الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الثاني - الباب الرابع)
البـاب الرابع نظـرة أخيـرة إلي حـسن البـنا
الفصل الأول : تاريخ أرادوا طمسه :
• بعد حسن البنا :
حسن البنا صاحب دعوة أفني حياته في نشر لوائها ، فقد وصل بها إلي أعماق الريف بعد أن غزا بأفكاره عقول الطائفة الرائدة في البلاد من طلبة الجامعة والأزهر ، فهز بهذه الطائفة أرجاءمصر من أقصاها إلي أقصاها .. وظل يزحف بدعوته هذه يوما بعد يوما حتى ضيق الخناق علي كل فكر زائف ، سواء أكان عقديا أو اجتماعيا أو سياسيا .. مما دعا أصحاب هذه الأفكار الزائفة – مع ما بينهم من خلاف مرير – إلي تناسي خلافاتهم ، وأجمعوا كيدهم ثم أتوا صفا لضرب هذا الزحف الهادر ضربة رجل واحد .. فاتحدت الشيوعية الدولية مع الصهيونية العالمية مع الاستعمار الغربي مع الخونة من المصريين ، ووجهوا الضربة القاضية إلي صاحب الفكرة ، وباعث الحركة ومنشئ الدعوة ، وقائد الزحف فأردوه قتيلا ، وسط مؤامرة محبوكة الأطراف ... وراح حسن البنا شهيد فكرته وضحية دعوته . ولما تم لهم ما أرادوا من اغتياله ، فوجئوا بما لم يكونوا يحتسبونه . إذ وجدوا أنهم لم يظفروا بما كانوا يأملون من الأمن .. فقد ظل شبحه يلاحقهم ويقض مضاجعهم ، ويبعث الرعب والفزع في نفوسهم .. فجندوا كل إمكاناتهم من أقلام كتاب ، وإلي حناجر خطباء ، إلي محرري صحف ، إلي أبواق دعاية ، إلي ملفقي تهم ، إلي مزوري تحقيقات ، إلي محترفي تعذيب لمطاردة هذا الشبح .. وظلت هذه المطاردة عاما كاملا لا تهدأ يوما واحدا ولا ساعة من ليل أو نهار .. ولكنها مع ذلك فشلت في مطاردته وتغلب عليهم – فاضطروا إلي تغيير الأسلوب ، ولجئوا في المطاردة إلي أسلوب الخداع والمداهنة عن طريق سن القوانين .. ففشلوا كذلك .. ولما سقط في أيديهم سلموا بالأمر الواقع راغمين . استشهد حسن البنا في 12 فبراير 1949 . ولكن كلمة إنصاف واحدة في حقه لم تخطها يد كاتب في صحيفة إلا في 14 فبراير 1952 حيث كتبت جريدة " المصري " معبرة عن رأي أصحابها ، فنشرت صورة له ، وتحت عنوان " ذكرى الإمام الشهيد المغفور له الشيخ حسن البنا " كتبت ما يلي : " صادف يوم تعطيل " المصري " (الجمعة 12 فبراير حيث كانت عطلتها الأسبوعية وكان لكل جريدة يوم عطلة في الأسبوع) الذكرى السنوية للإمام الشهيد المغفور له الشيخ حسن البنا (بخط كبير) . والحق أن الشهيد العظيم باق في قلب كل مصري . ويلتف المسلمون في مصر والبلاد العربية حول دعوته الكريمة ؛ لأنها كانت ومازالت نورا أي نور . وإذا كان الفقيد الكريم قد انتقل إلي دار البقاء ، فإن دعوته خالدة ممتنعة علي الزوال . وحسب الفقيد أن تلك الدعوة تنتظم الناس في جميع الظروف ، وأن حياته المجيدة كانت جهادا في سبيل إعلاء كلمة الله . رحم الله الفقيد وعاشت ذكراه الوضيئة مثلا من الإنسانية المكافحة في سبيل الحق " أ.هـ .
• تناقض مريب في تقييم حسن البنا :
والآن .. وبعد ثلاثين عاما من استشهاده ، تخللتها أحداث جسام كان من أبرز سماتها أنها أحداثمتناقضة ، يقف المؤرخ أمامها مشدوها حائرًا ... كيف يعلل هذا التناقض ؟ فقسم من الناس يثني علي حسن البنا أجمل ثناء، وقسم آخر يغض من قدره .. بل وصل التناقض إلي حد أذهل المؤرخين ، فجهة واحدة مجدت شخصيته وشهدت له بالفضل في إيقاظه الأمة من سباتها ، وفي بعث الوعي الإسلامي فيها حتى صارت مهيأة للانتفاضة التي تخلصت فيها من معوقي نهضتها – ثم رأي المؤرخون أن هذه الجهة نفسها – بعد أن استقرت لها الأمور – انقلبت في عنف ونزق فسلبت حسن البنا كل فضيلة وألصقت وألصقت به كل زذيلة , فوقفوا أمام هذا التناقض ذاهلين .. كيف يكون هذا ؟ وبماذات يعللونه ؟ وإذا كان بعض الأذكياء من الجيل الذي كان معايشا هذا التناقض قد استطاعوا أن يلمحوا في ثنايا الأحداث ما يلقي بعض الضوء علي هذا التناقض ، فماذا يكون وقع هذا التناقض علي أجيال لم تعايش هذه الأحداث ؟ لاسيما وأن ستارا كثيفا قد أسدل علي الحقائق التي جرت لها بالتعبير كانت مأجورة من الجهة التي وقع منها التناقض .
• الشعب أخطأه التوفيق في اختيار القيادة :
إنني التمس العذر لهذه الأجيال – بعد أن لقنت – فذهبت بها الظنون في أمر حسن البنا كل مذهب ، وانتهي بها الأمر إلي إطراح هذه الشخصية جانبا ، والجري وراء شخصيات أخري أرادت لها هذه الجهة المتسلطة أن تبدو براقة أخاذة ، فركزت عليها أضواء باهرة لتملأ في نفوس الشباب الجديد فراغا باعتبارها الزعامة والقيادة . ولكننا اليوم – وقد أوِشك هذا الستار أن ينقشع – هل نترك هذا الجيل وما يليه من أجيال في هذا التيه الذي لا نهاية له إلا الضياع الذي تعاني اليوم من بوادره وخف ما فيه .. ومع ذلك فقد ضاق الشعب بمصائبه ذرعا ، ويئس الجميع من أن يجدوا لمعضلاته حلولا ، وبات الناس وقد بلغت القلوب الحناجر ... فكيف إذا دهمنا من معضلات هذا التيه ما هو أدهي وأمر ؟ إن أول الطريق للشعوب دائما هو الإيمان بقيادة .. فإذا وفق الشعب إلي قادة صالحة ، لم ينتقل من حال إلا ما هو أحسن منها ، أما إذا أخطأه التوفيقفي اختيار القيادة فالتدهور المتلاحق هو نصيب الشعب لا يفيق منه لحظة واحدة . والشعوب الحية قد تخطئ الاختيار ، لكنها لا تتمادي في خطئها ، بل تعيد النظر وتقلب الطرف الفينة بعد الفينة ، علي أساسمن تقييم واضح وحساب دقيق .. وبهذا الأسلوب تقيل نفسها من عثرتها ، وتسترد رشدها . وتعدل اختيارها ، فتصحح بذلك مسارها .. ولا يتأتي ذلك إلا إذا اخترقت بثاقب نظرها سحائب الأوهام ، وبددت بحرارة إيمانها ضباب الشكوك فرأت الحقائق المستورة مجرد واضحة . وقد أتينا في الفصول السابقة من هذا الكتاب علي سرد تاريخي مدعوم بالأدلة والأسانيد ، مشحون بالأقوال والنصوص . وكان هدفنا من وراء هذا العناء كله أن نستخلص من بين حطام المعارك التاريخية في عهود مظلمة ما أخفي عن هذا الشعب – لاسيما الأجيال الحديثة منه – من ظروف غامضة وقرائن محجوبة ، وأسرارها مكتومة ، وحقائق مغلقة بأغلفة كثيفة من الباطل .. حتى يتمكن هذا الشعب – بإعادة النظر في تاريخه – من تصحيح أخطائه ، ومن وضع عناصر هذا التاريخ – لاسيما الرجال والقادة .. كل منهم في وضعه الصحيح الجدير به ... فربما ارتفع بذلك رجال .. وهبط إلي الحضيض رجال كانوا في نظره في الذروة .
• أنموذج لمسخ التاريخ :
رأي المسيطرون علي مصائر البلاد أن يصوروا حسن البنا في صورة منفرة حتى ينفض الناس عن عودته .. ولا نستطيع في عجالة كهذه أن تستوعب ذكر جميع الصور التي صوره فيها ، لاسيما بعد استشهاده ، وبعد اعتقال أنصاره واعتقال جميع الألسنة الحرة والأقلام الحرة في البلاد ، فإن هذه الصورة قد حوتها نشرات وكتيبات ومجلات وصحف لو أنها جمعت لكانت في حجمها أضعافا مضاعفة لحجم هذا الكتاب .. ولكننا نجتزئ منها جميعا بصورة واحدة تمخضت عنها قريحة كاتب كبير ، وأديب عظيم ، يضعه الجيل الحالي – مخدوعا – موضع الإجلال والتكريم ، ويفكرون في تخليد ذكره بتمثال يجعله في صف القادة الخالدين . كتب عباس محمود العقاد – الأديب العملاق – في إحدى صحف ذلك العهد مقالا ، وقامت الحكومة بطبعه ونشره وتوزيعه مجانا علي الناس .. ويتلخص المقال في أن الأديب العملاق والكاتب المحقق قد اكتشف أخيرا أن حسن البنا دجال من أصل يهودي قام لتخريب الدولة الإسلامية . وقد اخترت هذه الصورة ، لأنها كانت من أجرأ الأكاذيب علي الحق .. وحين قرأت هذا المقال تعجبت أشد العجب لاستهتار هذا الكاتب بعقول الناس ، فحسن البنا لم يكن شخصية قديمة موغلة في القدم مضي عليها عشرات القرون حتى يختلف الناس في أصلها ونسبها .. وإنما هو رجل من جيلنا نعرفه ونعرف أباه وأمه وإخوته وأعمامه وأخواله وعماته وأجداده للأبوين إلي سابع جد كما يقولون ونعرف مسقط وهي قرية شمشيرة من أعمال مركز قوة محافظة كفر الشيخ – وكان والده من العلماء العاملين يرتزق من تصليح الساعات في محل له بالمحمودية التي نزح إليها في مقتبل أيامه طلبا للرزق ، ويشهد لهذا الوالد بالعراقة في الدين وطل الباع في العلم كتابه " الفتح الرباني في شضرح مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني " الذي يقع في أكثر من عشرين مجلدا . ولكن بلادنا الأسيفة قد ابتليت بطائفة من أبنائها استحلوا الإتجار بضمائرهم . فهم في الغالب علي المغلوب ، مهما كان الغالب ظالما والمغلوب مظلوما ، فهذا الكاتب العقاد الذي طالع القارئ في كتابنا هذا من قبل كيف كان يتزلف إلي حسن البنا وبعده الإمام المنقذ والقائد الملهم ، ويتمني أن يظفر بالجلوس إليه – حيث كانت أسهمه في ارتفاع .. استباح – حين رأي الحكومة الباغية قد اضطهدته وصادرت دعوته واغتالته – أن يرتع في عرضه ، وأن يكذب علي نفسه وعلي الناس وعلي الحقائق المائلة وعلي التاريخ لقاء دريهمات من خزانة هذه الحكومة الغادرة استمتع بها حينا من الدهر . وإذا كان " الأديب العملاق " قد انحدر إلي هذا الحد ، فكيف بمن هم دونه علما وأدبا وثقافة ممن كانوا معايشين ذلك العهد الأنكد ؟ علي أن الذي يعنينا الآن هو أن نأخذ بيد المنصفين من أبناء هذا الجيل الجديد الذين لازالوا في حيرة من أمرهم حين يحاولون تقييم شخصية حسن البنا .. وسنحاول إن شاء الله في الصفحات التالية أن نعرض عليهم شخصيته مقيسة بمختلف المقاييس المتعارف عليها ونترك لهم بعد ذلك تقييمها والحكم عليها . الفصل الثاني : حسن البنا بين مختلف الطوائف والأفكار : إذا أردنا أن نقسم المسلمين في مصر في ذلك العهد إلي طوائف حسب أفكارهم ومواقفهم من الدين رأينا أنهم طوائف خمس . 1 – طائفة المنتمين إلي التصرف . 2 – طائفة الداعين إلي التزام السنة ومحاربة البدع . 3 – طائفة الصالحين من غير الطائفتين السابقتين . 4 – طائفة الذين لا يبالون بالدين لجهلهم به . 5 – طائفة المترفين المنحرفين عن الدين المتمردين عليه ومنهم أكثر الساسة والحكام . ونحاول إن شاء الله في السطور التالية تجلية موقف حسن البنا من كل من هذه الطوائف حتى يخرج القارئ بتقييم واضح المعالم لشخصيته .
• حسن البنا والتصوف :
إذا ذكر لفظ " التصوف " انقسم الناس في تصوره أربعة أقسام . القسم الأول يتبادر إلي أذهانهم هذه الصور وتلك المظاهر الني نشاهدها في الاحتفالات الرسمية والأعياد الدينية . فيرون موكبا يتقدمه خيانة الشرطة تتبعها طوائف من الناس علي رءوسهم عمائم خضراء وسوداء وحمراء ، ويتوشحون بأوشحة ذات أشكال وألوان – ويرفعون أمامهم ألوية كتب علي كل منها اسم الطريقة – وقد يتبين للناس أن أكثر هؤلاء المشتركين في هذه المظاهر لا يتخلقون في حياتهم الخاصة بخلق الإسلام ، ولا يلتزمون في مسلكهم مع الناس أحكامه وآدابه .. ومن هنا ينشأ في خواطر الناس أزدراء للتصوف ، وانصراف عنه ، واستنكارا له وللقائمين به والمنتسبين إليه والقسم الثاني تقفز إلي مخيلتهم صورة أولئك الذين اعتزلوا الحياة وانعزلوا عن الناس ، واحتجبوا داخل الزوايا والتكايا . عاكفين علي العبادة والذكر ، لا يعنيهم من أمور بلادهم ومواطنيهم شيء .. حتى السعي علي المعاش قعدوا عنه ، وعاشوا علي صدقات الناس ، ظنا منهم أن مسلكهم هذا هو الزهد الذي حث عليه الدين . والقسم الثالث وهم عادة من ذوي الثقافات الغربية ، فهموا التصرف علي أنه أسلوب فلسفي للحياة اشتقه المسلمون من نظريات فلسفية قديمة ، ونقلوه إلي الإسلام .. فلم تعد العبادة معه عبادة بقدر ما انقلبت إلي فلسفة .. وينتقل المتصوف بهذه النظريات إلي متاهات لا حدود لها ، وتنتهي به عادة إلي الضلال والزندقة . هذه هي نظرات أكثر الناس إلي التصوف ، ولكن نظرة حسن البنا إليه نظرة تختلف عن هذه النظرات . فهو يري التصوف أخذالنفس بأسلوبتربوي قويم ، يصفيها من أدرائها ، ويرتفع بها عن المطامع والشهوات .. علي أن يكون هذا الأسلوب مستمدا من القرآن الكريم والسنة النبوية ،ولا حاجة بنا إلي الاستعانة في ذلك بما سواهما ففيهما الكفاية والغناء ، والأمن من التفريط والإفراط ، والسلامة من التورط والانحراف . وقد مارسحسن البنا التصرف بهذا المفهوم ممارسة عملية ، فتربي منذصغره علي أيدي شيوخ علماء أتقياء صالحين ، ويقرر في مذكراته أنه أفاد من هذه الممارسة أعظم الفوائد . ويثني علي التصوف والمنصوفين بهذا المفهوم فيقول : " وهذا القسم من علوم التصرف وأسميه " علوم التربية والسلوك " لا شك أن من لب الإسلام وصميمه ، ولا شك أن الصوفية قد بلغوا به مرتبة من علاج النفوس ودوائها والطب لها والرقي بها لم يبلغ إليها غيرهم من المربين ، ولا شك أنهم حملوا الناس بهذا الأسلوب علي خطة عملية من حيث أداءالفرائض لله واجتناب نواهيه وصدق التوجه إليه " ثم يردف ذلك قائلا : " وإن كان ذلك لم يخل من المبالغة في كثير من الأحيان تأثرا بروح العصور التي عاشت فيها هذه الدعوات ،كالمبالغة في الصمت والجوع والسهر والعزلة .. ولذلك كله أصل في الدين يرد إليه : فالصمت أصله الإعراض عن اللغو ، والجوع أصله التطوع بالصوم ، والسهر أصله قيام الليل ، والعزلة أصلها كف الأذى عن النفس ووجوبالعناية بها . ولو وقف التطبيق العملي عند هذه الحدود التي رسمها الشارع لكان في ذلك كل خير " . ويقول أيضا : " ولا شك أن التصوف والطرق كانت أكبر من أكبر العوامل في نشر الإسلام في كثير من البلدان وإيصاله إلي جهات نائية ما كان ليصل إليها إلا علي يد هؤلاء الدعاة ، كما حدث ويحدث في بلدان أفريقيا وصحاريها ووسطها وفي كثير من جهات آسيا كذلك – ولا شك أن الأخذ بقواعد التصوف في ناحية التربية والسلوك له الأثر القوي في النفوس والقلوب ، ولكلام الصوفية في هذا الباب صولة ليست لكلام غيرهم من الناس " . ثم يتحدث عن بعض الطرق الصوفية المعاصرة وما دخل عليها من المغالاة والانحراف فيقول : " ومن واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير في إصلاح هذه الطوائف من الناس ، وإصلاحهم سهل ميسور ، وعندهم الاستعداد الكامل له ، ولعلهم أقرب الناس إليه لو وجهوا نحوه توجيها صحيحا ، وذلك لا يستلزم أكثر من أن يتفرغ نفر من العلماء الصالحين العاملين ، والوعاظ الصادقين المخلصين لدراسة هذه المجتمعات والإفادة من هذه الثروة العلمية وتخليصها مما علق بها ، وقيادة هذه الجماهير بعد ذلك قيادة صالحة " . أما نحن فنقول : لعل اتصال حسن البنا في مقتبل حياته بالصوفية ، وأخذ نفسه بأساليبهم في تطهير القلب وتزكية النفس ، وحملها علي السهر وتعويدها علي التقشف والصبر .. هو الذي هيأه للقيام بأعباء الدعوة بعد ذلك .. ,هي أعباء ثقال – كما أن اندماجه هذا في الصوفية ، وخوضه بنفسه بحارها ، ومعاناته أساليب التربية الروحية المكثفة فيها .. هو الذي جعله أهلا لتربية أتباعه بعد ذلك حين قام بالدعوة تربية روحية قوية كان لها أكبر الأثر في نجاحها نجاحا أذهل الأقربين والأبعدين علي السواء – ولا نعتقد أن حسن البنا كان قادرا علي تحقيق هذا النجاح في دعوته لو أنه لم يكن مؤهلا هذا التأهيل الصوفي القويم ، فإن تكوين الفرد كان هو أساس نجاح هذه الدعوة ، والركيزة العظمي في تكوين الفرد هي تربيته تربية روحية ، وفاقد الشيء لا يعطيه .. ولعلنا قد جلينا أسلوب حسن البنا في تربية أتباعه فيما قدمنا في الجزء الأول من هذا الكتاب .
• حسن البنا والسنة :
كما أن عوامل الإهمال والتحريف قد فعلت فعلها بمرور الزمن في الصوفية حتى حرفتها عن أصلها وبعدت بها عن حقيقتها ، وألصقت بها ما ليس منها ، فكذلك فعلت هذه العوامل نفسها فعلها فيما يتصل بالمعتقدات والعبادات فدخل فيها من التحريف ما بعد بها عن السنة المأثورة عن رسول الله صلي الله عليه وسلم . وكما قام دعاة – حين ركن الناس مع اتساع عمران الدولة الإسلامية إلي الرفاهية والترف – يدعون إلي الزهد والتقشف الذي سمي فيما بعد بالتصوف ، فكذلك قام دعاة – حين بعد الناس عن السنة في العبادات والمعتقدات – يدعون إلي الرجوع إلي السنة ومحاربة ما أدخل علي الدين من البدع والخرافات . وحمل لواء هذه الدعوى في عصرنا الحديث الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي قام في نجد ، وكان لدعوته أصداء في بعض البلاد الإسلامية لاسيما في مصر ، حيث نادي بالرجوع إلي السنة ومحاربة البدع الشيخ محمود خطاب السبكي فأنشأ لهذا الغرض الجمعية الشرعية ، ثم نشأت بعد ذلك لنفس الغرض جمعية أنصار السنة المحمدية كما أشرنا إلي ذلك بشيء من التفصيل من قبل . وغني عن البيان أن نذكر أن شابا كحسن البنا نشأ في حجر والد متضلع في علوم السنة النبوية عكف طيلة حياته علي ترتيب أحاديث أكبر المسانيد الصحيحة فيها وتخريجها وتبويبها وشرحها والتعليق عليها وهو مسند الإمام أحمد بن حنبل ، الذي يضم بين دفتيه أربعين ألف حديث – ولعل هذا الشاب قد شارك والده في بعض المراحل في هذا المجهود الكبير ... شاب نشأ هذه النشاة لابد أن يكون حب السنة قد اختلط بمهجته وامتزج بدمه وملك عليه لبه .. وسوف يري القارئ بعد قليل إن شاء الله إلي أي مدى وصل به هذا الحب
حسن البنا بين طائفتي المنتسبين إلي التصوف والداعين إلي محاربة البدع والطائفتين المحايدتين
تبين مما سقناه آنفا أن التصوف والسنة باعتبارهما فكرتين ، قد أقرهما حسن البنا واعتقدهما اعتقادا راسخا ، وأخذ نفسه بهما ، وارتوي منهما وتضلع – ولكن موقفه باعتباره داعية للفكرة الإسلامية الشاملة كان شيئا آخر ، إذ أنه في هذه الحالة لم يكن يواجه التصرف والسنة باعتبارهما فكرتين مجردتين ، وإنما هو مواجهها باعتبارهما دعوتين .. وفي هذه الحالة يدخل العنصر البشري في الفكرتين علي أساس أنه المكيف للفكرة والمحدد لها والموجه .. وهذا التكييف والتحديد والتوجيه هو الذي يخرج بالتصوف والسنة من كونهما فكرتين إلي صيرورتهما دعوتين .. ومن هنا ينشأ الخلاف . فالتصوف – كفكرة مجردة – يدخل في الفكرة الإسلامية الشاملة علي أساس أنه أحد عناصرها المكمل لشمولها . والسنة أيضا كفكرة مؤداها الاقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم واتخاذه أسوة هيكذلك أحد عناصر الفكرة الإسلامية الشاملة ولا غني عنها . أما أن يحمل هاتين الفكرتين طائفتين ، وتدعي كل منهما أن الإسلام مقصور علي فكرتها لا يتعداها ، فيدعي الدعاة إلي التصوف هو الإسلام وأن الإسلام ليس إلا التصوف ، ويدعي الدعاة إلي السنة أن محاربة البدع التي دخلت علي المسلمين في عباداتهم هي الإسلام وأن الإسلام ليس إلا محاربة البدع – وادعاء الفريقين أن ما سوي ذلك من شئون الدنيا من جهاد في الإسلام ليس إلا محاربة البدع – وادعاء الفريقين أن ما سوي ذلك من شئون الإسلامية التي تتخذ القرآن الكريم دستورا لها .. إن هو إلا إقحام للإسلام فيما لا يعنيه .. هنا رأي حسن البنا أن يكون له موقف آخر . كان للطرق الصوفية في مختلف الأنحاء اتباع كثيرون ، كما أن بعض الناس قد نشأ بين الطائفتين ، فتعرضت كل منهما للأخرى بالنقد اللاذع والتجريح الشديد ، وتربصكل طرف منهما بالطرف الآخر ، يشهر به ، وينفر منه ، ويعلن الحرب عليه .. حتى رمي كل منهما الآخر بالكفر .. فتحول الأمر من دعوة إلي التمسك بالدين إلي إشاعة التقاطع والتباغض ونشر الفرقة والعداء بين المسلمين . وفي خلال هذا التلاحي والتخاصم بين هاتين الطائفتين قام حسن البنا بدعوته .. ولما كان أساس دعوته الأخوة ، فإن توجه بها أول ما توجه إلي الطائفتين المحايدتين الثالثة والرابعة ، ممن لا تشغل بالهم قضايا الخلاف – وهما يضمان أكثر أفراد الشعب – فالتف حوله جم غفير منهما .. فنهض بهم متخطيا حمأة الخلاف ورقاب المتناحرين ،وواصل السير بعيدا عن هذا الخلاف يدعو المسلمين إلي التآخي والتآزر للوقوف في وجه المد الاستعماري الذي بسط نفوذه علي الأمة الإسلامية فأذلها وسخرها لمصالحه بعد أن نشر فيها الفساد والانحلال وقضي فيها علي الدين والأخلاق . أحنق هذا الأسلوبفي الدعوة الطرفين المختلفين ؛ إذ رأيا حسن البنا لا يعير مواطن الخلاف بينهما اهتماما ، في حين يري كل منهما أنه يدعو إلي الإسلام كله لبه وجوهره ، وأن اعتقاده هو الحقوأن اعتقاد الطرف الآخر هو الباطل .. فرماه دعاة السنة بأنه يدعو إلي السفساف والتافه من أمور الإسلام ويدع العظيم والخطير منها وهو العقيدة الصحيحة وتطهيرها من البدع والخرافات .. ورماه الصوفيون بأن تنكب الأسلوب الإسلامي بدعوته الناس إلي التدخل في شئون الدنيا ، وحسبه لو كان يريد الدعوة الصحيحة إلي الإسلام حقا أن يقتصر علي دعوة المسلمين إلي الانتظام فيسلك الطرق الصوفية ليتربوا في أحضانها تربية روحية ، مبتعدين عن التدخل فيشئون لا دخل لهم فيها ، فما لهم وللاستعمار، ولا يقع في ملكه إلا ما يشاء، وليس في المكان أبدع مما كان . وقد يقع هذا الكلام من قرائنا اليوم موقع الاستغراب ، فالحال الآن مغاير للال التي نتحدث عنها . ولكنني أؤكد لهم أن هذا الوصف الذي أوردنا طرفا منه كان هو الأمر الواقع فيذلك . فلقد كنا – نحن دعاة الإخوان المسلمين – تعترضنا هذه الأفكار حين نوجه دعوتنا إلي زملائنا بالكليات ، وحين كنا نغشيالمجتمعات الشعبية خارجها من عامة الناس في القاهرة والأقاليم .. وقد أشرت في مكان سابق في الجزء الأول من هذه المذكرات إلي مواقف ليشخصيا مع زملاء لي في الكلية من السنيين وأخري مع أحد مشايخ الطرق . وقد أومأ حسن البنا نفسه إلي مثل هذه المواقف في أدب جم حين كتب في " مذكرات الدعوة والداعية " يقول : " واستمرت صلتنا علي أحسن حال بشيخنا السيد عبد الوهاب الحصافي حتى أنشئت جمعيات الإخوان المسلمين وانتشرت ، وكان له فيها رأي ولنا فيها رأي ، وإنحاز كل إلي رأيه . ولازلنا نحفظ للسيد – جزاه الله عنا خيرا – أجمل ما يحفظ مريد محب مخلص لشيخ عالم عامل تقي، نصح فأخلص النصيحة ، وأرشد فأحسن الإرشاد " .
