الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الثاني - الباب الأول)
الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ: الجزء الثـاني
للأستاذ / محمود عبد الحليم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المقـدمة
لما ظهر الجزء الأول من هذا الكتاب ، تلقيت آراء بعض الذين طالعوه ، فقال بعضهم أنه تاريخ ممتع ، وقال بعض آخر أنه أسلوب في التأليف يغري بالقراءة لما فيه من تنقل بالقارئ من ميدان إلي ميدان ومن موضوع إلي موضوع ، وقال آخرون أنه ليس تاريخا فحسب بل هو برنامج ومنهج بين المعالم محدد الخطوات ... وهكذا تنوعت الآراء .. وأرجو أن يكون الكتاب جديرا بها جميعا ، فإنها جميعا كانت أهدافا متوخاة – ولكن الهدف الأول الذي كنت حريصا علي إبرازه في هذا الكتاب بأجزائه ، هو أن أوضح للقارئ حقيقة غائبة عن أكثر الناس ، هي أن دعوة الإخوان المسلمين هي التي صنعت تاريخ مصر خاصة والأمة الإسلامية عامة في هذا العصر الذي نعيشه صنعا جديدا ، وحولت مسار هذا التاريخ إلي مسار آخر ...لولا ظهور هذه الدعوة في هذه الحقبة من الزمان ، لتوقف التاريخ بنا حتى اليوم عند الحال التي كنا عليها في أواخر العشرينات من هذا القرن . فلقد عالجنا في الجزء الأول من الكتاب توضيح الحالة الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة خلال العشرينات والثلاثينيات للشعب المصري خاصة وللشعوب العربية والإسلامية عامة .. وكيف واجهت دعوة الإخوان المسلمين الناشئة هذه الحالة التي كانت تبدو للمصلحين يائسة موئسة .. فالشعوب في هذه البلاد تغط في نوم عميق ، فاقدة الوعي ، مقطعة الأوصال ، مستسلمة للغاصبين ، مسترخية ، لا تدري ما يفعل بها ولا ما نفعل – سواء في ذلك عامة هذه الشعوب وزعماؤها ، ورحم الله الشاعر أحمد محرم إذ يصف حال هذه الأمم الإسلامية في ذلك الوقت في أبياته المشهورة فيقول :
فـي دولـة للمسـلمين تشوقهـم أيـامها ، وتهـزهـم ذكـراهـا يا ويح للأمم الضـعاف أتنقـضي دنيا الشعوب وما انقضت بلواها ؟ أمم هوالك ، ما لمسـت جراحهـا إلا بكـت وبكيـت من جـراهـا لم أدر إذ ذهب الزمـان بريـحها مـاذا من القدر المتـاح دهـاها ؟ إن الذي خلق السـهام لمـثلهــا جمـع المصـائب كلهـا فرمـاها
وبينا للقارئ كيف استطاعت هذه الدعوة – بقيادة ملهمه حكيمة بارعة ، وجهود مضنية خالصة مخلصة ، وبتكتيك وئيد منسق منظم راسخ الخطوات ، بعيد الأهداف ، لا يستحثه المستبطئون ، ولا يستخفه المعجبون ، ولا ينهنه من غرمة المعوقون – استطاعت أن تبث روح الحياة في هذه الشعوب من جديد ، فأيقظتها من رقادها ، وبعثتها من سباتها . فقامت تنفض عن نفسها غبار نوم طال أمده ، وأخذت تتعرف علي نفسها ، وتستعيد هويتها ، ونحن إلي أصلها ، وتأسف علي ما فرط منها في حق هذا الأصل الكريم ، عاقدة العزم علي استرداد ما سلبته من حقوق ، وما ضيعته من أمجاد . وبهذه الأمة الجديدة الفتية المستيقظة المتوثبة ، واجهت الدعوة بعقيدتها المستقرة في أعماق النفوس ، الممتزجة بشغاف القلوب مآسي الأمة الإسلامية التي تقطعت معها إربا ، وتوزعت تحت وطأتها شيعا ، وأثخن علي مر الأيام طعنات وجراحا ، وديست أرضها بنعال المحتلين من المستغلين وشذاذ الآفاق . واجهت ذلك كله بأسلوب جديد لا عهد للمتصدين للقيادة في أنحاء العالم الإسلامي كله به .. أسلوب الواثق بنفسه ، المطالب بحقه ، المقتنع بعدالة قضيته ، المنبعث من سويداء قلبه ، المستند إلي أعدل رسالة ، الداعي إلي أقوم سبيل ، المندفع بآمال أوسع من رحاب الدنيا ، المؤثر الموت الكريم علي العيش الذليل . وكما أيقظت الوعي في النفوس والعقول في مصر ، أيقظته أيضا فيما سوي مصر من البلاد العربية والإسلامية ، فامتد أثرها حتى وصل إلي إندونيسيا وباكستان – وتعهدت القضية الفلسطينية فوصلت بها من حالة كانت فيها مجهولة تماما من البلاد العربية والإسلامية نفسها – سواء في ذلك شعوبها وحكامها – إلي حالة صارت فيها القضية الأولي لهذه البلاد شعوبا وحكاما . وتجاوب مع الدعاة في القاهرة كل الطبقات المثقفة المستنيرة في أنحاء العالم الإسلامي ، متخذين القاهرة منارتهم الهادية وسط الظلام الدامس الذي كان مخيما علي هذا العالم الإسلامي .. فواجه الاستعمار العالمي لأول مرة منذ قرون انتقاضات واعية ، وحركات مواجهة جادة عارمة ، تؤججها روح إسلامية شابة ملتهبة ، سواء في مصر وفي الشرق العربي والمغرب العربي ، وفي الهند وفي جنوب شرقي آسيا .. حركات وانتقاضات ، ليست من الطراز المعهود للاستعمار من قبل ، تلك التي كان يمتص حدتها بوعود تبذل أو بمناصب تسند …وانتهت هذه الانتقاضات بتحرير هذه الشعوب من ربقة الاستعمار . ويحث الاستعمار العالمي هذه الظاهرة الخطيرة التي هددت وجوده في كل مكان .. فلم يجد أن جديدا قد طرأ علي هذه البلاد – منذ وطئت أقدامه أرضها وتم له احتواء كل ما نشأ فيها من هيئات وأحزاب – لم يجد جديدا قد جد سوي " دعوة الإخوان المسلمين " .. فجمع الاستعمار شمله ، وأعد عدته ، ووضع خططا خطيرة ما كره لمواجهة السيل الجارف الممثل في هذه الدعوة ، وقرر معالجتها بضربة قاضية قبل أن تسبق هي بضربه هذه الضربة . كل هذه المعاني التي أدرنا الحديث حولها في الجزء الأول كانت واضحة تمام الوضوح في خاطري وفي مخيلتي حين سطرتها ؛ لأنني لابستها عايشوها كذلك .. ولكن السؤال الحائر الذي يبحث عن جواب هو : هل كان لهذه المعاني بالذات الوضوح الكافي في نفوس الذين قرأوها من الأجيال الجديدة التي لم تعايش هذه الأحداث ، والذين نشأوا ولقنوا تاريخنا مزورا ممسوخا وهم لا يشعرون .
إن علي هذه الأجيال أن تعلم أن كل ما سردناه في الجزء الأول إنما هو مجموعة من الحقائق التاريخية الثابتة التي لا تجحد ، ولكن الذي حجبها وموه عليها تواطؤ متعمد بين الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي .. وإذا كان لهذين القدرة علي حجب الحقائق ، فإنه لا قدرة لهما علي تغييرها أو محوها إلي الأبد ، فإن الأحداث التاريخية جزء من الزمن . وإذا كانت أحداث الجزء الأول قد وقع أكثرها والعالم الإسلامي لا يزال علي المغرضين حجبها ، فإن أحداث الجزء الثاني هذا جاءت صاخبة متؤججة مدوية .. ولكنها مع ذلك لم تكن إلا نتيجة الأحداث التي سردناها من قبل ، والتي لا يعيبها أنها كانت هادئة رزينة ، والمثل العربي يقول : " أول الحرب الكلام " .
فماذا يقول الجاحدون حين ننقل للقراء أحداث الجزء الثاني المثيرة المشتعلة من مظانها ، وقد سجلتها أضابير المحاكم ، وسالت بذكرها والتعليق عليها أنهار الصحف في الداخل والخارج . ورددت صداها إذاعات العالم . وشهدت لها سجون البلاد ومعتقلاتها ؟ ... وهل كانت هذه الأحداث الصاخبة التي يطالعها القراء إن شاء الله في هذا الجزء إلا صدي للعمل الهادئ الوئيد المخطط الدءوب الذي استمر عشرين عاما دون ملل ولا صخب ولا هوادة .. وبفضل الحكمة ومهارة القائد أمكن أن تحجب الدعوة الوليدة عن أعين المتربصين من الخونة والمستعمرين ، فلم ينتبهوا لها إلا وقد صارت ماردًا يجتاح الظلم والظالمين . ونحب هنا أن نقف وقفة قصيرة أمام قضية قد يثيرها بعض الناس .. ذلك أن الجزء الأول من هذا الكتاب – بطبيعة مسايرته لأطوار الدعوة منذ كانت فكرة يجب الإقناع بها – قد استعرض كثيرا من آي الكتاب العزيز وبعضا من أحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ... وقد لا يجد القارئ في هذا الجزء مثل ذلك فيقول بعضهم : أين موضع هذا الجزء من الدين ، ولم يقرأ فيه تفسيرا لآيات ولا شرحا لأحاديث ولا تعرضا فقهية تتصل بالعبادة ؟
ولهؤلاء الأخوة الكرام نقول : أن المسلمين قد درجوا في عهودهم التي طمست فيها معالم دينهم علي أن يروا أن الكتب التي تتعلق بالدين هي الكتب التي تنحو بالقارئ ناحية علمية نظرية ، تزيد من معلوماته الدينية وتثريها ، أما ما سوي ذلك من الكتب فإنها في نظرهم كتب ليست من الدين في شيء .. مع أن الدين ممارسة عملية قبل أن يكون دراسة علمية . ذلك أن الإسلام شقان : أحدهما المعلومات والآخر التنفيذ والتطبيق ... ولم يشغل الشق الأول بكل ما فيه – من حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم وحياة الرعيل الأول معه – إلا جزءا من ألف جزء شغلها الشق الآخر ، حيث كانت حياتهم كلها مرصودة للنهوض بأعباء نشر الفكرة الإسلامية وتثبيتها في النفوس ، وللعمل المتواصل لإقامة الدولة الإسلامية علي المنهج الذي جاء به القرآن ، وللجهاد الذي لا يفتر لتحرير الشعوب من ربقة الظلم والاستبداد ، وإنقاذ الناس من العباد إلي عبادة الله – ولقد دخل الجنة رجل عاهد النبي صلي الله عليه وسلم علي أن يضرب بسهم من هنا فيخرج من هنا ، والمعركة قائمة ، فصدق الله . فصدقه الله ، ودخل الجنة قبل أن يركع لله ركعة .
وليس معني هذا أننا نغص من قيمة الشق العلمي في الإسلام ، وإنما قصدنا أن نلفت النظر إلي أن هذا الشق – مع عظيم قيمته – لا ينبغي أن يستوعب من حياة المسلم إلا القليل ، علي أن يخصص الجزء الأكبر من حياته لتنفيذ ما حازه من معلومات ، وأكثر من تسعين في المائة من المعلومات في الإسلام تتصل بالمجتمع وتطالب المسلم أن يساهم بكل ما أوتي من قدرات ومواهب في إصلاح هذا المجتمع حتى يستقيم علي أمر الله مهما كلفه من تضحيات " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر واصبر علي ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " .
وما كان الصحابة رضوان الله عليهم – علي علو قدرهم – يعرفون من الأحكام الفرعية في الدين عشر ما يعرفه الآن طلاب المراحل الأولي من الدراسة الأزهرية ، ولكن حياتهم مع ذلك كانت ممارسة عملية لما تعلموه من المعلومات الأساسية القليلة من أحكام الدين ، فكانوا يتحركون للدين ، ويسكنون للدين ، ويفرحون للدين ، ويغضبون للدين .. ويعيشون للدين ، ويموتون للدين ، وكانوا هم الذين حققوا قول الله تعالي :(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)-"سورة الأنعام") ولقد مد الله تعالي في عمر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حتى رأي أجيالا – لا شك أنها كانت أحسن منا حالا وأقرب إلي الدين منا – ومع ذلك قال عنهم : " أنزل القرآن عليهم ليعلموا به فاتخذوا دراسته عملا – إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلي خاتمته ما يسقط منه حرفا وقد أسقط العمل به " . فالإسلام ممارسة وعمل وصبر وجهاد قبل أن يكون معلومات يتعمق في دراستها ، ويتبحر في الخوض فيها .. وإذا أنت طالعت كتابا في سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم لم تقرأ إلا عن سلسلة متصلة الحلقات من الصبر والمصابرة والتجلد والثبات أمام شآبيب من نار التنكيل والتعذيب والسجن والقتل والاضطهاد والتشريد والإعنات .. وهذا هو الرسول الذي خاطبنا الله في شأنه فقال " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " .
والتاريخ يعيد نفسه .. ولا يزال المقتدون برسول الله صلي الله عليه وسلم يشقون نفس الطريق الذي شق ويعانون الآلام التي عاني ، ويواجهون الاضطهاد الذي واجه .. حتى تقوم الساعة : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)-"سورة العنكبوت") والذي يطالعه القراء في هذا الجزء من هذا الكتاب هو حلقة من حلقات هذه السلسلة التي كان الرسول صلي الله عليه وسلم وصحابته الحلقة الأولي فيها – فالأهداف هي الأهداف ، والوسائل هي الوسائل ، والعقبات هي العقبات .. وإن اختلقت شكلا فقد اتفقت موضوعا . هذه وقفة .. وهناك وقفة أخري من حق الإخوة الذين طالعوا الجزء الأول أن نعرض لها حتى تطمئن نفوسهم ، تلك هي أن هذا الكتاب هو مذكرات تسجل أحداثا تاريخية ، والأحداث التاريخية لا تخرج عن كونها مواقف لأشخاص .. ولا يمكن فصل المواقف عن الأشخاص الذين اتخذوها – فإذا كان الحدث التاريخي موقفا كريما ، فأمانة التاريخ تقتضي تسجيله لصاحبه دون أدني محاولة للغض منه ، أو غمز لصاحبه ، أو إفراغ ما قد يكون في نفس الكاتب من شعور نحوه: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)-"سورة المائدة") وهكذا جاءت مواقف سجلناها لأصحابها ، مرهونة بأوقاتها التي اتخذت فيها ، مشدودة إلي الظروف التي أحاطت بها . مستحقة من الثناء أو الذم ما أوحت به هذه الأوقات وما حكمت به هذه الظروف .
وإذا كان الله تعالي ذكره قد قطع علي نفسه عهدا في حسابه لعباده ألا يغفل لعبد منهم عملا صدر عنه مهما صغر هذا العمل فقال : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧)-"سورة الأنبياء") ثم زاد هذه القاعدة وضوحا فقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)-"سورة الزلزلة") ثم تعالي فضله وكرمه فوق أعلي مستويات العدل فقال : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)-"سورة النساء") .
ونحن– معشر المسلمين– مطالبون بأن نتخلق بأخلاق الله ... فكيف نضيق ذرعا بذكر موقف كريم – علي سبيل التسجيل التاريخي – لإنسان رأينا له فيما بعد مواقف قد تتواءم مع هذا الموقف ؟ أحب أن يكون مستقرا في خلد الإخوة أن أمانة التاريخ ، ونقل صور الأحداث وتسجيل المواقف .. أمر يجب أن يؤدي دون أن يتأثر بعاطفة الكاتب من حب الشخصيات التي يكتب عنها أو كراهية . وإذا كان شريط التسجيل عند الله يسجل الأحداث والمواقف ظاهرها وباطنها ، فإن شريط التسجيل البشري يسجل الأحداث والمواقف بظاهرها دون بواطنها ، ذلك أن الله تعالي وحده هو المحيط بكل شيء علما وهو العالم بالسر وأخفي .. أما نحن فلا ندرك إلا ما يقع في مجال حواسنا . وليس معني أن إنسانا كان في وقت من الأوقات علي حال ما ، أن يظل علي هذه الحال في كل وقت .
علي أنني ما رأيت صديقا فتنه منصب أو أبطره جاه إلا وكان شعوري نحوه شعور الإشفاق .. لا الإشفاق عليه وحده ، بل الإشفاق علي نفسي أيضا أن لو وضعت في موضعه فقد يغلبني ما غلبه ، وقد يستهويني ما استهواه ... وقلب العبد المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)-"سورة الأنعام") ونسأل مقلب ونضرع إليه أن يثبت قلوبنا علي دينه . وبعد هاتين الوقفتين القصيرتين نرجع إلي ما كنا بصدده فنقول :إن الأحداث التاريخية الكبرى تجري في أحداثها سنة الكون ، فتبدأ حياتها جنينا صغيرا يخلق خلقا من بعد خلق في بطون الأمم في ظلمات ثلاث .. حتى إذا تكاملت أسباب الحياة فيها أخذ الحمل تشتد أوجاعه ، وتتفاقم آلامه ، وتتصعد آهاته ، بالضجر من ثقله .. حتى إذا تمت للحمل ساعاته وأيامه وشهوره بدأ المخاض .. وما أشق المخاض ، وما أصعب لحظاته .. حتى تكون الولادة . وإذا كان الحدث البشري تجري عليه هذه الأطوار في بطن أمه حتى يولد في أشهر معدودة ، فإن الحدث التاريخي يستغرق لاستكمال أطواره هذه ي بطن الأمة سنين عددا .
وهكذا ساير القراء في الجزء الأول من هذا الكتاب الحدث التاريخي الذي بدأ والأمة الإسلامية ساهية لاهية تائهة ، ثم التقت بالدعوة الناشئة فاحتضنتها ، فبدأ الحدث التاريخي الكبير أول أطواره ، وأخذ ينمو في بطن الأمة ويتطور عشرين عاما ... وعلي حين غرة فوجئ الغاصبون الذين كانوا قد أوهموا هذه الأمة بأنها عقيم ووضعوا أيديهم علي كل مقدراتها من ثروة ومتاع –فوجئوا بأن الأمة علي وشك ولادة حدث خطير ، يزلزل أقدامهم ، ويسلبهم كل ما يستمتعون به من ثروة أمة ومتاعها .. فأتوا مذعورين ، وأجمعوا كيدهم علي إجهاضها متغاضين في ذلك عن كل مبادئ الأخلاق والإنسانية والرحمة والقانون . وانتهي القارئ في الجزء الأول مع استعراض ثماني محاولات من هؤلاء الغاصبين لهذا الإجهاض .. فلما فشلت هذه المحاولات لجئوا إلي محاولتين وحشيتين قصدوا بهما قتل الجنين والأم معا . والأحداث التي تصنع التاريخ لابد لها من أن تمر بهذا الطور البالغ العنف والشدة والقسوة والوحشية .. وقد رأينا أن نفرد لهذا الطور بابين في هذا الجزء الثاني من الكتاب ، حيث عملت أيد خفية علي حجبه ، لإبهام الأجيال الجديدة التي لم تعش أيامه أن التاريخ الذي يعيشونه هو من صنع صور تحركها أمامهم هذه الأيدي .. وهذه الصور المحركة من وراءهم الذين قال الله تعالي في شأنهم : (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)-"سورة آل عمران") .
يطالع القارئ في هذا الجزء مجابهة صريحة بين الدعوة الفتية وبين القوة الغاشمة . وكيف فعلت القوة الغاشمة بشباب هذه الدعوة ورجالها ونسائها من فظائع ترتجف لهولها النفوس وتقشعر الأبدان.. وكيف تلقي هذا الشباب الطاهر المؤمن هذه الوحشية بالصبر والإيمان والثبات كما أذهل هذا الشباب العالم أجمع بشجاعة وفدائية منقطعة النظير في ميدان القتال ، أذهله كذلك بصبره وجلده وثباته في ميدان المحنة والابتلاء . كانت هذه الفترة هي أشد ما مر بالدعوة من محن وما اعترض طريقها من شدائد .. إنها كانت جائحة لا يقف أمامها شيء وقدراتها لاجتثاث هذه الدعوة من أعمق أعماقها .. وقد تخلت هذه الدولة فعلا قرابة عام كامل عن كل مهمات الدول وتفرغت لهذه المهمة ، مستبيحة جميع الوسائل المشروعة وغير المشروع . لقد كنا نحن– الإخوان المسلمين – في ذلك الوقت ، لشدة ما نري من تضافر جميع القوي ضدنا ، نلتفت يمينا وشمالا فلا نري إلا أعداء أو شامتين .. حتى الشعب المسكين بدأ يتأثر بما لم يعد يسمع غيره مما تكيله لنا وسائل الإعلام من تهم وافتراءات ، فالتنكيل والتعذيب يتم في خفاء ومن وراء ستار ، والتهم العبارات .. فكأنما كنا المخاطبين بقوله تعالي : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)-"سورة الأحزاب") ولم نكن ندري بعد ، أن هذا الذي هو طور لابد منه لإقرار حدث تاريخي جديد .. لم نكن ندري أن هذا هو طور المخاض لحمل تكون في بطن الأمة خلال عشرين عاما وقد آن للمولود أن يولد – وإذا كانت فترة المخاض لإقرار الحدث التاريخي شهورا وسنين .
