليم ، وهما حق للأمة وواجب عليها . وقد مضي الإخوان في ذلك شوطا بعيدا فأصلحوا النفوس الشاردة في الجامعة والمدارس وفي المدن والقرى وردوها إلي الله ، وأدخلوا الإيمان في قلوب الضالين ، وأقاموا المستشفيات والمستوصفات لتصحيح الأجسام ، وأنشأوا المدارس ، وكانت كل شعبة من شعبهم مبعثا للنور والهداية . وأبقوا الشركات المختلفة لتدعيم الحياة الاقتصادية التي تسير علي هدي الإسلام ، ذاك إلي غيره من المنشآت التي صادرتها الحكومة ، ولم تبق منها إلا علي ما لم يتسع لها الوقت لإفساده . وقد نهضوا علي قرب عهدهم باسترجاع نشاطهم لمثل هذه الأعمال وأتموا منها الشيء الكثير . وأما رفع مستوي المعيشة فلعل الكاتب يعلم من رأي الإخوان المسلمين فيه مالا يعلم غيره من وجوب توفر المسكن واللبس والغذاءوللعلاج لكل فرد في دولة الإسلام ، ويعرف أن هذا مبسوط في كتبهم ورسائلهم ، ويعرف أنه مبسوط في كتابه " العدالة الاجتماعية في الإسلام " الذي يدرسه الإخوان فيما يدرسون من كتب بدقة وعناية ، ويعلم أن ما يلزم ذلك من مال يؤخذ من الأغنياء ويرد علي الفقراء ، فتضيق المسافة بين الغني الفاحش والفقر المذل – فإذا كان بعض المترفين الذين يريدون أن يجعلوا بينهم وبين الإسلام سدا لا يقرأون أمثال هذه الكتب ، وإذا كان من بيدهم الأمر لا يهتمون بأن ينظروا فيها – ولو علي سبيل حب الاستطلاع – فليس الذنب في ذلك ذنب الإخوان . أما أن الكاتب يريد منا أن نضع مناهج وبرامج واضحة ، فإن هذا من التفصيل الذي نعتزمه حين تتوفر لنا أسباب النشر كما توفرت لنا أسباب القةل فيه ، ولعل ذلك يكون قريبا إن شاء الله " . الفصل الثاني : مقابلة الملك للمرشد العام الجديد :
نشرت الصحف في 21/11/1951 النبأ التالي : في الحضرة الملكية المرشد العام للإخوان المسلمين
قصد سعادة الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين إليقصر القبة العامر في الساعة السادسة من مساء أمس، حيث تشرف بمقابلة حضرة صاحب الجلالة الملك . وقد دامت المقابلة 45 دقيقة . ولم يشأ سعادته أن يفضي بشيء عما تم في هذه المقابلة . وفي 28/11/1951 نشرت الصحف ما يلي :
المرشد العام في الاجتماع الأسبوعي
قال المرشد العام في الاجتماع الأسبوعي الذي اعتاد الإخوان إقامته في مساء الثلاثاء من كل أسبوع أنه ليس من اللائق التحدث عما جري في مقابلته مع الملك ، ووصف ما أشارت إليه بعض الصحف بصدد هذه المقابلة من اشتراطات وتعهدات بأنها مجرد تكهنات لا أصل لها من الصحة .
تعقيبنًا علي هذه المقابلة
هذا هو ما نشرته الصحف اليومية الكبرى عن هذه المقابلة .. وكانت مقابلة الملك في تلك الأيام لشخصية غير رسمية تعتبر حدثا تاريخيا ، وتعد مفخرة لهذه الشخصية ، تتحدث عنها جميع الأوساط ، وتعلق عليها ، وتتكهن بما سوف يعقبها ، وما يترتب عليها ، إذ هي شرف لا يداني ، وأمل لا ينال ، وأمنية يحلمن بها رؤساء الأحزاب المستورة ، ويقطعون علي أنفسهم بين يديهت عهودا أن يكونوا الخدم الأمناء للحضرة الملكية ولأوامرها ولمآربها .. ومع ذلك قلما يظفرون بها . فإذا كانت المقابلة للمرشد العام للإخوان المسلمين ، فإنها لا تعتبر حدثا تاريخيا فحسب ، بل تعتبر انقلابا اجتماعيا وسياسيا تعجز التكهنات عن تقدير مدي نتائجها ، وما قد يترتب عليه ، لاسيما وأن هذه المقابلة قد حاولها من قبل غير مرة المرشد العام الأول . ولكنه حيل بينه وبينها .. فما الذي حدث وما الذي طرأ علي مسرح الحياة السياسية في مصر حتى تمت المقابلة فجأة دون مقدمات تمهد الأذهان لتوقعها ؟ وقد أوردنا كل ما كتبته الصحف اليومية عن هذه المقابلة من نشر نبأ حدوثها ومن تعليق المرشد العام علي ما نشر في مختلف الصحف ، وهو تعليق يزيد النبأ غموضا ، ويشجب التكهنات التي دارت في الأوساط الصحفية الأسبوعية ، ولكنه لا يلقي أي ضوء علي ما كان من شأن المقابلة وما تم فيها .. ولذا فقد رأينا أن نعرض بتعليق علي المقابلة وأن نحلل الظروف التي أحاطت بها في السطور التالية إن شاء الله . وقد غلبت علي الرجل طبيعته في الكتمان التي اكتسبها مذ كان طالبا بالحقوق وعضوا في جمعية اليد السوداء ، فظلت هذه المقابلة وما تم فيها سرا مكتوما يجهله جميع الناس بل ويجهله أكثر الإخوان المسلمين أنفسهم .. حتى أن هذا الجهل بحقيقة ما تم فيها قد استغله بعض الحكام المغرضين فيما بعد استغلالا دنيئا للنيل من دعوة الإخوان المسلمين ومن المرشد العام مما يأتي تفصيله في الجزء القادم من هذه المذكرات إن شاء الله . وأري من ق التاريخ علي ، وإبراء لذمتي نحو الحقيقة التي انطمرت تحت ركام الأحداث وتوالي الأيام ، أن أفضي إليشعبنا الذي طال أمد تضليله – بما عرف عن هذه المقابلة وما دار فيها وما سبقها وما تلاها .. ومعذرة حين أسرد معلوماتي إذا أنا سردتها وسط الظروف التي تم وصولها إلي فيها ، وبالأسلوب وبالألفاظ التي سمعتها بها ، وإن كان في ذلك بعض الاستطراد وبعض معلومات لا تتصل بالمقابلة لكنها لا تخلو من فائدة إن شاء الله . كان ذلك في مقتبل ربيع عان 1952 ، ولم أكن في تلك الأثناء قريبا من القاهرة حيث كنت لا أزال في عملي الخاصفي الصعيد ، فلما انتهي موسم القطن في الصعيد – وهو ينتهي مبكرا – ذهبت إلي رشيد لاستجم بضعة أيام ، فوصلني من الإخوان بالقاهرة خطاب يطلبون إلي فيه أن أكون في دمنهور في يوم كذا ؛ لأن الأستاذ المرشد يقوم برحلة في الوجه البحري وسيكون في هذا اليوم إنشاء الله في دمنهور ، " وهو يريد أن يلقاك هناك " . ولم تكن الظروف قد اسعفتني بشيء من المعلومات عن مقابلة الأستاذ المرشد للملك إلا ما قرأته في الصحف التي اعتبرت هذه المقابلة حدثا تاريخيا لم يكن متوقعا ، وعدت ذلك شرفا عظيما يضفي علي الإخوان المسلمين .
• من أخطار الربا :
وسعدت بوجودي في دمنهور في ذلك اليوم ، فقد غبت عنها زمنا طويلا منذ غادرتها منقولا عقب اغتيال الأستاذ الإمام . فقابلت إخوانا بها اعزاء منهم الأخ الحاج عبد القادر عثمان المضيف للمرشد العام وصحبه في منزله ، والذي استقبلني بالعناق الحار ، وبادرني بقوله : لقد كنت حريصا علي لقائك لأقول لك إنني لم أخالف نصيحتك مرة واحدة ، وكادت هذه المخالفة الواحدة أن تؤدي إلي إهلاك الحرث والنسل – فقد كنت نصحتني باعتباري تاجرا ألا أتعامل مع البنوك .. ولكن صديقا لي يعمل وكيلا لبنك التسليف الزراعي بالمحمودية أغراني وألح علي بكمية من الفول لم يكن معي ثمنها .. وكان الذي أغراني أن أسعار الفول كانت في ارتفاع مستمر .. ولكن بعد أن أصبحت هذه الكمية باسمي أخذت الأسعار في الهبوط بل في الانهيار فطالبني البنك بالتغطية – أي بأن أدفع للبنك الفرق بين الثمن الجديد والثمن الذي اشتريت به – فدفعت إليه كل ما كان معي من نقود .. ثم هبط السعر – وليس هناك مشترون كدأب الأشياءإذا كانت أسعارها في انخفاض مستمر – فطالبني البنك بتغطية أخرى .. وهكذا حتى اضطررت إليبيع أثاث بيتي وكل شيء عندي حتى هذا المنزل عرضته للبيع .. ولكن الله سلم . ويبدو أن الله تعالي قد اكتفي هذه المرة بتأديبي إلي هذا الحد وقد علم مني حسن التوبة وصدق الله العظيم ( ) .
• حديث خاص وخطير :
لم أكن حتى تلك اللحظة قد جلست إلي الأستاذ المرشد العام حسن الهضيبي أو تحدثت معه أو استمعت إليه إلا المقابلتين العارضتين اللتين أشرت إليهما قبل أن يتم انتخابه .. وكنت أعجب لرجل هذا حالي معه يطلبني بالذات لأقابله في دمنهور . وكنت حين وصلت إلي منزل المضيف قد اتخذت – في غرفة فسيحة من غرفاته – مجلسي يبن الإخوان مؤنسين بوجود الأستاذ المرشد معنا . ولكن الأستاذ المرشد ناداني وطلب إلي أن أجلس بجانبه ففعلت .. وأنا أعرف أن الرجل قليل الكلام . وكانت هذه صفة من صفاتي أنا الآخر ... وكنت حريصا – بعد أن حييته ورحبت بمقدمه إلي عاصمة محافظتنا – علي ألا أبدأه بكلام حتى يبدأ هو لأعرف السبب الذي دعاني من أجله لمقابلته وأنا لم أخالطه من قبل .. وبدأ الرجل بالكلام فرد علي ما في نفسي من سؤال فقال : " إنني لا أهتم بالإخوان المظهريين ، ولا بذوي الألسنة ، ولا بالمتحمسين . ولعلك تعلم أنني كنت رافضا هذا المنصب لعدم ثقتيفي هؤلاء ، ولولا دموع يوسف طلعت وهؤلاء الأخوة البسطاء ما قبلت . وقد علمت بعد ذلك بما كان من أمر النظام الخاص وتمرده علي الدعوة . وعلمت بما كان من محاولات لإقناعهم ، وكبح جماحهم ، وبأن هذه المحاولات لم تجد معهم .. وقد كدت أرجع إلي رفضي ؛ لأني لا أقبل أن أكون علي رأس دعوة يتسلط عليها مركز قوة من داخلها ، فإن هذه المراكز هي ديناميت ينسف الدعوة فلا يبقي منها علي شيء – ولولا أن قيل لي : أمهلنا حتى نرسل في طلب أخ يحبه إخوان هذا النظام ويحترمونه ليكون ذلك آخر ورقة في جعبتنا . ثم قال : ولم تكن هذه أول مرة اسمع فيها عنها ، فقد حدثني الأستاذ الإمام عن كثير من شخصيات الدعوة – وقد بلغني ما كان من حديث بينك وبين هؤلاء الأخوة وما انتهي إليه الأمر من إذعانهم وإنهاء تمردهم .. وقال إني أريد الإخوان الذين يعملون ولا يتكلمون ، والذين يعملون ويرجون وجه الله " . ثم قال : إنني أحب أن أعرف رأيك في بعض الأشخاص ... حتى جئنا علي شخصية هامة جدا في الدعوة فوجدت وجهة نظره فيها متفقة مع وجه نظري – مع أنها وجهة غائبة عن أكثر الإخوان – ةوالعجب أن كلينا قد قرر أن هذه الشخصية هي من أسمي الدرجات إيمانا وعلما وإخلاصا لكنها لا تحسن تقدير المواقف ، وقد عبر الأستاذ المرشد عن ذلك المعني بكلمة فرنسية . وقد أثبتت الأحداث الجسام بعد ذلك أن تقييمنا كان صحيحا ودقيقا . لقد طال الحديث بيني وبين الأستاذ المرشد حتى خشيت أن يحرج ذلك صدور الإخوان الجالسين ، ولكن أمام أهمية الحديث رأيتني في حل من مواصلته معتمدا علي ثقة الإخوان في مرشدهم وحسن ظنهم بي . ثم ألتفت الأستاذ إلي وقال : هل علمت ما كان من أمر مقابلة الملك فاروق ؟ قلت : لا أعلم إلا ما نشرته الصحف . قال : هذا ما كنت أتوقعه من رجل مثلك ليس من طبيعته أن يتحشر ويتسقط الأخبار .. ولهذا حرصت علي أن أقابلك وأفضي إليك بتفاصيل هذه المقابلة ، فمثلك لا ينبغي أن يجهلها .
