الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الثاني - الباب الخامس)
البـاب الخامس الدعوة في مهب الرياح
الفصل الأول : الدعوة تنبت من جديد : ظلت الدعوة بعد اغتيال الإمام الشهيد عامين كاملين بغير مرشد عام . وهذه الفترة هي التي أخترنا لها عنوان هذا الباب ؛ لأنها كانت فترة حرجة امتازت بسمات خاصة ، وكانت الدعوة في خلالها في مهب الرياح . وهذه الفترة هي التي كان أعداء الإسلام يعولون عليها في أن تنتهي بالإخوان إلي التشتت والتناحر والزوال – فإذا تذكرنا خطتهم الإجرامية التي قدموها بين يدي هذه الفترة حكمنا – بحسب التقدير البشري – بنجاح تخطيطهم وبزوال الدعوة الإسلامية من الوجود – ولكن هذه الدعوة متصلة بالخالق الذي تكفل لها بالبقاء " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . أنهم لهم المنصورون . وأن جندنا لهم الغالبون " فإنها خيبت آمال أعدائها ، وأفسدت عليهم حساباتهم وخلق الله لها من الأسباب ما لم يدر ولم يخطر ببالهم . فوجئ المخططون بعد سقوط عبد الهادي بأن الدعوة أخذت تلم شعثها من جديد وكأن شيئًا مما حدث لها لم يحدث وبدأت تزاول نشاطها بحيويتها التي هي سمة من سماتها ، ولم يعد ينقصها إلا مرشد عام يقودها ، وإلا دورها التي اغتصبتها الدولة . كانت هذه أول تجربة لهؤلاء المخططين الصغار ، ومن ورائهم أصحاب المسرح – المخططون الكبار – الذين يباشرون دورهم – في عجلة الزمن الدائرة – في تخطيط العالم بالصورة التي يريدونه عليها .. وهي صورة مشوهة المعالم كريهة المنظر ؛ لأن أسس تخطيطها أسس جشعة دنيئة نابعة من المطامع والاستغلال .. والهدف منها هو إخضاع العالم تحت أقدامهم – ولعلهم بهتوا حين رأوا الإخوان المسلمين بعد أن طحنوا فيسجون الظلم ، وتحت كلاكل الإرهاب ، يخرجون ويتجمعون ويعيدون الكرة دون تأفف أو ضجر ، ودون ذكر لما أصابهم أو شكوى مما ألم بهم . ولعل فشلهم هذا فيما خططوه جعلهم يعيدون النظر في هذه الخطط بحثا عن مواطن الضعف فيها ليتلاقوه فيما بعد . وقد هيأت مجموعة القيادة المؤقتة في ذلك الوقت رابطتين يتجمع الإخوان حولهما هما : رابطة الكلمة المسموعة ورابطة الكلمة المقروءة – وإذا قلنا " هيأت " فإن هذا القول بعض التنجاوز ؛ لأن التهيئة إنما كانت في حقيقة أمرها هداية من الله وتوفيقا ، لا تدري كيف هيئت وكيف تمت (• ) .
• رابطة الكلمة المسموعة :
كان الإخوان – المطلقو السراح منهم والمفرج عنهم من المعتقلات – فيفترة الفراغ هذه دائبي البحث عن شيء يجتمعون حوله ، ويكون بمثابة معلم يأتون إليه من كل صوب .. ولما كانت هذه الدعوة تحمل حيويتها في نفسها ومعالمها هي جزء منها لا ينفصل عنها ، فإن هذا المعلم الذي تطلع إليه هؤلاء الإخوان كان قريب المنال ، فإن بيوت الله هي معالم هذه الدعوة لا تنفصل عنها ولا يحاول فصلها إلا ظالم ، ولأمر ما كان قوله تعالي ( • ) .. ولذا كانت بيوت الله في كل مكان هي مثابتهم . ولو أن ما تعرض له الإخوان من القهر والإرهاب تعرض له أصحاب الدعوات الأخرى ذات الأفكار البشرية لزالوا من الوجوه ؛ لأن وجودهم مرهون بمكان يجمعهم ، فإذا زال المكان زالوا وإذا طال عليهم الأمد نسوا ونسيهم غيرهم . ولما كانت القاهرة قلب البلاد ، فكان لابد من مثابة في القاهرة . وما أكثر بيوت الله فيها .. لكن المثابة التييتطلع الإخوان إليها لا يكفي أن تكون بيتا من بيوت الله دون أن يكون فيها لسان رطب بذكر الله مردد لكلمات الله ، مناد بحكم الله ؛ حتى يؤدي هذا البيت دوره الذي يرتضيه صاحبه جل ذكره ... ولم يحرم الله دعوته من هذا اللسان الرطب ، وهذا الصوت الجمهوري ، فقد كان ممن أفرج عنهم أخ كريم وداعية واع مؤمن ، هو الأخ الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصي ، الذي كان صداح الدعوة في مسجد المنيرة ، الذي صار كعبة الإخوان في القاهرة ، لا يفد إليه الإخوان من أنحاء القاهرة فحسب ، بل يفدون إليه من أنحاء القطر كله . كانت صلاة الجمعة في هذا المسجد مؤتمرا إسلاميا جامعا يحيي موات القلوب ، ويبعث في النفوس القوة والحياة ، وكانت خطب الشرباصي شواظا من نار تلهب ظهور محترفي الإجرام من الحكام ويفضح جرائمهم .. حتى إذا قضيت الصلاة رأيت الألوف من المصلين يعانق بعضهم بعضا ، ويقبل بعضهم بعضا ، ثم تريالأخوة المسئولين في القاهرة يتعرفون أحوال إخوانهم في الأقاليم من مندوبين يفدون كل أسبوع لأداء صلاة الجمعة ، ولسماع الشيخ الشرباصي ، وللقاء إخوانهم الوافدين من الأقاليم الأخرى ، ثم لقاء الأخوة المسئولين في القاهرة ، وتبادل الأنباء وتلقي التعليمات . إنه مسجد واحد ، وليس من أكبر مساجد القاهرة ولا أشهرها ، ولكنه كان في دعوة الإخوان المسلمين معلما من أعظم معالمها ، وقد أدي في خلال هذه الفترة دورا خطيرا ... ولولا أن الطغمة الحاكمة كانت قد استغرقت جهدها كله حتى لم يبق منه شيء لأطبقت علي هذا المسجد من كل جانب ، وبطشت بخطيبه وأغلقته بالشمع الأحمر ؛ لأنه كان غصة فيحلقها وصداعا مستمرا في رأسها ، وتحطيما متجددا لأعصابها ، وعنوان فشل وإخفاق لسياستها وجهودها ، وبرهانا علي خطأ نظرياتها وتصوراتها .. كان البوليس السياسي يحيط بالمسجد ، ويحاول الاندساس بين المصلين .. ولكن لأن دعوة الإخوان أساسها التآخي ، والتآخي أساس التعارف ، فكل أخ يعرف إخوانه ، فكان رجال البوليس في هذا الوسط المتعارف مفضوحا أمرهم .
• رابطة الكلمة المقروءة :
أما الكلمة المقروءة ففي الوقت الذي كانت تؤدي ذلك فيه مجلة " المباحث القضائية " التي استأجرها الإخوان لإصدارها في خلال هذه الفترة ، ورأس تحريرها الأخ الأستاذ صالح عشماوي وظلت تصدر من أول يونيو 1950 حتى 23 يناير 1951 – في هذا الوقت نفسه .. تطوعت جريدة " منبر الشرق " للأستاذ علي الغاياتي أن تكون لسان حال للإخوان ومعبرة عنهم في خلال هذه الفترة العصبية ... والأستاذ علي الغاياتي مجاهد قديم من الرعيل الأول الذين فهموا معني الوطنية – في بلد محتل – علي أنها تضحية وفداء ، فلم يبخلوا بشيء في سبيل بلادهم ، فواجه بقلمه الحر صنيعة المستعمر الجالس علي العرش مواجهة ألقت به في غياهب السجن ، فكان بذلك من شباب الحزب الوطني الذين جعلوا لهذا الحزب في التاريخ ذكرا .. وخرج علي الغاياتي من مصر مطاردًا وهو شاب ورجع إليها وهو شيخ . ويبدو أنه حين رجع إلي مصر أخذ يبحث عن ميدان يواصل فيه جهاده فلم يجد إلا رجالا وراء أسوار السجون والمعتقلات ديست كرامتهم بالنعال .. ولكن بنعال من ؟ إنها بنعال من قال فيهم المتنبي – كما قدمنا - : وإذا أئتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل كان الذين هم وراء الأسوار هم طلبته التي كان عليه أن ينتظرها ، حتى إذا لاح بصيص ضوء تلقاهم بالترحاب تلقيالحبيب لحبيب طال غيابه . وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما يظنان كل الظن ألا تلاقيا ووضع نفسه وجريدته في خدمة الدعوة المضطهدة المطاردة ، وهو يعلم أنه يراهن ماديا علي الفرس الخاسرة ، فالإخوان أفقر الناس جيبا ، وأبغضهم إلي رجال المال والأعمال الذين كانوا إذ ذاك صنائع المستعمر . فمن أين لجريدة وضعت نفسها في خدمة هؤلاء المضطهدين أن تجد لنفسها إيرادا ؟ ومع ذلك رضي الرجل كل الرضا ، بل كان يحس بسعادة غامرة أن تحقق له – وإن كان في آخر أيامه – أمل طالما راوده الاشتياق إليه . وقد أنشأ جريدته هذه " منبر الشرق " في جنيف عام 1922 وخصصها " للدفاع عن الشعب الناهض " وجعل شعارها بيتين من قصيدة له كتبها وجعلهما ملازمين لاسم الجريدة وهما : باسم الكنانة باسم شعب ناهض لا باسم أحزاب ولا زعـماء كل يزول وينقضي إلا الحمى فوديعة الآبـاء للآبـنـاء لعبت " منبر الشرق " هذه دورا أساسيا في ربط الإخوان بعضهم ببعض ، وأبرزت صورتهم ، وأسمعت الرأي العام الداخلي والخارجي صوتهم .. وأخذ " علي الغاياتي " رحمه الله يدبج بقلمه مقالات ينتصف فيها للدعوة المظلومة من ظالميها ، ويهاجم الظلم الحكومي والإرهاب ، ولكن بأسلوب المؤمن الثائر المجرب الحريص علي أن يظل هذا اللسان قائما بمهمة الدفاع عن الحق دون توقف ، راضيا بما يحيق به من خسائر مادية ، متغاضيا عما يوجه إليه من إنذارات حكومية تتهدد جريدته وشخصه . هذا وقد ظلت " منبر الشرق " بجانب " المباحث القضائية " هما الكلمة المقروءة للإخوان حتى أصدر الإخوان في 30 يناير 1951 مجلة خاصة بهم هي " مجلة الدعوة " . الجو السياسي خلال هذه الفترة : وقعت جريمة حل الإخوان المسلمين وما سبقتها من مقدمات وما تلاها من مؤمرات في أثناء حملة حزب الوفد علي الإخوان حملة وصفنا طرفا منها . وكان المتوقع أن يواصل الوفد حملته بعد أن أوقع بالإخوان . ولكن الذي حدث كان غير ذلك ، إذ أمسك الوفد عن مهاجمة الإخوان وتوقف عن حملته عليهم ، ولست أدري ما الذي دفع الوفد إلي اتخاذ هذا القرار .. أهو النيل أم هو دافع آخر ؟ ولازال الدافع إلي ذلك سرا لا يعرفه إلا الذين قرروا اتخاذه .. ولكن الإخوان علي كل حال حمدوا الوفد هذا الموقف أياما كان الدافع إليه . ولقد كان لهذا الموقف أثره حين أجريت انتخابات عامة سنة 1950 جاءت بالوفد إلي الحكم .
• لماذا غير الملك موقفه ؟
ولابد في هذا المقام من إثارة موضوع هام هو الانقلاب الذي انقلبه الملك علي أنصاره السعديين في أيام حكم زعيمهم إبراهيم عبد الهادي ، ثم تدرجه في إسناد الحكم إلي أشخاص ممن يسمون بالمستقلين وإن كانوا يدينون له بالولاءحتى انتهي في تدرجه إلي الوفد .. ما السر في هذا الانقلاب المفاجئ ؟ أهو كشفه أن السعديين خونة ؟ أهو أمر جاءه علي سبيل النصيحة من الانجليز ؟ أهو اعتقاده أن الإخوان المسلمين – وقد صاروا من غير قيادة – أصبحوا جماعة لا يخشي بعد ذلك كله قوة متماسكة ، لم ينل من قوتها كل ما فعل – وهو أقصي وأقسي ما يستطيع أن يفعل – فأراد التقرب إليهم ، ملصقا كل ما أتخذه ضدهم من اجراءات ظالمة بالسعديين الذين طردهم من الحكم شر طردة ، مدعيا أنهم خانوه بما فعلوا بالإخوان ؟ قد يكون السر واحدا من هذه الفروض أو هو خليط مما حوته هذه الفروض .. ولكن الأرجح هو أن الفرضين الأخيرين قد غره أولهما فتعلق به وظل حتى وجد نفسه بعد غير كثير من الزمن وجها لوجه أمام الفرض الأخير .
• لماذا غير الوفد موقفه ؟
أما من ناحية الوفد فموقفه من الإخوان في هذه الفترة يستحق البحث والتمحيص فهو بعد أن تولي الحكم نكث بوعوده للناخبين وجرب أسلوب التحدي مع الإخوان في صورة قانون تنظيم الجمعيات ، وأسلمته تجربته إلي الفشل ، فنبذ هذا الأسلوب وأخذ التقرب والتصالح . فهل نسي الوفد قبلسنتين كان قد اعلن الحرب علي الإخوان ، حربا لا هوادة فيها ، ولا ترعي إلا ولا ذمة ؟ .. ما هذا التطور الذي طرأ علي سياسة الوفد إزاء الإخوان ؟ ما هذه المهادنة ؟ . صحيح أن فؤاد سراج الدين كان ينتهج سياسة تتسم بشيء من التجديد والمرونة ، كان هدفها أن يحتوى مايستطيع احتواءه من الأشخاصوالحركات ، واستطاع أن يحتوى فعلا بعض الهيئات التي كانت موجودة إذ ذاك في الحقل السياسي . فهل كان اتجاه سراج الدين نحو الإخوان المسلمين هو نفسالاتجاه وبنفس الهدف ؟ إذن يكون أشبه بالفأر الذي يحاول أن يبتلع قطا بلنمرا .. ومثل هذا لا يخطر ببال رجل عاقل مثل سراج الدين مهما اتسع أفق ماله .. ولكن الذي أرجحه هو أن سراج الدين كان واقعيا ، حين قيم الإخوان حق التقييم فرآهم علي حقيقتهم التي أثبتتها الأحداث – سلمها وحربها - .. رآهم هيئة ذات عقيدة في قلوب معتنقيها أثبت من الجبال الرواسي ، وأن هذه الهيئة من القوة الذاتية بحيث لا تقهر ، وأن كسب ردها أنفع له ولحزبه من معاداتها وقطع الحبال بينه وبينها . وكان الصراع الحزبي حافزا لجرائد الوفد أن تسيل أنهارها بالكتابة عن الإخوان وما لاقوه علييد السعديين من اضطهاد وتعذيب . وكانت المادة التي تعتمد عليها في ذلك قضايا الإخوان التي كانت في ذلك الوقت تعرض علي القضاء، وتتكشف عن مخازي حكومة السعديين .. وقد أنشأ الوفد في ذلك الوقت جريدة أسبوعية سماها " الجمهور المصري " كان رئيس تحريرها أبو الخير نجيب ، وتكاد تكون هذه الجريدة قد خصصت لهذا الموضوع . وكان لها تأثير عميق في نفوس الناس الذين كان محولا بينهم وبين معرفة الحقائقطيلة عام أو أكثر .