ولعمري إنها لحقائق تاريخية لسنا في إيرادها متخيلين ولا متوهمين ولا مدعين .. وإذا كان هناك من يدعون أن لهم فضلا في صنع هذا التاريخ فليأتونا بما سجله التاريخ لهم من فكرة محددة المعالم بثوها لمدة عشرين عاما في أذهان الشعب المصري والشعوب العربية والإسلامية ، فأحيت هذه الشعوب من موات ، وأيقظتها من سبات ، وجمعتها بعد شتات ، وواجهت بها – بعد تربية علي أعلي المستويات – الفساد في الداخل والاغتصاب والاستعمار في الخارج . . و لو كان الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي قد وجدا أمامهما من يعترض طريقهما أو من يخشيان علي وجودهما منه ، لكان لهما معه موقف شبيه بموقفهما من الإخوان المسلمين :
أولئـك آبائـي فجئني بمثلهم إذا جمعتنـا يا جـرير المجـامع
لقد نكلت الحكومة الحاقدة المؤيدة بكل قوي البغي الداخلية والخارجية برجال هذه الدعوة وشبابها ونسائها ومزقهم كل ممزق ... ثم لم تكتف بذلك بل أرادت أن تمحو هذه الدعوة من التاريخ ، فتقدمت بالحطام الذي أبقي عليه التنكيل والتعذيب من هؤلاء الشباب الأبطال إلي القضاء ، بقضايا مجهزة بأخطر التهم وباعترافات خطية مفصلة .. فكانت هذه الخطوة هي أشد علينا من كل ما لقينا من عنت وظلم وافتراء وتعذيب .. ذلك أن كلمة الفاصلة التي يتلقاها التاريخ بتجلة وثقة واحترام .. وإذا ضلل القضاء فقال كلمته – بناء علي ما قدم إليه من أدلة مزورة والقضاء بشر لا يعلمون الغيب – فإن كلمته هذه تدمغ المقضي في شأنه دمغا يمحو تاريخه ويقضي علي مستقبله .. إن كلمة القضاء قبر يواري فيه من دمغته كلمته إلي الأبد .
ولكن الله جلت قدرته صدق وعده إذ قال :(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا - "55 سورة النور") فقد تكفل هذا العليم الخبير القدير بأن يجعل هذا القبر الذي أعدوه لهذه الدعوة قبرا لهم .. أو ليس هو سبحانه الذي وصف قدرته فقال :(وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨)-"سورة النحل") سجل وعده فقال : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)-"سورة الصافات").
ولا يحسبن القارئ الكريم أن الغلبة والنصر وعد الله بهما لا يتحققان إلا بتولي الموعودين مناصب الحكم .. فمناصب الحكم عارضه وزائله ، وستنسي علي الأيام وينسي من شغلوها ، ولا يبقي في أذهان الناس إلا رذائلهم وسخافاتهم وطيشهم .. وإنما النصر هو التمكين في الأرض .. هو تغلغل الفكرة التي تدعو إليها في عقول الناس وقلوبهم ، وامتزاجها بدماء مهجهم ، وصياغتها الأجيال تلو الأجيال علي النمط الذي توحي به الطراز الذي تنشده ، مهما تعاقبت الأيام وتغيرت الظروف .. ولا تعترف بالعقبات ، ولا تكترث بالمعوقات.. فهي ماشية في طريقها كوكبا هاديا في ظلمات ليل يهيم يتبلج الفجر فتكون هي شمسه المشرقة التي ينعم الجميع بنورها ويستمتعون بدفئها وحيويتها . كان لابد للشعب أن يشهد ويقرأ ويسمع – بعد أن طال أمد تضليله – عن طريق ساحات القضاء ما حجب عنه من بطولات أبنائه وشجاعتهم وفدائيتهم ، وأن يشهد ويقرأ ويسمع ما أخفي عنه – من مخازي تلك العهود وخياناتها وتواطئها مع المستعمر – ما يحرك شعور هذا الشعب ويثير حفيظته ، وما يعده إعدادا عقليا ونفسيا وعاطفيا لثورة عاصفة لا تبقي من هذه العهود علي أثر .
والمستعمرون وآلاتهم من حكام الشعوب المستضعفة لا يملون ولا ييأسون مهما فشلت خططهم ، ومهما حبطت مؤامراتهم ، فلقد لجئوا أخيرا والدعوة لا تزال في طور ما بين الحياة والموت إلي تطويقها عن طريق التشريعات والقوانين ... وهذا باب من أخطر الأبواب الخبيثة الماكرة ، فهو أسلوب هادئ للإعدام بالسم الزعاف الذي لا يسمع له صوت ولا يحس له ضجيج .. هذا هو أسلوب الاحتواء الذي يقضي علي شخصية الهيئات والأفكار والدعوات دون أن تحس هي أو يحس غيرها - ولا يلجأ إليه عادة إلا الحكام الماكرون المفتونون بغرور السلطة ، الذين يعميهم الغرور فينسون أنهم زائلون .. وقد عانت الدعوة أيضا هذا النوع من طرق الإبادة ، وأفردنا له فصلا كاملا لما له من خطورة بالغة علي حياة الدعوات وعلي حياة الأمم نفسها .
وقد لا يعيب الإخوان المسلمين أن يعترفوا بأن اغتيال المرشد العام بالطريقة التي رتبت لاغتياله كان أشد أثرا في تعريض الدعوة للتبدد والفناء من كل ما ووجهت به من أساليب القهر والكبت والعسف والتعذيب – ذلك أن دعوة بلا قيادة هي جسم بلا رأس .. ولا يعيبهم إذا قالوا أنهم عانوا من هذا الموقف طويلا أشد المعاناة . فلقد كان حال الإخوان في ذلك الوقت حال سفينة غاصة بركابها ، عصفت بها الرياح الهوج وهي وسط بحر صاخب مائج موجه كالجبال ، فاختطفت الرياح الهوج أول ما اختطفت ربانها الذي كان ساهرا علي قيادتها وتوجيهها .. ثم أخذت الرياح تلعب بدفئها فترنحت السفينة يمينا وشمالا حتى أبقي بها علي صخرة عاتية متشعبة فتحطمت ، وصار ركابها حيارى لا يرون لأنفسهم من الهلاك منجئ ولا مهربا .. كل ذلك والحشد الحاشد الواقفون علي الشاطئ يرقبون السفينة منذ عصفت بها الرياح ومزقتها الأمواج ، ويرون الركاب يغالبون الموت وهو محيط بهم من كل جانب .. ولم يعد من يبتلعها اليم وتغوص بمن فيهم إلي العمق السحيق .
وبينما هم يترقبون هذه اللحظة الأخيرة ، إذا بهم يرون واحدا من هؤلاء المغالبين قد غالب الموج حتى غلبه ، وشق طريقه إلي الدفة المترنحة فأمسك بيدين قويتين ، فأوقف تذبذبها ، ووجه ما بقي من حطام السفينة بمن فيه إلي بر الأمان . فما كان من الحشد الحاشد علي الشاطئ إلا أن تلقوهم بالعناق والأحضان ، وقد أقنعهم ما رأوا بأعينهم أن هذا الربان الذي أنقذ السفينة بمن فيها من الهلاك المحقق ، جدير أن يتخذوه في البر قائدا ومرشدا وأميرا .. وهكذا استطاع الإخوان أن يخرجوا من محنتهم ومن حيرتهم ، ومن ضياع كان محيطا بهم ، ومن تشتت كاد يأتي عليهم – بالتفافهم حول مرشد جديد رشحته لهم العناية الإلهية في أقسي الظروف وأحرج الأحوال . وهكذا خرج الإخوان من محنتهم ، لا ليستردوا حريتهم فحسب ، بل ليتسلموا لواء القيادة في السلوك ببلادهم إلي طريق جديد .. فلقد كان في خروجهم من آتون المحنة سالمين ، في أتم عافية ، ما أذهل الذين أوقدوا لهم هذا الآتون .. فأسقط في أيديهم ، ولم يملكوا إلا أن يقفوا أمام هذه الآية خاشعين .
ومع ذلك فإن القيادة الجديدة لم تسلم من عقبات المعوقين من داخل البناء الإخواني ، كما لم من مكر الكائدين من خارجه .. ولكن هذه القيادة – بحكمة خطواتها ، وبصلابة عودها ، وبإخلاص نياتها ، والتفاف الإخوان من حولها – استطاعت بفضل الله أن تتفادى هذه العقبات ، وأن تشق طريقها بهذه الأمة إلي الغاية التي كان الشعب يتمناها ، وهي تحريره من تاريخ طويل مظلم مستبد ، إلي تاريخ مشرق جديد .. وقد نجحت هذه القيادة في تحقيق هذا الأمل العظيم ، وزحفت بالشعب حتى بلغت به نهاية الشوط ، ووضعته علي أول الطريق الجديد .
- محمود عبد الحليم
- 25 من صفر الخير سنة 1401
- الإسكندرية في أول يناير سنة 1981م
البـابُ الأول: آخر ما كانَ في جعبَة التآمر العالمِيُ وَهما : خطتا الإبادة
مقـدمة
وقفنا في الفصل الأخير من الجزء الأول من هذه المذكرات في استعراضنا لخطط التآمر العالمي علي دعوة الإخوان المسلمين عند الخطة الثامنة ، وأرجانا تناول الخطتين الأخيرتين من هذه الخطط إلي هذا الجزء من المذكرات ... وما كان المتآمرون يعتقدون أنهم سيحتاجون إلي اللجوء إلي هاتين الخطتين في يوم من الأيام ، فالخطط الثماني السابقة كانت كافية – في نظرهم وحسب تجاربي – لسحق أعظم هيئة تقف في طريقهم ... ولكنهم فوجئوا بما لم يكونوا يحتسبون ، من فشل الخطط الثماني في النيل – ولو خدشا – من البناء الإخواني المتين .
وجدوا أنفسهم – حينئذ – مضطرين إلي اللجوء إلي الخطتين المدخرتين ، وهم يعلمون أنهما خطتا إبادة ومحو من الوجود ؛ لأنهما من الفظاعة والجرأة والعنف والتوحش بحيث يرتاع العالم لفظاعتهما وتوحشهما ، وبحيث يغطي دويهما علي أصداء الأحداث الجسام التي كانت تجري علي أرض مصر والبلاد العربية في ذلك الوقت . ولم يقدم المتآمرون علي النزول بهاتين الخطتين إلي ميدان المعركة إلا بعد أن وثقوا من توفر جميع أسباب نجاحهما .. ومما يوسف له ، ومما يدمي القلب أن أهم هذه الأسباب أن يكون تنفيذهما بأيد مصرية ... وقد اطمأنوا تمام الاطمئنان إلي وجود هذه الأيدي مستعدة متلهفة . وقد يختلف المحللون للأحداث في تعليل التوقيت الذي اختاره المتآمون للإقدام علي ارتكابهما ، فيعلل بعضهم الإقدام عليهما في ذلك الوقت بأنه كان تغطية لفشل الحكومة المصرية في تحقيق الأهداف الوطنية ، ولعجزها عن إحراز أي نجاح في الوصول بالقضية المصرية إلي أدني ما يؤمله المصريون .
ويعلل آخرون هذا التوقيت بأنه كان لإسدال ستار علي مهازل هذه الحكومة في قضية فلسطين ، ولصرف أنظار المصريين عن النهاية الأليمة للجيش المصري فيها نتيجة السياسة الخرقاء التي عالجت بها هذه الحكومة شئون هذه الحرب ، وتخطيها وتناقضها واستبدادها برأيها ، ورفضها الاستماع إلي نصائح الناصحين وتحذير الخبراء المخلصين . وإطلاقا لضباب كثيف يحجب الرؤية عما تخلل هذه الحرب من خيانات ، ظهر أثرها في الأسلحة الفاسدة التي أمد بها الجيش ، فكانت الذخيرة الموجهة إلي العدو – بدلا من أن تنفجر فيه – تنفجر في جنودنا وضباطنا وضباط بهم وتقضي عليهم . ويري بعض المحللين أن ثورة اليمن التي نشبت ضد الإمام يحيي حميد الدين كانت الدافع الحقيقي إلي هذا التوقيت ، فقد نشبت هذه الثورة في أوائل عام 1948 وقرار الحل صدر في أواخر العام نفسه . وهناك من يري أن ظهور القوة المذهلة للروح الفدائية لمتطوعي الإخوان المسلمين في فلسطين هي التي حددت هذا التوقيت ، وحملت مديري المؤامرة العالمية علي التعجيل بما كانوا يدخرون من خطط الإبادة . علي أننا أن هذه التعديلات كلها مجتمعة هي التي تضافرت معا علي تحديد هذا التوقيت .
الخطة الأولي للإبادة
الفصل الأول: صدور أمر عسكري بالحل
صدور أمر عسكري بالحل كان هو الخطة التاسعة في سلسلة خطط التآمر العالمي علي الدعوة ، إلا أنه كان خطة بعيدة المدى ، قادحة الآثار ، بالغة العنف ، لما اقترن بها من أساليب فاقت في التوائها وغرابته وتجافيها عن الذوق والعقل والقانون والمنطق والإنسانية أساليب اللصوص والمجرمين وقطاع الطريق .ويبدو أن المتآمرين قد اختاروا لتنفيذ هذه الحلقة من السلسلة النقراشي رئيس الوزراء في ذلك الوقت ، لما يعلمون عنه من ضيق الأفق وقصر النظر وبلادة التفكير ، وهي مؤهلات تضمن لهم أن يكون التنفيذ بطريق الطاعة العمياء ... ولا يصلح لهذه المهمة إلا رجل اجتمعت خلال سنوات ثلاث تولي خلالها رياسة مرتين ..فكان هو طلبتهم والشخصية التي يندر وجودها بل وقد يستحيل وجودها.. فكل البلاد المتحضرة لا يصل إلي رياسة الوزارة فيها إلا الرجل الكفء القدير البعيد النظر الواسع الأفق الذي يجمع بين الذكاء والمرونة التي هي محصلة كل صفات الكفاءة .
أما في مصر ، وفي تلك الحقبة من الزمان ، فإن استهتار الملك بالشعب ، حزبا من الأحزاب المصطنعة ، ما كان له أن يصل إلي الحكم فإذا استدعاء الملك ، ضمن هذا الملك يجد تحت قدميه حكاما يصدعون بأمره ، ويذعنون لصلفه ، ويلهجون بذكره ، ويسبحون بحمده ويتنافسون علي إشباع نزواته . وقتل رئيس هذا الحزب – المسمي حزب السعديين – فخلفه علي كرسي الوزارة نائبه في الحزب .. وكثيرا ما يكون نائب الرئيس في التجمعات السياسية صالحة لممارسة كل الأعمال إلا الرياسة .. وكان النقراشي باشا من هذا الطراز .. فتولي الوزارة مرتين جر خلالهما علي البلاد نكبات لم تمن بمثلها من قبل ، ففي عهده هوجم الطلبة بالمدافع الرشاشة فحصدوا حصدا – إذ هو صاحب موقعة كوبري عباس الثانية التي نوهنا عن فظاعتها في الجزء الأول من هذا الكتاب .. وفي عهده ثبت الاحتلال البريطاني أقدامه في أرض مصر .. وفي عهده ضاعت فلسطين وسلمت إلي اليهود وتأسست دولتهم علي أرضها ، وجلل الجيش المصري الباسل بالخزي والعار لهزائم لا دخل له فيها ، ولا ذنب عليه فيما حاق به منها ، ولكنها هزائم ورط فيها هذا الجيش نتيجة سوء تصرف هذا الحاكم وقصر نظره وفساد تقديره وتحجر عقله ، وارتضائه أن يكون ألعوبة في يد المستعمر .
وظهرت براعة المتآمرين في اختيارهم منفذ المؤامرة ، واقتصرت مهمتهم بعد ذلك علي وضع هذا المنفذ علي قمة المنحدر ، وارتضي هو لنفسه هذا الوضع واهما – لقصر نظره – أنه يقعد علي أرض منبسطة .. وأخذ في الانطلاق فإذا به يتدهور ، وكل تدهور يسلمه لما هو أنكي منه ، وهو لا يملك من أمر نفسه شيئا ، ولا يجد حاجزا يحجزه فيقف بتدهوره عند حد ... حتى تحطم وتحطمت معه البلاد ، والمتآمرون يتفرجون فرحين جذلين .
وكان الوهم الذي سلط علي العقلية القاصرة للنقراشي باشا أنه – وقد أيد بسلطة الملك ، لاسيما ومستشار الملك ورئيس ديوانه هو إبراهيم عبد الهادي صنو النقراشي ونائبه في الحزب .. ومن ورائه مجلس نواب صنعه بيده وأعضاؤه من صنائعه .. ثم أنه مسلح بأمضى سلاح يشهره في وجه من يشاء وكيفما شاء هو سلاح الأحكام العرفية – فقد ظن أنه في مأمن من عوادي الدهر وكوارث الأيام ، وفي حصن منيع تتقطع دونه الرقاب ، ويرجع عنه كل هجوم عليه وهو كسير حسير . وهكذا يعمي هليمان السلطة في دائرة الوهم ، ويدورون معه حيث يدور ، ويندفعون في تياره حيث يدفعهم ، حتى يرتطموا أخيرا بصخرة الواقع فيتحطمون ، وحينئذ يفيقون بعد فوات الأوان ... وخطورة هذا التحطم أنه يجر معه الخراب والدمار علي البلاد التي ابتليت بهذا النوع من الحكام .
ومما يضاعف من أضرار هذا النوع من الحكام أنهم لا يحيطون أنفسهم في الحكم إلا بأمثالهم من قصيري النظر من هواة السلطة وعشاق المناصب – وقد قيل من قبل : شبيه الشيء منجذب إليه – فيكملون بذلك حلقة الظلام المطبقة حولهم – فتري الذين يصلون إلي المناصب الحساسة المحيطة بهم أحد رجلين ، إما متسلق ميت الضمير ، وإما هو شاكلتهم من ضيقي الأفق وقاصري الإدارة وممن لا يتعدي مدي بصرهم أطراف أنوفهم – مع أن هذا النوع من الحكام هم أحوج أن يكون بجانبهم مساعدون علي أعلي مستوي من الذكاء والمرونة وبعد النظر حتى يكملوا ما بهؤلاء الحكام من نقص ، وحتى يبصروهم بما لا يرون من عواقب الأمور ، فتصدر القرارات بذلك مجانية للخطأ قريبة من الصواب .