• تفاصيل المقابلة مع الملك :
وسرد علي الأستاذ المرشد تفاصيل هذه المقابلة ومقدماتها وملحقاتها ساعة بساعة ولحظة بلحظة ، لكنني بعد مضي خمسة وعشرين عاما لا أستطيع أن أدعي أنني لازلت أعي كل هذه التفاصيل ، لاسيما وهذا أول يوم منذ ذلك التاريخ أمسك بالقلم لاسجل ما سمعته ، ولذا فإني لن أثبت هنا إلي ما بقي في الخاطر – وهو قليل – لكن الذي أثبته هو النص الذي لم يتفلت من خاطري منه شيء .. أما ما سوي ذلك من التفاصيل مما لم يبق في الذهن منه إلا ظله فسأضرب عنه صفحا حتى لا أخلط الحق الصريح بما هو دونه . قال الأستاذ المرشد : في يوم كذا اتصل بي الصديق فلان (أنسيت اسمه وتاريخ اليوم) وقال لي أن كريم ثابت المستشار الصحفي لجلالة الملك يريد أن يقابلك . فلم أمانع . وحضر كريم ثابت وأخبرني بأن جلالة الملك يريد أن يقابلني ، فأمهلته حتى عرضت الأمر علي مكتب الإرشاد فوافق . وحدد الميعاد .. وقال لي الأستاذ : إنني في اجتماع مكتب الإرشاد حاولت أن أهون من شأن هذه المقابلة مهتديا بالحكمة التي تقول : متى يستقيم الظل والعود أعوج . وفي اليوم السابق للميعاد اتصل بي كريم ثابت وسألني : هل لديم ردنجوت (بدلة من أثمن أنواع الصوف الانجليزي الأسود ذات سترة طويلة ولها هي وبنطلونها شكل خاص وتفصيل خاص وتكاليفها باهظة ، ولا يسمح لأحد بمقابلة الملك إلا إذا كان مرتديا بها) فقلت له : ليس عندي . فقال : سأبعث إليك بواحدة .. قال الأستاذ: فلما رجعت إلي المنزل وجدت بدلتين من الردنجوت قد بعثوا بهما لأختار أنسبهما لجسمي . فلما كان يوم المقابلة قررت ألا ألبس الردنجوت . وحين جاء الميعاد حضر كريم (علي ما أذكر أنا) ليصحبني إلي القصر . فوجدني ببدلتي العادية . فسألني : ألم تصلك البدلتان الردنجوت ؟ فقلت : قد وصلتا ، وسلمتهما له وقلت له : إنني قررت ألا أقابل الملك إلا بملابسي العادية هذه . وإذا لم يكن مسموحا به فأرجو إلغاء المقابلة ؛ لأنني لم أطلبها حتى تشترطوا علي شروطا .. قال : فظهر الحرج علي وجه كريم . ولكن يبدو أنه كان مكلفا من الملك بإتمام هذه المقابلة علي أي وضع وبأيثمن ؛ لأنه مع ما أوقعته فيه من حرج قال : مادمت متمسكا بذلك فلا مانع .. وهذه أول مرة يقابل فيها الملك شخصا لا يرتدي الردنجوت . قال الأستاذ : وكان عنديمجموعة من الإخوان في ذلك الوقت ، وقد حاولوا أن يزحزحوني عن رأيي لإخراج كريم من حرجه ، لكنني أصررت علي رأيي وصممت عليه متمنيا أن تلغي المقابلة . ولما وصلنا القصر ، وجدت في استقبالي الموظفين الرسميين الذين يستقبلون السفراء وأمثالهم حتى دخلنا مكتب سكرتير الملك (أو كبير الأمناء لا أذكر) فإذا بالملك يدخل ويلقي علي السلام ويصافحني فصافحته كما أصافح أي إنسان . ثم أخذني ويده في يديودخلنا مكتبه الخاص فجلس إلي مكتبه وجلست إلي جانبه في الفوتيل المجاور . ثم أخذ يرحب بي ويوجه إلي الحديث ويقول : لا أدري لم يسئ الإخوان الظن بي ؟ فلم أرد عليه . فقال : إنني رجل مسلم وأحب السلام وأتمني له الخير ، وقد أمرت بإنشاءمساجد كذا وكذا .. فلم يكرهني الإخوان ؟ فلم أرد . فقال : إن الإخوان قد أفهموا خطأ أنني أمرت بحلهم واعتقالهم وباغتيال الشيخ البنا .. هذا والله العظيم خطأ ، ولم أفعل من هذا شيئا .. إن الذين فعلوا هذا هم السعديون .. النقراشي وإبراهيم عبد الهادي .. وفي اللحظة التب تمكنت فيها أقلت إبراهيم عبد الهادي وأمرة الوزارة التي عينتها بالإفراج عن الإخوان . وقال لي الأستاذ المرشد : لقد طال حديث الملك نحو ساعة استعرض خلالها تاريخه وما عمله من خير ، وتنسب كل عمل سيء إلي غيره .. وبين الفينة والفينة كان يلقي السؤال نفسه " لم يكرهني الإخوان إذن ؟ وأنا لا أرد ... ثم قال لي الأستاذ: ويبدو أنني سهوت عن نفسيبعد قليل من بدء الحديث ، وتنبهت فوجدت نفسي في وضع عجيب .. وجدتني جالسا في الفوتيل واضعا حدى رجلي علي الأخرى ، ففكرت في الرجوع إلي الجلسة المناسبة ، ولكنني قررت ألا أغير هذا الوضع ، فظللت علي هذا الوضع حتى نهاية المقابلة حين سألني بعد أن أشعرني بأنه قال كل ما عنده : ما رأيك إذن يا حسن بك فيما قلته ، وفي أنني علي استعداد أن أعمل للإسلام ؟ فرددت عليه قائلا : إنني سأعرض ذلك علي الإخوان ونسأل الله التوفيق . قال الأستاذ فقام الملك وصافحني وصافحته ، ووصلني إلي باب مكتبه حيث تلقاني كبار رجال القصر حتى رجعت إلي المركز العام . وقال لي الأستاذ : والله يا فلان لقد كنت أشعر وأنا أصافح ذلك الرجل ثم وأنا أجلس معه نني أمام طفل صغير ، لا أشعر نحوه لا برهبة ولا حتى باحترام .. وبهذه العبارات ختم الأستاذ حديثه معي في تلك الليلة أو في ذلك اليوم .
• لقاء أحباب ذكرنا بالأيام الحلوة الخالية :
كان في صحبة الأستاذ المرشد في هذه المرحلة عدد من إخوان القاهرة ومن غير القاهرة ، غير أنني لاحظت أن المرافق الأصيل الملازم له طول هذه الرحلة التي رصد لها نحو شهر هو الأخ الأستاذ أحمد حسن الباقوري ، ذلك أنني وجدت الأستاذ المرشد كلما سئل عن شيء يتصل ببرنامج الرحلة أحال السائلين إلي الأخ الشيخ أحمد ... ولقد آثار هذا الأمر عجبي ؛ لأن الشيخ الباقوري – وهو من لا يشك في إخلاصه ووفائه – لم يكن – مع ما يعلم من حب الأستاذ المام له – يلزم نفسه أن يكون مرافقا له في رحلة طويلة ، مع أنه كان إذ ذاك خفيف الظهر قليل المسئوليات .. فما هذا الذي أراه الآن بعيني ؟ ... لقد لاحظت أكثر من ذلك أنه عليغير ما تعودت أن أراه ، إذ لم يكن يحفل بأن يأخذ نفسه بأسلوب تعبدي شاق .. لكنني أراه الآن أخذا نفسه بهذا الأسلوب ، فهو صائم النهار ، كثير التسبيح بالليل ، كأنما هو شخص آخر غير الباقوري الذي عرفته في بواكير أيام الدعوة . علي كل ، فإن عجبي لم يطل إذ تذكرت طبيعة الباقوري .. طبيعة الشاعر الذي تستبد به مشاعره ، فهو طيع لها توجهه حيث تشاء دون أسباب ولا مقدمات .. غير أن هذا الوضع الأخير الذي رأيته عليه من تمام الجد في الدعوة وقوة الأخذ بأسباب التبتل والعبادة ، أشاع في نفسي السرور وشرح صدري ، وحبب إلي المبيت معه ، حيث دعاني إلي ذلك لنقضي ليلة طالما افتقدناها بعد أن أنهينا مرحلة الطلب . وليس غريبا أن يطول الحديث في مثل هذه الليالي المختلسة من الزمن بين صديقين باعدت بينهما الأيام أمدا طويلا ، وأن تتشعب شجونه . ولكن بيت القصيد ، وما يهم القارئ مما دار بيننا من أحاديث ، هو ما كان منها في شأن الموضوع الذي نحن بصدده .. فقد قلت له : يا أخي أحمد .. إنك تعلم أن ظروفي ونأى مكان عملي قد حرمني من أن أكون علي مقربة من هذا الرجل الأستاذ حسن الهضيبي . وقد تكون أنت من أقرب الناس إليه ، ومن ألصق الإخوان به ، وأنا أحب أن تحدثني عنه حديثا صريحا يكشف لي عن حقيق شخصيته . فقال الباقوري : أنت محق في استفسارك هذا . ومن حقك أن تعرف عن دخائله قبل أن تعرف عن ظواهره . ولقد تعرفت علي هذا الرجل وجالسته وحادثته وناقشته فسرني وأعجبني وملأ نفسي في جميع الجوانب التي نشدها في قائد للدعوة – غير أن شيئا بقيفي نفسي جعلني لا أجرؤ علي أن أخلطه بنفسي وأن أخلط نفسي به ، ذلك أنني كنت أحس أن الرجل من طبقة الارستقراطيين بحكم منصبه ومكانته الاجتماعية (ينبغي أن يعلم القارئ أن كبار رجال القضاء في ذلك الوقت – وكانوا قلة – كان الشعب يبنظر إليهم باعتبارهم أعلي طبقة في الأمة ، وكانت الدولة تعاملهم بهذا الاعتبار نفسه ماديا وأدبيا) .. حتى دعاني في يوم إلي منزله ، فلما جاء وقت الطعام ، رأيت الطعام يقدم كما نقدمه في بيوتنا ، ويجلس أبناؤه معنا كأنهم إخوتنا حتى إنه بعد تناول الطعام اقترح علي أن أقيل ساعة ، فإذا بي أعطي وسادة ، كما أخذ كل من أبنائه وسادة ونمنا علي أرض الحجرة – حجرة الجلوس – تماما كما كنا نفعل في المركز العام وفي بيوتنا وفي بيت الأستاذ الإمام – فعلمت أنني كنت علي خطأ في سوء ظنيبالرجل في هذه الناحية .. ومنذ ذلك اليوم وأنا أشعر أنه منا ونحن منه ، كما كنا مع حسن البنا رحمه الله وكان معنا .