• طريقته في الدعوة :
وتوضيحا للطريقة التي انتهجها حسن البنا في الدعوة إلي الفكرة الإسلامية ، وفي صدد ما وجه إليه من هاتين الطائفتين من نقد شديد كتب – رحمه الله – في مجلة " الإخوان المسلمين " في أواسط الثلاثينات مقالا رسم فيه مربعا كبيرا كتب علي حوافه الأربع من الداخل " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ورسم في مركز هذا المربع مربعا صغيرا . وكتب يقول : إن إخواننا الذين ينتقدوننا يحصرون دعوتهم في حدود المربع الصغير الذي يقع في مركز الدائرة . وهم بذلك يقصرونها علي الذين اكتمل فيهم كل ما يرون أنه العقيدة الصحيحة .. وهذا عدد ضئيل . أما نحن فتتوجه بالدعوة إلي كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله مهما كان مقصرًا فيما سوي ذلك من تعاليم الإسلام وأفكاره – وكل ما نطالبه به أن يرتبط معنا برباط الأخوة الإسلامية للعمل علي استعادة مجد الإسلام . وهذه الدعوى غير المشروطة بشيء إلا بالإقرار بالشهادتين يستجيب لها طوائف علي درجات متفاوتة من الإيمان بالتعاليم الإسلامية والعمل بها ، تبدأ من مجرد الإيمان بالشهادتين وتنتهي بالعاملين بجميع التعاليم الإسلامية الفاقهين لأسرارها . وفي ظل روح الأخوة التي تجمع بين كل هذه الطوائف ، وتحت لواء المبايعة علي العمل لاستعادة مجد الإسلام ، وعلي ضوء توجيهات قيادة الدعوة الممزوجة بروح الحب والمودة .. تنصهر كل هذه الطوائف في بوتقة هذا المجتمع فترقي كل طائفة في إيمانها وعملها وعقيدتها وفقهها .. ويتقبل الفرد من هذه الطوائف – عن طيب خاطر بل وبمسارعة – من النصائح والتوجيهات والأفكار ما لم يكن ليتقبله وهو خارج نطاقهذا المجتمع الذي تسوده روح الأخوة والتضامن والمحبة والود . وأعود إلي وصف الحال الذي كان فأقول : إن هجوم الطائفتين علي حسن البنا كان يزداد شدة كلما ازدادت دعوته انتشارا .. فلما وصل الانتشار إلي الحد الذي أحسنا فيه أنه أخذ يغزو معسكريهما رفعتا درجة الهجوم حتى شككوا في عقيدة الإخوان وفهمهم للإسلام ... وهنا أصدر حسن البنا رسالة هامة من وسائله التي كان يصدر كلا منها بمناسبة من المناسبات .
• فهمه للفكرة الإسلامية :
وكانت هذه الرسالة هي رسالة " التعاليم " التي حدد فيها رؤية الإخوان المسلمين للتعاليم الإسلامية الأساسية ، ورأيهم في مواطن الخلاف بين الطوائف . كما تشتمل علي توجيهات عملية كثيرة . ولكن بيت القصيد فيها هو ما صدرت به من رسم للصورة التي يري الإخوان الفكرة الإسلامية في إطارها ، وهاك هذه الصورة – يقول حسن البنا رحمه الله : " أيها الأخ الصادق .. إنما أريد بالفهم : أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة " وأن تفهم الإسلام كما نفهمه في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز : 1 – الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة . 2 – والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرُّف أحكام الإسلام . 3 – الإيمان الصادق والشفافية والمجاهدة نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ، ولكن الرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية ، ولا تعتبر إلا إذا كانت لم تصطدم بأحكام الدين ونصوصه . 4 – الشعوذة وادعاء معرفة الغيب وضرب الودع وغيرها من هذا الباب فهو منكر وتجب محاربته ، إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة فقط . 5 – رأي الإمام أو نائبه فيما لا نص فيه ، ويحتمل وجوها كثيرة في المصالح المرسلة ، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية . وقد يتغير بحسب الظروف والعادات . فإنه تغير في الفرعيات لا في الأصل . 6 – كل شخص يؤخذ من كلامه ويرد إلا الرسول صلي الله عليه وسلم وكل ما جاء من السلف رضوان الله عليهم ، ولكن لا نتعرض للأشخاص فيما اختلف فيه بطعن أو تجريح . وكلا حسب نيته . 7 – وكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية فله أن يتبع أي إمام من أئمة الدين ، ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته ، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صلاح من أرشده . 8 – الخلاف الفقهي في الفرعيات لا يجب أن يتسبب في اختلاف بين الأطراف أو سببا للتفريق في الدين ، أو يؤدي إلي خصومة ولا بغضاء " الاختلاف لا يفسد للود قضية " . 9 – وكل مسألة لا يبني عليها عمل هو من التكلف الذي نهينا عنها شرعًا ، ومن ذلك كثرة التفريعات التي لم تقع ، أو الخوض في معاني آيات القرآن الكريم التي لم يصل إليها العلم بعد ، أو الكلام بين مفاضلة أصحاب رسول الله وما شجر بينهم من خلاف ، ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته " من عاد لي وليًا فقد آذنته بالحرب " . 10- معرفة الله تبارك وتعالي وتوحيده هو من عقائد الإسلام ، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء . ويسعنا ما وسع رسولنا الكريم وأصحابه (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربنا) صدق الله العظيم . 11- وكل بدعة ليس لها أصل في الدين أو السنة فهي استحسنها الناس بأهوائهم ، سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه فهو ضلالة وتجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلي ما هو أشر منها . 12- ولكن البدعة الإضافية أو التَّرْكِيَّة والالتزام في العبادات المطلقة فيها خلاف فقهي ، لكل فيه رأيه ؛ ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان . 13- ومحبة الصالحين والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلي الله تعالي والأولياء المذكورون في قوله تعالي (الذين آمنوا وكانوا يتقون) والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع العلم بأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا في حياتهم أو بعد مماتهم فضلاً عن أن يهبوا شيئًا من ذلك لغيرهم . 14- زيارة القبور أيًا كانت سنة مشروعة بالكيفية المأثورة والمعروفة ، ولكن الاستعانة بمن في المقابر أياً كانوا وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد والنذر لهم وتشييد القبور وسترها وإضاءتها والحلف بغير الله فهي كبائر تجب محاربتها . 15- والدعاء إذا قرن بالتوسل إلي الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة . 16- والعرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية ، بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها ، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء مثال (المشروبات الروحية) وهي الخمر فهذا خطأ فادح أن يسمي شيء ملعون بأنه روحي . 17- والعقيدة أساس العمل ، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة ، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعا ، وأن اختلفت مرتبتا الطلب . 18- والإسلام يحرر العقل ، ويحث علي النظر في الكون ، ويرحب بالصالح النافع من كل شيء . " والحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها " . 19- النظر الشرعي والنظر العقلي لا يدخل في دائرة الآخر ولكنهما لم يختلفا في القطعي " فلا تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة ؛ ويؤوَّل الظني منهما ليتفق مع القطعي ، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولي بالأتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار . 20- لا نكفر مسلمًا أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدي الفرائض – برأي أو معصية – إلا إذا أقر كلمة الكفر ، أو أنكر معلمًا من الدين بالضرورة ، أو كذب القرآن ، أو فسره علي وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية ، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلاً غير الكفر .
• تعليق علي بعض البنود :
يلاحظ القارئ أن السمة العامة لهذا الفهم ببنوده العشرين سمة الداعية الذي يريد أن يجمع ولا يفرق ، ويريد أن يغلب روح الأخوة علي جموع التعصب ، ويريد أن يبرز سماحة الإسلام ورحابه أفقه ومرونة وكفاءته العالية في تكوين الشخصية المؤمنة القادرة علي تعمير الحياة وإصلاحها وجعلها الأمة المثالية الجديرة بالقيادة والريادة .. وإذا أردنا أن نتناول البنود العشرين بشيءمن التوضيح طال بنا الحديث وتفرع ولذا نكتفي بتعليق مقتضب علي البنود التي تتصل بما نحن بصدده في هذا المقام فنقول : أولا – قرر البند الثاني أن مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام ليس القرآن وحده بل السنه المطهرة معه ، وأن فهم السنة المطهرة يرجع فيه إلي رجال الحديث الثقات . ووراء هذا الحرص علي الجمع في النص بين القرآن الكريم والسنة قصة وموضوع خطير ، ذلك أن من الأساليب التي بيتها المتآمرون علي الإسلام وأحكموا تدبيرها حتى وجدت طريقها إلي أفئدة بعض المسلمين وعقولهم دون أن يقدروا خطورتها ودون أن يعلموا أنها كافية أن تأتيعلي بنيان الإسلام من قواعد ، وتنسفه من أساسه إن نجحت – أن يلقوا في روع المسلمين أن في القرآن وحده الغناء في معرفة أحكام الدين ، فالقرآن وحده هو الكتاب الذي تكفل الله عز وجل بحفظه ، أما السنة فإنها لم تحظ بمثل هذا التكفل فهيلذلك غير موثوق بها . ولكن تتضح خطورة هذه المؤامرة يستعرض القارئ ما يعرفه من أحكام الإسلام الأساسية في العبادات والمعاملات فيجد أن أكثرها مأخوذ من السنة ولم يتعرض له القرآن إلا بالإشارة المجملة . فالصلاة بعددها ومواقيتها وهيئاتها وأركانها وشروطها ومبطلاتها كلها جاء من السنة المطهرة والزكاة بمواعيدها ومقاديرها وأنواعها كذلك ، ورجم الزاني المحصن غير ذلك من الأحكام الأساسية في الإسلام كلها أخذت عن السنة النبوية .. والقرآن الكريم نفسه يقرر وجوب الأخذ بالسنة فيقوله : ( • ) ، وقوله : ( ) ، وقوله : ( ) .
• أمنية لحسن البنا :
كان الكثيرون من أصدقاء حسن البنا من عارفي فضلة من العلماء يحثونه علي تأليف كتب في التفسير وفي مختلف فنون الإسلام ، ويلحون عليه في ذلك حرصا علي تزويد المكتبة الإسلامية بنظرات عميقة وأفكار غير مسبوقة مما يسمعونه منه في بعض دروسه وفي مجالسه الخاصة معهم . " دعوني من تأليف الكتب ، فمهما حوى الكتاب من نظرات وأفكار فإن هذه النظرات والأفكار ستظل حبيسة دفينه ، رهينة صفحاته حتى تصادف قارئًا أهلا لفهمها قادرا علي الانتفاع بها .. ,قلما تصادف الكتب هذا اللون من القراء .. فأكثر المؤهلين لذلك لا تسعفهم ظروفهم باقتناء الكتب ولا بقراءتها .. أما أكثر يقتنونها فإنهم ليزينوا بها أثاث بيوتهم – والمكتبة الإسلامية متخمة بالمؤلفات في جميع العلوم والفنون ، ومع هذا فإنها لم تغن عن المسلمين شيئًا حين قعدت هممهم وثبطت عزائمهم وركنوا إلي الدعة والخمول ، واستكانوا للترف فركبهم الأعداء من كل جانب . والوقت الذي أضيعه في تأليف كتاب استغله في تأليف مائة شاب مسلم ، يصير كل شاب منهم كتابًا حيًا ناطقاً عاملاً مؤثرًا ، أرمي به بلدًا من البلاد فيؤلفها كما ألف هو " ... وقد أثبت حسن البنا أنه كان علي صواب في نظريته هذه .. وقد حققها تحقيقا لمسه العالم كلها ، ولا زال العالم يعيش هذه الحقيقة . أقول : أنه – رحمه الله – مع عزوفه هذا عن تأليف الكتب ، فإنه كانت له أمنية يسر بها إلي بين الحين والين في مناسبات معينة ، إنه يتمني أن تتيح له الظروف وضع كتاب واحد هو الوحيد الذي تفتقر إليه المكتبة الإسلامية وهو كتاب في " إثبات حجية السنة النبوية " . وكان يقول لي : إن عدم سد هذه الثغرة في المكتبة الإسلامية مدخل خطير للشيطان علي الأمة الإسلامية ، فعن طريق هذه الثغرة يستطيع الشيطان أن يفسد علي المسلمين دينهم . ويقول في هذا الصدد : إن أوثق الأخبار التاريخية التي نتلقاها في مدارسنا ومعاهدنا المتخصصة باعتبارها قضايا مسلمة وحقائق لايأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .. لا تداني في موازين روائها ولا في مقاييس نصوصها درجة الحديث الضعيف عند علماء الحديث ، فلقد وضع هؤلاء العلماء من المقاييس والموازين لرواة الأحاديث ما جمل أدني شبهة حول تصرف واحد لراو واحد من سلسلة رواة حديث كافيا لإسقاط هذا الحديث ورميه بالضعف واعتباره مما لا يعتد به. أقول : ولما كان وضع كتاب في مثل هذا الموضوع يقتضي تفرغه بضعة أشهر – ولم نكن مطالب الدعوة لتمهله يوما واحدا – فإنه لجأ أخيرا إلي أسلوب الصحافة العلمية لعله يتنازل فيها الموضوع مجزأ ، كلما سنحت له فرصة كتب مقالا كل شهر أو شهرين . وقد بدأ هذه المحاولة حين أسندت إليه رياسة تحرير مجلة المنار ، ولكن الأحداث لم تمهلها طويلا فاحتجبت بعد أشهر ، فأصدر بعدها مجلة " الشهاب " التي لم تكن أحسن حظا من أختها " المنار " إذ لحقت بها بعد بضعة أعداد .. ثم طغت الأحداث الداخلية والخارجية علي النحو الذي وضحناه من قبل فلم تدع لتحقيق هذه الأمنية سبيلا . ثانيا – وضح مما قدمناه في هذه العجالة مدي اهتمام حسن البنا بالسنة ، وتقديره لمكانتها في الإسلام باعتبارها الركن الأساسي الذي لا يقوم الإسلام إلا به .. لكنه أراد بعد ذلك أن يبين أن الانتفاع بالقرآن الكريم والسنة النبوية في تكوين الشخصية المسلمة المتوخية الكمال لا يكون إلا بأخذ النفسبأساليب التربية الروحية المستمدة منهما ، فنص في البند الثالث علي أن للإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نورا وحلاوة يقذفها في قلب من يشاءمن عباده – ثم ألحق ذلك بتحذير من المبالغة التي تؤدي إلي الانحراف . وبذلك يكون حسن البنا قد جمع في فهمه للإسلام بين التعاليم في ذاتها وبين تطبيق هذه التعاليم في نفس الفرد المسلم . وهو المعني العملي الشامل الذي قصد إليه القرآن وحثت عليه السنة . وبدون هذا التطبيق لا تتكون الشخصية المسلمة التي هي نواة الأمة المسلمة . وقد يعبر عن هذا الفهم بالاصطلاح العصري أنه جمع بين الالتزام بالسنة وبين التصوف .. ويذكرني هذا بما كان يحاوله – رحمه الله – من تدريس كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام أبي حامد الغزالي ووضع شرح له . وقد بدأ في ذلك كما أشرت من قبل ولكن الظروف حالت دون تحقيق هذه المحاولة أيضًا .. ورحم الله الإمام مالك ابن أنس إذ يقول : " من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ، ومن تصوف وتفقه فقد تحقق " . ثالثا – الإمام الذي يشير إليه البند الخامس هو رئيس الدولة حين يكون للمسلمين دولة – أما موضوع أن الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلي المعاني ، وفي العاديات الالتفات إلي الأسرار والحكم والمقاصد فقد جليناه في المدخل إلي الجزء الأول من هذا الكتاب . رابعًا – ويقول البند السابع " وعلي كل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين " ويجدر بنا في هذا المقام أن ننبه إلي أن الدعوة إلي الرجوع إلي الكتاب والسنة قد فهمها بعض الناس لاسيما الشباب الذي نال قسطا من العلم فهموها علي غير وجهها فراحوا يهاجمون المذاهب القرآن وأن يقرأوا في كتب الأحاديث أنهم يستطعون أن يستنبطوا الأحكام دون حاجة إلي اتخاذ مذهبأز أتباع إمام .. مع أن درايتهم باللغة العربية نحوها وصرفها وبلاغتها لا تعدو دراية سطحية ، فهم لا يعرفون وجوه الأعراب ولا اشتقاق الألفاظ ولا الشواهد التي استند إليها علماء اللغة من كلام العرب ، كما أنهم لا يعرفون الناسخ والمنسوخ ، ولا الإلمام لهم بعلوم أصول الحديث وأصول الفقه ولا بعلوم التعديل والتجريح ولا بتاريخ الرجال وغيرها من العلوم التي لا يكفي مجرد الإلمام بها بل لابد من التضلع فيها لمن يريد أن يستنبط من القرآن والسنة .
• أنموذج يوضح معني المذاهب في الأحكام الفقهية :
وتوضيحا لهذه النقطة من البحث ، وتقريبا للأذهان من فكرة المذاهب في الفقه الإسلامي ووجوب وجودها ؛ لأنها هي الدليل علي مرونة هذا الفقه ، ورحابة صدره وهي وليدة هذه المرونة والدليل عليها .. وسعيا وراء هذا التوضيح نتناول موضوعا قريبا من فهم أكثر الناس هو موضوع فرائض الوضوءشارحين الكيفية التيتم بها استنباط هذه الفرائض ، مستمدين ما نعرض في هذا الموضوع من كتابيالدين الخالصوتفسير القرطبي .. ومنه يتبين كيف نشأت المذاهب والأسس التيقامت عليها هذه المذاهب فنقول : إن النص الذي رجع إليه كل من أدلوا بدلائهم في هذا الاستنباط هو قوله تعالي في سورة المائدة : ( ) وهذا النص هو المعين الذي استقي منه أئمة الفقه فخرج كل منهم للأمة الإسلامية بشراب فكانت أشربة مختلفة طعومها ولكنها جميعا أشربة حلوة عذبة شهية سائغة لذيذة . والقرآن الكريم – كما هو مقرر – حمال أوجه .. ولكنها أوجه لا تبين للسذج الجهله ولا للمثقفين السطحيين ، وإنما تبين لأصحاب البصائر من أفذاذ العلماء المزودين بزاد لا ينفد علي طول البحث وتشعب سبل النظر مهما طوحت بهم أسباب الاستقصاء . والمذاهب في الفقه الإسلامي كثيرة متعددة بقدر ما أنجبت هذه الأمة من علماء أفذاذ وأئمة فضلاء ، ولكننا في هذه العجالة ، وفي معالجة هذا الموضوع نقتصر في تجليته علي المذاهب الأربعة التي انتشرت وتعلق بها أكثر المسلمين فنقول : مع أن الآية الكريمة لم تشمل من التكاليف إلا علي أربعة هي : غسل الوجه وغسل اليدين إلي الموفقين والمسح بالرأس والأرجل إلي الكعبين .. مع هذا فقد كانت نظرات هؤلاء الأئمة إلي الآية أكثر عمقا وأنفذ بصرا وأوسع إحاطة . وكان لهم أمامها ست وقفات :
• الوقفة الأولي – النية :
فقد أضاف مالك والشافعي النية إلي هذه الأربعة المفروضة في الآية ، مستندين إلي حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " وأحمد بن حنبل وإن كان لم يقتنع بجعلها ركنا أو فرضا في الوضوء فإنه جعلها شرط صحة له . ولكن أبا حنيفة اقتصر علي الأربعة الواردة بالآية حيث لا ذكر للنيه فيه ، وقال أن الحديث حديث آحاد يقبل التأويل .
• الوقفة الثانية – المسح بالرأس :
ثم كانت لهم وقفة أمام قوله تعالي : ( ) واختلفت نظراتهم إلي هذا التركيب القرآني العربي المعجز ... ورجوعا منهم إلي رصيد لهم بالغ الثراء فيعلوم اللغة وآدابها وشواهدها رأي مالك أن الباء هنا مؤكدة زائدة ، وأن الرأس هي الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه . فلما ذكره الله تعالي في الوضوءوعين الوجه للغسل . بقي باقية للمسح ، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم . وبناء علي ذلك قرر مالك أن الغرض هو مسح الرأس كله . وقد سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال : أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه ؟ .. وكان من دليل مالك علي أن الرأس هي محوى كل ما ذكر قول الشاعر القديم. إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثرى وغودر عند الملتقي ثم سائري واتفق رأي أحمد بن حنبل في هذه النقطة مع رأي مالك . ولكن الشافعي رأي أن الباء هنا للتبعيض فيجزئ ولو مسح شعرة بحد الرأس ؛ لأن الباء الداخلة علي متعدد كما في قوله : ( ) تكون للتبعيض . وقال مالك : لو كان معني الباء للتبعيض لأفادته في التيمم فيقوله تعالي : ( ) ورد الشافعي علي ذلك قائلا : إن مسح الوجه في التيمم بدل من غسله فلابد أن يأتي بالمسح علي جميع موضع الغسل منه ، ومسح الرأس أصل ، فهذا ما بينهما .. وورد في السنة أن النبيصلي الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته . فرد مالك قائلا لعل النبي صلي الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر ، فقد فعل ذلك في السفر وهو مظنة الأعذار وموضع الاستعجال والاختصار. أما أبو حنيفة فقال أن المفروض قدر الربع ؛ لأن الباء باء الالصاق ، إذا دخلت علي المحل تعدي الفعل إلي الآلة – والآلة هنا هي اليد – فيكون التقدير " وامسحوا بأيديكم برءوسكم " وهذا يقتضي استيعاب اليد دون الرأس . واستيعابها ملصقة بالرأسلا يستغرق غالبا غيرالربع – ويستند أبو حنيفة أيضًا في ذلك إلي حديثأنس بن مالك قال : أرأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة ومسح مقدم رأسه .
• الوقفة الثالثة – ما يخص الرجلين :
ثم وقف الأئمة مرة أخري في الآية الكريمة أمام قوله تعالي : ( ) حيث ورد فيها ثلاث قراءات : الأولي- وهيالتي نقرأها في مصر – بنصب اللام والثانية برفعها والثالثة بخفضها – وقد أجمع العلماء علي الأخذ بالقراءة الأولي حيث تكون " أرجلكم " معطوفة علي " أيديكم " والعامل في هذه الحالة هو " اغسلوا " ويكون التقدير هو " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلي المرافقوأرجلكم إلي الكعبين وامسحوا برءوسكم " ويعضد هذه القراءة فعل النبي صلي الله عليه وسلم . أما قراءة الخفض فالعامل فيها الباء ، ويكون المعني في هذه الحالة هو مسح الرجلين لا غسلهما ، وروي عن أنس بن مالك أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل ، وكان إذا مسح رجليه بلهما – وقال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح ، ألا تري أن التيمم يمسح بين المسح والغسل وجعل القراءتين كالروايتين أييعمل بهما إذا لم يتناقضا
• الوقفة الرابعة – الدلك :
ورأي مالك أن الدلك أحد فرائض الوضوء لقول النبي صليالله عليه وسلم لعائشة في الغسل : " ادلكي جسدك بيدك " والأصل في الأمر الوجوب ، ولا فرق بين الوضوء والغسل ، وأيضا فإن مالك من مسمي الغسل أو شرط فيه – ولحديث حبيب بن زيد أنه سمع عباد بن تميم عن عمه عبد الله ابن زيد أن النبيصلي الله عليه وسلم توضأ فجعل يقول هكذا يدلك . ولكن الأئمة الثلاثة الأخرين قالوا : ن الدلك سنة لا فرض لعدم التصريح به في الأحاديث الكثيرة الواردة فيصفة الوضوءوالغسل ، وهو قرينة علي صرف الأمر بالدلك للندب . ودعوى أن الدلك من مسمي الغسل أو شرط فيه ، محل نظر . والمقرر أن فعل النبي صلي الله عليه وسلم لا يفيد الفرضية .
• الوقفة الخامسة – الموالاة :
وفي هذه المرة وإن اتخذوا الآية قاعدة لهم إلا أنهم لجئوا إلي السنة لتوضيح حجتهم . والموالاة أو الفور هي التتابع بأن يطهر العضو اللاحققبل جفاف السابق – وقد استنبط مالك وأحمد أن الموالاة فرض من فرائض الوضوء لحديث عن بعضأزواج النبي صلي الله عليه وسلم أنه رأي رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة . أما أبو حنيفة والشافعي فقد رأيا في سند هذا الحديث بقية بن الوليد وقد ضعفه غير واحد ، فقررا أن الموالاة ليست فرضا مستندين إلي حديث عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فنرك موضع ظفر علي قدمه ، فأبصره النبي صلي الله عليه وسلم فقال : " ارجع فأحسن وضوءك " . فرجع ثم صلي . رواه مسلم . قالا : فلو كانت الموالاة فرضا لقال صلي الله عليه وسلم " ارجع فأعد وضوءك " وإنما قال : " أحسن وضوءك وإحسان الوضوء إكماله.