• حـيـرة :
لست أدري حتى الآن هل كان حسن البنا – رحمه الله – مؤسس هذه الدعوة ومرشدها العام – يعتقد أن ستكون نهاية حياته في هذه الدنيا علي الصورة التي انتهت عليها ، وأن ستكون النهاية قريبة إلي هذا الحد حيث انتقل إلي جوار ربه ولما يبلغ الخامسة والأربعين ؟ إنه كان كثير التبصير للإخوان في مواقف كثيرة بما ينتظرهم من أوقات عصيبة يحال فيها بينه وبينهم ، وبأهوال سيخوضونها مع أهل الباطل . ويدعوهم إلي الصبر والثبات حيث العاقبة لهم .. ولكن ذلك التبصير والحيلولة بينه وبينهم .. هل كان يتصورها علي الصورة التيتمت بها حيث صارت حيلولة مفاجئة ليست كحيلولة السجن والاعتقال ؟ إن ثقة حسن البنا في الله كانت ثقة لا حدود لها . فلم يكن يهاب الموت ولا يرهبه . ,قد كانت لي معه تجربة في هذا الصدد في أوائل أيامنا بالدعوة أشرت إليها في الجزء السابق ، وقد أذهلتني هذه التجربة ؛ لأنني لم أكن أتصور إنسانا يستهين بالموت كما رأيته يستهين به ويقدم عليه ... ولكن هل معني هذا أنه كان يتوقع أن تكون نهاية حياته علي الصورة التي انتهت بها ؟ . لا اعتقد ؛ لأنه لو توقع ذلك لأعد للإخوان ما يعينهم علي اختيار من يخلفه .. وهو الإنسان الذي يخطط للمستقبل – بإلهام من الله وتسديد – كما يخطط للحاضر الذي بين يديه .. ولا تجد في تخطيطه ثلمة تنفذ منها إلي خطأ ، ولا تعثر علي خطوة أخرها يتبين أن الخير كان في تقديمهما ، ولا علي خطوة قدمها يتبين أن الخير كان في تأخيرها ، فهو المسدد دائما كما جاء في قوله تعالي : ( ) . فمثله لو أنه توقع لخطط للاستخلاف ، أو علي الأقل لآنار لمن بعده الطريق .. فإذا أضفت إلي ذلك كله شدة حرصه علي دعوته ، فهي عنده أثر من أبنائه وأحب وأقرب .. والمرء حين يتوقع النهاية يونصي أبناءه أو يوصي بأبنائه .. ولو أنه صلي الله عليه وسلم توقع لأوصي أبناءه في الله ولأوصي بهم . ولكنه – رحمه الله وعوض العالم فيه خيرا – مع ما كان يعرفه عن أعداء الدعوة من سوء الخلق وموت الضمير ، فإنه لم يكن يجردهم من الإنسانية أو يضعهم في مصاف الوحوش الكاسرة ، بل كان دائم الأمل في أن يستطيع في يوم من الأيام أن يحرك بقية من إنسانية مع كثيرين من كبار الأشقياء وعناة المجرمين فاستطاع بفضل الله أن ينقلهم من حضيض الضلال إلي سماء الهدي والنور ، وأن يجعل منهم أبطالا يحمون ذمار الحق ، وأئمة يهدون بأمر الله . ما كان يغيب عنه رحمه الله أن تكون نهايته كنهاية سابقيه من أصحاب الدعوات أمثال ابن تيمية والأفغاني ، وكثيرا ما كان يردد ذكرهم ويذكر نهايتهم وهو سعيد بهذه الشهادة التي هي أمل كل مؤمن .. ولكن النهاية التي انتهت بها حياته ... كان يتصور أن يعتقل وأن يسجن وان يطول اعتقاله وسجنه ، ويتصور أن تلفق له تهمة ليتخلص منه فيقدم إلي القضاء ، ويؤتي بشهود الزور ويحكم عليه بالإعدام .. كل هذا كان يتصوره وكان يتوقعه .. ولكن هذا كله وأعنف منه لم يكن ليحول بينه وبين أن يستخلف أو يشير بشيء يعين علي اختيار من يخلفه .. لم يكن الرجل يحسن الظن بخصوم الإسلام ، ولا يهون من كيدهم ومكرهم ، ولكنه كان يعتقد مع ذلك أن ستكون لديه الفرصة الكافية لوصية تنير الطريق . لكن النهاية جاءت مخلفة كل ظن ، مناقضة لكل تصور ، مباغتة للعقل والمنطق والقياس والنظر بل والخيال أيضا .. لم تكن لها سابقة تقاس عليها ، ولم يحدثنا التاريخ عن مثيل لها حتى كنا أدخلناها في خيالنا ، ولكنها كانت نسيج وحدها ، وأعجوبة زمانها بل وزمان غيرها ... ولا ننكر أن الظلم كان موجودا في كل زمان ومكان ، وأن الطغاة والظالمين لم يخل منهم زمان ولا مكان . ولكن هؤلاء كانوا إذا ارتكبوا جريمة القتل ضد أعدائهم ارتكبوها جهرا وعلانية ، كما كان يفعل الحجاج بن يوسف الثقفي ، أو كانوا يستغلون القضاء ، أو أن يسجنوا عدوهم حتى يموت في السجن مثلا .... أما أن تقوم الحكومة بجميع سلطانها بدور المتآمر الذي يبيت الجريمة في خفاة ، ويحاول الاستخفاء في الظلام ، وتقتل عدوها الأعزل غيلة وقد أعطته الأمان .. فهذا ما ليس له في التاريخ مثيل ، وهذا قد يأباه حتى الطغاة المستبدون . علي أي حال .. فإن الجريمة وقعت .. وكان خروجها عن المألوف ، وبعدها عن تصور العقل ونخيل الخيال حائلا بين الرجل وبين أن يعين من بعده فيما كان هو بغير شك حريصا علي إعانتهم فيه .. وهذا هو ما جعلهم في حيرة من أمرهم .
• قيادة مؤقتة :
كان التصرف الطبيعي وقد غاب قائد الدعوة أن تتصدي لقيادتها المؤسسات التي كانت تعاونه في القيادة وهي مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية .. ولما كان أكثر أعضاءهاتين المؤسستين في المعتقلات ، فقد توليهذه المهمة الأعضاء الذين أطلق سراحهم ، ثم صار ينضم إليهم من يطلق سراحه . وقد باشر هذه المهمة منهم الأعضاء المقيمون في القاهرة خير قيام ، وكانوا يتخذون من منزل الأخ الكريم الأستاذ منير الدلة مكانا لاجتماعاتهم . وينبغي أن نشير هنا إلي الدور الذي أداء الأخ الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري الذي كان عضوا بمكتب الإرشاد العام ، والذي كان الأستاذ الإمام رحمه الله يخصه بكثير من الحب مع ما كان يعرف من شطحاته .. كانت ظروف الباقوري – التي أشرت من قبل إلي طرف منها – قد أعفته من أن يعتقل أو أن يحجر علي حريته ، وكان ذلك نافعا للدعوة في هذه الظروف العصيبة . فهيئة قيادة الدعوة في خلال تلك الفترة كانت مجموعة من الشباب . متقاربة السن ، متقاربة الثقافة ، متقاربة المنزلة الاجتماعية ، ليس لها من الخبرة نصيب ذوبال إذا قيس بما كان لقائدهم منها .. وقد ترك القائد الدعوة وهي في أحرج مواقفها .. في موقف لا تحسد عليه ، أخطاء من داخلها أعطت لأعدائها سلاحا بتارًا أغمدوه في ظهرها ، وأحقاد من حكام هذا البلد استغلها من الخارج دول كانت تتربص بهذه الدعوة الدوائر . وقد استطاعت هذه القوى الداخلية والخارجية أن تشوه وجه الدعوة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي .. ,هذا أسلوب أخطر من أسلوب القتل والاعتقال والسجن والتشريد .. وهو ما سوف نتناوله بالحديث والمناقشة فيفصل قادم إن شاء الله .
• تيـاران :
إذا كانت الدعوة الإسلامية بعد قائدها الأول صلي الله عليه وسلم – مع أنه قبل اختياره الرفيق الأعلى قد أنار لمن بعده الطريق إلي حد ما – قد تعرضت لتيارات متناقضة متعارضة كادت تعصف بها ولولا لطف الله وحصافة أبي بكر وعمر ومع إيمان كان لا يزال غضا يعمر القلوب .. كان هذا والناس بعد قريبو عهد بالوحي ينزل بينهم .. فما بالك بالدعوة نفسها بعد ثلاثة عشر قرنا ، وقد حالت الظروف دون أن ينير قائدهم لهم الطريق لاستخلاف من يلي الأمر فيهم ؟ .. إنهم لمعذورون إذا اختلفوا وتضاربت آراؤهم ، وتوزعهم الآراء والاتجاهات . ولكنهم مع ذلك قد عصمهم الله ، وربط علي قلوبهم ، فلم يطف علي سطح هذا الخصم المتلاطم إلا التياران اللذان انتابا الدعوة الأولي .
• التيار الأول – أولو القربى :
أول ما يتبادر إلي أذهان الناس عادة أن أحق الناس بخلافة قائد دعوة ما بعد وفاته هم أهله وعشيرته .. وقد يكون الأهل والعشيرة أشد الناس إيمانا بهذه النظرية باعتبارها حقا شرعيا كالميراث الشرعي في المال ، لاسيما إذا كان منهم من كان في طليعة العاملين في الدعوة ومن ذوي السابقة والبلاء فيها .. وإذا ما أخطأهم الاختيار وأسند الأمر إلي غيرهم اعتبروا ذلك هضما لحقوقهم وتخطيا لرقابهم . وكان من أكرم العاملين في دعوة الإخوان وذوي السبق والبلاء فيها اثنان من أهل الأستاذ الإمام رحمه الله وعشيرته ، هما الأخوان عبد الرحمن الساعاتي (البنا) وعبد الحكيم عابدين – الأول شقيقه والآخر زوج شقيقته أما عبد الحكيم عابدين – بما يغلب عليه دائما من صيغة صوفية نشأ في أحضانها منذ صغره – فقد كان عازفا عن ذلك وأعلن أنه لا يؤمن بهذه النظرية من حق ذوي القربى .. وأما الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي – بما كان يغلب عليه من تشيع لأهل البيت رضوان الله عليهم ومن مغالاة في هذا التشيع – فإنه رأي نفسه ورأه أشقاؤه وبعض أهله وعشيرته أحق الناس بمكان أخيه وشقيقه في الدعوة ... ومع أن الأستاذ عبد الرحمن كان يري هذا الرأي ويعلنه فإنه لم يرفع راية العصيان في وجه الجماعة حين رأت غير رأيه . وإن كان بعض من لا دور لهم في الدعوة قد شغبوا فلم يجدوا أذنا واحدة صاغية .
• التيار الآخر – أولو القوة :
ولم يكن بروز هذه الفئة من رجال الدعوة في المطالبة بهذا المنصب بدعًا فقد وقف أمثالهم بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم يطالبون بأن تكون الخلافة فيهم .. والأنصار في الرعيل الأول من الدعوة الإسلامية إنما هم الفئة التي بايعت علي حماية الدعوة وحماية صاحبها بالسيف من أي اعتداء عليها .. وقد كان إخواننا العاملون في – النظام الخاص " في دعوة الإخوان يرون أنفسهم يمثلون فريق الأنصار رضوان الله عليهم في الرعيل الأول .. ,لذا فقد رأوا أنفسهم أحق الناس بأن يكون صاحب هذا التعصب بترشيحهم . وقد رجع الأنصار بعد قليل إلي إيمانهم ، واقتنعوا بأن دعاءهم هذا الحق هو نوع من النكوص في بيعتهم التي لم تكن الدنيا ولا المناصب غايتها ولا هدفها ، فنزلوا – راضين – علي ما استقر عليه رأي المسلمين في اختيار أبي بكر رضي الله عنه وسمعوا له وأطاعوا ... أما إخواننا هؤلاء فقد اتخذوا موقفا نتناول الحديث عنه بعد قليل إن شاء الله . الفصل الثاني : شبهة خطرة ماكرة : يتشعب التخطيط الدولي في حبك المؤامرات تشعبا عجيبا ، فبينما يهيئ أسبابا للإيقاع بين الهيئة التي يتآمر عليها وبين الحكومة بلدها فتضربها الحكومة بكل قوتها لتشتت شملها وتضعضع قوتها ، مما قد يرضي أعداءها من بين فئات الشعب – يتجه التخطيط في الوقت نفسه إلي محبي هذه الهيئة والمتعاطفين معها من بين فئات الشعبفيلقون بذور الشك في نفوسهم تجاه الهيئة بأسلوب بحار اللب فيه ، ويدل علي براعة أولئك المخططين ، وعمق تفكيرهم ، وواسع درايتهم بالخصائص النفسية للأمم التي يخططون لها . وإذا كان الإيقاع بين الإخوان وبين الحكومة قد أسفر عن تضحيات وخسائر لمسها القارئ في سياق الأبواب والفصول السابقة ، فإن إصلاح ما أفسده الإيقاع أمر يسير متدارك تكفلت به أحكام القضاء – أما إلقاء بذور الشك في نفوس محبي الإخوان والمتعاطفين معهم بالأسلوب البارع الذي يتسرب إلي النفوس دون أن تشعر كيف تسرب إليها ، بحيث يجدون أنفسهم وقد تغيرت نظرتهم إلي الإخوان المسلمين ، فبعد أن كانوا سعداء بهم ، مفاخرين بقيادتهم ، مباركين خطواتهم .. إذا بهم وقد صاروا متشككين في توفيق قيادتهم ، مرتابين في أهدافهم ، معترضين علي تصرفاتهم . إن الأسلوب الذي بث به التخطيط الدولي الشك في نفوس صالحي المسلمين في كل بقاع الأرض ، لم يتعرض لدعوة الإخوان المسلمين بذم ، ولم ينتقص من قيمة الإخوان وتفانيهم وشجاعتهم ، ولكنه يقرر – آسفا حزينا متحسرا علي هذه الهيئة العظيمة – أن قيادة الإخوان قد تسرعت في خطاها أخيرا إذ تعجلت قطف الثمرة قبل تمام نضجها ، بتدخلها في السياسة .. فحدث لها مع الحكومة ما يحدث لكل متعجل . ولو أنها صبرت وتركت السياسة في ذلك الوقت لأربابها لما حدث لها ما حدث . ونجح هذا الأسلوب أيما نجاح ، وغزا العقول والنفوس والقلوب ، فكنت لا تسمع من أقرب الناس للإخوان إلا هذه النغمة من العتب الشديد ، واللوم اللاذع ، والتفريغ العنيف .. لمذا تسرعتم ؟ .. لماذا تعجلتم ؟ .. لقد أضعتم الدعوة وقضيتم عليها بهذا التسرع . ما كدنا نخرج من محنتنا التي عصرتنا عامين كاملين حتى فوجئنا بأهلينا وأصدقائنا باستقبال حافل باللوم والتفريغ ، فكان هذا الاستقبال أشد علي نفوسنا من كل ما لقينا في محنتنا . وظلم ذوى القربى أشد مضاضة علي النفس من وقع الحسام المهند وخطورة هذا الأسلوب أنه أفقدك ثقة الناس فيك . وأنك مضطر – لكي تستعيد ثقتهم – إلي أن تبدأ محاولات لإقناعهم من جديد .. وقد يكون إقناع خلاة الأذهان أيسر من إقناع أمثال هؤلاء .. ولهذا فقد كان نجاح المتآمرين في بث الشك في النفوس عقبة كأداء أمامنا – نحن دعاة الإخوان – في تلك الفترة الحرجة ، وكان علينا أن نذللها قبل كل شيء حتى نسوي الطريق بين يدي الدعوة فيه إلي سابق مسارها . ولا شك في أن محاولة إخراج شعب من أمينة في شئون الحياة ، وتبصيره بما يدبر له ، أمر من أشق الأمور ، فإذا كانت هناك عوامل قوية دائبة النشاط ، مهمتها أن تعمل علي إحباط هذه المحاولة – فإن نجاح المحاولة يحتاج إلي أضعاف الوقت وأضعاف الجهد . وقلما تصل المحاولة إلي نهايتها إلا إذا كان المحاول مستميتا لا يجد اليأس إلي نفسه سبيلا . وكان هذا هو حال الإخوان مع هذا الشعب المسكين الذي طال رقاده ، وطال أمد تشربه أفاويق الخداع والتضليل ، فبات وعلي بصره أسداف من الغشاوات ، كلما رفع الإخوان غشاوة وجدوا تحتها أخرى ، فلما صاروا قاب قوسين أو أدني من كشفها جميعا ، أطفأ حكام مصر الأنوار ، وتركوا الشعب يعيش في ظلام دامس ، فهو يسمع ولا يري – وبتكميم أفواه الإخوان بإلقائهم خلف الأسوار لم يعد الشعب يسمع إلا نعيق هؤلاء الحكام ، وما زيفوه عليه من أنباء وما قلبوه من حقائق ، وملأوا به سمعه من أكاذيب ومفتريات . سنة كاملة اعتقلت خلالها الألسنة ، والجمت الأفواه ، وحطمت الأقلام . ولم يعد الشعب المصري والعربي والإسلامي في أنحاء العالم يسمع أو يقرأ تهما تختلق ، وأكاذيب تنمق ، حتى شك المؤمنون في إيمانهم ، فأخذت تعيد النظر في تقييم الإخوان ودعوتهم ومدي التزامهم بأهداف الدعوة ووسائلها علي ضوء الشكوك والريب التي تسربت إلي نفوسهم . صار أقربالناس إلي الإخوان يعتقدون أن الإخوان قد اعتسفوا الطريق ، وتسرعوا فخرجوا عن الجادة ، وعزوا ما ووجه به الإخوان من ظلم وقهر وأذي إلي أنه جزاء وفاق للتسرع والتعجل . وإذا سألت أحد المعترضين عما يراه خروجا من الإخوان عن جادة دعوتهم أجابك قائلا : إنهم تدخلوا في السياسة فإذا سألته : إذن فماذا كنت تريدهم أن يفعلوا ؟ قال :كان عليهم أن يكتفوا بالدعوة إلي العبادات والأخلاق .. وإن يرجئوا ما سوي ذلك إلي وقت آخر ... فإذا سألته : ومتى يأتي هذا الوقت الآخر ؟ ارتج عليه واعتصم بالصمت ؛ لأنه قد وصل إلي طريق مسدود .
