الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الثاني - الباب السابع)
الباب السابع آخر المحاولات لصد الزحفًُ الانهيار التام النظام الملكي يلفظ أنفاسه الأخيرة
الفصل الأول : الهلالي آخر محاولة يائسة لصد التيار الوطني : لم يستطع الملك ولا الانجليز تحمل أكثر من ذلك من تصرفات علي ماهر التي كانت الخطوة التالية ، وأخطر نتائج ، فبادروا بإقالته بطريقة جعلت هذه الإقالة تأتي في صورة استقالة . ففي 2 مارس 1952 أي بعد خمسة وثلاثين يوما فقط في الحكم استقال علي ماهر علي إثر اعتذار السفير البريطاني فجأة عن موعد مقابلة كان قد اتفق عليه – وقال علي ماهر للصحفيين بعد أن قدم استقالته : إنني أشعر بعقبات في سبيل مهمتي . وأسند الملك الوزارة بعده إلي أحمد نجيب الهلالي . وهو وفدي سابق ، كان أحد كبار أعضاء الحزب . وقد اعتزل علي إثر اختيار فؤاد سراج الدين سكرتيرا عاما للوفد ، ورأي في ذلك تخطيا له ولأمثاله من قدامي الأعضاء وذوي السابقة فيه – واعتقد الملك والانجليز أن هذا الرجل هو خير من يستعان به علي تقويض بناء الوفد ، وبالتالي خير من يخلص الملك من ورطة إلغاء المعاهدة وما أدت إليه من إحياء روح المقاومة في الشعب ضد الانجليز . وكان للأحداث التي أدت إلي إجهاض المقاومة الشعبية أثر عميق في نفوس الشعب بمختلف طبقاته وطوائفه ، فلقد تذوق الشعب لأول مرة منذ عام 1919 لذة الوقوف صفا واحدا في وجه المستعمر ، ولمس بعد وقت غير طويل من هذا الموقف أن هذا هو السبيل الصحيح لاسترداد الحقزق من الغاصبين . بل نستطيع أن نقول أن الشعب أحس بوجوده لأول مرة ... وإذا أحس شعب بوجوده فقلما تجدي معه رسائل القمع أو أساليب التمييع والمداهنة في إنسائه هذا الإحساس أو إقناعه بشعور آخر . وتصوير الموقف بعد إقالة وزارتي الوفد وعلي ماهر كان علي هذه الصورة : الشعب المصري أحس بوجوده ، وذاق حلاوة الجهاد في سبيل حقوقه – وقوى داخلية وخارجية تحاول أن ترجع به إلي الوراء .. تحاول أن تنقله من مجال الشعور الذي يسيطر عليه إلي مجال شعور آخر معاكس لهذا الشعور .. تريد أن ترجع به إلي طريق جربه ثلاثين عاما فما جنى منه إلا الخيبة والتفكك والخسارة والندم ، ولم يتقدم إلي الأمام شبرا واحدا . ويبدو أن الأسلوب الذي تمخضت عنه أدمغة هذه القوى جاء هذه المرة ذا ثلاث شعب ، فهو يصوب إلي أهداف ثلاثة هي الوفد والإخوان وإلغاء المعاهدة .. فإذا استطاعوا القضاء علي الوفد وعلي الإخوان سقط إلغاء المعاهدة فورا دون عناء ؛ لأن هذين هما اللذان عملا علي إلغاء المعاهدة ، فالأول كان الجهو الرسمية التي أعلنت الإلغاء ، والثانية هي الجهة الشعبية التي نقلته إلي ميدان المواجهة والمقاومة وقدمت له الوقود .. فلما أجهض هذا الميدان وقفت تحرسه بكل قوتها حتى لا تجرؤ جهة رسمية أخري مهما كان لونها علي مس هذا الإلغاء من قريب أو من بعيد ، وهي تحرسه حتى تحين الفرصة لاستئناف المقاومة فيه من جديد . وجاءت هذه القوى بهذا الرجل – نجيب الهلالي – إلي الحكم علي أنقاضالوزارتين المشار إليهما وله هدفان : هدف خفي وهدف ظاهر . أما الهدف الخفي فهو محاولة القضاءعلي حزب الوفد وعلي الهيئات المناهضة للملك والتي يمثلها الإخوان المسلمون ، وإلهاء الناس عن القضية الأصلية وهي إخراج الانجليز من مصر ، وأما الهدف الظاهر فهو إعلان مواصلة سياسة المواجهة مع الانجليز – وما كان لرئيس يتولي الحكم في مصر في ذلك الوقت أن يجرؤ علي إعلان غير هذا الهدف .
• متى يستقيم الظل والعود أعوج ؟
وقد اتخذ الهلالي لتحقيقة هدفه الخفي عدة خطوات ، منها أنه بدأ بحل مجلسالنواب واعدا بإجراء انتخابات في أقرب وقت . ثم ماطل في البر بوعده وأجل موعد إجرائها عدة مرات . وكان تبريره للتأجيل والمماطلة هو ما أعلنه من أول يوم تولي فيه الحكم من أنه إنما جاء ليطهر البلاد مما تزخر به من فساد .. فهو يؤجل بدعوى أن سياسة التطهير لم تبلغ بعد مداها – وأني لسياسة التطهير أن تبلغ مداها أو حتى أن يرجي لها أدني نجاح في بلد رأس الفساد فيه ومنبعه هو حاكمه الأعلى ، الذي يعين الحكام ويقيلهم حسب نزواته وأهوائه ، والكل يتفاني في خدمته وإرضاء نزواته ؟؟ ولعل القارئ الكريم لم ينسي ما طالعه في الصفحات القليلة الماضية من أن حكومة الوفد كانت ترسل إلي الملك بالمراسيم ليوقعها وهو علي موائد القمار في أوروبا .. وهذا الملك هو الذي ننقل الآن ما نشرته الصحف في السادس من مايو 1952 في عهد هذه الوزارة التي جاءت لتطهير البلاد ، وقد وافق هذا اليوم يوم عيد جلوسه علي العرش.. وإليك نص ما نشر : " أذاع فضيلة السيد محمد الببلاوي الأشراف وحسين الجندي باشا وزير الأوقاف الأسبق ، أنهما عثرا علي ما يثبت نسب الملك فاروق إلي السلالة النبوية الشريفة عن طريق جده محمد شريف باشا " . ولن نتعرض في هذه العجالة لوضع هذا الاكتشاف المثير في ميزان التصديق والتكذيب ، ولكننا نكتفي بأن نتساءل عن الدوافع التي حملت المكتشفين علي إعلان اكتشافهم في هذا الوقت وفي خلال الظروف التي يعلمها الناس في الداخل والخارج من سيرة هذا الرجل العفنة النتنة التي أزكمت أنوف المسلمين وغير المسلمين علي السواء في أنحاء الدنيا – هل يريد هؤلاء المكتشفون أن يقنعوا الناس في الداخل والخارج أن هذه السيرة تمثل الطهر والنقاء والسمو والعفاف والنبل ، تلك الصفات التي هي ديدن المنتسبين إلي العترة النبوية الشريفة . وإذا كان فارق بما هو متلطخ به في حمأة الرذيلة والمجون يجد من كبار رجال الدولة من يجهدون أنفسهم لينسبوه إلي السلالة النبوية الطاهرة ، فما هو الفساد إذن الذي جاء الهلالي ليطهر البلد منه ؟؟ .