• الوقفة السادسة – الترتيب :
واستنبط الشافعي ووافقه أحمد أن النص القرآني بتركيبه يوحي بأن الترتيب فرض من فرائض الوضوء ، بحيث لا يجوز تقديم عضو من أعضاء الوضوء علي آخر بل لابد من الالتزام بالترتيب الذي جاء في الآية الكريمة – وكان حجتهما في ذلك أن الله تعالي أدخل ممسوحا بين مغسولين ، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة ، وهي هنا الترتيب . والآية ما سيقت إلا لبيان الواجب . ولأن من حكي وضزء النبي صلي الله عليه وسلم كان مرتبا . ولكن مالكا وأبا حنيفة رأيا أن الترتيب في الوضوء ليس بواجب ؛ لأن الله تعالي أمر بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس، وعطف بعضها علي بعض بالواو ، وهي لا تقتضي الترتيب فكيفما غسل كان ممثلا ، ووضع الممسوح بين مغسولين لا يدل علي أن الترتيب فرضبل فائدته الدلالة علي استحباب الترتيب . وعلي ذلك كانت أركان الوضوء أو فرائضه عند هؤلاء الأئمة كالآتي : عند أبي حنيفة : أربعة : غسل الأعضاءالثلاثة ومسح ربع الرأس . وعند الشافعي : ستة : النية وغسل الأعضاء ومسح بعض الرأس ولو شعرة والترتيب . وعند مالك : سبعة : النية وغسل الاعضاء الثلاثة ومسح الرأس كلها والدلك والموالاة . وعند أحمد : ثمانية : غسل الأعضاء الثلاثة والمضمضة والاستنشاق باعتبار الفم والأنف من الوجه ومسح الرأس والترتيب والموالاة – أما النية فجعلها شرط صحة . هذا .. وقد أوردت هذا القدر المقتضب غاية الاقتضاب لأعرض علي شبابنا الناشئ صورة مصغرة لكيفية استنباط الأحكام من الكتاب والسنة ، والآلات اللازمة لها ، والمؤهلات الضرورية لمن يرشح نفسه لها ، من حفظ مستوعب للقرآن الكريم والسنة النبوية وإحاطة كاملة بفنون اللغة في أدق تفاصيلها ، وبعلوم السند والرواية وتاريخ الرجال والتعديل والتجريح ، وعلم القراءات وعلم الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم التي تقصر دون الإحاطة بكل علم واحد منها الأعمال فما بالك بالإحاطة بها جميعًا ؟ ثم المقدرة علي استعمال كل معروفة من معارفها في الموضع الذي يحتاج إليها وتؤتي ثمرتها فيه من أساليب الاستقصاء والاستنباط . علي أن تكون كل هذه المواهب مرتكزة علي فكر ثاقب ، وعقل ناضج ، وقريحة وقادة ، وبديهة حاضرة وأفق فسيح ، وقدرة علي الابتكار ، وبصيرة مستنيرة واعية – ومع كل هذه المؤهلات فلا اعتبار لها ما لم يكن صاحبها ذا قلب عامر بالإيمان ، مترع باليقين ، مفعم بالخوف من الله ، فهو يصدع بالحق ولا يخشي في الحق لومة لائم . وهؤلاء الأئمة الذين نروي عنهم هم وأضرابهم .. هم من هذا الطراز الذي جمع إلي المواهب الفائقة النادرة القلب الخاشع والنفس الزاهدة المتبتلة العارفة عن متاع الدنيا ، فمن هؤلاء من حفظ القرآن لسبع ، ومنهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء ، وكلهم أوذي في الله وجلد وسجن ومثل به جهرا بكلمة الحق عند سلطان جائر .. فهل في أتباع هؤلاء إلا أتباع للكتاب والسنة ؟ وهل عاش هؤلاء وماتوا إلا حفاظا علي الكتاب والسنة ؟ وهل ترائهم الذي خلقوه لنا إلا الكتاب والسنة ؟ وهل كانوا بالنسبة للأمة الإسلامية إلا من أولي الأمر الذين قال الله تعالي فيهم : ( • ) وعلي إخواننا الذين يرغبون في الاستنباط من الكتاب والسنة مباشرة إن كانوا من أهل العلم حقا أن يتوفروا علي دراسة هذه العلوم التي أشرنا إليها حتى يستوعبوها جميعا فيكونوا بذلك أهلا للاستنباط . وإن كان دون الوصول إلي هذه الغاية خرط القتاد – وأما من كان هذا الشوط عليهم بعيدا – وهو بعيد فعلا – فحسبهم أن يتبعوا إماما ، وأن يحاولوا فهم أدلته ، لعل ذلك ينمي موهبة البحث فيهم ، ويكونون بذلك قد ساروا في أتباعهم عليبصيرة وهو ما يجدر بكل مسلم .. وإلا فإنهم يكونون كالذين يقحمون أنفسهم في الحرب بلا سلاح . خامسًا – أشار البند الثامن إلي الخلاف الفقهي في الفروع وما يؤدي إليه عادة من خصومة وتفرق نتيجة المراء وهو الجدال بدافع الانتصار للرأي . وكان حسن البنا رحمه الله كثير التحذير من المراء .. ولازلت أذكر الحديث الذي كان كثيرا ما يردده والذي ينهي فيه الرسول صلي الله عليه وسلم عن المراء ويغلظ في النهي حتى أنه ليقول في نهايته : " أنا كفيل ببيت في وسط الجنة لمن ترك المراء وهو محق ، وببيت في ربضها لمن تركه وهو مبطل " . د سادسًا – وفي البدن التاسع ينهي عن الخوض في الأمور التي لا ينبني عليها عمل ، وعن الخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد – وكان حسن البنا – رحمه الله – يستشهد علي ذلك بقول الله تعال في سورة الكهف : ( • ) . ففي هذه الآيات نهيالله تعالينبيه صليالله عليه وسلم عن المماراة مع سائليه عن عدد أهل الكهف كما نهاه حتى عن الاستفسار من هؤلاء السائلين وهم أهل الكتاب عن هذا العدد – ذلك أن معرفة عددهم لا جدوى من ورائها ، و لا ينبني عليها عمل أو تجني فائدة ، وحسب المرء أن يزداد من سياق القصة إيمانا بقدرة الله علي الإماتة والإحياءوعليالبعث.. أما مدة لبثهم في الكهف – لأنها موضع العبرة – فقد حددها القرآن تحديدًا واضحًا بالسنين الشمسية والسنين القمرية فقال : ( ) . وزيادة في إيضاح هذين البندين نورد خلاصة تجربة عملية عاناها حسن البنا بنفسه في إبان قيامه بالدعوة في مدينة الإسماعيلية ننقلها من " مذكرات الدعوة والداعية " تحت عنوان : " في زاوية الحاج مصطفي بالعراقية " يقول رحمه الله : " كانت هذه الزاوية الثانية هي الزاوية التي بناها الحاج مصطفي تقريبا إلي الله تبارك وتعالي ، وفيها اجتمع هذا النفر من طلاب العلم يتدارسون آيات الله والحكمة في أخوة وصفاء تام . ولم يمض وقت طويل حتى ذاع نبأ هذا الدرس – الذي كان يستغرق ما بين المغرب والعشاء. وبعده يخرج إلي درس القهاوي – حتى قصد إليه كثير من الناس ومنهم هواة الخلاف وأحلاس الجدل وبقايا الفتنة الأولي . وفي إحدى الليالي شعرت بروح غريبة ، روح تحفز وفرقة ، ورأيت المستمعين قد تميز بعضهم من بعض ، حتى في الأماكن ، ولم أكد أبدًا حتى فوجئت بسؤال : ما رأي الأستاذ في مسألة التوسل ؟ فقلت له : يا أخي أظنك لا تريد أن تسألني عن هذه المسألة وحدها . ولكنها تريد أن تسألني كذلك " في الصلاة والسلام بعد الأذان ، وفي قراءة سورة الكهف يوم الجمعة ، وفي لفظ السيادة للرسول صلي الله عليه وسلم في التشهد ، وفي هذه الحلقات التي يقيمها أهل الطرق وهل هي معصية أو قربة إلي الله " . وأخذت أسرد له مسائل الخلاف جميعا التي كانت مثار فتنة سابقة وخلاف شديد فيما بينهم – فاستغرب الرجل وقال : نعم أريد الجواب عن هذا كله . فقلت له : يا أخي إني لست بعالم ، ولكني رجل مدرس مدني أحفظ بعض الآيات وبعض الأحاديث النبوية الشريفة وبعض الأحكام الدينية من المطالعة في الكتب ، واتطوع بتدريسها للناس . فإذا خرجت بي عن هذا النطاق فقد أحرجتني ، ومن قال لا أدري فقد أفني . فإذا أعجبك ما أقول ، ورأيت فيه خيرا فاسمع مشكورا . وإذا أردت التوسع في المعرفة فسل غيري من العلماء والفضلاء المختصين ، فهم يستطيعون افتاءك فيما تريد ، وأما أنا فهذا مبلغ علمي ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها – فأخذ الرجل بهذا القول ولم يجد جوابا ، وأخذت عليه بهذا الأسلوب سبيل الاسترسال ، وارتاح الحاضرون أو معظمهم إلي هذا التخلص . ولكني لم أرد أن تضيع الفرصة فالتفت إليهم وقلت لهم : يا إخواني ... أنا أعلم تماما أن هذا الأخ السائل ، وأن الكثير من حضراتكم ، ما كان يريد من وراء هذا السؤال إلا أن يعرف هذا المدرس الجديد من أي حزب هو ؟ أمن حزب الشيخ موسي أو حزب الشيخ عبد السميع ؟ .. وهذه المعرفة لا تفيدكم شيئًا . وقد قضيتهم من جو الفتنة ثماني سنوات وفيها الكفاية . وهذه المسائل اختلف فيها المسلمون مئات السنين ولازالوا مختلفين . والله تبارك وتعالي يرضي منا بالحب والوحدة ويكره منا الخلاف والفرقة . فأرجوا أن تعاهدوا الله أن تدعوا هذه الأمور الآن وتجتهدوا في أن نتعلم أصول الدين وقواعده ، ونعمل بأخلاقه وفضائله العامة وإرشادته المجمع عليها ، ونؤدي الفرائض والسنن ، وندع التكلف والتعمق حتى تصفو النفوس ، ويكون غرضنا جميعا معرفة الحق لا مجرد الانتصار للرأي. وحينئذ نتدارس هذه الشئون كلها معا في ظل الحب والثقة والوحدة والإخلاص ، وأرجو أن تتقبلوا مني هذا الرأي ويكون عهدا فيما بيننا علي ذلك . وقد كان . ولم نخرج من الدرس إلا نحن متعاهدون علي أن تكون وجهتنا التعاون وخدمة الإسلام الحنيف ، والعمل له يدا واحدة ، وطرح معاني الخلاف ، واحتفاظ كل برأيه فيها حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا . واستمر درس الزاوية بعد ذلك بعيدا عن الجو الخلافي فعلا بتوفيق الله . وتخيرت بعد ذلك في كل موضوع معني من معاني الأخوة بين المؤمنين أجعله موضوع الحديث أولا تثبيتا لحق الإخاء في النفوس ، كما اختار معني من معاني الخلافيات التي لم تكن محل جدل بينهم والتي هي موضع احترام الجميع وتقدير الجميع ، أطرقه واتخذمنه مثلا لتسامح السلف الصالح رضوان الله عليه ، ولوجوب التسامح واحترام الآراء الخلافية فيما بيننا . مثل : وأذكر أنني ضربت لهم مثلا عمليا فقلت لهم : أيكم حنفي المذهب ؟ فجاءني أحدهم فقلت : رأيكم شافعي المذهب؟ فتقدم آخر . فقلت لهم : سأصلي إماما بهذين الأخوين فكيف تصنع في قراءة الفاتحة أيها الحنفي؟ فقال : أسكت ولا أقرأ . فقلت : وأنت أيها الشافعي ما تصنع ؟ فقال : أقرأ ولابد – فقلت : وإذا انتهينا من الصلاة فما رأيك أيها الشافعي فيصلاة أخيك الحنفي ؟ فقال : باطلة لأنه يقرأ الفاتحة وهي من أركان الصلاة . فقلت : وما رأيك أنت أيها الحنفي في عمل أخيك الشافعي ؟ فقال : لقد أتي بمكروه تحريما فإن قراءة الفاتحة للمأموم مكروهة تحريما – فقلت : هل ينكر أحدهما علي الآخر ؟ فقالا : لا ... فقلت للمجتمعين : هل تنكرون علي أحدهما ؟ قالوا : لا فقلت : " يا سبحان الله !! ييعكم السكوت في مثل هذا وهو أمر بطلان الصلاة أو صحتها ولا يسعكم أن تتسامحوا مع المصلي إذا قال في التشهد اللهم صلي علي محمد أو اللهم صلي علي سيدنا محمد . وتجعلون من ذلك خلافا تقوم له الدنيا ولا تقعد " . وكان لهذا الأسلوب أثره فأخذوا يعيدون النظر في موقف بعضهم من بعض. وعلموا أن دين الله أوسع وأيسر من أن يتحكم فيه عقل فرد أو جماعة وإنما مرد كل شيء إلي الله ورسوله وجماعة المسلمين وإمامهم إن كان لهم جماعة وإمام" سابعا – البندان الثالث عشر والرابع عشر يتناولان الأولياء في حالتي الحياة والموت . وهذا التناول وإن كان يغضب بعض المتغالين من المتصوفة فإنه يقرر حقائق قررها القرآن الكريم بصريح آياته ( ) ولكن المعتدلين المتفقهين من المتصوفة لا يجدون غضاضة في عموم هذا الفهم . ثامنا – والبند السادس عشر يحذر من التلاعب بالألفاظ وخداع الجماهير بالألفاظ الجوفاء والخداع الفقهي والدجل السياسيمعا الذي يحرف الكلم عن مواضعه ، لا يكون نصيب الشعوب منه إلا الضلال وإلا العبارات المغرية الجوفاء كالحرية وحقوق الإنسان ، دون أن تستمع هذه الشعوب فعلا بشيء من هذه الحقوق ( •• ) ( ) . تاسعا – مع إقرار البند الحادي عشر أن البدعة التي لا أصل لها في الدين تجب محاربتها والقضاء عليها ، فإنه قيد هذه المحاربة بسلوك أفضل الوسائل التي لا تؤدي إلي ما هو شر منها – والذي هو شر من البدعة هو أن تؤدي وسيلة محاربتها إلي الخصومة والعداء والقطيعة بين المسلمين .. وهذا هو ما كان الإخوان حريصين علي تفاديه ولو أدي الأمر إلي التغاضي بعض الوقت عن البدعة والدوران حولها من بعيد ، بدعوة صاحبها إلي الالتحاق بالركب الإخواني، فإذا التحق لم يلبث إلا قليلا حتى يري نفسه قد أقلع – مقتنعا – من تلقاء نفسه عن بدعته . كما أن البند الثامن كما أشرنا قد قرر مبدأ متفقا عليه هو أن الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين ولا يؤدي إلي خصومة ولا بغضاء – وجاء البندان الثاني عشر والخامس عشر فقررا أن البدعة الإضافية – وهي التي تضيف شيئا لم يكن موجودا كالاحتفال بالهجرة النبوية والمولد النبوي – والبدعة التركية وتكون بترك سنة معمول بها ، والالتزام في العبادات المطلقة ، كالتزام نافلة في وقت معين وإن كان مسموحا بالتنقل فيه إلا أن السنة لم تنص علي التزام نافلة معينة فيه ، والدعاء إذا قرن بالتوسل إلي الله بأحد من خلقه ... كل هذه يعتبر الخلاف بشأنها خلافا فقهيا في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين ولا يؤدي إلي خصومة ولا بغضاء . وهنا أقول : إن نقل البدع التي أشير إليها من إضافية وتركية والتزام وتوسل من جانب الأمور الأساسية الخطيرة المتعلقة بالعقيدة والتي تمس كيان الدين إلي جانب الخلاف الفقهي في الفروع ، والاقتصار في محاربة البدعة علي الوسائل التي تؤدي إلي ما هو شر منها .. هذا النقل – وإن كان قد أغضب طائفة من الداعين إلي السنة ومحاربة البدع – فإنه فتح الباب علي مصراعيه أمام أفواج ضخمة من ذوي المشارب المختلفة من المسلمين للحاق بالركب الإخواني الذي تولاهم بأسلوبه الخاص . وهكذا استطاع حسن البنا بهذا " الفهم " وبانتهاج هذا الأسلوب أن ينقل في صمت وهدوء – إلي صفوف العباد قوام الليل صوام النهار المجاهدين في سبيل الإسلام بالنفس والمال – مئات الألوف من الشباب والشيب الذين كانوا يعيشون عيشة الضياع علي هامش الحياة في اللهو واللعب – بل إن مجموعات كبيرة من صفوف الشباب هذه الطوائف التي كانت تعترض عليه في فهمه وأسلوبه قد استجابت أخيرا لدعوته ، بعد أن اقتنعوا بأنه فهمه هو الفهم الأمثل ، وأن أسلوبه هو الاسلوب الأقوم ، لجمع شمل الأمة الإسلامية وسط الظروف القاسية التي تحيط بالمسلمين في هذا العصر .
• توسيع الدائرة :
إذا كنا قد اعتبرنا المنتسبين للتصوف والداعين إلي الرجوع إلي السنة ومحاربة البدعة طائفتين دب بينهما خلاف ، فإنهما في الحقيقة بالنسبة للطوائف علي مستوي العالم الإسلامي ينتميان إلي طائفة واحدة هي طائفة أهل السنة حيث الطائفة الأخرى علي هذا المستوي العام هي طائفة الشيعة . ولما كان المجال العملي لحسن البنا حين قام بدعوته هو مصر ، فلما عالجه أخذ في توسيع دائرة عمله فاتجه إلي معالجة الطوائف علي مستوي العالم الإسلامي ، حيث تنتشر طائفة الشيعة في الشام والعراق وإيران وتركيا وغيرها . كانت هذه الطائفة – علي كثرتها – تعيش في عزلة تامة عن طائفة أهل السنة كأنهما من دينين مختلفين ، مع أن هذه الطائفة تضم أقواما من أكرم العناصر المسلمة ذات التاريخ المجيد والغيرة عليالإسلام والذود عن حياضه .. ووجه الخلاف بينهم وبين أهل السنة ينحصر في أنهم يتغالون في حب أهل البيت رضوان الله عليهم .. وإذا كان فيهم من تطرف فإن من المنتسبين إلي أهل السنة من تطرف .. ولكن هل تظل هذه القطيعة قائمة بين طائفتي المسلحين والإسلام في أمس الحاجة إلي جهد كل فرد منتسب إليه للوقوف في وجه الغارة المطبقة عليه ؟ رأي حسن البنا أن الوقت قد حان لتوجيه الدعوة إلي طائفة الشيعة ، فمد يده إليهم أن هلموا إلينا فأنتم إخواننا في الإسلام . وهيا نتعاون معا علي إقامة صرحه واستعادة مجده ... وقد وجدت دعوته هذه من الشيعة أذنا صاغية ، إذ أسعدهم لأول مرة منذ مئات السنين صوتا ينضح بالحب ويدعو إلي الأخوة الإسلامية .. فقدم إلي مصر شيخ من كبار مشايخهم في إيران هو " الشيخ محمد تقي فمي " والتقي يحسن البنا وحسن التفاهم بينهما .. وثمرة لهذا التفاهم أنشئت في القاهرة دار ترمز إلي هذه المعاني السامية اسمها " دار التقريب بين المذاهب الإسلامية " وقامت هذه الدار بجهد مشكور في سبيل هذا الهدف . ولو كانت الظروف قد أمهلت حسن البنا لتم مزج هذه الطائفة بالطوائف السنية مزجا عاد علي البلاد الإسلامية بأعظم الخيرات – مع ذلك فقد وضع أساس التقارب وأنجز شيء منه ، إذ زالت القطيعة إلي حد ما ، وتوحد الصوت في المطالبة في مختلف البلاد الإسلامية بالرجوع إلى الحكم الإسلامي . والذي أعلمه أن هذه الدار " دار التقريب " لا تزال موجودة بالقاهرة لكنها فقدت العنصر الفعال والرجل الذي كان قادرا علي حسن توجيهها والإفادة منها لخير العالم الإسلامي أعظم إفادة .. ولكن حسب حسن البنا أنه اقتحم الباب المغلق ، وأرسي أساس التقارب والاتصال .
• حسن البنا : • بين القومية والإسلامية :
كان لابد لنا من عرضموقف حسن البنا من هذا الموضوع ؛ لأن كل الزعامات التي قامت في هذه البلاد اتخذت لها مواقف محددة منه . وقد أبانوا عن هذه المواقف ، فبعضهم أبان عنها في خطب ومقالات ، وبعضهم أبان عنها في رسائل وكتيبات وفلسفات .. وما كان لزعيم من هؤلاء أن يغفل الإبانة عن موقفه من هذا الموضوع ؛ لأن حكم الموقع والروابط الطبيعية والإنسانية توجب هذه الإبانة . وقبل أن تعرض لموقف حسن البنا من هذا الموضوع ، نشير إلي أن مواقف الزعماء الذين سبقوه والذين جاءوا من بعده لم تكن إلا وليدة مصالح مادية ومنافع مأمولة ، ثم إنها عليكل حال لم تكن مبنية إلا عليآراء شخصية ونظرشخصي وتقدير شخصي، مما يجعلها مواقف محتملة للصواب والخطأ – أما حسن البنا فبالرغم من تفوقه علي سابقيه ولاحقيه من الزعماء في المقدرة علي إصدار الرأي ، وفي سعة الأفق ، وبعد النظر ، ورجاحة العقل ، وحسن التقدير .. فإنه لم يعتمد في تحديد موقفه علي ما هو مستمع به في هذه الميزات ، بل اعتمد مع كل هذا علي أصل ثابت وركن ركين لا يحتمل الخطأ ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه . فبعد أن عرضنا لفهم حسن البنا للفكرة الإسلامية وأوضحنا تصوره لأبعادها ، تعرض لتصوره للوحدة القومية والوحدة العربية والوحدة الإسلامية .. وقد تولي هو بنفسه توضيح ذلك بأجلي عبارة – لما كان يعلم من أهمية هذا التوضيح – في بيانه الذي ألقاه في المؤتمر الخامس فقال : " كثيرا ما تتوزع أفكار الناس في هذه النواحي الثلاث : الوحدة القومية ، والوحدة العربية ، والوحدة الإسلامية ، وقد يضيفون إلي ذلك الوحدة الشرقية . ثم تنطلق الألسنة والأفكار بالموازنة بينها وإمكان تحقيقها أو صعوبة ذلك الإمكان ، ومبلغ الفائدة أو الضرر منها . والتشيع لبعضها دون البعض الآخر ... فما موقف الإخوان المسلمين من هذا الخليط من الأفكار والمناحي ؟ ولاسيما وكثير من الناس يغمزون الإخوان المسلمين في وطنيتهم ، ويعتبرون تمسكهم بالفكرة الإسلامية مانعا إياهم من الإخلاص للناحية الوطنية . والجواب علي هذا أننا لن نحيد عن القاعدة التي وضعناها أساسًا لفكرتنا ، وهي السير علي هدي الإسلام وضوء تعاليمه السامية – فما موقف الإسلام نفسه من هذه النواحي ؟
• الوطنية أو القومية الخاصة :
إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص منها ، أن يحمل كل إنسان لخير بلده ، وأن يتفاني في خدمته ، وأن يقدم في ذلك أكبر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها ، وأن يقدم الأقرب فالأقرب رحما وجوارا ، حتى إنه لم يجز أن تنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر إلا لضررة ، إيثارا للأقربين بالمعروف . فكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها ، وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه . ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعا لمواطنيه – لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين – وكان الإخوان المسلمون أشد الناس حرصا علي خير وطنهم ، وتفانيا في خدمة قومهم . وهم يتمنون لهذه البلاد العزيزة المجيدة كل عزة ومجد ، وكل تقدم ورقي ، وكل فلاح ونجاح ، وبخاصة وقد انتهت إليها رياسة الأمم الإسلامية بحكم ظروف تضافرت علي هذا الوضع الكريم . وإن حب المدينة لم يمنع رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يحن إلي مكة ، وأن يقول لأصيل وقد أخذ الكريم . وإن حب المدينة لم يمنع رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يحن إلي مكة ، وأن يقول لأصيل وقد أخذ يصفها : " يا أصيل دع القلوب تقر " ، , أن يجعل بلالا يهتف من قرارة نفسه : ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحوالي إذخر وجـلـيل وهل أردن يومـا مياه مجنه وهل يبدون لي شامة وطفيل ؟ فالإخوان المسلمون يحبون وطنهم ، ويحرصون علي وحدته القومية بهذا الاعتبار ، ولا يجدون غضاضة علي أي إنسان أن يخلص لبلده ، وأن يفني في سبيل قومه ، وأن يتمني لوطنه كل مجد وفخار . وهذا من وجهة القومية الخاصة " أ.هـ . وتعليقا علي حديث حسن البنا رحمه الله عن الوطنية أو القومية الروحية الإسلامية ، حيث يطالب العضو فيها بدراسة عقيدة معينة وأداء عبادات محددة – مما لا يجوز أن يطالب به غير المسلم – لولا هذا لفتح حسن البنا باب العضوية في جماعته لغير المسلمين من المصريين . ولذا فقد كان له – رحمه الله – أصدقاء من مفكري الأقباط وذوي الثقافت الواسعة منهم ، حتى أنه لما كون في عام 1946 لجنة استشارية للشئون السياسية للإخوان ضم إلي أعضائها بعض كبار الساسة من الأقباط وكان منهم الأستاذ وهيب دوس عضو مجلس الشيوخ آنذاك .
• القومية العربية :
واستأنف حسن البنا حديثه فقال : ، ثم إن هذا الإسلام الحنيف نشأ عربيا ، ووصل إلي الأمم عن طريق العرب ، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين ، وتوحدت الأمم باسمه علي هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين ، وقد جاء في الأثر : " إذا ذل العرب ذل الإسلام " وقد تحقق هذا المعني حين دال سلطان العرب السياسي ، وانتقل الأمر من أيديهم إلي غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم . فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه . وأحب هنا أن أنبه إلي أن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة كما عرفها النبيصلي الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه " ألا إن العربية اللسان . ألا إن العربية اللسان " ومن هنا كانت وحدة العرب أمرًا لابد منه لإعادة مجد الإسلام ، وإقامة دولته ، وإعزاز سلطانه . ومن هنا وجب علي كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها . وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية .
• الوحدة الإسلامية تمهيدا للوحدة العالمية :
ثم انتقل إلي الوحدة الإسلامية فقال : " بقي علينا أن نحدد موقفنا من الوحدة الإسلامية – والحق أن الإسلام كما هو عقيدة وعبادة هو وطن وجنسية . وأنه قد قضي علي الفوارق النسبية بين الناس فالله تبارك وتعالي يقول : ( ) ، والنبي صلي الله عليه وسلم : " المسلم أخو المسلم " و " المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعي بذمتهم أدناهم ، وهم يد علي من سواهم " . فالإسلام والحالة هذه لا يعترف بالحدود الجغرافية ، ولا يعتبر الفوارق الجنسية الدموية ، ويعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة ، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنا واحدا مهما تباعدت أقطاره ، وتناءت حدوده . وكذلك الإخوان المسلمين يقدسون هذه الوحدة ، ويؤمنون بهذه الجامعة ، ويعملون لجمع كلمة المسلمين ، وإعزاز أخوة الإسلام ، ينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله " . ثم يختتم – رحمه الله – هذا البيان الرائع المحدد الواضح الصريح بقوله : " وضح إذن أن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود . ولا يرون بأسا بأن يعمل كل إنسان لوطنه ، وأن يقدمه في الوطن عليسواه . ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدة الغربية باعتبارها الحلقة الثانية في هذا النهوض . ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام – ولي أن أقول بعد هذا : أن الإخوان يريدون الخير للعالم كله ، فهم ينادون بالوحدة العالمية ؛ لأن هذا هو مرمي الإسلام وهدفه ومعني قول الله تبارك وتعالي : ( ) وأنا في غني بعد هذا البيان عن أن أقول أنه لا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار ، وبأن كلا منها تشد أزر الأخرى ، وتحقق الغاية منها . فإذا أراد قوم أن يتخذوا من المناداة بالقومية الخاصة سلاحا يميت الشعور بما عداها فالإخوان المسلمون ليسوا منهم . ولعل هذا هو الفارق بيننا ةبين كثير من الناس " . وبعد ما نقلناه إلي القارئ من هذا البيان الشامل الواضح نقول : لعل قد صار جليا أن حسن البنا لا يري الوحدة القومية الخاصة في الانتماء – علي سبيل المثال – إلي الفراعنة ولا إلي الفينيقيين ولا إلي الآشوريين ، فيتعالي المنتسبون إلي الفراعنة وهكذا ... ولا يري الوحدة العربية في الانتماء إلي يعرب بي قحطان ، ولا الانتماء إلي مكان محدد أو زمان معين ، فيتفاخر سكان إقليم علي سطان أقاليم أخري . أو يستطيل الأقدمون عهدا بالعروبة علي الأحدثين عهدا بها .. بل يري أن اللسان العربي هو مقياس العروبة ، فالمتكلمون باللسان العربي حيثما كانوا هم عرب وكلهم سواء . كما أنه لا يري أن الوحدة القومية الخاصة والوحدة العربية هما في ذاتهما غايتان ، بل هما وسيلتان وخطوتان في سبيل تحقيق الهدف الأصيل وهو الوحدة الإسلامية ، تلك الوحدة التي يقربنا تحقيقها من تحقيق الوحدة العالمية .