• دحض هذه الشبهة :
ولما كانت هذه الشبهة المضلة مما تعرض له الدعوة علي مر الأيام حين تصطدم مع هوى الحاكمين ، فقد رأينا أن نتصدى لها تصديا فكريا مستمدين أسلحة هذا التصدي من صميم الفكرة الإسلامية ومن واقع الحياة العامة التي تعمل فيها هذه الفكرة باعتبارها دعوة ، فنقول : أولاً – أن الإخوان منذ اليوم الأول لقيام دعوتهم كانوا يقدمون دعوتهم للناس ، ويحرصون علي إبراز معني شمول الإسلام لكل نواحي الحياة من عبادية واجتماعية واقتصادية وسياسية ، وأن الإسلام دين ودولة .. وإبراز هذا المعني الشمولي للإسلام كان هو الدافع الوحيد لقيام حسن البنا بالدعوة .. وإلا فما كان هناك ما يدعو لقيامه ، فقد كانت مصر وغيرها من الدول الإسلامية تعج بالجمعيات والهيئات التي تدعو إلي الإسلام ولكن بمعناه المبتور .. وتحت يدنا مطبوعات كنا نوزعها علي طلبة الجامعة في عام 1936 تدعو بأصرح عبارة إلي نفس ما كان يدعو إليه الإخوان في أعوام 1946 ، 1947 ، 1948 . ثانيا – أن الإخوان يوم قرروا النهوض بأعباء الدعوة إلي الإسلام بمعناه الشامل كانوا يعرفون أن إبراز الإسلام بمعناه الشامل لن يرضي المستعمر ولا تابعيه من الحكام ؛ لأن ذلك سيحد من سلطتهم ويقضي علي أطماعهم . ثالثا – أن حسن البنا لتيقنه من ذلك كان حريصا علي أن يطمئن هؤلاء الحكام بين الفينة والفينة وفي مختلف المواقف إلي أن الإخوان ليسوا طلاب حكم ، ولكنهم أصحاب فكرة ، يقدمونها إلي الحكام المنتسبين إلي الإسلام ليحكموا علي أساسها ، وسيكون الإخوان في هذه الحالة في ركابهم ، وعلي حد قوله : " يغسلون علي أيديهم " .. وقد وصل في حرصه علي طمأنة الحكام إلي ذلك أن أعلن في المؤتمر السادس – وكان الإخوان في أوج قوتهم أن الإخوان ليسوا أعداء الملك ، وإنما هم أصحاب دعوة ، في الحكم بها إنقاذ البلاد وصلاح العباد .. يتقدمون إليه بها لتكون دستور الحكم . واستشهد رحمه الله فيذلك بقول الإمام مالك بن أنس : لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان فإنه إذا صلح صلح بصلاحه خلق كثير . رابعا – أن الإخوان حين أعلنوا شمول دعوتهم من أول يوم حتى آخر يوم لم ينقصوا من شمولها شيئا ولم يزيدوا عليه شيئا .. إلا أن صوتهم في هذا الإعلان كان متناسبًا في درجة إسماعه للآخرين مع ما وصلوا إليه من قوة ، فليس صوتهم في هذا الإعلان كان متناسبًا في درجة إسماعه للآخرين مع ما وصلوا إليه من قوة ، فليس صوتهم في الأسماع وهم مئات كصوتهم وهم ألوف ، وليس صوتهم وهم ألوف كصوتهم وهم عشرات الألوف وهكذا ... وكلما ازداد صوت التحذير قوة صار أشد إزعاجا للصوص وهم يسرقون في هدأة الليل وسكون الظلام .. وقد يدعو هذا اللصوص إلي انتضاء السلاح .. وإذا بلغ بهم الإزعاج كل مبلغ تركوا المتاع الذي يسرقونه وتفرغوا أولا للقضاء علي مصدر الإزعاج ليباشروا بعد ذلك سرقاتهم في أمان واطمئنان .. مع علمهم بأن هذا المصدر لا يهدف من وراء إزعاجهم إلي فوزه بنصيب مما يسرقون في هدأة الليل وسكون الظلام .. وقد يدعو هذا اللصوص إلي انتضاء السلاح .. وإذا بلغ بهم الإزعاج بعد ذلك سرقاتهم – وقد كان يسعدهم أن يشركوه معهم لو كان في إشراكه ما يقنعه ويوقفه عن الإزعاج – ولكنهم تيقنوا من أن هدفه الوحيد من وراء الإزعاج هو أيقاظ أصحاب المتاع للحيلولة دون سرقة متاعهم . هل كان أما الإخوان مندوحة تعفيهم من المسئولية أمام الله والناس إذا هم تعاموا عما يرون ، وادعوا الصمم عما يسمعون ، وسكتوا لتتم السرقة تحت سمعهم وبصرهم .. إن عما يرون ، وادعوا الصمم عما يسمعون ، و سكتوا لتتم السرقة تحت سمعهم وبصرهم .. إن أيسر الطرق أمامهم كانت هي هذه الطريق ، أن يسكنوا .. ولكن ليست أيسر الطرق دائما هي الطريق القويم .. نعم لقد أثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ... ولكن أليس السكوت في هذه الحالة إثما ؟ .. إنه إثم كبير لا حدود لكبره ... ثم أين تجد هذه الآية الكريمة من يحققها في مثل هذه الحال حين يقول الله تعالي : ( • ) إذا لم يلبها الإخوان وهم الذين قاموا من أول يوم يدعون الناس إلي تحقيق هذا الأمر الإلهي ؟ ... أحين يجد الجد ويصبح السكوت اهدارًا لحقوق الشعب في الحرية والاستقلال ينكصون علي أعقابهم ،ويعتصمون بالصمت ، ويلجأون في تبرير نكوصهم إلي أضاليل يغشون بها الناس ، فيحق عليهم قول الله تعالي : ( ) ؟ ! . خامسا – أن الأستاذ الإمام – رحمه الله – كان أعرف الناس كيف يضع الشيء في موضعه أو كما يقولون " يضع الهناء مواضع القلب " .. لم يكن رحمه الله ممن يرمون بالتسرع في أية مرحلة من مراحل الدعوة ، بل إنه كان لشدة توخيه الأناة ، ولشدة حرصه علي أن يقدر لرجله قبل الخطو موضعها – كان منافسوه يرمونه بإيثار العافية ، وقد أشرنا إلي طرف من ذلك في الحديث عن " الإخوان ومصر الفتاة " وفي الحديث عن بعض مواقفه مع حزب الأحرار الدستوريين وحزب الوفد .. وما كانت " الفتنة الأولي " التي أفضنا في الحديث عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب ، والتي كادت تستأصل الدعوة من جذورها ، وفقدت الدعوة من جرائها عددا كبيرا من أكرم الإخوان .. ما كانت إلا احتجاجا علي التباطؤ في خطوات الدعوة والتقاعس – في عرفهم – عن العمل الجرئ الشجاع الذي كانوا يصرون عليه .. ولقد أشار الأستاذ الإمام إلي ذلك وقرر استمساكه بهذا الأسلوب مهما رمي بالضعف والتخاذل ، ومهما خرج عليه الخارجون . فقال في المؤتمر الخامس الذي عقد بعد هذه الفتنة بأكثر من سنتين " أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم : اسمعوها مني كلمة داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع – إن طريقكم هذا مرسومة خطواته ، موضوعة حدوده ، ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول .. أجل .. قد تكون طريقا طويلة . ولكن ليس هناك غيرها – وإنما تظهر الرجالة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب . فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال . وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات – ومن صبر معي حتى تنمو البذرة ، وتنبت الشجرة ، وتصلح الثمرة ، ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله ، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : أما النصر والسيادة وإما الشهادة والسعادة " . أفمثل هذا الرجل يرمي أخيرا بالتسرع الذي هو ليس من طبيعته ، وليس من دأبه ، بل ويتعارض مع ما جبل عليه من الأناة والحرص والحذر وبعد النظر وحسن التقدير . ولكن ما ذنب الحمل إذا كان الذئب قد قرر افتراسه فادعي أنه عكر عليه ماء البحر الذي لا يعكره ألف حمل ؟ ... سادسا – لقد كان حسن البنا – رحمه الله – أبخل الناس بدم الإخوان ووقتهم – وفي مواقف كثيرة كان يتصرف فيها تصرفا يصادم عواطف الإخوان ، حيث كانوا يرون في أنفسهم القوة الكافية لقهر المواقف .. ومع ذلك يرونه يتفاداه .. وكان يشرح لهم خطته التي تتلخص في أنه أضن الناس بقطرة من دم الإخوان أو بدقيقة من وقتهم ما لم يكن ذلك أمرا لا مفر منه .. لكن مادام أمامه مندوحة لتفادي ذلك فسيتفاداها مهما رمي بالضعف والمسألة .. فهل إنسان كهذا يرمي بالتسرع وتعجل النتائج ؟ سابعا – كان من المأثور عنه في خطبه العامة وفي دروسه الخاصة أنه كان يقول : نحن الإخوان ليس هدفنا نصرة الإسلام ، وإنما هدفنا الحصول علي رضا الله عز وجل . ولولا أن الحصول علي رضا الله عز وجل في نصرة الإسلام لما عملنا علي نصرته . إنسان هذه عقيدته وهذا هدفه ، عقيدة وهدف استبعدا كل ما يحجب صاحبهما عن وجه ربه ، من بريق لحلاوة النصر أو تطلع إلي العلو في الأرض فهو لا يري دائما إلا وجه ربه الكريم ... ومن علامات اعتصام إنسان بمثل هذه العقيدة أنك تراه مهما واتته الظروف ،وأفسحت له الأيام من سعتها ، ثابتا علي ما ألزم به نفسه من أول يوم من عيشة الكفاف ، والبعد عن الرفاهية والمتع ... وهذا الرجل كان يعيشفي آخر عهده بالحياة الدنيا – وقد صار أتباعه بمئات الألوف ، وصار اسمه تهتز له العروش ، وصار يجري بين يديه مئات الألوف من الجنيهات – نفس عيشة الكفاف التي كان يعيشها وهو شاب مجهول لا يعرفه أحد ، ولا يجري بين يديه إلا اثنا عشر جنيها هي مرتبه في الشهر . ولو كان الرجل يميل إلي الاستمتاع بالمال أو يتشوف إلي الاستئثار بالسلطة لكان أمامه مندوحة ، فكل ذلك كان متاحا له ما لم يكن متاحا لرئيس حكومة ولا لملك .. ولكنه رحمه الله كان يؤثر عيشة الكفاف ، ويزهد في السلطة ، ويري سعادته في الجلوس بين إخوانه علي الأرض ، يؤاكلهم أخشن الطعام ، ويلبس أخشن الثياب وأرخصها ثمنا ، ويبادلهم الرأي كأحدهم ، ولا يحملهم علي رأيه بل يحاول إقناعهم بالحجة والبرهان – مع أنه لو أمر لسارع الجميع إلي طاعته ، ولكن شهوة الحكم والتسلط لم يكن لها في نفسه مكان .. وكان إذا سافر من بلد إلي آخر ركب في الدرجة الثالثة من القطار ، مع أن الذين ينتظرونه علي محطة الوصول أكثر عددا ممن ينتظرون رئيس حكومة ، والذين يودعونه عند العودة مثل مستقبلية عددا ، والكل مدفوع إلي ذلك – لا خوفا من بطش ولا أملا في غنم – بل حب وتفان وإخلاص وإيمان . فهل مثل هذا الإنسان يرمي بالتهالك علي مظاهر الحكم والتعجل في الجري وراء المغانم ؟! .
• من واقع الأحداث :
قد تكون النقاط السبع الماضية التي ناقشنا فيها هذه الشبهة الزائفة تجنح في أكثرها إلي الناحية النظرية ، مما يتصل بطبيعة الفكرة وخصال الداعية الذي كان يقود مسيرتها ويرتاد لها الطريق . وتري إتمام المناقشة يقتضي أن نشفع ذلك باستنطاق الأحداث البارزة التي شغلت أكثر الوقت من الفترة التي هي موضع العتب ، ومحل اللوم ، ومثار الشبهة ، ومبعث الأقاويل . ومع أن هذه الأحداث قد ناقشناها من قبل في مواضعها علي أوسع نطاق فإننا هنا وفي هذا السياق نجمل مناقشتها علي ضوء الشبهة المفتراة فنقول : المواقف التي أبرزت الإخوان في المجتمع الدولي : يمكن إجمال المواقف التي أبرزت الإخوان في المجتمع الدولي في هذه الفترة في ثلاثة مواقف : (أ) موقفهم من ثورة اليمن . (ب) موقفهم من حرب فلسطين . (ج) موقفهم من تطورات الأحداث في مصر .
• موقف الإخوان من ثورة اليمن :
لا نري داعيا لإعادة القول في اليمن وطريقة حكم الإمام يحيي فيه والحياة التي كان يعيشها الشعب اليمني التي جعلت كتاب للغرب الذين زاروا اليمن في ذلك الوقت يقولون أن اليمن يعيشفي عهد ما قبل الثورة ... فهل إذا قام أحرار من مثقفي أهل اليمن بثورة علي هذه الأوضاع التي يأباها الإسلام ، وتنفر منها الإنسانية – وقد بايع الشعب هؤلاء المثقفين – واستغاث هؤلاء المثقفون بالإخوان باعتبارهم الهيئة الإسلامية المستنيرة التي تدعو إلي الحكم الإسلامي الصحيح ، يطلبون منها معاونتهم في إرساء حكم إسلامي في بلادهم – وهم حكومة بيدهم مقاليد الأمور – فهل يتنكر الإخوان لدعوتهم ويتقاعسون عن إعانتهم وهم أقدر الناس علي هذه الأعانة .. وهم لم يطلبوا من الإخوان جيشا ولا أسلحة وإنما طلبوا منهم تأييدا معنويا ، ومعاونة بالرأي في تدبير الأمور علي أساس من النظام الإسلامي ؟ وينبغي هنا أن يتذكر القارئ ما جاءفي ختام رسالة " نحو النور " التي بعث بها الإخوان في عام 1937 إلي حكام الدول الإسلامية وأصحاب الرأي فيها إذ يقول الإخوان " وبعد .. فهذه رسالة الإخوان المسلمين نتقدم بها ، وإنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نملك تحت تصرف آية هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بأمة إسلامية نحو الرقي والتقدم ، نجيب النداء ، ونكون الفداء . ونرجو أن نكون قد أدينا بذلك أمانتنا وقلنا كلمتنا ، والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين ، وعامتهم وحسنا الله ونعم الوكيل " . لقد كان الإخوان مخيرين بين أمرين لا ثالث لهما ، إما أن يستجيبوا لطلبهم ، وفي ذلك إرضاء لله ورسوله وإنقاذ لشعب مسلم مغلوب علي أمره ، وفي ذلك أيضا تجاوب مع دعوتهم وصدق لما عاهدوا الله عليه .. هذا لإنقاذ فرد .... فما بالك إذا كانت الإغاثة لإنقاذ شعب بأسره ؟ ... وإما أن يقعدوا عن إجابة طلبهم ، ويتخاذلون عن إغاثتهم – كما فعلت الجامعة العربية والمسيطرون عليها في ذلك الوقت – فيكون في ذلك مايثبت للناس وللإخوان أنفسهم أنهم كانوا كاذبين في ادعائهم حمل لواء الدعوة الإسلامية . ولو أنهم فعلوا ذلك لفقد الناس ثقتهم فيهم ، ولفقد الإخوان ثقتهم في أنفسهم ، وقضوا بذلك علي الدعوة الإسلامية بتقاعسها علي أية فكرة أو دعوة – كما قدمنا – وهو القضاء عليها في نفوس الناس.. وكل الخطوب تهون أمام هذا الخطب .
• موقف الإخوان من حرب فلسطين :
وقد لا يحتاج الإخوان إلي من يجادل عنهم في هذا الموقف ولا إلي مزيد بيان ، فإن هذه الحرب لا تزال هي موضوع الساعة في مصر وفي البلاد العربية وفي العالم كله .. وإذا كان الإخوان هم أول من خف إلي أداء واجب الدفاع عن هذه الأرض المقدسة – ولم يكون في هذا طارئين علي الموقف ولا مدعين – فقد كانوا منذ كانت دعوتهم نبتا صغيرا حرس هذه الأرض والذائدين عن حياضها ... وإذا كان تطوعهم للدفاع عن فلسطين واستبسالهم في الذود عنها قد ظهر للعالم بطولات قلما يجود الزمن بمثلها وصارت حديث الأعداءقبل الأصدقاء .. وإذا كان ذلك قد أحنق حكاما وأصحاب عروش في قلوبهم مرض ، فنظرا إلي هذه البطولات نظرة حقد وضغينة ... فما ذنب الإخوان في ذلك وه يؤدون واجبا ما تخلفوا عن أدائه يوما من الأيام ؟ . علي أن المجد الذي اكتسبه الإخوان من هذه الحرب لم يكن هو هدفهم يوم تطوعوا لها وتركوا وظائفهم وأعمالهم وبيوتهم وتجارتهم وأولادهم .. وإنما كان هدفهم أداء الواجب ، وتحقيق أمل طالما تعشقوه وهو أن يحوزوا شرف الموت في سبيل الله .. وإذا كانت هذه الحرب لم تحقق ما كان يأمله كل عربي مسلم من تحرير الأرض المقدسة من دنس الصهيونية ، وكانت الهزيمة لأسباب لم يكن للإخوان يد فيها ، ولم يكن في استطاعتهم دفعها ، فإن تقدم الإخوان الصفوف قد هز مشاعر المخلصين من أبناء الأمة الإسلامية ، وأحرج صدور المستوزرين وأصحاب السلطة والنفوذ في الحكومات العربية . وعلي المعترضين علي تطوع الإخوان فيفلسطين – ناسبين كل ما حدثمن تألب أصحاب النفوذ في العالم عليهم إلي بروزهم في هذه الحرب – علي هؤلاء المعترضين أن يستعرضوا تاريخ هذه القضية ، وكيف استطاع الإخوان أن ينقلوها منن عالم المجهولات في أوائل الثلاثينيات إلي قمة المعلومات في أواخر الأربعينيات .. وما كانوا ليحققوا ذلك بالجلوس في بيوتهم ونواديهم وإرسال الحسرات علي فلسطين وأهلها كما كان يفعل أخلص المخلصين من غير الإخوان . ماذا كان يريد اللائمون أن يكون موقف الإخوان إزاء هذه القضية غير ما كان لهم من موقف ؟ .. هل كانوا يريدونهم أن يقفوا موقف الجبن والتخاذل خوفا من أن يزداد الملك وذيوله والمستعمرون من ورائهم حقدا عليهم ؟ .. إنهم لو فعلوا ذلك لكانوا كالذي حفر لنفسه قبرا ووأد نفسه فيه خشية أن يراه أعداؤه ومنافسوه فيحقدوا عليه ويحسدوه ... ولكن الإخوان قد استجابوا لنداء الواجب ، ووطنوا أنفسهم علي تلقي ضربات الحاقدين ، موقنين بأن لكل تضحية ثمنا في الدنيا والآخرة ، وبأن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا علي الظالمين .. فضحوا بأعز ما يملكون ، فأحيت هذه التضحية قضية فلسطين حياة لن تموت بعدها .. أحيتها فيضمائر جبل يورثها الأجيال من بعده .. وأحيت الفكرة الإسلامية وخلدتها بحيث صارت واضحة في نفوس الناس وعقولهم وبحيث صارت النقل الراجح في ميزان السياسة العالمية .. وعن طريق هاتين تمخض تاريخ هذه البقعة من العالم عن أحداث جسام لازلنا نعيش حتى اليوم في حلقة من حلقاتها .