• استطراد علي هامش التطهير :
وضح مما سبق أن عملية التطهير التي ادعي الهلالي أنه إنما جاء ليباشرها لم تكن في حقيقتها إلا تمويها وخداعا وإلهاء للشعب . لكن مرفقا واحدا من مرافق البلاد كان إجراء التطهير فيه أمرا لابد منه . ذلك أن هذا المرفق كان متصلا أوثق اتصال بالبلاد الأجنبية لاسيما بأوروبا عامة وانجلترا علي وجه الخصوص . وكان هذا المرفق هو القطن .. حيث كانت مصر تعتمد في تجارة القطن في ذلك الوقت علي تصديره إلي الخارج ، وكانت حصيلة تصديره هي قوام مالية الدولة وعصب دخلها ، حيث لم تكن مصانع الغزل المصرية إذ ذاك تستهلك عشر إنتاج البلاد . ولعل القارئ الكريم قد فهم عرضا مما سقته من صفحات سابقة أن تجارة القطن في مصر لم تكن تجارة نظيفة . توضيحا لذلك أقول : أن المتعاملين في تجارة القطن كانوا – كدأب غيرهم من التجار – يتوخون تحقيق أكبر رربح مستطاع من وراء تجارتهم ، مستحلين في سبيل ذلك الطرق الحرام . ولما كانت أصناف القطن علي اختلافها متشابهة تمام التشابه ، بحيث لا يستطيع تمييز بعضها من بعض إلا الخبراء المتخصصون ، فتجد صنفين من هذه الأصناف متشابهين تمام التشابه في مظهرهما لكن سعر أحدهما ضعف سعر الآخر لتميزه في صفاته الغزلية عن الصنف الآخر . ولهذا أنشأت الحكومة مراقبة تضم خبراء متخصصين في هذه الناحية علي أعلي مستوي من الخبرة ، ووكلت إليهم معاينة جميع الأقطان في جميع مراحلها منذ دخولها مصانع الحليج حتى تشحن علي السفن في ميناء الإسكندرية إلي الخارج . وقد سلحت هؤلاء الخبراء بقانون صارم يأخذون به من أقدم علي خلط صنف بآخر . ولما كانت المكاسب التي تعود علي تجار القطن من خلط صنف بآخر مكاسب باهظة ، ولكنهم لا يستطيعون تحقيق هذه المكاسب إلا بالتواطؤ مع خبراء الحكومة المتخصصين .. وتحقق لهم بذلك ما يريدون . وسارت الأمور في هذه التجارة علي هذا النحو ، وكل عام تزداد جرأة التجار عن العام السابق . ومادام خبير الحكومة قد أجاز عملية الخلط فإن هذا لا يمكن اكتشافه إلا حين تغذي آلات الغزل في مصانع الغزل بهذه الأقطان . ذلك أن الصفات الغزلية لكل صنف من الأصناف تقتضي معاملة خاصة ومقاييس خاصة تضبط علي أساسها أجزاء آلة الغزل . فإذا كان الصنف مخلوطا بصنف آخر اختلت آلة الغزل ولم تنتج الغزل المطلوب ذا المقاييس المحددة . وأخذ أصحاب مصانع الغزل في أوروبا يبعثون بشكاواهم من أن الأقطان التي تصل إليهم من مصر يشوب بعضها الخلط الذي يسبب لهم الخسائر .. وكلما زادت نسبة الأقطان المخلوطة بمرور الأعوام زادت هذه الشكاوى ، حتى عام 1951 وكانت نسبة الخلط قد بلغت بأنهم سيقررون مقاطعة القطن المصري . ولما كان معني هذا أن الدولة تعلن إفلاسها فقد بدأت الحكومة تتحرك .. ولم يكن أمامها إلا أن تأخذ الأمر بالحزم . كنت في هذا الوقت مغضوبا علي – كما قدمت من قبل – فكان مقر عملي في الصعيد . وقد انتهي موسم القطن وذهبت إلي بلدتي رشيد لأقضي فيها فترة من أجازة الصيف التي كانت تمتد إلي أربعة أشهر .. وبينما أنا في رشيد وصلني خطاب من الإدارة التي أتبعها في الصعيد بأنني قد تقرر انتدابي للعمل بالإسكندرية في الصيف – والعمل القطني في الإسكندرية كان يستمر تقريبا طوال العام – وإغراء لي الاستجابة إلي هذا الانتداب ذكروا في الخطاب أن هذا الانتداب ببدل سفر . ولما كنت ناقما علي الإدارات التي ترأسني في هذا العمل لعدم ثقتي في ذمتهم ، فقد رددت علي الخطاب بأنني أرفض الانتداب مهما كان فيه من مزايا مادية – وبعد أيام وصلني خطاب شخصي من زميل يكبرني سنا ومنزلة في العمل ، ومن القلة الطاهرة اليد التي احترمها يرجوني فيه أن استجيب للانتداب ، لأنه خدمة وطنية لا ينبغي لمثلي أن يتخلف عنها ، وحدد لي يوما ألتقيبه فيه في إدارة العمل بالإسكندرية . وما كان لي أن أتخلف بعد ذلك ، فسافرت إلي الإسكندرية ، وألتقيت بهذا الزميل الكريم فأخبرني بأن الحكومة – أمام تهديد أصحاب المغازل في أوروبا بمقاطعة القطن المصري – قد قررت خطة حازمة .. وبدأت بوقف المدير العام لمراقبة القطن ومفتشي المراقبة ببعض المحافظات ، وانتدبت سامي بك الهرميل مراقبا عاما للقطن ، الذي كان أول عمل قام به أن انتدب ستة من خبراء المراقبة ، منهم أنا وأنت ، لمعاينة جميع الأقطان التي تعد في مكابس القطن بالإسكندرية للتصدير ، وضبط المخلوط منها . وقال : إن سامي بك سيحضر اليوم من القاهرة لمقابلتنا نحن الستة هنا في إدارة الإسكندرية . وحضر الرجل فعلا والتقينا به ، وكان أربعة من الستة من الزملاء الذين طرأت عليهم في دمنهور في عام 1941 وكانوا سندا لي إذ ذاك حين كنت أقوم بنشر الدعوة في مقاهي دمنهور كما قدمت في الجزء الأول من هذا الكتاب . وتكلم الرجل فشرح لنا الموقف ، ومدي الدمار الذي يحيق بالبلاد إذا قاطع الغزالون الأوروبيون القطن المصرب . وقال : أجريت بحثا دقيقا في جميع العاملين بمراقبة القطن في القطر وانتهي بحثي إليكم أنتم الستة الذين لا تحوم حولكم أثارة من شبهة ، فقررت أنتدابكم لضبط الأقطان المخلوطة الزاردة من الريف قبل تصديرها من الإسكندرية حتى نرد لبلادنا اعتبارها أمام الدول . وباشرنا مهمتنا ، وضبطنا الأقطان المخلوطة ، وأجري تحقيق كان من نتيجته فصل المدير العام للمراقبة لاتهامه بأن كان ضالعا مع المفتش العام لمحافظة القليوبية وخبيري المراقبة بمحلج القناطر الخيرية ، الذي ثبت أنه كان مباءة لعمليات خلط رهيبة – ولكن لما كانت الأدلة القانونية غير كافية لإثبات التهمة علي المفتش والخبيرين فقد اكتفي بإبعادهم عن هذه المحافظة .. وكان لهذه الإجراءات الحازمة صدى في أوساط الغزالين بالخارج فعدلوا عن خطة المقاطعة . وانتهت فترة انتدابنا نحن الستة . ورجع كل منا إلي مقر عمله ، كما رجع سامي بك الهرميل إلي عمله الأصلي وهو رئيس حسابات الخاصة الملكية – وبهذه المناسبة أقول : لعل اهتمام الملك بهذا الموضوع الذي جعله ينتدب رئيس حسابات خاصته لمباشرته ، أنه أي الملك كان في ذلك الوقت أكبر منتج للقطن في مصر ، وإذا قاطع الغزالون القطن المصري فسيبور قطنه وتحيق به أكبر خسارة فضلا عن الخسارة العامة للبلاد . وفيما أنا أتهيأ للسفر إلي مقر عملي بالوجه القبلي حيث أصبح موسم القطن علي الأبواب ، إذا ببغض زملائي يزجون إلي التهنئة بأنني يأنقل إلي نحلج القناطر الخيرية أي إلي القاهرة – وإذ كنت ناقما كما قدمت علي الزمرة المشرفة علي هذه المراقبة فقد أبديت لهم رفضي البات لهذا النقل ، وكلفتهم بنقل هذا الرفض إلي المسئولين .. ولما استفسر هؤلاء المسئولين عن سبب رفضي قلت لهم : إنكم نفيتموني إلي الوجه القبلي ست سنوات كاملة ، ولم أجد أحد منكم قال كلمة إنصاف في حقي طيلة هذه المدة .. وتأتون الآن لتطلبوني للعمل في أقذر محلج في القطر كله . فإذا تكون ملمة أدعي لها وإذا يحاس الحيس يدعي جندب وأصررت علي الرفض . ولم أكن أعلم أن المفتش العام الجديد لمراقبة القطن بمحافظة القليوبية هو أحد أصدقائي الحميمين الطاهرين الذين تعلمت فن القطن علي أيديهم .. وجاءني هذا الصديق وبسط أمامي ظروف الموضوع ، وتتلخص في أن الحكومة قررت تطهير المراقبة فأسندت إليه منصب الإشراف علي هذه المحافظة فاشترط لقبوله هذا المنصب أن يسند إلي الإشراف علي هذا المحلج الذي كان سببا فيفصل المدير العام للمراقبة .. وبالرغم من حبي لهذا الصديق وتقديري له فقد أصررت علي الرفض متأثرا بما لقيته من اضطهاد علي يد المسئولين السابقين . وبعد ذلك بأيام طلبت لمقابلة المرشد العام الذي بادرني بقوله : إن صديقك وزميلك فلان – وهو الذي نقل مشرفا علي محافظة القليوبية في القطن – حضر هنا وقابلني وشرح لي ظروف نقله ونقلك ، وأخبرني بأنك مصر علي الرفض . وأنا أعرف وجهة نظرك وأقدرها حق قدرها ، ولكنني أري أننا باعتبارنا أصحاب دعوة لإصلاح المجتمع لا ينبغي لنا أن نتخلف عن العمل في أحرج المواطن ، ولتنس الماضي ولنعمل علي تطهير هذه البؤرة من الفساد – فلما سمعت ذلك من الأستاذ المرشد زال ما كان في نفسي وانشرح صدري واستجبت لما كنت رافضه .