• حسن البنا والرأسمالية والشيوعية والاشتراكية :
وقد يختلج في صدور بعض القراء سؤال عن موقف حسن البنا فيما يتصل بالمبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتصارعة ، والتي تتجاذب الشعوب في عصرنا هذا من رأسمالية وشيوعية واشتراكية . فنقول : إنه كان رحمه الله يري في الفكرة الإسلامية غناء عن كل ما في هذه الأفكار من مزايا ، مع تنزه الفكرة الإسلامية عما يشوب هذه الأفكار والمبادئ من عيوب . أما أسلوبه في مواجهة هذه المبادئ والأفكار فكان أسلوبا يبدو للنظر السطحي كأنه أسلوب سلبي ، إذ هو لا يهاجم هذه المبادئ ، إنما يفرغ جهده كله في نشر فكرته في أوسع نطاق ، وفي تعميق معانيها وأهدافها ومراميها في نفوس أكبر عدد ممكن من أفراد الشعب .. وهو بذلك يري أنه قد أوصد الأبواب في وجه هذه المبادئوفي وجه كل فكر دخيل . وما من شك في أن أسلوبه هذا الهادئ الرزين قد أثمر وأينع الثمر ، وأتي كله ، وحقق ما كان يرجو منه ، فلقد أحس أصحاب هذه المبادئ الدخيلة فعلا أن الطريق أمامهم مسدود ، وقد حاقت بهم خسائر جسيمة . الأمر الذي حملهم – مع ما بينهم من تناقض كبير – علي أن يتحدوا ضد هذا الداعية الصامت الجسور . علي أن المبدأ الذي كان متسلطا علي مصر في تلك الحقبة من الزمن من هذه المبادئ الثلاثة كان الرأسمالية ، حيث الاقطاعات الزراعية الشاسعة والمصانع الضخمة ، والإسلام لا يمنع الاقتناء والتأثل ولكنه لا يرضي عن الظلم . وليس معني أن أسلوب حسن البنا في مواجهة هذه المبادئ كان أسلوبا هادئا أنه لم يكن هناك احتكاك واصطدامات في مواطن تجمعات العمال في مصانع الإسكندرية وشبرا الخيمة وفي بعض الاقطاعات الزراعية الواسعة في الريف المصري .. لكن الاحتكاك في كل هذه المواطن لم يكن من جانب معسكر حسن البنا وإنما كان دائما من جانب المعسكر الآخر .. فالمعسكر الآخر يعتبر مجرد استجابة نفر من العمال العاملين في إحدى وساياه أو في أحد مصانعه إلي دعوة الإخوان المسلمين والتفافهم حول فكرتهم ، يعتبرون ذلك تحديا لسلطتهم ، وتقويضا لنفوذهم ، فيشنون علي هؤلاء العمال حربا لا هوادة فيها ، ويستعدون عليهم سلطات الحكومة التي كانت في ذلك الوقت طوع إشارتهم ، خادمة لمصالحهم .. ومن شاء أن يقرأ عن هذه الاصطدامات فليرجع إلي صحف تلك الأيام وإن كان العرف عند هؤلاء القوم في تلك الأيام أنهم كانوا يعتبرون المظلوم ظالما والظالم مظلوما . ومن هذا القبيل ما جاءفي المذكرة التفسيرية للأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 بحل الإخوان المسلمين في البنود " عاشرا وحادى عشر وثاني عشر " فليرجع إليها القارئ إن شاء ثم ليرجع إلي ما جاءعنها من تفنيد في مذكرة الأستاذ الإمام في الرد عليها . ونحب أن نلفت النظر إلي أن موقف حسن البنا من هذه المبادئ وقد احتك بها أو بتعبير أدق احتكت هي به احتكاكا شديداً – وإن كانت فترة الاحتكاك علي شدته لم تطل إذ عاجلته المنية – لم يكن هدفه من ذلك الاحتكاك مجرد القضاء علي هذه الأفكار ثم يجلس بعد ذلك ببحث عن بديل – كما فعل غيره – بل إن البديل بكل قواعده وأصوله وتفاصيله كان بيده .. ولم يكن هذا البديل ملفنا ولا مستعارا ، كما أنه لم يكن فكرة مخترعة لم يسبق لها أن وضعت موضع التجربة .. وإنما كان البديل الذي بيده كاملا شاملا مجربا مضمون النجاح ، وفضلا عن ذلك فإنه بديل قريب إلي النفوس تنبض له القلوب . ولا شك في أن القوى العالمية صاحبة هذه المبادئ والأفكار ، متضافرة مع القوى المصرية حاملة نفس هذه المبادئوالأفكار – هي التي دبرت المؤامرة التي راح ضحيتها حسن البنا . الفصل الثالث : حسن البنا والطائفة الخامسة أو موقفه من الساسة والحكام :
• نوع السياسة الذي كان سائدا في مصر :
قامت دعوة الإخوان المسلمين منذ قامت ومقاليد الأمور في البلاد في أيدي طبقة من الساسة والحكام يتداولونها بينهم ، فيختلفون حولها تارة ويتفقون أخري ، ولكن لهم سمة عامة تميزهم عن بقية طبقات الشعب إنهم أشبه بالأجانب المستعمرين منهم بأهليهم . فهم لا يعرفون عن تاريخ قومهم مثلما يعرفون عن تاريخ هؤلاء الأجانب من الأوروبين . ويجيدون الحديث بلغات هؤلاء الأوروبيين في الوقت الذي يجهلون فيه لغة بلادهم . ويعتقدون أنهم خلقوا ليكونوا هم وشعوبهم مسودين ، وأن هؤلاء الأوروبيين خلقوا ليكونوا سادة .. لا يشعرون في ذلك بغضاضة . وقد لقنهم هؤلاء المستعمرون فيها لقنوهم أن الدين معوق للتقدم عدو للحضارة والرقي .. ولذا فالدين – إن كان لابد من تدين – ينحصر في نظرهم بين جدران المساجد ، وللطبقة من الناس الذين انقطعت بهم السبل . ولا يجوز للدين أم يخرج عن هذه الحدود ليتصل بأمور الدنيا ، فللدنيا قوانينها التيسنها هؤلاء السادة الغربيون ... وإذا كان الغربيون معذورين في فهم الدين علي هذه الصورة لطبيعة دينهم ، ولما عانوه في خلال تاريخهم الطويل من عنت الكنيسة وتدخلها في شئون الناس بغير مبرر . ومحاولة رجال الدين عندهم أن يحملوا الناس علي أرائهم الشخصية بعد أن يلبسوها مسوح القداسة فوقفوا بذلك حائلا بين الغرب وبين نور العلم بضعة قرون ، ولم يستطع نور العلم أن ينفذ إليهم إلا بعد حروب ضروسشنوها علي الكنيسة حتى قضوا علي نفوذها وألزموها حدودها التي حددتها المسيحية لها . إذا التمسنا للغربيين العذر بعد كل هذه المعاناة أن ينظروا لدينهم هذه النظرة ، فما عذر هؤلاء الساسة المسلمين في انتحالهم هذه النظرة نفسها إلي الإسلام وطبيعة الإسلام تختلف عن طبيعة المسيحية ؟ والإسلام هو الدين الخاتم الذي جاء بعد أن بلغت الإنسانية رشدها لينظم للناس حياتهم تنظيما يربط بين الدنيا والآخرة ، وهو دين العلم والحضارة والحياة ، ويشهد بذلك تاريخه علي مدي ألف عام ، وكتابه الذي نزل من عند الله علي قلب محمد صلي الله عليه وسلم ليكون دستورا مهيمنا علي كل شئون الحياة ( •• ) ، ( ) . قام حسن البنا بدعوته والوضع في أمر السياسة والحكم علي ما وصفنا . فسلك بدعوته الطريق الذي واجه فيه طوائف الشعب الأربع بالأسلوب الذي كفل لها السلامة والنجاح والتفوق ، مع جمع الشمل ونشر الوعي وإيقاظ الأمة . ولم يبق بعد ذلك أمامه من طوائف الشعب إلا الطائفة الخامسة .. الطائفة المترفة – طائفة الساسة والحكام .. فماذا كان له معهم من موقف ؟ . لم يخرج في موقفه عن أسلوبه الذي اتبعه مع الطوائف الأخرى .. موقف من يريد تقويم الأعوجاج ، وتصحيح النظرة ، وتطهير النفوس مما علق بها من النفاق والضعف والأنانية والتخاذل .. وإذا كان قد توجه بهذا الأسلوب إلي طوائف الشعب الأربع الأخرى فإن توجهه به إلي طائفة الساسة والحكام أدعي وألزم .. فبقاء نفوس هذه الطائفة علي فسادها قد يحيط كل ما تم من إصلاح في نفوس بقية الشعب ؛ إذ أن هذه الطائفة – عليقلة عددها – بيدها أن تغرق السفينة بكل ما فيها ومن فيها ، فهي التي تتحكم في توجيهها حيث شاءت ؛ لأنها هي التي تسمك بدفنها وتقبض علي زمامها . وتوضيحًا لما أشرنا إليه من أخلاق هذه الطائفة من الساسة في ذلك الوقت نقتبس سطورا من مقال كتبه الأستاذ مصطفي صادق الرافعي – رحمه الله – يصففيه هؤلاء الساسة فيقول : " كان (م) باشا – رحمه الله – داهية من دهاة السياسة المصرية . يلتوي في يدها مرة التواء الحبل ، ويستوي في يدها مرة استواء السيف . ولا يري أبدا إلا منكمشا متحررًا كان له عدواً لا يدري أين هو ولا متى يقتحم عليه . ولكنه كغيره من الرؤساء ، الذين كانوا آلات للكذب بين طالب الحق وغاصب الحق – يعرف أن عدوه كامن في أعماله . وكان ذكيا أريبا ، غير أن ملابسته للسياسة الدائرة علي محورها ، جعلت نصف ذكائه من الذكاءونصفه من المكر ، فكان في مراوغته كان له ثلاثة عقول : أحدها مصري ، والآخر إنجليزي ، والثالث خارج من الحالين . وبهذا تقدم وعاش أثير عند الرؤساء من الانجليز ، واستمرت مجاريه مطرودة لديهم حتى بلغوا به الوزارة ، إذ كان حسن الفهم عنهم ، سريع الاستجابة إليهم ، يفهم معني ألفاظهم ، ومعني النية التي تكون وراء ألفاظهم ، ومعني آخر يتبرع به لألفاظهم ... فكان هو وأمثاله في رأي تلك السياسة القديمة ، رجالا كالأفكار : يوضع أحدهم في مكانه من الحكم كما توضع صيغة الشك لإفساد اليقين ، أو صيغة الوهم لتوليد الخيال ، أو صيغة الهوى لإيجاد الفتن . وكان صديقي (فلان) رحمه الله صاحب سره (سكؤرتيره) ، وقد وثق به الباشا حتى أنه كان يعالنه بما في نفسه ، ويبثه همومه وأحزانه ويري فيه دنيا حرة يخرج إليها كلما ضاقت به دنيا وظيفته . ويستعير منه اليقين أحيانًا بأنه لا يزال مصريا لم يتم بعد تحويله في الكرسي " .
• نوع السياسة الذي دعا إليه حسن البنا :
أراد حسن البنا أن يدعو إلي سياسة تقوم علي أساس وطيد من القوة والصراحة والطهر والشرف والكرامة وعلي المبادئ الخلقية الرفيعة – سياسة تقوم علي التضحية والبذل من قبل الحاكم ، لا علي الاستغلال والتأثل – سياسة كتلك التيسأل النبي صلي الله عليه وسلم أحد عماله (حكام الأقاليم) عن مال عنده فقال : أنه مال أهدي إلي ، فأمر بعزله وقال قولته التي وضع بها قاعدة الحكم الصالح : " لو قعد أحدكم في بيت أمه هل كان يهدي إليه ؟ " . سياسة لا تجامل في الحق ، ولا تتهاون في العدل ، ولا تخشي في الله لومة لائم – سياسة يحكمها دستور منزل من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لا يرضي للمؤمنين به الذل ، ولا يقر أحدًا أيا كان علي الظلم ، وينعم الجميع في ظله حتى غير المؤمنين به ( • ) فغير المسلمين من المواطنين متساوون في الحقوق مع المسلمين بحكم القرآن ، لا علي أسس من النفاق السياسي والأهواءوالمداهنة . فإذا رضي حاكم أنصفهم وإذا غضب عليهم سلبهم حقوقهم – وإذاقامت الدولة علي قواعد مقررة بصريح القرآن – وهو الدستور المحفوظ والمقروءوالمسموع في كل بيت وفي كل يوم – سادها الأمن والطمأنينة والاستقرار والسلام الاجتماعي المنشود – وليس سلام اجتماعييقرره القرآن الكريم . كذلك السلام الاجتماعي الذي قرره بشر تكتنفه الأهواء من كل جانب . سياسة لا تقبل أن يعطي المسلم الدنية في دينه ولا في وطنه مهما اقتضاه ذلك من تضحيات براحته وماله ومصالحه ودمه (• • • ) . ولسائل أن يسأل : لما كان حسن البنا يعلم من خطورة بقاء هذه الطائفة علي فسادها ما يعلم ، فلم لم يسارع بالتوجه بدعوته إليها من أول يوم . فنقول : أنه كان يعلم هذا ولم يتوان عن توجيه الدعوة إليها في كل مرحلة من المراحل ، ولكنه حين كان يفعل ذلك كان يفعله لمجرد الإعذار إلي الله وإقامة الحجة عليهم ، فإنه كان يعلم أن قوة صوته مرهونة بقدر القطاع الشعبي الذييتكلم باسمه ويعبره عن مشاعره – فكان صوته في أول الأمر يصل إلي هؤلاء السادة في بروجهم المشيدة خافتا ضعيفا لا يكاد يسمع ، ثم أخذفي الارتفاع حتى صار آخر الأمر قويا مجلجلا . وكان هذا هو السبب في تساؤل كثير من الناس لما سكت حسن البنا عن التوجه بدعوته إلي هذه الطائفة البالغة الأهمية طيلة هذه المدة الكبيرة ؟ فهؤلاء الناس لم يسمعوا صوته موجها إليهؤلاء الطائفة البالغة الأهمية طيلة هذه المدة الكبيرة ؟ فهؤلاء الناس لم يسمعوا صوته موجها إلي هؤلاء إلا يوم قوي صوته فاسمعهم وأسمع الجميع معهم فظنوا أنه قصر في الاتصال بهم حتى اتصل بهم فجأة آخر الأمر .
• من مراحل توجيه الدعوة إلي هذه الطائفة :
فمنذلم تكن دعوته شيئًا مذكوراًعمل علي الاتصال بهذه الطائفة . منتهزا الفرص المعارضة والمناسبات . ونأخذ إن شاء الله في عرض صور من هذه الاتصالات مؤيدة بتواريخها .. وقد يلاحظ القارئ أن كل صورة من هذه الصور مرتبطة بزمنها معبرة عن مرحلتها . 1 – المطالبة ببناء مسجد البرلمان : في 17/11/1934 أرسل باسم الجماعة خطابا إلي رئيس الوزراء ووزير الأشغال يستنكر فيه " انصراف النية عن بناءمسجد البرلمان الذي قد تقرر إنشاؤه " . فرد عليه وزير الأشغال بأن الوزارة قررت بناءالمسجد المذكور ، وأعطت المقاولة إلي عبد الحميد عبد الله المقاول بتاريخ 30/11/1934 . 2 – احتجاج علي النحاس باشا لتأييده أتاتورك : وفي 14/6/1936 أرسل إلي مصطفي النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء خطابا يحتج فيه علي تصريحه الذي نشره بجريدة " الأهرام " والذي يقرر فيه " إعجابه بلا تحفظ بكمال أتاتورك الذي صاغ بعبقريته تركيا الحديثة " ويقول في سياق إعجابه : " ولست أعجب فحسب بعبقريته العسكرية بل أعجب أيضًا بعبقريته الخالصة وتفهمه لمعنيالدولة الحديثة التي تستطيع وحدها في الحالة العالمية الحاضرة أن تعيش وأن تنمو " . وفي سياق خطاب الاحتجاج يقول حسن البنا : " وبعد .. فدولتكم أكبر زعيم شرقي عرف الجميع فيه سلامة الدين وصدق اليقين . وموقف الحكومة التركية الحديثة من الإسلام وأحكامه وتعاليمه وشرائعه معروف في العالم كله لا ليس فيه ، فالحكومة التركية قلبت نظام الخلافة إلي الجمهورية ، وحذفت القانون الإسلامي ، وحكمت بالقانون السويسري مع قوله تعالي : ( ) وصرحت في دستورها بأنها حكومة لا دينية ، وأجازت بمقتضي هذه التعاليم أن تتزوج المسلمة من غير المسلم ، وأن ترث المرأة مثل الرجل واصطدمت في ذلك بقوله تعالي : ( ) . وهذا قليل من كثير من موقف الحكومة التركية في الإسلام . وأما موقفها من الشرق ، فقد صرحت في وقت من الأوقات بلسان وزير خارجيتها بأنها ليست دولة شرقية ، وقد قطعت صلتها بالشرق حتى في شكل حروفه وفي أزيائه وعاداته وكل ما يتعلق به . ثم يقول حسن البنا : لهذا كان وقح تصريح دولتكم للمراسل الخاص لوكالة الأناضول التلغرافية بالقاهرة غريبا علي الذين لم يعرفوا دولتكم إلا زعيما شرقيا مسلما فخورا بشرقيته متمسكا بإسلامه في أمة تعتبر زعيمة الشرق جميعا . ولقد أخذ الكثير ممن طالعوا هذا التصريح يتساءلون : هل يفهم من هذا أن دولة النحاس باشا وهو الزعيم المسلم الرشيد يوافق علي أن يكون لأمته – بعد الانتهاء من القضية السياسية – برنامج كالبرنامج الكمالي يتولي كل الأوضاع فيها ، ويفصلها عن الشرق والشرقيين ، ويسقط من يدها لواء الزعامة ؟ - وإنا لنعيذ دولة الرئيس من هذا المقصد الذي نعتقد أنه أبعد الناس عنه . لهذا يا صاحب الدولة .. نتوجه إليكم بهذه الكلمة ، وهي كلمة الولاء المحض والنصح الخالص والإشفاق الكبير رجاء أن تتفضلوا بإلحاق هذا التصريح بما يطمئن نفوسا قلقة ، ويقر أفئدة مضطربة ، ويسد الطريق أمام الظنون والأوهام " . 3 – معارضة المعاهدة ومطالبة الحكام بالرجوع إلي الإسلام : لما وقعت المعاهدة بين مصر وبريطانيا في أغسطس 1936 وقف الإخوان منها . موقف المعارضة – ولما كانوا في ذلك الوقت لا يزالون نبتة صغيرة ، فقد اكتفوا بمجرد المعارضة ، واتجهوا إلي الإصلاح الداخلي باعتباره أساس بناء الأمة . فوضع حسن البنا رسالة " نحو النور " وبعث بها إلي الملك وإلي رئيس الوزراء والوزراء وإلي أعضاء مجلس النواب والشيوخ وإلي ملوك وأمراء وحكام العالم الإسلامي وإلي كثير من كبار المسئولين في مصر وفي خارج مصر .. يطالبهم فيها بالعودة إلي نظام الإسلام . ورسالة " نحو النور " هي أولي الرسائل التي خاطب فيها حسن البنا الحكومة ببرنامج كامل للإصلاح في جميع مرافق الحياة . بدأها بهذه العبارة : يا صاحب ... إن الله وكل إليكم أمر هذه الأمة ، وجعل مصالحها وشئونها وحاضرها ومستقبلها أمانة لديكم ووديعة عندكم . وأنتم مسئولون عن ذلك كله بين يدي الله تبارك وتعالي . ولئن كان الجيل الحاضر عدتكم ، فإن الجيل الآتي من غرسكم . وما أعظمها أمانة وأكبرها تبعة أن يسأل الرجل عن أمة : " وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " وقديما قال الإمام العادل : " لو عثرت بغلة بالعراق لرأيتني مسئولا عنها بين يدي الله تبارك وتعالي لم لم أرسو لها الطريق " ؟ وصور الإمام عمر بن الخطاب عظيم التبعة في جملة فقال : " لوددت أن أخرج منها كفافا لا لي ولا علي " .
• من مزايا النظام الإسلامي :
وبعد أن أشار إلي أن هذه الفترة من تاريخ الأمة هي فترة انتقال وهي من أخطر الفترات في حياة الأمم ، بين أن أمام الأمة أحد طريقين ، إما طريق الإسلام وإما طريق الغرب . ثم أخذ في توضيح مزايا الأخذ بنظام الإسلام فقال : " وأننا إذا سلكنا بالأمة هذا المسلك استطعنا أن نحصل علي فوائد كثيرة ، منها أن المنهاج الإسلامي قد جرب من قبل وشهد التاريخ بصلاحيته ، وأخرج للناس أمة من أقوي الأمم وأفضلها وأرحمها وأبرها وأبركها علي الإنسانية جميعا ، وله من قدسيته واستقراره في نفوس الناس ما يسهل علي الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه متى وجهوا إليه ، فضلا عن الاعتزاز بالقومية والإشادة بالوطنية الخالصة ؛ إذ إننا نبني حياتنا علي قواعدنا وأصولنا ولا نأخذ عن غيرنا . وفي ذلك أفضل معانيالاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي . وبعد السير علي هذا المنهج تقوية للوحدة العربية أولاً ثم للوحدة الإسلامية ثانيًا ، فيمدنا العالم الإسلامي كله بروحه وشعوره وعطفه وتأييده فينا إخوة ينجدهم وينجدونه ويمدهم ويمدونه ، وفي ذلك ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عاقل . وهذا المنهج تام شامل كفيل بتقرير أفضل النظم للحياة العامة في الأمة عملية وروحية . وهذه هي الميزة التييمتاز بها الإسلام ، فهو يضع نظم االحياة للأمم علي أساسين مهمين : أخذ الصالح وتجنب الضار . فإذا سلكنا هذا السبيل استطعنا أن نتجنب المشكلات الحيوية التي وقعت فيها الدول الأخرى التي تعرف هذا الطريق ولم نسلكه ، بل استطعنا أن نحل كثيرا من المشكلات المعقدة التي عجزت عن حلها النظم الحالية وإنا لنذكر هنا كلمة برناردرشو : " ما أشد حاجة العالم في عصره الحديث إلي رجل كمحمد يحل مشكلته القائمة المعقدة بينما يتناول فنجانا من القهوة " . وبعد ذلك كله فإننا إذا سلكنا هذا السبيل كان تأييد الله من ورائنا يقوينا عند الوهن ، وينقذنا في الشدائد ، ويهون علينا المشاق ، ويهيب بنا دائما إلي الأمام ( ) .
• الدور الآن دورنا :
وبعد أن تحدث عن المدنية الغربية وفشلها في إسعاد أهلها قال : " لقد كانت قيادة الدنيا في وقت ما شرقية بحتة ، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية ، ثم نقلتها النبوات الموسوية والعيسوية والمحمدية إلي الشرق مرة ثانية ، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة فكانت سنة الله التي لا تتخلف وورث الغرب القيادة العالمية .. وها هو ذا الغرب يظلم ويجوز ، ويطغي ويجار ويتخبط ، فلم يبق إلا أن تمتد يد " شرقية " قوية يظللها لواء الله ، وتخفق علي رأسها راية القرآن . ويمدها جند الإيمان القوي المتين ، فإذا بالدنيا مسلمة هانئة ، وإذا بالعوالم كلها هاتفة ( • ) . ليس هذا من الخيال في شيء ، بل هو حكم التاريخ الصادق ، إذا لم يتحقق بنا ( • ) .. بيد أننا نحرص علي أن تكون ممن يحوزون هذه الفضيلة ويكتبون في ديوان هذا الشرف ( ) .
• الإسلام يمد الأمة بكل ما تحتاج إليه :
ثم أخذ في إثبات أن الإسلام كفيل بإمداد الأمة الناهضة بما يحتاج إليه ، فهو يمدها بالأمل ويبعث فيها العزة القومية ويبث فيها روح القوة والجهاد ويحثها علي تصحيح الأبدان كما يدفعها إلي التزود بالعلم ويغرس في نفوسها الأخلاق وينظم اقتصادها ونشر الرخاء إلي ربوعها .
• الإسلام والأمل :
فتحدث عن الإسلام والأمل فذكر الله تعالي : ( ) ، وقوله تعالي : ( • • ) .. إن أضعف الأمم إذا سمعت هذا التبشير كله وقرأت ما إليه من قصص تطبيقية واقعية ، لابد أن تخرج بعد ذلك أقوي الأمم إيمانا وأرواحا ، ولابد أن تري في هذا الأمل ما يدفعها إلي اقتحام المصاعب مهما اشتدت حتى تظفر بما تصبو إليه من كمال .
• الإسلام والعزة القومية :
ثم تحدث عن الإسلام والعزة القومية وذكر أن ادعاء الأمم المختلفة بأنها أعظم الأمم وشعار كل جنس أنه " فوق الجميع " هو تعصب للجنس وفخر كاذب ليس له ما يسنده ، لكن الأمة الإسلامية إذا هي حققت الأهداف الإسلامية متسامية في شعورها عن التراب والجنسية فإنها تستحق أن تكون بحكم الله خالق الناس ( • •• ) .
• الإسلام والقوة والجندية :
ثم تحدث عن الإسلام والقوة الجندية فذكر قوله تعالي : ( • • • ) وقوله تعالي : ( ) .. ويوضح شرف غاية الجندي المسلم ودناءة غاية الأعداء فيقول : ( • ) ، ثم يوضح أن ثمن النصر للمسلمين ليس استعباد الناسبل هو نشر لواء الفضيلة فقال : ( •• • ) .
• الإسلام والصحة :
ثم تحدث عن الإسلام والصحة العامة فذكر الأسس التي وضعتها القرآن لاختيار القواد والزعماء فقال : (• ) وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف " وقوله : " إن لبدنك عليك حقا " – كما أن تعليماته صلي الله عليه وسلم في تناول الطعام والشراب تضمن للمسلم الصحة والعافية ، وكذلك حثه علي السياحة والفروسية .
• الإسلام والعلم :
ثم تناول لحديث عن الإسلام والعلم فذكر قول الله تعالي : ( ) ثم إن الإسلام قد وزن مداد العلماء بدم الشهداء . ثم لفت النظر إلي أن القرآن لا يفرق بين علم الدنيا وعلم الدين بل أوصي بهما جميعا وجمع علوم الكون في آية واحدة وحث عليها وجعل العلم بها سبيل خشيته وطريق معرفته فذلك قوله تعالي : ( • ) في ذلك إشارة إلي الهيئة والفلك وارتباط السماء بالأرض . ثم قال : ( ) وفي ذلك إشارة إلي علم النبات وغرائبه وعجائبه وكيميائه . ثم قال : ( ) وفي ذلك الإشارة إلي علم البيولوجيا ثم قال : ( •• ) وفيها الإشارة إلي علم البيولوجيا والحيوان بأقسامه من إنسان وحشرات وبهائم ، فهل تري هذه الآية غادرت شيئا من علوم الكون ؟ ثم يردف ذلك كله بقوله تعالي في نهاية الآية : ( ) .
• الإسلام والخلق :
تكلم بعد ذلك عن الإسلام والأخلاق فذكر قول الله تعالي : ( ) وقد جعل القرآن تغيير حال الأمم متوفقا علي تغير أخلاقها وصلاح نفوسها فقال : ( ) ، وليس كالإسلام عاملا علي إيقاظ الضمير وإحياء الشعور إقامة رقيب علي النفس من النفس وذلك خير الرقباء ، ويغيره لا ينتظم قانون ما إلي أعماق السرائر وخيفات الأمور .