ولكن هكذا كان ... أن تولي النقراشي – قيادة البلاد في أحرج ظروفها – وهو ما هو مما وصفنا – واستعان مع ذلك بمن هم شر منه من أمثال عبد الرحمن عمار الذي اختاره وكيلا لوزارة الداخلية للأمن العام – وسوف يري القارئ في صفحات قادمة إن شاء الله مدي أدراك هذا الرجل أيضا ونصيبه من الفهم والبصيرة والذكاء . صورة تخطيطية لهيئة الإخوان في ذلك الوقت :
وقبل أن ننقل للقارئ نص قرار الحل ومذكرته التفسيرية نضع بين يديه صورة تخطيطية مجملة لهيئة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت ، حتى يتصور القارئ عظم الجريمة التي أقدم عليها اللاعبون بالنار ممن أصدوا هذا القرار وهم عامدون . كانت صورة هذه الهيئة فيما تضم ما يأتي : 1 – المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة. 2 – أكثر من 2000 (ألفي) شعبة في أنحاء القاهرة والأقاليم . 3– ما يقارب هذا العدد من جمعيات البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين في أنحاء القطر ، وبالكثير منها مستوصفات ومدارس ونواد رياضية . 4– جيش من الفدائيين يحارب في فلسطين ، وكان في تلك الفترة يحمي مؤخرة الجيش المصري ، وكان القائد العام للجيش المصري بفلسطين يطالب الحكومة المصرية في نفس تلك الفترة بالإنعام بأوسمة البطولة ونياشينها علي ضباط هذا الجيش الفدائي وجنوده لما ظهروا من بطولات فاقت كل تقدير ، ولما قدموا من خدمات للجيش المصري لا يستطيعها غيرهم , 5– شركة دار الإخوان للصحافة ، بشركة مساهمة مصرية مركزها القاهرة ، وتصدر جريدة يومية ومجلة أسبوعية عدا مجلتين شهيرتين . 6 – شركة دار الإخوان للطباعة – شركة مساهمة مصرية مركزها القاهرة . 7 – دار الطباعة والنشر الإسلامية بالقاهرة ، وهي تصدر سيلا من الكتب الإسلامية القيمة والرسائل النافعة . 8 – شركة المناجم والمحاجر العربية – شركة تضامن ، ومنضم إليها شركة المعاملات الإسلامية بالقاهرة . 9 – شركة الإخوان للنسيج بشبرا . 10- شركة الإعلانات العربية بالقاهرة . 11- شركة الإخوان للتجارة بميت غمر . 12- شركة لإصلاح الأراضي بنجع حمادي و ... وغير ذلك من المؤسسات .
ثم ننقل فيما يلي نص الأمر العسكري الهمجي الذي أصدره النقراشي باشا للقضاء علي أعظم هيئة نافعة في تاريخ مصر ، فكان كالطفل الذي أوقد النار في بيتهم وهو يلعب فأتت عليه وعلي أبيه وأمه وأسرته . نص الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 بحل الإخوان المسلمين الأربعاء 7 صفر 1368 – 8 ديسمبر 1948
أمر عسكري بحل جمعية الإخوان المسلمين وجميع شعبها
بعد الإطلاع علي المرسوم الصادر في 31 مايو 1948 بإعلان الأحكام العرفية . وعلي المادة الثالثة (بند 8) من القانون رقم 15 لسنة 1923 الخاص بنظام الأحكام العرفية والقوانين المعدلة له . وبمقتضي السلطات المخولة آنفا بناء علي المرسوم المتقدم ذكره ما هو آت .
مادة 1 – تحل فورا الجمعية المعروفة باسم جماعة الإخوان المسلمين بشعبها في جميع أنحاء المملكة المصرية وتغلق الأمكنة المخصصة لنشاطها ، ونضبط الوراق والوثائق والسجلات والمطبوعات والمبالغ والأموال ، وعلي العموم كافة الأشياء المملوكة للجمعية .
ويحظر علي أعضاء مجلس إدارة الجمعية المذكورة وشعبها ومديريها وأعضائها والمنتمين إليها بأية صفة كانت مواصلة نشاط الجمعية ، ويوجه خاص عقد اجتماعات لها أو لإحدى شعبها أو تنظيم مثل هذه الاجتماعات أو الدعوة إليها أو جمع الإعانات أو الاشتراكات أو الشروع في شيء من ذلك . وبعد من الاجتماعات المحظورة في تطبيق هذا الحكم اجتماع خمسة فأكثر من الأشخاص الذين كانوا أعضاء بالجمعية المذكورة . كما يحظر علي كل شخص طبيعي أو معنوي السماح باستعمال أي مكان له لعقد مثل هذه الاجتماعات أو تقديم أية مساعدة مادية أو أدبية أخري .
مادة 2 – يحظر إنشاء جمعية أو هيئة من أي نوع كانت أو تحويل طبيعة جمعية أو هيئة قائمة إذا كان الغرض من الإنشاء أو التحويل القيام بطريق مباشر بالنشاط الذي كانت تتولاه الجمعية المنحلة أو إحياء هذه الجمعية علي أية صورة من الصور كما يحظر الاشتراك في كل ذلك أو الشروع فيه .
مادة 3 – علي كل شخص كان عضوا في الجمعية المنحلة أو منتميا إليها وكان مؤتمنا علي أوراق أو مستندات أو دفاتر أو سجلات أو أدوات أو أشياء من أي نوع كانت متعلقة بالجمعية أو بإحدى شعبها أن يقدم تلك الأوراق والأشياء إلي مركز البوليس المقيم في دائرته في خلال خمسة أيام من تاريخ نشر هذا الأمر .
مادة 4 – يعين بقرار من وزير الداخلية مندوب خاص تكون مهمته استلام جميع أموال الجمعية المنحلة وتصفيه ما يري تصفيته منها ، ويخصص الناتج من التصفية للأعمال الخيرية أو الاجتماعية التي يحددها وزير الشئون الاجتماعية بقرار منه .
مادة 5 – علي كل شخص كان عضوا في الجمعية المنحلة أو منتميا إليها وكان مؤتمنا علي أموال – أيا كان نوعها – تخص الجمعية أو إحدى شعبها أن يقدم عنها إقرارا للمندوب الخاص المشار إليه في المادة السابقة في خلال أسبوع من تاريخ نشر هذا الأمر ، وعليه أن يسلمها إلي ذلك المندوب في الميعاد الذي يحدده لهذا الغرض أو في تاريخ استحقاقها علي حسب الأحوال .
مادة 6 – يجب علي كل شخص طبيعي أو معنوي كانت له معاملات مالية من أي نوع كانت أن يقدم عنها إقرارا مبينا به طبيعة هذه المعاملات والمستندات المؤيدة لها ، وما إذا كان مدينا أو دائنا بأي مبلغ وموعد الاستحقاق إلي غير ذلك من البيانات التي تسمح بتعرف مع الجمعية أو إحدى تلك المعاملات ، ويقدم هذا الإقرار إلي المندوب الخاص المعين طبقا للمادة الرابعة بكتاب موصي عليه في خلال أسبوع من تاريخ نشر هذا الأمر . ويجوز دائما للمندوب الخاص إلغاء جميع العقود التي كانت الجمعية المنحلة أو إحدى شعبها مرتبطة بها ولم يبدأ أو لم يتم تنفيذها دون أن يترتب علي هذا الإلغاء أي حق في التعويض للمتعاقدين معها .
مادة 7 – كل مخالفة لأحكام المواد 1 ، 2 ، 3 يعاقب مرتكبها بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد علي سنتين وبغرامة لا تقل عن مائتي جنيه ولا تجاوز ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين ، وذلك مع عدم الإخلال بتطبيق أي عقوبة أشد ينص عليها قانون العقوبات أو أي قانون أو أمر آخر ، فضلا عن مصادرة الأموال موضع الجريمة ، ويجوز لرجال البوليس أن يغلقوا بالطريق الإداري الأمكنة التي وقعت فيها الجريمة .
مادة 8 – كل مخالفة لأحكام المادة الخامسة يعاقب مرتكبها بالحبس وبغرامة قدرها خمسون جنيها ، فإذا كانت قيمة المبلغ الذي لم يقدم عنه الإقرار المشار إليه في المادة الخامسة تزيد علي خمسين جنيها كانت العقوبة الحبس وغرامة تعادل قيمة المبلغ المذكور بحيث لا تزيد علي 4000 (أربعة آلاف جنيه .
مادة 9 – إذا كان الشخص المحكوم عليه في إحدى الجرائم السابقة موظفا أو مستخدما عموميا أو بمجالس المديريات أو المجالس البلدية أو القروية أو أية هيئة عامة أخري أو كان عمدة أو شيخا تحكم المحكمة أيضا بفصله من وظيفته ، وإذا كان طالبا في إحدى معاهد التعليم الحكومية أو الواقعة تحت إشراف الحكومة تحكم أيضا بفصله منها وحرمانه من الالتحاق بها لمدة لا تقل عن سنة .
مادة 10- يكون للمندوب الخاص المعين طبقا للمادة الرابعة صفة رجال الضبطية القضائية في تنفيذ أحكام المادتين 3 ، 5 وله في هذا السبيل حق دخول المنازل وتفتيشها كما أن له تفويض من يندبه لهذا الغرض في إجراء عمل معين من تلك الأعمال . ويعفي المندوب المذكور والمفوضون عنه وكذلك رجال الضبطية القضائية في مباشرة تلك الإجراءات من التقيد بالأحكام الموضوعية لهذا الغرض في قانوني تحقيق الجنايات .
المـذكرة التفسيرية :
وفيما يلي نص المذكرة المرفوعة رئيس الوزراء بطلب حل جمعية الإخوان المسلمين : تألفت منذ سنوات جمعية اتخذت لنفسها اسم " الإخوان المسلمين " وأعلنت علي الملأ أن لها أهدافا دينية واجتماعية دون أن تحدد لها هدفا سياسيا معينا ترمي إليه ، وعلي هذا الأساس نشطت الجمعية وبثت دعايتها ، ولكن ما كادت تجد لها أنصارا وتشعر بأنها اكتسبت شيئا من رضا بعض الناس إلي وصولهم إلي الحكم وقلب النظم المقررة في البلاد . وقد اتخذت هذه الجماعة – في سبيل الوصول إلي أغراضها – طرقا شتى يسودها طابع العنف ، فدربت أفرادًا من الشباب أطلقت عليهم اسم " الجوالة " وأنشأت مراكز رياضية تقوم بتدريبات عسكرية مستترة وراء الرياضة . كما أخذت تجمع الأسلحة والقنابل والمفرقعات وتخزنها لتستعملها في الوقت الذي تتخيره ، وساعدها علي ذلك ما كانت تقوم به بعض الهيئات من جمع الأسلحة والعتاد بمناسبة قضية فلسطين . وأنشأت مجلات أسبوعية وجريدة سياسية يومية تنطق باسمها سرعان ما انغمست في تيار النضال السياسي متغافلة عن الأغراض الدينية والاجتماعية التي أعلنت الجماعة أنها قامت لتحقيقها . ولا أدل علي هذا مما أثبته ممثل النيابة العسكرية العليا في مذكرة له في شأن ما أسفر عنه تحقيق قضية الجناية العسكرية رقم 882 لسنة 1942 قسم الجمرك ، إذ قال عن جمعية الإخوان المسلمين " ويفحص المكاتب الأخرى اتضح من الإطلاع علي التقرير المرسل من بعض أعضاء الجماعة في طنطا أنهم يعيبون علي الجمعية سياستها الحالية التي تصطبغ بصبغة دينية بحتة ، ويطلبون أن تكشف الجمعية للجمهور عن حقيقة مراميها وعن الغرض الأساسي من تكوينها الذي ينصب بالذات علي أن الجمعية ليست جمعية دينية بالمعني الذي يفهمه الجمهور ، وإنما هي جمعية سياسية دينية اجتماعية تنادي بتغيير القوانين وأساليب الحكم الحالية ، وأن الخطب الدينية لا تفيد في توجيه الجمهور إلي تفهم غرضها الحقيقي ، وأن الوسيلة لبلوغ هذا هو إثارة الجمهور بطريقة طرق مشاعره وحساسيته لا عقله وتقديره ، إذ أن هذه الناحية الأخيرة هي ناحية ضامرة فيه .... إلخ " وقد كتب الشيخ حسن البنا رئيس الجماعة بخط يده علي هذا التقرير إنه مؤمن بما ورد فيه موافق علي ما تضمنه من مقترحات .
ومما يؤيد هذا الاتجاه ما حدث في 8 فبراير 1946 بإحدى قرى مركز أجا إذ قام طالب يخطب الناس حاثا إياهم علي الانضمام لشعبة الإخوان المسلمين في تلك القرية ، ومحرضا علي مقاومة كل من يتعرض لهذه الجماعة من رجال الإدارة وغيرهم ، ولو أدي ذلك إلي استعمال السلاح . وقد استمر قادة الجماعة ورؤساؤها يعالجون الأمور السياسية في خطبهم وأحاديثهم ونشراتهم جهرة متابعين الأحداث السياسية ، منتهزين كل فرصة تسنح لهم للوصول إلي أغراضهم . وكان بعض الموظفين قد استهوتهم الأهداف الاجتماعية والدينية التي اتخذتها الجماعة لأحزاب سياسية . كما امتدت دعوة الجماعة إلي أوساط الطلبة ، واجتذبت فريقا منهم ، فأفسدت عليهم أمر تعليمهم وجعلت من بينهم من يجاهر بانتسابه إليها ويأتمر بأمرها فيحدث الشغب ، ويثير الاضطراب في معاهد التعليم ، مما أخل بالنظام فيها إخلالا واضح الأثر .
ولقد تجاوزت الجماعة الأغراض السياسية المشروعة إلي أغراض يجرمها الدستور وقوانين البلاد ، فهدفت إلي تغيير النظم السياسية المشروعة إلي أغراض يجرمها الدستور وقوانين البلاد ، فهدفت إلي تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب ، ولقد أمعنت في نشاطها فاتخذت الإجرام وسيلة لتنفيذ مراميها – وفيما يلي بعض أمثلة قليلة لهذا النشاط الإجرامي كما سجلته التحقيقات الرسمية في السنوات الأخيرة :-
أولاً : أوضحت تحقيقات الجناية العسكرية العليا سنة 1942 قسم الجمرك حقيقة أغراض هذه الجماعة ، وأنها تهدف إلي قلب النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية متخذة طرقا إرهابية بواسطة فريق من أعضائها دربوا تدريبا عسكريا وأطلق عليهم اسم " فريق الجوالة " .
ثانيا : وبتاريخ 6 يونيو 1946 وقع اصطدام في مدينة بورسعيد بين أعضاء هذه الجماعة وخصوم لهم استعملت فيه القنابل والأسلحة ، وأسفر عن قتل أحد خصومهم وإصابة آخرين . وضبطت لذلك واقعة الجناية رقم 679 لسنة 1946 قسم ثان بورسعيد .
ثالثا : وبتاريخ 10 ديسمبر 1946 ضبط بعض أفراد هذه الجماعة بمدينة الإسماعيلية يقومون بتجارب لصنع القنابل والمفرقعات .
رابعا : كما وقعت بتاريخ 24 ديسمبر 1946 حوادث إلقاء قنابل انفجرت في عدد أماكن بمدينة القاهرة وضبط من مرتكبيها اثنان من هذه الجماعة ، قدما لمحكمة الجنايات فقضت بإدانة أحدهما (قضية الجناية رقم 767 لسنة 1946 قسم عابدين – 117 سنة 1946 كلي) .
خامسا : وقد تعددت حوادث اشتباك أفراد هذه الجماعة مع رجال البوليس ومقاومتهم لهم بل والاعتداء عليهم وهم يؤدون واجبهم في سبيل حفظ الأمن وصيانة النظام ، مثال ذلك ما حدث في يوم 29 يوليه 1947 بدائرة قسم الخليفة من اعتداء فريق جوالة الإخوان المسلمين علي مأمور هذا القسم ورجاله .
سادسا : وقد ثبت من تحقيق الجناية رقم 4726 لسنة 1947 الإسماعيلية أن أحد أفراد هذه الجماعة ألقي قنبلة بفندق الملك جورج بتلك المدينة فانفجرت وأصيب من شظاياها عدة أشخاص ، كما أصيب ملقيها نفسه بإصابات بالغة
سابعا : وحدث في 19 يناير 1948 أن ضبط خمسة عشر شخصا من جماعة الإخوان المسلمين بمنطقة جبل المقطم يتدربون علي استعمال الأسلحة النارية والمفرقعات والقنابل ، وكانوا يحرزون كميات كبيرة من هذه الأنواع وغيرها من أدوات التدمير والقتل .
ثامنا : وفي 17 فبراير 1948 اعتدي فريق من هذه الجماعة علي خصوم لهم في الرأي بأن أطلقوا عليهم أعيرة نارية قتلت أحدهم ، وكان ذلك بناحية كوم النور مركز ميت غمر وضبطت لذلك واقعة الجناية رقم 1407 لسنة 1948 .
تاسعا : كما عثر بتاريخ 22 أكتوبر 1948 بعزبة فرغلي رئيس شعبة الإخوان المسلمين بالإسماعيلية علي صندوق يحتوي علي قنابل ، مما استدعي تفتيش منزله ، فإذا بأرض إحدى الغرف سردابان بهما كميات ضخمة من القنابل المختلفة والمفرقعات والمقذوفات النارية والبنادق والمسدسات واحد عشر مدفعا . كما عثر في فجوة بأرض الغرفة علي وثائق تقطع بأن هذه الجماعة تعد العدة للقيام بأعمال إرهابية واسعة النطاق .
عاشرا : وحرقت في 18 يناير 1947 أحطاب لأحد الملاك بناحية كفر بداوي ، واتهم بوضع النار فيها فريق من شعبة الإخوان المسلمين بتلك القرية ، ولما قام البوليس بالفحص عن أحوال تلك الشعبة تبين أن أحد أعضائها مقدم لمحكمة الجنايات في جريمة قتل شيخ خفراء البلدة .
حادي عشر : وبتاريخ 3 فبراير 1948 قام بعض أفراد شعبة الإخوان المسلمين بناحية البرامون بإبهام الأهالي بأنهم سيعملون علي زيادة أجورهم وإرغام تفتيش أفيروف الذي يقع بزمام القرية علي تأجير أراضيه مقسمة علي الأهالي بإيجار معتدل ، وقاموا بمظاهرات طاقت بالقرية تردد هتافات مثيرة ، ولما أقبل رجال البوليس لقمع الفتنة اعتدوا عليهم بإطلاق النار وقذف الأحجار . وقد وقع شجار بعد ذلك بنفس القرية في يوم 13 مارس 1948 بين جماعة الإخوان المسلمين ومن واليهم وبين خصوم لهم فأسفر عن قتل أحد الأشخاص وإصابة آخرين .
ثاني عشر : وفي يوم 26 يونيه 1948 حرض الإخوان المسلمون عمال تفتيش زراعة محلة موسي التابع لوزارة الزراعة علي التوقف عن العمل مطالبين بتملك أراضي هذا التفتيش ، الأمر الذي سجلته القضية رقم 921 لسنة 1948 جنح كفر الشيخ .
ثالث عشر : من الأساليب التي لجأت إليها الجماعة إرسال خطابات تهديد لبعض الشركات والمحال التجارية لابتزاز أموال منها علي زعم أنها مقابل الاشتراك في جريدتهم ، واقتنصوا بالفعل موالا بهذه الوسيلة . وقد تقدمت بعض هذه الشركات بالشكوى من هذا التهديد طالبة حمايتها من أذي هذه الجماعة .
ولم تقف شرو هذه الجماعة عند هذا الحد بل عمدت إلي إفساد النشء ، فبذرت بذور الإجرام وسط الطلبة والتلاميذ ، فإذا بمعاهد التعليم وقد انقلبت مسرحا للشغب والإخلال بالأمن وميدانا للمعارك والجرائم ، ومن أمثلة ذلك الحوادث التالية :
أ – حدث ببندر دمنهور في يوم 25 مايو 1947 بمدرسة الصنايع أن اعتدي تلاميذ الإخوان المسلمين علي أحد المخالفين لهم في الرأي وشرعوا في قتله بطعنة سكين . وضبطت لذلك واقعة الجناية رقم 1248 لسنة 1947 ببندر دمنهور .
ب – وفي يوم 3 فبراير 1948 حرض بعض التلاميذ من أعضاء هذه الجماعة زملاءهم تلاميذ مدرسة الزقازيق الثانوية علي الإضراب ، وألقي أحدهم قنبلة يدوية انفجرت وأصابت بعض رجال البوليس . كما ضبط مع آخر منهم قنبلة يدوية قبل أن يتمكن من استخدامها في الاعتداء .
ج – وفي يوم 24 يناير 1948 تحرش بعض تلاميذ مدرسة شبين الكوم المنتمين إلي الإخوان المسلمين بزملاء لهم ، الأمر الذي أدي إلي حادث قتل .
ولم تزرع هذه الجماعة عن أن يمتد إجرامها إلي القضاء الذي ظل رجاله في محراب العدل ذخرا للمصريين ، وملاذا لهم ، ينعمون بثقة المتقاضين وطمأنينتهم – إذ قصدوا إلي إرهاب القضاة عن طريق قتل علم منهم هو الغفور له أحمد الخازندار بك وكيل محكمة استئناف مصر ، الذي حكم بإدانة بعض أعضاء الجماعة لجرائم اقترفوها باستخدام القنابل – وثبت أن أحد المجرمين القاتلين كان سكرتيرًا خاصًا للشيخ حسن البنا .