• في بؤرة الفساد :
حين ذهبت لتسلم العمل في هذا المكان الجديد لاحظت أن كل من حولي متنكر لي ، وضائق بي ، ويتمني أن لو نزلت علي صاعقة فأراحتهم مني .. وكادت تضيق نفسي لولا أن تذكرت أن وجودي في هذا المكان إنما هو من أجل الدعوة التي آمنت بها وعاهدت علي العمل لها . ووردت إلي المحلج أقطان بأسماء تجار من عملائه فعاينتها وصادرت أكثرها .. وبدأت إدارة المحلج – وكانوا أجانب – تحتك بي علي أساس أنهم لم يتعودوا أن يروا من يقف في وجه مصلحتهم من قبل . وأبرقوا إلي الجهات الحكومية العليا يتهمونني بتعطيل أعمالهم ويطلبون التحقيق معي ، فلم تأبه هذه الجهات بهم .. ووقعت احتكاكات من مختلف التجار بي ، حتى وصل الأمر بأحدهم أن هددني بالقتل إذا لم أعدل عن خطتي . فكان ردي علي ذلك أن الأجل بيد الله وحده ، وإذا أراد الله لي ذلك فإنها هي الشهادة التي أتمناها .. وظل الحال علي ذلك حتى ركن الجميع إلي اليأس من ناحيتي . وقد دفعهم هذه اليأس لي مراجعة عقولهم وتدبر أمورهم والثوب إلي رشدهم ، فجاءوني وقالوا : يا فلان .. إننا جئنا نعتذر إليك مما فرط منا نحوك ، وعذرنا في ذلك أننا فوجئنا بأسلوب لم نعهده من قبل .. ولكننا لما ارجعنا أنفسنا وجدنا أننا تسرعنا وأننا مخطئون ، وأن الخطة التي تعاملنا بها هي أصلح لنا من الخطة التي كنا نعامل بها من قبل .. إن التاجر منا حين يرسل إلي المحلج رسالة من القطن يعرف عدد الأكياس السليمة منها وعدد الأكياس المخلوطة فيها ، ويبعث إلينا المحلج نتيجة فرز الرسالة فنجد أنك صادرت نفس العدد من الأكياس الذي نعرف أنه مخلوط ، وأجزت الأكياس الأخرى .. وفي هذه الحالة لم نخسر شيئا ؛ لأن الأكياس التي صادرتها قد اشتريناها بثمن بخس باعتبارها مخلوطة ، وستحلج علي أنها مخلوطة ، وتباع علي أنها كذلك ، وستحقق من بيعها علي هذا الأساس بعض الربح – والأكياس السليمة التي أجزئها ستحقق من بيعها ربحها كبيرا . أما الخطة التي تعودنا عليها من قبل ، فإن كل رسالة ندخلها المحلج كانت تصادر كلها سواء المخلوط منها والسليم ما لم ندفع لخبير الحكومة جنيها عن كل كيس منها ، ولا يمكن أن نجد في السوق أقطانا مخلوطة تكفي لجعل كل الرسائل التي ندخلها المحلج مخلوطة – وكان يتحتم علي الواحد منا أن يحضر بنفسه مع كل رسالة ليقدم هذه الرشوة حتى لا تصادر الرسالة كلها ... أما الآن فنحن نرسل الرسالة ولا نكلف أنفسنا مشقة الحضور معها ، ونستغل وقتنا في أعمالنا الأخرى ، ولا ندفع شيئا ، ولا يصادر منا إلا ما يستحق أن يصادر ... وتم الصلح بيني وبين التجار وبين إدارة المحلج علي أن يبدأوا من جديد حياة طاهرة نقية .
• ما أحوجنا في التطهير إلي القدوة :
وبعد أن سارت الأمور علي النحو الجديد ، وانقطع المدد الغامر الذي كان الجميع من تجار وموظفين وعمال ينعمون فيه .. سألت العاملين الحكوميين للذين يعملان معي وكانا يعملان من قبل مع السابقين سألتهما بعد أشهر عن شعورهما ، وهل يشعران بالضيق والحرمان ويبكيان علي الأيام الخالية ، ويتمنيان لو ترجع تلك الأيام ؟ فكان ردهما عجيبا .. قالا : إننا حرمنا فعلا من متع كثيرة ، ولكننا مع ذلك نشعر بسعادة ما كنا نشعر بها من قبل ، فلم نكن من قبل يخطر علي بالنا أن هناك إلها مطلعاًً علينا وسيحاسبنا علي هذا الكسب الحرام .. أما الآن ، وبعد أن دللتنا علي الله ، فإننا نجد في اللقيمات الجافة التي نقتات بها مع أولادنا لذة ما كنا نجد مثلها في الطعام الفاخر الشهي.. وننظر إلي الأيام الماضية نظرة الضال بعد أن اهتدي ، وتضرع إليالله أن يغفر لنا هذا الماضي .. وهكذا استقام العاملان كما استقام كل العاملين فيهذا المحلج من تجار وموظفين ، وقد حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وصاروا من الراشدين بعيدا عنهم – كانوا يزوروني ، وأحسوا بفضل دعوة الإخوان المسلمين علي وعليهم وعلي المجتمع . ولقد سقت هذه القصة – مغفلا الكثير من تفاصيلها وعجائبها – لأبين أن الإصلاح لا يتحقق إلا علييد أفراد الشعب صالحين – لأن فاقد الشيء لا يعطيه .. أما أن يشرد الصالحون كل مشرد ، ويعهد بالمناصب الحساسة إلي الفاسدين ، ثم تدعي الحكومة مع ذلك أنها بسبيل إصلاح البلاد وتطهيرها .. فلا نقول أن هذا الأسلوب خاطئ ووسيلة غير مجدية فحسب بل نقول إنه تضليل واحتيال وخداع . الفصل الثاني : الملك يفقد توازنه ويعيش في هلع : كان الإخوان يعرفون حالة الهلع التي يعيشها هذا الرجل مطاردا بأشباح ما ارتكب في حق الشعب من آثام ، وما ينتظره علي أيدي المظلومين من عقاب ومع أنه كان يتمتع – بحكم منصبه – بحماية جميع أجهزة السلطة في الدولة ، فإنه لم يري في هذه الأجهزة كلها ما يكفي لتهدئة روعه وتأمين خوفه ... فأنشأ جهازًا سريًا خاصًا سماه " فرقة الحرس الحديدي " أنشأها له الدكتور يوسف رشاد زوج السيدة ناهد رشاد وصيفة الملكة ، ومهمة هذه الفرقة هي حمايته .. وكانت هذه الفرقة مكونة من مجموعة من صغار الضباط ، بعضهم من الجيش وبعضه الآخر من الشرطة ، ومعهم عدد من المدنيين الآفاقين . وقد قامت هذه الفرقة باغتيال الملازم أول عبد القادر طه بحي الروضة بالقاهرة يوم 24 مارس 1952 – وشاء القدر ألا يسلم عبد القادر طه الروح إلا بعد أن أدلي إلي المحققين بالطريقة التي تمت بها الجريمة . وقد اتهم – رحمه الله – اللواء حسن سري عامر (وهو أحد كبار ضباط الجيش ، وكان من أقرب المقربين إلي الملك ، وكان معروفا أنه رجله في الجيش وصنيعته وقد نوهنا عنه في حديثنا عن انتخابات نادي ضباط الجيش . وسيأتي إن شاء الله ذكره فيما بعد) وقال إن صديقا لسري عامر اسمه علي محمد حسنين ألمح مرافقته بحجة زيارة مقر جماعة الإخوان المسلمين بالروضة . وما كادا يصلان إلي نقطة التقاء شارعي الأخشيد بالملك الظفر حتى سلطت إحدى السيارات عليهما ضوء مصباحها ووقفت فجأة وأطلقت عليه النار .. وتبين بعد ذلك أن علي محمد حسنين كان أحد أفراد الحرس الحديدي . وقد لمح القارئ من خلال هذه الواقعة أن الموقف في مصر في تلك الحقبة من الزمن قد تمخض عن انقسام البلاد إلي جبهتين : جبهة الملك وأعوانه والمتوهمين أنه لا يزال القوة الغالبة التي يرجي الانتفاع الشخصي من ورائها وتتضمن هذه الجبهة أكثر السياسين التقليدين وعددا من العسكرين المأجورين أما الجبهة الأخرى فهي " الإخوان المسلمون " وهي الجبهة التي تضم الأكثرية الساحقة من الشعب لافي القاهرة وحجها بل في جميع أنحاء البلاد ، ويدعمها تنظيم واع مستنير في صفوف الجيش . ولما كان عبد القادر طه – رحمه الله – من الضباط الواعين المستنيرين فقد رأي عميل الملك المكلف باستدراجه لا يكون إلا بعرض مكان يرافقه إليه بحيث يكون هذا المكان مقبولا لديه ، فعرض عليه أن يرافقه إلي دار شعبة الإخوان المسلمين في حي الروضة . وقد رأيت أن أثبت هنا واقعة اغتيال عبد القادر طه ، لأنها كانت إحدى معالم فترة الانهيار التي أفردنا لها هذا الباب ، إذ كانت أشبه بإعلان حرب من جانب بلغ به اليأس كل مبلغ . وقد حفز إعلان الحرب هذا الجانب الآخر إلي التعجيل بالضربة القاضية ، وقد فهم هذا الجانب الآخر أن حالة الرعب التي يعيشها الملك صورت له أو لعله نمي إلا علمه عن طريق أجهزته أن هناك مؤامرة لقتله يشترك فيها عبد القادر طه والدكتور عزيز فهمي ، فأمر جلالته بوضع خطة لاغتيالهما ، فأغتيل الأول بالطريقة التي ذكرناها ، ودبر للآخر أن تصدم سيارته سيارة أخري أدت إلي موته .. وبمناسبة ما ذكرنا من أن هناك فريقا كبيرا من المشتغلين بالسياسة كانوا يتوهمون أن الملك لازال الفرس التي يراهن عليها نقول : أن النيابة وجهت الاتهام إلي الأستاذ أحمد حسين رئيس الحزب الاشتراكي وبعض أعضاء حزبه بالتحريض علي ارتكاب حوادث 26 يناير بدافع العداء للنظام السياسي والاجتماعي وذلك في يوم 13/5/1952 ، علي أن تنظر القضية أمام محكمة الجنايات برياسة المستشار حسين طنطاوي بك يوم 18 مايو وطالبت النيابة بتطبيق عقوبة الإعدام . ولما كان الأستاذ أحمد حسين متهما من قبل بالعيب في الذات الملكية ، فقد تخلي المحامون عن الدفاع عنه جبنا ونفاقا ، فقد انتدبت المحكمة الأستاذ علي عبد العظيم للدفاع عنه الأستاذ شمس الدين الشناوي وهو من الإخوان والأستاذ حسن أحمد فاعتذر أيضا – وهنا تقدم للدفاع عنه الأستاذ شمس الدين الشناوي وهو من الإخوان والأستاذ عبد المجيد نافع وهو صديق للإخوان . والطريف الذي لا يخلو من دلالة أن الأستاذ سليمان زخاري رئيس تحرير مجلة الاشتراكية وضع دفاعه عن نفسه بأن الأستاذ أحمد حسين كان مسيطرا علي المجلة وعلي كل شيء في الحزب ، وقد اضطر هو للنشر خوفا من فصله – فرد الأستاذ أحمد حسين بأنه كان في يوم 26 يناير طريح الفراشفي بيته ، واستشهد بعدة أشخاص منهم علي ماهر ومصطفي أمين ، وقد أيدوه في ذلك . فقال الأستاذ أحمد حسين أن زخاري إذن كان حرا في قبول النشر أو عدمه .