• في أعقاب المقابلة الملكية :
بعد لقائي هذا مع الأستاذ المرشد ، التقيت في القاهرة بالأخ الأستاذ عبد الحكيم عابدين ، وقصصت عليه ما أنبأنيبه الأستاذ المرشد عن المقابلة . فأخبرني عبد الحكيم بأن الذي حدثبعد المقابلة كان أغرب . فقد حضر إلي المركز العام – بعد المقابلة بيوم أو نحوه – الأستاذ كريم ثابت باشا يحمل معه صورة فاخرة للملك في إطار فاخر ، مهداة إلي حضرة صاحب العزة الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين ، وموقعة بتوقيع الملك . وقدمها كريم ثابت إلي الأستاذالمرشد مقترحا عليه أن يعلقها فوق مكتبه بالمركز العام حيث كانا جالسين معا . ثم نهض الرجل وسلم وخرج . ودخل الإخوان بعد ذلك فرأوا الصورة ، وبهروا لفخامتها ، ومنهم من رأي جدارتها أن تعلق . ولكن الأستاذ المرشد طلب منهم أن يتركوا له اختيار مكان تعليقها .. قال الأستاذ عبد الحكيم / زانتظرنا أن نري الصورة معلقة في مكتب الأستاذأو في أية حجرة أخري بالمركز فلم نرها ، فسألناه فقال : إنني أخذتها في بيتي . قال الأستاذ عبد الحكيم : فذهبت إلي منزل الأستاذ المرشد منتحلا سببا من الأسباب ولكن كان قصديأن أري أين علقت الصورة في بيته ، فدخلت حجرة الجلوس كالمعتاد فلم أرها . وترددت علي المنزل أكثر من مرة فلم أرها . فعزمت علي أن أذهب إلي المنزل هذه المرة ولا أغادره حتى أعرف أين وضعت هذه الصورة .. فدخلت البيت وتعمدت أن اتناول طعام الغداء فلم أرها في حجرة الطعام فانتحلت أسباب لدخول كل البيت فلم أعثر عليها في أية غرفة . فيئست وعزمت علي أن ألح علي الأستاذ ليحل لي هذا اللغز .. حتى إذا حان وقت الصلاة طلبت أن أجدد وضوئي ، فدخلت دورة المياة .. وكانت المفاجأة .. فقد وجدت الصورة ملقاة علي أرض الدورة مركونة علي أحد جدرانها .. فذهلت .. ولما قابلت الاستاذ المرشد حدثته في ذلك فقال لي : " هذا هو مكانها " . وقال لي الأستاذ عبد الحكيم : ولم يحفل المرشد بزيارات متكررة من أشخاص كان يعلم أنهم موفدون من قبل القصر ليروا أين وضعت الصورة . الفصل الثالث : حريق القاهرة أو الخطة الجهنمية لإحباط المقاومة :
• انتخابات نادي ضباط الجيش في 31/12/1951 :
هذه النقطة قد يظنها القارئ بعيدة عما نعالج من موضوع . ولكنها في الحقيقة هي جزء منه لا يتجزأ ، إذ هي إحدى معالم الطريق الذي قرر الشعب أن يسلكه ، وهي إحدى ثمرات التوعية والجهاد الطويل الممتد منذ عشرين عاما في غمار الشعب وفي صفوف الجيش .. وهي الإرهاص بأحداث جسام موشكة أن تقع في البلاد ، تغير قسمات وجهها ، وتقلب موازينها . نعم إن انتخابات نادي ضباط الجيش عملية دورية كانت تجري دون أن يحس بها أحد ، ودون أن تثير اهتماما ؛ لأنها في ذاتها أمر عادي كانتخابات نادي ضباط البوليس وانتخابات نوادي التجاريين والزراعيين والأطباء ومن إليهم . ولو أن هذه الانتخابات حدثت قبل هذا التاريخ بعام أو بعامين أو نحو ذلك لما كانت ذات دلالة خاصة ، ولا ذات أهمية تذكر .. ولكن وقوعها في هذا التاريخ جعلها وكأنها صدي للدوي الهائل الذي انبعث من صفوف الشعب واستجابت له الحكومة آخر الأمر ، فألهب المشاعر ، وفجر العواطف الوطنية . ولقد تحفزت الجبهات المختلفة في البلاد لهذه الانتخابات ، وأعدت كل منها العدة لخوضها ، باعتبارها إحدى جولات المباراة النهائية فيما بينها ، فالملك ومن ورائه النفعيون يحشدون أنصارهم ، ويقفون وراء مرشحيهم التقليديين بالمال والنفوذ والوعود والإغراء – والإخوان ومن يريدون في فلكهم بضباطهم الصغار يعدون لإسقاط مرشحي وإنجاح رجل عرف بالشجاعة والنزاهة والتدين والوطنية هو اللواء محمد نجيب الذي كان الملك يعتبره عدوه اللدود . ونظرا لأهمية هذه الانتخابات وخطورة نتائجها رأينا أن نرشح بها لهذا الفصل وسنورد هنا تفصيلات دقيقة لما تم في الاجتماع الذي وضع أسسها وتمخضت عنه نتائجها وهو اجتماع الجمعية العمومية . وإليك القرارات والتفصيلات . أولا – ضم هذا الاجتماع نحوا من خمسمائة ضابط ومنهم الفريق عثمان المهدي باشا رئيس أركان حرب الجيش . ثانيا – تقرر فيه ضم نادي سلاح البحرية إلي إدارة النادي حتى تمثل جميع أسلحة الجيش . ثالثا – رفض اقتراح بضم سلاح الحدود كسلاح منفصل حيث إن هو إلا فرع من فروع الجيش – ومما يجدر ذكره أن اللواء حسن سري عامر قد عين من بعد الحكم الذي أصدرته المحكمة ببراءته – مديرًا لسلاح الحدود محل اللواء محمد نجيب الذي نقل إلي سلاح المشاة . وسري عامر كان رجل الملك ومن أقرب المقربين إليه – وبذلك استبعد سري عامر من الانتخابات نهائيا . رابعا – عدلت المادة السابعة من قانون النادي والتي كانت تقضي بأن يكون رئيس النادي هو رئيسهيئة أركان الجيش ، إذ رؤى أن يكون رئيس النادي بالاقتراع – وينشأ منصب جديد هو رئيس شرف النادي يتولاه القائد العام للقوات المسلحة ، باعتباره قائد جميع أسلحة الجيشلا بصفته الشخصية ، علي أن يعطي الرئيس المنتخب جميع حقوق الرياسة ، وبذلك تتول إليه الاختصاصات التي كانت منوطة برئيس أركان حرب الجيش وهي المتكلم باسم النادي وتمثيله خامسا – رفض اقتراح بأن يعين وكلاء شرف للنادي رئيس أركان حرب الجيش وقائد الطيران وقائد البحرية . سادسا – العدول عن قيام كل سلاح بانتخاب ممثليه في مجلس الإدارة ، وتقرر أن تقوم الجمعية العمومية للنادي مجتمعة بانتخاب هؤلاء الممثلين . سابعا – العدول عما جاء بالمادة الثامنة من أن يدير النادي مجلس إدارة مؤلف من رئيس لا تقل رتبته عن أميرالاي وسكرتير وأمين صندوق لا تقل خدمتهما عن 15 سنة وكذلك 19 عضوا يمثلون الضباط بتوزيع الأسلحة – وتقرر الاستغناءعن شرط الخدمة بالنسبة للسكرتير وامين الصندوق . ثم أجري الانتخاب فأسفر عن الآتي : الرئيس – اللواءمحمد نجيب 276 صوتا (انتخب) – اللواء سيد محمد بك 34 صوتا – اللواء إبراهيم الأرناءوطي19 صوتا – الميرالاي محمد نايل 13 صوتا . الحاشية العسكرية – بكباشي فوزي يحيي إمام 259 صوتا " انتخب " . البحرية – بكباشي أنور عبد اللطيف 298 صوتا (انتخب) – بكباشي أحمد عبد الغني 267 صوتا " انتخب " – أمير البحر أحمد ثروت بك 71 صوتا . الطيران – قائد جناح محمد بهجت مصطفي284 صوتا " انتخب " – قائد جناح عز الدين رمزي 52 صوتا – قائد جناح جمال سالم 27 صوتا – قائد أسراب عمر شكيب 27 صوتا – قائد أسراب حسن إبراهيم 50 صوتا . المشاة – بكباشي زكريا محيي الدين 316 صوتا " انتخب " – بكباشي أحمد حمدي عبيد 296 صوتا " انتخب – صاغ محمد جمال الدين 286 صوتا " انتخب " – بكباشي محمد صلاح توفيق 58 صوتا – بكباشي أسعد رفله 11 صوتا – صاغ علام خالد علام 16 صوتا . المدفعية – بكباشي محمد رشاد مهنا 331 صوتا " انتخب " – بكباشي إبراهيم عاطف 220 صوتا " انتخب " – بكباشي محمد فوزي37 صوتا – قائمقام إبراهيم فؤاد شرف 16 صوتا – صاغ أحمد كامل 61 صوتا – صاغ سراج الدين 6 أصوات . الفرسان – الأميرالاي حسن حشمت فاز بالتزكية . الإشارة – يوزباشي محمد أمين شاكر 256 صوتا " انتخب " – صاغ محمد لاشين 38 صوتا – الصاغ نوفل 37 صوتا – المهمات – قائمقام عبد الرحمن فوزي 301 صوتا " انتخب " – بكباشي أحمد حسني السيد 36 صوتا . الصيانة – بكباشي عبد العزيز الجمل 209 صوتا " انتخب " . المهندسين – إبراهيم فهمي دعبس 324 صوتا " انتخب " . الطب – الأميرالاي عياد إبراهيم بالتزكية . خدمة الجيش – بكباشي عبد الرحمن أمين 286 صوتا – " انتخب " . المحاربون القدماء – بكباشي جلال ندا 245 صوتا " انتخب " . هذا وقد حاول الملك في خلال فترة الإعداد لهذه الانتخابات وفي أثناء إجرائها وبعد إتمامها محاولات شتى ، منها أن يأمر بإغلاق النادي ، ومنها أن يصدر أمرا بلغاء الانتخابات ، ومنها أن يصدر أمرا بإبعاد اللواء محمد نجيب من الجيش .. لكن مستشاريه والمقربين إليه رأوا أن أدني الأضرار هو أن يترك كل ما تم يأخذ طريقه ، وأن يعمل هو بكل الوسائل علي التقرب من الجيش ، واسترضاء ضباطه بالاتصال بهم والإغداق عليهم .. وقد أخذ الملك بهذه النصيحة وبنصيحة أخرى . ويري القارئ في الصفحات القادمة إن شاء الله كيف كان ذلك .
حـريـق القـاهــرة
بعد إلقاء شعاع من الضوء علي معلم من معالم هذه الفترة الحرجة مما قد يشبه أن يكون في ظاهره استطرادا نرجع إلي السياق فنقول : انطلقت المقاومة الشعبية بالرغم من بعض الأخطاء التي تخللتها ، والتي كان مبعثها بعض تصرفات من الحكومة ومن بعض فئات لم تخض المعركة لخدمة القضية الوطنية ، بل لكسب الصيت والشهرة والتقرب إلي الحكومة ، ولكن أمثال هذه الفئات لم تستطع الوطنية المواصلة ، وسار ركب المقاومة النظيفة في طريقه إلي آخر الطريق ؟ فأشاع الذعر في أوساط الجيش المحتل ، وأدخل اليأس وفي قلوبهم من استطاعتهم وقف زحف هذه المقاومة أو النيل منها أو حتى تخفيف وطأتها . وليس أشد علي العدو من مقاتلين يقاتلونه وهم يطالبون الموت . فهم لا يبالون بشيء ، ولا يوقف زحفهم سلاح ، ولا يحمي منهم دروع أو حصون .. ومع ذلك فهم يؤثرون ألا يعلم بجهودهم إلا الله وحده الرجال كفاحا مريرا ، وتساقط منهم كثير من الشهداء دون أن يعرف الناس أسماءهم ، راضين بما ادخر الله لهم من جنات عرضها السموات والأرض .. ولولا أن الإخوان لم يروا بدا – لكي يلهبوا مشاعر الشعب ضد المحتل – من إبراز بعض الصور المثيرة لما سمحوا بتشييع جنازات بعض شهدائهم علي الهيئة التي شيعت بها شعبا ونشرت عنها الصحف الوطنية – ومع ذلك فقد كان الإخوان حريصين علي أن ينسبوا هؤلاء الشهداء إلي جامعاتهم وكلياتهم لا إلي الإخوان .