• موقف الإخوان من تطورات الأحداث في مصر :
وقد جلينا الكثير من هذا الموقف وأفضنا في الحديث عنه من قبل ، ونستطيع الآن أن نوجزه إذا تصورنا أن محاور هذه الأحداث كانت ثلاثة هي الانجليز والملك والأحزاب ، أما الانجليز فقد كان الإخوان يعلمون أنهم أصل البلاء ، وأنهم من وراء كل فساد وإضلال وخيانة ومحاولات للقضاء علي القيم وطمس معالم الدين ، كما كان الإخوان يعلمون أن الانجليز من أقدر الناس علي بث الدسائس وحبك المؤامرات .. فكانت سياسة الإخوان قائمة علي أساس من الاستخفاء بالدعوة طالما هي في مهدها ، حتى لا تنتبه لها عيون الانجليز فتقضي عليها قبل أن نري نور الحياة ، فلما شبت الدعوة واشتد عودها انتبه الانجليز لأول مرة فرأوها في طور لا يسهل إقتلاعها فيه ، فلجأوا إلي أساليب أخري من الدس والوقيعة والضرب بيد الغير ، ولكن الإخوان كانوا في يقظة فلم تفلح مكابد الانجليز ولم يستطعوا أن ينالوا من الإخوان نيلا يوقف تيار دعوتهم أو يحد من مجها الغامر . وهنا فوضوا صديقهم المقرب في ذلك الوقت – أمين عثمان باشا وكيل وزارة المالية – في الالتقاء بالمرشد العام . وبناء علي طلب أمين عثمان تم اللقاء ، وكان لقاء في منتهي الوضوح والصراحة من الجانبين . فقال أمين عثمان : أن الانجليز قوم عمليون .. فهم قد خدعوا بقيام دعوة الإخوان في غفلة منهم ، وقد أصبحت هذه الدعوة أمرا واقعا لا يمكن تجاهله .. فهم يريدون أن يتفاهموا مع هذه الدعوة .. فماذا يريد الإخوان ؟ وكان رد الأستاذ البنا هو أن الإخوان ليسوا طلاب حكم ، ولا هواة مناصب ، إنما هم أصحاب فكرة ولهم برنامج محدد . وليس هذا البرنامج من وضعهم حتى يستطيعوا أن يعدلوا فيه أو ينقصوا منه أو يزيدوا عليه – لأنه من وضع الله خالق الكون .. وشرح الأستاذ البنا هذا البرنامج بإيجاز . وقال لأمين عثمان : أنك بلا شك قد لاحظت أن هذا البرنامج لا يهدف إلا إلي إصلاح الناس وخير الإنسانية ، وأنت باعتبارك مختلطا بالانجليز سمعتك تقول إنهم يريدون الخير والإصلاح ، فماذا يضيرهم أن تأخذ الدولة في مصر بهذا البرنامج ؟ . ولما كان قصد الانجليز من التفاهم هو التلويح بمناصب الحكم ، باعتبار أن هذه المناصب هي أسمى ما يتطلع إليه الزعماء ، وأن مجرد بريقها والتلويح بها كاف لإسالة لعاب أعظم الزاهدين .. ولما كان الأستاذ البنا يفهم قصد الانجليز ، فقد جاء رده جامعا مانعا كما يقولون أو بمعني أدق جاء رده موئسا ، فلم يجد الانجليز ثلمة يدخلون منها إلي البناء الإخواني ليخربوه من داخله ، وهي الوسيلة التييعلم دهاة الانجليز أنها الوحيدة التييمكن عن عقولها عن طريق إحداث التخريب الذي يستحيل معه الإصلاح .. وكان هذا هو هدفهم من طلبهم التفاهم مع الإخوان . ومنذ ذلك اليوم – وقد يئسوا من الحصول علي فرصة تخريب الإخوان من داخلهم – وضع الانجليز خطة جديدة علي أساس الواقع الذي لمسوه – علي حد القةل السائر : ما لا يدرك جله لا يدرك كله .. وإذا فاتتهم فرصة التخريب من الداخل .. وهي الفرصة المثلى – فلا يفوتهم فرص التخريب من الخارج ، وإن كانت ليست حاسمة ولا قاصمة لكنها معرقلة ومعوقة .. وقد استطاع الانجليز عن هذا الطريق وضع العراقيل – كما شرحنا ذلك من قبل – في طريق مشروعي الجريدة اليومية والمطبعة وبأساليب التآمر الأخرى ، وأصروا علي إبقاء جيش احتلال لهم في قلب القاهرة .. ورد الإخوان علي ذلك كله بأعمال إيجابية أشرنا إليها أيضا مما اضطر الانجليز أخيرا إلي سحب جنودهم من القاهرة إلي ثكناتهم الضح\خمة في القتال .. فتتبعهن يشعرون لأول مرة أنهم مهددون غير مستقرين .. وهذا الشعور أوجد عندهم استعداد للتفاهم علي الجلاء . ومن هنا يتبين أن النضال بين الإخوان وبين الانجليز ليس وليد أعوام 1946 ، 1947 ، 1948 كما يعتقد كثير من الناس وإنما هو بدأ بصورة جدية في أوائل الأربعينيات حين يئس الانجليز من اصطياد الإخوان والإيقاع بهم في شرك مناصب الحكم التي أوقعوا فيه كل زعماء البلاد .. وكان النضال من جانب الإخوان في صورة نشر الوعي الوطني والإسلامي في جميع الأوساط الشعبية ، في صورة توضيح القضايا التي تعاني منها الشعوب الإسلامية في أنحاء الأوساط الشعبية ، في صورة توضيح القضايا التي تعاني منها الشعوب الإسلامية في أنحاءالعالم ، وتجميع القوى الشعبية من ورائها ، وفي صورة فضح أساليب الاستعمار البريطاني في المشرق العربي ، وأساليب الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي ، وفي صورة متابعة قضية فلسطين بكل أساليبه المتابعة التي وضحناها من قبل . أما نضال الانجليز ضد الإخوان فكان في صورة دسائس ومؤامرات لا تكاد تفشل واحدة حتى تتبعها بأخرى مستخدمة في ذلك صنائعها من حكام مصر . فلما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في عام 1945 ، وكانت الفرصة التي لا تعوض لمطالبة كلشعب بحقوقه المسلوبة . وجاء دور المطالبة بحقوق مصر في الحرية والاستقلال ، انتظم الإخوان في صف المناضلين عن هذه الحقوق . فهل كان يريد اللائمون أن يقف الإخوان من الانجليز غير هذا الموقف ؟ هل كان علي الإخوان أن يسالموا الانجليز أو يهادنوهم ؟ وطبيعة الانجليز التي وصفهم بها أحد كبار ساستهم أنهم إذا احتلوا بلادا لم يغادروها إلا إذا وجدوا أن خسائرهم فيها تفوق مكاسبهم منها ؟! . إن الإخوان لو كانوا فعلوا ذلك لكانوا خونة لدعوتهم ولبلادهم ، ولكانت جريمتهم في ذلك تكون جريمة تاريخية يرويها التاريخ مثالا للجبن والنفاق والتخاذل والتفريط . هذا ما كان من شأن الإخوان مع الانجليز .. أما الملك والأحزاب – ولقد أشبعناهما من قبل درسا وتمحيصا – فإن إيجاز موقف الإخوان منهما يتلخص في أن الإخوان لم يقفوا منهما في يوم من الأيام موقف المهاجم ، لكنهما مع ذلك اعتبرا مجرد وجود دعوة الإخوان هجوما عليهما ، علي حد القول المأثور : " يكاد المريب يقول خذوني " . وكم يكون جميلا من إخواننا الذين يعتبون علي الإخوان أنهم تسرعوا .. أن يراجعوا صفحات التاريخ ، وليس هذا التاريخ ببعيد ثم يخبروننا : هل هاجم الإخوان الملك أو الملكية في جرائدهم أو في منشوراتهم أو خطبهم ؟ هل وجهوا إلي الملك شتما أو سبا أو أوعزوا إلي من يسبه كما فعل آخرون ؟ .. إن شيئا من ذلك لم يحدث ، وما كان ليحدث من دعوة تقوم علي عفة اللسان وطهارة القلب والجوارح . كما أرجو أن يراجعوا صفحات التاريخ ليبحثوا هل هاجم الإخوان حزباً معينا ؟ .. إنهم لن يجدوا هذا الهجوم قط ؛ لأن الإخوان دعاة بناء لا دعاة هدم .. كل جهودهم موجهة إلي توضيح فكرتهم لينضم إلي صفوفهم من يقتنع بها .. وكانوا يتمنون أن تقتنع هذه الأحزاب بالفكرة الإسلامية فيكونوا عوامل بناء وإصلاح .. فلما يئس الإخوان من إقناعهم توجهوا بفكرتهم إلي أفراد الشعب فاستجاب لهم الكثيرون .. وقد اعتبرت الأحزاب هذه الاستجابة من أفراد الشعب إلي دعوة الإخوان هجوما عليهم . فهل كان علي الإخوان أن يصدوا الناس عن دعوتهم لإرضاء هذه الأحزاب ؟ وهل إذا أنس أحد السياسيين المحترفين في الإخوان قوة تحمي ، فالتجأ إليهم طالبا حمايتهم ، معاهدا علي أنه حين يتولي الوزارة سيطالب الانجليز بالجلاء ، وإذا لم يستطع إجلاءهم فإنه يستقبل .. هل إذا طلب مثل هذا السياسي الحماية من الإخوان علي هذه الشروط يرفضونه ويتخلون عنه أو يمنحونه فرصة يتبين في خلالها صدقه من كذبه ؟ .. هذا ما فعله الإخوان مع إسماعيل صدقي .. ويوم تبين لهم أنه لم يف بما تعهد به ، وأنه يريد التصبت بأهداب الحكم أرغموه علي تركه . هل بعد هذا مأخذا به الإخوان والله تعالي يقول : ( ) فالإخوان ليسوا طلاب مناصب ، ولا هواة سلطة ، وإنما هم من وراء كل من يعمل علي تحرير البلاد من ربقة الاستعمار أيا كان هذا العامل . وبعد ... فلعل هذه المناقشة السريعة قد أوضحت بأجلي بيان أن الإخوان حتى آخر يوم قبل الحل كانوا يسيرون في حدود الطريق الذي رسموه لدعوتهم منذ كانت مجرد أمل في النفوس ، لم يحيدوا عن هذه الحدود ،ولم يقصروا عنها ، ولم يقفزوا فوقها شبرا واحدا ، ولا قيد أنملة ، وإنما كان التشكيك في هذا الالتزام هو من حبائل الشياطين ومكايدهم – شياطين الإنس الذين تفرقوا في دسائسهم ووساوسهم علي شياطين الجن . ( ) .
حتى أئمة الدعوة الإسلامية في أقاصي الأرض حاصرتهم الشبهة اللعينة
كان هذا في النصف الأخير من عام 1950 ، حين يسر الله لي أن أؤدي فريضة الحج في رفقة والدي ووالدتي وسيدة كانت صديقة لوالدتي .
• من مشاهداتي في رحلة الحج :
وهنا أبيح لنفسي – قبل أن أواصل الحديث فيما نحن بصدده ، والشيء بالشيء يذكر – أن أستطرد قليلا فأعرض علي القارئ بعض مشاهداتي في هذه الرحلة المقدسة فأقول : أن استعداد المسلم لأداء فريضة الحج ، وتوفر كل أسبابه لديه ، لا يكفي وحده لأدائها إلا أن يشاء الله .. فقد كنت أحد أفراد أول بعثة أوفدتها الجامعة المصرية في عام 1937 لأداء فريضة الحج ، وقدمت إلي إدارة البعثة ما حددته من رسوم ، وأعددت كل ما يلزم الحاج في رحلته من لوازم ، ولكن لم يشأ الله أن أؤدي الفريضة لسبب غاية في الغرابة ليس هنا مجال الإشارة إليه . ولكنني في عام 1950 بعد أن انهيت عملي في موسم القطن في الصعيد نزحت إلي بلدتي رشيد لقضاءفترة من أجازة الصيف ، ففوجئت حين وصلت بوالدي وقد أعدا نفسيهما للحج ، وطالبا أن أرافقهما فقلبت في الحال – وما كان لي أن أتخلف عنهما .. غير أني باعتباري داعية من دعاة الفكرة الإسلامية لم يكن هدفي مجرد أداء الفريضة ، وإنما كان هدفي أبعد من ذلك مدي ، فقد عزمت علي استغلال هذه الرحلة المقدسة في دراسة المجتمعات الإسلامية التي تكاد تجتمع كلها في خلالها . وكان السفر عن طريق البحر . وقد رغبنا في حجز أمكنة لنا في الدرجة الثانية علي السفينة ، ولكن يبدو أننا تأخرنا في طلب هذه الأماكن فقد حجزت جميعا ، ولم يكن بد من السفر في الدرجة الثالثة . وكان هذا متوائما مع هدفي الذي أشرت إليه .. ففي الدرجة الثالثة تستطيع أن ترقب القلة القليلة من أهل الدرجتين الأولي والثانية ، وكذلك تختلط وتعيش مع الغالبية الغالبة وهم أهل الدرجة الثالثة الذين يمثلون جمهور الشعب بكل ما فيه . وإلي القارئ بعض ما صادفني في هذه الدراسة : أولاً – بعد أن تقدمنا بطلب التصريح لنا بالحج ، بلغني أن بعض المسئولين من رجال الإدارة يتقاضون رشوة في مقابل إدراج الطلب المقدم ضمن الطلبات المصرح لها .. فساءني ذلك ، وأعلنت أمام الناس أنني لن أدفع رشوة ولو أدي ذلك إليسحب طلباتنا – ويبدو أن إعلاني ذلك بعث الخوف في نفوس المرتشين فمرروا طلباتنا دون رشوة .. ولعمري إنها لكارثة أن يبدأ المسلم عبادته بارتكاب إثم عظيم . ثانيا – لما كانت هذه المرة الأولي التي نقوم فيها بهذه الرحلة المقدسة ، فقد رأينا أن نستأنس بمصاحبة بعض ممن سبق لهم القيام بها من قبل ، فتعرفنا علي ثلاثة أشخاص من أهل الإسكندرية سبق أن حجوا ثلاث مرات ، وكانت تربطنا بأحدهم صلة نسب . وقد أثبتت لنا هذه الرحلة أن الاختيار الصحيح الذييكشف حقيقة الأصدقاء هو مرافقتهم في رحلة شاقة وطويلة ، فإنك تسمع من أكثر الناس ما يثير إعجابك ، وما يثلج صدرك .. حتى إذا جمعت بينك وبينهم رحلة شاقة سقطوا من عينك واحد بعد الآخر ، ولم يثبت في مكانه منهم إلا أقل القليل .. فهؤلاءالثلاثة الذين ملأوا الدنيا وعودا أنهم سيحملون عنا كل الأعباء طول فترة الحج تخلوا عنا من أول يوم أفلتنا وإياهم السفينة . وقد ساءنا هذا ، لكنه عاد علينا بفوائد كبيرة ، فإن تحمل المرء مسئولية نفسه يبعث فيه قوة يواجه بها المواقف ، ويجابه بها المشاكل وينتصر عليها .. وإن كان في ذلك اقتطاع من الوقت والجهد إلا أن الإنسان يشعر بلذة وسعادة تعوض هذا الوقت وتنسي هذه المشقة ، إذ يخرج بحصيلة من فهم للأمور ، وكسب لأصدقاء ، وبث لأفكار .. وقد كان لي ذلك كله والحمد لله . ثالثا – قطعت بنا السفينة المسافة بين السويس وجدة في ثلاثة أيام قضيتها – إلا فترات النوم – علي ظهر السفينة