استغلال الإخوان الوقت
للإعداد لعمل خطير قلنا أن الهلالي حاول التقرب إلي الإخوان فأعلن أنه يري إعادة التحقيق في قضية مقتل الإمام الشهيد وغيرها من القضايا ، ودأب علي استطلاع رأي الإخوان والاجتماع بالمرشد العام الذي ظل علي إصرار أن يكون اجتماعه به علي انفراد دون أن يضمه اجتماع برؤساء الأحزاب . وبعد عدد من اللقاءات بين المرشد العام ونجيب الهلالي كون الإخوان فكرة عن الهدف من إبدال علي ماهر بالهلالي. وبدا لهم أن الهدف لا يعدو أن يكون محاولة لإضاعة الوقت ، وشغل الناس بما سموه التطهير وإجراء انتخابات .. فقرر الإخوان الاكتفاء – من اتصالهم به – بإحراجه في القضية الوطنية بحيث لا يجد فرصة للتحلل مما أجمع عليه الشعب وسارت عليه الوزارتان السابقتان . واتجهوا إلي استغلال الوقت في ناحيتين :
• الناحية الأولي : علـنية :
وهي تنظيم أنفسهم ، ونشر دعوتهم وتعميق فكرتهم في نفوس الشعب ومثالا لذلك قاموا بما يلي : أ – رحلة المرشد العام : طاف المرشد العام في خلال هذه الفترة بشعب الإخوان في رحلة طويلة . وهي الرحلة التي التقيت مع المرشد فيها بدمنهور والتي أشرت إليها من قبل ، وقد استغرقت هذه الرحلة أكثر من شهر . وقد زار خلالها الإخوان بالوجهين البحري والقبلي . ب – تقوية الروابط بالشعوب الإسلامية : وقد أولي الإخوان في خلال هذه الفترة اهتماما كبيرا لتقوية الروابط بالشعوب الإسلامية ، وإبراز دعوة الإخوان المسلمين علي أنها فكرة عالمية لا تحدها حدود إقليمية . وقد عملوا علي عقد مؤتمر للشعوب الإسلامية بكراتشي في باكستان في أوائل شهر مايو 1952 . وقد مثل الإخوان فيه الأخ الأستاذ صالح عشماوي ، وألقي كلمة الإخوان . ومن مقترحات الإخوان التي جادت في سباق هذه الكلمة : إعادة النظر في نظام الملكية الزراعية وفي نظام الرعوية – ويقصد بإعادة النظر في الملكية الزراعية ما صار يفهمه الناس فيما بعد بالإصلاح الزراعي
، وهي لفتة نشعر القارئ بأن الإخوان كانوا أول ما دعا إلي الإصلاح الزراعي وهي لفتة تشعر بل في جميع البلاد الإسلامية ، لكن ليس علي أساس ما يسمونه الاشتراكية وإنما علي أساس أنه جزء من الفكرة الإسلامية ، وقد يحسن بنا في هذا المقام أن ننبه القارئ إلي أن صورة الإصلاح الزراعي التي أرادها الإخوان لم تكن هي الصورة التي تم بها هذا المشروع في مصر وسيأتي تفصيل هذا الموضوع في الجزء الثالث من هذا الكتاب إن شاء الله . أما إعادة النظر في نظام الرعوية فيقصد به اقتراح فتح الحدود المصطنعة بين البلاد الإسلامية بعضها وبعض ، واعتبار البلاد الإسلامية – مهما اختلفت مواقعها الجغرافية – أمة واحدة ودولة واحدة بحيث يكون الإسلام وطنا وجنسية .
وإذا كانت دول أوروبا – ولا تربطها بعضها ببعض أية روابط – تسعي إلي فتح الحدود فيما بينها محاولة تحقيق وحدة تامة فيما بينها ؛ لأنها تري أن هذا هو السبيل الوحيد لإبرازها قوة عالمية مهيبة ، وقوة اقتصادية وسياسية متكاملة ومسيطرة ، فإن الدول الإسلامية أولي بذلك وأحرى ، وكتاب هذا الدين يخاطب المسلمين حيث كانوا فيقول : ( • ) ويقول : ( ) ، ويقول رسولهم : " ليس منا من دعا إلي عصبية " ، ويقول : " كونوا عباد الله إخوانا " ... وإذا كان التاريخ يحدثنا عن هذه الدول الأوروبية حيث التناحر المستمر والعداء المستمر والحروب المتواصلة ، فإن هذه الدولة الإسلامية المقطعة الأوصال الآن كانت علي مر التاريخ منذ نشأتها أمة واحدة .. فإذا رجعت كما يطالب الإخوان دولة واحدة فإنما ترجع إلي أصلها وتحقق وضعها الذي كانت عليه والذي يجب أن تكون عليه . وقد ختم مندوب الإخوان في المؤتمر كلمته مرددا الحديث الذي أدلي به المرشد العام لجريدة " المصري " في أوائل شهر إبريل محذرا من الانحراف بالتجمع الإسلامي عن غايته حيث قال : " وأحب أن أقول لك بهذه المناسبة أني قرأت في بعض الصحف أنباء مرماها أن الخلف الإسلامي قد تطمئن إليه الدول الغريبة ؛ لأنه سوف يكون مناهضا للشيوعية ، أو أنه سيستخدم لهذه الغاية .. والحق أن الإسلام شيء قائم بذاته ، ونظام جمع الله فيه خير ما في النظم جميعا ، فلا يصح أن يكون أداة فييد أحد يستخدمها لغاياته . بل يجب أن تكون خادمة للنظم الإسلامية والمصالح الإسلامية وحدها ، بلا ميل إلي أي نظام أو فكرة تخالفه سواء أكانت ما يسمي الديمقراطية أو الشيوعية أو الفاشية . فالإخوة والعدالة الإسلامية تجمع جميع الناس من جميع الألوان وجميع الأديان . ولا تعتبر العدالة مقصورة علي المسلمين ، وإنما هي حق لكل من يعيش في دولة الإسلام . ولا تكون الأخوة بين المسلمين وحدهم كشأنها بين الفرنسيين الذين يعتبرون أنفسهم إخوة ويعاملون التونسيين أسوأ معاملة . والأمريكان معاملتهم للهنود الحمر لا تخفي علي أحد . أما عدل الانجليز فهو عدل لا يعرفونه إلا في بلادهم ، فإذا خرجوا منها رأيت صورته العكسية في قنال السويس والسودان وغيرهما " .. ويبدو أن تحرك الإخوان في هذه الفترة نحو العالم الإسلامي، واشتراكهم في هذا المؤتمر ، وكلمتهم التي ألقوها فيه ، قد أيقظت في الشعب المصري عواطف كانت نائمة فأخذ الشعب يسأل ويستفسر فقد نشرت جريدة " المصري " في 23 مايو 1952 تحت عنوان " المرشد العام يتحدث إلي المصري " حديثا طويلا علي هيئة أسئلة وجهها إليه مندوب الجريدة وأجاب عليها المرشد العام ، نجتزئ منه ما يلي : " أما عن فكرة تكوين كتلة إسلامية فنقول : كيف يتم ذلك والاحتلال الأجنبي بين ظهرانينا ؟ إننا لا نريد أن نكون ألعوبة في يد أحد . ومثل هذه الكتلة يصح أن تكون للتقريب بين الأمم الإسلامية والعمل علي إنهاضها حتى تأخذ بكتاب الله ، وحينئذ يكون الاتحاد الشامل بينها . وختم المندوب الحديث بسؤال عن مبادئ الإخوان وهل تمنع أن يكون الإنسان منضما لحزب من الأحزاب وأن يكون في الوقت نفسه أخا مسلما ؟ فقال فضيلته : إن مبادئ الإخوان لا تمنع من ذلك إطلاقا . ولكن الإنسان حين ينضم إليهم سيجد نفسه منساقا إلي ترك الحزبية جانبًا والتفرغ لدين الله " . ج – قضية السودان : ساهم الإخوان بجهد كبير ف ي قضية السودان التي اعتبرت جزءا لا يتجزأ من قضية الجلاء عن مصر . ولكن نظرة الإخوان إلي قضية السودان كانت نظرة مختلفة تمام الاختلاف عن نظرة الحكومة المصرية والأحزاب المصرية . فهؤلاء جميعا كان همهم منصبًا علي الحصول علي إجراء قانوني لتحقيق وضع شكلي يتيح للملك أن يحمل لقب " ملك مصر والسودان " . والله وحده هو الذي يعلم هل كان هؤلاء الذين انحصرت مطالبهم آخر الأمر في هذا الطلب المتواضع يهدفون من وراء ذلك إلي ربط السودان بمصر عن طريق هذا اللقب أم أن هدفهم كان إرضاء الملك والتزلف إليه . وهو الهدف الذي كان طابع جميع ساسة مصر المحترفين في ذلك الوقت . أما نظرة الإخوان إلي قضية السودان فإنها كانت تقوم علي أساس الأخوة الإسلامية التي تستمد أصلها من القرآن الكريم في قوله تعالي : ( ) . وقد التقي الإخوان بوفود من السودان أكثر من مرة ، بعضها في دار المركز العام وبعض أخر في أماكن أخري . فكانت هذه الوفود تشعر بشعور غير الذيتشعر به في لقاءاتها مع رجال الحكومة ورؤساء الأحزاب . كان حديث الإخوان معهم لا يتناول الروابط الجغرافية , ولا المسائل القانونية ، ولا يتناول ألقاب الملك ولا شروط الاتحاد ، وإنما كان الحديث حديث قلوب تفيض بالمحبة وتنزع بالإخلاص ولا تشربها شائبة من شوائب الخداع السياسي – كانت هذه الجلسات جلسات انصهار روحي في بوتقة الإخوة الإسلامية ، تنسي فيها المطامع . وتذوب فيها الحزبيات والحزازات – ولو ترك الأمر في موضوع السودان للإخوان ، وأتيحت لهم فرص اللقاءات بمصر والزيارات بالسودان ،وتنحت الجهات المصرية الأخرى ورفعت يدها عن الموضوع لكان للسودان ولمصر وضع آخر غير الذي تم علي أيدي السياسيين المحترفين في هذه الأيام وفيما بعدها من أيانم . ولكن هذه الوفود السودانية كانت بعد انصهارها في دار الإخوان في بوتقة الأخوة الإسلامية ، كانت تلتقيبقوم لا صلة لهم بالمعاني الإسلامية في قليل ولا كثير ، فتحس هذه الوفود كأنما هبطت من السماء إلي الأرض ، فالتعامل مادي ، والحديث مادي ، والمقاييس مادية ، والمفاوضات أشبه شيء بصفقات البيع والشراء .. وتعرف هذه الوفود أن هؤلاء الذين يفاوضونهم – إذا كان هناك اتحاد فيما بعد – هم الذين سيتعاملون معهم ؛ لأن بيدهم مقاليد الحكم وبيدهم بالتالي مفاتيح الخزائن .