ولقد أدركت الحكومات المتعاقبة خطورة الأهداف والمقاصد التي تسعي هذه الجماعة لتحقيقها فحاولت – في حدود القوانين القائمة – أن تحد من شرورها وساعدت الأحكام العرفية التي أعلنت خلال الحرب العالمية الأخيرة علي اعتقال بعض قادة هذه الجماعة ، وعلي الرغم من ذلك فقد ظلت الجماعة سادرة في جرائمها ، الأمر الذي استوجب إصدار الأمر العسكري يحل شعبتي الإخوان المسلمين بالإسماعيلية وبورسعيد . ولقد وقعت في يوم 4 ديسمبر 1948 حوادث مؤلمة بجامعة فؤاد الأول بالجيزة ، ألقي فيها الطلاب قنابل علي رجال البوليس وأطلقوا عليهم الرصاص وقذفوهم بالأحجار فأصيب عدد منهم ، كما حدث في نفس اليوم أن اعتصم بعض طلبة كلية الطب بأسطح مبني الكلية ، وأشعلوا النار في أماكن متفرقة وقذفوا رجال البوليس الذين كانوا يحافظون علي النظام ببعض القنابل وكميات هائلة من الأحجار وقطع الأخشاب وزجاجات مملوءة بالأحماض ثم ألقوا علي حكمدار بوليس العاصمة قنبلة أودت بحياته .
وحدث في يوم 6 ديسمبر 1948 أن تجمع طلبة المدرسة الخديوي واندس بينهم بعض الغرباء وألقوا قنبلتين علي رجال البوليس الذين كانوا خارج أسوار المدرسة ، فأصيب ضابط وسبعة من العساكر – وكان مقترفو هذه الحوادث المروعة من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين . ولا تزال النيابة العامة ماضية في تحقيق حادث ضبط سيارة بها مواد متفجرة وذخائر ومستندات خطيرة ، بدائرة قسم الوايلي يوم 15 نوفمبر 1948 . وقد أدي التقصي عن ظروف هذا الحادث إلي ضبط كميات هائلة من القنابل والمفرقعات جاءت أضعافا مضاعفة لما ضبط في تلك السيارة ، وقد كشفت ملابسات هذا الحادث حتى الآن عن أن جماعة من الإخوان المسلمين يكونون عصابات إجرامية هي المسئولة عن حوادث الانفجارات الخطيرة التي حدثت في مدينة القاهرة خلال الشهور الستة الأخيرة ، وكان آخرها حادث نسف شركة الإعلانات الشرقية يوم 12 نوفمبر 1948 وما نجم عنه من هدم وتخريب في المباني وقتل بعض الأهالي ورجال البوليس وجرح عدد غير قليل من الأشخاص . وبما أنه يتبين بجلاء من استعراض هذه الحوادث – وهي قليل من كثير – أن هذه الجماعة قد أمعنت في شرورها بحيث أصبح وجودها يهدد الأمن العام والنظام تهديدا بالغ الخطر ، لذلك أري أنه بات من الضروري اتخاذ التدابير الحاسمة لوقف نشاط هذه الجماعة التي تروع أمن البلاد في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلي هدوء كامل وأمن شامل ضمانا لسلامة أهلها في الداخل وجيوشها في الخارج .
وكيل الداخلية عبد الرحمن عمار
إجراءات أشد شذوذا :
بعد أن أوردنا نص قرار الحل ومذكراته التفسيرية نقول : أن قرار الحل في ذاته – متسترا برداء الأحكام العرفية – أمر شاذ ، ومع ذلك فإن مصدري هذا الأمر لم يكتفوا به بل أتبعوه بإجراءات أشد شذوذا . فالأمر العسكري ببنوده العشرة مع ما فيها من اعتداء صارخ علي الحريات وحرمان من الحقوق ، قد تم تنفيذه دون أن يتعرض أحد من أعضاء الجماعة للمنفذين .. فلم إذن تعدي مصدرو الأمر حدود بنوده ؟ هل هو استمرار للظلم ؟ هل هو إشباع لغريزة الانتقام ؟ هل هو استهتار بالشعب ؟ هل هو تفان منهم في محاولة إرضاء سادة لهم دفعوهم وهم من ورائهم يرقبون ؟ هل هو إثبات لهؤلاء السادة أن المنفذين يستحقون أن تضاعف لهم المكافأة بعد أن يرهنوا علي أنهم ملكيون أكثر من الملك وانجليزيون أكثر من الانجليز ؟ لقد اتبعوا تنفيذ الأمر العسكري بأساليب مبتكرة لم يكن لهذا الشعب بها عهد من قبل ، من الاعتقالات هوجاء ، ومصادرات عمياء ، وبطش عنيف دون مبرر ... علي أن كل هذه الإجراءات الجائرة – مع كل ما فيها من شذوذ – فإن هناك من يستطيع أن ينتحل لها مبررا مما سبق أن سبقناه علي سبيل الاستفهام – أما الإجراء الذي لا يمكن تبريره ، ومن أجل ذلك يمكن اعتباره أخطر إجراء اتخذوه فهو أنهم حالوا بين المرشد العام وبين الإخوان ، فلا هو مسموح له أن يتصل ولو يفرد منهم ولا يستطيع أحد منهم أن يتصل به حتى بالتليفون الذي قطعوه عن منزله ، بل إن أي إنسان يقترب من منزله كان يقبض عليه ولو كان من غير الإخوان . خطورة هذا الإجراء :
وإني لا تعجب لأولئك الذين قرروا هذا الإجراء ، الذي إن دل علي شيء فإنما يدل علي التناقض والتخبط وسوء التصرف وقصر الإدراك ، فنصوص الأمر العسكري الذي أصدروه ، ونصوص مذكرته التفسيرية التي بنوه عليها ، توحي إلي القارئ بأن مصدري هذا الأمر ينظرون إلي الإخوان المسلمين علي أنهم مجموعة ضخمة من الشباب المتهور الذي لا يبالي بشيء .. وهم يعلمون أنهم – مهما بالغوا في البطش والاعتقال – فإن الإخوان المسلمين بين الكثرة بحيث يكون الباقون منهم خارج أسوار المعتقلات والسجون أضعافا مضاعفة لمن هم في داخلها ، والكثرة الغالبة منهم من الشباب المتحمس الثائر .. كما أنهم يفهمون أن الأمر العسكري الذي أصدروه هو تحد مباشر لمشاعر هذا الشباب واستفزاز له ، وأنه بمثابة إعلان للحرب عليهم ، وحكم صدر بإعدامهم بل بإعدام ما هو أعز عليهم من أنفسهم.
وفي الوقت نفسه يفهم هؤلاء المسئولون ويعلمون تمام العلم أن الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يوجه هذا الشباب ، والذي بيده زمام هذا الشباب هو المرشد العام ... فما معني الحيلولة بين المرشد العام وبين هذا الشباب إذن ؟ ... لقد شاع في ذلك الوقت وعقب إذاعة الأمر العسكري بحل الإخوان مباشرة وحين أحس الناس بما تضمنه هذا الأمر من عنف وضراوة لم يعهد مثلهما – من قبل – شاع علي ألسنة الخاصة والعامة أن هذا التحدي البالغ العنف لابد أن تكون حياة النقراشي ثمنا له . ولقد خيرت الحكومة المصرية علي اختلاف ألوانها وأحزابها مقدرة المرشد العام الخارقة في التأثير في هذا الشباب ، واستطاعته أن يقنعهم برأيه مهما كان رأيه معارضا لاتجاههم ومصادما لعواطفهم .. خيروا ذلك في موقفين خطيرين : أحدهما حسين قررت إحدى الحكومات الحزبية نقله إلي قنا ، والآخر حين طلبت منه إحدى الحكومات الوفدية التنازل عن ترشيح نفسه لمجلس النواب – وقد تحدثنا عن هذين الموقفين بتفصيل في الجزء الأول من هذا الكتاب ... المرشد العام وحده إذن هو القادر عن كبح جماح هؤلاء الشباب إذا لم يحل بينه وبينهم . فما معني هذا الإجراء الغريب الموغل في الغرابة ؟ والذي قد لا نجد له تعليلا ولا تحليلا ولا تبريرا إلا أن يكون حقدا أسودا قد غشي علي بصائر هؤلاء الناس وأبصارهم فهم في ضلالهم يعمهون .
وهناك رؤية قد يراها الحاذقون من المراقبين للأحداث الذين لا يكتفون من الأحداث بظواهرها دون بواطنها ، يلخصها هؤلاء الحذاق في أن مخططي المؤامرة من غير المصريين – وهم علي أعلي مستوي في الخبرة النفسية – خططوها بحيث يكون دورهم فيها مقتصرا علي إشعال فتيلها ثم تركها بعد ذلك متأججة يأكل بعضها بعضا حتى تتحقق كل أهدافهم دون حاجة إلي ظهورهم علي المسرح في أي دور من أدوارها . وقد رأوا في اختيار النقراشي بالذات – كما شرحنا ذلك من قبل – الضمان الكامل للوصول إلي النهاية التي يأملون . ومع ذلك فإن المرشد العام لم يأل جهدا في الاتصال بهم ، وأخذ يبصرهم بخطأ تصرفهم في الحيلولة بينه وبين الاتصال بالإخوان ، وحذرهم مغبة هذا الإجراء الذي تدعو مصلحة البلاد إلي العدول عنه ، ولكنه لم يتلق علي إلحاحه المستمر جوابا إلا وعودا في الهواء . فكان المطارد نفسه بغير قيادة فتصرف من تلقاء نفسه وبدافع من عاطفته .. فكانت أحداث جسام بدأت بما كان يتوقعه الجميع من اغتيال النقراشي في حصنه الحصين بوزارة الداخلية ثم تفاقمت بعد ذلك الأحداث تفاقما لم يخطر ببال أحد إذ أفلت الزمام .
اغتيال النقراشي باشا :
بعد عشرين يوما من صدور الأمر العسكري بحل الإخوان المسلمين ، وفي 28 ديسمبر 1948 اغتيل النقراشي باشا في وزارة الداخلية وهو محاط بحراسة مكثفة لا ينفذ من خلالها الهواء .. فكان هذا مصداق قوله تعالي: ( ) دليلا علي أن الحاكم لا يحميه إلا عدله وتجاوبه مع شعبه .
جاء في مرافعة الأستاذ أحمد حسين أمام المحكمة العسكرية العليا في قضية اغتيال النقراشي في 20/9/1949 قوله : " نشرت جريدة أخبار اليوم أن مصطفي أمين قابل النقراشي باشا وحذره من الإقدام علي حل الإخوان لأنه سيقتل ، فلما أصر ، خرج باكيا عليه . فلما قتل بعد ذلك بأسبوع لم يبك عليه فقد بكاه من قبل – وكل من كان حول النقراشي باشا كانوا يشعرون هذا الشعور – إذن كان هناك شبه إجماع وصل إلي حد النشر علي صفحات الجرائد أن حل الإخوان كان معناه قتل النقراشي . فما معني هذا التلازم زمن أين جاء هذا الشعور ؟ هل جاء فقط من ناحية خطورة الإخوان المسلمين ؟ ولكن مهما بلغ خطر الإخوان فهل يمكن أن يقاس بقوة الدولة ؟ لقد كان النقراشي باشا حاكما عسكريا ، ولديه من السلطات مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر .. ففيم كانت هذه العقيدة التي تكونت بأن القتل سيكون مصيره ؟! .
إنني أخشي أن يكون ذلك هو مظهر الشعور بالإقدام علي أمر غير طبيعي ، وأمر شاذ ، وأمر متناه في القوة والعجلة ، فضلا عن أنه ضد القانون وضد الدستور وضد سلامة الشعب " . هذا ما قاله الأستاذ أحمد حسين . ونحن نقول : أن هذا الرجل قد ذهب ضحية صلفه وحقده وضيق أفقه ، واستبداده برأيه واستسلامه للغاصب المستعمر ، وتأليهه لملكه الغارق في شهواته . مما سوف نضعه إن شاء الله موضع المناقشة بعد قليل . إبراهيم عبد الهادي باشا يخلف النقراشي باشا :
وفي اليوم التالي أسند الملك رياسة الوزراء إلي إبراهيم عبد الهادي باشا . وهو من النقراشي بمثابة النقراشي من أحمد ماهر ، يبوء بإثم ميراث وبئ من التفريط في حقوق البلاد ، والتواطؤ مع المستعمر ، والتهالك علي منصب الحكم ، والتسابق إلي أن يكون في خدمة نزوات الملك وفي عبادته من دون الله . جاء هذا الرجل إلي الحكم كالذئب المتعطش للدماء ، جاء ومعه تفويض إلهي من إلهه فاروق بأن يفعل ما يشاء ولن يسأل عما يفعل : (• ) بحيث يبيد هذه العصبة الوحيدة المتمردة علي عبادة فاروق والسير في ركابه ... ولابد أن إبراهيم عبد الهادي هذا كان يعتقد في ذلك الوقت أن فاروقا قادر علي كل شيء .. وغاب عنه أن هناك إلها آخر غير فاروق هو الإله الحق الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ... ذلك أن ما فعله هذا الرجل ، وما ارتكبه من آثام لا يمكن أن يقدم عليه إنسان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . ففي عهد هذا الرجل بلغت الأحداث الجسام ذروتها ، وارتكبت أفظع جريمة في هذا القرن بتدبير حكومته وهي اغتيال المرشد العام . وقبل أن نشرع في استعراض أيام هذا الرجل السوداء ، وما سجلته من مآثم يندي لها جبين الإنسانية خجلا ، نتناول بالتمحيص موضوعا خطيرا ذا دلالات جوهرية في تاريخ هذه البلاد ، لا ينبغي أن يسبقه في صدد ما نحن فيه موضوع آخر ، وهو ما نفرد له الفصل الآتي إن شاء الله .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الفصل الثاني: من هو الآمر الحقيقي بالحل ؟
خرج الأمر العسكري بحل " جمعية الإخوان المسلمين " – فعلا – من دار رياسة مجلس الوزراء ، ممهورا بتوقيع النقراشي باشا رئيس مجلس الوزراء ... وعند انصراف دولته من دار الرياسة في مساء يوم 8 ديسمبر 1948 صرح للصحفيين قائلا : إنني أصدرت أمرا عسكريا بحل جماعة الإخوان المسلمين . ويدعي النقراشي باشا ويصر علي أنه هو الذي أصدر هذا الأمر من تلقاء نفسه وأن أحدا غيره لم يتدخل فيه ولم يوعز به .
ولكن هناك ما يلقي ظلالا كثيفة من الشك علي هذا الادعاء ، بل هناك ما يعارضه وينقضه ويظهر زيفه ... ونورد هنا ما جاء في هذا الصدد في مرافعة الأستاذ شمس الدين الشناوي في قضية السيارة الجيب أمام محكمة الجنايات بالقاهرة في 21/1/1951 كما نشرته جريدة " المصري " في ذلك اليوم حيث قال :
" إنهم أدخلوا الجيش المصري فلسطين حتى يتذرعوا بذلك لإعلان الأحكام العرفية ، حتى يتمكنوا في ظلها من ارتكاب جريمة حل الإخوان المسلمين . وثيقــة :
وهنا رفع يده ملوحا وبها ورقة في حجم الكارت البوستال وقال : " هذه هي الفضيحة الكبرى ، وهذا هو الدليل المادي الذي ينطق بالحق ، هذه هي وثيقة مكتوبة باللغة الانجليزية " .. وسلمها للمحكمة . وأخذ يتلو نص الوثيقة باللغة العربية ، وهي عبارة عن رد من القيادة العليا للقوات البريطانية في الشرق الأوسط علي إشارة وردت إليها من السفارة البريطانية ، وتقول القيادة في الوثيقة : " لقد أخطرت هذه القيادة رسميا بأن خطوات دبلوماسية ستتخذ لإقناع السلطات المصرية بحل الإخوان المسلمين في أقرب وقت ممكن " .
وقد ذيلت الوثيقة بإمضاء رئيس إدارة قوات القيادة العليا الحربية البريطانية في الشرق الأوسط . وبعد أن تلا هذه الوثيقة أخذت المحكمة في مناقشتها . وهنا وقف الأستاذ محمد عبد السلام بك ممثل النيابة وتساءل عن المصدر الذي أتت عنه هذه الدنيا – فرد الأستاذ الشناوي مداعبا وقال : أن جاسوسية الإخوان هي التي أتت بهذه الوثيقة – فقال ممثل النيابة : لا يمكن التمسك بمثل هذه الوثيقة إلا إذا صح ما جاء فيها .
وهنا قال سعادة رئيس المحكمة : إلي أن تقرر السفارة البريطانية بأن هذه الوثيقة مزورة وغير صحيحة ، فإنها يجب أن تعد صحيحة . ( وقبل أن ينتهي الرئيس من كلامه سمع تصفيق هائل وتعالت الهتافات : يحيا القضاء العادل . يحيا القضاء النزيه) وفي جلسة المحكمة في 10/2/1951 قدم ممثل النيابة كتابا من السفارة البريطانية يكذب الوثيقة ونصه : عزيزي وحيد رأفت بك (مستشار الرأي لوزارتي الخارجية والعدل) . طلب إلي سفير حضرة صاحب الجلالة بأن أقرر أن نظره قد استرعي أخيرا إلي خبر نشر بالصحف بشأن محاكمة قائمة أمام المحاكم جاء فيها أن محاميا يدعي الأستاذ شمس الدين الشناوي حاضرا عن المتهم أحمد عادل كمال صرح بأن الحكومة البريطانية أوعزت إلي الحكومة المصرية في 1948 بإلغاء وحل الإخوان المسلمين . وأن الأستاذ الشناوي دلل علي ذلك بصورة كتاب مؤرخ في 20 نوفمبر 1948 زعم أنه موقع عليه بمعرفة الكولونيل أ . م . ماك درموث نيابة عن السلطات العسكرية البريطانية .
وأري من واجبي إخباركم بأن هذه الوثيقة إن وجدت تكون مصطنعة فضلا عن أن أمر حل الإخوان المسلمين أو ما شابه ذلك كما زعم الأستاذ الشناوي لم يثر ولم يكن محل حديث بين هذه السفارة والحكومة المصرية . ولعلكم ترون أن من الضروري لمصلحة العدالة إحاطة المحكمة علما بما تقدم .
التوقيع موري جراهام المستشار القانوني للسفارة البريطانية
وهنا قام الأستاذ الشناوي وقال : إن تكذيب السفارة لهذه الوثيقة لا يفيد من قريب أو من بعيد ؛ لأن السفارة لم ترسل بهذه الوثيقة ، وإنما هي صدرت من القيادة العليا للقوات البريطانية في الشرق الأوسط ، وهي مذيلة بإمضاء السير ماك درموث قائد القوات البريطانية – وأضاف قائلا : بأن المهم هو معرفة حقيقة هذا الإمضاء – وأمام هذا الأمر لا يصدر التكذيب إلا من صاحب التوقيع الفعلي ، وهو بنفسه الذي يحق له إنكار الوثيقة .
وثائق أخري :
واستطرد قائلا : نحن واثقون من صحة الوثيقة التي تقدمنا بها ، ولدينا من الأدلة ما يؤيدها ويعززها ولسوف نقدمه لكم في القريب .
يستنصر الانجليز :
وأضاف أن السبب في تكذيب السفارة لهذه الوثيقة هو أن دولة هو أن دولة إبراهيم عبد الهادي باشا وجد السفارة لا تحرك ساكنا ، وقد مضت قرابة العشرة الأيام ، فطلب منهم أن ينصروه كما نصرهم أخ له من قبل .. وقد طالعتنا جريدة أخبار اليوم بأن هناك اتصالات حدثت وأن إبراهيم عبد الهادي ألح في مقابلة المستر أندروز وتمت مقابلته في منزل عبد الهادي باشا بالمعادي . وقال : إنه ظاهر أن المستر أندروز صدرت من الانجليز فيجب أن يكون تكذيبها من جانبهم .. وأشار إلي أن عدد " المصور " أول أمس نشر أن عبد الهادي سئل عن سبب المقابلة الطويلة فقرر أنها لم تتناول مسائل سياسية ولكنها كانت خاصة بتكذيب الوثيقة .