أتصل بجميع الراكبين ، إشي مجالسهم ، وأستمع إلي أحاديثهم ، وأنتقي منهم من أتوسم فيه الخير فأنتحي به جانبا ، وأعقد معه ما يشبه الصداقة . رابعا – كان أحد الذين انتقيتهم رجل فارع الطول ، عريض المنكبين جهوري الصوت ، مرهوب الجانب ، لكنني أحسست أن هذه المتسمة بالعنف إنما تطوي علي قلب سليم . وحين جلست إليه أخبرني باسمه الذي نسيته الآن ، وأخبرني أنه تاجر مواش من طنطا .. وفهمت منه أنه لا يعرف من أمور الدين شيئا ، وأنه يقوم بأداء الحج كما يقوم زملاؤه حتى لا يكون أقل مكانة منهم في نظر أهل بلده – وكانت صراحته معي دليلا عندي علي أنه منطو علي قلب سليم . وهذا الصنف من الناس هم كالخامة الثمينة ألقيت في القذر حتى تلوثت وطمس جمالها وشاهت وبدت بشعة مرذولة ، تعافها النفوس . فإذا وجدت من تحامل علي نفسه ، ويغالب اشمئزازها ، فيتناولها ويزيل ما عليها من القذر ، فإنه سيكشف عن حقيقتها ، ويبرز معدنها فتبدوا متألقة أخاذة . وهكذا كنت مع هذا " الحاج " . ما كدت أتحدث إليه فيشأن الحج ومعانيه حتى أقبل علي ، وتعلق بي ، إلي حد أنني كنت أذا غبت عنه بحث عني ليستمع إلي .. ولم أكن في كل مرة أطيل معه الحديث عملا بما أثر الصحابة رضوان الله عليهم من قولهم : " كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة ... وقبل أن تصل السفينة إلي الشاطئ في جدة – حيث يفترق الحجيج – عاهدني الرجل علي التوبة . خامسا – مكثنا في المدينة أسبوعين قبل الحج ، وكانت دورة المياه الخاصة بالحرم النبوي منفصلة عنه ولكن ميناها قريب من مبني الحرم . ولم أكن دخلت هذه الدورة طول مدة إقامتنا بالمدينة ، فرأيت في آخر يوم أن ألقي نظرة علي هذه الدورة – ودخلتها فإذا هي محتشدة – وبينما أنا واقف أقلب نظري في الناس إذا بصوت ضعيف ينادي باسمي ، وكأن الذي ينادي ينادي من قريب . ولما كان اسم " محمود " من الأسماء المنتشرة بين المسلمين ، ونظرت فإذا المنادي شخص أعرفه ، فقد اعتقدت أنه ينادي شخصا غيري .. وكرر المنادي النداء ولم أرد عليه ، حتى رأيته يتجه نحوي حتى صار قبالتي ، ومد يده إلي مصافحا فصافحته وأنا لا أعرفه ، فقال ألا تعرفني ؟ فلما رأي وجهي علامة الاستغراب قال : أنا أعذرك في عدم معرفتك أياي ، فقد تغيرت تغيرا تاما .. إنني أنا فلان – فإذا هو صديقي تاجر المواشي ، غير أنه قد انتحل جسمه حتى صار جلدا علي عظم ، وشحب لونه ، وبرزت عظامه .. فهالني ما به ولكنه سارع قائلا : لا تحزن لما حل بي ، فوالله أنني أسعد الناس بهذا .. فبعد أن افترقنا في جدة ودخلت المدينة ، دخلتها وأنا عازم علي التوبة .. ولم يمر علي بعد ذلك يوم واحد حتى مرضت واشتد علي المرض حتى فقد وعيي ، ويئس زملائيمنيبعد أن بذلوا جهدهم في علاجي ، وظللت أغالب سكرات الموت أياما ، ويغمرني شعور بالسعادة أن ألقيربي تائبا .. ولم تكن لي أمنية إلا أن أراك قبل ن أموت ؛ لأنك صاحب الفضل في هدايتي .. ولكنني كنت يائسا من تحقيق هذه الأمنية .. وشاء الله لي أن أبرأ من المرض منذ يومين ، فعزمت علي أداء الصلاة فيالحرم .. فإذا بأمنيتي تتحقق وألقاك الآن . فقلت له : أبشر فقد ذكرتنب هيئتك التي أنت عليها الآن بالحديث القدسي الشريف الذي يقول فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم عن ربه : " إذا مرض عبدي فلم يشكني إلي عواده ، فلأبدلنه لحما خيرا من لحمه ودما خيرا نمن دمه " قال الصحابة : وما لحم خير من لحمه ودم خير من دمه ؟ قال : " لحم لم يذنب ودم لم يذنب " . سادسا – قفلنا إلي مكة لنقيم بها حتى يحين موعد الحج ، ونزلنا في منزل المطوف ، وهو منزل كبير ينزل به أكثر من خمسين حاجا من مختلف بلاد مصر .. فرأيت في خلال فترة إقامتنا هذه عجبا .. رأيت من هؤلاء الحجاج الذين حجوا المرات ذات العدد من يسبون الدين ، ورأيت منهم من لا يؤدي الصلاة ، ويقضون أوقاتهم في الطعام والشراب واغتياب الناس والتنابز بالألقاب والتباعي بعدد الحجات . أما خارج بيت المطوف وفي شوارع مكة ، فقد كنت أري صعاليك المصريين يتطاولون علي الحجاج الهنود ، ويسخرون منهم ، ويتغامزون عليهم ؛ ذلك أن الحجاج الهنود يأخذون بالطريق الأشد فيهلون – عند وصولهم من بلادهم لأول ميقات – يهلون بالحج . ومعنيذلك أنهم يدخلون لأول حضورهم من بلادهم – مكة محرمين ، ويظلون ملتزمين بشروط الإحرام مدة تزيد عن الشهر قبل أن يحل موعد الحج ، فتطول شعورهم ، وتغظم لحاهم وتتشعث ، وتنسخ ملابس إحرامهم – قاصدين بهذا التقشف والحرمان وجه الله .. فلا يكون من سفهاء المصريين الذين لا يفهمون معني الحج إلا التندر عليهم ، والسخرية منهم ، ورشقهم بألفاظ نابية .. وحتى الحجاج الهنود أو الماليزيون غير المحرمين – وملابسهم الوطنية تختلف عن ملابسنا – لا يسلمون من ألسنة الحجاج المصريين الجهلة ، فلقد كنت واقفا مع وكيل وزارة التعليم في باكستان أتحدث معه ، فمر بنا بنفر من هذا الصنف أخذوا يستهزئون بالرجل ويضحكون منه ، معتمدين علي أنه لا يفهم ما يقولون . سابعا – كان أكثر هميمنصبا علي الاتصال بالحجاج من البلاد الإسلامية غير العربية ، لاسيما الباكستان التي كانت في ذلك الوقت دولة ناشئة لم يمض علي إنشائها إلا نحو ثلاثة أعوام .. وقد أتيح لي الاتصال بحجاج باكستانيين من مختلف الطبقات ، وقد فهمت من لقائي معهم وحديثي إليهم عن حقيقة أحوال بلادهم ما لم أفهمه من قراءاتي ومطالعاتي في الصحف والمجلات . ومما كان يقربني إلي نفوس هؤلاء القوم من المسلمين غير العرب ويفتح لي قلوبهم ، أنني في خلال حديثي إليهم باللغة الانجليزية كنت أصدع بالآية والآيتين من كتاب الله – باللغة العربية طبعا – فألمح في بريق عيونهم وتألق جبينهم حين يسمعونها كل معاني الأخوة والمودة والحب – وكان هذا مصداق ما حدثنا به أستاذنا الإمام – رحمه الله – مرجعه من حجته الأولي عام 1936 وأشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الكتاب من أن بقاء القرآن الكريم بألفاظه العربية صار هو الرباط الوحيد بين المسلمين في أنحاء الأرض مهما اختلفت ألسنتهم ، وتعددات ألوانهم ، وتباينت لغاتهم ، وهو الرباط الوحيد الذي أعيي المستعمرين بعد أن قطعوا أوصال الأمة الإسلامية ولم يبقوا منها علي شيء . ثامنا – لاحظت أن أكثر الذين يعزمون علي أداء فريضة الحج يستعدون لذلك ويعدون لها كل ما يلزم الحاج من زاد وعتاد مادي ، فهو يحضر النقود التييحتاجها السفر والانتقال والسكن وشراء الهدايا ، وبعد الملابس التي يرتديها هناك من زي عادي وملابس للإحرام ، وربما أعد لنفسه زادا من الطعام يكفيه طيلة الرحلة .. ولكن لا يخطر بباله أن يعد نفسه روحيا لهذه الرحلة المقدسة التي هي من أولها لآخرها رحلة روحية عبادية .. فأكثر الحجاج المصريين ال1ذين قابلتهم لا يعرفون من مناسك الحج شيئا ، ويعتمدون في ذلك علي من يسمون في مكة والمدينة " بالمدعين أو المطوفين " الذين يقودونهم لأداء المناسك كما يقاد القطيع .. ولكثرة عدد هذا النوع من الحجاج الذين يفدون إلي مكة وإلي المدينة اعتقد المطوفون الجهل في جميع الحجاج . ولا أنسي أننا حين نزلنا من المدينة إلي مكة مُحرمين . دخلنا مكة في ساعة متأخرة من الليل ، فلما دخلنا منزل المطوف سألته عن الطريق الموصل إلي البيت الحرام فلم يرد علي سؤالي ونادي علي أحد موظفيه وهو شاب يكاد يكون أميا وقال لي : سيروا خلفه ورددوا كل ما تسمعون منه . فأغضبني كلام الرجل وقلت له : يا سيدي لسنا جهلة حتى نحتاج إلي مثل موظفك هذا ، وليعلم موظفك هذا أن مهمته تقتصر معنا علي أن يدلنا علي طريق البيت الحرام أما المناسك وأما الأدعية فنحن أعلم بها منه . تاسعا – لازالت تطن في أذنيحتى اليوم عبارة كررها والدي – رحمه الله – علي سمعي مرات كثيرة في أثناء قيامنا بأداء مناسك الحج من إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة ورمي للجمرات .. تلك هي قوله لي : يا محمود أنا لم أندم علي شيء كما ندمت علي أن أجلت أداء هذه الفريضة حتى كبرت ووهن عظمي ، فإن الحج عبادة الأقوياء . عاشرا – عندما عاد الأستاذالإمام – رحمه الله – من الحج أخذ يصف لنا المواقف التي وقفها ، وكان الموقف الذي أسهب في وصفه . وأطال الحديث عنه ، وحلق بأرواحنا في سماء شعوره ، موقف صعوده علي جبل الرحمة بعرفات ، حين أخذيدعو ربه ، ويبتهل إليه ، ويستمطر فضله .. حتى قال لنا : إنني أحسست برحمة الله ورأيتها بعيني ولمستها بيدي ... وقد وقع منا هذا الوصف إذ ذاك موقع الاستغراب .. فإننا لم نجرب في الأستاذ المبالغة ولا الادعاء ،و لكننا لم نتصور ما يقول .. ولهذا كنت شديد الشوق إلي رؤية هذا الجبل ، وإلي صعوده ، وإلي مناجاة الله عز وجل والابتهال إليه وأنا علي قمته ... فلما انتقلنا إلي عرفة ، وقاربت الشمس الغروب ، صعدت علي هذا الجبل الصخري الوحيد في أرض عرفات الرملية المنبسطة الشاسعة حتى صرت علي قمته ، وأخذت أدعو وأبتهل وألجأ إلي الله واستمطر رحمته ، وأرجو فضله ، حتى غمرني ما غمر الأستاذ رحمه الله ولمست ما لمس ، وأحسست بما أحس به ، ونعمت بما نعم به " وما رأي كمن سمعا " . لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
• بيت القصيد :
الحادي عشر – وهو بيت القصيد فيما قصدنا إليه من عنوان هذا الموضوع .. فبعد أن سعدنا بزيارة النبي صلي الله عليه وسلم بالمدينة المنورة ، استقر بنا المقام في مكة المكرمة قبل الوقوف بعرفة بنحو شهر ، استمتعنا في أوله أياما بما يطمح إلي كل حاج من ملازمة المسجد الحرام ودوام الطواف ، ثم ابتلينا بمرض أصاب الرفقاء جميعا سواي ، فكان علي أن أقضي في تمريضهم طوال اليوم ، فكنت لا أكاد أسعد بالصلاة في المسجد الحرام إلا صلاتي المغرب والعشاء .. واستمر هذا الحال حتى انتهي الحج ورجعنا إلي ديارنا . وقد لاحظت في أيام متتالية بعد صلاة المغرب أن أفرادا من الحجاج يلقون درسا ويلتف بعض الحجاج حولهم يستمعون لما يقولون ، ويتقدمون إليهم بالأسئلة في نهاية الدرس فيجيبون عليها . وكل محاضر يتخذ له عمودا من أعمدة المسجد يجتمع بالناس حوله .. ورأيت في ليلة من الليالي أن استمع إلي درس من هذه الدروس . وكان الذي يلميه شابا هنديا يتكلم العربية الفصحى . وقد لاراعني ولفت نظري أن أسلوبه في الحديث وأهدافه التي يهدف إليها قريبة جدا من أسلوب الإخوان وأهدافهم .. حتى إذا انتهي من درسه أبدي استعداده للإجابة علي أسئلة الحاضرين ، وسأله أكثر من واحد وأجابهم ثم تقدمت إليه بسؤال ، فالتفت إلي قائلا : إنني لا أستطيع الإجابة علي سؤالك هذا ، فرجائي أن نلتقي بعد صلاة العشاء لأقابلك بمن هو أوسع مني علما من إخواني ليجيبك علي سؤالك . وبعد صلاة العشاء قابلني الشاب المحاضر بشاب أكبر منه سنا ، ذي لحية ويرتديبزي العلماء الأزهريين وعرفني به وقال لي إنه أمير جماعتنا في فترة الحج . ودار الحديث بيننا طويلا ثم قال في نهاية اللقاء : يا أخي .. إن سؤالك هذا ينبئعن أن السائل ليس شخصا من غمار المسلمين ، وإنما هو صاحب دعوة وإنسان له دراية وتاريخ ، ولسنا جميعا هنا إلا تلاميذ لا ينبغي لنا أن نتصدي لمناقشة أساتذة .. وسيحضر أستاذنا الأكبر في يوم كذا (حدده) إن شاء الله ، وستقدمك إليه لتناقشا معا – ثم طلب إلي أن أقوم بإلقاء درس كما يقومون ، فاتخذت لي عمودا وصرت ألقي درسا حول كل ليلة . وفي إحدى الليالي بعد انتهائنا من صلاة العشاء أخبروني بأنهم سيقومون برحلة دعوة في صباح اليوم التالي إلي ضاحية من ضواحي مكة تسمي " وادي فاطمة " وطلبوا إلي أن أرافقهم فاعتذرت بالظروف التي أشرت إليها آنفا . وسألتهم عن وادي فاطمة فقالوا : إن سكان هذه الضاحية – بالرغم من مجاورتها لمكة – خلال الأذهان عن أبسط قواعد الإسلام ، حتى أن كثيرين منهم يعتقدون أن محمدا صلي الله عليه وسلم هو الإله . وقالوا – عن تجربة لهم سابقة في هذه الضواحي – إن أهل هذه الضواحي في أمس الحاجة إلي من ينشر الإسلام بينهم كأنهم من أهل الفترة .