• الناحية الأخرى : سـريـة :
وهي تنظيم صفوفهم من المدنيين والعسكريين . وهي تنظيمات كان يلجأ إليها كل ذي نفس تتوق إليالحق والحرية . وليس معني ذلك أن البلاد كانت خالية إلا من تنظيمات الإخوان ، فمن حق التاريخ أن نقرر أنه كانت هناك تنظيمات أخري ولكنها كانت قاصرة علي القاهرة ، وكان كل تنظيم منها قليل العدد ، ، غير قائم علي أسس من المبادئ الدينية إلي قاعدة شعبية ، فلا نصيب لأي منها في مثل هذه القاعدة . أما تنظيمات الإخوان فإنها كانت تخضع لأساليب مركزه تجمع بين التربية الروحية والتدريبات العسكرية والبرامج الثقافية . ولذا فإنها تقوم علي أسس من المبادئ الدينية والخلقية ، وعلي تجانس تام في الأفكار والمعتقدات فضلا عن أنها تستند إلي أوسع قاعدة شعبية قوية صلبة متماسكة . وقد يبدو الفرق شاسع بين هذه التنظيمات والتنظيمات الإخوانية في الناحية الفكرية في موضوع تحرير مصر الذي نحن بصدده . فالتنظيمات الأخرى تري تحرير مصر من الحكم القائم بها هو مجرد وسيلة لتمكين الحكم الإسلاميمن القيام بها ، إذ إن تحريرها هو بمثابة إزالة العوائق من طريق المصلحين الذين يريدون رفع لواء هذا الحكم القرآني بها ، ثم توسيع نطاق هذا الحكم حتى يعم العالم الإسلامي كله . وبالرغم من هذه الفروق الشاسعة بين التنظيمات الإخوانية والتنظيمات الأخرى ، فإن التنظيمات الإخوانية – لمجرد التفقائها مع التنظيمات الأخرى في نقطة واحدة وهي العمل علي تحرير البلاد من الحكم القائم بها – فإنها فتحت لهم صدرها ، وأوسعت لهم من حمايتها ، ومنحتهم من رعايتها ، وكانت موئلا لهم كما حزب الأمر ، وملجأ إذا اشتد الخطب . وقد يري القارئ في هذا الكلام بعض الإبهام ، ولا يحس فيه الوضوح الكافي .. وهذا صحيح .. ومع ذلك فلا نستطيع الآن أن نكون أوضح من ذلك ، فكل شيء مرهون بوقته . وسوف يأتي إن شاء الله في الجزء الثالث من هذا الكتاب توضيح ذلك وجلاء حقيقته وتفصيل مجملة . وخلاصة القول هي أن الإخوان في خلال هذه الفترة أعدوا أنفسهم في هذه الناحية ، وأعدوا الشعب تمام الإعداد ، وتلافت عندهم كل الجهود العاملة علي تغيير الوضع ، وأخذوا فعلا في وضع خطة العمل . ومع أن أكثر الناس لم يكونوا يعرفون شيئا عن الإعداد السري للإخوان ، فإن الشعور العام في مصر كان متجها إليهم ، والأنظار مصوبة نحوهم ، والآمال معقودة عليهم . والكل يرقب العمل المأمول من الإخوان المسلمين . وصار المرشد العام للإخوان المسلمين هو المحور الذي تدور حوله الأحداث ، والرجل الذي عنده الكلمة الفاصلة . ولم يكن الطرف الأخر – أقصد الملك ومعاونيه – يجهل ذلك ، ولكنهم قد سقط في أيديهم ورأوا أن الموجة الشعبية المستنيرة العارمة كادت تجرفهم ، ولا يستطيعون لها دفعا .... ولعل الملك حين رأي الموجة الإخوانية العاتبة ظن أن وجود جهاز سري من العسكريين والمدنيين هو الذي أكسبهم هذا التفوق ، فدفعه ذلك إلي إنشاء جهازه السري الذيسماه " الحرس الحديدي " عملا بالنثلالمأثور " لا يفل الحديد إلا الحديد " ولكن فات جلالته أن يذكر دلالة المثل الآخر الذييقول " ليست النائحة الثكلي كالنائحة المستأجرة " . الفصل الثالث : المصيـر المحتـوم :
• آخر سهم في كنانتهم ولكنه مسمم :
منذ وليت الحكم وزارة الهلالي وحلت مجلس النواب الذي وافق علي إلغاء المعاهدة ، وهي تعلن عن عزمها علي إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن . ودأب رئيس الوزراء علي استطلاع رأي الأحزاب والهيئات في موضوع الانتخابات وموقفهم منها . وقد تلقي إجابات من جميعها بالترحيب بالانتخابات وعزمهم علي دخولها .. إلا الإخوان المسلمين فإنهم أعلنوا أنهم لن يدخلو الانتخابات . وكان نص قرارهم الذي أعلنوه هو : " عدم الاشتراك في المعركة الانتخابية لا باسم الهيئة ولا بصفاتهم الشخصية ؛ لأن الأوضاع الانتخابية منذ عام 1924 تقوم علي أساليب تتنافي مع مثل الإخوان وطبيعة دعوتهم . كما دلت علي ذلك تجاربهم العملية " . وكان هذا القرار قد اتخذ ةوأعلن في 28 مارس 1952 أي في أوائل أيام تولي الهلالي مقاليد الحكم . ويبدو أنه كان من الأهداف الأساسية التي جئ بهذه الوزارة إلي الحكم من أجل تحقيقها أن تجر الإخوان المسلمين إلي خوض المعركة الانتخابية . ودليل ذلك أن أول إجراء اتخذته هذه الحكومة هو حل مجلس النواب والإعلان عن إجراء انتخابات . والاتصال برؤساء الأحزاب والهيئات لتحديد مواقفهم منها . وهي تعلم والكل يعلم أن جميع الأحزاب تتمني أن تجري انتخابات حتى تنعم بالوصول إلي كراسي الحكم ، ومن لم ينعم بكراسي الحكم فسينال ولو أقل القليل من مغانمه – فلما قرر الإخوان وحدهم – رفضهم خوض الانتخابات أسقط في يد الحكومة وأعلنت – تحت ستار إتمام عملية التطهير – تأجيل موعد إجراء الانتخابات . وفي العاشر من إبريل أعادت الحكومة الكرة في عملية الاستطلاع ، وكلفت وزير العدل أن يطلب من الإخوان المسلمين إبداء الأسباب التي رفضوا من أجلها دخول الانتخابات . وأعاد الإخوان – في مذكرة مكتوبة – الأسباب التي أعلنوا مجملها في قرارهم السابق . ومما جاء في هذه المذكرة : " أن من المأخذ التي يأخذها الإخوان علي قانون الانتخاب أنه لا يلزم الناخب باستعمال حقه ، ولذلك كان معظم الذين سيتعلمون حقهم الانتخابي ممن يسهل إغراؤهم والتأثير عليهم ، وأنه لا يميز المتعلم الذي يستطيع أن يكون رأيا قائما علي حكم شخصي بإعطائه صوتين أو ثلاثة مثلا ، وأنه لا ينص علي ضرورة حمل البطاقة الشخصية المعتمدة من الجهة الرسمية المختصة منعا للتلاعب ، وأنه ليست فيه الضمانات الكافية لوقاية المعركة من تدخل رجال الإدارة ،وغير ذلك من المآخذ" . وعرضت هذه المذكرة علي مجلسالوزراء الذي قرر بناء علي ما جاء فيها تأجيل موعد إجراء الانتخابات إليشهر أكتوبر 1952 حتى يمكن إجراء تعجيلات في قانون الانتخاب . وينبغي علي – وقد كنت ملابسا لهذه الظروف التي أتحدث عنها الآن – أن أقرر أن كثيرين من الإخوان في ذلك الوقت كان من رأيهم خوض المعركة الانتخابات باعتبار ذلك وسيلة من وسائل نشر الدعوة وتحقيق أهدافها ، مطمئنين إلي ما يتمتع به الإخوان من تأييد شعبي واسع النطاق ولكن هؤلاء الإخوان – ثقة منهم في مرشدهم – نزلوا علي رأيه عن رضا وطواعية ، فخرج القرار قرارًا إجماعيًا لا رجعة فيه . وقد أوضح بعد ذلك أن هذا الرجل كان بعيد النظر ، يصدر عن قلب عامر بالإيمان ، وعقل مستنير ، وأن قراره هذا قد وضع الدعوة في موضعها اللائق بها من الطهر والسمو وربًت بها عن النزول إلي مواطن الإسفاف وهجر القول والخداع والكذب . ولعل في هذا الموقف للأستاذ حسن الهضيبي أبلغ الرد علي ما يرمونه بأنه انحرف بالدعوة إلي مزالق السياسة وأوحالها كما يدعون .