• السهم الأخير • إشعال النار في كنيسة السويس :
" فرق تسد " هي السهم الأخير دائما في جعبة الانجليز ، وهي خطتهم المدخرة ، بالرغم من خسة هذه الخطة وحقارتها فإنها يستبيحونها ويلجئون إليها حين تتعقد أمامهم الأمور وتتسد المسالك ويسقط في أيديهم – وهم يحتفظون دائما فريق من الخونة يستعمولونهم في تنفيذ هذه الخطة القذرة . فلما يئسوا من وقف الزحف الإخواني المكتسح لجئوا إلي هؤلاء الخونة ، فأوعزوا إلي عدد منهم يتسمون بأسماء المسلمين – والإسلام برئ منهم – أن يقوموا بإشعال النار في كنيسة الأقباط في السويس لتتجه الأنظار إلي الإخوان المسلمين . وتمت الخطة بنجاح ، وكادت تفسد حملة المقاومة ، لولا أن تنبهت الحكومة والإخوان إلي خطورة المؤامرة فقام المرشد العام بزيارة البطريرك ، ونشرت الصحف نبأ هذه الزيارة في مكان بارز في 19/1/1952 تحت عنوان " البطريرك والمرشد يتعانقان – مسبحة من البطريرك للمرشد " وقالت : " توجه الأستاذ حسن الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين في الساعة الخامسة من مساء أمس إلي دار البطريركية حيث قابل غبطة البطريرك الأكبر الأنبا يوساب ، ودام الاجتماع نصف ساعة ، وقد حضره معالي مكرم عبيد باشا ونيافة مطران الجيزة . وقد أكد غبطة البطريرك للمرشد أنه لم يتهم الإخوان المسلمين ولن يفكر في اتهامهم بشأن حادث كنيسة السويس ؛ لأنه يعلم مبادئ لإخوان المسلمين ومحافظتهم علي حرية الأديان . ودار الحديث حول الوحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين .. ومما قيل أنه علي المسلم والقبطي أن يعبدا ربهما كل حسب تعاليم دينه ،ولكنهما في الوطنية سواء . والكفاح من أجل مصر يقع علي عاتق المصريين جميعا أقباطا ومسلمين – وقد كان هذا الاجتماع مظهرا من مظاهر الوطنية والإخاء بين العنصرين . وعند خروج فضيلة المرشد اهداه غبطة البطريرك مسبحه من الكهرمان ثم أوصله إلي الباب حيث تعانقا علي مشهد من جمع كبير من الأقباط والمسلمين – وودع غبطة البطريرك فضيلة المرشد متمنيا له كل نجاح وتوفيق في الدعوة للدين الإسلامي " – ونشرت الصحف صورتهما وهما يتعانقان . وفشلت الخطة . وطاش السهم الأخير . وافتضح التدبير الأثيم .. ولم يعد أمام العدو المختل إلا التسليم ... ولكنه لم يسلم .. كان شارع فؤاد الأول (شارع 23 يوليو الآن) في ذلك الوقت أعظم شارع تجاري في القاهرة . وكانت أكثر المحلات التجارية فيه ملكا لأجانب من البريطانيين وغيرهم من مختلف الجنسيات . وفي يوم 26 يناير سنة 1952 – حيث كانت المقاومة الشعبية ضد الجيش البريطاني المحتل قد بلغت ذروتها . ولم يجد بريطانيا نفعا تدخل دول حليفة لها مثل الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا محاولين وقف سيل المقاومة – في صبيحة ذلك اليوم شبت النيران في هذا الشارع علي حين غرة وفجأة ودون مقدمات . وكان الاشتعال من الفظاعة بحيث أن كل قوات الإطفاء في القاهرة وضواحيها لم تستطع حصر النيران ولا وقف امتدادها إلا في المساء بعد أن أتت علي كل شيء .. فكان حريق هذا الشارع بما فيه – وفيه ثروة البلاد – من الحرائق التاريخية العالمية وسمي بحريق القاهرة.
• حـول هذا الطـريق :
وحريق القاهرة هذا لم يكن أول حريق ولا آخر حريق ، ولكنه مع ذلك كان أغرب حريق ، فالأمر المثير فيه هو أنه لازال حتى اليوم لغز التاريخ الذي لم يعرف له حتى اليوم حل ، ولم يعثر له علي تعليل قاطع ، ولم بتوصل إلي معلومات أكيدة عن فاعله . ولقد وقع هذا الحادث الجسيم فجأة ودون مقدمات ، وبطريقة تنفي تمام النفي أن يكون قضاء وقدرا . فقد يشب الحريق قضاء وقدرا في منزل من المنازل أو في أحد المحال التجارية ، وكثيرا ما يحدث هذا ... أما أن يشب الحريق في اعظم شارع تجاري في القاهرة ، وفي جميع محاله في وقت واحد .. فهذا لابد أن يكون تدبير مسبق وبخطة محكمة ، بل لابد أن يكون المديرون وواضعو الخطة خبراء وذوى سلطة ونفوذ . فشارع فؤاد الأول بالقاهرة شارع فسيح وطويل ويضم أعظم المحال التجارية في مصر . وليست هذه المحال محال لبيع البنزين أو البترول أو الكبريت أو المواد الملتهبة . كما أن هذه المحال لا خزن فوق سطوحها حطب القطن أو قش الأرز كما يحدث في القرى حتى نقول أن هذه المواد الملتهبة بداخل المحال والقش هذا الحريق بتدبير . ولابد أن يكون هذا التدبير تدبير ذوي سلطة ونفوذ ، ولابد أن يكون للسياسة يد في إحداثه وفي توقيته وأن يكون لفاعليه هدف أو أهداف تحقق لهم مأربا .. ولكن يكون بحثنا وراء هذا الحادث بحثا مستنيرا يجب أن نلم بشيء من الظروف التي أحاطت بهذا اليوم الكئيب .
• صورة الموقف السياسي قبيل الحريق :
كان الموقف في تلك الأيام في مصر علي الوجه الآتي : أولاً – قبل أن يتم الإفراج عن كثيرين من معتقلي الإخوان المسلمين . وقبل أن يلتئم شمل الدعوة ، كانت الانتخابات النيابية في مصر قد تمخضت عن فوز حزب الوفد ، وتولت الحكم وزارة وفدية برياسة مصطفي النحاس ، وكان فؤاد سراج الدين أبرز شخصية فيها – وقد تحدثنا عن موافقة هذه الموارد بعد مماطلات طويلة علي إعادة الصفة القانونية للإخوان المسلمين لاسيما بعد أن صدرت أحكام قضائية في صالحهم ،وهذه الحكومة تعلم أن الإخوان المسلمين ليسوا ممن يشترون أو يباعون ، ولكنها اتخذت هذا الإجراء الصحيح أهخيرا تقربا إلي الرأي العام الذي كان في ذلك الوقت قد تكشفت له حقائق الأمور . ثانيًا – وكما سايرت هذه الحكومة الرأي العام في إعادة الصفة القانونية للإخوان المسلمين ، فإنها اضطرت إلي مسايرته أيضا في أمر لا يقل خطورة عن ذلك هو إلغاء معاهدة سنة 1936 . ومناداة حكومة الوفد في تلك الحقبة من الزمن ، ومناداة غيرها من الحكومات التي وليت السلطة في نفس الحقبة بسقوط معاهدة 1936 لم يأت من فراغ ، ولم يكن وحيا هبط علي هذه الحكومات فجأة ،وإنما كان وليد ضغط بدأ الإخوان منذعام 1938 . وقد انضج هذا الضغط وبعثه حيا في نفوس المصريين انتشار الوعي الإخواني في أوساط الناس مع اتساع دائرة غزوهم لأفكار الشعب وقلبه – ثم حول هذا الضغط إلي نار مشتعلة في النفوس حرب فلسطين وما تلاها من أحداث جسام جعلت هذا الشعب الغافل يستيقظ علي حقائق مريرة طالما أخفيت عنه . أقول : أن وزارة الوفد لم تقرر إلغاء المعاهدة إلا راغمة تحت ضغط تيار شعبي جارف لا يقوي علي مواجهته حزب ولا هيئة ولا حكومة ... ثالثًا – إلغاء حكومة الوفد لمعاهدة 1936 اقتضي مواجهة بين هذه الحكومة وبين الانجليز المعسكرين بمنطقة القناة ، ولم تجد حكومة الوفد بدا من المواجهة ، ولكنها حاولت أن تحصر هذه المواجهة في أضيق نطاق ، وأن تجعلها مجرد مواجهة رمزية . لكن الحركات الشعبية انتهزت هذه الفرصة وحولت المواحهة الرمزية إلي مواجهة حقيقية . واستطاعت هذه الحركات توحيد صفوفها وقامت بدور كبير أقض مضاجع الانجليز . وأخذت روح المقارنة تسري فيأوساط الشعب – وكان الانجليز أول ما أحس بخطورة هذه الظاهرة – ومن طبيعة الانجليز ألا يواجهوا عدوهم إذا شعروات بمقاومة جادة منه ، ولكنهم يحاولون البحث عن وسيلة أخرى لإفساد خطته قبل وقوعها . رابعًا – من الأوساط التي سرت فيها روح المقاومة الجيش المصري – وقد اشترك فعلا في المقاومة أفراد من ضباط الجيش . وأحس أفراد آخرون من الجيش بأن المقاومة إذا استمرت علي الطريقة البطئية التي تسير عليها فإن الأمر سيطول وتكثر الضحايا ، وقد تقع الحكومة تحت ضغط لا تتحمله من العدو فتتراجع وتنكص علي أعقابها .. فبدأ هؤلاء الأفراد سرا يخططون لانقلاب يستولون فيه علي الحكم . خامسًا – بعد أن زالت الوحشة التقليدية التي كانت بين الملك وبين حزب الوفد ، علي أثر التقارب الذي تم علي يد سراج الدين ، لم يشعر الملك بغضاضة في تهيئة الجو للوفد أن يحتل مناصب الحكم عن طريق إجراء انتخابات – ولا أعتقد أن الملك كان سيفكر في يوم من الأيام في التخلص من الوفد بإبعاده عن الحكم ؛ لأنه في ظل الوفاق الذي نشأ بينهما استطاع أن يحظي بتحقيق قسط من مآربه أكبر مما كان يحظيبه في ظل الحكومات الأخرى . سادسًا – ثم طرأ موضوع إلغاء معاهدة 1936 ،ويبدو أن الملك لم يكن ينظر إلي هذا الموضوع نظرة جادة في أول الأمر ، كما اعتقد أن الوزارة نفسها لم تكن تتصور الأمر يتعدي الإجراءات ثم تهدأ الأمور ، ويستقر الوضع كما كان ، علي أن يعتبر وجود الانجليز في منطقة القناة غير قانوني .. ويخرج الملك والحكومة من هذا الموقف ببطولة يتباهو بها أمام الشعب .. ولكن الأمور لم تسر في الطريق الذيرسموه لها ، وإنما تعدته وخرجت عليه ، وتفرعت وتشعبت ،ووجد الملك نفسه وحكومته أمام شركة ضارية لا سبيل إلي السيطرة عليها ولا أمل في إنهائها . أما حكومة الوفد فإنها خشيت إن تراجعت وأن بقاؤه في منصبه مرهون برضا الانجليز عنه . سابعًا – أن الملك – بعد أن استنفد جميع الوسائل للقضاء علي الإخوان ، ثم فوجئ برجوعهم أقوي مما كانوا ، ورأي جميع الخيوط قد صارت في أيديهم – حاول استرضاءهم كما بينا من قبل . وكان يظن أنهم من السذاجة بحيث يتعامون عن كل ما هو غارق فيه من المجون ويفتحون له أذرعتهم – فلما رأي عزوفهم عنه . وإهمالهم لشأنه ، لم يجد له سندا إلا الانجليز . من البنود السبعة السابقة قد يستطيع القارئ أن يري – من خلال الظلام الحالك المحيط بهذا الحادث – أصبع أتهام تشير إلي جهات معينة .. وقد يكون أبرز هذه الجهات وضوحا شخصية الملك فاروق وقد تبدو من ورائها شخصية الانجليز .