• الإسلام والاقتصاد :
وانتهي الحديث عن الإسلام والاقتصاد فذكر قوله تعالي : ( ) ويقول في موازنة الإنفاق والدخل : ( • ) وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " ويقول : " ما عال من اقتصد " . وبعد أن انتهي من توضيح مزايا النظام الإسلامي أخذ في تحذير الساسة من الانحراف عن الإسلام واختيار تقليد الغرب . وشرح لهم أن الإسلام يحمي الأقليات ويصون حقوق الأجانب ولا يعكر صفو العلاقات مع الغرب . كما شرح لهم كيف أن أصول النهضة في الشرق غير أصولها في الغرب ، وأومأ إلي الفرق بين دين الغرب والدين الإسلامي وأن رجال الدين غير الدين نفسه . وانتهي من ذلك إلي حث هؤلاء الحكام والمسئولين في مصر وفي العالم الإسلامي كله علي المبادرة باتخاذ الخطوة الجريئة في اختيار المنهج الإسلامي القويم لحكم البلاد . وحتى لا تكون الرسالة مجرد مقال إنشائي فقد ذيلها بخمسين مطلبا عمليا تطبيقيا من مطالب الإصلاح الداخلي : عشرة منها تناولت الناحية السياسية والقضائية والإدارية ، وثلاثون منها تناولت الناحية الاجتماعية والعلمية ، والعشرة الباقية تناولت الناحية الاقتصادية . وقد ختم حسن البنا الرسالة بهذه العبارة " وبعد .. فهذه رسالة الإخوان المسلمين نتقدم بها ، وإنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نملك تحت تصرف أيه هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بأمة الإسلام نحو الرقي ولالتقدم ، نجيب النداء ، ونكون الفداء . ونرجو أن نكون قد أدينا بذلك أمانتنا وقلنا كلمتنا ، والدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم وحسبنا الله ونعم الوكيل " . وفي خلال هذه المراحل الثلاث التي أتينا علي صور مصغرة لكل منها لم ينقطع عن حث الحكومات المتتالية علي مساندة قضية فلسطين مساندة فعالة ، وعلي الوقوف بجانب قضايا الشعوب الإسلامية في المغرب العربي والمشرق العربي عن طريق الخطب والمحاضرات والخطابات والمنشورات والمقالات التي تملأ صفحات ما كان يصدره الإخوان من مجلات وكتب ونشرات . ولكن هل كان لهذه التوجيهات من أثر في اتجاه هؤلاء الساسة والحكام ؟ الواقع التاريخي يلزمنا أن نقرر أنه حتى هذه المرحلة من مراحل الدعوة لم يكن لنداءات حسن البنا بمختلف صورها من أثر يذكر في اتجاه الحكومات المتتالية التي كان يتداولها الساسة المصريون . 4 – المؤتمر الخامس أو من أعلي مئذنة : ولكن حين قويت شوكة الدعوة ، واشتد ساعدها بعد أن دارت رحي الحرب العالمية الثانية كما بينا من قبل – أخذ صوت حسن البنا يجلجل فأيقظ النائمين وأقض مضاجع الساتدة المترفين .. ولأول مرة اخترق صوته آذانهم حين وقف علي منصة المؤتمر الخامس بسراي آل لطف الله بالجزيرة في عام 1357هـ الموافق 1938م يلقي بيانه الذي وضح فيه موقف الإخوان المسلمين من جميع الجهات والأفكار والهيئات في الداخل والخارج . وتعرض فيه للساسة المصريين فقال : " والإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب المصرية جميعا قد وجدت في ظروف خاصة ولدوافع أكثرها شخصي لا مصلحي ، وشرح ذلك تعلمونه حضراتكم جميعا . ويعتقدون كذلك أن هذه الأحزاب لم تحدد برامجها ومناهجها إلي الآن ، فكل منا سيدعي أنه يعمل لمصلحة الأمة في كل نواحي الإصلاح ، ولكن ما تفاصيل هذه الأعمال ؟ وما وسائل تحقيقها ؟ وما الذي أعد من هذه الوسائل ؟ وما العقبات التي ينتظر أن تقف في سبيل التنفيذ ؟ وماذا أعد لتذليلها ؟ كل ذلك لا جواب عليه عند رؤساء الأحزاب وإدارات الأحزاب ، فهم قد اتفقوا في هذا الفراغ كما اتفقوا في أمر آخر هو التهالك علي الحكم ، وتسخير كل دعاية حزبية ، وكل وسيلة شريفة وغير شريفة في سبيل الوصول إليه . ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت علي الناس كل مرافق حياتهم ، وعطلت مصالحهم ، وأتلفت أخلاقهم ، ومزقت روابطهم . وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر " . ثم قال : " أن الإخوان لا يضمرون لحزب من الأحزاب أيا كان خصومة خاصو به ، ولكنهم يعتقدون من قرارة نفوسهم أن مصر لا يصلحها ولا ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلها ، وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود الأمة إلي الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم . " وبهذه المناسبة أقول أن الإخوان المسلمين يعتقدون عقم فكرة الائتلاف بين الأحزاب ويعتقدون أنها مسكن لا علاج ، وسرعان ما ينقض المؤتلفون بعضهم علي بعض فتعود الحرب بينهم جذعة علي أشد ما كانت عليه قبل الائتلاف – والعلاج الحاسم الناجع أن تزول هذه الحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها وانتهت الظروف التي أوجدتها ، ولكل زمان دولة ورجال كما يقولون ، ثم تناول فقد أدت بعد ذلك موقف الإخوان من الدول الاستعمارية فقال : " الإسلام كما قدمت يعتبر المسلمين أمة واحدة تجمعها العقيدة ويشارك بعضها بعضا في الآلام والآمال ، وأن أي عدوان يقع علي واحدة منها أو علي فرد من المسلمين فهو واقع عليهم جميعا – أضحكني وأبكاني حكم فقهي رأيته عرضا في كتاب " الشرح الصغير " علي أقرب المسالك ، قال مؤلفه " مسألة امرأة مسلمة سببت بالمشرق وجب علي أهل المغرب تخليصها وافتداؤها ولو أتي ذلك علي جميع أموال المسلمين " ورأيت مثله قبل ذلك في كتاب " مجمع الأنهر في شرح ملتقي الأبحر " نقلا عن كتاب " البحر " في مذهب الأحناف – رأيت هذا فضحكت وبكيت . وقلت لنفسي : أين عيون هؤلاء الكاتبين لتنظر المسلمين جميعا في أسر غيرهم من أهل الكفر والعدوان ؟ . " أريد أن استخلص من هذا أن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزأ ، وأن العدوان علي جزء من أجزائه عدوان عليه كله ، هذه واحدة .. والثانية أن الإسلام فرض علي المسلمين أن يكونوا أئمة في ديارهم . سادة في أوطانهم . بل ليس ذلك فحسب ، بل إن عليهم أن يحملوا غيرهم علي الدخول في دعوتهم والاهتداء بأنوار الإسلام التي اهتدوا بها من قبل . " ومن هنا يعتقد الإخوان المسلمون أن كل دولة اعتدت وتعتدي علي أوطان الإسلام دولة ظالمة لابد أن تكف عن عدوانها ولابد من أن يعد المسلمون أنفسهم ويعملوا متساندين متحدين علي التخلص من نيرها " . وبعد أن تناول الدول المستعمرة دولة دولة وما فعلته كل منها بالمسلمين ختم هذا الموضوع بالعبارة الآتية : " أيها الإخوان المسلمون – هذا كلام يدمي القلوب ويفتت الأكباد ، وحسبي هذه الفواجع في هذا البيان ، فتلك سلسلة لا آخر لها ، وأنتم تعرفون هذا ولكن عليكم أن تبينوه للناس ، وأن تعلموهم أن الإسلام لا يرضي من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال فضلا عن السيادة وإعلان الجهاد ، ولو كلفهم ذلك الدم والمال ، فالموت خير من هذه الحياة : حياة العبودية والرق والاستذلال . وأنتم إن فعلتم ذلك وصدقتم الله العزيمة فلابد من النصر إن شاء الله ( ) . 5 – بيان أشبه بإنذار في المؤتمر السادس : وبعد المؤتمر الخامس بسنتين أي في عام 1941 عقد حسن البنا المؤتمر السادس . وقد وعدنا الاخوة القراء – في الجزء الأول من هذا الكتاب في سياق الحديث عن مؤتمرات الإخوان – أنه إذا يسر لنا الحصول علي مرجع المؤتمر السادس سننقل لهم فقرات مما جاء في كلمة الأستاذ الإمام فيه .. وقد يسر لنا ذلك والحمد لله .. فهاكم هذه الفقرات :
• يقول – رحمه الله – في مستهل خطابه :
" واذكروا جيدا أيها الإخوة أن دعوتكم أعف الدعوات ، وأن جماعتكم أشرف الجماعات ، وأن مواردكم من جيوبكم لا من جيوب غيركم : ونفقات دعوتكم من قوات أولادكم ومخصصات بيوتكم . وأن أحدًا من الناس ، أو هيئة من الهيئات ، أو حكومة من الحكومات ، أو دولة من الدول .. لا تستطيع أن تجد لها في ذلك منة عليكم . وما ذلك بكثير علي دعوة أقل ما يطلب من أهلها النفسوالمال (• •) .
• ويعرض لغاية الإخوان المسلمين فيقول :
" يعمل الإخوان المسلمون لغايتين : غاية قريبة يبدو هدفها وتظهر ثمرتها لأول يوم ينضم فيه الفرد إلي الجماعة ... وغاية بعيدة لابد فيها من ترقب الفرص وانتظار الزمن وحسن الإعداد وسبق التكوين . فأما الغاية الأولي فهي المساهمة في الخير العام أيا كان لونه ونوعه ، والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف . أما غاية الإخوان الأساسية .. أما هدف الإخوان الأسمي .. أما الإصلاح الذييريده الإخوان ويهيئون له أنفسهم .. فهو إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوى الأمة جميعا ، وتتجه نحوه الأمة جميعا ، ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل . إن الإخوان المسلمين يهتفون بدعوة ، ويؤمنون بمنهاج ، ويناصرون عقيدة ، ويعملون في سبيل إرشاد الناس إلي نظام اجتماعي يتناول شئون الحياة جميعا اسمه (الإسلام) . والإخوان المسلمون يعملون ليتأيد النظام بالحكام ، ولتحيا من جديد دولة الإسلام ، ولتشمل بالنفاذ هذه الأحكام ، ولتقوم في الناس حكومة مسلمة ، تؤيدها أمة مسلمة ، تنظم حياتها شريعة مسلمة أمر الله بها نبيه صلي الله عليه وسلم في كتابه حيثقال : ( • • • ) ثم أخذ – رحمه الله – في تناول النظام الاجتماعي في مصر وما فيه من فساد مستعرضا بعض نتائج هذا الفساد .. وهنا تلفت نظر السادة القراء إلي أن الأستاذ الإمام كان يلقي هذا الخطاب في عام 1941 فهو يصف ما كان موجودا في ذلك الوقت مما كان يجهله الشعب كل الجهل ولا يعلم عنه شيئا – وهذا الجزء من كلمة الأستاذ – رحمه الله – هو الذي استغرق تحضيره جهدا كبيرا وبحثا مستفيضًا ووقتا طويلا أياما ذات عدد إذ تمكن من الحصول علي مظان ومراجع لم تكن متداولة بين عامة الناس . وقال رحمه الله :
بعض نتائج فساد النظام الاجتماعي (الحالي) في مصر
أيها الإخوان : أننا في أخصب بقاع الأرض ، وأعذبها ماء ، وأعدلها هواة ، وأيسرها رزقا ، وأكثرها خيرا ، وأوسطها دارا ، وأقدمها مدنية وحضارة وعلما ومعرفة ، وأحفلها بآثار العمران الروحي والمادي والعلمي والفني ، وفي بلدنا المواد الأولية والخامات الصناعية والخيرات الزراعية وكل ما تتاج إليه أمة قوية تريد أن تستغني بنفسها وأن تسوق الخير إلي غيرها . وما من أجنبي هبط هذا البلد الأمين إلا صح بعد مرض ، واغتني بعد فاقه ، وعز بعد ذل ، وأترف بعد البؤس والشقاء . فماذا أفاد المصريون أنفسهم من ذلك كله ؟ لا شيء .. هل ينتشر الفقر والجهل والمرضوالضعف فيبلد متمدن كما ينتشر في مصر الغنية مهد الحضارة والعلوم وزعيمة أقطار الشرق غير مدافعة ؟! . إليكم أيها الإخوان بعضالأرقام التي تنطق بما يهددنا من أخطار اجتماعية ماحقة ساحقة إن لم يتداركنا اللهفيها برحمته فسيكون لها أفدح النتائج وافظع الآثار : 1 – الفلاحون في مصر يبلغون ثمانية ملايين ، والأرض المنزرعة نحو ستة ملايين من الأفدنة ، وعلي هذا الاعتبار يخص الفرد الواحد نحو ثلثي فدان . فإذا لاحظنا إلي جانب هذا أن الأرض المصرية تفقد خواصها لضعف المصارف وكثرة الإجهاد ، وأنها لهذا السبب تأخذ من السماد الصناعيأضعاف غيرها من الأرض التي تقل عنها جودة وخصوبة ، وأن عدد السكان يتكاثر تكاثرا سريعا ، وأن التوزيع في هذه الأرض يجعل من هذا العدد أربعة ملايين لا يملكون شيئًا ،ومليونين لا يزيد ملكهم عن نصف فدان ، ومعظم الباقي لا يزيد ملكه علي خمسة أفدنة .. علمنا مبلغ الفقر الذي يعانيه الفلاحون المصريون ودرجة انحطاط مستوي المعيشة بينهم درجة ترعب وتخفيف .. إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم عليثمانين قرشا في الشهر إلابشقالنفس، فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل في الأسر المصرية عامة .. كان متوسط ما خص الفرد في العام جنيهين ، وهو أقل بكثير مما يعيشبه الحمار ، فإن الحمار يتكلف عليصاحبه (140 قرشا خمس فدان برسيم و 30 قرشا حملا ونصف الحمل من التبن و 150 قرشا أردب فول و 20 قرشا أربعة قراريط عفش ذرة ومجموعها 340 قرشا) وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الأدميين في مصر . وبذلك يكون أربعة ملايين مصرييعيشون أقل من عيشة الحيوان . ثم إذا نظرت إلي طبقة الملاك وجدتهم مكبلين بالديوان أذلاء للمحاكم والبنوك ، إن البنك العقاري وحده يحوز من الرهون قريبا من نصف مليون فدان . ويبلغ دينه علي الملاك المصريين 17 مليونا من الجنيهات إلي أكتوبر سنة 1936 . وهذا بنك واحد . وقد بلغ ثمن ما نزعت ملكيته للديوان من الأرض والمنازل في سنة 1939 (346.256 جنيها) فعليأي شيء تدل هذه الأرقام ؟ . 2 – العمال في مصر يبلغون (5.718.127) أي نحوا من ستة ملايين عامل ، يشكو التعطل منهم (511.119) أي أكثر من نصف مليون لا يجدون شيئًا . وهناك الجيوش من حملة الشهادات العاطلين . فكيف يشعر إنسان هذه حاله بكرامته الإنسانية أو يعرف معني العاطفة القومية والوطنية وهو في بلد لا يستطيع أن يجد فيه القوت ؟ ولقد استعاذ النبي صلي الله عليه وسلم من الفقر ، وقديما قيل : يكاد الفقر أن يكون كفرا .. فضلا عن أن المشتغلين من العمال مهددون باستغلال أصحاب رأس المال وضعف الأجور والإرهاق في العمل . ولم تصدر الحكومات بعد التشريع الكافي لحماية هؤلاء البائسين . وقد ضاعفت حالة الحرب القائمة هذا العدد من المتعطلين وزادت العاملين بؤسا علي بؤسهم . 3 – شركات الاحتكار في مصر قد وضعت يدها علي مرافق الحياة والمنافع العامة . فالنور والمياه والملح والنقل ونحوها كلها في يد هذه الشركات التي لا ترقب في مصري إلا ولا ذمة والتيتحقق أفحش الأرباح وتضن حتى باستخدام المصريين في أعمالها . لقد بلغت أرباح شركة المياه بالقاهرة منذ تأسست في 27 مايو سنة 1865 إلي سنة 1933 عشرين مليونا من الجنيهات . وقد بلغ التفريط والتهاون بالحكومة المصرية أن باعت حصتها من أرباح الشركةن في عهد وزارة رياض باشا (وكان ناظر الأشغال حينذاك محمد زكي باشا) بمبلغ 20 ألفا من الجنيهات مع أن حصيلتها في صافي الربح من تاريخ البيع وهو 10 يوليو سنة 1899 إلي سنة 1934 فقط مليونين ونصف مليون من الجنيهات . إن في مصر 320 شركة أجنبية تستغلف جميع مرافق الحياة ، وقد بلغت أرباحها في سنة 1938 الماضية (7.637.482) جنيها كلها من دم المصريين الذين لا يجد نصفهم القوت . ولقد ربحت شركة مياه الإسكندرية وحدها سنة 1938 (122.850 جنيها) وشركة مياه القاهرة (284.892 جنيها) وهذه الشركات جميعا تخالف نصوص العقود في كثير من التصرفات ثم لا يكون التصرف معها إلا متراخيا ضعيفا يفوت الفائدة علي الحكومة وعلي الجمهور معًا . ولعل من الظريف المبكي أن نقول أن عدد الشركات المصرية إليسنة 1938 بلغ إحدى عشرة شركة فقط مقابل 320 ثلاثمائة وعشرين شركة أجنبية . 4 – لقد استقبلت العيادات الحكومية سنة 1943 (7.421.383) مريضًا . منهم مليون باليلهاريسيا ، وأكثر من نصف مليون بالإنكلستوما ، ومليون ونصف بالرمد ، وفي مصر 90 في المائة مريضبالرمد والطفيليات ، وفيه (55.575) من فاقدي البصر . ويكشف لنا الكشف الطبي في المدارس والمعاهد والجامعة ومنها كلية الحربية – حقائق عجيبة عن ضعف بنية الطلاب وهم زهرة شباب الأمة . وكل ذلك في أمة علمها نبيها أن تسأل الله أن يعاقبها في أبدانها وفي سمعها وفي بصرها . ثم عرض بعد ذلك – رحمه الله – للأمية ومدي تفشيها وعن انحطاط المستوي الخلقي وانتشار الجرائم التي يعاقب عليها القانون والجرائم التي لا يعاقب عليها القانون مما يخالف تعاليم الإسلام كشرب الخمر والقمار واليانصيب والسباق والعبث وغيرها . ثم قال :
• الـداء والـدواء :
أيها الإخوان .. هذه لغة الأرقام ، وهذا قليل من كثير من مظاهر البؤس والشفاء في مصر فما سبب ذلك ؟ .. ومن المسئول عنه ؟ .. وكيف نتخلص منه ، وما الطريق إلي الإصلاح " ... اما سبب ذلك ففساد النظام الاجتماعي في مصر فسادا لابد له من علاج فقد غزتنا أوروبا منذ مائة سنة بجيوشها السياسية وجيوشها العسكرية ، وقوانينها ونظمها ومدارسها ولغتها وعلومها وفنونها ، وإلي جانب ذلك بخمرها ونسائها ومتعها وترفها وعاداتها وتقاليدها ، ووجدت منا صدورا رحبة وأدوات طيعة تقبل كل ما يعرض عليها . ولقد أعجبنا بذلك كله ، ولم تقف عند حد الانتفاع بما يفيد من علم ومعرفة وفن ونظام وقوة وعزة واستعلاء .. بل كنا عند حسن ظن الغاصبين بنا فأسلمنا لهم قيادنا . وأهملنا من أجلهم ديننا ، وقدموا لنا الضار من بضاعتهم فأقبلنا عليه ، وحجبوا عند النافع منها وغفلنا عنه . وزاد الطين بلة أن تفرقنا علي الفئات شيعا وأحزابا يضرب بعضنا وجوه بعض ، وينال بعضنا من بعض ، لا نتبين هدفا ولا نجتمع علي منهاج . أما المسئول عن ذلك فالحاكم والمحكوم علي السواء ، الحاكم الذي لانت قناته للغامزين ، وسلس قياده للغاصبين ، وعني بنفسه كثر مما عني بقومه حتى فشت في الإدارة المصرية أدواء عطلت فائدتها وجرت علي الناس بلاءها . فالأنانية والرشوة والمحاباة والعجز والتكاسل والتعقيد كلها صفات بارزة في الإدارة المصرية – والمحكوم الذي رضي بالذلة وغفل عن الواجب وخدع بالباطل وانقاد وراء الأهواء ، وفقد قوة الإيمان وقوة الجماعة فأصبح نهب الناهبين وطعمة الطامعين . أما كيف نتخلص من ذلك فبالجهاد والكفاح . ولا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة ، فتتخلص من ذلك كله بتحطيم هذا الوضع الفاسد وأن نستبدل به نظاما اجتماعيا خيرا منه ، تقوم عليه وتحرسه حكومة حازمة تهب نفسها لوطنها ، وتعمل جاهدة لإنقاذ شعبها .. ولئن فقدت الأمم مصباح الهداية في أدوار الانتقال فإن الإسلام الحنيف بين أيدينا مصباح وهاج نهتدي بنوره ونسير علي هداه . ثم تحدث – رحمه الله – عن وسائل الإخوان العامة وذكر أنها تتلخص في الإقناع ونشر الفكرة الإسلامية بكل وسائل النشر حتى يفقهها الرأي العام يناصرها عن عقيدة وإيمان . ثم النضال الدستوري ثم قال : " أما ما سوى ذلك من وسائل فلن نلجأ إليه إلا كارهين . ولن نستخدمه إلا مضطرين . وستكون حينئذ صرحاء شرفاء ، لا نحجم عن إعلان موقفنا واضحا لا لبسفيه ، ولا غموض معه . ونحن علي استعداد تام لتحمل نتائج عملنا أيا كانت ، لا نلقيالتبعة علي غيرنا ، ولا نتمسح بسوانا ، ونحن نعلم أن ما عند الله خير وأبقي ، وأن الفناء في الحق هو عين البقاء ، وأنه لا دعوة بغير جهاد ، ولا جهاد بغير اضطهاد ، وعندئذ تدنو ساعة النصر ويحين وقت الفوز ،ويتحقق قول الملك الحق المبين : (• • ) . ثم تحدث – رحمه الله – بعد ذلك عن الإخوان المسلمين والسياسة ووضح نوع السياسة الذي يباشره الإخوان ثم أخذفي توضيح موقف الإخوان من الهيئات والأحزاب والحكومات المصرية ، وتجتزئ بفقرات من مما جاء في خطابه عن موقف الإخوان من الحكومات المصرية حيث هو عنوان هذاالفصل وهو القضية التي نحن بصدد معالجتها مما اقتضاها أن نذكر ست مراحل لحظنا فيها مدي عناية الإخوان المسلمين بتوجيه الدعوة إلي الطائفة الخامسة وهم الساسة والحكام . وكان سادس هذه المراحل هو عقد المؤتمر السادس وخطاب المرشد لاعام فيه . وإليك فقرات من الخطاب مما جاء بهذا الصدد : " فأما موقفنا من الحكومات المصرية علي اختلاف ألوانها فهو موقف الناصح الشفيق ، الذي يتمني لها السداد والتوفيق ، وأن يصلح الله بها هذا الفساد ، وإن كانت التجارب الكثيرة كلها تقنعنا أننا في واد وهي في واد ،ويا ويح الشجي من الخلي . لقد رسمنا للحكومات المصرية المتعاقبة كثيرا من مناهج الإصلاح . تقدمنا لكثير منها بمذكرات ضافية في كثير من الشئون التي تمس صميم الحياة المصرية . لقد لفتنا نظرها إلي وجوب العناية بإصلاح الأداة الحكومية نفسها باختيار الرجال وتركيز الأعمال وتبسيط الإجراءات ومراعاة الكفايات والقضاء علي الاستثناءات . وإلي إصلاح منابع الثقافة العامة بإعادة النظر في سياسة التعليم ومراقبة الصحف والكتب والسينما والمسارح والإذاعة ، واستدراك نواحي النقص فيها وتوجيهها الوجهة الصالحة .. وإصلاح القانون باستمداده من شرائع الإسلام ، ومحاربة المنكر ومقاومة الإثم بالحدود وبالعقوبات الزاجرة الرادعة . وتوجيه الشعب وجهة صالحة بشغله النافع من الأعمال في أوقات الفراغ .. فماذا أفاد كل ذلك ؟ .. لا شيء ... وستظل (لا شيء) هو الجواب لكل المقترحات مادمنا لا نجد الشجاعة الكافية للخروج من سجن التقليد والثورة علي هذا " الروتين العتيق " وما دمنا لم نحدد المنهاج ولم نتخير لإنقاذه الأكفاء من الرجال ... ومع هذا فسنظل في موقف الناصحين حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين . ثم نختم مقتطفاتنا من هذا الخطاب القوي الجامع بفقرة عنونها – رحمه الله – " بكلمة حق " وهي كلمة أراد أن يؤكد بها ما بدأ به خطابه وما كان هو أشد الناس حرصا عليه وهو سلامة بناء الدعوة وطهارته وتساميه عن كل ما يشوب الهيئات والدعوات فقال :
• كلمـة حق :
نحب بعد هذا أن نقول كلمة صريحة لأولئك الذين لازالوا يظنون أن الإخوان يعملون لحساب شخص أو جماعة : اتقوا الله أيها الناس ، ولا تقولوا مالا تعلمون . واذكروا قول الله تعالي : ( ) وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " وإن أبغضكم إلي وأبعدكم متى مجلسا يوم القيامة المشاءون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الملتمسون للبراءاء العيب " وليعلموا تماما أن اليوم الذي يكون فيه الإخوان المسلمون مطية لغيرهم أو أداة لمنهاج لا يتصل بمناهجهم لم يخلق بعد ... وأذكر أنني كتبت في حدى المناسبات خطابا لأحد البشوات جاء في آخره : " إن الإخوان المسلمين يا رفعة الباشا لا يقادون برغبة ولا برهبة . ولا يخشون أحدا إلا الله ، ولا يغريهم جاه ولا منصب ، ولا يطمعون في منفعة ولا مال ، ولا تعلق نفوسهم بعرض من أعراض هذه الحياة الفانية ،ولكنهم يبتغون رضوان الله ويرجون ثواب الآخرة ويتمثلون في كل خطواتهم قول الله تبارك وتعالي : ( ) فهم يفرون من كل الغابات والمطامع إليغاية واحدة ومقصد واحد هو رضوان . وهم لهذا لا يشتغلون في منهاج غير منهاجهم ، ولا يصلحون لدعوة غير دعوتهم ، ولا يصطبغون بلون غير الإسلام ( ) .. فمن حاول أن يخدعهم خدع ، ومن أراد أن يستغلهم خسر . ومن طمع في تسخيرهم لهواء أخفق . ومن أخلص معهم في غايتهم ووافقهم علي متن طريقهم سعد بهم وسعدوا به ، ورأي فيهم الجنود البسلاء والإخوة الأوفياء . يفدونه بأرواحهم ، ويحيطونه بقلوبهم ، ويرون له بعد ذلك الفضل عليهم .. أكتب لكم يا رفعة الباشا لا رجاء معونة مادية لجماعة المسلمين ، ولا رغبة في مساعدة نفعية لأحد أعضائها العاملين ، ولكن لأدعوكم إليصف هؤلاء الإخوان بعد دراستهم دراسة جدية صحيحة تقنعكم بمنهاجكم ، وتنتج تعاونكم معهم في إصلاح المجتمع المصري علي أساس متين من الخلق الإسلامي وتعاليم الإسلام ( ) بمثل هذا الأسلوب نخاطب الناس ،ونكتب لرفعة النحاس باشا ومحمد محمود باشا وعلي ماهر باشا وحسين سري باشا ،وغيرهم ممن نريد أن نعذر إلي الله بإبلاغهم الدعوة وتوجيههم إلي ما تعتقد أن فيه الخير والصواب لهم وللناس . أفيقال بعد هذا أن الإخوان المسلمين يعملون لحساب شخص أو هيئة كبرذلك أم صغر ؟ قل أم كثر .. (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) ومعاذ الله أن نكون في يوم من الأيام لغير دعوة القرآن وتعاليم الإسلام " . وبعد أن أنهينا مقتطفاتنا من الخطاب نقول : إن بيان حسن البنا في هذا المؤتمر كان شواظا من نار ، حيث تحدث لأول مرة – بتقصير مثير – عن الاستعمار الاقتصادي في مصر . فكشف بذلك من عورة الاستعمار فيما يمس الحريات .. بل إنهم قد يتحملون إذا هاجمهم المهاجم في احتلال جيوشهم أرضا غير أرضهم . أما الذي لا يتحمله المستعمرون ولا يتغاضون عنه ولا يسكنون عليه ولا يغفرونه فهو أن يهاجموا في استغلالهم الاقتصادي.. إنهم حينئذ يحسون أنهم قد طعنوا في سويداء قلوبهم ، ويشعرون أنهم أصبحوا في موقف من يدافعون عن حياتهم .. فيستبيحون جميع الوسائل المتاحة لهم للتعجيل بضرب هذا المهاجم والقضاءعليه قبل أن يقضي عليهم . ذلك أن جميع أساليب الاستعمار ووسائله من احتلال الأرض ، وإفساد الخلق ، وبث الفرقة ، وشراء الضمائر ، وحجب العلم ، ونشر الجهل والمرض الأصيل من الاستعمار . وهو وضع يد المستعمر علي مقدرات البلاد ، والتمكن من استنزاف خيراتها وحرمان أهلها منها . لقد صبر المستعمر علي حسن البنا حين هاجم من قبل في اعتدائهم علي حريات الشعب واحتلالهم لأرضه ، وإفسادهم الذمم والأخلاق مع إشارة مجملة إلي استغلالهم الاقتصادي .. واقتصر ردهم عليه علي الحد من حريته ووضع العراقيل في طريقه – أما حين سمعوه في المؤتمر السادس يهاجم استغلالهم الاقتصادي بتفصيل يفهمه ويتأثر به جميع الناس حتى العوام منهم – مما كانوا حريصين أشد الحرصعلي حجبه عن سائر الشعب – حينئذ قرروا فيما بينهم ألا مناص من وضع خطة للقضاءعلي شخصه – ولكن الحرب العالمية الثانية كانت تستغرق كل جهدهم مما لا يدع لهم فرصة التفكير فيما سواها فأجلوا وضع الخطة وتنفيذها حتى تضع الحرب العالمية أوزارها . 6 – زيادة الزحف الشعبي ضد الاستعمار : وما كادت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها – بعد أن حاول دخول مجلس النواب مرتين – حتى رأوا حسن البنا يتقدم صفوف المطالين بحرية مصر واستقلالها ، ويتزعم حركة مواجهة صريحة لا تعرف هوادة ، ثم رأوه يقتحم علي اليهود في مستعمراتهم المغتصبة ، ويذيقهم بأيد رجاله ما أذيق آباؤهم من قبل بأيدي الرعيل الأول من الصحابة الكرام في حواري يثرب وأزقتها حين خانوا ونكثوا العهود . تلقي العالم الغربي بياني حسن البنا في المؤتمرين الخامس والسادس علي أنهما إعلان حرب مقدسة عليه وعلي ما هو مستمتع به من نفوذ في العالم الإسلامي المستكين المهلهل المقطع الأوصال .. وأثبتت لهم الأحداث بعد ذلك أنه كان جادا في كل كلمة أعلنها . كما وقعت هذه البيانات وما صحبها وتلاها من خطوات عملية من الساسة المحليين موقع الصاعقة المزلزلة ؛ حيث هددت بنسف مطامعهم وفضح تواطئهم .. فوافق شن طبقه كما يقول المثل ، وتلاحمت مصالحهم مع مصالح سادتهم المستعمرين ، واتحدت إرادتهم جميعا علي سحق هذه الدعوة ، ومحو قائدها من الوجود ... وكانت المؤامرة العالمية التي أتينا في الفصول السابقة علي ملامح منها .