• إحباط الخطة الخطيرة أو رد سهمهم إلي نحورهم :
ولقد تبين فيما بعد أن هذه الموقف الإخواني قد أحبط خطة محكمة محبوكة الأطراف ، قد دبرت بدقة وعناية ، ذلك أنه كان يراد القضاء علي القوتين الشعبيتين في البلاد : الوفد والإخوان (وبصرف النظر عن الاختلاف الكبير بين الهيئتين في المبادئ والوسائل والأهداف فإنهما بحكم الواقع هما الهيئتان الشعبيتان الوحيدتان في البلاد) فجئ بالهلالي باعتباره موتورا من الوفد لاسيما من عنصره الفعال سراج الدين ، ويتمني أن تتاح له الفرصة للنيل من الوفد وتمزيقة . ولما كان تحقيق هذا فوق طاقة أية حكومة ، فقد رسمت له الخطة بأن يحل مجلس النواب الوفدي ويعلن عن إجراء انتخابات عليه أن يجر الإخوان إليها .. وبذلك تقف القوتان الشعبيتان الوفد والإخوان ، كل أمام الأخرى ، فتقوم كل منهما بتصفية الأخرى – ويتحقق بذلك ما عجز عن تحقيقه أصحاب المصلحة من الانجلبز والملك وأعوانهم .. ويصفو لهم بذلك الجو . عصم الله تعالي الدعوة من الوقوع في شباك هذه الخطة الجهنمية ، بفضل التفاف الإخوان حول مرشدهم ، وثقتهم فيه ونزولهم عند رأيه ، وتأييدهم لخطواته . وقد كسبت الدعوة الكثير من هذا الموقف ولم تخسر شيئا .. والانتخابات التي طنطنوا بها وحددوا لإجرائها الميعاد تلو الميعاد شاء العلي القدير ألا تجري .
• إقصاء الهلالي :
ولما فشل الهلالي في جر الإخوان إلي الانتخابات أعفي من منصبه باستقالة قدمها في آخر شهر يونيه 1952 منتحلا أعذارا لتغطية السبب الحقيق الذي ظل محجوبا عن المصريين ، وإن كان المراقبون الأجانب فهموه وعلقوا عليه تعليق الخبراء الحاذقين ، فقد نشرت جريدة النيويورك تيمس في 5 مايو 1952 برقية مطولة عن موقف الأحزاب في مصر بمناسبة قرب الانتخابات العامة فقالت : " إن الوفد أقدم الهيئات في مصر وأدقها تنظيما صحيحا قويا حتى إن له لجانا تنفيذية في جميع أنحاء القطر حتى أصغر القرى – وقالت : لا شك في أن الإخوان المسلمين قوة لا يستهان بها . وقالت : إنهم آثروا عدم خوض المعركة الانتخابية حتى يتم لهم تنظيم صفوفهم بالصورة التي يعتقدون أنها كفيلة بتحقيق أهدافهم " .
وزارة حسين سـري
كان سقوط وزارة الهلاليفي30/6/1952 علامة واضحة لا علي تدهور الموقف فحسب ، بل علي انهياره انهيارا تاما ، حتى أن الطبقة المثقفة من الشعب باتت في قلق شديد وشملها شعور بأن البلاد مشرفة علي تطور خطير - - ولقد كنت في ذلك منتدبا في عملي الخاص بالإسكندرية .. وجمعتني هذه الفرصة ب عدد من أقاربي المثقفين الذين كان اشتغالهم بالسياسة طفيفا ، وجلسنا في إحدى ليالي النصف الأول من شهر يوليو 1952 في شرفة منول أحدهم ، ودار الحديث حول حالة البلاد وما تعانيه من تمزق وعدم استقرار ، فكان هذا الشعور شعورهم وشعور كل مجلس وكل مجتمع في مصر .
• شعور عام اليأس من الإصلاح :
ساد هذا الشعور جميع أوساط الشعب سواء في الناحية الخارجية والناحية الداخلية ، فالوزارة التي يشتم منها رائحة اتجاه عملي نحو إصلاح خارجي أو داخلي لا يلبث الشعب أن يراها بطريقة أو بأخرى قد أرديت .. فمما لا شك فيه أن وزارة علي ماهر كانت جادة ومتأهبة لعمل إيجابي يتطلبه الموقف . ولكنها لم تمكن وأسقطت بأسلوب غير كريم .. ويؤتي بعدها بوزارة كل بضاعتها وعود ، ويكاد يقتصر عملها علي الكيد لحزب الوفد بدافع التشفي لا بهدف الإصلاح الذي كان يقتضي تتبع الفساد في كل الأحزاب والهيئات مهما علا مقامها .. وضاعت مصالح البلاد بين هذه الوزارات المتعاقبة . ونموذجا لهذا اليأس الذي أحاط بالنفوس في تلك الفترة من الزمن نورد حديثا لحافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطني نشر بجريدة " أخبار اليوم " في 26/4/1952 تحت عنوان : " لماذا قررت اعتزال السياسة " جاء فيه : " وقلتها صريحة في 26 سبتمبر 1950 أن الحالة الداخلية قد بلغت حدا من المفاسد لا مزيد عليه . وكنت أول قائل في 23 فبراير 1951 أن البلاد في حاجة إلي عملية تطهير شاملة قلت ذلك كله وجهرت به فكان أغلبه يذهب أدراج الرياح . بل إن ذات الحركات التي بدرت وأملت فيها تحقيقا للمبادئ الصحيحة والأفكار السليمة ، كإلغاء المعاهدة المشئومة وما تلا الإلغاء ، والصيحة بحركة التطهير وما أعقب الصياح .. ما لبثت أن رأيتها صادرة عن ارتجال معيب أو سارية في تعثر ممقوت .. فالحكومة التي ألغت المعاهدة وصرحت في مظاهرة الإلغاء باتخاذها الحيطة لكل احتمال ، والعدة لكل حال .. اتضح أنها لم تقدر احتمالا ولم تفهم حالا .. والحركات التي تلت هذا الإلغاء تعثر جلها برغم صدق بعضها . وحركة التطهير التي أملنا بعض الخير الداخلي ، تسير في بطء غير مطمئن ،وتلوح بينها تيارات أخشي معها أن تنقلب إلي مجرد معركة حزبية أو شخصية أو انتقامية ، دون أن تسير كما ناديت أساسا لإصلاح شامل يطهر الأدوات والنفوس . كل ذلك الذي أراه جعلني أشعر بالفساد ينتاب جل نواحي الحياة السياسية فيالبلد ، وجعلني أحس أن الوسائل المشروعة ، والمنطق المعقول والقيم الأخلاقية – وهي عدتي علي ما أسلفت – لم تعد مجدية .. لهذا انسحبت إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا " . وفي خلال هذه الحقبة أيضا نشرت نفس الجريدة حديثا للمرشد العام وكان في الإسكندرية ، علي الوجه الآتي :
- قلت لفضيلة الأستاذ حسن الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين : بدت في المدة الأخيرة من الإخوان المسلمين ظاهرة انكماش من المجال السياسي ، فلم نعد نسمع لهم رأيا في أحوال مصر السياسية كما كانوا من قبل – فكيف تعللون ذلك ؟ - فأجاب فضيلته : أن الإخوان يعتبرون الموقف السياسي في مصر بحرا مضطربا لا أمان لأحد فيه ، فهم يقفون علي شاطئه ينظرون من يغرق فيه ، ولا يريدون أن تطيح بهم العواصف مع الغرقي ، وهم بالتزامهم هذا الموقف إنما يلتزمون جادة الصواب . ويكفي في دفع اللوم عنهم أنهم يقدمون النصيحة للقائمين بالأمر .