ممثل النيابة : إن الوضع الطبيعي هو أن يكون عبء إثبات صحة الوثيقة وصحة التوقيع عليها علي عاتق الدفاع . ومن القواعد المقررة أنه إذا أنكر المستند فإن علي الذي يتمسك به أنه يثبت أن الكتابة والتوقيع صادران من خصمه . المحكمة : الدفاع يقول أن الجهة التي أصدرت التكذيب ليست هي الجهة التي صدرت عنها الوثيقة . النيابة : السفارة مختصة . والتوقيع ولو أنه صادر عن غيرها إلا أني أري أن المستر ماك درموث وهو الموقع علي الوثيقة يتكلم فيها باسم السفارة البريطانية . الدفاع : إن هذا الطعن غير منتج . وهذا التكذيب إن هو إلا مؤامرة سياسية لا تجدي ولا تفيد . المحكمة : يرجأ البحث في الوثيقة حتى يطلع الدفاع علي رد السفارة ويقدم المستندات التي يراها . وفي جلسة 15/2/1951 وقف الأستاذ شمس الدين الشناوي وتكلم بشأن الخطاب الوارد من السفارة الانجليزية وقرر أن هذه الوثيقة رسمية صادرة من موظف رسمي مختص بتحريرها وهو المستر ماك درموث ، وقال : أن الورقة الرسمية لا يطعن فيها إلا بالتزوير ، وكذلك الصورة الفوتوغرافية المأخوذة ، بخلاف الورقة العرفية فإن صورتها الفوتوغرافية تكون مجرد قرينة ، وذلك تطبيقا للمادة 390 من القانون المدني . ولذلك يكون الطريق الذي سلكته السفارة غير سليم ، ولا يمكن أن يؤثر في صحة الورقة أو ينال منها .
دليل علي تدخل الانجليز :
وأشار بعد ذلك إلي تدخل الانجليز في شئون البلاد الداخلية وقال : أن بيده الآن أحد أعداد جريدة الأساس (جريدة الحزب السعدي) وأخذ يتلو منه مقالا تحت عنوان : " لماذا يتلكئون ؟ " جاء فيه :
" أن الحكومة السعدية تعجب لعدم تسليم الثلاثة من الإخوان الذين هربوا إلي برقة ، في حين أن السفارة الانجليزية هي التي كانت تطالب إلي السلطات المصرية وضع حد لنشاطهما بمصر . فلما اشتدت وطأة البوليس المصري علي الإرهابيين حمتهم السلطات البريطانية في برقة . والسلطات المصرية في انتظار تغير موقف السلطات البريطانية في برقة حتى ينسجم موقف السفارة البريطانية في القاهرة .
تدخل سافر :
ثم أقدم الأستاذ الشناوي هذا العدد إلي المحكمة قائلا : إن هذا هو اعتراف صريح من السعديين بالتدخل البريطاني السافر لا في شئوننا الخارجية فحسب ، وإنما في شئوننا الداخلية أيضا .
4 قوانين تؤيد صحة الوثيقة :
هذا ما كان من أمر الوثيقة . وليس يعنينا بعد إيرادها وإيراد ما دار حولها من نقاش أن نقيم هذا النقاش ، وأن نتعقب ما كان من شأن الوثيقة بعد ذلك ، وهل تقدم موقعها السير ماك درموث بتكذيبها والطعن في توقيعه بالتزوير أم وقف الأمر عند هذا الحد وهو تكذيب السفارة – وإصدار السفارات تكذيبا هو عرف متبع في جميع السفارات حين يفتضح تدبير دبره بلده ضد بلد آخر ، تقوم سفارة البلد المتهم بإصدار تكذيب ... ومبلغ علمنا أن صاحب التوقيع لم يكذب الوثيقة ولم يطعن بالتزوير في توقيعه . ولو كان قد فعل لوصل نبأه إلي هيئة المحكمة .. علي أن شيئا من ذلك لم يصل إليها حتى انتهت من نظر القضية – كما أننا لم نر ولم نسمع أن الموقع تقدم إلي أيه جهة قضائية بمثل هذا الطعن . وإنما الذي يعنينا هو أن ندرس الظروف والقرائن التي تحيط بهذا الاتهام ، وتتصل به من قريب أو من بعيد ، حتى يستطيع القارئ أن يركن في هذه القضية الخطيرة إلي قرار تطمئن إليه نفسه . وهانذا أضع يدي القارئ بعض هذه الظروف والقرائن : القرينة الأولي – ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب ، وفي الفصل الأخير منه ، كيف أن اليهود كانوا يستعدون علنا حلفاءهم الأوروبيين والأمريكيين علي الإخوان المسلمين ، مما كانت تسيل به أنهار الصحف في أوروبا وأمريكا في ذلك الوقت . وأوردنا جزءا من مقال كتبته فتاة صهيونية تدعي " روث كاريف " ونشرته جريدة الصنداي ميرور في مطلع عام 1948 ، وقد يحسن بنا أن نعيد نقل بعض سطور منه الآن حيث قالت بعد هجوم عنيف علي مفتي فلسطين وعلي المرشد العام للإخوان المسلمين : " وإذا كان المدافعون عن فلسطين – أي اليهود – يطالبون الآن مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لتنفيذ مشروع التقسيم الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة ، فإنهم لا يطالبون بذلك لأن الدولة اليهودية في حاجة إلي الدفاع عن نفسها .
ولكنهم يريدون إرسال هذه القوة الدولية إلي فلسطين لتواجه رجال الإخوان المسلمين وجها لوجه ، وبذلك يدرك العالم كله الخطر الحقيقي الذي تمثله هذه الحركة ... وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية تمتد من شمال أفريقيا إلي الباكستان ومن تركيا إلي المحيط الهندي " أهـ . وإذا عرف أن اليهود هم طليعة جيوش الحلفاء وعيونهم في الشرق الأوسط ، فإن ما يكتبونه في هذا الشأن لا يكون من قبيل الاستجداء وطلب المعونة ، وإنما بمثابة إعطاء مقدمة الجيش إشارة البدء للجيش كله ليقوم بالهجوم .
وإلا فكيف تعلل أن يكون استعداد اليهود الغرب ضد الإخوان بهذا الأسلوب الذي ينم عن الفزع والهلع منذ مطلع عام 1948 حيث لم يكن مجهود الإخوان يتعدي مجرد تدريب بعض المنظمات العسكرية للمجاهدين الفلسطينيين .. فلما انتصف ذلك العام كانت قوات الإخوان قد دخلت فلسطين وأذهلت العالم كله بشجاعة منقطعة النظير ، ودخلت الجيوش العربية ، فكانت تلجأ إلي قوات الإخوان في أحرج المواقف .. ثم لا ينتهي العام نفسه إلا بصدور أمر حل الإخوان المسلمين وتطويق قواتهم في فلسطين ونقلها إلي المعتقلات في مصر . وهل كان من الممكن أن تفرض الأحكام العرفية لو أن الجيوش العربية لم تدخل فلسطين ؟ .. وإذا علم أن هذه الجيوش قد دخلت فلسطين فجأة ودون أدني استعداد – وقد أثبتت التحقيقات ذلك فيما بعد – فما تعليل دخولها وهي في هذه الحالة إلا أن يكون هناك إيحاء خارجي بذلك ؛ ليكون دخولها مجرد تبرير لإجراءات معدة تبدأ بإعلان الأحكام العرفية وتنتهي بحل الإخوان وإبادتهم . والدليل علي ذلك أن أصحاب الأمر – دول الغرب – حين رأوا جيش مصر – الذي كان مفروضا أن يهزم من أول معركة – بتعاونه مع قوات الإخوان قد حقق انتصارات علي اليهود ، عملوا علي إتاحة فرصة لتزويد اليهود بعتاد كثيف ، فأوعزوا بطلب الهدنة .. وسرعان ما وافق عليها النقراشي رغم تحذيرات الخبراء وابتهال الإخوان له ألا يوافق عليها ..
ثم وجد أصحاب الأمر أن هذه الهدنة لم تكن كافية لقلب ميزان المعركة فأوعزوا بهدنة ثانية لم يتوان النقراشي عن قبولها ضاربا بالتحذيرات والابتهال عرض الحائط ، مما يدل علي أنه كان ينفذ خطة متفقا عليها لا مع المصريين – فقد كانوا جميعا فكرة الهدنتين – بل مع آخرين !!! . القرينة الثانية – علي أن ائتمار حكام مصر بأمر الانجليز لم يكن شيئا غريبا ، فلقد أشرنا إلي طرف من ذلك عند الكلام علي ترشيح المرشد العام لمجلس النواب في عهدي النحاس وأحمد ماهر . فقد صرح النحاس للمرشد العام بما ذكرنا نصه من قبل ، كما أن أحمد ماهر أطلع " علي البرير " علي تبليغ السفارة البريطانية للحكومة المصرية بوجوب منع المرشد العام وعلي البرير من الترشيح . كما أن المتهم باغتيال أحمد ماهر أثبت أمام المحكمة أن إعلان أحمد ماهر الحرب ضد المحور كان بناء علي تدخل الانجليز ، وأن أحمد ماهر والنقراشي كانا عند السفير البريطاني في يوم الحادث ، وهو اليوم الذي كان مزمعا إعلان الحرب فيه ، وقد طلب المتهم الاستشهاد بالنقراشي علي ذلك . القرينة الثالثة – في أثناء نظر قضية قنابل 6 مايو – وهي قضية سياسية ليست من قضايا الإخوان – أمام محكمة الجنايات بالقاهرة دائرة حسن فهمي بسيوني بك وفي جلسة 9/11/1948 نودي علي صالح حرب باشا (رئيس جمعية الشبان المسلمين في ذلك الوقت) باعتباره شاهدا .. وردا علي سؤال من المحامي إسطفان باسيلي بك عما دار بينه وبين المتهم الأستاذ عبد السلام وفا باعتباره صحفيا فقال : إنني أعرف الأستاذ وفا لأنه انضم إلي جمعية الشبان المسلمين في سنة 1941 ثم انقطع عنها بعد إبعادي إلي أسوان ، ثم قال : إذا كان المقصود ما دار بيني وبين دولة النقراشي باشا بشأن رياسة جمعية الشبان المسلمين فإنني أردت أن أقول له : أن الانجليز لم يحملوا النقراشي باشا وحده علي طلب تنحيتي عن رياسة جمعية الشبان المسلمين بل إن هذا الطلب طلب أيضا من أحمد ماهر باشا ومن حكومة الوفد . وهذه المسألة تتصل بحادث 4 فبراير 1942 . ولما رأت النقراشي المحكمة عدم الخوض في المسائل السياسية طلب المحامي أن يوضح صالح باشا الحديث الذي دار بينه وبين الأستاذ وفا – وقد نشر في جريدة البلاغ – عن تصرفات النقراشي باشا حول رياسة صالح باشا لجمعية الشبان المسلمين فقال :
" إنني أذكر هذا الحديث ، وقد اطلعت عليه ، ولاحظت أنه يشمل أشياء لم أقلها . وإن الذي حدث فعلا هو أنني كنت في أسوان ، واتصل بي دولة النقراشي باشا بالتليفون ، وطلب عند حضوى إلي القاهرة أن أقابله ، فلما حضرت اتصلت به تليفونيا واتفقنا علي موعد للمقابلة – وكان دولة النقراشي باشا في ذلك الوقت رئيس الوزارة ووزير الداخلية – فلما ذهبت للقائه في الموعد أخرج لي خطايا بالانجليزية من اللورد كليرن السفير البريطاني يقول فيه السفير أنه طلب من الحكومات المتعاقبة أن تحمل صالح حرب باشا علي الاستقالة من رياسة جمعية الشبان المسلمين ، ولم يتم شيء من ذلك ، وظل حسن رفعت باشا وكيل الداخلية يكتب له (أي السفير) أن صالح حرب باشا قد انقطعت صلته بالجمعية ولا شأن له بإرادتها . ويقول السفير : أن الذي ترامي إلينا أنه لا يزال وثيق الصلة بالجمعية ولا يزال يديرها سواء كان قريبا منها أو بعيدا عنها . وأضاف السفير في خطابه أنه هو أي السفير والقائد العام للجيوش البريطانية في مصر والقائد العام للطيران في الشرق الأوسط يطلبون من النقراشي باشا أن يساعد علي حمله علي الاستقالة من الجمعية . وقال الشاهد : بعد أن أطلعت علي الخطاب سألني دولة النقراشي باشا عن رأيي . فقلت له : " إنني أعجب من أن تتدخل السفارة البريطانية في شئوننا الداخلية حتى في رياسة جمعية كجمعية الشبان المسلمين " فقال له دولة النقراشي باشا : أن الحالة لا تزال حالة حرب وإن كانت مشاكل . فقلت له : أرجو من دولة الباشا أن يكون علي الحياد وأن يترك الأمر بيني وبين الانجليز لأن بيننا خصومة ترجع إلي عام 1915 .
يضع إصبعه :
فقال دولة النقراشي باشا : أرجو ألا يكون هذا أخر ما عندك . وأن تعيد النظر في الأمر ، والوقت فسيح أمامك ، فقلت له أن هذا هو آخر ما عندي لأن هذا الطلب طلب مني قبل النوم ، وأنا لن أستطيع ولا توجد قوة في الأرض تحملني علي الاستقالة .... وهنا وضع النقراشي باشا إصبعه علي كلمة " قائد قوة الطيران في الشرق الأوسط " التي وردت في الخطاب وردد لقبه . فقلت له : أن قوة بريطانيا كلها لا تستطيع حملي علي الاستقالة ، وأن الذي يحملني علي الاستقالة هو شيء واحد ، هو أن ترغب جمعية الشبان المسلمين نفسها في ذلك . ثم سأل المحامي الشاهد : هل كذب دولة النقراشي باشا الحديث الذي نشر في جريدة البلاغ حول هذه الواقعة ؟ فرد الشاهد : لا أذكر ، أهـ . وقد أوردنا هذه الشهادة ليعلم القارئ أن حكام مصر عامة وأن السعديين منهم بوجه خاص ، وأن النقراشي باشا بوجه أخص ، كانوا يستوحون تصرفاتهم من وحي المستعمر ، ويتلمسون رضاء في كل عمل يعملونه ، ويلتزمون أمره في كل ما يأمرهم به حتى في أنفه الأمور .
فرياسة جمعية الشبان المسلمين ، وهي جمعية بعيدة كل البعد عن السياسة ، ويكاد يقتصر عملها علي النواحي الرياضية والثقافية ، نصر السفارة البريطانية والقائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط والقائد العام لقوة الطيران البريطاني بالشرق الأوسط علي تنحية فرد عن رياستها ، وتلح في إصرارها بعد أن حاول وكيل وزارة الداخلية إبهامها بأن هذا الفرد قد قطع صلته بها .. دليلا علي أن السفارة عيونا ترصد ما يجري في مصر وتتبعه ... فما بالك بهيئة الإخوان المسلمين التي أقضت مضاجع بريطانية ، وهددت وجودها في مصر ، وألبت الشعب ضدها ، وكشفت له عن سوأتها وجرائمها ، وكادت تفسد المخطط البريطاني الأمريكي في فلسطين لولا تواطؤ الحكومات العربية ، وأيقظت الوعي الوطني الإسلامي في أنحاء البلاد العربية حتى أصبح عملاء الاستعمار في كل مكان في حرج من أمرهم ؟! ... هل تصبر حكومة بريطانيا هذه علي هذا الخطر الداهم لمصالحها دون أن تستغل ولاء حاكم مصر لها في القضاء علي ألد أعدائها وأقوي خصومها ؟ وهل لم تطق الصبر علي وجود فرد ما في رياسة جمعية الشبان المسلمين . القرينة الرابعة – وفي ختام ما نسوق من ظروف وقرائن ننقل كلمة قصيرة وردت في سياق مرافعة الأستاذ فتحي رضوان أمام محكمة الجنايات في إحدى جلسات قضية السيارة الجيب ، وكان ذلك في 20/2/1951 . ولهذه الكلمة أو الواقعة من الدلالات ما نترك للقارئ تصوره لحقيقة حكام مصر في ذلك العهد ، ولحقيقة النقراشي باشا بالذات :
أشار الأستاذ فتحي رضوان إلي أسباب دخول الجيش المصري في فلسطين في 15 مايو بالذات فقال : إنه أشيع في ذلك الوقت أن " شرق الأردن " (المملكة الأردنية الآن) عازمة علي دخول الحرب ولو منفردة إذا كانت مصر والبلاد العربية غير مستعدة ... ومن الغريب أن حافظ رمضان باشا سأل النقراشي باشا تليفونيا عما إذا كانت مصر مستعدة لدخول الحرب ، فطلب إليه أن يتصل به عن طريق تليفون آخر لأن تليفونه مراقب من الانجليز . وقال الأستاذ فتحي رضوان : أن النقراشي باشا لم يكن راغبا في دخول الحرب ، وإنما ضغط عليه الانجليز الذين أرادوا أن يؤدبونا لأننا رفضنا شروط المعاهدة التي أرادوا إملاءها علينا ، مما أشعرهم أن هناك وعيا قوميا في البلاد العربية لابد أن يموت ويقضي عليه ، وأن يموت حسن البنا زعيم أكبر هيئة إسلامية – وأن يموت النقراشي – وينكل بالأحرار ، وتدبر القضايا لينشغل الرأي العام بها عن مطالبه القومية .
الفصل الثالث: تفنيد أسباب الحل
لم يكن ممكنا في ظل الحرب المعلنة من الحكومة المصرية علي الإخوان المسلمين ، أن يجد الإخوان فرصة للرد علي اتهامات الحكومة ، التي سخرت لإذاعتها – باسم الأحكام العرفية – جميع رسائل النشر والإعلام ، وحرمت علي الإخوان أن يسمع لهم صوت أو تنشر لهم كلمة ... وكيف لا وقد أصدر الحاكم المفتون بغرور السلطة حكما بإعدامهم .. وإذن فهم غير موجودين بحكم أمر الحل .. ولكن المرشد العام لم يكن الرجل الذي يستسلم مهما أحاط به عدوه من كل جانب ، ومهما جردوه من كل سلاح يمكن الدفاع به .. إنهم جردوه فعلا من كل سلاح ، لكن سلاحا واحدا لم يستطيعوا أن يجردوه منه ، ذلك هو إيمانه العميق بدعوته ، وثقته الكاملة في طهرها ونقائها .. ومع أنه كان يعلم أن دفاعه عن دعوته بالحجة والبرهان سيحول هؤلاء الحكام بينه وبين أن يصل إلي الشعب ... الشعب المضلل الذي هو في أمس الحاجة إلي من يثير له الطريق في هذه القضية المصيرية ، وينتشله من وهدة الذهول والحيرة التي تردي فيها أمام ما فوجئ به من سيل جارف من اتهامات خطيرة قذفت بها هذه الحكومة فجأة في وجه دعوة كانت حتى آخر لحظة مناط أمله ومعقد رجائه .
ثم إنه – أي الشعب – لم تعد تقع عينه بعد ذلك ، ولا يقرع سمعه ليلا أو نهارا إلا مقالات ضافية وأحاديث مستفيضة كلها تسبح بحمد الحكومة وتصب اللعنات علي أن رأس الإخوان ... كان المرشد العام يعلم ذلك . ولكن ذلك لم يقعد بمهمته لحظة عن انتهاج كل سبيل يتاح له أن يكتب بقلمه أو ينطق بلسانه ما يستطيعه من دفاع عن دعوته بالحجة والبرهان ، تاركا ذلك للزمن الذي يعتبره جزءا من العلاج ... فإذا كان هذا الشعب قد ابتلي بهؤلاء الحكام ، فكانوا مرضه الذي غيبه عن رشده فإن الزمن كفيل أن يكشف عنه هذا البلاء فيصحو ويستعيد قدرته علي النظر والإدراك ( •• ) ولقد فعل الزمان فعله ، لم يمض وقت طويل حتى أتيح لهذا الشعب وللعالم كله أن يقرأ دفاع هذا الرجل المؤمن العظيم عن دعوته ، وذوده بأقوى سلاح من الحجة والبرهان عن حياضها .. واستبان للجميع – في ضوء ما سلط في ثنايا هذا الدفاع من أشعة كاشفة – حقيقة الدوافع التي دفعت هؤلاء الحكام إلي ارتكاب جريمة إصدار هذا الأمر . وإليك الخطوات التي اتخذها الأستاذ المرشد العام في هذا السبيل :
أولاً – محاجة باللسان :
لما بلغه أن الحكومة مصممة علي إصدار الأمر العسكري بحل الإخوان ، تناسي ما يعلمه من أن هذه الحكومة صنيعة المستعمر ، وأنها حكومة فاشلة حاقدة ، وطلب مقابلة النقراشي باشا . فلما حيل بينه وبين ذلك ذهب إليهم في عقر دارهم بوزارة الداخلية في الليلة التي يضعون فيها اللمسات الأخيرة لنصوص الأمر العسكري وجلس مع كبيرهم عبد الرحمن عمار ، وقارعة الحجة بالحجة ، فأثبت له زيف ما بنوا عليه هذا الأم ، وشرح له ولمن معه ما سوف يحيق بالأمة من إضرار بالغة من جراء هذا الأمر إذا هم أقدموا عليه ، وناشدهم أن يجنبوا الأمة هذه الأخطار بالعدول عن إصداره .. وقد أبدي لهم استعداده أن يتعاون معهم بالوسائل المشروعة علي ما يعود علي هذه الأمة بالخير ... أسلوب رجل أكبر من الأحداث ، وأقوي من أن تجرفه العواطف .. فهو يكره القوم ، ولكن كرهه إياهم لا يمنعه من أن يبذل جهده في إقالتهم من عثرة ستودي بالبلاد وتحطم مستقبلها . إنه يعلم أنهم يعدون قرار بتجريمه ، ولكنه – لثقته في نفسه وليقينه من براءة ساحته – يذهب إليهم ويمحضهم النصح ، ويعاملهم معاملة الوالد الذي استبد بأبنائه العقوق فجلسوا يدبرون أمرا يعلم هو أن فيه هلاكهم وهلاك أهليهم ، فأخذ يبصرهم بالعواقب ، ويمد لهم يده للتعاون معهم علي إنقاذهم أهليهم ... ولكن العقوق كان قد بلغ بهم مبلغا لا يدع للنصح إلي نفوسهم سبيلا ، وأصروا علي مؤامراتهم ، وأخرجوها إلي حيز التنفيذ .