• صورة من جانب آخر للموقف قبيل الحريق :
أنا لا أدعي أنه كان لدي الإخوان أية أثارة من علم بهذا الحريق قبل أن يشب ولا حتى بعد أن شب التهم أعظم متاجر البلاد علي جانبي هذا الشارع .. ولكن الإخوان كانوا علي علم بكل الأحداث وبكل الاستعدادات التي كانت مختلف الجهات في البلاد تخطط لها ، والتي عرضت في السطور السابقة صورا منها . كان الإخوان يعلمون بأن حكومة الوفد ستقدم علي إلغاء معاهدة 1936 وهي لا تقدر عواقب هذا الإلغاء ، ويعلمون أن الملك فاروق متضامن مع هذه الحكومة علي أساس أنها لعبة لا خطر فيها ولكنها سترفع أسهمه لدي الشعب بعد أن وصلت إلي الحضيض . وكان الإخوان يعلمون مدي خطورة هذه الخطوة وهي إلغاء المعاهدة فإن هذا الإلغاء إذا لم يقترن بحركة مقاومة شعبية تؤيدها الحكومة فإنه سيكون مجرد حبر علي ورق .. وأن إحراج الحكومة في أتخاذ هذه الخطوة ثم مفاجأتها بحركة مقاومة شعبية سيضعها هي والملك في مأزق ، وسيجعل تراجعهما أمرا مستحيلا .. ولذا فإن الإخوان كانوا أول المستجيبيين لحركو المقاومة التي تطوع لها شباب من مختلف الهيئات في البلاد .. وقد وصلت المقاومة بالقضية إلي الحد الذي لا يمكن لأي طرف فيها التراجع خطوة واحدة . وكان الإخوان يعلمون أن الملك فاروقا – نتيجة انتشار الوعي الصحيح في الشعب والجيش – ويفقد كل يوم أرضا .. وأنه حاول أخيرا تلاقي هذا الفقد المستمر فلجأ إلي تملق الجيش والإخوان .. أما الجيش فأسبغ عليه ترقيات وإنعامات تلفت النظر .. وأما الإخوان فالتقي بمرشدهم الجديد ، وحاول تقديم نفسه إليه علي أنه جندي من جنود الإسلام ، كما حاول أن يعقد معه صداقة . كان الإخوان يعلمون أن دور الأحزاب في مصر قد انتهي ، وأن الملك يعلم ذلك ، ولذا فإنه كان يتحسس في الساحة لنفسه سندا آخر من الجيش ومن الإخوان – ويعلمون أن الملك في آخر المطاف قد فهم أن الاعتماد علي كبار ضباطك الجيش ليس إلا وهما سخيفا ، فأخذ يتقرب إلي صغار الضباط – وكان ضباط الإخوان في الجيش يعرفون زملاؤهم من صغار الضباط الذين استمالهم الملك من جانبه ، ولم تكن تكوينات الإخوان تخشي بأس هؤلاء ؛ لأنهم لا يعلنمون يوحي من إيمانهم . كان للإخوان في الجيش تكوينات تعمل وتعد العدة كما كانت هناك تكوينات أخري في الجيش علي صلة بالإخوان تعمل هي الأخرى وتعد العدة . وكان الإخوان يفسحون الطريق لجميع التكوينات السليمة الهدف أن تعمل ، علي أن يكون الإخوان سند الجميع وموئلهم في أثناء العمل وبعد العمل . وكان الإخوان يعلمون أن الملك قد وضح له أن محاولته كسب الإخوان إلي جانبه قد باءت بالفشل وألا أمل في محاولات أخري – كما وضح له أن تملق الجيش لم يؤت ثماره جديدا علي شعوره بالضعف فأخذ هؤلاء يعدون العدة لانقلاب ... وأخيرا وضح له ألا أمل في سند إلا أن يكون من الانجليز .. ولكن استرضاء الانجليز مع وجود المقاومة الشعبية أمر من المحال . وأحس في نفس الوقت أن حكومة الوفد لن يستجيب له إنه هو طلب إليها إجهاض المقاومة لأن في ذلك القضاء علي ما بقي للوفد من شعبية . بعد أن وضح للملك كل هذا ، كان عليه أن يفكر فيما يواجه به كل هذه الأوضاع .. وقد يتبادر إلي ذهن القارئ أن أيسر الحلول لمقابلة هذه المعضلات هو أن يغير الملك طريقته في الحياة ، ويقلع عن حياة اللهو والمجون ، ويستقيم علي أمر الله .. ونقول : إن هذا هو أيسر الحلول وأجداها نفعا ؛ لأن الشعب لم يكن يكره الملكية لذاتها ، وإنما كان يكرهها للمثل السيئة التي كانت تشغل منصبها وما يقترن بحياتهم من الظلم والفسق والمجون .. ثم نقول . إن هذا الحل مع كونه حلا مجديا وهو أقصر الطرق فإنه لم يكن واردا ؛ لأن الملك كان قد انحدر في حمأة المجون انحدارا جعله كالمدمن الذي لا يفيق . فما هو الحل إذن الذي هداه تفكيره إليه ؟ لم يكن الإخوان يتصورون أن يواجه الرجل هذه الأوضاع – وإن كانت موئسة – بهذه الخطة الشيطانية التي لا تعتقد أنه هو الذي وضعها وحده ، والتي تذكرنا بما فعله نيرون يرونا .. واعتقادنا أن هذه الخطة أن يكون الانجليز واضعيها أو أن يكونوا علي الأقل المشيرين بها ؛ لأن مصلحتهم قد اتفقت تماما مع مصلحة فاروق .. ولأن فاروقا لم يكن ليجرؤ علي إحراق بضائع بمئات الملايين يملكها جميعا رعايا انجليز وأوربيون ألا أن تكون انجلترا قد أومأت له بالتغاضي عن هذه الخسارة في سبيل إنقاذ ما هو أهم ، وأعظم قيمة من مصالح الإمبراطورية .
• حفل مريب في توقيته :
ثامنا – ومما يعزو هذا الاتهام ، تصرف عجيب فائق الغرابة ،وقف الجميع أمامه مشدوهين ذاهلين حائرين .. هل حدث هذا التصرف مصادفة أم كان ترتيبا معدا ؟! . ذلك هو أن يقيم الملك بقصر عابدين مأدبة غداء ابتهاجا بمولد ولي العهد ، ويدعو إليها ضباط الجيش والبوليس من مختلف الرتب ، وأن يحدد لهذه المأدبة ميعادا هو يوم 26 يناير 1952 ... والذين يعتقدون أنه كان ترتيبا معدا يقولون : أنه كان وسيلة لرخلاء القاهرة في ذلك اليوم من الضباط ليخلو الجو لمديري الحريق . أن يبلغوا به أقصي مداه دون أن يعترضون معترض .. ونثبت فيما يلي نص كلمة الملك التي ألقاها في هذا الحفل : " ضباطي .. فكرت اليوم في إلغاء هذه المأدبة بسبب الظروف الطارئة ، ولكني عدلت عن ذلك لما لكم في نفسي من مكانة , ولرغبتي في أن أتحدث إليكم . ولم أجد مناسبة للاجتماع بكم والتحدث إليكم خيرا من مناسبة مولد ابني ولي العهد – ويهمني أن أوجه نظركم إلي اهتمامكم بموضوع تدركون جميعًا أهميته وفائدته في النظام للعسكر وهو موضوع . " الضبط والربط " . ومجرد قراءة هذه العبارات التي جاءت علي لسان الملك مخاطبا الضباط تشعر القارئ بأن هذا الرجل إما أن يكون أبله لا يقدر الظروف التي أظلت البلاد في ذلك اليوم ، وإما أن يكون مكتواطئا إن لم يكن مدبرا لهذه الظروف .. فالعبارات من التفاهة بحيث لم تكن تستحق هذا الإعداد الضخم الذي حشد له هذا الحشد الكبير من ضباط الجيش والبوليس ما لم يحشد مثله من قبل .
• من نتائج الحريق : (1) حول هذا الحريق بآثاره المدمرة الأنظار عن منطقة قناة السويس وما كان يجري فيها من تحرش بالجيوش الإنجليزية إليقضية جديدة هي كيف وقع هذا الحريق ومدى الكارثة التي حاقت بالبلاد بوقوعه . وكيف تتلاقي البلاد هذه الآثار ، فقد كان من هذه الآثار ما يلي :
أ – قبض علي ثلاثمائة شخص وأحيلوا إلي النيابة للتحقيق معهم . ب – قتل ثلاثة من كبار الموظفين الانجليز . جـ- تلقت وزارة الخارجية احتجاجات من جميع الدول لما وقع علي رعاياها في الحوادث الأخيرة ووصل عدد من هذه الاحتجاجات إلي عشرين احتجاجا . د – طالبت أمريكا وبريطانيا وفرنسا وسويسرا بتعويضات مادية عما لحق أفرادها ومصالحها من أضرار . (2) أتاح هذا الحريق للملك فرصة يسترد فيها أنفاسه ، ويتدبر فيها أموره مع الانجليز الذين صاروا أمله الوحيد . (3) أجهض هذا الحريق حركات كانت قد أعدت عدتها كاملة للقيام بانقلاب عسكري في ذلك اليوم نفسه الذي شب فيه الحريق . وكان الإخوان علي علم بهذا الإعداد للانقلاب وكانوا متأهبين لحمايته . ويبدو أن مخابرات الانجليز ومخابرات الملك كشفوا سر هذا الإعداد قبل اليوم المحدد لتنفيذه حتى إنهم اختاروا نفس اليوم لإشعال الحريق . (4) اتخذ هذا الحريق مبررا لإسقاط حكومة الوفد حيث نسبوا إليها الضعف والإهمال ، فكيف يشب حريق يلتهم أعظم شارع في القاهرة دون أن تستطيع بأجهزتها المتشعبة في كل مكان أن تضع يدها علي المدبرين قبل أن يقوموا علي تنفيذ جريمتهم ، وإذا فاتها ذلك وشب الحريق فلم لم تعمل بأجهزتها علي حصره في أضيق نطاق وعلي سرعة إطفائه ... مساءلة يوجهها إلي الحكومة أدري الناس باستحالة الوقوف في وجه السيل المنحدر .