• وبـعـد :
فعودا إلي السؤال الذي قد يتلجلج في صدور كثير من الناس والذي وضعناه في أول هذا الفصل ونصه : لما كان حسن البنا يعلم من خطورة بقاء هذه الطائفة (الساسة والحكام) علي فسادها ما يعلم ، فلم لم يسارع بالتوجه بدعوته إليها من أول يم ؟ نقول : بعد أن يستعرض السائل المراحل الست التي أتينا علي لمحات خاطفة مما قام به حسن البنا من جهود في خلالها .. هل يجد السائل بعد ذلك في نفسه حرجا من أن حسن البنا قد أولي هذه الطائفة من العناية ما هي جديرة به ، وهل كان هناك فضل من عناية أو مزيد من جهد حتى يكون قد أعذر إلي الله في شأنها ؟ إن جهود حسن البنا حيال هذه الطائفة من الساسة والحكام تذكرنا بقول الله عز وجل في كتابه الكريم : ( •• ) . الفصل الرابع : آخر ما كتبه حسن البنا بخط يده للنشر : نشرت جريدة " المصري " في عددها الصادر في أول أكتوبر 1949 وبملء صفحتها الأولي حديث تحت العنوان التالي :
الحديث الذي أدلي به الشيخ حسن البنا بعد حل الجمعية ومقتل النقراشي باشا وقبيل مقتله ببضعة أيام
وتحت هذا العنوان كتبت : " صادف قيام حرب فلسطين سلسلة من الانفجارات الداخلية والحوادث أدت إلي توتر الحالة في مصر . وانتهت بأن أصدر المغفور له دولة النقراشي باشا أمرًا عسكرياً بحل جمعية الإخوان المسلمين . وزاد الأمر العسكري الحالة توترا ، وباتت البلاد ونذر البلاد الشر تخيم عليها ، وإذا يحادث أليم يقع فيهز أركان الوادي وهو حادثاغتيال دولة النقراشي باشا . وجاء هذا الحادث ليزيد الأمور تعقيدًا . وأشيع في هذه الآونة أن الأستاذ الشيخ حسن البنا مهدد بالاغتيال ، وبذلك رأي " المصري " أن يستوضح فضيلته رأيه في موقفه وموقف جمعية الإخوان المسلمين بعد حلها وما يتبع الحل من حوادث جسام . فأدلي إلينا رحمه الله بالحديث الخطير التالي مكتوبا بخطه ، ووقع فضيلته علي كل إجابة . وقد امتنعنا عن نشره في حينه لظروف لعلها لا تغيب عن ذهن كل قارئ " . وجاءت الجريدة في صدر الصفحة الأولي بنص سؤال منقول بالزنكوغراف وإجابة الأستاذ المرشد عليه ، والإجابة مكتوبة فعلا بخط يده وخطه ليس غريبا عليّ وبجانب التوقيع 9/1/1949 . وقد نشرت " المصري " في عددها الصادر يوم 2 من أكتوبر – (اليوم التالي) أن الرقابة أرسلت مندوبا بعد أن أرسلت أعداد أول أكتوبر إلي المحطات لشحنها إلي البلاد – لمصادرة الذي طبع . ومع أن " المصري " استصدر أمرا من النيابة بإلغاء أمر الرقابة ، فإن أكثر الاعداد لم تصل إلي البلاد وتسبب ذلك في خسائر فادحة ، وقد أبرقت " المصري " إلي رئيس الحكومة محتجة .
نـص الحـديـث • السؤال الأول :
كان لما حدث للإخوان المسلمين أخيرا صداه في مختلف الدوائر السياسية التي كانت ترقب باهتمام حركات الجماعة وآثارها في مختلف الشئون الإسلامية – لذلك رأينا أن نستوضح فضيلتكم في الأسباب التي دفعت بالمسئولين في مصر إلي أتخاذ تلك الإجراءات ؟
• الإجـابـة :
لا يمكن بالتحديد أن أحصر الأسباب التي دعت الذين أصدروا هذا القرار إلي إصداره . ولكن يقال أن من هذه الأسباب التحول الذي طرأ أو في النية أن يطرأ علي اتجاهات السياسة البريطانية في الشرق . ومن المعلوم أن بريطانيا تعتبر الإخوان المسلمين قوة وطنية متطرفة . وتعزو إلي دعاتيهم تعطيل مشروعات الاتفاق بينها وبين مصر . كما يقال أن من هذه الأسباب العوامل الحزبية التي تصاحب قرب موعد الانتخابات النيابية ، إذ إنه من المعروف أن الحزب السعدي يريد أن يظفر بأغلبية برلمانية تمكنه من الاستمرار في الحكم . ومن المعروف أن الإخوان المسلمين هم قوة شعبية ينتظر منها الصمود في هذا الموقف ، فمن التكتيك الحزبي أن يشوه موقفهم بمثل هذا العمل قبل حلول حوعد الانتخابات الذي سيكون في أكتوبر 1949 ما لم تطرأ عوامل علي الموقف . ويقال أيضا أنه كان هناك من الضغوط الأجنبية ما لم تستطع معه الحكومة المصرية إلا أن تتخذ هذا الاجراء. وعلي كل حال فهو موقف يؤسف له . وقد أدي إلي عكس المقصود منه ، وما لم يعدل في وقت قريب فإن الأمور في الداخل والخارج لا يمكن أن تستقر علي هذا الأساس من الضغط والظلم والتحدي والإرهاق .
• السؤال الثاني :
هل تنتظرون فضيلتكم أن تقتدي الحكومات الإسلامية الأخرى بمصر في اتخاذ إجراءات مماثلة مع فروع الجماعة ومنظماتها في شعوبها ، أم أنها هي إجراءات محلية لا تمتد إلي الإخوان المسلمين بصفتها هيئة عالمية ؟ .
• الإجـابـة :
لا أنتظر ذلك ، فإن الإخوان المسلمين يقومون في كل حكومة من هذه الحكومات ولكل شعب من هذه الشعوب بأجل الخدمات . ولولا أن لطبيعة دولة النقراشي باشا رحمه الله ولبعض العوامل النفسية والتصورات الخاصة التي استولت عليه أكبر الأثر في هذا العمل لما حدث في مصر نفسها ، ولهذا اعتقد أنها إجراءات محلية بحتة ، وسوف لا تلبث أن تزول بإذن الله .
• السؤال الثالث :
هل ترون أن الإجراءات التي اتخذت كانت من وحيتفكير مصريخالص أو أن هناك يدا أجنبية كان لها في ذلك تأثير . وإذن فلمن تكون هذه اليد ؟
• الإجـابـة :
يقال أن هناك ضغوطا أجنبية دفعت الحكومة المصرية . وأنه كان للسفير البريطاني والسفير الفرنسي القائم بأعمال السفارة الأمريكية أثر في ذلك . وإن كانت الحقيقية أن الإخوان المسلمين لا يضمرون لدولة من الدول ولا لشعب من الشعوب ولا لطائفة من الطوائف عدا الصهيونيين المحاربين إلا الخير .
• السؤال الرابع :
ما هو مصير قوات الإخوان المسلمين في فلسطين فيما لو قررت الحكومات العربية الانسحاب منها ، ومهادنة اليهود أو مصالحتهم . وهل تحارب هذه القوات تحت إشراف قوة من قوى الدول العربية أم تعمل مستقلة ؟
• الإجـابـة :
لا تزال القوات تجاهد في مراكزها ببسالة وشجاعة وإيمان . وهي تجارب الآن تحت إشراف الجامعة العربية ، و لا يمكن الآن تحديد موقفها في المستقبل ، وإن كانت القاعدة العامة أن الإخوان المسلمين جميعا قد عاهدوا الله علي أن يظلوا مجاهدين في سبيله حتى تتحرر فلسطين من عصابات الصهيونية المعتدية وتعود إلي أهلها العرب .
• السؤال الخامس :
يشبع خصومكم في الأوساط السياسية أن للإخوان المسلمين علاقة بالشيوعيين ، ويستدلون علي ذلك بالتشابه الموجود بين بعض التشكيلات والاتجاهات في كلتا الهيئتين . فما هو نصيب ذلك من الصحة ؟ وفيما يزعم البعض من أن دولة أجنبية تساعد الإخوان ماديا ؟
• الإجـابـة :
لقد قيل مثل هذا كثيرا ، وإنهم الإخوان بأنهم علي صلة بالنازية من قبل ، وأن شبابهم منظم علي نسق شباب هتلر ، وأن بعض تشكيلاتهم تشبه هذه التشكيلات إلخ ... ولكني أؤكد كل التأكيد أن الإخوان لم يتصلوا بأحد ولم تساعدهم أية دولة أجنبية بشيء مادي أو أدبي ، وأنهم يسيرون علي نمط إسلامي عربي مبين ، ويعتمدون علي إيمانهم ومواردهم الخاصة . وهذا هو في الحقيقة سر نجاحهم وثبات دعوتهم وجماعتهم للعواصف والأعاصير .
• السؤال السادس :
بعد الحوادث الأخيرة هل جرت اتصالات من جانبكم أو من جانب خصومكم لتسوية الموقف ، وهل أنتم مستعدون للاستجابة بشيء من ذلك ؟ وما هي الأسس التي ترونها لازمة لتسوية الموقف ؟ .
• الإجـابـة :
نعم جرت اتصالات بيننا وبين الحكومة المصرية – ولا أقول خصومنا – فإننا لم نفكر في يوم من الأيام بعقلية نستسيغ إشعال العداوة بين المواطنيين . وكل الذي نطلبه هو رفع هذه المظالم عن الإخوان ، والسماح لهم بمزاولة نشاطهم المشروع بالأسلوب الذي يستفيد منه الوطن ويخدم الإسلام . وأظن أن الاستعداد من جانب الحكومة المصرية لا بأس به ، إذ إن في هذا الطريق وحده استقرار الأمور ، وبعث الطمأنينة في نفوس الأجانب والوطنيين علي السواء . وأحب أن انتهز الفرصة فأوجه لنزلاء مصر من الأجانب المدنيين والسياسيين منهم هذه الكلمة : " إنهم يخطئون أشد الخطأ حين يعتقدون أن الإخوان خصوم لهم أن يتعصبون عليهم أو يريدون بهم شرا أو سوءا . وكل هذه دعايات سخيفة باطلة ؛ لأن دعوة الإسلام تتنافي مع التعصب والاعتداء – ودعوة الإخوان هي دعوة الإسلام .. وكل ما هنالك أن تشوب الحرب بين مصر وبين الصهيونيين – وموقف الكثير من اليهود المصريين أو الأجانب المقيمين في مصر من هذه الحرب وما تميز به من برود وشماتة ووقوف عن المساعدة – أحدث حالة من التوتر بين الإخوان المتحمسين للجهاد وبين هؤلاء اليهود الذين يصرون علي مساعدة الصهيونية ويطعنون مصر في ظهرها وهي تجارب . أما من عددهم من الأجانب أو الوطنيين غير المسلمين – مهما كانت عقيدتهم – فلم يفكر أحد في أن يمد إليهم بدء أو لسانه بسوء .. وعلي هذا فمن الخير لهؤلاء الأجانب أنفسهم أن يكونوا عوامل وفاق لا عوامل خصومة وخلاف بين الحكومة والإخوان . وفي هذا الخير للجميع .
• السؤال السابع :
ماذا تنوون عمله في المستقبل ؟ وهل تعتقدون أنه من الممكن أن يرجع الإخوان إلي صيغتهم الشرعية ونشاطهم العلني السابق ؟ .
• الإجـابـة :
من الممكن جدا والميسور جدا كذلك أن يعود الإخوان إلي صيغتهم الشرعية ونشاطهم العلني بإذن الله ، وسيكونون حينئذ من أقوي العوامل في تربية الشعب المصري تربية فاضلة ناضجة تقوم علي أساس الإيمان الصافي وتقدير الواجب ومعرفة والحقوق التمسك بالفضيلة والمثل الإنسانية العليا المستمدة من الإسلام الحنيف ، وهو خلاصة ما جاء به الأنبياء والمرسلون والكتب من شرائع وتعاليم .
• السؤال الثامن :
ماذا تنتظرون من آثار فيقضية فلسطين لما انكشف للحلفاء الغربيين أخيرًا وكان له تأثير علي الرأي العام في الشعوب الديمقراطية من مساعدة الروسيين ومن يدور في فلكهم لليهود بالمال والسلاح ؟ .
• الإجـابـة :
ننتظر أن تعدل حكومات الغرب عن خطتها في معاونة الصهيونيين . ولو أن هذا التنبيه جاءبعد قوات الفرصة . وهذا إذا كان المنطق والمصلحة الحقيقية – لا الدعايات الصهيونية وإغراءات اليهودية العالمية المختلفة – هما اللذان يؤثران فيهذه الحكومات .
• السؤال التاسع :
حدثت تغييرات في الحكومات العربية أخيرا في وقت كان المنتظر فيه استقرار الحكم في البلاد العربية . فما رأيكم في ذلك ؟ وعلام يدل ؟ .
• الإجـابـة :
أظن أن ذلك من الأمور الطبيعية في مثل هذه الظروف ، فإن تطورات قضية فلسطين ومفاجآتها وشدة حساسية الشعوب بكل ما يطرأ من هذه التطورات ، مع مفاجآت السياسة البريطانية الدائبة – كل ذلك يجعل مثل هذه التغيرات أمور عادية . وهو لا يدل عليشيء فيما نعتقد إلا علي أن سياسة الحكومات العربية مازالت إلي حد بعسيد مرتجلة ، وخاضعة للتأثير البريطاني ، بعيدة عن مطالب الشعوب ومشاعرها الحقيقية .. وهو ما يؤسف له . ولابد من النظر في علاجه بوضع سياسات ثابتة مستقرة تستمد من روح الشعب وحسن توجيهه والاعتماد عليه " . الفصل الخامس : حسن البنا وكبار الدعاة في العالم الإسلامي في العصر الحديث : لا ينبغي في إلقاء نظرتنا الأخيرة علي حسن البنا أن نغفل أمرا ذا بال . هو أن نقيم أسلوبه في الدعوة مقيسا بأساليب كبار الدعاة الذين قاموا بأعباء الدعوات في أنحاء العالم الإسلامي في خلال هذا القرن الذي نعيشه .. وقد يكون أبرز هؤلاء الدعاة هم : أولا – السيد جمال الدين الأفغاني : وهو رائد الدعاة في هذا القرن ، وأحد أفذاذ العلماء وأئمة الدعاة – نشأ في القطاع غير العربي من العالم الإسلامي ، وحمل لواء الفكرة الإسلامية إلي كثير من الأقطار الإسلامية وغير الإسلامية – وحضر إلي مصر وأقام بها مدة .. وتتلمذ علي يديه ، وتلقي عنه فكرته رعيل من كبار المفكرين وعلية القوم ، منهم الشيخ محمد عبده وسعد زغلول والأمير محمد توفيق الذي صار بعد ذلك خديو مصر وتنكر لأستاذه وناصبه العداء وأخرجه من مصر . وانتقل السيد جمال الدين أخيرا إلي الأستانة حيث يقال أنه دس له السم في طعامه بتدبير من الطبقة الحاكمة فذهب إلي ربه يشكو ظلم الظالمين .. وكان – رحمه الله – أية من آيات الله حاد الذكاء ، قوي الحجة ، سريع الخاطر ، عميق الإيمان بفكرته – وقد أصدر مجلة " العروة الوثقى " التي جعل تلميذه محمد عبده رئيسا لتحريرها . ثانيا – الشيخ محمد عبده : وإذا ذكر الشيخ محمد عبده لزم ذكر الثورة العرابية ، فلقد كان أحد أركانها ، وقد نفي مع من نفي من قادتها إلي خارج مصر – واشتراك محمد عبده في ثورة عرابي يدل علي أن الفكرة التي تلقاها تلامذة السيد جمال الدين منه عن شمول الفكرة الإسلامية لكل شئون الحياة هي التي جعلت هؤلاء التلاميذ يرون أن الشئون العسكرية جزء من هذه الفكرة . ولا شك في أن الثورة العرابية في ذاتها لم تكن إلا ثمرة من ثمرات التعاليم الإسلامية التي بثها السيد جمال الدين في أذهان الصفوة من القادة الذين كانوا يلوذون به ويستمعون إلي أحاديثه . وهذه الثورة بعد أن فشلت – لأسباب ليس هنا موضع ذكرها – قد تناولها الكتاب والمؤرخون تناولا مشبوها ، إذ أخذو ما أخذوا عنها من أفواه الاعداء المغرضين ، الذين كان همهم الأول يفصلوا هذه الثورة عن الفكرة الإسلامية التي أوحت بها .. مع أن قائد هذه الثورة – أحمد عرابي – قد وضع كتابا سجل فيه أطوار حياته منذ ولد .. وقارئ هذا الكتاب حين يقرأه يشعر بأن الفكرة الإسلامية كانت قوام حياة هذا الرجل ، وبأن كل ما تمخضت عنه حياته من أعمال لم تكن إلا من وحي هذه الفكرة . وحسب القارئ أن يعلم أن الكلمة التي أثرت عن أحمد عرابي والتي أجمل فيها كل ما يضطرم في نفسه (كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا) وهي هي نفس الكلمة التي قالها عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص أمير مصر حين ضرب ابنه ابن المصري بغير جريرة . ونرجع إلي السياق فنقول : إن محمد عبده – بعد أن عاد من منفاه – عاد بفكرة جديدة ، متأثرة بما لقيه من إذلال وإعنات ، تلك أنه صار يريأن السبيل الأقوم لتحقيق الفكرة حيث أنشأ هو تلميذه السيد محمد رشيد رضا مجلة " المنار " التي أدت دورا لا ينكر في توضيح الفكرة الإسلامية ،وتثقيف طبقة من الشعب ثقافة إسلامية مستنيرة . كما حاول إصلاح الأزهر بإخراجه عن حموده في بعض مناهجه الدراسية التي كادت تقطع الدارسين فيه عن المنابع الأصيلة من القرآن والسنة والوقوف بهم عن آراء المتأخرين ومؤلفاتهم .. وقد أتت هذه المحاولة بعض الثمار . ثالثا – مصطفي كامل : أنشأ مصطفي كامل " الحزب الوطني " الذي – مهما اختلفت الصور التي في أذهان الناس عن فكرته – فإن فكرته الأصيلة التي قام علي أساسها ، وظل مصطفي كامل – ما عاش – ملتزما بها . لا يجيد عنها – هي الفكرة الإسلامية .. وقد أشرت إلي ذلك ببعض التوضيح في موضع سابق من هذا الكتاب . وبدأ مصطفي كامل في تنفيذ فكرته بجمع أكبر عدد من كبار الوطنيين في القاهرة حيث كون منهم إدارة الحزب . واعتمد علي خطب قوية رنانة واجه فيها الاستعمار مواجهة صريحة لا هوادة فيها ، وعلي مقالات نارية تعتبر صدي لهذه المواجهة في جريدة اللواء التي أنشأها – كما أنه اعتمد أيضًا علي جولات له في فرنسا وبعض البلاد الأوروبية ألقي خلالها خطبا مثيرة عن فضائح الاستعمار البريطاني أملا في كسب رأي عام للقضية المصرية ضد انجلترا . ولم تتح له – رحمه الله – فرصة أن يولي مختلف أقاليم البلاد نفس العناية التي أولاها العاصمة .. ,مع ذلك فقد كان لخطبه ومقالاته وجريدته تأثيرًا كبيرًا في الرأي العام في الأقاليم . ولكن هؤلاء المستجيبين والمعجبين لم يجدوا من ينظم صفوفهم ، ويثقف عقولهم ، ويتعهد نفوسهم ، وينشئ منهم أمة متراصة واعية ذات عقيدة راسخة .. فلما مات مصطفي كامل أو بالأحرى لما اغتاله الاستعمار في عنفوان شبابه ، لم يجد أتباعه ومحبوه ما يعتصمون به من فكرة بلغت من نفوسهم مبلغ العقيدة .. فتفرقوا وتوزعتهم الأفكار الأخرى والمبادئ البراقة المزيفة . رابعا – سعد زغلول : وهو ممن تلقوا عن السيد جمال الدين أيضًا ، غير أنه اتخذ لنفسه أسلوبا بعد به عن فكرة أستاذه ، حيث اكتفي بالناحية السياسية المجردة منفصلة عن الدين – مع أن سعدا كان أزهريا – ففقدت هذه الناحية بذلك روحها ومسخت .. فبعد أن كانت السياسة نضالا ومواجهة وتضحية صارت استجداء وقناعة بفتات موائد العدو – وقد سبق أن جلينا وصق هذا الانحراف في فصول سابق . خامسا – الدعوة الوهابية : وقد قام بأعبائها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد بالجزيرة العربية . وقد رأي أن الناس في العالم الإسلامي قد انتشرت بينهم البدع والخرافات حتى كادت تحجب حقيقة العقيدة الإسلامية وتذهب بوضاءتها ، وكادت تنحرف بهم إلي الشرك .. فدعا إلي الرجوع للكتاب والسنة وإلي تطهير العقيدة الإسلامية مما علق بها من خرافات . فاستجاب له خلق كثيرون من أهل نجد . وكان ممن استجابوا له أمير نجد في ذلك الوقت وكان من آل سعود ، الذين آل إليهم بعد ذلك ملك الجزيرة العربية .. فاكتسبت دعوته بذلك قوة إذ صارت لها دولة تقوم علي أساس من فكرتها . ومع أن فكرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكرة سليمة ، فإن ما نهجه قلة من غير الناضجين من دعائها من وسائل تجنح إلي التغالي في بعض الأحيان وإلي التطرف ، وعدم سلوك أساليب تقوم علي التفاهم والود .. وقد نفر الكثيرين منها في أول الأمر حتى رمي بعضهم بعضا بالكفر ومما يؤسف له أن القلة المتطرفة تجني دائما علي الدعوة المنتسبة إليها وتشوه سمعتها وتكون حائلا بين الناس وبين معرفة حقيقة الدعوة ... ولكن بمرور الأيام تضاءلت هذه القلة غير الناضجة حتى لا يعد لها وجود الآن بين الدعاة . سادسا – الدعاة في المغرب العربي : في الوقت الذي كان المشرق العربي تتناوعه تعاليم الأفغاني من ناحية ، وإغراء الحضارة المادية الأوروبية من ناحية أخرى ، تحت وطأة الاحتلال البريطاني في مصر والسودان والعراق ، والاحتلال الفرنسي في بلاد الشام – كان النغرب العربي يرزح تحت وطأة أقدام ثقال من احتلال فرنسي وإيطالي غاشم مُصر علي القضاءعلي الإسلام عن طريق قطع الصلات بين هذه الشعوب المسلمة وبين القرآن والتراث الإسلامي ، وبإنساء هذه الشعوب اللغة العربية وإحلال اللغتين الفرنسية في الجزائر وتونس ومراكش والإيطالية في ليبيا ... فقام مصلحون لمقاومة هذا التيار المخرب وكان علي رأسهم : 1 = في الجزائر : عبد الحميد بن باديس: كانت وسيلته إنشاء المدارس لتعليم الشعب اللغة العربية والقرآن – وقد لقي هو وأعضاء الجمعية التي يرأسها – في سبيل النهوض بهذا المشروع – عنتا وظلما ومطاردة من السلطة الفرنسية .. ولكنهم بثيابهم ومواصلة الجهود والتضحيات استطاعوا أن يحفظوا لهذا الشعب المغربي هويته وعروبته وشخصيته الإسلامية . وقد يجهل أكثر القراء اسم عبد الحميد بن باديس ولا يعرفون إلا أسماء أحمد بن بيلا ويومدين وإخوانهم .. وهؤلاء ممن لا يجحد فضلهم في تحرير الجزائر .. ولكن هؤلاء جميعا قد نشأوا في مدارس عبد الحميد بن باديس ، وأشربوا الروح الإسلامية فيها . ولولا تنشئتهم في هذه المدارس لما أحسوا بالانتماء إلي الإسلام والعروبة .. هذا الانتماء الذي كان المحرك الأول للثورة .. ولولا هذه التنشئة لفقدوا هم وجيلهم الشخصية المستقلة عن فرنسا ، وإن كان بن بيلا ويومدين قد حادا بعد ذلك عن الطريق الصحيح واتجها نحو دخيلة سموها الاشتراكية . 2 – في ليبيا – الدعوة السنوسية : قامت في ليبيا الدعوة السنوسية ، وهي في مظهرها طريقة صوفية تأخذ المنتسب إليها بأسلوب يجمع بين التربية الروحية والتربية العسكرية . وتقوم بإنشاء " زوايا " وهي مساجد صغيرة في الأماكن النائية وخارج المدن . وفي هذه الزوايا يتلقي المريدون عن شيوخهم البرامج المعدة لتربيتهم التربية التي أشرنا إليها . وقد انتشرت هذه الزوايا في أنحاءليبيا انتشارا أقض مضاجع المستعمرين الإيطاليين الذين كانوا يستظلون في احتلالهم هذه البلاد بظل وارف من الرعاية البريطانية المجاورة لهم في مصر ، فقام الاستعماران الإيطالي والبريطاني بشن حرب غادرة علي هؤلاء المجاهدين حتى قضوا عليهم ، بعد أن استباحوا الحرمات ، وارتكبوا أفظع الجرائم الوحشية .. وقد أبلي المجاهدون في خلال هذه الحرب غير المتكافئة أعظم البلاد . وسجل التاريخ لهم بطولات خارقة . وكان أشهر رجال الأسرة السنوسية التي أنشأت الدعوة وخرجت هؤلاء الأبطال السيد أحمد الشريف السنوسي الذي كان الاستعمار البريطاني يعتبره في ذلك الوقت ألد أعدائه .