ثانيا – تفنيد مسجل بالكتابة :
لما لم نجد للحاجة باللسان ، وأصدروا الأمر العسكري والمذكرة التفسيرية التي بني عليها هذا الأمر ، لجأ الأستاذ المرشد إلي إعداد مذكرة فند فيها كل ما نسبته المذكرة التفسيرية إلي الإخوان من اتهامات ، وأثبت زيفها ، ووضح فيها دعوة الإخوان المسلمين ومواقفها من الأحداث ، وجهادها لحسابها .. وتعد هذه المذكرة مرجعا شاملا ورائعا وتاريخيا يحرص كل منصف علي الاطلاع عليه – وإليك نص هذه المذكرة التي لم تنشر إلا بعد عام من كتابتها فقد نشرت في 12/12/1949 تحت عنوان : " رد حسن البنا علي مذكرة عمار بك بحل الإخوان "
" عمار بك يقر بأن قرار الحل جاء نتيجة للضغط الأجنبي علي النقراشي باشا " بسم الله الرحمن الرحيم – الحمد لله الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل . وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم .
وبعــد :
فقد تقدم سعادة وكيل الداخلية عبد الرحمن عمار بك بمذكرة ضافية بتاريخ 28/12/1948 عن تاريخ الإخوان المسلمين وغايتهم ووسيلتهم . وطلب في نهايتها اتخاذ التدابير الحاسمة لوقف نشاط هذه الجماعة التي تروع أمن البلاد في وقت هي أحوج ما تكون فيها إلي هدوء كامل وأمن شامل شمانا لسلامة أهلها في الداخل وجيوشها في الخارج .
الأمر العسكـري :
وقد اتخذ دولة الحاكم العسكري من هذه المذكرة سببا لإصدار العسكري بحل (جمعية الإخوان المسلمين) ومصادرة أنديتهم وأموالهم وأملاكهم ونشاطهم في جميع أنحاء البلاد ، واعتقال رؤسائهم وكثير من أعضاء هيئتهم بالجملة في كل مكان ، وإعلان حرب عنيفة لم توجه إلي الصهيونيين الذين شرعت الأحكام العسكرية من أجلهم ، وأذن بها من أجل اتقاء شرهم .. وإقرارا للحق في نصابه أردت أن أناقش ما جاء في هذه المذكرة ليري الرأي العام المصري والعربي والإسلامي تفاهة هذه الأسباب ، ومدي العدوان الذي وقع علي أكبر مؤسسة إسلامية شعبية نافعة في مصر أدت للوطن وللدين أجل الخدمات طوال عشرين عاما كاملة .
بطلان دعوي الإجرام والإرهاب :
يقول وكيل الداخلية في مذكراته " ولقد تجاوزت الجماعة الأغراض السياسية المشروعة إلي أغراض يحرمها الدستور وقوانين البلاد ، فهدفت إلي تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب . ولقد أمعنت في نشاطها فاتخذت الإجرام وسيلة لتنفيذ مراميها " وأخذ سعادته بعد ذلك يستشهد ببعض الحوادث ويورد " بعض أمثلة قليلة لهذا النشاط الإجرامي كما سجلته التحقيقات الرسمية " وذكر ثلاث عشرة حادثة كلها مردودة ، ولا توصل إلي ما يريد سعادته من إدانة هيئة الإخوان المسلمين ووصف نشاطهم القانوني المثمر بأنه نشاط إجرامي . وهذه القول منقوض من أساسه ، فلم يكن الإجرام يوما من الأيام من وسائل هيئة الإخوان المسلمين فإن وسائلهم ظاهرة معروفة ، فهذه المحاضرات والدروس ، والوسائل والصحف ، والأندية والدور ، والمساجد والمنشآت ، ناطقة بأن وسائل هيئة الإخوان المسلمين لم تتعارض مع القانون في يوم من الأيام .
حقيقة الحوادث :
ويكفي للرد علي سعادة الوكيل أن القانون حمي هذا النشاط عشرين سنة ولم يستطع أحد الاعتداء عليه إلا في غيبة القانون وفي ظل الحكم العرفي الاستثنائي الفردي البحث – والذي ينص الدستور في المادة (155) بأنه إذا عطل الحريات فإن ذلك لا يكون إلا تعطيلا مؤقتا ينتهي هذا التعطيل بانتهاء الأحكام العرفية ... أما ما عدد سعادته من الحوادث فها هي ذي حقيقتها في وضعها الصحيح : الجناية رقم 883 :
أولاً – الجناية العسكرية العليا رقم 883 لسنة 1942 قسم الجمرك – وقد كان موضوع الاتهام فيها الدعاية للمحور . وشاء ذوو الأغراض أن يقحموا فيها الإخوان المسلمين . وادعي أحد المتهمين أنه عرض علي الأستاذ البنا شخصيا أنواع من السلاح والعتاد الألماني ، وأن الأستاذ البنا سر بذلك ، ورحب بالحصول علي هذه الأسلحة ، وأن الوسيط في ذلك أخوان من إخوان طنطا ، وقد قبض عليهما في السجن ثمانية أشهر .. وماذا كانت النتيجة بعد ذلك ؟ . كانت النتيجة أن كذب هذا المدعي عليه نفسه حين ضيق عليه المحقق الخناق وهدده بالمواجهة – وحكم ببراءة الأخوين براءة نقية واضحة كاملة – فهل تصلح مثل هذه النتيجة تكأة للاتهام أمام سعادة وكيل الداخلية وهو من رجال القانون ؟ .
ويتصل بهذه القضية ما ذكره سعادة الوكيل من موافقة الأستاذ حسن البنا علي تقرير لأحد إخوان طنطا وكتابته بخطه أنه مؤمن بما ورد فيه ... وعرض الموضوع علي هذه الصورة فيه انتقاص للحقيقة . فلقد كان التقرير مطولا ، وكانت إشارتي عليه بالموافقة علي بعض وتعديل بعضه . ولو كان في هذا التقرير ما يؤخذ عليه لحوكم صاحبه ولما صدر قرار المحكمة ببراءته فقد كان أحد المتهمين المقبوض عليهما في الجناية السابقة . الجناية رقم 679 :
ثانيا – الجناية رقم 679 لسنة 1946 قسم ثان بورسعيد – ويعلم الخاص والعام أن الإخوان المسلمين كانوا معتدي عليهم فيها ولم يكونوا معتدين . فقد أخذوا علي غرة ، وحوصرت دارهم ، وحرق ناديهم الرياضي ولم تثبت إدانة أحد منهم في شيء . ولم يكن القتيل الذي قتل خصما من خصوم الخوان ، ولكنه كان صبيا في الطريق – جعله الله لأهله ذخرا – ولكن سعادة الوكيل بأبي إلا أن يجعله خصما من خصوم الإخوان ليوهم الناس أنهم يعتدون علي خصومهم بالسلاح . في 10 ديسمبر :
ثالثا – بتاريخ 1 ديسمبر 1946 ضبط بعض أفراد هذه الهيئة بمدينة الإسماعيلية يقومون يتجاوب لصنع القنابل والمفرقعات ... وهي واقعة لا أصل لها بتاتا فيما أذكر . وإني لأسأل سعادة الوكيل من هم هؤلاء الأشخاص ؟ وهل حوكموا ؟ وبماذا حكم عليهم ؟ لأن الإخوان بالإسماعيلية معروفون كفلق الصبح ، ولا أذكر أن أحد منهم وجه إليه مثل هذا الاتهام في يوم من الأيام . الجناية رقم 767 :
رابعا : والشخص الذي أدين في قضية الجناية رقم 767 لسنة 1946 قسم عابدين بمناسبة حوادث 24 ديسمبر 1946 لم يثبت أنه أمر بهذا من قبل الإخوان أو اشترك معه فيه أحد منهم . وقد كانت هذه الحوادث شائعة في ذلك الوقت بين الشباب بمناسبة الفورة الوطنية التي لازمت المفاوضات السابقة . ولقد حدث بالإسكندرية أكثر مما حدث بالقاهرة ، وضبط من الشباب عدد أكبر وصدرت ضدهم أحكام مناسبة ، ولم يقل أحد منهم من الإخوان المسلمين فتحمل الهيئة تبعة هذا التصرف الذي لا حق فيه ولا مبرر له . الجوالة ومأمور الخليفة :
خامسا – حادث اشتباك الجوالة بمأمور قسم الخليفة يوم 29 يونيه 1947 حادث عادي ولم يكن فيه اعتداء بالمعني الذي صوره سعادة الوكيل ، فقد اعترض المأمور ورجاله سير طابور نظامي من جوالة الإخوان المسلمين ، وأراد منهم بالقوة واشتبك مع قائدهم . وأشيع بينهم أن المأمور مزق المصحف الذي كان يحمله أحدهم ، فثارت نفوسهم ، ثم انتهي الأمر بالتفاهم كما تنتهي عادة مثل هذه الاحتكاكات بين البوليس والجمهور في أي اجتماع من الاجتماعات يتصرف فيه رجل البوليس بغير الكياسة واللباقة المناسبة للموقف . الجناية رقم 4726 :
سادسا – الجناية رقم 4726 لسنة 1947 ، ثبت أن الذي اتهم فيها غير مسئول عن عمله ، وسقط الاتهام ضده ، ومازال في المستشفي إلي الآن . فما وجه الاستشهاد بها في مذكرة رسمية ؟ وهل تكون هيئة الإخوان المسلمين مسئولة عن عمل شخص يتبين أنه هو نفسه غير مسئول عن عمله ؟! . في 19 يناير :
سابعا – هؤلاء الخمسة عشر الذين ضبطوا في 9 يناير 1948 بعضهم من الإخوان ومعظمهم لا صلة له بالإخوان أصلا . ولقد برروا عملهم بأنهم يستعدون للتطوع لإنقاذ فلسطين حينما أبطأت الحكومة في إعداد المتطوعين وحشد المجاهدين الشعبيين . وقد قبلت الحكومة منهم هذا التبرير وأفرجت عنهم النيابة في الحال . فما وجه إدانة الإخوان في عمل هؤلاء الأفراد خصوصا وقد لوحظ أنه نص في قرار النيابة بأن الحفظ لنبل المقصد وشرف الغاية . الجناية رقم 1407 :
ثامنا – والجناية رقم 1407 لسنة 1948 كوم النور كان الاشتباك في حادثتها لأسباب عائلية بحتة لا صلة لها بالرأي ، وإن كان كل فريق ينتمي إلي هيئة من الهيئات . وكثيرا ما يقع مثل هذا الاشتباك في القرى بين من لا صلة لهم بحزب أو هيئة . الشيخ محمد فرغلي :
تاسعا – وما نسب إلي الأستاذ الشيخ محمد فرغلي في المذكرة مازال رهن التحقيق . ومن الإنصاف انتظار ما يسفر عنه . ولكن المعروف رسميا وعند الجميع أن الشيخ محمد فرغلي هو رئيس معسكر النصيرات – لا معسكر البريج – بجوار غزة ، وأنه تطوع للجهاد من فبراير 1948 إلي الآن ، ولازم متطوعي الإخوان في هذه المنطقة طوال هذه الفترة وأسندت إليه قيادتهم ، وأقرته قيادة الجيش المصري علي ذلك . كما أنه معروف أن فضيلة الشيخ محمد فرغلي كان من أنصار المجاهد الكريم الشهيد عبد القادر بك الحسيني وكان ممن يسهلون له مهمة الحصول علي ما يريد . فالاتهام قبل التحقيق ظلم صارخ . وقد سألت النيابة الشيخ محمد فرغلي ثم أفرجت عنه ، وإن كان الأمر العسكري قد صدر بعد ذلك باعتقاله . حوادث كفر بدواي :
عاشرا وحادي عشر – أما ما يتصل بحوادث كفر بدواي ومنية البراموني فالثابت والمعروف أن أساس النزاع وأصل الاتهام فيها أن عمدة كل منهما يريد ألا تقوم في القرية أية جماعة يكون لها مظهر وكيان . وكلا العمدتين صهر للآخر ، وخطتهما في ذلك واحدة . وقد كان الإخوان هدفا لاضطهادهما اضطهادا قاسيا لولا ما في أنفسهم من إيمان لما ثبتوا له ساعة نهار . تفتيش ميت موسي :
ثاني عشر – وحادثة تفتيش ميت موسي مأساة تستحق الدراسة والرثاء ، فقد كان الإخوان عامل تهدئة لنفوس هؤلاء المظلومين المحرومين الذين يستغيثون ولا مغيث . فاتهموا بالإثارة والتحريض وقبض علي أربعة منهم من خيرة الشباب ، واستمروا في الحبس أربعين يوما تحت التحقيق دون مبرر مكبلين بالحديد بين طنطا وكفر الشيخ . وماذا كانت النتيجة بعد ذلك ؟ .. أفرجت عنهم النيابة بلا ضمان – فهل هذه إحدى الحجج التي يريد سعادة وكيل الداخلية إدانة الإخوان بها ووصفهم بالإجرام ؟ . خطابات تهديد :
ثالث عشر – وخطابات التهديد التي ذكرها سعادة الوكيل تحدث فيها سعادته مع الأستاذ صالح عشماوي فرد عليه مدير الجريدة رسميا بخطاب مسجل نفي فيه بشدة هذا الاتهام ، ورجاه أن يقف موقفا حازما من هذه الشركات التي تتهم المصريين بالباطل . وإنا لنرجو أن يتفضل سعادته ببيان مقدار هذه الأموال التي امتصها الإخوان بالفعل . وسعادته يعلم تمام العلم أن الإخوان ليسوا هم الذين يحسنون امتصاص أموال الشركات أو غير الشركات .
إثارة الشغب :
وقد انتقل سعادته بعد ذلك إلي اتهام الهيئة بإثارة الشغب في معاهد التعليم . وهي تهمة باطلة ، يشهد ببطلانها الأساتذة أولا رجال الأمن بعد ذلك لو خلوا إلي أنفسهم واستنطقوا ضمائرهم غير متأثرين باتجاه خاص . ولقد كان كثير من الناس يعيبون علي طلبة الإخوان الإغراق في الهدوء والمبالغة في الانصراف إلي الدروس ، فيجيبون بأن واجبهم الأول أن يكونوا طلابا ولقد تخرج في ظل الدعوة مئات الطلاب من مختلف المعاهد فكانوا من أوائل الناجحين في شهاداتهم ، وكانوا من أفاضل الموظفين في أعمالهم .
الحوادث لا تنتج ما أريد بها :
والحوادث التي ذكرها سعادة الوكيل لا تنتج أبدا ما يريد ، ولا تسأل عنها هيئة الإخوان المسلمين فقد كان ولا يزال معلوما أن عنصرا جديدا طرأ علي المدارس والمعاهد بعد الحرب الماضية كان له أثر عميق في توسيع هوة الخلاف وتعميقها بين الطلاب ، واستغلال التعصب للحزبية السياسية أسوأ استغلال ، ودفع المواقف إلي العنف والاحتكاك . والله يشهد والمنصفون أن طلاب هيئة الإخوان المسلمين كانوا أكبر ملطف لحدة هذه الظاهرة وأول المناهضين والواقفين في وجهها وفي كل هذه الحوادث كان أعضاء هيئة الإخوان المسلمين في موقف المدافع دائما ، ومازالت جميعا تحت التحقيق .. ومن الثابت أن الطالب الذي استشهد في مدرسة شبين الكون هو أحد طلاب الإخوان المسلمين . وقد أغلقت المذكرة عمدا هذه النقطة لتظهر الإخوان بمظهر المعتدي مع أنهم هم المعتدي عليهم . وعرضت بعد ذلك إلي حوادث الخازندار بك . وكل ذنب الإخوان فيه أن أحد المتهمين شاع أنه سكرتير للمرشد العام ، مع أن هذه الصلة لم تثبت في التحقيق ، وإن أصرت المذكرة علي وصفها بالثبوت مع أنه فرض ثبوتها لا يمكن أن تتخذ سببا لإدانة هيئة الإخوان المسلمين .
تبعة حوادث 4 ، 6 ديسمبر :
وقد حمل سعادة الوكيل في مذكرته الإخوان المسلمين تبعة حوادث 4 ديسمبر 1948 في الجامعة وكلية الطب وحوادث 6 ديسمبر 1948 بالمدرسة الخديوية . مع أن المعروف أن هذه الحوادث بدأت بمظاهر سليمة بمناسبة موقف حاكم السودان العام من مصر والمصريين وبعثة المحاميين . ثم تطورت بعد الاحتكاك برجال البوليس إلي تلك النتائج المؤسفة حقا .. ولم يكن دور الإخوان فيها أظهر من دور غيرهم من الطلاب . والمقبوض عليهم الآن معظمهم من غير الإخوان ، ولم يعلن بعد قرار الاتهام ، ولم يثبت أن لهيئة الإخوان يدا في التحريض علي هذا الذي حدث – فتحميل الإخوان هذه التبعة سبق لكلمة القضاء .
حادث سيارة الجيب :
أما حادث سيارة الجيب فقد ضبط فيه عدد كبير من مختلف الهيئات ، ومازال التحقيق يدور في تكتم شديد ، ويقول وكيل الداخلية " إن ملابسات هذا الحادث كشفت عن أن جماعة من الإخوان المسلمين أن تنتظر عصابة إجرامية ... إلخ " ومقتضي هذا القول لو أن الأمور تسير في حدودها الطبيعية أن تنتظر الحكومة نتيجة التحقيق فإذا ثبت علي هؤلاء المقبوض عليهم أخذوا بجرمهم . ومن غير المعقول أن تؤخذ الهيئة بتصرفات بعض أعضائها ... وتقول المذكرة نفسها أنهم كانوا من أنفسهم عصابة أخري تتنافي أغراضها ووسائلها من أغراض الجماعة ووسائلها القانونية السليمة .
ومن هذه المناقشة الهادئة يتضح لكل منصف أن جميع هذه الحوادث العادية الفردية لا يمكن أن تلون دعوة الإخوان المسلمين بهذا اللون ، وقد مكثت عشرين عاما صافية نقية . أو تنهض دليلا علي أنهم عدلوا عن وسائلهم القانونية إلي وسيلة إجرامية . وبالتالي لا يمكن أن تكون بمفرداتها أو بمجموعها – وقد حشدتها المذكرة هذا الحشد المقصود – سببا في هدم بناء إصلاحي ضخم جنت منه مصر والبلاد العربية والإسلامية أبرك الثمرات ، بل إن الدليل القاطع الدامغ ينادي ببراءة الإخوان من هذا الاتهام ، فهذه دورهم وشعبهم وأوراقهم وسجلاتهم ومنشآتهم قد وضعت كلها تحت يد البوليس في جميع أنحاء المملكة المصرية فلم يعثر في شيء منها علي ورقة واحدة تصلح أن تكون دليلا أو شبه دليل علي الانحراف المزعوم – بل لم تجد الحكومة أمامها إلا المدارس تقدمها للمعارف ، والمشافي والمستوصفات تقدما لوزارة الصحة ، والمصانع والمعامل لوزارة التجارة والصناعة .. وكفي بهذا شرفا وإشادة بجهود الإخوان الإصلاحية النافعة لهذا الوطن العزيز . وبعد ... فمن تمام الفائدة بعد هذه المناقشة الهادئة أن نتناول بعض هذه النقاط التكميلية بشيء من البيان والتوضيح .