• السيد أبو الحسن علي الندوى :
وفي الليلة التي تعرفت فيها علي أمير الجماعة أعطاني مجموعة من الرسائل المطبوعة وقال لي إنها من وضع أستاذهم . وهي رسائل صغيرة الحجم لا تعدو الواحدة منها بضع ورقات . وقد طالعت هذه الوسائل فوجدتها قريبة الشبه برسائل الإخوان في الأسلوب والهدف والروح ، منها رسالة بعنوان " الإنسانية وأصدقائها " وأخري بعنوان " بين الصورة والحقيقة " وثالثة بعنوان " معقل الإنسانية" فزادني ذلك شوقا إلي لقاء هذا الأستاذ . لاسيما وقد لمحت في أتباعه وتلامذته روح الإخوان فهم مجموعة من الشباب طلاب الجامعات في الهند يتدفقون حماسل وإيمانا . وفي اليوم المحدد لحضور " الأستاذ " بادرت بالذهاب إلي المسجد للالتقاء به .. وحين أقبل رأيت شابا في سن الأستاذ الإمام رحمه الله ، ذا لحية غير كثيفة ، يرتدي بعباءة سوداء ، وهو نحيل الجسم ، يبدو عليه آثار السهر والجهد وطول العبادة ، ومع كل ما ينبثق من بين عينيه شعاع من نور وذكاء وفطنة .. ,قد استقبلني بالعناق ، ثم صعدنا إلي طابق علوي (كان يتصل بالمسجد في تلك الأيام بيوت من عدة طوابق أبوابها من داخل المسجد يسكنها المجاورون . وبها مكتبة المسجد الحرام ومرافق أخري) فيبيت من البيوت المتصلة بالمسجد ، وكان الأخوة تلامذة الأستاذ قد صفوا مقاعد في ردهة فسيحة ، وامتلأت الردهة ، ووقف السيد أبو الحسن علي الندوى فتحدث بالعربية الفصحى حديثا رائعا كدت أحس معه أنني استمع إلي حسن البنا ، فهو يستشهد بآيات القرآن في مواقعها لا يتلعثم ، يتدفق تدفق القلب المفعم بفيض من أحاسيسه علي سامعيه .. إنسان ملك الإسلام عليه لبه فقرأ القرآن وحفظه وتغلغل في بحار معانيه وتشربته نفسه حيث صادف قلباً ذكيا ، ودرس التاريخ الإسلامي والأدب العربي ، فتسمعه كما كنت تسمع حسن البنا ينشد من الشعر القديم البيت أو البيتين فكأنما يضرب أوتار قلبك . وبعد انتهاء خطابه قام جميع الحاضرين فصافحوه وانصرفوا لكنه استبقاني ، ثم جلسنا معا هو وأنا وحدنا دون أحد من تلاميذه وأخذنا في الحديث فقال لي : إن إخواني دثوني عنك حديثا فهمت منه من أنت . فقلت له : وماذا فهمت ؟ قال : فهمت أنك من قادة الإخوان المسلمين في مصر . فقلت : نعم .. قال : إننا في الهند كنا نتابع الإخوان في مصر ، ونعتبرهم قيادة وأملا ، وقد كنت حريصا علي أن ألتقي بالأستاذ البنا للتعارف ولإيجاد صلة بين حركتنا في الهند وبيم الإخوان في مصر ، ولكن الظروف الأخيرة وما حدث للإخوان في مصر كان صدمة لنا . قلت : وما رأيكم في هذه الأحداث ؟ قال : إن الإخوان تسرعوا ، وما كان لهم أن يتسرعوا . وهذا التسرع هو الذي أوردهم هذا المورد وحرم العالم الإسلامي من أعظم هيئة كان يعقد آماله عليها . فقلت : لقد كنت حريصا أن أسمع منك هذا الكلام . وإذا كان هذا الذي تقول يقوله المقيمون في مصر فما كان لإنسان بعيد كل البعد عن مصر ، ولم تتح له فرصة واحدة للالتقاء بالإخوان – إلا أن يتكلم بما وقع عليه بصره في الصحف أو قرع سمعه في الإذاعات . وكل هذا المقروء والمسموع هو من طرف واحد ... وإذا كان المقيمون في مصر لا يكادون يعرفون حقيقة ما جري في بلادهم فأنتم – وبيننا وبينكم آلاف الأميال – معذورون ألا تعرفوا حقيقة ما يجري في بلادنا . ثم أخذت أشرح له أطوار الدعوة في مصر ، وحقائق المواقف بها ، وناقشت معه كل موقف منها .. ثم أخذ هو يشرح لي أسلوبهم في الدعوة في الهند وأنه أسلوب هادئ ، ولا يمضي يوم إلا ويدخل في الإسلام عشرات ومئات من غير المسلمين – فقلت له : إن وضعكم في الهند لا يقتضي أكثر من ذلك ؛ لأنكم أقلية وسط أكثرية من غير المسلمين ، أما الإخوان في مصر فهم مسلمون في بلد مسلم ، ثم إن هذا البلد هو طليعة البلاد الشرقية والإسلامية علي الإطلاق .. وطال الحديث بيننا حتى انتهي باقتناع الرجل بعد أن تكشفت له الحقائق التي طمسها المغرضون . وبعد ان استعرضنا معا أحوال العالم الإسلامي واتفقت وجهتا نظرنا إزاء كل مشكلة من مشاكله . رأيت في الرجل من صفات القيادة الإسلامية ومؤهلاتها ما قد يندر وجوده – ولم نكن بعد في مصر قد انتهينا إلي رأي في هذا الموضوع – فعرضت عليه فكرة ترشيحه لمنصب المرشد العام للإخوان المسلمين فشرح لي وجهة نظره في هذا الموضوع شرحا مستفيضا وهي تدور حوةل النقاط التالية : 1 – أنه غريب عن مصر ، وليس ملما بأحوال أهلها ولا بظروف الحكام ولا المحكومين . 2 – أن الظروف الحاضرة في مصر لا تسمح لرجل مثله باقتحامها . 3 – أن الدعوة في الهند في أمس الحاجة إلي قيادة بل إلي أكثر من قيادة لاتساع رقعة البلاد وكثرة الناس . 4 – أن انتقاله إلي مصر في مثل هذه الظروف ربما كان ذا أثر سيء عليسير الدعوة في الهند ، في الوقت الذي لا يضمن أن تواتيه الظروف في مصر . وقد وافقته علي ملاحظاته ، ولكنني طلبت إليه أن يحضر إلي مصر ليتصل بالناس فيها وليعرف أحوالها عن قرب ، وقلت له : إننا نحن الإخوان سنكون بمنأى عنك حتى لا تقيد خطواتك أ تمنع من البقاء فيها ... وقد وفي الرجل بوعده وحضر فعلا إلي مصر ، واتخذ مقره دار الشبان المسلمين بالقاهرة ، وألقيبها عدة محاضرات جذبت إليه أنظار الكثيرين .. وأذكر أنه طبع – في فترة إقامته بها – كتابه الذي سماه " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم " . الفصل الثالث : الاتجاه إلي الأستاذ الهضيبي : أدت بحوث إخوان مكتب الإرشاد المتواصلة الدائبة إلي العثور علي الضالة المنشودة ، والشخصية المثالية المفتقدة ، التي تحقق كل الآمال ، وتسد جميع الثغرات في البناء الإخواني وفي علاقاته مع المجتمع المصري . وكانت هذه الشخصية هي الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي .. وقد أبد الإخوان في جميع نواحي القطر عن طريق مندوبيهم الذين كانوا يفدون إلي القاهرة كل أسبوع . لقي هذا الاتجاه ارتياحا من جماهير الإخوان ؛ لأنهم مع اقتناعهم بجدارة الرجل باعتباره رجلا ذا تاريخ ناصع ، وله مواقف مشرفة في الدفاع عن الإسلام والشريعة الإسلامية ، فإنهم كانوا يرون في اختيار مصالحة مع القضاء الذي يعتبرونه التصالح معه رد اعتبار للدعوة ، وتصحيحا لوضعها أمام الناس . وقد اتصل به بعض أعضاء مكتب الإرشاد وفاتحوه في الموضوع فاعتذر بحالته الصحية ، ومع تقديرهم لظروفه الصحية فإنهم يرون أنه مع ذلك أنسب من يصلح لهذا المنصب ، ولذا فإنهم ظلوا علي اتصال به ،وجمعوا بينه وبين مجموعات من مختلف المستويات في الإخوان ، بعضهم من القاهرة ، بعضهم من إخوان الأقاليم ، محاولين بذلك التقريب بينه وبينهم ، وإطلاعه علي واقع الإخوان .. وقد حضرت – عرضا – إحدى هذه اللقاءات في الدار التي أشرت إليها بحي العباسية أو بحي الظاهر علي الأدق – ويبدو أن هذه الزيارة كانت الزيارة الأولي بهذه الدار ، وكانت عقب جلاء إخوان الجهاز عنها – وأحسست بأن الرجل كان سعيدا بهذا اللقاء .. لكنني أخبرت بعد ذلك أنه أصر علي الاعتذار ، وأن إصراره هذا لم يكن للقاءاته الكثيرة مع جمهور الإخوان ، إنما كان صدى لاجتماعه بأعضاء مكتب الإرشاد ، الذي كانت آثار التيارين اللذين نوهنا عنهما بادية فيه ، مسيطرة علي مناقشاته .
• في بيته بالإسكندرية :
عجز إخواننا المتصلون بالأستاذ الهضيبي من أعضاء مكتب الإرشاد عن أن ينهنهوا من غرب إصراره . وشاع نبأ هذا الفشل بين جماهير الإخوان في كل مكان . وكان لهذا النبأ الأسوأ الأثر في نفوس الإخوان ؛ لأن ترك هذا المنصب شاغرًا يتيح الفرص لفتن لا يعلم مداها إلا الله ، وسيؤوله جمهور الشعب بأن القضاء يري هذه الدعوة غير جديرة بتقديره . وكان الوقت صيفا ، والتقيت في الإسكندرية بمجموعة من أكرم الإخوان من مختلف البلاد .. ولا أدري والله كيف اتفق لهذه المجموعة أن تلتقي في وقت واحد وفي مكان واحد إلا أن تكون تفسيرا لقول الحق تبارك وتعالي : ( ) أراد الله للدعوة أن تخرج من ورطتها فوفق لهذا اللقاء ، وكان العدد غير قليل فقد كنا نحو العشرين ، ولكنني لا أكاد أذكر منهم الآن إلا أفرادًا قلائل منهم الإخوة عبد العزيز عطية ومختار عبد العليم وعبد القادر عودة ويوسف طلعت وعبد العزيز كامل . وقد قررنا أن نذهب بجمعنا هذا إلي بيت الأستاذ الهضيبي بالمندرة . وتلقانا الرجل وأبناؤه بالترحاب ، ثم أخذنا في الحديث معه فتكلم الإخوان عبد العزيز عطية وعبد القادر عودة ، وشرحا الظروف المحيطة بالدعوة وشدة حاجتها إلي قيادته – وتحدث كثير من الحاضرين من مختلف البلاد معبرين عن رغبة بلادهم في قيادته .. ثم تكلم هو فشرح حجته في أنه لا يستطيع أن يتسلم قيادة دعوة ، أقرب معاونيه فيها متفرقو القلوب والأهواء ، وضرب لذلك أمثلة لا داعي لذكرها الآن – ولكن تبين فيما بعد أنه كان ملهما وكان بعيد النظر – ثم قال : إنني مريض ولا أستطيع تحمل مسئولية دعوة كهذه وأنا في الحالة التي وصفتها لكم ... وكانت بعد ذلك هدأة .. هي هدأة الخيبى واليأس الذي أحسسنا جميعا بمرارته في حلوقنا .. وما أجمل أن يذكر اليائسون وهم حمأة اليأس قول الله تعالي : (• • • ) فإذا بنا ونحن في هذه الحال نسمع صوت أخ لنا ينطلق صارخا باكيا هو الأخ الكريم يوسف طلعت يقول للأستاذ الهضيبي : " إننا نعلم ما تعانيه ، ولكن الدعوة أعز علينا وعليك من أن نتركها بلا قيادة ، وقد اتفقنا علي أن تكون قائدها . وإذا كنا بايعنا علي افتدائها فلتفتدها أنت كذلك . والله قادر علي شفائك إذا استجبت لدعوته .. ولن نخرج من هذا المكان إلا بنزولك علي رأي الإخوان الممثل فينا " . ولقد كانت لكلمات الأخ يوسف ولدمعه المنهمر فعل السحر فيقلب الأستاذ الهضيبي وقلوبنا ، حتى إننا انهمرت دموعنا ، ووجدنا أنفسنا قد انتقلنا إلي جو روحي غامر ، لم يملك معه الأستاذ لهضيبي إلا أن يبتسم والدموع تترقرق في عينيه ويقول : " لقد نزلت عليرأيكم – وأسأل الله تعالي أن يعيننب " وقمنا جميعا نعانقه ويعانق كل منا أخا .. وكانت جلسة قصيرة عابرة ولكنها كانت جلسة تاريخية فاصلة لها ما بعدها . الفصل الرابع : شبه تثار حول المرشد الجديد : يبدو أن الذين كان لهم رأي يخالف رأي الجماعة في اختيار المرشد الجديد ، أخذوا في إثارة الشبه حول الرجل الذي أجمعت عليه الجماعة . وقد يسر لهم ذلك أن الناس في ذلك الزقت لم يكونوا يعرفون عن الرجل شيئا أكثر من أنه قاض كبير . وهذه المعلومات وحدها لا تكفي أن تكون كل المؤهلات لرجل يقود أعظم دعوة في العالم الإسلامي ، وجاء ليخلف حسن البنا الذي كان أقوي زعيم في الشرق ، بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء . وتري لزاما علينا إزاء هذه الشبه المثارة ، والتي وجدت من بعض الناس آذانا صاغية ، أن نكشف للناس عن حقيقة الرجل وعن مؤهلاته الإسلامية والعلمية والاجتماعية والسياسية التي لم يكن الرجل حريصا علي الكشف عنها إيثارا لما عند الله وحده . الذي كان هو هدفه وغايته ومبتغاه في كل قول يقوله وكل عمل يعمله . وقد تناولت الشبه المثارة شخصية الرجل في نواح ثلاث هي : 1 – خبرته في الشئون السياسية والاجتماعية . 2 – مدي اتصاله ومدي سابقته في الدعوة . 3 – مدي استعداده الخطابي أو اللساني . أولا – خبرته في الشئون السياسية والاجتماعية : كان الأستاذ حسن الهضيبي مستشارا بمحكمة النقضوالإبرام ، وكان من القلائل الذين اشتهروا بين رجال القضاء بالجمع بين العلم والنزاهة والحصافة وقوة الشخصية وبعد النظر .. وله تاريخ عريق في المطالبة بجعل الشريعة الإسلامية قانون البلاد ، ولازالت مضابط مجلس الشيوخ المصري تسجل أروع دفاع له عن التشريع الإسلامي أمام أساطين علماء القانون في مصر الذين كان يضمهم هذا المجلس – حين كان المجلس في صدد مناقشة تعديل القانون المدني وانتدب اثنين من كبار رجال القضاء للاشتراك في هذه المناقشة ، فانتدب رئيس محكمة النقض والأستاذ حسن الهضيبي .. وكنت احتفظ فيما احتفظ به نسخة من مضبطة هذا المجلس بها جزء مما دافع به هذا الرجل عن الشريعة الإسلامية . وقد كان جل همه أن يقنع المجلس بأن التشريع الإسلامي هو أوفي تشريع بمصالح الناس ، وأنه يجب أن يكون هو تشريع البلاد . ومما يجب أن يستحضره القارئ في خاطره إذ يقرأ هذا الذي أكتبه الآن أن مجرد الحديث في ذلك الوقت عن التشريع الإسلامي كان أمرا مستغربا ، بل أستطيع أن أقول أنه كان أمرا مستهجنا ؛ لأن الفكرة الإسلامية بوجه عام كانت لا تزال فكرة مشوهة في أذهان الناس عامة ، وفي أذهان قادة البلاد خاصة ، نتيجة الجهود المتواصلة التي بذلها المستعمر طيلة ما يقارب القرن من الزمن .. ولذا كان حديث الأستاذ الهضيبي في مجلس الشيوخ يعده الأكثرون في ذلك الوقت ضربا من الخرافة والرجعية ، ولولا أن الرجل كان علي إيمان راسخ بما يقول ، ولولا أنه كان شخصية قوية ما استطاع أن يجهر بهذه الآراء . والأستاذ الهضيبي ينحدر من أسرة عربية تقطن في مركز شبين القناطر . وقد تدرج في السلم القضائي من أول درجة فيه حتى وصل إلي أعلي درجاته ، وقد أثرت عنه مواقف قضائية مشرفة في مختلف هذه الدرجات ،وقد وضع الأستاذ محمد شوكت التوني – وهو محام كبير – كتابا يعد الفريد في بابه ، ولعله أول كتاب باللغة العربية في موضوعه ، وهو كتاب " المحاماة فن رفيع " وقد أتيحت ليفرصة قراءته في الأيام الأخيرة من معتقل سنه 1954 . وهو يقع في القضاء الواقف في جميع دول العالم ،كما تحدث بإفاضة عن القضاءالجالس .. وكانت الشخصية الوحيدة التي اتخذها مثالا لاسمي صور العدالة والنزاهة والشجاعة والأدب والعلم وبعد النظر وسعة الأفق هي شخصية الأستاذ حسن الهضيبي . وقد سجل في نفسي أول لقاء مع هذا الرجل – وكان ذلك في الجلسة التي كانت في بيته في المندرة والتي أشرت إليها آنفا – أن هذا الرجل يجمع في شخصيته صفتين هما أشبه بما وصف به المؤمنون الأقوياء من أنهم " رهبان بالليل فرسان بالنهار " فقد كان هذا الرجل مع صلابة عزمه رقيق القلب سريع الاستجابة للضعفاء بقدر ما هو عنيد لا ينثني أمام الأقوياء، فلقد طأطأ ونسي عناده وانثني أمام دموع يوسف طلعت بعد أن كان مصرا علي عناده أمام إخوان القاهرة وأعضاء مكتب الإرشاد حتى أدخل اليأس في قلوبهم . ومعلوماتنا عن هذا الرجل في مدي احتكاكه بالأحداث الاجتماعية والسياسية لبلاده قد استقصيناها من مصادر مختلفة بعضها وثائق مطبوعة ، وبعضها الآخر من زملاء له وأصدقاء .. أما الرجل نفسه فقد كان حريصا علي أن تظل هذه المعلومات في طي الكتمان ؛ لأنه قد يري في الإفضاء بها نوعا من التباهي والتفاخر الذي كان يتجافي عنه ويكرهه . وقد كنت في مسودة هذه المذكرات قد سردت هذه