• موقف حسن البنا من هؤلاء الدعاة :
ليست القيادات التي أتينا علي ذكرها في هذه العجالة هي كل القيادات التي حملت اللواء في العالم الإسلامي خلال هذا القرن . بل هناك قيادات أخري لها بمن ذكرنا من قيادات باعتبار أن الأماكن التي قامت فيها هذه القيادات هي منابر ترنو إليها أنظار العالم الإسلامي كله ، ولها صدي في أذن المسلمين في كل مكان . والآن . وعلي ضوء ما ألمحنا إليه من هذه الدعوات والأفكار والأساليب ، نستطيع أن نتبين أين هي دعوة حسن البنا بين هذه الدعوات ، وما وضع شخصيته بين هذه الشخصيات ... إنه عاصر في صغره . وقرأ عن البعض الآخر ، ودرس هذه وتلك دراسة عميقة واعية ، بعقلية الداعية المؤهل الموهوب ، فعرف مواطن القوة في كل منها ، وألم بمواطن الضعف .. وأخذ بعد ذلك في تحديد خطته ، مستلهما توجيه القرآن ، وخطوات النبيصلي الله عليه وسلم ، غير متجاهل الأوضاع العالمية وواقع الشعب الذي يعيش فيه .. فتجنبفي خطته التي رسمها مواطن الضعف في تلك الدعوات وواقع الشعب الذي يعيشفيه .. فتجنب في خطته التي رسمها في النقاط التالية : في تلك الدعوات وأخذ بنواحي القوة فيها ... وقد نستطيع تصوير هذه الخطة في النقاط التالية : الأولي – وجد أن اقتصار السيد جمال الدين – في توجيه دعوته – علي القادة وكبار القوم ، دون توجيهها إلي جماهير الشعب ، قد جعل نجاح دعوته أو فشلها متوقفا علي نزاج هؤلاء القادة والكبراء ، الذين يعيشون – عادة – في حمأة الفتنة : أمام تلويح المستعمر لهم بإغراء المناصب والمال وبعصا الإنذار والإرهاب . وقلما يستطيع الفرد منهم – في بلد مستعمر – أن يتحرر من هذا الشعور المسلط عليه بين أونة أخري .. وقد وضح ذلك في انقلاب الأمير محمد توفيق علي السيد جمال الدين بعد أن خلع الانجليزم والدة إسماعيل عن العرش ونصبوه بعده – كما وضح في انحراف سعد زغلول عن خطة أستاذه حين بهرته أبهة الزعامة فهادن العدو وميع قضية الاستقلال . وتوجيه الدعوة إلي القادة والكبراء ليس مما يعاب علي السيد جمال الدين ، فكل صاحب دعوة يتمني أن يختصر الطريق ، ويتصور أنه إذا أقنع علية القوم فقد أقنع من وراءهم . حتى رسول الله صلي الله عليه وسلم تمني ذلك وحاول حتى عاتبه القرآن في اهتمامه بالكبراء وتقديمهم علي الضعفاء من غمار الناس بقوله تعالي : ( • • • • • ) . فخالق الناس يعلم أن الاعتماد علي الكبراء – مع ما يتنازعهم من أهواء وآمال وفتن – لا يحقق ما يتمناه الدعاة إلي الخير من اختصار الطريق في نشر دعوتهم بل قد يؤدي إلي عكس ما يتمنون . لهذا ركز حسن البنا جهوده علي الاتصال بالجماهير ، فوجه الدعوة إليهم وخالطهم وتفاهم معهم وأقنعهم وامتزج بهم وكون منهم قاعدة عريضة لدعوته ... وإذا كانت سيطرة المستعمر وعملائه علي الكبراء وذوي المناصب سهلة المنال ، فإن هؤلاء المستعمرين قد يعجزون عن بسط سيطرتهم علي هذه القطاعات العريضة من الجماهير في مختلف البلاد ومختلف الطبقات . الثانية – لم يقتصر في اتصاله بالجماهير علي أسلوب الخطابة الذي – مهما كان بليغا – فإن أثره لا يعدو أن يكون سطحيا ومؤقتا ، بل قد أوليالجانب الأكبر من اهتمامه أسلوب الاتصال الشخصي بأولئك الذين تأثروا بخطابته ، فجلس معهم ، وتناقش وإياهم ، وتوسع في الحديث معهم ، وآخي بينهم ، وربطهم بمكان يجتمعون فيه مواعيد يلتقون فيها – فعالج بذلك النقص الذي فكك أوصال الحزب الوطني بعد وفاة مؤسسه مصطفي كامل .. ولا ننسي أن نذكرأن برنامج مصطفي كامل رحمه الله وإن كان هدفه إسلاميا فإنه لم يكن للتربية الروحية فيه الموضع الذي يتناسب مع اهميتها . الثالثة – لم ير حسن البنا في أسلوب التعليم والتثقيف الوسيلة الوحيدة للنهوض بأعباء الدعوة الإسلامية ، بل اعتمده ضمن مجموعة من الأساليب التي لا غني عنها ، فقد رأي في الاقتصار علي هذه الناحية دون المشاركة في جميع مسئوليات الأمة ومشاكلها في مختلف الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية جنوحا بالثقافة والعلم إلي الفلسفة والعقم ، وحرمانا للأمة من جهود أبنائها في مطالبها الملحة – فخالف في ذلك الشيخ محمد عبده بعد رجوعه من المنفي . ويجدر بنا هنا أن نلفت نظر القارئإلي أن حسن البنا حين اختلف مع محمد عبده في اقتصاره علي أسلوبه التعليمي لم يكن متناهضا مع نفسه حين أيد عبد الحميد بن باديس في أسلوبه التعليمي ، ذلك أن الظروف في الجزائر كانت مختلفة عن الظروف في مصر .. فلقد كان الاستعمار الفرنسي يحاول فرنسة الشعب الجزائري وجعله من الشعب الفرنسي وأن تكون الجزائر امتدادا أرضيا لفرنسا . ورأي هذا الاستعمار أن السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف لا يمكن إلا بالقضاء علي اللغة العربية وإحلال اللغة الفرنسية محلها باعتبار اللغة العربية هي لغة القرآن فإذا قضي عليها انقطعت الصلة بين الشعب الجزائري وبين القرآن وهنا تسهل الفرنسة . وأمام هذا الأسلوب وهذا الهدف كانت الوسيلة الوحيدة لعرقلة الأسلوب الفرنسي وإحباطه هي العمل علي نشر اللغة العربية ، وتعليمها للشعب بإنشاء المدارس لهذا الغرض . وهو ما فعله عبد الحميد بن باديس وواجه في سبيله الأهوال ، ولكنه نجح فيه واستطاع أن يحفظ بذلك للشعب الجزائري عروبته وإسلامه . ولهذا فإن حسن البنا كان يؤيد هذه الخطة وكثيرا ما بعث بالرسائل والبرقيات لشد أزر السيد عبد الحميد كما كان يكتب المقالات الضافية في مجلة الإخواتن لهذا الغرض ويعلن الاحتجاجات علي السلطات الفرنسية لمصادرتها لمدارس السيد عبد الحميد واضطهاد رجاله العاملين معه .. وفي ذلك الوقت لم يكن أحد من المصريين شعبا وحكاما يحس بما يجري في الجزائر ولا يعير ذلك أدني اهتمام . وغني عن الذكر أن نقول أن الأسلوب البريطاني في استعماره لمصر كان مغايرا للأسلوب الفرنسي في الجزائر إذ كان الأسلوب البريطاني يولي جل اهتمامه إلي تغيير النفس المصرية من داخلها بطرق مغرية هادئة تتسرب إليها دون أن تحس ودون أن تشعر هي ولا غيرها بقسر أو إرغام .. وهذا الأسلوب أخطر في آثاره من الأسلوب الفرنسي ومقاومته أصعب بكثير من مقاومة الأسلوب الفرنسي . الرابعة – تجنب حسن البنا الفصل بين السياسة والدين ، حتى لا تتحول السياسة إلي أشكال ومظاهر قائمة علي أهواء الزعماء وأغراض الحكام . بل جعل السياسة نابعة من الدين ، متفرعة عنه . فحاطها بذلك بسياج متين كان وقاية لها من الانحراف والتفريط والخداع ، فصارت السياسة بذلك سياسة ذات حدود وأخلاق ، لا تعطي الدنية في الدين ولا في الأهل ولا في الوطن – فعدل بذلك مسار السياسة – بعد أن انحرف بها سعد زغلول – فصارت مع العدو مواجهة وعداء بعد أن كانت تذللا واستجداء . الخامسة – سبق أن تحدثنا عن موقف حسن البنا من موضوع البدع وطريقته في تنقية الدين منها بالالتفاف حولها وتطويقها من باب خلفي ، دون الوقوف من أصحابها موقف التحدي والرمي بالشرك والنعت بالكفر الذي يخلق العناد والتعصب ، ويقطع الصلة ، ويقضي علي فرص التفاهم بينهما – وبذلك تجنب العيب الذي شاب طريقة بعض دعاة الوهابيين التي أوجدت دعوتهم عند كثير من الناس حجبهم هذا النفور عن أن يدرسوا هذه الدعوة ليعرفوا حقيقتها . السادسة – أخذ من الطريقة السنوسية أسلوبها في التربية الروحية الممزوج بروح الفتوة والقوة . أو بمعني آخر بأسلوب تربوي ، يطهر النفس ويزكيها ، تطهيرا يعدها لحمل أثقل التبعات ، ويؤهلها للتضحية بالنفسوالمال في سبيل الله السابعة – بقي أن نقول أن هناك طائفة من أرباب اللسان والقلم الذي ألهبوا المجتمعات بخطابتهم ودبجوا المقالات وألفوا الكتب وأنشدوا القصائد التي أذكت نار السخط علي المستعمرين فقامت ثورات وهبت انتفاضات في عدة أنحاءمن العالم الإسلامي ، وكان علي رأس هؤلاء محمود سامي البارودي والأمير شكيب أرسلان ومحمد إقبال ورفيق العظم وعبد الرحمن الكواكبي ومصطفي لطفي المنفلوطي وعبد الله النديم وعلي الغاياتي ومصطفي الرافعي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأبو القاسم الشابي . وهؤلاء وإن استطاعوا إشعال هذه الروح فترة من الزمن ، فإنهم كانوا مجرد عنصر مساعد لا قادة بالمعني المفهوم ، فكان هؤلاء عادة يعملون في ركاب كبار الدعاة باعتبارهم أحد العناصر الفعالة في نشر الأفكار وإثارة العواطف وإعداد النفوس والعقول لتلقي التوجيهات والأخذ بالبرامج التي تصدر عن القادة . وعناية حسن البنا بهذه الطائفة كانت عناية فائقة ، فهو نفسه كان خطيبا مفوها وكاتبا مبينا وأدبيا مفتنا . وقد طالع ما كتبه هؤلاء الرجال ودرس ما تركوه من آثار ثم جعله ضمن برنامج الدراسة لأعضاء كتائب الإخوان .. وقد نشأ في ظل دعوة الإخوان المسلمين جيل لا حصر له من الكتاب والخطباء والشعراء . ولا أعتقد أن دعوة من الدعوات أيا كان هدفها قد أثرت بمثل هذا العدد الذي بلغ الشأو في فنون الأدب بأنواعها ، ولم يكن ذلك كله إلا بوحي من هذه الدعوة التي ملكت علي المؤمنين بها مشاعرهم .. وقد أظلمهم إذا أنا حاولت أن أسره أسماءهم في هذه العجالة . وإذا كانت الدعوات الأخرى قد اقتصر وجود طائفة أرباب القلم واللسان فيها علي القاهرة ودمشق والإسكندرية وغيرها من العواصم . فإن هذه الطائفة في دعوة الإخوان المسلمين قد نبتت وأيعنت وأثمرت في كل مكان نفذت إليه أشعة هذه الدعوة حتى في أحشاء القرى والدساكر .. وما أحوج هذه الطائفة إلي من يجمع ثمرات قرائحها وينشرها كما نشرت ثمرات قرائح سابقيهم . وهكذا جاءت دعوة حسن البنا مزيجا من محاسن كل ما سبقها من دعوات متجنبة كل مواطن الضعف فيها . فكانت دعوته كما وصفها بنفسه في خطابه في المؤتمر الخامس عام 1938 . " دعوة سلفية ، وطريقة سنية ، وحقيقة صوفية ، وهيئة سياسية ، وجماعة رياضية ، ورابطة علمية ثقافية ، وشركة اقتصادية ، وفكرة اجتماعية " . موجهة إلي جماهير الشعب ، وقائمة علي أساليب من التفاهم والتآخي والإعداد والتكوين والتوجيه .
• أسلوب عف كريم :
وقد يلتحق بهذا الفصل أن نشير إلي أن أسلوب حسن البنا في التعامل مع سلف هذه الأمة الإسلامية من القادلاة فنقول : أنه – رحمه الله – لم يكن ممن يحرصون علي تتبع عورات الرجال ، ولا ممن يسعون إلي عد مساوئ الناس ، وكانت نظرته إلي هؤلاء السلف من الدعاة النظرة العامة المجملة فيأخذ الرجل منهم بمجمل حياته لا بتفاصيلها ، أعني بذلك أنه كان حين يعلم بموطن ضعف في أحدهم لا يتخذ ذلك ذريعة إلي التشهير به والتنديد بهذا الوطن فيه ، وإنما هو يتجاوز ذلك مبرزا مواطن القوة ونواحي الخير فيه .. أخذا بما جاء في حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم من قوله : " من ستر مسلما ستره الله " وقوله : " من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته " وقول الشاعر الحكيم : ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها كفي المرء نبلا أن تعد معايبه ومما لا حاجة بنا إلي التدليل عليه ، أن إنسانا أيا كان ذلك الإنسان لا تخلو حياته من مواطن الضعف . ولولا أن الأنبياء قد عصمهم الله لما خلوا من ذلك .. فحسب الذين يبحثون في تاريخ الأمم – والأمر كذلك – أن يأخذوا رجالات هذا التاريخ بمجملهم لا بتفاصيل حياتهم ودفائن خصوصياتهم ، حتى لا يخرجوا من بحوثهم صفر اليدين . وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم : " لو تكاشفتم ما تدافنتم " . إن النظرة المسددة إلي المساوئ ، المتتبعة المستقصية في حياة الرجال . تدمر التاريخ . وتحطم بنيان الأمم ..وما أيسر الهدم ولكن ما أخطر عواقبه .. وإن القرآن الكريم ليفترض وجود مواطن الضعف في كل إنسان حتى في المؤمنين ، فحين يشيد بالأخوة بين المؤمنين فيقول : ( ) والإصلاح لا يطلب إلا لتلاقي خلل موجود . وقد يكون تتبع عورات رجال التاريخ – في بعض الأحيان – وإطالة البحث عن مثالبهم ، والتشهير بهم ، نوعا من أنواع التمرد النفسي ينتاب الأجيال الصالحة التي تعاني من افتقاد قيادة صالحة ، ولا يجدون بين أيديهم إلا قيادات تافهة مغرضة متقلبة مزودوجة الشخصية .. فهذا الافتقاد وهذه المعاناة تبعث في نفوس هؤلاء الصالحين من هذه الأجيال سوء الظن بالقيادات ، تؤجج في صدورهم نار التمرد والغضب ، وتطبعهم بطابع التبرم والتشاؤم . ونحب أن نلفت النظر إلي أن هذه النغمة التي يضرب علي أوتارها هؤلاء المتشككون هي نقمة يطرب لها الكائدون للتاريخ الإسلامي ؛ لأنهم هم مخترعوها ومؤلفوها وهم مروجوها وهم صانعوا أوتارها – ويسعدهم كل السعادة أن يروا من يضرب علي أوتارها مأجورا أو متطوعا فإذا كان الضارب متطوعا طاروحا فرحا ؛ لأن هذا معناه أن فكرتهم المسممة التي سهروا علي بثها قد تسللت حتى وصلت إلي عقول صالحي المسلمين وأفئدتهم فتبنوها وهم لا يشعرون – وهل كان لهؤلاء الكائدين من هدف إلا هذا الهدف ، ولا من أمل إلا هذا الأمل ؟ ! . علي أننا حين ننعي علي الذين يذيعون بمثالب القيادات لا نقصد بذلك تلك المثالب التي هي نفسها قد أعلنت نفسها علي حد قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " كل أمتي معافي إلا المجاهرين " وإنما نقصد المثالب التي يبذل الباحث وراء الوصول إليها جهدا ، والتي يتصيد إليها جهدا ، والتي يتصيد الشبه من هنا وهناك ليجمع منها دليلا عليها ، والتي يحاول تأويل المواقف والألفاظ والعبارات حتى تشير إليها .
مزيد بيان وتحذير من تدبير خطير تجريح قادة الدعوة الإسلامية أسلوب خبيث لهدم هذه الدعوة في نفوس المسلمين
ولما كان لهذا الموضوع شأن خطير فيما نحن بصدده من بحث فقد يقتضي المقام أن نزيده توضيحا مستطردين منقول :
• حبائل المستشرقين :
هناك قوم قد أعدوا أنفسهم ، وأعدتهم أجهزة خاصة في حكوماتهم . للبحث عن أشد الأساليب فعالية في هدم الإسلام في نفوس أهله ، وتقويض أسسه باعتباره دعوة قائمة .. علي أن يتوخوا في هذه الأساليب المناخ ذا السمة العلمية – وهؤلاء القوم ، والذين سموا بالمستشرقين ، لأن إعدادهم لهذه المهمة التخريبية اقتضي تعليمهم اللغة العربية ، وإيفادهم لقضاء فترة من حياتهم وسط هذه الشعوب لدراسة معتقداتها وعاداتها ومواطن القوة والضعف فيها . هؤلاء المستشرقين .. انتهزوا فرصة إنشاء الجامعة المصرية ، وتطلع الأجيال الأولي من الدارسين فيها إلي الاستزادة من العلم لاسيما في التاريخ الإسلامي .. ولما كانت أمهات الكتب التي بين يدي هؤلاء الدارسين من تراث الأمة الإسلامية في التاريخ لا تغريبالقراءة ؛ لأنها ليست سهلة المأخذ ولا قريبة التناول .. فقد وضع هؤلاء المستشرقون مؤلفات تناولت هذا التاريخ بأسلوب عصري أكثروا فيه من التعليق والتحليل .. وقد أذابوا في هذا التعليق والتحليل كل ما في نفوسهم من حقد وضغينة علي نبي الإسلام وصحابته وعلي البطولات الإسلامية التي هي مفخرة المسلمين . ولما كانت أحداث التاريخ مما لا يسهل تناوله بالتغيير والتبديل ، فقد لووا منها ما تمكنوا من ليه ، وحرفوا منها ما استطاعوا تحريفه .. وجدوا مجالهم فيه في التعليق والتحليل ... ولكن هذا كله صاغوه في مجلدات ناصعة أنيقة ، ، وفي أسلوب طلي لبق رشيق . تغطيفيه مهارة الكاتب ومقدرته الأدبية علي ما دسه في سطوره من زيف وسموم . وأقبل المتطلعون لدراسة التاريخ الإسلامي علي هذه المؤلفات ، سواء منهم من تلقوها عن مؤلفيها أنفسهم في بلادهم حين أوفدوا في بعثات علمية إليها ، ومن درسوها هنا علي يد من تلقوها عن مؤلفيها ، ولقد أغراهم بها أسلوبها التحليلي الذي يجمع بين الطرافة والجدة والتشويق . ونجحت خطة الاستشراق بهذا الأسلوب ردحا من الزمن ، حين صارت مؤلفاتهم مرجعا يتبارى دارسو التاريخ الإسلامي في الاقتباس منه ، وفي حمل أفكارهم والتباهي بها وإذاعتها والدعوة إليها .. وتسرب هذا الزيف إلي الكثيرين من المثقفين عن طريق الصحف والمجلات والندوات والمحاضرات .. وقد لا تنكر أن قليلا من هؤلاء الحملة كانوا يحملون هذه الأفكار عن غفلة وحسن نية ، إذ لم تكن لهم خبرة سابقة بالتاريخ الإسلامي ، واعتقدوا أن الأمانة العلمية أقدس من أن يجرؤ عالم علي تخطي جيدها واستغلالها في غرض دنئ " . ثم نبت البعث الإسلامي من جديد بعد غيبة طال أمدها ، وكان متمثلا هذه المرة في دعوة الإخوان المسلمين – ولقيت هذه الدعوة في إبانها عنتا شديدا علي يد هذا الرعيل الحامل لهذا الزيف .. وكانوا هم وتلامذتهم عقبة كأداء في سبيل هذه الدعوة .. ولكن ثبات هؤلاء الدعاة . وأصالة الأمة الإسلامية ، سرعان ما كشف القناع عن وجه هذا الزيف وأبرزه علي الملأ عاريا كالحا بشعا علي حقيقته . وبدأ المستشرقون يشعرون بحرج موقفهم ، وبأنهم لم يعودوا صالحين للظهور بعد ذلك أمام العالم الإسلامي بالمظهر الذي انتحلوه لأنفسهم أمامه من قبل باعتبارهم علماء يتوخون الحقيقة ليس لهم من رائد سواها . فماذا فعلوا ؟ ..
• بدائل المستشرقين :
لقد فعلوا ما أثبت أنهم كانوا جديرين لما انتدبوا له من تخريب إنهم اعترفوا بالأمر الواقع ، وبطغيان الموجه الإسلامية علي باطلهم ، وانتحوا جانبا بعيدا عن الأنظار ، وكفوا عن أسلوبهم الذي انكشف ، وشرعوا يبحثون عن أسلوب آخر يتناسب والبيئة الجديدة والجو الإسلامي الغامر الجديد .. ولكنه يؤدي نفس الدور ويحقق إصابة الهدف التخريبي العتيد الذي رصدوا له جهودهم ووقفوا عليه حياتهم . أخذوا يرقبون في حذر ومن وراء ستار الجيل الذي منه دعاة الدعوة الإسلامية النابتة – وكان أكثرهم في ذلك الوقت طلابا بالجامعة – وأخذوا يتتبعون أفرادا من هذا الجيل رأوا أن فيهم من الصفات والأخلاق ما يؤهلهم لأن يحملوا عنهم هذا العبء .. علي أن يكونوا هم من ورائهم يمدونهم بالأفكار ، ويتعهدونهم بالرعاية من وراء ستار " فيهيئون لهم الطريق حتى يؤدونها هم من تثقيفية مرموقة تتيح لهم أن يصدروا تحت أسمائهم مؤلفات تؤدي المهمة التي كانوا يؤدونها هم من قبل .. ولكن هذه المؤلفات الجديدة ستكون أوقع في النفوس ، وأقرب إلي أن تسيغها العقول ، وأبعد ما تكون عن الشبهات ؛ لأنها صادرة من أساتذة مسلمين يشغلون أعلي المناصب التوجيهية . ولقد استطاع المستشرقون أن يعثروا علي طلبتهم دون مشقة ؛ إذ كان مجال الاختيار منحصرا في مكان محدود ، من السهل مراقبته .. ذلك هو الجامعة المصرية التي كانت وحيدة في ذلك الوقت . ومن حق القارئ ألا اكتمه أنني أنا نفسي – بعد أن دار الزمان دورته ، وشبت أجيال جديدة ، سمعت من أصلح صلحاتها آراء ذهلت لسماعها ، وكادت لخطورتها تعصر قلبي عصرا .. وعجبت كيف يحمل هؤلاء الصالحون هذه الآراء التخريبية التي تقوض الدعوة الإسلامية من أساسها .. فتجريح قادة الدعوة الإسلامية واحدا واحد ورميهم بالانتساب إلي شيء سري مجهول يسهل نسبة أي إنسان إليه .. وافتقاد المسلمين بهذه الطريقة – الثقة في قادتهم .. يهدم الدعوة الإسلامية ، ويحيلها إلي مجرد فكرة لا فعالية لها ... وهذا تحقيق للحلم الذي طالما بات أعداء الإسلام يحلمون به ويخططون لتحقيقه ، أن يحولوا الإسلام إلي فكرة مجردة ، يستنفد صالحوا المسلمين جهودهم وأعمارهم في التوسع في دراستها ، والهيمان بها فيآفاق الفلسفة والخيال وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ... ولقد جاءعلي أسلافنا من المسلمين حين من الدهر فعلوا بإسلامهم مثل ذلك – ولكن المؤرخين قد التمسوا لهم بعض العذر فلقد فعلوا ذلك حين بلغت دولتهم من الازدهار والتمكن في الأرض ما لم تبلغه دولة من قبل .. فإذا ركنوا إلي الدعة ونسوا أن الإسلام دعوة قائمة وهداية نابضة وشعلة مضيئة في حاجة إلي من يحملها إلي المحرومين من النور في أنحاء الدنيا إلي يوم القيامة – إذا نسوا ذلك في تلك الظروف ونظروا إلي الإسلام نظرة علمية بحتة فتوفروا علي دراسته وقضوا أعمارهم في فلسفة نظرياته .. وانتجوا في هذا الميدان انتاجا كان بعضه كافيا لسد نهر دجلة ... ولكن هذا الانتاج – مع التقاعس عن حمل لواء الدعوة الإسلامية – لم يغن عنهم شيئا في أول صدام مع الباطل يوم أغارت عليهم جيوش التتار ... فكيف يكون حال المسلمين إذا هم فقدوا ثقتهم في قيادات الدعوة الإسلامية فأسلمهم ذلك إلي الدوران حول أنفسهم وانتهوا من ذلك إلي العكوف علي الدراسة والاطلاع والتزود من ذلك لمجرد النقد والتشكيك والتجريح .. هذا في الوقت الذي لازالت الأمة الإسلامية فيه تحاول أن تنفض عنها غبار نوم ثقيل طويل . ؟ ! وأصدق القارئ القول فأقول ، أنني لم أفق من ذهولي من سماع هذه الآراء المخربة الهدامة إلا حين علمت من هؤلاء الصالحين المصادر التي استقوا منها هذه الآراء .. فقد ذكرتني هذه المصادر بزملاء كانوا معاصرين لنا بالجامعة .. وكانوا بطبيعة نشأتهم وبما عرف عنهم من شذوذ في الخلق والسلوك ، وكانوا أعداء حقراء للدعوة الإسلامية وللإسلام المجرد وللأخلاق والفضائل في ذاتها .. وكانوا بذلك أهلا لأن تهيئهم الأيدي الخفية التي أشرنا إليها لحمل أعباء العملية التخريبية بالنيابة عنها . ولما كانت هذه الأجيال الجديدة لا تعرف شيئا عن تاريخ هؤلاء إلا ما يرونه بين أيديهم من مناصب لامعة ، ومؤلفات فخمة ضافية وأساليب معسولة رتبت بطريقة تستهوي الصالحين من هذه الأجيال .. لهذا راجت بينهم هذه المؤلفات وأحسنوا الظن بها ووقعوا ضحايا سمومها . فالصائد الماهر الحريف هو الذي يعد لكل نوع من الأسماك طعما خاصت به عرف الصائدون بالتجربة أنه يشتهيه ويجذبه إلي آلة الصيد – فيقبل علي الطعم ويلتهمه عن آخره .. حتى إذا فرغ من التهامه أسلمه هذا الطعم الشهي إلي آلة الصيد نفسها ليكون تحت رحمة الصياد يفعل به ما يشاء . وارتداء مسوح الرهبان لا يغير من نفوس المرتدين بهذه المسوح قليلا ولا كثيرا ، ولكنه قد يفتن الكثيرين ممن يجهلون حقيقة هؤلاء المرتدين ... وهؤلاء الذين فتنتهم المسوح لا يزالون معذورين حتى يصادفوا خبيرا بحقيقة المرتدين ، يفتح عيونهم علي ما تحت هذه المسموح من ذئاب كاسرة صارية . أما نحن وقد جربنا بأنفسنا .. رأينا كيف يجتزئ أناس – وهم متسلمون أعلي مراكز التوجيه في بلادنا – علي الحق وعلي التاريخ ، ويستحلون الكذب والاختلاق ، وينسجون من خيالهم وقائع وأحداثا يسبونها – زورا وبهاتانا ووقاحة – إلي حسن البنا – وتنشر الصحف هذه الأكاذيب وتقدمها للشعب علي أنها حقائق .. ومع ذلك فلا يزال هذا الشعب ينظر إلي هؤلاء الكاذبين نظرة الإجلال والإكبار .. وما عباس محمود العقاد في هذا المجال عنا ببعيد . بعد أن جربنا ذلك بأنفسنا لم نعد فريسة سهلة لأولئك الكذابين الجدد الملتمسين للبرءاء العيب .. مهما جاءونا اليوم يرجون الثناء العاطر لحسن البنا ولدعوته . مقدمة يستدرجوننا بها لتقبل ما هدفوا إليه ووضعوا مؤلفاتهم من أجله مما يقوض ثقتنا في كل من سوي حسن البنا من قادة الدعوة الإسلامية . وإذا سمح بعضنا اليوم لأنفسهم أن يتقبلوا هذه الفرى علي هؤلاء القادة السابقين فلا يلومن هؤلاء المتقبلون أجيالا تأتي من بعدهم تتلقي ما اختلق علي حسن البنا من افتراءات بالتصديق والقبول .