بين الدين والسياسة :
أشارت مذكرة وكيل الداخلية إلي أن الإخوان اتخذوا من الدين وسيلة لخوض غمار السياسة ، وأنهم أرادوا بذلك الوصول إلي الحكم وقلب النظم المقررة في البلاد – وكل من اتصل بالإخوان ودرس نظمهم يعلم تمام العلم بطلان هذا الاتهام . وكل ما هناك أن الإخوان كهيئة إسلامية جامعة مزجت الوطنية بروح الدين ، واستمدت من روح الدين اسمي معاني الوطنية . ولم تبتدع ذلك ابتداعا ، ولم تخترعه اختراعا ، وإنما هي طبيعة الإسلام الحنيف الذي جاء للناس دينا ودولة . وكل مواقف الإخوان في ميدان السياسة مواقف وطنية خالصة بريئة كل البراءة عن حب الدنيا أو الرغبة في الوصول إلي الحكم أو الغنيمة – تهدف إلي إصلاح النظم المقررة في البلاد حتى تتفق مع دينها وعقيدتها ونص دستورها الذي ينادي بأن دينها الرسمي هو الإسلام .
الأوراق ليست حجة :
وليست الأوراق التي توجد بأيدي الأفراد وفي حيازتهم علي هيئة عاشت تعمل وتجاهد في حدود ظاهرة عشرين عاما كاملة . ولكن الحجة هي قوانين هذه الهيئة ولوائحها ونشراتها التي اعتمدتها جهات الاختصاص .. ومنذ صدور القانون رقم 49 لسنة 1945 الخاص بتنظيم العمل للبر والخدمة الاجتماعية وبين العمل للوطنية ونشر الدعوة الإسلامية . ووضعوا لكلتا الناحيتين نظاما دقيقا ولوائح مفصلة اعتمدتها وزارة الشئون الاجتماعية ، وفيها بيان غايتهم ووسيلتهم كاملة – وساروا في حدود هذه الأوضاع يلتزمونها بكل دقة إلي الآن ، وليس من هذه الوسائل الجريمة ولا الإرهاب كما تريد المذكرة أن تقول .
الإخوان وفلسطين :
ولعل الذي يسر للحكومة سبيل هذا الاتهام وسهله عليها وأوجد بين يديها بعض الشبهات – لا الأدلة – عليه ، هو عمل الإخوان وجهادهم في سبيل فلسطين ، وإن كان هذا العمل من أنصع الصفحات وأمجدها في تاريخ دعوتهم – فقد احتاجت فلسطين الشقيقة إلي السلاح قبل التقسيم بأشهر ، ونشطت في جمعه الهيئات ، وأذنت الجهات المختصة من طرف خفي بهذا الجمع ، وشجعت الإخوان علي التعاون مع تلك الهيئات باعتبارهم أقدر الناس علي بذل هذه المعونة لانتشار شعبهم وامتداد دعوتهم إلي كل مكان فأبلي الإخوان في ذلك أحسن البلاء وكانوا عند حسن الظن .
جهاد الإخوان :
وأعلن التقسيم ونشبت الثورة في فلسطين ، والتحم العرب واليهود في معارك شعبية ، وللإخوان في فلسطين أكثر من عشرين شعبة في الشمال والوسط والجنوب . وتدفق سيل الأهلين من الفلسطينيين يريدون شراء الأسلحة من مصر ، وفتحت الحكومة المصرية لهم الباب . وعقدت الجامعة العربية عدة اجتماعات ، وألفت لجنة لمساعدة هؤلاء الأهلين حتى يحصلوا علي ما يريدون . وقبل الإخوان رسميا في هذه اللجنة وتطوع بعض شبابهم لهذه الغاية ، وتركوا مصالحهم وراءهم ظهريا ، وبذلوا في ذلك غاية المجهود ، وقدموا كل ما يستطيعون ، واحتملوا كثيرا من التضحيات المالية في هذا السبيل ، وبخاصة بعد أن عدلت الحكومة من خطتها وصادرت كثيرا من المشتريات التي اشتريت لأهل فلسطين بمعرفتهم أو عن طريق الإخوان ... وكان جزاء هؤلاء الإخوان أخيرا السجن وسوء الحساب .. وأقرت الجامعة العربية فكرة التطوع ، فتقدم إليها الآلاف من شباب الإخوان يريدون الموت في سبيل الله . وظلت الجامعة والحكومة مترددتين بين الإقدام والإحجام ، والحماسة تشتد ، والنفوس تغلي . مما دعا المركز العام إلي أن يبعث بمائة إلي معسكر قطنة بسورية ، وهم كل ما استطاع أن يقنع المسئولين هناك بقبوله . ولكن ذلك لم يشف غلة الإخوان فاستأذنوا في إقامة معسكر خاص لهم بالقرب من العريش ، يمارسون فيه التدريب استعدادا لدخول فلسطين ، وأذن لهم بذلك . وأقاموا معسكرا كبيرا لعدد منهم يزيد علي المائتين ، يمدهم فيه المركز العام بكل ما يحتاجون من أدوات وتموين وسلاح وعتاد بإذن الحكومة وعلمها ، حتى تم تدريبهم ، ودخلوا فلسطين في مارس 1948 أي قبل دخول القوات النظامية بأكثر من شهرين . واحتلوا هناك معسكرا النصيرات جنوبي غزة .. وكان لوجودهم هناك أحسن الأثر في رد عدوان اليهود وطمأنينة السكان .
وتحركت الحكومة وهيئة وادي النيل العليا لإنقاذ فلسطين ، وأعدت معسكر هاكستيب لتدريب المتطوعين . تقدم إليه أكثر من ألف أخ ، انتخب منهم أكثر من ستمائة علي دفعات . جهزتهم الحكومة ودخلوا مع القوات النظامية ، ووزعوا علي مختلف الجهات . وظفروا بحمد الله بتقدير كل من عرفهم أو اتصل بهم أو رأي حسن بلائهم وإخلاص جهادهم ، فقد رابط الإخوان في " صور باهر " وفي " بيت لحم " وعلي مشارف القدس واقتحموا " رامات راحيل " في جبهة الوسط ، واحتلوا معسكر النصيرات ومعسكر البريج ، ونسفوا نقطهم الثابتة والمتحركة في كل مكان في جبهة الجنوب ، واستشهد منهم قرابة المائة وجرح نحو ذلك ، وأسر بعضهم .. وكانوا مثال البسالة والبطولة والعفة والشرف والنزاهة وحب الاستشهاد ... فكان طبيعيا أن تحصل الحكومة علي بعض عتاد لم ينقل ، وأن تجد في بعض الأماكن بقايا من هذه المخلفات .. ولكن ليس معني ذلك أبدا أن الإخوان المسلمين المؤمنين المجاهدين المحسنين قد أصبحوا خطرا يهدد سلامة الأهلين في الداخل وهم دعامتهم . وسلامة الجيوش في الخارج وهم زملاءهم .
الدوافع الحقيقية في موقف الحكومة :
مستحيل أن يكون الدافع الحقيقي لهذه الخطوة الجريئة من الحكومة مجرد الاشتباه في مقاصد الإخوان أو اعتبارهم مصدر تهديد للأمن والسلام :- وهو ما لم يقم عليه دليل ولا برهان – ولكن الدافع الحقيقي فيما نظن هو انتهاز الأجانب فرصة وقوع بعض الحوادث ، مع اضطرابات السياسة الدولية ، وقلق الموقف في فلسطين ، وتردد سياسة مصر بين الإقدام والإحجام – فشددوا الضغط علي الحكومة ، وقد صرح بذلك عمار بك نفسه ، وأقر بأن سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا قد اجتمعوا في فايد وكتبوا لدولة النقراشي باشا في صراحة بأنه لابد من حل الإخوان المسلمين .. وكان في وسع دولته أن يزجرهم عن مثل هذا التدخل في شأن داخلي بحث ، وأن ينظرهم حتى تظهر نتيجة التحقيقات ، وأن يتعاون مع المسئولين في الإخوان علي إزالة هذا الوهم من أنفسهم .. ولكنه بدلا من ذلك استجاب لهذه الرغبة الأجنبية ، وأصدر قرار الحل فأشمت الأعداء وأحزن المؤمنين الأتقياء . وهكذا يقيم الشواهد كل يوم علي أن مصر للأجانب قبل أن يكون لأهلها منها نصيب ، وأن خلاصة شعبها لا مانع من أن تقدم حرياتها قربانا لإرضاء السفراء ورعايا الدول التي طالما ناصبتنا العداء ، وأنزلت بنا البلاء ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ويكون لما يشاع عن قرب الاتفاق بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية أصل في هذه الخطوة أيضا ، كما قد يكون للموقف الحزبي والتأهب للانتخابات القادمة دخل كذلك ، ولا يعلم بالحقيقة غير الله ، ولله عاقبة الأمور .
التعسف في التنفيذ :
ولقد كان الأمر العسكري غريبا في نفسه وفي طريقة تنفيذه ، فلا يمكن أن يقول إنسان أن حل هيئة من الهيئات يستلزم اتهام كل ما يتصل بها أو حمل اسمها بالجرم والعدوان ومصادرته في حريته وماله وعمله ومهاجمته في كل مكان .. ولئن جار في عرف الأحكام العسكرية أن تحل الهيئات فما بال الشركات التي لا صلة بينها وبينها إلا مجرد الاسم مع تمام الفصل في كل الأعمال ونواحي النشاط .
شركات لا صلة لها بالهيئة :
إن شركة المناجم والمحاجر العربية ، وِشركة الإعلانات العربية ، وشركة الإخوان للنسيج ، وشركة دار الإخوان للصحافة ، وشركة دار الإخوان للطباعة ، وشركة مدارس الإخوان بالإسكندرية ... كلها شركات لا صلة لها بالهيئة . جمعت رءوس أموالها من أفراد بصفتهم الشخصية .. وكيف يصح في ذهن أحد أن تصادر أموالها لا لشيء إلا أنها تحمل اسم الإخوان . وهذه العشرات من الإخوان من كرام الشباب .. لماذا يعتقلون بغير جريرة ولا سبب ، وتمنع عنهم أدواتهم الضرورية ، ويلقي بكثير منهم في سجون الأقسام مع المجرمين أمثال " صبيحة وعنتر الششتاوي " وغيرهم من أرباب السوابق ومعتادي الإجرام ، ويتركون فريسة للبرد والجوع ولا يسمع بأن يقدم لهم الغذاء والغطاء.
والصحف أيضا :
وهذه الصحف الشخصية التي ليس لها صلة بالهيئة ، ولا تدعو لفكرتها من قريب أو بعيد ، لماذا تصادر أصحابها وعمالها في أعمالهم وموارد رزقهم . ولقد ضربت الرقابة الشديدة حول مسكن المرشد العام ، وأحيط بسياج من البوليس الملكي مزودين بموتوسيكل حتى إذا دخل داخل أو خرج خارج أدركوه فقبضوا عليه كائنا من كان ، وذهبوا به إلي أحد الأقسام ، حيث يقضي ليلة أو ليلتين أو ما شاء له حضرات الضباط ، ثم يعمل له بعد ذلك تشبيه وتحر ويطلق سراحه أو يظل معتقلا إلي ما شاء الله .
أسلوب الحرب :
هذا الأسلوب من الحرب والتعسف لم تسلكه الحكومة مع الصهيونيين ولا مع أشد الأعداء عداوة للوطن والحرب علي أشدها ، ولم يعمد إليه الانجليز إبان الحرب الماضية ، ولكن لجأت إليه الحكومة مع الإخوان المسلمين في هذا الوقت .
حكم هذا الحل في فعله وآثاره :
إن هذا القرار فيما نعلم باطل شكلا لأنه ليست هناك جماعة الإخوان المسلمين وإنما هناك جماعات لروح أقسام البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين وهناك الإخوان المسلمين العامة . وباطل موضوعا لأنه تجاوز لحقوق الحاكم العسكري الممنوحة له في مرسوم الأحكام العرفية ، ومناف لروح الغاية التي فرضت من أجلها هذه الأحكام . ومحال أن تطبق الأحكام التي فرضت للصهيونيين علي خصوم الصهيونية الألداء .
الحل أوقف نهضة كبرى :
لقد أوقف هذا الحل نهضة اجتماعية كبرى تهيأ لها شعب هذا الجيل من أبناء الوطن وأفضل العقائد وترك في النفوس أعمق الآثار . وسيقول التاريخ كلمته ، ويظهر المستقبل القريب آيته ، ولن تستطيع القوة أن تمحو عقيدة أو تبدل فكرة ( • • • • •• ) ، ( ) انتهت بذلك مذكرة المرشد العام ) .
ثالثا – تفنيد في صدد الاغتيالات :
لم ييأس الأستاذ المرشد – مع تفاقم الأحداث – فلم يقطع صلته برجال الحكومة ، آملا أن يفيئوا إلي رشدهم ، ويرجعوا إلي جادة الصواب ، ويتركوا له فرصة الاتصال برجال الإخوان ليعمل علي تهدئة خواطر هذا الشباب الذي أثاروه بإجراءاتهم الشاذة فوجد الشباب نفسه بغير قيادة فانطلق لا يلوي علي شيء ... وهنا وجد الأستاذ من وزراء الحكومة من يحضر إلي دار المسلمين لمقابلته والتفاهم معه أو أقل من يتظاهر بأنه جاء من قبل رئيس الوزراء للتفاهم معه ... وتمخضت الاجتماعات بينه وبينهم عن أن يجاب لطلبه في الإفراج عن أعضاء مكتب الإرشاد ليستطيع معهم تهدئة الأمور إذا هو أصدر بيانا يستنكر فيه اغتيال النقراشي باشا . أصدر الأستاذ المرشد البيان ، ونشر في الصحف تحت عنوان " بيان للناس " وإن كان ممثلو الحكومة قد ألزموه بإثبات عبارات معينة في البيان لم يكن هو راضيا عنها ، ولكنه – أملا في تدارك الموقف المتفاقم – أجازهم كارها ... وإليك هذا البيان الذي نشر في 11/1/1949 :
" كان هدف دعوتنا حين نشأت (العمل لخير الوطن وإعزاز الدين ومقاومة دعوات الإلحاد والإباحية والخروج علي أحكام الإسلام وفضائله) تلك الدعوات التي دوي بوقها ، وراجت سوقها في تلك الأيام ، وإذ كان ذلك كذلك ، فما كانت الجريمة ولا الإرهاب ولا العنف من وسائلها ، لأنها تأخذ عن الإسلام ، وتنهج منهجه ، وتلتزم حدوده . ووسيلة الإسلام في الدعوة مسجلة في كتاب الله ( ) ، والقرآن الكريم هو الكتاب الذي رفع من قدر الفكر ، وأعلي من قيمة العقل ، وجعله مناط التكليف ، وفرض احترام الدليل والبرهان ، وحرم الاعتداء حتى في القتال فقال : ( ) والإسلام الحنيف هو دين السلام الشامل ، والطمأنينة الصافية ، والمثل الإنسانية الرفيعة ومن واجب كل مسلم ينتسب إليه أن يكون مظهرا لهذه الحقيقة التي صورها النبي الكريم صلي الله عليه وسلم بقوله : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " . ولقد حدث أن وقعت أحداث نسبت إلي بعض من دخلوا هذه الجماعة دون أن يتشربوا روحها أو يلتزموا نهجها ، وتلا ذلك هذا الحادث المروع حادث اغتيال دولة رئيس الحكومة المصرية محمود فهمي النقراشي باشا الذي أسفت البلاد لوفاته بفقده علما من أعلام نهضتها وقائدا من قادة حركتها ومثلا طيبا للنزاهة والوطنية والعفة من أفضل أبنائها ، ولسنا أقل من غيرنا أسفا من أجله ، وتقديرا لجهاده وخلقه .
ولما كانت طبيعة دعوة الإسلام تتنافي مع العنف بل تنكره ، وتمقت الجريمة مهما يكن نوعها ، ونسخط علي من يرتكبها ، فنحن تبرأ إلي الله من الجرائم ومرتكبيها ... ولما كانت بلادنا تجتاز الآن مرحلة من أدق مراحل حياتها ، مما يوجب أن يتوفر لها كامل الهدوء والطمأنينة والاستقرار – وكان جلالة الملك المعظم حفظه الله قد تفضل فوجه الحكومة القائمة – وفيها هذه الخلاصة من رجالات مصر – هذه الوجهة الصالحة ، وجهة العمل علي جمع كلمة الأمة وضم صفوفها ، وتوجيه جهودها وكفاياتها مجتمعة لا موزعة إلي ما فيه خيرها وصلاح أمرها في الداخل والخارج ، وقد أخذت الحكومة من أول لحظة تعمل علي تحقيق هذا التوجيه الكريم في إخلاص ودأب وصدق . وكل ذلك يفرض علينا أن نبذل كل جهد ، ونستنفذ كل وسع في أن تعين الحكومة في مهمتها ، وتوفر لها كل وقت ومجهود للقيام بواجبها والنهوض بعبثها الثقيل ، ولا يتسنى لها ذلك بحق إلا إذا وثقت تماما من استتباب الأمن واستقرار النظام – والعمل علي استتباب الأمن واستقرار النظام واجب كل مواطن في الظروف العادية فكيف بهذه الظروف الدقيقة الحاسمة التي لا يستفيد فيها من بلبلة الخواطر وتصادم القوي وتشعب الجهود إلا خصوم الوطن وأعداء نهضته .
... لهذا أناشد إخواني لله والمصلحة العامة أن يكون كل منهم عونا علي تحقيق هذا المعني ، وأن ينصرفوا إلي أعمالهم ، ويبتعدوا عن كل عمل يتعارض مع استقرار الأمن وشمول الطمأنينة حتى يؤدوا بذلك حق الله والوطن عنهم . والله أسأل أن يحفظ جلالة الملك المعظم ويكلأه بعين رعايته ويسدد خطي البلاد حكومة وشعبا في عهده الموفق إلي ما فيه الخير والفلاح آمين " .
هذا هو البيان ... والهيئة التي ينشر قائدها هذا البيان ويوضح فيه أهداف دعوته ، وكلها أهداف إصلاحية نبيلة ويصرح فيه بموقفها من الجريمة بوجه عام ومن اغتيال النقراشي لا شك في أنها ليست الهيئة التي تلصق الحكومة بها الاتهامات التي كالتها بدون حساب ,,, فكان هذا البيان في حد ذاته تفنيدا آخر لما ادعته الحكومة علي الإخوان وأصدرت أمر الحل بناء عليه .. علي أن الظروف التي أحاطت بصدور هذا البيان كانت ظروفا بالغة الحرج والخطورة ، وسنرجئ تناولها إلي باب قادم إن شاء الله .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الخطة الأخيرة للإبادة: جَريمة القرن العشرين : اغتيال المرشد العـام
مقـدمـة
كانت إقامتي في عام 1948 في مدينة دمنهور ، حيث نقلت إليها في منتصف عام 1947 . وكان مقر عملي في أكبر محلج للقطن فيها .. وكانت علاقات الإخوان مع حكومة السعديين برياسة النقراشي باشا في خلال تلك الفترة لا تزداد كل يوم إلا سوءا ، مع أننا كنا نحاول استرضاء هذه الحكومة – رغم أخطائها الجسيمة في حق البلاد – من أجل قضية فلسطين التي طغت علي جميع القضايا في البلاد العربية والتي كانت تجتاز في تلك الأيام أحرج مواقفها . وقد أتاح لي وجودي في هذا المحلج فرصة التعرف علي شخصية لم أكد أتعرف عليها حتى شعرت أنها تبادلني حبا بحب وتقديرا بتقدير ، تلك شخصية الأستاذ (ع . عنان) مهندس ماكينات المحلج .