وقد أدليت برأي الإخوان في سياسة مصر لرفعة علي ماهر باشا ودولة أحمد نجيب الهلالي باشا عندما توليا رياسة الوزراء – وسيظل هذا هو موقف الإخوان إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .
- هل يتغير موقف الإخوان بالنسبة للانتخابات القادمة ؟ - لا يزال الإخوان المسلمون عند رأيهم الذي أعلنوه من قبل . وهو عدم دخولهم الانتخابات القادمة إذا أجريت . ولم تعد هذه المسألة محل بحث أحد منهم . وهي لا تشغل بالهم علي الإطلاق ، فقد اتخذوا فيها قرارهم وانتهي الأمر بالنسبة لهم " .
ولكي يكون القارئ أمام صورة واضحة المعالم لهذا الموقف وما كان يثيره في النفوس من قلق ، نرجع إلي ما نشرته جريدة " أخبار اليوم " في 5 يوليه 1952 تحت عنوان " 3 وزارات في 4 أيام " فقد كتبت تقول : " في يوم السبت استقالت وزارة الهلالي باشا .. وكلف سري باشا بتأليف الوزارة .. وأثناءقيام رفعته بمشاورات وزارته كان بهي الدين بركات باشا قد استدعي لتأليف الوزارة – وهكذا كان في مصر ثلاث وزارات : وزارة مستقيلة عليها أن تقوم بأعباء الحكم ؛ لأن استقالتها لم تقبل بعد .. ووزارة يؤلفها سري باشا .. ووزارة يؤلفها بركات باشا – واستمر هذا الوضع الذي واجهته مصر لأول مرة في تاريخها حتى عند منتصف الليل .. يوم الثلاثاء .. وهذه قصة ثلاث وزارات في أربعة أيام . وبعد أن كان الصحفيون تغص بهم حجرات منزل سري باشا في الإسكندرية ، انتقل الصخب والضجيج وعشرات السيارات والصحفيون إلي منزل بهي الدين بركات باشا في منطقة مصطفي باشا قرب سيدي جابر . وبهي الدين باشا يسأل الأستاذ علي حمدي الجمال المحرر " بالاخبار " وهو منه بمنزلة الابن : ماذا يرضي الشعب يا علي في هذه الظروف ؟ فيجيب الصحفي الشاب : الشعب يريد إلغاء الأحكام العرفية ، ورفع الرقابة عن الصحف ، والإفراج عن المعتقلين ، وإجراء الانتخابات والحكم النظيف " .
• لماذا عدل عن بهي الدين باشا ؟
ووقع الاختيار أخيرا علي حسين سري باشا – وقد سبق لهذا الرجل أن تولي منصب الرياسة أكثر من مرة ، كما تولي رياسة الديوان الملكي عندما أخلي مكانه لوزارة الوفد الأخيرة . وبعد أن استقر الرأي علي حسين سري باشا تم الاجتماع في الإسكندرية بين بهي الدين باشا وبين المرشد العام .. ولكننا لا ندري لم كان الاتجاه أولا إلي بهي الدين باشا ولماذا عدل عنه .. وقد يكون سبب العدول عنه أنهم تذكروا أن هذا الرجل معروف بالنزاهة المطلقة ، وبالدقة التامة فيتحري الحقائق ، وبعدم المجاملة في مواجهة الفساد مهما علا مركز الجهة التي تحمي هذا الفساد .. والقصر الملكي كان في ذلك الوقت ذا حساسية بالغة في هذه الناحية وكان محتاجا إلي رجل يتغاضي .. وقد سبق أن تولي بهي الدين باشا منصب رياسة ديوان المحاسبة فلم يطيقوه وسارع هو بالاستقالة . وحسين سري باشا مع أنه كان مشهورا بالصرامة والاستقامة ، إلا أن شغله المناصب التي شغلها والتي أشرنا إليها آنفا ، قد دل علي أنه من السياسيين المحترفين الذين جبلوا علي اعتقاد أن القصر الملكي فوق القانون وفوق مستوي النقد .. فاختيار القصر لرجل سبق له أن جربه آمن له من اختيار رجل لم يجربوه .
• وزارة تاريخية : • ملابسات تأليفها تنذر بانهيار العهد :
ولما كانت وزارة حسين سري باشا هذه وزارة تاريخية ، وأعني بذلك أنها تعتبر معلما واضحا بين حقيقتين متباينتين من التاريخ – وكانت موضع المناقشة والبحث والتمحيص : 1 – أول ما يتبادر إلي خاطر إنسان يريد أن يعرف أو أن يكون رأيا عن حكومة من الحكومات هو أن يتعرض أعضاءها .. ومع أن تأليف هذه الوزارة قد مر بمراحل طويلة وشاقة وهي بيت القصيد في بحثنا هذا فإننا نبدأ بإثبات الوضع الأخير لأعضاء الوزارة : حسين سري باشا الخارجية والحربية والبحرية الدكتور محمد هاشم باشا الداخلية محمد علي راتب باشا الشئون البلدية نجيب براهيم بك الأشغال والمالية بالنيابة سامي مازن بك المعارف كريم ثابت بك وزير الدولة سيد عبد الواحد بك المواصلات الدكتور أحمد زكي الشئون الاجتماعية الدكتور محمد علي الكيلاني الـزراعة الدكتور حسين كامل الغمراوي التموين الدكتور عبد المعطي خيال التجارة والصناعة الدكتور محمود صلاح الدين الصحة الدكتور علي بدوي بك العـدل الشيخ فرج السنهوري الأوقـاف وكان النطق الملكي لهذه الوزارة هو : " أرجو أن تقدروا الظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد لا من الناحية السياسية وحدها بل من الناحية الاقتصادية " . 2– مجرد نظرة سريعة علي هذه الوزارة يفهم القارئ منها دون جهد أنها وزارة فنية غير حزبية جمعت عددا من أعظم العلماء الإخصائيين ذوى السمعة الطيبة ، وأكثرهم لم يتول منصب الوزارة من قبل . 3 – استغرق تأليف هذه الوزارة أربعة أيام ، طلب رئيسها في أثنائها إعفاءه من تأليفها أكثر من مرة ، وكان الملك يصر عليه في كل مرة . 4 – كان في هذه الوزارة مناصب وزارية معينة نشأ عن شغلها خلاف كبير بين سري باشا والملك . ومن هذه المناصب منصب وزير المالية ، فقد رشح سري باشا لهذه الوزارة " حلمي بهجت بدوي " ورشح الملك شخصا آخر . وقد مرض حلمي بهجت فسري بذلك الخلاف ، ولكن سري رفض مرشح الملك وأسند هذا المنصب مؤقتا إلي نجيب إبراهيم بك بالنيابة .. وقد يحس القارئمن الخلاف علي هذا المنصب أن التصرفات المالية للقصر الملكي عورات يحرص الملك علي سترها عن الأعين . 5 – المنصب الآخر الذي كان مثار خلاف شديد ، وكاد يعصف بالوزارة كلها ، وقد مر بتطورات خطيرة ، وكانت هذه التطورات ذات أهمية تاريخية بالغة ، فقد كان لها ما بعدها .. وكانت هذه التطورات تجري في الخفاء ، ولم يكشف عنها إلا بعد سقوط الوزارة وزال العهد كله .. بل إن هذه التطورات هي التي عجلت بهذا الزوال .. ونوجز هذه التطورات فيما يلي ، مستقين بعض الأنباء مما نشر بجريدة " أخبار اليوم " في 2 اغسطس 1952 : أ – لعل القارئ يذكر تفاصيل ما جري فيها وما أسفرت عنه فيفصل سابق ، وأومأنا إلي أهمية هذه الانتخابات باعتبارها معلما من المعالم الأساسية التي كشفت دلالاتها عن تصدع بناءهذا العهد ، وأشرنا إلي أن الملك أحس بخطورتها علي عرشه ، وكاد يتخذ إزاءها إجراء عنيفا . ولكن مستشاريه أقنعوه في ذلك الوقت بالتسليم بالأمر الواقع ، ورسموا له خطة أخرى تعتبر بمثابة حركة التفاف يطوق بها ما تم في هذا الناديمن إجراءات . ب – يبدو أن أن الأحداث كانت أسبقمن خطوات الملك في هذا السبيل . وقد أحس بهذا السبق فقرر العدول عن نصيحة مستشاريه . وعزم علي انتهاج سياسة التحدي لعله يعوض ما سبقته به الأحداث . ج – كانت سياسة التحدي تتلخص في إجراءين اثنين هما : حل مجلس إدارة نادي الضباط ، ونقل اللواء محمد نجيب وإبعاده عن القاهرة – كانت هذه هي رغبة الملك ، ولكن صاحب الحق في إصدار هذين القرارين هو القائد العام للقوات المسلحة الفريق أحمد حيدر باشا .. ومع أن أحمد حيدر كان من الشخصيات المقربة من الملك حتى أنه كان يعد من صنائعه فإنه كان مشفقا علي نفسه من أن يصدر هذين القرارين . د – في أثناء فترة تأليف الوزارة ، وفي خلال إحدى مقابلات حسين سري باشا مع الله ، طلب إليه الملك فصل حيدر من منصب القائد العام للقوات المسلحة ليحل محله الفريق حسين فريد رئيس هيئة أركان حرب الجيش ، علي أن يحل محل حسين فريد في رياسة أركان حرب الجيش اللواء حسين سري عامر حبيب الملك وصنيعته ورجله المقرب ، والذي دبر من أجله اغتيال الضابط عبد القادر طه – كما طلب الملك من رئيس الوزارة نقل اللواء محمد نجيب خارج القاهرة .