• مرونة وسعة أفق وسعت الجميع :
ونرجع إلي ما كنا بصدده من الحديث عن حسن البنا فنقول : وكما أن هذا كان أسلوب حسن البنا – رحمه الله – مع ما سبقه من القادة ، فقد كان هذا أيضا أسلوبه مع سائر الناس .. فلقد كان له من الفطنة ونفاذ البصيرة مالا تخفي عليه معهما حقائق الأشخاص ودخائل نفوسهم ، كالذي قال فيه الشعراء . الألمعي الذي يظن بك الظن كـأن قد رأي وقد سـمعا ولكنه مع ذلك كان فقيراً علي ألا يجعل لما كشفته فطنته أثرا يقعد به عن الاقتراب من هؤلاء الأشخاص والاتصال بهم . وحين يتصل بهم ويتحدث إليهم لا يجدون في حديثه ما يشعرون منه أنه مطلع علي عورات منهم ، ولا أنه علي علم بما هم متورطون فيه من مساوئ .. إنه كان يجالس هذا النوع من الناس ، ويقبل عليهم ، ويفسح لهم في مجلسه ، ويخصهم بمجاملات ترضي عواطفهم لا ويتحدث إليهم ويتلطف معهم في الحديث ، ولا يهاجم مواطن الضعف فيهم ، ولا يمس شعورهم من قريب ولا من بعيد .. ولكنه يريهم من تصرفاته وتصرفات إخوانه من أدب الإسلام وسعة صدره ورحابة أفقه ، ما يشوقهم إلي هذا الإسلام الرقيق الحاشية الجديد الذي لا عهد لهم بهذه الصورة المشرقة فيه من قبل .. فيخلو هؤلاء إلي أنفسهم حين يخلون فيستعرضون ما رأوا وما سمعوا ، فيسلمهم هذا الاستعراض إلي لون من النقد الذاتي ، الذي ينتهي بهم عادة – بعد تكرر الزيارات وتعدد الجلسات .. إلي أن يجد الزاحد منهم نفسه وقد حملته قدماه – دون أن يدري – إلي حيث يقدم نفسه إلي حسن البنا خلقا آخر قد تنزه عن كثير مما كان متلطخا به من مساوئ . لقد أفاد حسن البنا لدعوته بهذا الأسلوب أعظم إفادة . فقد أصلح الكثيرين من المنحرفين دون أن يهاجم معتقداتهم أو ينتقد مسالكهم فيقطع خط الرجعة عليهم .. بل تركهم لأنفسهم فراجعوا أنفسهم بأنفسهم وأتوا تائبين .. وبعد أن كانوا عقبة في سبيل الدعوة صاروا لبنات في بنائها ، وصدق الله العظيم : ( ) . كان حسن البنا يرضي من العاملين في ميدان الدعوة من يعطي الدعوة كل نفسه ، ومن يعطيها نصف نفسه ، ومن يعطيها ربع نفسه ، ومن لا يعطيها شيئًا إلا مجرد الابتسامة والإعجاب ... ولا يشعر إنسانا من هؤلاء بشيء من التبرم به أو الضيق بوجوده ، بل يفسح لهم جميعا مجالا من نفسه ومجالا من الدعوة ، بحيث يشعرون جميعا بالرضا والسرور ، مما ينقل الواحد منهم دون أن يشعر من درجة من درجات الإيمان إلي ما هو أعلي منها . وشعوره بأنه داعية لفكرة هو مؤمن بها أعمق الإيمان ، ومقتنع بسلامتها وجدارتها وتفوقها ، جعله مستعدا دائما بل متشوقا لاستقبال كل ذي فكرة مهما اختلفت عن فكرته وللسعي إليهم ، ولا يجد في نفسه حاجبا نفسيا يحجبه عن الاتصال بكل إسنان – مهما كان موقف هذا الإنسان – ذلك أنه يعتقد أن في كل إنسان جانبا من الخير يحتاج إلي من يكشف عنه ويحركه ويبعث طاقته الكامنة ، وقد يأثم الداعية إذا هو تخلف عن الكشف عن هذا الخير وإطلاق هذه الطاقة ... ومن هنا كان اتصاله بمن اشتهر عنهم أنهم أعداء للفكرة الإسلامية .. وكان يرضي من هؤلاء بعد لقائه معهم مجرد عدولهم عن خططهم المعادية حتى ولو لم يلتزموا بعد ذلك بالخط الإسلامي الواضح .. فهو يحمد لهم هذا الموقف ، وينسي لهم سابق تاريخهم ويحب أن يكون هذا موقف الإخوان منهم . ويعد ذلك نوعا من النصر للدعوة يجب أن يحرص عليه . هذا هو أسلوبه فيما يتصل بالأشخاص ، أما أسلوبه فيما كانت تتخذه الحكومات المتعاقبة مما كانت تسميه إصلاحات ، فإنه كان يعتبر هذه الإصلاحات علاجات جزئية ويتقبلها علي أنها إسعاف مؤقت لمجرد الاحتفاظ برمق الحياة .. أما العلاج عنده فهو معرفة أصل النداء الذي تفرعت عنه كل الأمراض التياستشرت في جسم الأمة حتى شلت جميع الأعضاء ، ثم إعداد العدة الكافية لاستئصال أسبابه ، ثم يوضع المريض أمام العلاج الشاتمل هو المنهج الإسلامي الكامل ، وإعداد العدة هو نشر لواء الفكرة الإسلامية وتثبيتها في نفوس الشعب حتى تنبثق عن هذه النفوس حكومة تضع المنهج الإسلامي في جميع مرافق الحياة موضع التنفيذ .
• أسلوبه في المناقشة :
وكان رحمه الله ذا مقدرة فائقة في مناقشاته ألا يدع لمناقشه فرصه ينقل فيها المناقشة من الموضوع الأصيل في نظره وهو صلب الدعوة الإسلامية إلي نقط خلافية فرعية تافهة .. وتذكر في هذا المقام لقاءه مع الصحفي البارع المبتكر مصطفيأمين في أواسط الأربعينيات بالمركز العام بالحلمية الجديدة ، حين أراد مصطفي أميبن بمهارته الصحفية أن يوجه المناقشة ويحدد موضوعها بأن استهل اللقاء بتقديمه سيجارة إلي حسن البنا وهو يعلم أنه سيرفضها ، وكان قد رتب في خاطره نقاشا يديره معه علي أساس التحليل والتحريم يبني علي نتائجه رأيا عن مدي تزمت الإخوان المسلمين . لكن الذي حدث هو أن حسن البنا بفطنته وألمعيته تنبه إلي ما رتبه زائره في خاطره ففاجأه برد لم يكن يتوقعه ولم يخطر له علي بال إذ رفض السيجارة معتذرا شاكراً قائلا : أنني لا أدخن عادة لا عبادة – فسلبت هذه المفاجأة مصطفي أمين ميزة المبادأة ونقلتها إلي يد حسن البنا الذي أدار المناقشة علي الوجه الذي يريده . وقد عبر مصطفي أمين في ذلك اليوم عن فهمه لدعوة الإخوان المسلمين بما نشره في " أخبار اليوم " فقال : " إن حسن البنا قد استجاب له مئات الألوف في أنحاء القطر وقد استطاع أن يؤاخي بينهم بحيث لو عطس عضو منهم في الإسكندرية قال له عضو في أسوان " يرحمك الله " .
• مقدرته الخارقة علي الإقناع :
أما قدرته الخارقة علي الإقناع فحسب القارئ أن أقص عليه بصددها ما سمعته قريبا في جلسة عارضة ضمت مجموعة من ذوي الثقافات العالية . وكان أحد حاضريها اللواء شرطة بالمعاش سيد عبد النبي الذي قص علينا القصة التالية : قال : كان الأستاذ محمد حياتي ياورا للنقراشي باشا حتى أواخر عام 1947 ثم استبدل به الأستاذ إسماعيل المليجي شقيق إبراهيم عبد الهادي باشا . وظل الأستاذ حياتي يعمل في وزارة الداخلية حتى جاءت وزارة الوفد سنة 1951 فقررت التخلص من موظفي عهد السعديين الذين يشغلون وظائف حساسة ، فقررت نقل الأستاذ محمد حياتي نائبا لمأمور إيتاى البارود . يقول اللواء سيد عبد النبي : وكنت في ذلك الوقت معاونا لمركز إيتاى البارود – وكنا بحكم الزمالة في العمل نتحدث معا في مختلف الشئون لاسيما فيما يتصل بالأحداث التي وقعت بعد حل الإخوان المسلمين حيث كان الأستاذ حياتي أقرب الناس من هذه الأحداث – وكان مما حدثنا به الأستاذ حياتي في هذا الصدد قوله : قبل صدور أمر حل الإخوان سنة 1948 – لما شعر الأستاذ البنا بأمر الحل يعد فعلا ، حاول مقابلة النقراشي باشا ، فقابل عبد الرحمن عمار بك وكيل الداخلية وطلب منه مقابلة النقراشي باشا فاعتذر له عمار بك بمشغولية النقراشي باشا ، فكلفه بتحديد ميعاد فتظاهر عمار بك بالاستجابة ولكنه بعد خروج الأستاذ البنا فهمنا منه أنه لن يتيح للأستاذ البنا هذه المقابلة . يقول الأستاذ حياتي : وكنت حاضرا وسمعت ما تم بين الاثنين وما كان من عمار بك .. فسألته لم كان منه هذا التصرف ؟ فقال : إحنا لو تركنا الأستاذ البنا لمقابلة النقراشي باشا فلن يصدر أمر الحل ؛ لأن هذا الرجل قادر علي إقناع النقراشي باشا ، وبذلك تحدث أزمة بين الحكومة والسراي . وتعقيبا علي هذه القصة أقول : إن حسن البنا كان من اتساع الأفق بحيث لا يعدم أن يجد بديلا مهما بدا لجميع الناس أن الأمور قد ضاقت واستحكمت حلقاتها حتى صار الطريق مسدودا لا منفذ فيه – وكان هذا هو السبب في أن كثيرين من أعدائه كانوا يتحاشون لقاءه ؛ لأنهم كانوا واثقين من أنه سوف يلزمهم الحجة ويكسبهم إلي جانبه وهم لا يريدون ذلك حسدا من عند أنفسهم .
• حسن البنا في صلواته :
كان حسن البنا رحمه الله داعية يلتزم أسلوب الداعية في كل تصرفاته مع نفسه ومع الناس حتى في صلاته – فلقد كنت – كما قدمت من قبل في أوائل أيام اتصالي بالإخوان المسلمين حريصا علي مراقبة كل ما يدور في مركزهم العام لاسيما ما يصدر من مرشدهم من حديث وأعمال وتصرفات .. وقد لفت نظري أن صلاة المرشد – وكان دائما هو الإمام – لا تكاد تختلف عن صلاة كثير من الناس ، فهي وإن كانت صلاة خاشعة مطمئنة ؛ لكن رائيها لا يمكن أن يصفها بأنها صلاة مطولة كتلك التي تمارس في مساجد بعض الجمعيات .. وكان اعتقادي أن هذا الرجل ذو اللحية السوداء لابد أن يكون ملتزما في صلاته ما يلتزمه أصحاب اللحى من المنتسبين إليه هذه الجمعيات . ولقد تقدمت إليه وسألته في ذلك سؤالا مباشرا فأجابني قائلا : إنني حريص علي ألا أطيل في الصلاة حتى لا أدع الفرصة لمن خلقي أن تشرد أفكارهم . ولقد ناقشت نظرته هذه مع نفسي فوجدت أنه فعلا مصيب كل الإصابة ، وخبير بطبيعة النفوس وبطبيعة المجتمع الذي يتعامل معه ، وأنه طبيب يعطي مريضه الدواء بالقدر الذي لم تجاوزه لأصر به . فالمأمومون – وإلمامهم عادة بالقرآن قليل – وإذا قرأ الواحد منهم سورة من قصار السور التييحفظها ثم انتظر ساكتا حتى يفرغ أمامه من قراءة الكثير الذي يحفظه من القرآن . ماذا يكون منه في الوقفة الطويلة التيهي بالنسبة له فراغ إلا أن يفلت منه الزمام فيشرد فكره في مختلف الشئون ؟ أما في الصلوات الجهرية فكان له فيها رحمه الله أسلوب آخر .. كان يطيل فيها من قراءة القرآن .. ولكن هذه الإطالة لم تكن مجرد إطالة ولا القراءة مجرد قراءة ، وإنما كانت قراءة هادفة ، كانت قراءة من مواضع مختارة .. يتناول في كل صلاة منها معالجة موضوع معين من المواضيع الحساسة التي تمس النفوس وتعالج مشاكل المجتمع . ففي صلاة يستعرض علي المأمومين أصناف الناس ، وفي صلاة أخري يستعرض طبائع النفوس ، وفي ثالثة يعرض صورة لغرور السلطة وعواقبه ، وفي رابعة يستعرض مواقف الحق الأعزل من الباطل المسلح ، وفي خامسة يستعرض في دلائل قدرة الله من مخلوقاته ، وهكذا من المواضيع التي يخرج المأمومون من كل منها بتوجيهات محددة وتعاليم معينة . وغير خاف علي القارئ المجرب أن سماع المؤمن القرآن وهو واقف في الصلاة بين يدي الله ذو أثر في النفس أشد عمقا وأعظم وقعا من سماعه القرآن في غير هذا الواقع .. وقد يفهم من القرآن في هذا الموقف ما لا يفهمه منه في غيره من المواقف .. لاسيما إذا كان القارئ أستاذاً مريباً ويعرف كيف يكون الوصل .. ولا بمر بأية وعيد وعذاب إلا استعاذ فيسره بالله ، ولا يمر بآية من البشريات إلا طلب في سره من الله المزيد – وهكذا كانت الصلاة إحدى وسائل حسن البنا في تثبيت أفكار دعوته في النفوس وفي تربية من وراءه وتوجيههم . وعلي العموم ، فقد كنا نعتبر صلاة حسن البنا الجهرية بنا تكملة لدروس التكوين التي كنا نتلقاها علي يديه والتي أشرنا إليها في الجزء الأول من هذا الكتاب . وينبغي هنا أن أكاشف القارئ بشعور داخلي خاص انتباني وأنا أكتب مسودة هذه السطور التي يقرأها الآن ، فقد كان خاطري – كما هي طبيعة الكتابة عن عادات الزعماء وأساليبهم في الحياة – أن يكتب الكاتب عن أساليبهم مع المجتمع ، ثم يكتب عن أساليبهم في حياتهم الخاصة ... واندفاعا بهذا الشعور وصفت صلاته التي كان يؤديها أمامنا .. ثم تهيأت للكتابة عن صلاته الخاصة التي كان يؤذيها وحده بعيدا عن أعين الناس ، وفي هدأة الليل ، وبين جدران منزله .. ففوجئت بأنه – رحمه الله – لم تكن له حياة خاصة أمام تكاليف الدعوة التي لم تدع له فرصة من ليل أو من نهار دون أن نشغلها ، فإذا كان في القاهرة فهو في المركز العام ، في لقاءات واجتماعات ودروس ومحاضرات وندوات وجلسات إدارية وتربوية .. حتى إذا انتصف الليل ، فإذا كانت هناك كتيبة في المركز العام أو في إحدى شعب القاهرة أكمل معها بقية الليل ، وإذا لم تكن وقلما لا تكون – كان آخر من يغادر المركز العام إلي بيته لينام ساعتين أو ثلاثا ثم يقوم لصلاة الفجر ليبدأ الإعداد ليومه الجديد ليكون أول قادم في الصباح الباكر إلي المركز العام الذي كثيرا ما كان يبيت فيه – وإذا كان خارج القاهرة فهو مع الإخوان لا يفارقهم ولا يفارقونه لحظة من ليل أو نهار حتى يغادرهم إلي بلد آخر ... فأني لمثل هذا أن تكون له حياة خاصة ؟! . لقد أتيحت هذه الحياة الخاصة لقوم من أئمة هذا الدين فسعدوا بساعات طوال في بطون الليالي تفرقوا فيها للعبادة ولمناجاة ربهم فرووا – بهذه المناجاة ظمأ نفوسهم ، كالذي أثر عن الإمام أبي حنيفة أنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء .. وكالذي أثر عن الإمام علي كرم الله وجهه حين كان يقف في سكون الليل في محرابه يناجي ربه ويقول للدنيا . يا دنياي غري غيري .. إلي تعرضت .. أم إلي تشوقت .. لقد طلقتك ثلاثة لا رجعة فيها ... ولكن لله في خلقه شئون .. لقد شاءت إرادة الله أن ترشح حسن البنا لدور يحرم فيه حتى لذة الظفر بمثل هذه الليالي ( ) ورحم الله الرجل الصالح الذي قال : إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب ، من الشهوة الخفية .. وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد ، انحطاط عن الهمة العلية . وخلاصة القول ، أنني نظرت فإذا الرجل لم تكن له حياة خاصة حتى أصف عبادته فيها كما وصفا عبادته وسط المجتمع .. علي أنني لا أذكر أنه كان له فرص أرضي فيها بعض ما كانت تتوق إليه نفسه من استمتاع بإطالة في الصلاة إلا ما كان يؤديه في شهر رمضان وفي المركز العام عادة من صلاة القيام التي كان يقرأ فيها كل يوم بجزء من القرآن بحيث يتم القرآن بتمام رمضان . خاتـمة البـاب : موقف من اللغات ذو دلالة : هناك ناحية في حياة حسن البنا ينبغي أن توضع بين يدي القراء موضع البحث والتأمل ، تلك هي نظرته إلي اللغات وموقفه منها ، فهؤلاء القادة الذين أتينا علي ذكرهم في هذه العجالة منذ قليل ، والذين كانوا حملة الشعلة في العالم الإسلامي خلال قرنهم ، كانوا جميعا ملمين بمختلف اللغات . فالسيد جمال الدين الأفغاني كان يتقن التحدث بجميع لغات الدنيا الحية في أيامه تقريبا ، والشيخ محمد عبده وسعد زغلول وهما أزهريان درسا اللغة الفرنسية دراسة خاصة حتى أجدادها ، ومصطفي كامل كانت دراسته الحقوقية دراسة فرنسية ، والدعاة الذين قاموا بالمغرب كانوا بحكم الاستعمار علي معرفة بلغة المستعمر – ومن المألوف والمسلم به أن علي كل من يهيئ نفسه للقيادة في الشرق العربي أن يتزود أول ما يتزود بدراسة لغة أجنبية أو أكثر ، باعتبار ذلك مؤهلا لابد منه بل سلاحا يتسلح به في نشر أفكاره .. ولكن حسن البنا لم يكن ملما بلغة من اللغات إلا اللغة العربية .. وليس هذا هو موضع الاستغراب .. ولكن موضع الاستغراب أن حسن البنا كان أقدر الناس علي تعلم اللغات ، فلقد كانت مواهبه النادرة تسعفه أن يتعلم أصعب اللغات وأن يجيدها ويتحدث بها كما يتحدث أهلها في أشهر معدودات .. غير أنه مع ذلك لم يتعلم أية لغة من اللغات . فهل كان هذا مقصودا أم جاءعفوا ؟ لقد كان حسن البنا يحث أتباعه علي تعلم اللغات وإجادتها والتضلع منها ، ولكنه هو لم يول هذه الناحية في نفسه أدني اهتمام ، وكان يقرأ أكثر ما يترجم إلي العربية من مؤلفات كتاب الغرب لاسيما في علوم التربية . فهل كان ضيق وقته هو الذي حال دون تعلمه اللغات ؟ ! أم أنه كان يري لنفسه شخصيا أن الاعتصام باللغة العربية وحدها هوم شعار له معناه وله ومغزاه ، ذلك المغزي الذي أشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الكتاب عند الكلام علي ترجمة القرآن الكريم .. إنه كان يري أن يترجم الدنيت بما فيها من شعوب وأمم إلي القرآن وإليلغة القرآن . إنه كان يعلم أن الغرب لن يقيم وزنا لأية دعوة في الشرق مهما ملأت الدنيا كلاما مكتوبا ومسموعا بكل لغات الدنيا ، ولكنه يقيم وزنا للدعوة التي تستطيع أن توقظ الشرق من سباته ، وتبعته من رقاده ، وتقوده لاستخلاص حقه ، وتخلق من شعوبه جيلا يسترخص الحياة في سبيل الكرامة الإنسانية وفي سبيل استرداد الحقوق المغتصبة .. مهما اقتصرت هذه الدعوة علي لغة بلادها . إن هذا الغرب المتعجرف لا يفهم إلا لغة القوة ، ولا يسمع إلا صوت الأقوياء .. ولقد كان حسن البنا – رحمه الله – كثير التمثل ببينتين لمصطفي صادق الرافعي ، كثيرا ما كان يردهما : لو كل مزمار لهو عندنا خنث لنـا بـه مدفـع فنـانه يشـع إذن لكانت لنا بين الوري لغة متى تقل قولها في العالم استمعوا لقد استطاع حسن البنا بلغته العربية وحدها أن ينشر دعوته في أرجاء العالم الإسلامي . وسالت أنهار الصحف في أوروبا وأمريكا بالكتابة عن دعوته ، وأرسلت هذه الصحف مندوبها للحصول علي أحاديث منه ، وعقدت المؤتمرات بين أساطين السياسة الأوروبيين والأمريكيين لدراسة هذه الأحاديث وتخصص الدارسون الأوروبيون علي الدرجات العلمية العليا في جامعاتهم . ولا زالت دعوته هذا وضعها في الجامعات الأجنبية ، كما أنها صارت عنصراً أصيلا يحسب حسابه ساسة أوروبا وروسيا حين يخططون لسياستهم في الشرقين العربي والإسلامي .. كل هذا قد تم دون أن يحتاج حسن البنا إلي التحدث بلغة غير لغته العربية . ولقد أدي محمد صلي الله عليه وسلم رسالته التي قلبت موازين العالم كله ، ولازالت سالته سارية حتى اليوم وإلي أن تقوم الساعة .. دون أن يتحدث بغير لغته العربية .. حقا .. لقد كان حسن البنا لغز هذا الزمان وأعجوبته .. كان رجلا .. ولكنه كان أعلي من أهل زمانه فكرا ، وأوسع منهم أفقا ، وأرحب منهم أملا .. لا تستعصي عليه معضلة مهما بلغ تعقدها ، ولا تعجزه مشكلة مهما أظلمت جوانبها . كانى أقوي شكيمة . وأصلب عودا من أحداث الزمان ، فهي لا تقوي علي قهر نفسه مهما أدلهمت ظلماتها ، وأحاطت خطوبها ، وتفاقمت مصائبها .. فهو كالشعلة مهما نكستها تصوبت حتى تحرق اليد التي نكستها ، وتظل هي مشتعلة مصوبة .. انظر إليه حين يبدي شاعر الشبان المسلمين محمود جبر إشفاقه عليه ، وتخوفه علي حياته وقد تعاظمت الأحداث من حوله وأحاطت به من كل جانب قبيل استشهاده بأيام فيرد عليه مبتسما ويقول : إني لأرنو إلي الأحداث مبتسما والبحر حين يري الأحداث يبتسم وانظر إليه حين سأله وكيل قضاياه الدكتور عزيز فهمي المحامي – وكان هو الآخر وطنيا من فلتات الأيام – أين سلاحك ؟ فيجيبه : السلاح أخذوه والأخ الشقيق اعتقلوه . فيبدي الدكتور عزيز جزعه وهلعه وبالغ ارتيابه وكأنه يقول له : وكيف تأمن علي نفسك بعد هذا وتخرج من بيتك ؟ فيرد عليه متمثلا بما تمثل به في مثل هذا الموقف الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : أي بومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبـه ومن المقدور لا ينجو الحذر لقد حير حسن البنا أعداء الإسلام ، فلم يجدوا في دعوته ولا في شخصه ولا في بنائه الذي شيده مغمزا يغمزونه منه ، ولا ثغرة ينقذون منها ، فقرروا في شأنه ما قرره عتاة كفار قريش في شأن صاحب الدعوة الأولي صلي الله عليه وسلم ، ولكن صاحب الدعوة الأولي كان قد تكفل الله عز وجل له يقول : ( ••) .