• تقييم حكومة الوفد تقييما منصفا :
كان مجئ حزب الوفد إلي الحكم هذه المرة – بعد طول غياب – مجئ إنسان ضل الطريق في صحراء مجدية شاسعة ، وقد نفد زاده ، وأنهكه السير ، واستبد به العطش حتى أشرف علي الموت .. وقبل أن يسلم أنفاسه الأخيرة رأي يدا تمتد إليه بكوب ماء فتعلق بها .. فلما شرب ارتدت إليه روحه .. ولكنه ظل متعلقا بهذه اليد ، متشبثاً بها حتى لا يقع فريسة العطش القاتل مرة أخرى . كان الوصول إلي مناصب الحكم ضرورة من ضرورات الحزبية في مصر في ذلك الوقت ، فأنصار كل حزب يناصرونه علي أمل أن يئول إلي الحكم في يوم من الأيام فيعوضهم عما بذلوه ، ويغدق عليهم لقاء ما شدوا أزره وناصروه . وكان نصيب الوفد من فترات تولي الحكم أقل نصيب . وكانت الحزاب الأخرى غير الشعبية والمعروفة بأحزاب الملك تحظى من هذه الفترات بنصيب الأسد ؛ لأنها كانت تبيح للملك التصرف المطلق سواء في شئون الحكم أو في شئونه الخاصة الشخصية ، وهو ما لم يكن يحظي بمثله في فترات حكم الوفد . ويبدو أن الوفد – في خلال فترة إبعاده عن الحكم آخر مرة – فكر طويلا في هذه الظاهرة التي لازمته منذ إنشائه ، واستقر رأيه أخيرًا علي أن يصل إلي الحكم هذه المرة ويتجنب أسباب إبعاده مبررًا ذلك بأن وجوده في الحكم يتيح له الفرصة لإنجاز مشاريع ، وإتمام خدمات تعود علي الأمة بالخير . وولي الوفد الحكم ، واستبشر كثير من الناس ،وانتظروا علييديه الخير .. ومهما اختلف الناس في تقدير إنجازاته فإن الخطوة الجزئية التي اتخ1ذها في القضية الوطنية كافية أن تعد وحدها أعظم إنجاز . وكانت جديرة أن تبوئه أعلي مكان في قلوب الشعب لولا أن خطته الجديدة في مجاراة الملك قد أحرجت صدور الناس ؛ حتى أن أقرب أنصاره إليه وأخلص المخلصين من جنوده تمردوا عليه ، جاهروا بعصيانه ؛ لأنهم وجدوا هذه الخطة الجديدة نشازًا في أسلوب الوفد ، وخروجا عن مساره ، وتلطيخا لتاريخه ، وتناقضا مع مبادئه . ولو أن الملك كان ينتهج في حياته الشخصية نهجا سليما ، لاغتفر الناس للوفد تغاضيه عما يجنح إليه الملوك عادة من تخط لحدودهم في السلطة ومن تعد في بعض الأحياة علي سلطة الحكومة .. ولكن الذي أحرج صدور الناس أن الملك كان يسلك في حياته الشخصية مسلكا معيبا ؛ حتى أن هذا المسلك كان موضع نقد لاذع بل وسخرية من الصحف الأجنبية ، وكانت المجلات التي تصدر في أوروبا وأمريكا تتحدث عن لياليه الحمراء وجولاته في نوادي القمار .. ولقد كانت الحكومة المصرية تضطر إلي إرسال المراسيم إليه ليوقعها في هذه النوادي في أوروبا , ةلا ننسي انتقال الوزير عبد الفتاح حسن إليه حيث وقع بعض هذه المراسيم وهو علي مائدة القمار في مونت كارلو . وبدلا من ان تحتج هذه الحكومة علي هذه التصرفات المهينة أخذت في حمايتها والتستر عليها ، بإصدارها دخول هذه المجلات اتلأجنبية إلي مصر ، ثم سجلت علي نفسها بعد ذلك عارا لا يمحي بإصدارها قانونا يمنع الصحف المصرية من نشر أخبار القصر والأسرة المالكة إلا بعد عرضها علي وزير الداخلية وإذنه إذنا كتابيا بنشرها . .. ولما كانت مجالس النواب والشيوخ في مصر أداة طيعة في أيدي رؤساء الحكومات فقد أجيز القانون .. ولم يعارضه عنا إلا شابان من شباب الوفد جديران أن يسجل لهما التاريخ هذه المعارضة في صفحات الشجاعة والنزاهة والوطنية . وهما الشابان أحمد أبو الفتح والدكتور عزيز فهمي ، فقد هاجما المشروع مشروع القانون علي صفحات جريدة " المصري " بمقالات نارية ملتهبة ، وكان ذلك في خلال يونيه سنة 1950 . وفي الوقت الذي رفضت فيه هذه الحكومة طلب اعتماد مبلغ من المال لإنصاف رجال الأزهر كانت مئات الألوف من الجنيهات تعتمدها الحكومة لرحلات الملك الماجنة إلي موائد القمار في أوروبا . وكانت هذه السيرة النتنة قد أزكمت الألوف حتى أن الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر في ذلك الوقت نقلت عنه الصحف تعليقا علي رفض الحكومة ما طلبه الأزهر من اعتماد قوله : " تقتير في ناحية وإسراف في ناحية أخري " . وكان لهذا التعليق من شيخ الأزهر صدى واسع النطاق في جميع أوساط الشعب ، فقد قابلته هذه الأوساط بالرضا والاستحسان ، ولكن الحكومة – جريا علي سياستها – اعتبرت هذا القول تعريضا بالملك فأصدرت قرارا بإحالة شيخ الأزهر إلي المعاش . وبعد عام من إصدار هذه الحكومة قانون منع نشر أخبار القصر والأسرة المالكة إلا بإذن كتابي من وزير الداخلية ، وفي شهر بوليه سنة 1952 تقدمت الحكومة بمشروع قانون لتقييد حرية الصحافة ،وهو المشروع الذي تقدم به إليمجلس النواب النائب إسطفان باسيلي ... وهنا قامت قيامة الأمة علي اختلاف أحزابها وطوائفها ، حتى أن جريدة " المصري " تزعمت هذه الحملة وأقامت الدنيا وأقعدتها حتى أحبطت هذا المشروع ، والحكومة مصرة عليه ومصممة علب إنقاذه ، حتى أن فؤاد سراج الدين في 31/8/1951 وجه الكلام إلي الصحفيين فقال : " حكومة الوفد آخر ما يفكر في تقييد حرية الصحافة ، ولكن هذه الحرية ليس معناها إشاعة الفوضى والتطاول علي أسمي مقام " . وهكذا أرادت حكومة الوفد في هذه المرة أن تجمع بين الضدين ،وأن تسير في وقت واحد في طريقين متعارضين ، وأن تجعل المسجد مسجدًا وماخورًا في وقت معا .. ومثل هذا الأسلوب لا ينهي بصاحبه إلا إلي التمزق والتفتت والانهيار .. وهو ما حدث للوفد فعلا . لقد وقع حريق القاهرة وأسقطت حكومة الوفد .. وقد يظن بعض الناس أنه لولا وقوع هذا الحريق ما أسقطت هذه الحكومة ، ولكننا نقرر أن الشعب كان مصممًا علي إسقاط هذه الحكومة ؛ لأن حزب الوفد نفسه قد سقط من أعين الناس ، وانهار قدره العظيم من نفوسهم – ولكنه قد تزعم حركة إلغاء المعاهدة – فقد رأوا أن يصبروا عليه ويمهلوه حتى يتم المشوار ويكمل المهمة ثم يتفرغوا له بعد ذلك ويحاسبوه علي ما قدم من تستر علي مجون الملك وحماية لنزواته ، وتهجم في سبيل ذلك علي مقدسات الشعب وحرياته . ويخيل إلي أن وقوع حريق القاهرة كان من مصلحة الوفد في كل ناحية من نواحيه ، فإنه وقف بتدهور علي منحدر الدمار في نفوس الشعب عند حد ،وترك للوفد فرصته بسقوط حكومته في ذلك الوقت أن ينتحل لنفسه أعذارا فيما ارتكبته حكومته في خلال هذه الفترة من أخطاء جسيمة كما أن هذا الحريق قد أدرك هذه الحكومة في لحظة كانت مشوقة فيها – تحت الضغوط المائلة في كل اتجاه – علي التراجع عن المواقف الشجاع الذي سجلته لنفسها بإعلانها إلغاء المعاهدة .
• إلي من وجه الاتهام القضائي في الحريق ؟
كان علي البوليس والنيابة أن يوجهوا الاتهام في هذا الحريق إلي أشخاص تبعث ظروفهم علي الارتياب فيهم . ولم يكن أمامهما إلا تلك الفئة من الغوغاء والمحرومين الذين ينتهزون كل فرصة تتيح لهم السلب والنهب ... وحريق يشب في جميع المحال في أكبر شارع تجاري في القاهرة في وقت واحد هو أعظم فرصة لأمثال هؤلاء أن يتقاطروا علي هذه المحال ليجمعوا لأنفسهم وذويهم من بضائعها ما كانوا محرومين منه ... وهذه الفئة – وإن كانت هي التي ظهرت علي مسرح الحادث – فإنها ليست هي التي دبرته ولا يد لها فيه ... وقد أحالت النيابة هؤلاء – وهم عدد كبير – إلي القضاء . أما السياسيين فإن النيابة لم توجه اتهاماً إلا لهيئة واحدة هي الحزب الاشتراكي الذييتزعمه الأستاذ أحمد حسين . ولم يكن ذلك لأنهم ضبطوا أعضاء هذا الحزب متلبسين ، وإنما بنوا ذلك الاتهام علي ما دأبت عليه جريدة هذا الحزب نمن مهاجمة للنظام الذي يحكم البلاد بأسلوب عنيف مكشوف .. وقد اختفي الأستاذ أحمد حسين بعد الحريق فترة ثم قدم نفسه بعد ذلك إلي النيابة التي أمرت بالقبض عليه وحبسه علي ذمة تقديمه إلي القضاء . وأحب أن أقول ، أنه حتى لو كان الأستاذ أحمد حسين ورجاله قد اشتركوا فعلا في هذا الحريق ، فإنهم يكونون قد استغلوا دون أن يحسوا ودون أن يشعروا أن أحدا قد استغلهم .. وهذا النوع من الاستغلال لا يمارسه إلا رءوس كبيرة ذات آفاق واسعة ، وعلم غزير ، وقدرات فائقة .. وهؤلاء- في دولة كانجلترا – هم المخططون للمؤامرات ،والمدبرون للانقلابات . يعرفون عن الزعماء والهيئات في كل بلد مواطن القوة ونقاط الضعف . والطباع المميزة .. وعليهم اصطناع الظروف المهيأة ، فيجد هذا الزعيم ، وتجد هذه الهيئة نفسها مندفعة لاتخاذ مكانها في هذه الظروف المواتية لطباعها ، فنعمل عملها ، معتقدة أنها مندفعة إليه من تلقاء نفسها ، وهي في الحقيقة مدفوعة بالأيدي لأصحاب هذه الرءوس الكبيرة من المخططين . الفصل الرابع : الشعب يفيق من الضربة القاضية ويستأنف جهاده :
• إقالة وزارة الوفد بعد تورطها فيفرض الأحكام العرفية :
خرج الجميع من حريق القاهرة مبهوتين . إذ فوجئوا بما لم يكونوا يحتسبون .. ثم ثاب كل إلي رشده وأخذ يعيد النظر في حساباته من جديد ، مدخلا هذا العنصر الجديد – وهو حريق القاهرة بظروفه وآثاره – في حساباته . وفي حفل الضباط الذي أشرنا إليه ، والذي أقامه الملك لهم في نفس يوم الحريق أصدر تصريحا قال فيه : " إن البلاد تجتاز مرحلة دقيقة . وقد تمر بها مرحلة أقسي وأشد " ... وهذا كلام يكشف عن أن قائله يتحدث عن أمور لم يكن هو منعزلا عنها ولا مفاجأ بها . ويبدو أن الترتيب الذي وضعه المديرون كان ترتيبا محكما . فهو لا يقضي بإقالة حكومة الوفد فحسب ، بل إنه يرغمها قبل أن تقال علي أن تعلن الأحكام العرفية ، مما يصمها بجريرة وعار – وهو هدف مقصود - كما أن من الأهداف المقصودة أيضا أن يصدر إعلان الأحكام العرفية من حكومة شعبية مما يجعل وقعه علي نفوس الشعب أخف وطأة .. وهكذا أصدر النحاس باشا رئيس حكومة الوفد في نفس يوم الحريق البيان التالي الذي ظهر في الصحف صباح اليوم التالي : " أيها المواطنون الأعزاء " . لقد ألمني بالأمس – كما ألمكم – ما ارتكبه الانجليز المعتدون من وحشية باغية علي أبنائنا في القتال ، وبخاصة في الإسماعيلية ، حيث روعوا الناس ، ودمروا المرافق ، وأزاقوا دماء الأبرياء . وقد زادني ألما إلي ألم ، وحزنا إلي حزن ، ما وقع اليوم من حوادث مزعجة دامية في عاصمة البلاد . فقد انتهزت عناصر من الخونة المارقين ، ودعاة الفتنة الهدامين ، الذين ينتهزون الفرص لمحاولة بث الذعر والاضطراب ، وإشاعة الفوضى في ربوع البلاد .. انتهز هؤلاء الخونة فرصة إعلان غضبكم واستنكاركم لعدوان الانجليز الوحشي الغاشم في القنال ، وأخذوا يندسون فيصفوفكم ،ويرتكبون جراتئم منكرة مدبرة بالاعتداء علي المتاجر والمنشآت والمنازل ، وإشعال النيران والتخريب والتدمير والنهب والسلب .. فأثاروا موجة من الفتنة والاضطراب تنزل بالبلاد أفدح الأضرار ، وتهئ لأعداء البلاد فرصة للإبغال في البغي والإمعان في العدوان . وقد اقتضي علاج تلك الحالة الشاذة الخطيرة التي تكاد تهدد كيان الوطن ، وتعرض حقوقه للخطر ، إعلان الأحكام العرفية مؤقتا في أنحاء البلاد حتى تتمكن الحكومة من القضاء علي تلك الفتن المدبرة ، والمؤامرات المبيتة ، وتبادر إلي إقرار وإشاعة الهدوء والطمأنينة في البلاد " . وفي اليوم التالي أصدر الملك أمرا بإقالة وزارة الوفد بالصيغة الآتية : " حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا " . إن أشد ما نحرص عليه ونعمل له ، هو أن تنعم بلادنا العزيزة بحكم يحفظ سلامتها ، ويرعي الأمن ربوعها . وتسود فيه كلمة القانون ، ويستتب معه النظام ، وتتوافر في ظله طمأنينة الناس علي أرواحهم وأموالهم ، ولقد أسفنا أشد الأسف لمات أصيبت به العاصمة أمس من اضطرابات نتجت عنها خسائر في الأرواح والأموال ، وسارت الأمور سيرا يدل علي أن جهد الوزارة التي ترأسونها قد قصر عن حفظ الأمن والنظام . لذلك رأينا إعفاءكم من منصبكم . وأصدرنا أمرنا هذا لمقامكم الرفيع شاكرين لكم ولحضرات الوزراء وزملائكم ما قمتم به مدة اضطلاعكم بأعباء مناصبكم . هذا هو الخطاب الذي وجهه فاروق إلي مصطفي النحاس يتضمن إقالته من الوزارة ، ويؤسس هذه الإقالة علي تقصير الوزارة في حفظ الأمن والنظام – ويتناسي هذا الحريص علي حفظ الأمن والنظام أنه احتجز في قصره ضباط الجيش من مختلف الرتب في يوم الحريق . ولا يستطيع المتتبع للأحداث إلا أن يعتقد أن هذه الإقالة لم تكن إلا حلقة من حلقات المؤامرة التي بدأت في السادس والعشرين من يناير ،وأن هذا الحريق إنما دبر ليتخذ مبررا للقضاء علي المقاومة الشعبية باتخاذ إجراءات – في ظاهرها – منطقية أولها إقالة الحكومة التي كانت تؤازر هذه المقاومة . وليس هذا منا دفاعا عن حكومة الوفد ، وإنما هو إدانة لإجراءات الملك التي تحمل في ظاهرها البراءة والطهر والحرصعلي مصالح الجمهور ، وهي في الحقيقة ليست إلا إملاء من المستعمر وتنفيذا لمخططه . ومع ذلك ، فقد تكون هذه الإقالة قد صادفت هوى في نفس حكومة الوفد ، بل لعلها كانت أمنية تتمناها لإخراجها هي الأخرى من ورطة تورطت فيها ، ولم تكن تظن أن الأحداث ستصل إلي الجسامة التي وصلت إليها .. في حين أن الظروف قد حالت بينها وبين استطاعتها التراجع .