المعلومات سردا ، ولكن لما حان وقت تبييض هذه المسودات ، كان قد ظهر في السوق كتاب الأستاذ مصطفي أمين " سنة ثالثة سجن " قرأت فيه بابا ضم هذه المعلومات نفسها ولكن ميزته أنه أوردها عن لسان المرشد العام نفسه . فآثرت أن أوردها كما جاءت عن لسانه حيث جاءت أوضح وأكثر تفصيلا . ولقد عجبت كيف استطاع مصطفي أمين أن ينتزع هذه المعلومات من بين شفتي الرجل الكتوم الشديد الحرص علي ألا يبوح بشيء يتصل بنفسه ، ولكن يبدو أن براعة مصطفي أمين الصحفية بالإضافة إلي الظروف التي كانت محيطة بهما في السجن من طول المدة والفراغ الذي لا حدود له هي التي هيأت الفرصة للحصول علي هذه المعلومات الدفينة في أعماق النفس .. وإلي القارئ نص ما نقله الأستاذ مصطفي أمين عن لسان الأستاذ الهضيبي في هذا الشأن تحت عنوان : السر الذي أخفاه المرشد العام الجديد : ليمان طره في 8 سبتمبر سنة 1967 . أمضيت وقتا طويلا مع الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين وجاري في الزنزانة . وتحدث عن رأيه في الاغتيال السياسي فقال : إنه من حق الشعب عندما يحتله جيش أجنبي أن يقاومه بالرصاص، ولكنه لا يوافق علي أن يقتل الناس خصومهم في الرأي . وروي لي أنه دخل الأزهر ومكث فيه سنة واحدة ولم يستفد شيئا . ثم دخل مدرسة باب الشعرية الابتدائية ثم مدرسة الخديوية الثانوية . وكان في أول الأمر تلميذا منطويا علي نفسه ، يتفرج علي الأحداث ولا يشترك فيها . وبعد أن حصل علي شهادة الباكالوريا التحق بمدرسة الخديوية ، وقد سميت كذلك نسبة إلي الخديوي عباس . وذات يوم اتصل به زميله الطالب أمين صدقي وحدثه عن دخول جمعية سرية تعمل ضد الانجليز . ورحب بأن يدخل الجمعية ، وأقسم علي القرآن والمسدس ألا يفشي أسرارها لأي مخلوق . وكانت هذه الجمعية تنقسم إلي عدة خلايا وكانت الخلايا لا تعرف بعضها . وكانت الخلية السرية مؤلفة من خمسة أشخاص : رئيس وأربعة أعضاء . وكان زملاء الهضيبي في الخلية الطالب حسن مختار رسمي الذي أصبح فيما بعد وكيلا لوزارة المالية ورئيسا لمجلس إدارة شركة غزل المحلة ، والطالب مغازي البرقوقي الذي أصبح بعد ذلك قاضيا ونائبا وفديا ووكيلا لمجلس النواب ، وأمين صدقي الذي أصبح بعد ذلك قاضيا ونائبا وفديا ووكيلا لمجلس النواب ، وأمين صدقي الذي أصبح وكيلا لمجلس النواب .. وكان الزعيم محمد فريد هو رئيس الجمعية السرية . وكان كل عضو من أعضاء الجمعية السرية مكلفا بأن يجند عضوا آخر ، وكان لحسن الهضيبي زميل في الفصل يأتمنه ويثق به ، فعرض عليه الأمر أن ينضم للجمعية السرية فوافق بعد أن سأل عن غرضها ، فقال له الهضيبي : إن غرضها قتل الانجليز وعملاء الانجليز . ورحب الصديق بالفكرة ، ولكنه في اليوم التالي عاد يقول أنه رأي نفسه في المنام في الليلة السابقة يخنق أخته ففزع ، ولهذا فهو عدل عن الانضمام إلي الجمعية السرية – واسقط في يد الهضيبي وأسرع إلي رئيس خليته يبلغه ما حدث . وأسرع رئيس الخلية إلي قيادة الجمعية يبلغها بما جري . وعقدت القيادة محكمة لمحاكمة حسن الهضيبي .. وأخذوه إلي شقة في بيت مهجور ، في حي سحيق ، وأدخلوه غرفة مظلمة . وجلس ثلاث شبان إلي مائدة فوقها قرآن ومسدس وبدأ القضاة السريون يحاكمون حسن الهضيبي ، يوجهون إليه أسئلة ويجيب عليها .. ثم أصدروا حكمهم أنهم تبينوا من التحقيق الذي أجروه أن حسن الهضيبي لم يفش لصاحبه سر الجمعية ، وأنهم لو كانوا شعروا من المحاكمة بأنه أفشي أسرارها لقتلوه علي الفور رميا بالرصاص ، وأنهم لهذا يضصدرون عليه حكم البراءة . وتنفس الهضيبي الصعداء . وكان من حسن حظه أن زميلخ كان كتوما فلم يفش سر صاحبه لأحد . ولكن الهضيبي تعلم من هذا درسا لم ينسه طوال حياته : أن يكون حذرا وأن يكون كتوما . وذات يوم أصدرت قيادة الجمعية أمرا إلي الخلية السرية بأن تستعد للقيام بعملية هامة ، وهي الهجوم علي قسم شرطة السيدة زينب والاستيلاء علي كل ما فيه من أسلحة وتسليمها إلي قيادة الجمعية . وعقدت الخلية السرية اجتماعا وضعت فيه خطة الهجوم علي قسم الشرطة ، ووزعت علي أفرادها الأدوار التي سيقوم بها كل واحد منهم . و1ذهب أعضاء الخلية وعاينوا مكان القسم ، واختاروا الوقت الملائم للهجوم وهي الساعة التي عرفوا أن عدد الجنود في القسم فيها يقل إلي حده الأدنى . وتحددت ساعة الصفر للانقضاض ... وقالت لهم الجمعية إنها عملية انتحارية قد يموتون فيها جميعا . وعاد الهضيبي ليلتها إلي بيته في حارة سليم السيدة زينب وأحرق كل أوراقه ، وبدأ يصلي استعدادا لكي يموت شهيدا ... وعند منتصف الليل دق الباب ، وتصور الهضيبي أن المؤامرة انكشفت وأن البوليس جاء ليقبض عليه .. وتقدم إلي الباب يفتحه ، وإذا بأحد زملائه أعضاء الخلية السرية يبلغه أن قيادة الجمعية قررت تأجيل العملية الانتحارية .. ,سأل عن السبب فقيل له أنه ليسمن حقه أن يسأل عن السبب . وسأل عن موعد التنفيذ القادم فقال له صاحبه أن الأوامر ستصدر في الوقت المناسب . وبعد ذلك أطلق إبراهيم الورداني الرصاص عليبطرس باشا غالي رئيسالوزراء لأنه اتفق مع الانجليز علي الحكم الثنائي في السودان وأراد تجديد اتفاقية قناة السويس . وسقط رئيس الوزراء قتيلا ،وقبضعلي عدد من أعضاء الجمعية .. وعرف الهضيبي عندئذ أن جمعيته هي التي اغتالت بطرس غالي . فهل كانت الفكرة في أول الأمر هي مهاجمة قسم السيدة زينب والاستيلاء علي أسلحته ليستعملها أعضاء الجمعية في هجوم جماعي علي مجلس الوزراء يقتلون فيه رئيس الوزراء ، ثم رأي إبراهيم الورداني أن يقوم بهذه العملية وحده بغير شركاء ، وأن يقتل رئيس الوزراء عند خروجه من رياسة مجلس الوزراء وحده بدل عشرة أشخاصكان المفروض أن يقوموا معا بهذه العملية .. أن حسن الهضيبي لم يعرف هذا السر أبدا . كل ما يعرفه أن أحد أعضاء جمعيته قتل رئيس الوزراء ، وأن العملية الانتحارية التي كان مكلفا بها لم تتم . ولم يقبض البوليس علي حسن الهضيبي بين عشرات من أعضاء الجمعية الذين قبض عليهم للاشتباه ، ولم يتطرق الشك إلي أحد أن هذا التلميذ المنزوي الطيب المطيع هو عضو في الجمعية السرية التي أمر الانجليز بالقبض عليأعضائها . وانفرط عقد الجمعية ، ولم يعرف الهضيبي كيف انفرطت ، ولماذا انفرطت ، ولكنه عرف أن خليته لم تعد تتلقي أوامر أو تعليمات . ثم حدث أن حكمت المحكمة بالسجن لمدة ستة أشهر علي الزعيم محمد فريد ؛ لأنه كتب مقالا هاجم فيه الخديوي والانجليز . وهرب محمد فريد إلي أوروبا . واختلف رأي الشبان فيقرار الزعيم الوطني ، كان من رأي فريق أنه بعد أن قيدت الصحافة عقب مصرع بطرس غالي ، وبعد أن بدأت مطاردة الوطنيين – أصبح مجال العمل ضيقا أمام محمد فريد ، فهو سوف يكون في أوروبا مطلق اليدين ، يهاجم الاحتلال البريطاني والخديوي كما يشاء ويقلب العالم ضد الاحتلال والفساد في مصر . وفريق آخر كان يري أن واجب محمد فريد كان يقضي عليه أن يدخل السجن ولا يتخلي عن مكانه داخل المعركة ، وأن يبقي ليقاوم ويؤلب الشعب علي الاحتلال . وكان الهضيبي يؤيد هذا الرأي الأخير ... فقد شعر أن الجيش أصبح بلا قائد ، وأن المعلم الذي كان يجمعهم اختفيفجأة . وزاد في إيمانه أنه رأي أفراد خليته السرية حيارى تائهين ، ثم لم يلبث أن رآهم تفرقوا ، لا يجتمعون ولا يتنافسون .. كأن محمد فريد عندما خرج من مصر أخذ مع حقائبه روح مصر .. وفي سنة 1914 أعلن الانجليز الحماية علي مصر ، وخلعوا الخديوي عباس حلمي وأعلنوا الأمير حسين كامل سلطانا علي مصر . وشعر الهضيبي كأن خنجرا أغمد في ظهره ، ثم ما لبث أن أحس أن خنجرا أكبر يغمد في قلبه .. أعلن الانجليز الحماية علي مصر .. ولم يتحرك أحد من المصريين ، لم تقم مظاهرة واحدة ، لم يلق حجر واحد علي الجنود الانجليز الذين ساروا في موكب من قشلاق قصر النيل إلي قصر عابدين يزفون السلطان الجديد إلي عرش مصر علي أسنة حراب الاحتلال . وأسرع الهضيبي إلي زملائه أعضاء الخلية السرية ، إذا بالفجيعة تمزق قلوبهم ، العمل الوحيد الذي قام به بعض المتحمسين منهم أن وضعوا في عنقهم أربطة سوداء .. كانت الكرافتة السوداء هي العلم الوحيد الذي رفعوه . شعر الشباب المصري في تلك الأيام المريرة بالشقاء والذل والخزى والعار . أحسوا أن شرف كل واحد منهم لطخ بالوحل والطين .. أحذية الجيش البريطاني داست علي رءوسهم جميعا .. أحسوا أكثر بالحاجة إلي القائد ... راحوا يقولون : لو كان محمد فريد موجودا في مصر لعرف كيف ينظم المقاومة وكيف يرد علي صفعة الاحتلال . وأوقف أمين الرافعي إصدار جريدته ، فضل أن يحطم قلمه علي أن ينشر في جريدته نبأ أن مصر أصبحت تحت الحماية البريطانية .. أ ما جريدة المقطم التي كان يصدرها الدكاترة فارس نمر ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس فقد أصدرت ملحقا بعناوين ضخمة في الصفحة الأولي " بشري للأمة المصرية . إعلان الحماية البريطانية في مصر " وكان هذا العنوان المخزي أشبه بكفن وضعت فيه جريدة المقطم جثة الشباب الوطني في مصر .. ولكن شباب مصر دفن ولم يمت .. الصدمة المفاجئة جعلته يستمر في مكانه بلا حراك . واختفاء محمد فريد من مصر كان أشبه باختفاء المنارة التي كانت تضئ السفن الهائمة في أثناء العاصفة . وأعلن السلطان الجديد تغيير اسم مدرسة الحقوق الخديوية إلياسم " مدرسة الحقوق السلطانية " .. وأذاع قصر عابدين أن عظمة السلطان قرر أن يشرف مدرسة الحقوق السلطانية المدرسة بالرمل الأحمر ، ورفعت الأعلام استعدادا لمقدم السلطان . وفي يوم الزيارة تلقي طلبة مدرسة الحقوق بطاقة مطبوعة بأن فلانا الطالب بالمدرسة توفى إلي رحمة الله وستشيع جنازته من منزله رقم 11 شارع المناخ في الساعة الحادية عشر صباحا ، وعلي جميع الطلبة الاشتراك في تشييع الجنازة . وكانت الساعة الحادية عشرة هي الموعد المحدد لزيارة السلطان . وكان العنوان المكتوب في البطاقة هو عنوان محر جروبي في شارع عدلي الآن . وترك الطلبة المدرسة ، وذهبوا لتشييع الجنازة الوهمية ، وفي جروبي تناولوا الجاتوه والحلوى علي روح الفقيد المرحوم ... ودخل السلطان حسين إلي المدرسة فلم يجد فيها طالبا واحدا . وجن جنون السلطان ، وهاج وماج وثار .. وعرف أن طلبة أكبر مدرسة عالية في مصر في ذلك الوقت أرداوا أن يلطموا السلطان لطمة علنية عقابا له علي توليه عرش مصر في ظل الحماية البريطانية . وقام السلطان ولم يقعد ، وقام الانجليز ولم يقعدوا ، وقامت الحكومة ولم تقعد .. هذه ثورة ضد السلطان وضد الانجليز وضد الحكومة . وقبض علي عدد كبير من طلبة مدرسة الحقوق ، وقبض علي صاحب المطبعة الذي طبع بطاقة الدعوة لحضور الجنازة . وعرض النائب العام علي صاحب المطبعة كل طلبة مدرسة الحقوق ليتعرف علي الطالب الذي طبع بطاقة الجنازة .. ولم يتعرف صاحب المطبعة علي واحد منهم ، وقال أن الشخص الذي جاء لطبع البطاقة كان أكبر عمرا من هؤلاء الطلبة .. وهنا عرضت النيابة أساتذة مدرسة الحقوق علي صاحب المطبعة فقال أن المجرم الأثيم ليس واحد منهم . والواقع أن المجرم الأثيم لم يكن طالبا ولا مدرسا في مدرسة الحقوق وإنما كان عربجيا .. كان العربجي الذي يقود العربة الحنطور التي تملكها أسرة الطالب فؤاد حمدي وتحمله كل يوم إلي المدرسة . وأصدرت الحكومة قرارا بفصل عدد من طلبة الحقوق نهائيا ، وعدد آخر لمدة عامين ، وعدد ثالث لمدة سنة واحدة . وكان حسن الهضيبي أحد الذين فصلوا لمدة سنة واحدة . وحاول الطلبة أن يتظلموا فوجدوا أن كل الأبواب مغلقة في وجوههم . لا أحد يجرؤ علي أن يتوسط لهم والسلطان ثائر ، والانجليز حانقون ، والحكومة غاضبة .. ثم سمع الهضيبي من زملائه المفصولين أن سعد زغلول باشا وكيل الجمعية التشريعية التي عطلها الانجليز يتعاطف معهم . وذهب مع بعض زملائه وقابلوه ، فإذا به يهنئهم ؛ لأنهم أعادوا الاعتبار للشعب المصري عندما لطمه السلطان .. وإذا به يقول إنه سيبذل كل ما يستطيع لرفع الظلم عنهم ، وأنه لا يملك أي سلطة ، ولكنه يعتبر نفسه ممثل الشعب الذي انتزعت سلطانه بإعلان الحماية .. ودهش الهضيبي ؛ لأن رجلا في الستين من عمره يتكلم بلغة الشباب .. وبعد خروجه من بيت سعد زغلول قال لزميل له . هذا الرجل يستطيع أن يقود مصر بدلا من محمد فريد . قال له زميله : مستحيل .. مستحيل . وبعد أربع سنوات قامت ثورة سنة 1919 بقيادة سعد زغلول ، وصدقت نبوءة الهضيبي .. وكان طلبة الحقوق المفصولون هم أول الذين مشوا وراء سعد زغلول وأشعلوا الثورة . ثانيا – هل الهضيبي طارئ علي الدعوة ؟ أن الذين يريدون أن يقصروا صفة الإخوان المسلمين علي الأشخاص الذين ضمت سجلات العضوية الرسمية أسماءهم ، والذين يؤدون اشتركاتهم والذين ينتظمون في تشكيلاتهم – يريدون أن يضيقوا واسعا ويحجروا سهلا ميسورا .. فالإخوان المسلمون ليسوا شيئا مخترعا ، ولا فكرا مبتكرا ، ولا دعوة مبتدعة – وإنما هي الفكرة الإسلامية : من اعتنقها وعمل لها وجاهد في سبيلها فقد صار من الإخوان المسلمين ، له كل حقوقهم .. وعلي هذا الأساس من المعنيالفسيخ الذي أرساه القرآن الكريم بقوله : ( ) تحدثت في مكة المكرمة – كما سبق أن ذكرت – إلي السيد أبي الحسن علي الندوى في أخطر ما يتصل بالإخوان المسلمين .. ولم يشعر الرجل بغرابة في حديثي معه في هذا الشأن ؛ لأن هذا المعني الفسيح الرحب الجامع للإخوة الإسلامية هو أمر مقرر في نفس كل من فهم الإسلام ، وهو إحدى البديهيات فيه . وقد أثبتت في الصفحات السالفة كيف كان الأستاذ حسن الهضيبي عريقا في فهمه للفكرة الإسلامية وفي جرأته في التقدم بها وفي شرحها وفي الدفاع عنها أمام أعلي هيئة تشريعية في البلاد .. فهل يكون رجل كهذا غريبا علي الدعوة الإسلامية ، دخيلا علي الجماعة التي رصدت نفسها لنفس الفكرة ولشرحها والدفاع عنها ... وإذا كان مثله يعد دخيلا فمن إذن يكون فيها أصيلا ؟ . ومع ذلك فقد أثبتت الأحداث أن الأستاذ الإمام كان نقادا ماهرا ، وكان قديرا في وزن الرجال ووضعهم في مواضعهم ، فقد رأي أن الأستاذ حسن الهضيبي كنز ثمين يجب الحرص عليه والانتفاع به .. ولكنه رحمه الله كان يرعي ظروف بعض ذوي الوظائف الحساسة فيعفيهم من الظهور في أوساط الإخوان ، ويجعل اتصاله بهم اتصالا شخصيا ، فهو يتبادل معهم الرأي ، ويشاورهم في الخطير من الأمور ، ويظهرهم علي مواقف الدعوة وما يحيط بها من ظروف .. وكان هذا هو دأبه مع الأستاذ الهضيبي .. ولذا فلم يكن يعرف علاقة الأستاذ الهضيبي بالإخوان لا من كانت الظروف تدعو إلي هذه المعرفة من قلة من الإخوان . كما كان يعرف هذه العلاقة قلة من غير الإخوان . فلقد قرأنا في ثنايا أحداث الأيام السوداء من عهد إبراهيم عبد الهادي أن الأستاذ الهضيبي كان الرجل الوحيد الذي كان بجانب الأستاذ الإمام في أشد هذه الأيام حلوكة ، وأن الأستاذ الإمام قد اتخذه صفيه ومستشاره وموضع سره ، فقد كانا يجلسان معا في دار جمعية الشبان المسلمين علي انفراد ... ويبدو أن الأستاذ الإمام قد أفضي إليه بكل ما عنده ، وشرح له جميع المواقف ، وحلل له كل الشخصيات بدليل أنه منذ أول يوم فوتح فيه في خلافة الأستاذ الإمام تحدث عن بعض الشخصيات الإخوان حديث العليم الخبير ، مع أنه لم يسبق له اتصال بهم . وأنقل للقارئ في هذا الشأن فقرة جاءت عرضا في شهادة الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين أمام محكمة الجنايات في أثناء نظر قضية اغتيال الأستاذ الإمام وذلك في يوم 11/11/1953 حيث قال : " ولما أحس البوليس السياسي بأن الشيخ البنا يتردد علي الجمعية أخذ يراقبه لمعرفة المتصلين به .. وكنا قد اتفقنا علي رموز للتفاهم بها .. حتى إنه حدث أن حضر الأستاذ الهضيبي ، ونظرا لعدم معرفتي به انكرت معرفتي بالشيخ البنا لاعتقادي أنه من البوليس السياسي .. وعرفت أخيرا من الشيخ البنا أنه هو الأستاذ الهضيبي " . وفي 18/11/1953 وفي أثناء شهادة الأستاذ مصطفي مرعي أمام نفس المحكمة وفي نفس القضية ، وجه إليه الأستاذ عبد القادر عودة – أحد أفراد هيئة الدفاع – سؤالا ، ودار النقاش علي الوجه الآتي : الدفاع – ألم تفهم الأسباب التي من أجلها كان الشيخ البنا يمهلك في الرد عليك ؟ مصطفي مرعي – كان لديه مستشار . المحكمة – من المستشار ؟ مصطفي مرعي – الأستاذ الهضيبي . هذا هو الأستاذ حسن الهضيبي الذي أشاع المعرضون أنه غريب عن الإخوان المسلمين . ثالثا – المقدرة الخطابية أو بين عهدين : لقد وضح تمام الوضوح أن الله تعالي يصنع لدعوته – وهو أعلم بما يصلح لها – فلقد علم أن هذه الدعوة في العشرينيات والثلاثينيات قد طمست معالمها ، وشوه وجهها ، وغابت تحت الأضاليل قسماتها ، حتى أضحت غريبة علي أهلها ، مجهولة لأقرب الناس إليها – فاختار لها داعية من الشباب قوي البدن ، ذكي الفؤاد ، ذلق اللسان ، ذا بسطه في العلم والجسم , لا يمل ولا يكل . فهو واعظ وكاتب وقائد ومعلم ومتنسك وفارس وخطيب .. إذ كانت الدعوة في ذلك الوقت في حاجة إلي من يجالس الناس في المقاهي ، وإلي من يربي من يستجيب له تربية حانية في خفاء ، وإلي من يؤم الناس في المسجد ، ويخطب فيهم خطبة الجمعة والعيدين ، وإلي من يكتب للناس شارحا دعوته ، مفتدا ما علق بالإسلام من شوائب .. وإلي من يبث في الشباب روح الفداء فهو يرتدي الملابس العسكرية ويقف معهم في الصف ويقودهم في الطابور . كانت الدعوة في حاجة إلي من يواصل في سبيلها الأسفار ، فهو كل يوم في بلد ، وكل أسبوع في مدينة ، يغشي مجالس الناس ، ويجلجل صوته وسط جموعهم ، بأساليب تناسب هذه الجموع .. ففي جمع من هذه الجموع يناقش شئون الدولة العليا علي ضوء الفكرة الإسلامية .. وفي جمع آخر يخاطب الناس فيقول : إن الناس قد فشا فيهم الجهل بالدين حتى إن رجلا مسلما كان يقرأ الفاتحة فيقول : ( ) ويعلق علي لفظ " اهدم " تعليقا يجعل هذه الجموع تضحك ملء أشداقها .. فيقودهم وقد تفتحت قلوبهم بهذا الضحك إلي معالجة هذا الجهل بالإقبال علي كتاب الله وهو ما يدعو إليه الإخوان . وهكذا فهو يخاطب كل قوم بأسلوبهم .. وقد يضطر في جمع واحد أن يخاطب في حديث واحد كل الحاضرين مستوياتهم الثقافية بحيث لا يشعر أي منهم أنه غريب وسط هذا الجمع . كانت الدعوة بادرة صغيرة ، ونبتة ضعيفة ، في أمس الحاجة إلي من يحوطها ويطرد عنها الهوام والحشرات والحيوان من حولها حتى لا يفتك بها أو يفترسها .. كانت في أمس الحاجة إلي من ينكفئ فوقها .. يداريها من الرياح والعواصف والحر والبرد والصقيع . كان حسن البنا هو الداعية الذي أهله الله تعالي بكل هذه المؤهلات .. فأدي دوره أحسن أداء ، ثم ذهبإلي ربه بعد أن بهر العالم بإيمانه وصبره ولسانه وقلمه وعلمه وسعة أفقه وقدرته علي التكوين وصنع الرجال – وترك وراءه دعوة اكتمل شبابها ، ورسخت أقدامها ، وأتت أكلها كل حين بإذن ربها . لم تعد الدعوة في حاجة إلي كبير عناء لشرحها للناس فقد فهمها الجميع لكثرة ما خوطبوا بحججها باللسان والقلم ، ثم اقتنعوا بها بعد أن رأوا بأعينهم الفاسدين من الشباب وقد صلحوا ، والهازلين وقد وجدوا ، والجاهلين وقد تعلموا ، وبعد أن رأوا في نهاية الأمر رعيلا كالرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم يتسابقون إلي الموت هاتفين ( ) . كانت الدعوة في حاجة إلي من ينكفئ فوقها ليقيها غوائل البرد والصقيع أو صفعات الرياح والعواصف ، فلقد نمت وترعرعت وثبتت جذورها ، وأخرجت شظاها فآزرها واستغلظت واستوت علي سوقها . لم تعد الدعوة في حاجة إلي ما كانت تحتاج إليه من قبل من حماية ، ولكنها وقد أزهرت وباتت ثمارها جنية شهية تسيل اللعاب .. أضحت في حاجة إلي من يكف أصحابها أنفسهم عنها من أن يسيل لعابهم فيمدوا أصابعهم إلي ثمارها ليقطفوها للاستمتاع الشخصي بها .. أضحت في حاجة إلي من يقنع الإخوان أنفسهم بأن يعلموا أن ثمر هذه الدعوة ليست ملكا لهم يستمتعون به ، وإنما هي من حق الأمة الإسلامية جمعاء.. وإلا لما كان هناك داع لتقديم الدماء والأرواح التي قدمت عن رضا وطواعية لتروي هذه الشجرة العزيزة ... ما أشبه الدعوة في عهديها بالدرجتين العليين المشهورتين : الفقير الصابر والغني الشاكر ... الأول كان في حاجة إلي كفاح مستمر ، وكد متواصل ، وجهد لا يفتر ، ومواصلة الليل بالنهار للحصول علي الرزق الكفاف الذي يحفظ عليه الحياة – أما الآخر فقد توفر له الرزق بكل أشكاله وألوانه ، تجبي له الثمرات من كل مكان ، فهو لا يحتاج إلي كد ولا كفاح ولا سعي ، ولكنه يحتاج إلي أن يكف شهواته عن الانطلاق ، وإلي أن يكبح جماح نفسه ، ويقف بها عند الحدود . وقد استطرد فأقول ، أن نمو الدعوات لا يعمل فيه الزمن عملا متناسقا مطردا – كما قد يخطر بالبال – فتنمو الدعوة في سنتين ضعف نموها في سنة وفي ثلاث سنوات ثلاثة أمثال وهكذا .. بل إن من السنين ما يوقف النمو ومنها ما يضاعفه أضعاف مضاعفة .. ففي السنتين الأخيرتين قبا استشهاد الأستاذ الإمام انطلقت الدعوة انطلاقا لم نعد نستطيع معه ملاحقتها كأنما نشطت من عقال .. ولعل هذا كان هو الذي دفع بالمستعمرين وأذنابهم إلي التعجيل بخطتهم للقضاء عليها . وأذكر أنه قبيل السنتين الأخيرتين هاتين كنت مع الأستاذ الإمام فقال لي : " يا محمود .. لقد شارفت الأربعين .. وآن لكم أن تتولوا عني الكثير مما أقوم به .. فحسب صاحب الأربعين أن يكون مرجعا يشير بالرأي ويشترك بالتوجيه " . وقد رأيت إثبات هذا الحديث لأبين أن الأستاذ الإمام – رحمه الله – كان يتأهب لدور هو أشبه بالدور الذي تقلده ونهض به الأستاذ الهضيبي .. ولا شك في أن الدعوة يوم تسلم قيادتها الأستاذالهضيبي كانت قد وصلت إلي الوضع الأمثل لهذا الدور . وأعتقد لو أن حسن البنا – أوسع الله له في جناته – كان عليقيد الحياة في سني الخمسينيات ما واصل النهج الذي كان ينتهجه ، بل كان يعدل عن كثير من هذا النهج ، ولسلك نفس الأسلوب الذيسلكه الأستاذ الهضيبي ، فما عادت الدعوة محتاجة من قائدها إلي خطب ومحاضرات بقدر حاجتها إلي قائد قادر علي اتخاذ القرار . والهضيبي وأن لم يكن من أهل الخطابة واللسن – وعد بعض البسطاء هذا عيبا فيه – فإن الإخوان المسلمين – وهم أدري الناس بما تفتقر إليه دعوتهم – ولم يروا ذلك عيبا فيه .. بل أحسوا بان هذا الرجل بعزوفه عن الكلام ، مع مقدرته الفائقة علي اتخاذ القرار ، جرأته في الحسم ، وجلاء بصيرته في النظر إلي الأمور ، وبعد نظره في الحكم عليها .. أحسوا بأن هذا الرجل هو رجل الساعة ؛ لأن الظروف التي أحاطت بالدعوة في تلك الحقبة من الزمن كانت أحوج إلي تلك الصفات في القيادة منها إلي ذلاقة اللسان وبراعة البيان ، لاسيما وجماهير الإخوان كانت تعج بالخطباء والشعراء والكتاب والمحاضرين الذين لا يشق لهم غبار . ومما يعد برهانا علي أصالة هذا الرجل في الدعوة الإسلامية ، وعلي اكتمال عناصر القيادة فيه ، أنه في خلال أقل من عام استطاع أن يحتل قلب كل أخ مسلم ، لا في مصر وحدها بل في أنحاء العالم العربي والإسلامي .. ومحال أن يستطيع ذلك إنسان عادي أو إنسان مخادع أو إنسان ضعيف الشخصية أ إنسان تنتابه نوبات الأثرة والأنانية ، أو تتجاذبه رياح الأهواء والشهوات ... لاسيما وجمهور الإخوان المسلمين – مع اتساع نطاقه ، وكثرة عدده ، واختلاف مستوياته المادية والاجتماعية – جمهور يقظ مستنير ليس من السهل خداعه ولا التمويه عليه ..
• هل سخر الهضيبي الدعوة لأغراضه الشخصية ؟
وقد أثار المغرضون حول هذا الرجل أخيرا أنه رجل سياسي استغل الدعوة للوصول إلي كراسي الحكم .. وسوف يري القارئ إن شاء الله في سير الأحداث التي عاشها هذا الرجل ، ومواقفه فيها ما يدحض هذه المفتريات ويقوضها من أساسها ، وما يكشف عن حقيقته التي كان هو حريصا علي إخفائها ، ولكن الأيام تكفلت بإظهارها ، وأثبتت أن الرجل كان من أزهد الناس في دنيا الناس . وإلي هؤلاء المغرضين الذين رموا الرجل بأنه سخر الدعوة لأغراضه السياسة الخاصة نسوق القول فنقول : إن الطريق الذي سلكه حسن الهضيبي كان هو نفس الطريق الذيسلكته الدعوة من قبل ، لا في أواخر أيام حسن البنا فحسب ، بل منذ أوائل أيامها .. ففي عام 1939 ورد في البيان الذي ألقاه حسن البنا في المؤتمر الخامس ما يلي : " إن انجلترا لا تزال تضايق مصر رغم محالفتها إياها . ولا فائدة في أن نقول أن المعاهدة نافعة أو ضارة أو ينبغي تعديلها أو يجب إنقاذها . فهذا كلام لا طائل تحته ، والمعاهدة غل في عنق مصر ، وقيد في يديها ما في ذلك شك .. وهل نستطيع أن نتخلص من هذا القيد إلا بالعمل وحسن الاستعداد ؟ فلسان القوة هو أبلغ لسان ، فلنعمل علي ذلك ولنكتسب الوقت إذا أردنا الحرية والاستقلال " . وفي رسالة وجهها الأستاذ الإمام في منتصف الأربعينيات إلي رئيس الحكومة وأعضاء الهيئات النيابية ورؤساءالهيئات الشعبية السياسية والوطنية والاجتماعية وإلي الأمة تحت عنوان " مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي " جاء فيها : " لقد قاوضنا فلم نصل إلي شيء لتعنت الانجليز وتصليهم ومناورتهم .. واحتكمنا فلم نصل إلي شيء كذلك أمام تغليب المصالح الدولية والمطامع الاستعمارية . ولقد قال لي كاتب فاضل : إننا وصلنا إلي كسب أدبي عظيم بالدعاية الواسعة لقضيتنا بطرحها أمام العالم كله ، وإخراجها من حيز التفاهم الثنائي الضيق إلي حيز التحاكم الدولي الواسع .. وذلك صحيح – ولكن هذا الكسب الأدبي لن يغني عن الحقيقة الواقعة شيئا وهي أننا مازلنا مع الانجليز حيثكنا ، لم نتقدم خطوة ، بل إن هذا الركود مدعاة إلي التساؤل والبلبلة . لم يبق إذن إلا " النبذ علي سواء " بأن تعلنهم بالخصومة الصريحة السافرة ، وتقرر في صراحة إلغاء ما بيننا وبينهم من معاهدات واتفاقات ، وتعلن اعتبار أمة الوادي معهم في حرب – ولو سلبية – وتنظيم حياتنا علي هذا الاعتبار : اقتصاديا بالاكتفاء والاقتصار علي ما عندنا وعند إخواننا العرب والمسلمين والدول الصديقة – إن كانت – واجتماعيا بتشجيع روح العزة والكرامة وحب الحرية – وعمليا بتدريب الشعب كله تدريبا عسكريا حتى يأتي أمر الله ، وتهيأ نفوس الشعب لذلك بدعاية واسعة تامة كاملة ، كما تفعل الأمم إذا واجهت حالة الحرب الحقيقية ، وتتغير كل الأوضاع الاجتماعية علي هذا الأساس . وهذا العمل لا يتسني للأفراد ولا للهيئات ابتداء ولكن الحكومة هي المسئولة عنه أولا وآخر . والعجيب أن رئيس الحكومة (النقراشي) أعلن هذا صراحة في مجلس الأمن ثم عاد فلم يعمل شيئا ، ولم يتقدم في هذا السبيل خطوة .... وهذا واجب الحكومة قطعا . وأما الشعب ، فنحن نقولها في صراحة ووضوح وثقة ، إنه علي أتم استعداد لبذل كل شيء لو سلكت الحكومة هذا السبيل .. إنه مستعد ليجوع وليعري وليموت ويناضل ويكافح بأشد أنواع النضال والكفاح . ولكن عليشريطة أن يكون ذلك في سبيل حريته في سبيل حريته واستقلاله لا في سبيل ارتباك اللجان الحكومية وضعف الوسائل الإرادية ، والتخبط في السياسة الاقتصادية والوقوف أمام مكايد الانجليز وضغطهم موقف المستسلمين العاجزين . لقد سمعت عاملا فقيرا يقول حين صدرت الأوامر بخلط الخبز : إنني مستعد أنا وأولادي أن نأكل كل يوم مرة واحدة ، إذا وثقنا من أن هذه في سبيل الحرية والتخلص من الانجليز ... فالشعب علي أتم استعداد للبذل ، ولكن في طريق واضحة مرسومة تؤدي إلي الحرية أو الشهادة ، بقيادة حكومة حازمة ترسم له في قوة وإخلاص مراحل هذا الطريق – أما إذا استمرت الحكومة في ترددها وتراخيها واضطرابها فلن يؤدي ذلك بالشعب إلا إلي أحد أمرين : إما أن يثور وإما أن يموت . وكلاهما جريمة وطنية لا يغتفرها أبدا التاريخ . " هذه هي الطريق فاسلكوها في ضوء الإسلام والله معكم ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد " ليت شعري أليس هذا هو كلام حسن البنا ، أو ليست هذه هي الطريق التي شرحها وفصلها وطلب من الإخوان المسلمين سلوكها ؟ .. فهل سلك الهضيبي سبيلا غير هذا السبيل ؟ أم كان كل ما عمله هو مواصلة السير في نفس الطريق دون أن يحيد عنها ؟! . علي الذين يتهمون الرجل بأنه خرج بالدعوة عن مسارها الذي رسمه لها قائدها الأول ، وبأنه حاد بها عن هذا المستر ، وسلك بها نهجا مبتدعا لأطماعه الشخصية .. علي هؤلاء أن يقرأوا ما اقتطعناه من توجيهات القائد الأول ليعلموا أن الهضيبي لم يكن في قيادته للدعوة إلا مواصلا للخط الذي رسمه هذا القائد الأول ، لم يحد عن ذلك قيد أنملة . وسوف يري هؤلاء – بعد قليل إن شاء الله – أنه – بمواصلة هذا الطريق المرسوم – قد وصل بالدعوة إلي الوضع الذي صارت فيه مناصب الحكم لا في قبضة يده فحسب بل صارت تحت أقدامه ، ولكنه عزف عنها ، وترفع بالدعوة الطاهرة عن أن يلحق بها دنس الحكم في ظل عرش آثم .. وليس هذا فحسب ، بل إنه – مبالغة منه في الاحتفاظ للدعوة بنقائها ، وبعدا بها عن مواطن الشبهات – قرر منع الإخوان من الاشتراك في الانتخابات منعا قاطعا مع أن فوز الأكثرين منهم كان مضمونا . فهل مثل هذا الرجل يرمي بأنه حاد بالدعوة عن طريقها المرسوم ، وسلك بها طريقا آخر سخرها فيه لمآربه الشخصية ، وجريا وراء مناصب الحكم ؟ ... لا فليتق الله ، وليرعوا أولئك الذين لا هم لهم إلا أن يتلمسوا للبرءاء العيب ..