هـ - طلب رئيس الوزراء مهلة لبحث هذه المطالب مشعرا الملك بعد موافقته عليها ؛ لأنه يحس أن في البلاد غليانا ، وأن في الجيش تذمرا . وقد عرف سري باشا عن طريق زوج ابنته الدكتور محمد هاشم باشا أنم الجيش كله ملتف حول اللواء محمد نجيب – وكان الدكتور محمد هاشم قد اجتمع – في الخفاء – باللواء محمد نجيب وعرف منه الحقائق ، وأبلغها لصهره المرشح لرياسة الوزارة فاقتنع سري باشا – بدافع الخلاصة للملك – بأن ترشيح محمد نجيب لوزارة الحربية والبحرية هو الحل الأمثل للخروج من الأزمة التي يعانيها الملك والتي تضطرم في البلاد ، لا بإقصائه وإبعاده ... وفعلا قرر ترشيحه في قائمة الوزارة لهذا المنصب .
و – أرسل سري باشا إلي الملك يطلب منه معرفة أسباب طلبه فصل حيدر ، فجاءته ورقة من السراي مكتوب فيها بالقلم الأحمر لكي لا يفصل حيدر فعليه في ظرف خمسة أيام أن يحل مجلس إدارة نادي الضباط ، وينقل 12 ضابط . فاستدعي سري باشا حيدر وأطلعه علي المذكرة وسأله عن الأثنى عشر ضابطا . فقال أنه لا يعرفهم . فقال له سري باشا ابحث هذا الموضوع ثم عد إلي – فرجع إليه في اليوم التالي وقال : خلاص أصدرت أمر بحل مجلس إدارة نادي الضباط – فقال له سري باشا : لماذا تعجلت وأنا لم أكلفك بإصدار هذا الأمر وإنما طلبت منك مجرد بحث الموضوع ؟ فرد حيدر قائلا : أنا كنت سأفصل من عملي . ز – كان هذا القرار بمثابة صب البنزين فوق النار سواء في الأوساط الشعبية وفي الجيش . ح – تقدم حسين سري إلي الملك بقائمة الترشيحات الوزارية وقد رشح فيها اللواء محمد نجيب لوزارة الحربية والبحرية . ورفض الملك قائمة لوجود محمد نجيب بها . وتمسك سري بنجيب . وحدثت أزمة . وأصر حسين سري علي الاستقالة وذهب إلي بيته – وفي الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي زاره حيدر موفدا من قبل الملك ، ودار بينهما الحديث التالي : حيدر – يا باشا أنت تعرف حبي لك وتقديري لشخصك ... فقطع عليه سري الكلام وقال : إحنا الآن في جد مش في هزل . الجيش في تذمر وهذا التذمر سينتهي إلي ثورة تأكل الأخضر واليابس ، وأنتم تعيشون من ساعة لساعة ويتقولوا دي زوبعة في فنجان وأن حكومتي حكومة جبناء.. وأحب أن أقول لك للمرة الأخيرة أن النصح والإصرار ليس جبنا .. وأنا شايف أنها ثورة وأنتم شايفين إنها زوبعة في فنجان .. وأنا شايف أن محمد نجيب محبوب في الجيش وأنتم بتقولوا العكس – وأنا بقول إتن سري عامر راجل وسخ وحرامي أنتم متمسكين بيه . والذي لا نختلف عليه أن هناك تذمرا ، ونحن مختلفون في تقدير مدي هذا التذمر ونتائجه .. وأنا اللي بحكم وشايف كل حاجة فمفيش محل للكلام ده وأنا مستقيل " . فلما عجز حيدر عن إقناعه أرسل إليه الملك حافظ عفيفي رئيس الديوان وقال له : إن الملك في مأزق ، وهو يثق فيك كل الثقة ، ويرجوك أن تؤلف الوزارة . واتفق معه علي أن يتولي هو بنفسه مؤقتا وزارة الحربية والبحرية . كريم ثابت من رجال السراي ورجال الحاشية ووظيفته السكرتير الصحفي للملك . ويلاحظ أن الملك قد حشره في الوزارة دولة ليكون عينا له علي الوزارة ولعل سري باشا قد أذعن لهذا الحشر تهدئة لروع الملك وتخفيفا من فزعه .
• دلائل أخري علي الانهيار التام :
أولا – اجتمع سري باشا منذيومين بأحد أصدقائه المقربين إليه . وكان هذا أول اجتماع بينهما بعد تأليفه الوزارة – وبادر سري باشا قائلا : لعلك تريد أن تسألني كيف قبلت الحكم برغم تأكيدي لك أني لن تولي الوزارة ؟ فرد سري باشا قائلا : لقد كنت أنت علي حق .. وكنت أنا أيضا علي حق – كانت هناك محاولات لإقناعي بقبول الوزارة ولكني رفضت ذلك رفضا باتا .. وبعد ذلك صورحت بحقيقة الموقف وبما آلت إليه مصائر البلاد ، وكيف أصبح الأمر من الخطورة بحيث لا يسع أي مصري إلا أن يتقدم لحمل العبء ولو ناءت به كتفاه .. ولما وجدت الأمر كذلك لم يسعني إلا أن أقبل الوزارة لعلي أنقذ شيئا . ثانيا – لم يكن المصريون وحدهم هم الذين يحسون بخطورة الموقف في البلاد وبأن البلاد مقبلة علي أحداثجسام .. وإليك ما نشرته " أخبار اليوم " في نفس اليوم تحت عنوان " أنوار كاشفة " وجاء فيه : " وقد واجهت وزارة حسين سري باشا بعض العقبات عند تأليفها ، ولهذا فإنه يمكن القول أنها ولدت في الأعاصير . وعادة أن المولود الذي يولد في أثناء العواصف لا يتأثر كثيرا بتيارات الهواء . ومن الطريف أن كثيرا من السفراءوالوزراء المفوضين زاروا الوزراءمهنئين سألوهم : كم يعتقدون أن عمر الوزارة سيطول ؟ وهو سؤال ما كان يصح أن يوجه إلي الوزراء. إذ المفروض دائما أن الوزير كالزوج هو آخر من يعلم .. " . أما نحن فنقول : لقد صدق حدس الشعب وحدس هؤلاء السفراء ، فقد مكثت هذه الحكومة في الحكم سبعة عشر يوما ، ثم خلفها وزارة أخري برياسة الهلالي مكثت سبع عشرة ساعة . وكانت الأزمة المستحكمة تتلخص في أن البلاد صار يتنازعان تياران متعارضان : تيار متمسك بما أعلن من إلغاء المعاهدة ، ومصمم علي مواصلة المقاومة ضج المستعمر المحتل حتى يجلو عن وادي النيل – والتيار الآخر يري مصلحته في مصالحة المستعمر والاستسلام له والرجوع عما تم اتخاذه من خطوات إيجابية في إلغاء المعاهدة . والتيار الأول من ورائه الشعب كلخ بجميع طوائفه وهيئاته . والتيار الآخر منبعث من القصر الملكي ومعه حفنة من السياسيين القدامى المحترفين من ذوي المصالح وعشاق مناصب الحكم ، ولكنهم مع ذلك لا يجرؤون . أمام إجماع الشعب – علي الإعلان عن نواياهم ، فهم يلجئون إلي أساليب ملتوية ، وخطط باهتة المعالم ، يخفون في ثناياها أغراضهم وأهدافهم – وكلما جربوا أسلوبا فخيب آمالهم لجئوا إلي أسلوب آخر .. والشعب واقف لهم بالمرصاد . وكان الملك في ذلك الوقت في أشد حالات الذعر والهلع ، كالمجرم الذي عاث في الأرض فسادا ثم وجد نفسه أخيرا وقد ضيق عليه الخناق ، وأحيط به من كل جانب . ورأي يد العدالة تمتد إلي عنقه لتقتص منه – ولم يكن هذا الوصف لحالة الملك مجرد تصور أو تخيل ، بل لقد تبين فيما بعد أنه كان يفكر في ذلك الوقت في الهرب من البلاد .