• إسناد الوزارة إلي علي ماهر :
وفي اليوم التالي لصدور هذه الإقالة أصدر الملك أمرا بإسناد الحكم إلي علي ماهر باشا وجاء فيصيغة هذا الأمر العبارة التالية : " ولما عهدناه فيكم من خبرة وإخلاص ، وأصالة رأي ومضاء عزيمة .. رأينا أن نوجه إليكم مسند رياسة مجلس الوزراء " . وهذا الإطراء الذي ورد فيصيغة التكليف لعلي ماهر لا يعد في الحقيقة إطراء بل هي صفات أصيلة في هذا الرجل ، الذي أثبتت المرات التي أسند فيها الحكم إليه أنه رئيسقدير ، ذو مواهب نادرة في الإصلاح الإداري والاجتماعي والسياسي ... ولكن هل كان اختيار الملك إياه خلفا لمصطفي النحاس كان لسد نقص في هذه النواحي الإصلاحية عجز عنه مصطفي النحاس . إننا نعتقد أن اختيار الملك لعلي ماهر في هذه المرة وفي هذه الظروف لم يكن لهذه الميزات ، وإنما كان لما يعرفه الملك من أن علي ماهر هو أقدر رجل علي مواجهة الوفد ، وعلي النيل منه ، وعلي منازلته وكشف عوراته .. ولم يجاف الملك الزاقع في اعتقاده هذا ، فإن هذه حقيقة يعرفها الوفد ويعرفها كل مصري عاصر التطورات الحزبية في مصر خلال الثلاثينيات والأربعينيات والنحاس يعتبر علي ماهر أخطر أعداء الوفد علي الإطلاق . وقد سمعت ذلك بأذني من النحاس في النادي السعدي في سنة 1936 في غضون فترة المظاهرات التي كنا نقوم بها نحن طلبة في ذلك الوقت احتجاجا علي إلغاء دستور سنة 1936 .
• علي ماهر يخلف ظن الملك فيه :
نعم كان علي ماهر رجل الملك وعدو الوفد حين كان الملك لا يزال مناط رجاء الشعب وموضع أماله ، قبل أن تحيط به بطانة السوء وحاشية المجون ، وحين كان الجو السياسي والاجتماعي في البلاد خاليا إلا من الجبهتين المتصارعتين القصر والأحزاب .. أما وقد تغيرت الأوضاع ، واقتحمت هذا الجو الجبهة الإسلامية ممثلة في هيئة الإخوان المسلمين بعد أن أثبتت وجودها علي إثر المعركة الرهيبة بينها وبين الجبهتين معا .. فما كان لعل ماهر – وهو الرجل الخبير العاقل المحنك – أن يتعامي عن الوضع الجديد ، لاسيما والملك الذي كان يقف بجانبه في الثلاثينيات وكان الشعب يحبه ويطلق عليه لقب " الملك الصالح " ليس هو الملك الذي انحدر إلي هاوية الفسق والفجور وتلطخت سمعته في الداخل والخارج ، ولما انتهي به سوء سلوكه وأساليب نفاقه إلي أزمة خانقة ومأزق ألجأه الشعب إليه وحصره فيه ، نادي حليفه القديم وسنده القدير ليخرجه من المأزق ويواجه هو الشعب بدلا منه . فهل يستجيب علي ماهر لهذا النداء المشبوه ؟ .. إنه استجاب ولكنه استغل استجابته هذه المرة لمصلحة الشعب وضد مصلحة المستعمر .
• بيان من الإخوان المسلمين :
وفي نفس يوم السابع والعشرين من يناير أصدر الإخوان البيان التالي الذي نشرته الصحف يوم 28 منه : " بسم الله الرحمن الرحيم ... روعت البلد لما حدث بالقاهرة أول أمس من أعمال الفوضى والعنف والعبث بالممتلكات وإحراقها . والإخوان المسلمون يستنكرون هذه الأساليب التي لا يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف الوطن ، بل هي علي التحقيق ضارة بقضيته ، وتفتح بابا خطيرا من أبواب الفتنة يصب كثيرا من الأبرياء . وكان الأجدر بمرتكبي هذه الحوادث أن يلجوا باب الجهاد الصادق الذي ولجته الأمة ورأت أنه السبيل الوحيد لإكراه الانجليز علي مغادرة البلاد . ويخطئ من يتصور أن إحراق حانة أو تدمير ملهيفيه قضاء علي أسباب الشر والرذيلة ، مادامت القوانين تبيح قيامها وتنظمه ، وقد حدث من قبل مثل هذا الاعتداء فلم تفد الأمة منه شيئا ، وأعلن الإخوان أنهم لا يؤمنون بهذا الأسلوب ، وحذروا رجالهم أن يكون لأحدهم به صلة . وطريق الإخوان المسلمين هو الجهاد بالوسائل المشروعة لتغيير هذه القوانين . وهم لم يدخروا وسعا منذ قامت دعوتهم في توجيه المسئولين هذه الوجهة الصالحة . وقد أعلنت ذلك في خطاب لي بمدينة الإسكندرية منذ أسابيع . ويخطئ من يظن أن محاربة الانجليز اقتصاديا تكون عن طريق تدمير المتاجر والمؤسسات . إنما طريق ذلك المقاطعة وحدها ، وتنظيمها داخليا ، والعمل علي منع الاستيراد من الأسواق الانجليزية – ومما يساعد علي القضاء علي الفتنة أن تنفذ الحكومة ما وعدت به من مواجهة الموقف تجاه الانجليز بما يقتضيه من إصرار وتصميم . والله يتولانا جميعا بالرعاية والهداية والتوفيق والله أكبر ولله الحمد حسـن الهضيبـي المرشد العام للإخوان المسلمين ويلاحظ القارئ أن هذا البيان قد قصد إلي أهداف ثلاثة : الأول : أن الإخوان لا يرون في أسلوب تدمير المتاجر وإحراقها – إن كان قد وقع من مواطنين مصريين – وسيلة مجدية في مجاهدة المحتلين . الثاني : بين الإخوان الطريق المجدي بالوسائل المشروعة لتغيير القوانين الوضعية التي تحمي الرذيلة وإبدالها بالقوانين الإسلامية – وبمحاربة الانجليز المحتلين اقتصاديا بمقاطعة بضائعهم وعدم الاستيراد من أسواقهم . الثالث : حاولوا لفت نظر الحكومة الجديدة إلي الطريق الذي يجب عليها أن تختطه لنفسها ، وهو مواجهة الانجليز بإصرار وتصميم . وهكذا أسقط الملك حكومة الوفد ،وهو يري أن الوفد قد خانه بالخطوة التي اتخذها في إعلان إلغاء المعاهدة ، ويعتقد أن أخفي عنه أن هذا الإلغاء قد يكون له من العواقب ما قد يهوي بعرشه نتيجة المواجهة مع الجيش البريطاني نفسه والحكومة البريطانية – وقد اعتبر الملك ذلك في الوفد جريمة لا يستحق عليها الإبعاد عن الحكم فحسب ، بل أن توجه إليه بعد الإبعاد حملة تأديبية قاسية .. وقد تناسي هذا الملك أن الوفد قد ضحي بالكثير من سمعته في سبيل التستر علي استهتاره ومجونه . وتولي علي ماهر منصبه في رياسة الوزارة التي ألفها من عشرة وزراء واحتفظ لنفسه بالرياسة والخارجية والبحرية . وعكف علي وضع خكة عمل لوزارته – وكان الرجل ليبيا ، ممن تكفيهم الإشارة عن العبارة ، فقد فهم ما أراده الملك منه وما جاء به إلي الحكم من أجله ، كما فهم ما جاء في بيان الإخوان المسلمين . ولم يكتف الإخوان ببيانهم الذي أصدروه في اليوم التالي للحريق ، بل شفعةه ببيان آخر نشر بالصحف يوم 30 يناير طلبوا فيه من رئيس الحكومة سرعة إلغاء الأحكام العرفية والإفراج عن المعتقلين الذين سبقوا إلي المعتقلات دون محاكمة أو تحقيق، كما طالبوا بالإصلاح العام الداخلي .
• مـهـزلـة :
في هذا اليوم نفسه .. يوم الثلاثين من يناير – ووسط هذا الجو المفعم بالجد ، والمشحون بالتوقعات والمخاطر ، وبينما رجال السياسة في حيرة من أمرهم أمام الموقف المعقد الذي تمخضت عنه الأحداثالأخيرة ، وبينما ضباط الجيش يتناجون فيما بينهم ماذا يفعلون للخروج بالبلاد من هذا المأزق ، وبينما وقف كل مصري مبهوتا أمام ما دهي البلاد من مصائب لم تكن تخطر علي بال أحد ، مما أجهض المقاومة الوطنية التي كانت مواصلتها أملهم الوحيد في طرد المستعمر من أرض الوطن ... بينما كل ذلك يحدث ، ووسط هذه الهموم التي أخذت بخناق كل الأوساط والطوائف .. إذا بطائفة قد أهمتهم أنفسهم فانفصلوا شعورا وإحساسا عن مواطنيهم الشرفاء ، وباتوا لا تشغلهم قضية البلاد ، ولم تؤثر فيهم الدماء التي أريقت علي ضفاف القنال ، ولا الأرواح التي أزهقا ،ولا الأموال التي بددت ، ولا المؤامرات التي دبرت ، ولا المصائب التي حافت بأهليهم وببلادهم .. وكان شاغلهم الوحيد أن يحظوا وسط أشلاء الشهداء وحطام المعارك بمكان مرموق عند الملك الفاسق الماجن . وإلي القارئ صورة من هذا العبث المقيت الذي جاءعلي لسان واحد من أفراد هذه الطائفة . ومما يؤسف له أنه الضابط اللواء وحيد شوقي ابن أخت مصطفي النحاس – من كلمة نشرتها له الصحف في يوم الثلاثين من يناير المشئوم تحت عنوان " علي مائدة الملك " إذ يقول في وصف هذا الملك : " إنه أكثر من ملك .. فلقد عرفنا الملوك يقتعدون أريكة الملك ، ويستثمرون أبهة الحكم .. غير هذه الدوحة العلوية النادرة التي نبتت وعلت ، وبذلت وضحت ، وأنهضت ونهضت ... أما الفاروق العظيم فأبي إلا أن يبز دوحته ، وإلا أن يأتي مزيدا ، وأن يختلط جديدا ، رشيدا سديدا ، بل فنيا شديدا . أي ملوك العالم والتاريخ ذلك الذي فاجأ مجلس وزرائه بالزيارة ليقول لهم : " جئت لأطالب بحق الفقير " إنه البطل ، إي والله إنه البطل ، بكل ما تحمله البطولة من آماد ومن آفاق ومن أبعاد ومن اعماق . إنه البطل في كل معني كريم عظيم ، وفي كل مبني سديد سليم . إنه البطل في أكبر ما تحمل الكلمة من أوزان ، وأحلي ما ترتل من ألحان ، وأجمل ما تجلو من ألوان . إنه البطل تتجسم فيه البطولة وكفي " . وقد قصدت من إيراد هذا الأنموذج من النفوس أن يعلم القارئ أن بلادنا حتى وهي في معمعان جهادها في سبيل حريتها كانت تنوء علي ظهرها بأحمل ثقال من نفاق أبنائها ، وتجر في أقدامها أغلالا من صغر نفوس بعض كبار المسئولين من رجالها .
• مفـاجـأة :
قدمت في السطور السابقة أن الملك أسند الحكم إلي علي ماهر باعتباره الرجل القادر علي استثمار هذا الحريق في إتمام القضاء علي روح المقاومة الشعبية ، وتأديب الوفد علي إحراج الملك مع الانجليز ... ولكن علي ماهر فاجأ الجميع بموقف كريم ، خيب آمال الملك والمحتلين ، وأرضي نفوس الوطنيين والمجاهدين .. ويمكن تلخيص هذا الموقف في النقاط التالية : 1 – أعلن تأييده لخطة حكومة الوفد في إلغاءالمعاهدة . ولم يكتف بذلك بل قام بزيارة النحاس فيبيته ورد النحاس له الزيارة . فكان هذا تصرف من علي ماهر بمثابة خنجر أنفذه في صدر الملك .. وإمعانا منه في تحدي إرادة الملك والانجليز الذين كانوا يطمعون في حل البرلمان وإعلان انتخابات جديدة أعلن علي ماهر إبقاءه علي برلمان الوفد . 2 – أبدي رغبته في الاجتماع بالمرشد العام ، وتم هذا الاجتماع في اليوم الثالث من فبراير ، واستغرق الاجتماع أكثر من ساعة ، ثم اجتمع المرشد العام بعد ذلك بوزير العدل . 3 – نشرت الصحف بعد ذلك ما يلي : " استجابة لطلبات المرشد العام بادر رقعة علي ماهر باشا رئيس الوزراء فاستصدر من مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 5 فبراير 1952 قرارا بأن يعهد بأمر التدريب العسكري للشباب من كافة نواحيه إليه بصفته وزيرا للحربية والبحرية بدلا من . وزير الدولة ، وله أن يتخذ جميع التدابير والإجراءات اللازمة لذلك . وستقدم وزارة الحربية والبحرية والأسلحة والأدوات اللازمة لتدريب الشبان وإقامة المعسكرات لهم . 4 – توالت الاجتماعات في كل مفاوضة في أمر الجلاء يقوم بها معهم رئيس وزارة مصرية ويشعرون أنهم أحرجوا وأفحموا وألزموا الحجة ، ويلجأون إلي اعتذار فحواه أنهم يريدون أن يفاوضون رئيسحكومة مصرية مؤيدا من جميع المصريين ممثلين في أحزابهم وهيئاتهم – وكانوا يلجأون إليهذا الأسلوب ثقة منهم في أتنهم يطلبون محالا ، فحكومة الوفد تشغب عليها الأحزاب الصغيرة الأخرى ، وحكومة هذه الأحزاب لا يرضاها الوفد – فأراد علي ما هو أن يبطل حجة الانجليز بجمع الجميع حوله وتوحيد كلمتهم في تفويضه والثقة في تمثيلهم ، وتكوين جبهة وطنية منهم أمام الانجليز 5 – توالت الاجتماعات بين المرشد العام ورئيس الوزراء . أما الوفد فقد أعلن تأييده له حين أعلن هو أنه مواصل طريق حكومته في التمسك بإلغاء المعاهدة .أما الأحزاب الأخرى فإنه دعا رؤساءها إلي الاجتماع به فلبوا جميعا وأعلنوا تأييدهم له لاعتقادهم أنه يعمل لحساب الملك .
6 – وأما الإخوان المسلمون – والانجليز يعلمون أنهم قد صاروا الثقل الأكبر في ميزان الوطنية المصرية – فقد كانت لقاءات المرشد العام بعلي ماهر دليلا علي الثقة المتبادلة بين الرجلين . • فرط حرص يؤدي إلي إحراج :
وحرصا من رئيس الوزراء علي إبراز معني تضامن كل القوى الوطنية معه أمام العالم وأمام الانجليز وقع الآتي : أ – تبين بعد ذلم أن رئيس الوزراء دعا رؤساء الأحزاب للاجتماع به بمكتبه في نفس الموعد . ب – كان هناك موعد لاجتماع المرشد العام برئيس الوزراء في مكتبه في ساعة محددة من يوم 27 فبراير . ج – ذهب المرشد العام إلي مكتبرئيس الوزراء في الموعد المحدد . فلما دخل المكتب فوجئ بوجود جميع رؤساء الأحزاب . د – ويبدو أن رئيسالوزراء – لشدة حرصه علي إبراز المعني الذي أشرنا إليه – كان قد دعا مصوري الصحف فالتقطوا صورة تضم المرشد العام مع رؤساء الأحزاب وفي وسطهم رئيسالوزراء . ونشرت الصحف هذه الصورة في صدر الصفحة الأولي بها . هـ - توضيحا لهذا الموقف وما حدث فيه وما سببه من حرج ، أنقل للقارئ ما نشرته جريدة " المصري " عنه في 29 فبراير ، فقد كتب تحت عنوان يملأ صفحتها الأولي " تصريحات لفضيلة المرشد العام عن حل القضية المصرية ... " ما يلي : " علم مندوب المصري من مصادر مطلعة أن فضيلة حسن الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين كان قد أبدي رغبته لرفعة علي ماهر باشا منذ بدأ مشاوراته لتشكيل الجبهة السياسية في أن يبديفضيلته آراءه لرفعته كلما شاء دون التقيد باجتماعات تضمه مع آخرين . ولذلك فقد فوجئ فضيلته أمس الأول حين دعا للاجتماع برفعة علي ماهر باشا فإذا بمكتب رفعته يضم الجميع دفعة واحدة . وعلم المندوب أن فضيلته حين دخل علي رفعة علي ماهر باشا أمس الأول في مجلس الوزراء كان يعتقد أن رفعته انتهي من مشاوراته مع بقية رؤساء الاحزاب ، وان فضيلته سيجتمع برفعة علي ماهر باشا وحده ، ولذلك فقد كان عقد الاجتماع من الجميع دفعة واحدة مفاجأة لفضيلته . فلما سئل عن رأيه أثناء الاجتماع المذكور قال فضيلته : " إنني سبق أن بينته لرفعة رئيس الوزراء " فقال هيكل باشا لفضيلته : هل تسمح أن تذكر لنا ما قلته لرفعته ؟ فقال " إن رأينا صريح في أنه لا مفاوضة ولا اتفاق مع أحد " وقد اكتفي فضيلة المرشد بذلك مفضلا عدم الدخول في مناقشة طويلة مع هيكل باشا . وقد اتصل مندوبنا بفضيلة المرشد العام وسأله عن رأي الإخوان المسلمين في الموقف بالتحديد فأجمله في النقط التالية : 1 – أن الإخوان المسلمين لا يقبلون المفاوضة في مبدأ الجلاء في ذاته وإنما في كيفية تنفيذه وتحديد مدته . 2 – يري الإخوان فيما يتعلق بالسودان أن مسألة خروج الانجليز من هناك أمر واجب لابد منه . أما فيما يختص بالصلة بمصر فقد أصبح من المتفق عليه أن يستفتي السودانيون في ذلك . 3 – أي اتفاق علي الاشتراك في أي نظام دفاعي أو إقليمي يجب ألا يكون شرطا للمسألتين السابقتين أو مرتبطا بهما . وبعد تحقيق البندين الأولين فلمصر أن تعقد من المحالفات ما يتفق مع مصلحتها ومع من تري في الاتفاق معهم مصلحة لها . وسأل المندوب فضيلته عن السبب في اختياره للإدلاء إلي الصحفين بنص البيان المشترك الذي نشرته الصحف أمس عن الاجتماع برفعة علي ماهر باشا ، وهل يفهم من هذا البيان أن المجتمعين فيه كونوا جبهة واحدة معا ؟ فقال فضيلته : أن المجتمعين اتفقوا علي أن تلقي هذه الكلمة علي الصحفيين . واقترح مكرم باشا بأن ألقيها . ومادام قد تم الاتفاق عليها فأي منا يلقيها . وإلقاؤها لا يحنمل أي معني . ولكن ليس معني ما حدث أننا كونا جبهة واحدة . والإخوان المسلمون مستقلون في إبداء آرائهم ولن يكونوا جبهة مع أحد . ملحوظة : كان البيان الذي ألقاه المرشد العام هو " لقد تبادلنا الرأي في الموقف السياسي ، والجميع متفقون علي تحقيق أهداف البلاد " .
• صبغة الله : • هكذا يكون فهم دعوة الإخوان المسلمين :
نعم .. ضم هذا الاجتماع الرجال الذين انتهت إليهم الرياسة في هذا البلد ، والذين تشرئب إليهم الأعناق فيه ، والذين يتمسح بهم من يطلبون لأنفسهم المكانة والشرف بين بني قومهم .. ولكنهم علي كل حال أصحاب مبادئ وضعية ، وأفكار بشرية ، وأهداف محدودة بالأرض وأغراض نابعة من هوى النفس . فهل يستوي هؤلاء مع المنتسبين إلي دعوة الحق ، والمعتصمين بأسباب السماء ، والمنطلقين بأهدافهم إلي ما وراء المادة ، والمخضعين هوى نفوسهم لإرادة بارئ الكون ؟ قد يلتقي هؤلاء وهؤلاء عند أمر معين أو مسألة محددة أو مشكلة طارئة بالقرين ، بل هو التقاء عابر .. ولذا وجب أن يكون هناك تميز يعين الناس علي فهم هذه المعاني .. لابد للمعتصمين بأسباب السماء من التميز عن المخلدين إلي الأرض . وإبراز لهذا التميز كان حرص المرشد العام أن يكون لقاؤه مع رئيس الوزراء علي انفراد ، فيفضي إليه بما عنده ، في الوقت لا يختلط الأمر علي الناس فيذهب بهم الظن كل مذهب . وقد يشرد بهم الظن فيعتقدون أن الإخوان صاروا حزبا من الأحزاب . فلما فوجئ المرشد العام بوجوده في اجتماع ضم الجميع غضب ، وظهر الغضب في رده علي ما وجهوا إليه من أسئلة منهم .. ثم شرح للناس مر هذه المفاجأة علي صفحات الجرائد ، فرد إلي الناس اطمئنان نفوسهم , وأزال ما حاك في صدورهم من حرج ، ورجع بدعوة الإخوان إلي موضعها السامي في قلوبهم ( ) . وهنا يجب أن نوجه القول إلي الذين إليهم مناصب السلطة فينسون في غمار بهرجها أن الأيام دول ، وأن الزمان قلب ، وأن الفلك دوار لا يهدأ ، وأن عجلة الأيام تجري ولا قبل لقوة في الأرض أن توقفها .. تقول .. هكذا دارت الأيام ، وارتدت الروح إلي الموءودة بعد أن أهيل عليها التراب . فنفضته عن نفسها ، وخرجت من تحته بشرا سويا ، وعملاقا فنيا .. حتى أن الذين اشتركوا في وأدها وقفوا أمامها ذاهلين .. ثم رغمت أنوفهم فالتفوا حولها متوسلين ، يخطبون ودها ، ويطلبون صفحها ، وينشدون رضاها ، وينتظرون كلمتها التي هي كلمة الحق والتي صارت القول الفصل .... فهل يتعظون ؟؟ ( • • ) .