كان هذا الرجل يكبرني سنا ، لكنه لم يكن منذ تعرف علي يأنس لإنسان بالمحلج ولا بدمنهور إلا لي . وقد صارحني بذلك .. وكان وقت فراغه كله يقضيه معي في مكتبي بالمحلج . وجهات النظر إلي كثير من المسائل الجوهرية في الحياة السياسية لبلادنا . وكان الخلاف يشتد بيننا في بعض الأحيان في أوائل تعارفنا إلي الحد الذي يخيل لمن يحضر نقاشنا أنه لابد أن يؤدي إلي قطيعة ، غير أنه لم يوهن في يوم نمن الأيام من وشائج الود بيننا . كان الأستاذ (ع) من الرجال الأتقياء الذين يعتزون بكرامتهم ولا يخافون في الحق لومة لائم ، وكان علي ذكاء وفطنة ، وعلي درجة واسعة من الثقافة العامة ، كما كان من أصل كريم من أسرة عنان وهي أسرة عريقة في الدقهلية .. وكان إبراهيم عبد الهادي باشا يمت إلي أسرتهم بصلات نسب . ولذا فإنه كان يحكم هذه الصلات سعديا . وكان مقتضي ذلك أن يكره ما سوي السعديين ، فيكره الوفد ويمقت الإخوان المسلمين .. ومع أن الرجل عرف أنني من الإخوان المسلمين فإنه كان يصارحني برأيه هذا ، ويتعجب من أن يكون شاب مثلي من الإخوان المسلمين . وفي أثناء مناقشاتي معه تبين لي أن الرجل معذور في كراهيته للإخوان المسلمين ، أولا لأن الصورة التي وضع السعديون الإخوان في إطارها صورة منفرة مخالفة للحقيقة والواقع ، ثم إن الظروف لم تسعف الرجل من قبل بالتعرف علي أشخاص من الإخوان يمثلون الدعوة الإسلامية في أخلاقهم وتصرفاتهم وتعاملهم مع الناس ... وكان الرجل مقتنعا بي كل الاقتناع – وأول شرط لنجاح الداعية إلي أية فكرة أن يقتنع به من يخاطبه – ولذا فقد سهل علي بعد عدة جلسات معه أن أصحح له صورة الإخوان بوضعها في إطارها الصحيح .. وكان قد أظلتنا الأيام التي بلغ فيها التوتر بيننا وبين السعديين أشده .. وكان الرجل علي اتصال بأهله وذويه ومنهم إبراهيم عبد الهادي وأسرته
وأسر إلي الرجل بأنه قد اقتنع بالإخوان المسلمين إلا أنه يري ألا يجهر بذلك ، وأن يظل علي ولائه للسعديين ؛ لأنه علم أن أحداثا جساما علي وشك الوقوع في البلاد ، وأنه يريد أن يقف بجانبي في خلالها ليدفع عني ما يستطيع دفعه من شرورها .. وكنت أعترض أن أكون بمنجي مما يتعرض له إخواني ، فكان يقول لي : " إنني أعلم أنك لا تبالي في سبيل دعوتك عذابا ولا تنكيلا لكنك بوصفك صديقا حللت في قلبي محل الأبناء أو الأخ الصغير ، وأعلم في نفس الوقت أنك علي الحق وأن أعداءكم علي الباطل ، فإنني أري نفسي ملزما – رضيت أم كرهت – أن أؤدي واجبي نحوك ، وأن أخفف من المصائب القادمة ما أستطيع .. ثم قال : ليتني أستطيع دفع الويلات عن الإخوان جميعا ، إذن والله لفعلت ولكنه جهد المقل ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها " .
وتحقق الذي أسره إلي ، فصدر أمر الحل ، وتبعه ما أشرت إليه من اعتقال الإخوان ، وعجبت أن أترك دون اعتقال .. ولاحظت منذ اليوم الذي صدر فيه أمر الحل أن الأستاذ (ع) يلازمني طول اليوم لا يكاد يفارقني ، ولا يدعني أبارح المحلج إلي بيتي دون أن يرافقني حتى أدخل باب البيت .. وكنت أثور عليه في بعض الأحيان فكان يقول لي : يا فلان أليس إيمانك بدعوتك كما هو لم يمس ؟ وما فائدة أن تعتقل إذا كان يمكنك ألا تعتقل دون أن يمس إيمانك ودون أن يتعرض لك السفهاء بما تكره ؟ أليس النبي صلي الله عليه وسلم يقول : " سلوا الله العافية " ؟ .
الفصل الأول: التمهيد للجريمة
ظهر للمحللين فيما بعد أن الأصابع الخفية التي نسجت خيوط المؤامرة العالمية للقضاء علي الدعوة الإسلامية في هذا القرن ، كانت قد نسجت هذه الخيوط علي أن يكون الخيط الحابك لها جميعا هو اغتيال المرشد العام مؤسس الدعوة وقائدها وروحها ، والرجل الذي أعياهم الاقتحام إليه بكل ما يملكون من وسائل الترغيب والترهيب ، والجدار الشاهق الصلب المتين الذي تستند إليه هذه الدعوة .. فإذا أمكن نسفه انهارت بانهياره الدعوة بين عشية وضحاها . ولقد عبر عن هذا المعني الذي سيطر علي أفكارهم الضابط محمد الجزار حين قال لأحد الإخوان المتهمين في إحدى القضايا التي لفقوها : لقد كنتم تستندون علي وجود الجماعة وعلي وجود المرشد ، فالجماعة حللناها والمرشد قتلناه فأي سند لكم بعد ذلك ؟ وسأحاول إن شاء الله في هذا الفصل إبراز صورة واضحة المعالم للتخطيط الذي وضعه المتآمرون لإتمام هذه الجريمة التاريخية النكراء في الخطوط العريضة التالية :
الخط الأول للتمهيد – حل الإخوان المسلمين :
ويندرج تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية : 1 – عدم الوقوف في وجه العمل الفدائي للإخوان في فلسطين ، باعتقاد أن ذلك يستنزف قوتهم ويعين علي سهولة القبض عليهم بعد ذلك دفعة واحدة. 2 – عن طريق جمع السلاح للفدائيين وللمجاهدين الفلسطينيين يمكن ضبط مخازن هذا السلاح في مصر ليكون هذا الضبط مبررا للقبض علي البقية الباقية من الفدائيين من الإخوان الذين لم يتمكنوا من السفر إلي فلسطين وتلفيق قضايا لهم بمحاولة قلب نظام الحكم. 3 – إدخال الجيوش العربية إلي فلسطين لتتحطم روحها المعنوية من جهة – نظرا لضعف تسليحها وعدم تدريبها – ومن جهة أخري ليكون دخول هذه الجيوش مبررا لإعلان الأحكام العرفية. 4 – اختيار النقراشي باشا لإصدار أمر الحل لما يعلمون من شدة حقده علي الإخوان ولصفاته التي أشرنا إليها من قبل ، حتى ينطبع في بنود هذا الأمر أثار هذا الحقد من الشراسة والتحدي والاستفزاز ، مما يدفع شباب الإخوان إلي القيام بأعمال انتقامية. 5 – توريط النقراشي في إصدار أمر الحل سيدعوه إلي حماية نفسه بإصدار أوامر أخري باعتقالات يتسع نطاقها يوما بعد يوم حتى يكون الإخوان جميعا تحت يد الحكومة في يوم قريب.
الخط الثاني – عدم اعتقال المرشد العام :
ويندرج تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية : 1 – إظهار الحكومة أمام الرأي العام بمظهر الاعتقال إذ هي في استطاعتها اعتقاله ومع ذلك فإنها تقديرا لشخصيته لا تعتقله – في حين أن عدم اعتقاله لا يجعل الحكومة مسئولة عما قد يتعرض له من اعتداء أو اغتيال. 2 – وجود المرشد العام حرا – فيما يبدو للناس – يجعله مصيدة لاصطياد من يتصل به من الإخوان الذين قد لا تكون أسماؤهم مدونة في السجلات التي صادروها. 3 – وجوده حرا دون اعتقال يجعله دائب البحث عن وسيلة للتفاهم مع الحكومة لإيجاد مخرج من الأزمة التي أوجدها أمر الحل ، مما يدعوه إلي الاتصال برجال الحكومة ، وعن هذا الطريق يمكن ضبط تحركاته إذ تكون تحت عيونهم.
الخط الثالث – قطع الصلة بينه وبين الإخوان :
ويتدرج تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية : 1 – أن يفقد الإخوان لاسيما الشباب منهم قيادتهم ، فيندفعوا بحكم حماسهم وبتأثير أعمال الاستفزاز التي تقوم بها الحكومة ضدهم إلي ارتكاب أخطاء وأعمال انتقامية تدينهم أمام الرأي العام ، وتزيد من تمكن الحكومة منهم وتشديد قبضتها عليهم. 2 – كان في ذهنهم احتمال كبير لقيام هذا الشباب باغتيال النقراشي باشا ، مما يزيد نار العداء تأججا بين السعديين ومن ورائهم الملك وبين الإخوان ، مما يدفع السعديين إلي الانتقام.
الخط الرابع – تجريده من الحماية الشخصية :
ويدخل تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية : 1 – اعتقال أشقائه جميعا لاسيما عبد الباسط ضابط البوليس. 2 – تجريده من مسدسه الخاص وسحب رخصته. 3– الاستيلاء علي سيارته الخاصة حتى يحد ذلك من حركته ، فيضطر إلي استخدام وسائل المواصلات العامة مما يسهل لهم أن يكون تحركه تحت أعينهم. 4 – عدم السماح له بمغادرة القاهرة إلي أي مكان آخر في داخل البلاد أو خارجها.
الخط الخامس – إغلاق جميع الطرق أمامه :
ويدخل تحت هذا الخط العريض الخطوط التالية : 1 – حاولوا أولا سد جميع الطرق أمامه ، ولكنه سارع من أول لحظة وقدم طلبا للعضوية بجمعية الشبان المسلمين. فلما لم يفلحوا في إغلاق هذا الطريق جعلوه هو الطريق الوحيد أمامه ، ورسموا خطة علي هذا الأساس . 2 – استغلوا هذا الطريق الوحيد في إبهامه باستعدادهم للتفاهم معه. 3 – اختارت الحكومة لتمثيل دور الوسطاء بينها وبينه شخصيات حكومية معروفة بالخداع والمداهنة والالتواء. 4 – استطاعت هذه الشخصيات أن تحصل منه علي البيان الذي أذيع بعد مقتل النقراشي باشا تحت عنوان " بيان الناس " الذي أشرنا إليه من قبل ، وقد تأتي الإشارة فيما بعد إلي الطريقة التي أخذوه بها . 5 – استطاعوا بأسلوب الخداع والغدر والالتواء أن يحددوا له موعدا للقاء بدار الشبان المسلمين في ساعة محددة من مساء يوم معين لإتمام التفاهم علي حل نهائي للأزمة ، مما جعله يسارع متلهفا إلي الحضور في الميعاد حرصا علي مصلحة دعوته.. وعلي أساس من هذا التحديد للمكان والزمان وضعوا خطة الاغتيال .
مزيد نم الأضواء علي هذه التمهيدات :
أولا : المرشد يطلب من الحكومة أن تعتقله :
إن الأستاذ المرشد حين وجد أن الإخوان معتقلون دونه ، شعر بأن هذا الوضع مقدمة لمؤامرة تستهدفه شخصيا ، فطلب من الحكومة وألح في طلبه إما أن تعتقله مع إخوانه وأما أن تفرج عنهم .. ولكن الحكومة أصرت علي هذا الوضع الغريب ، فطلب منها أن تفرج عن أعضاء مكتب الإرشاد وهم اثنا عشر شخصا لتتاح له الفرصة معهم في العمل علي تهدئة الخواطر حتى لا تتفاقم الأمور .. ولكن الحكومة أصرت علي الوضع نفسه .
ثانيا : الشعب كله داخله شعور بالارتياب :
ازداد ارتياب المرشد العام في نية الحكومة من تركة دون اعتقال حيث سحبت منه سلاحه المرخص وسحبت رخصته ، واعتقلت شقيقه عبد الباسط في الوقت الذي طوقت بينه بنطاق من البوليس الملكي .. وقد شكا ذلك صراحة في مذكرته التي رد بها علي مذكرة عمار بك وكيل الداخلية .. ويبدو أن شعور الارتياب هذا لم يدخل المرشد العام وحده بل داخل الشعب كله ؛ لأن الإجراءات غريبة كل الغرابة ولا تحتمل إلا ارتياب .. وقد يبدو هذا الارتياب في أوضح صوره في نقاش دار بين الدكتور عزيز فهمي المحامي وبين المرشد العام . وقد أوردت هذه الواقعة جريدة المصري في 4/5/1952 تحت عنوان " بين الشهيدين حسن البنا وعزيز فهمي " قالت الجريدة : ط روي أمس بعض الذين قدموا للعزاء بدار عبد السلام فهمي باشا (والد الدكتور عزيز) القصة التالية وقد وقعت بين المرحومين الشيخ حسن البنا والدكتور عزيز فهمي . وتتلخص في أن المغفور له الشيخ حسن البنا كان قد وكل المغفور له الدكتور عزيز فهمي في قضايا الإخوان بعد حلها .
وكان الشيخ حسن البنا في مكتب الدكتور عزيز قبل اغتياله بيومين لمراجعات خاصة بالقضايا . وسأل الدكتور عزيز الشيخ حسن البنا : هل معك سلاح ؟ فرد رحمه الله بقوله : السلاح أخذوه ، والأخ سجنوه فسأله الدكتور عزيز : وبماذا تدافع عن نفسك ؟ فقال رحمه الله :
أي يـومي من المـوت أفر يـوم لا يقـدر أم يوم قـدر يـوم لا يقـدر لا أرهبـه ومن المقـدور لا ينجو الحذر
ثم قال رحمه الله للدكتور عزيز : إني أخشي عليك أن تموت صغيرا فعقلك أكبر من سنك بمراحل . ثم كان أن اغتيل الشيخ حسن البنا بعد يومين من هذه المقابلة ، وتوفي الدكتور عزيز بعد ثلاثة أعوام رحمهما الله " .
ثالثا – اللواء صالح حرب باشا يكشف عن خبث نيات الحكومة :
كاد ارتياب المرشد العام في نية الحكومة نحوه أن يكون يقينا ، فطلب من الحكومة السماح له بمغادرة القاهرة إلي أي مكان آخر ، فلم تحر الحكومة علي هذا الطلب جوابا .. وأترك إلقاء الضوء علي هذا الخط أو علي هذه الخطة الأثيمة من المؤامرة الدنيئة للرجل الذي كان ملابسا لظروفها ، ومحيطا بأبعادها ، والذي سجل له التاريخ موقف رجولة نادرة ، وبطولة انعدم مثلها في تلك الأيام المدلهمة ، ذلك هو اللواء صالح حرب باشا رئيس جمعية الشبان المسلمين في ذلك الوقت ، ونقتطف باقة من خطاب ألقاه في عيد الجهاد الموافق 15/11/1949 حيث قال : " في مثل هذا اليوم من العام الماضي ، وقفت موقفي هذا أنعي فيه علي الحكومة القائمة يومذاك موقفها السلبي من قضية البلاد وأهدافها الوطنية ، متسترة خلف ما أسمته تجاهل وجود الغاصبين – وما كان أسعد الغاصبين بهذا التجاهل .. وهل إذا سئلوا أن يتمنوا فهل كانوا يتمنون أكثر من ذلك التجاهل الذي ترجمته الواقعية هي التسليم لهم بلا قيد ولا شرط في حقوق البلاد ، وكانت نتيجته ما وصلت إليه الحالة اليوم في السودان قضاياه القومية ، وصرفه عنها بشتى الوسائل ، وكان أفتكها سلاحا سيف الأحكام العرفية المصلت علي الرقاب ، والإرهاب الحكومي الذي صبر كل مصري مشغولا بنفسه ، لا يدري ما مصيره ولا ما يأتي به الغد . فعشش الخوف في النفوس وأفرخ .. وفي غمرة هذه الأحداث وصل الغاصبون إلي غاياتهم وهم في أمن وسلام .
أما الأمن والسلام فلا رعي الله أمنا يمشي فيه المصري ولا يدري أن كان سيصبح في بيته أو في المعتقل ، ويصبح فلا يدري أن كان سيمسي بين أهله أو بين المجرمين في سجن .. أما نزاهة الحكم فيا لسخرية القدر .. أين هي ؟ دلونا عليها يا زعماء البلاد وساسة الحكم ، فإن لم تستطيعوا فاسألوا عنها سمعة مصر في بلاد العالمين ، وسلوا عنها كساد الحال وركود الأعمال وارتفاع الأسعار ، وإثراء ذوي النعمة وقد كانوا من المفلسين . لقاؤه بالأستاذ البنا بعد قرار الحل :
ثم قال : وأري من واجبي في هذه المناسبة أن أميط اللئام عن موقف المغفور له الشهيد الشيخ حسن البنا بعد صدور الأمر بحل الإخوان . وقد زرته في منزلة ، وكان المنزل مراقبا عقب حل الجماعة فقال لي : لقد سعيت عقب الحل مباشرة للاتصال بالنقراشي باشا فتعذر ذلك بل استحال ، وكتبت له عندما أمعنوا في القبض علي كبار الرجال في الجماعة إنني مستعد أن أتعاون مع الحكومة تعاونا صادقا لتهدئة الحال وإقرار الأمن والسلام .. فلم يعبأ بما كتبت له يتم شيء . وسعيت هنا وهناك حتى كادت انتعل الدم فلم يبال أحد بسعيي ورجائي ... ولست أدري لماذا يتركونني اليوم طليقا وقد اعتقلوا جميع أصحابي ماداموا لا يرغبون في إشراكي معهم لتهدئة الخواطر بل ولا يرغبون في إشراكي معهم لتهدئة الخواطر بل ولا يرغبون في الاتصال بي .. لماذا إذن لا يعتقلونني كما اعتقلوا غيري . والاعتقال خير لي من الحال التي أصبحت فيها بين توجع النساء ، ولوعة الشيوخ ، وبكاء الأطفال ، واحتياجهم جميعا لمن يعولهم ومن يعينهم ، ومن أين لي وقد جمدوا ووضعوا يدهم علي كل ما يملك الإخوان ؟ .
ثم قال اللواء صالح حرب: وقد قلت له : ثق يا فضيلة المرشد أن دار الشبان المسلمين دارك ، وهي مفتوحة لك دائما ... وتردد الشيخ علي الدار ، فامتعضت الجهات الرسمية وخاطبوا الجمعية في ذلك فكان الجواب أن هذه الدار دار المسلمين جميعا ، لن يوصد بابها في وجه مسلم ، ومن باب أولي لا يوصد في وجه الأستاذ الشيخ حسن البنا ، وستظل هذه الدار داره مادام راغبا في زيارتها . أساليب ملتوية كشفت نية الحكومة :
وأخيرا بدت من الحكومة رغبة في الاتصال به ، وطلبوا إليه أن يذيع بيانا يدعو فيه إلي الهدوء والسكينة حتى تعود الطمأنينة إلي النفوس . فكتب بيانه وعرضه علي المسئولين . فطلبوا إليه أن يستنكر بصراحة الاعتداء علي النقراشي باشا ففعل .. وظل البيان المحو والإثبات حتى أقروه ونشر تحت عنوان " بيان للناس " والشيخ في كل هذه الأيام لا يشغله شاغل غير الرغبة الصادقة في التعاون مع الحكومة علي إقرار السلام ، ولا يشترط غير إطلاق سراح كبار الإخوان ليعاونوه . وكم كانت دهشتي عندما قرأت في أثناء محاكمة قاتل النقراشي باشا أن هذا البيان كان وسيلة من الوسائل التي استعملت في زلزلة معنويات القاتل وإضعاف عقيدته .. فقلت عفاء علي أخلاق عظماء الرجال في مصر . واطمأن الشيخ علي أنه بعد هذا البيان سوف يتغير الموقف ، ويسود التفاهم ، وتتوالي الخطوات في سبيل تهدئة الخواطر وإقرار السلام . ولكن لسوء الطامع لم يمض يومان علي صدور البيان حتى وقع حادث الشروع في نسف محكمة الاستئناف ، فجاءني الشيخ في حالة من الجزع والفزع لم يسبق أن رأيته عليها ، وقد عقد لسانه ، وجف ريقه ، وملكه ألم كاد يفقده صوابه .. وأنا أقسم بعد أن شاهدت الشيخ المرشد علي تلك الحال إنه مستحيل علي مثله أن يدعو إلي الإجرام أو يأمر به أو يشارك فيه .وظللت وقتا طويلا أهدئ من روعه حتى سكن قليلا واستطاع الكلام فقال :أرأيت هذا المفتون ماذا كان ينوي أن يفعل ؟ والله ما هذا الشقي مسلما ولا من الإخوان .. ولما خوطب الشيخ من الجهات الرسمية في هذا الحادث تبرأ من هذا الشاب واستنكر بكل شدة فعلته . وأظهر استعداده لأن ينشر بيانا آخر يذيع فيه أن هذا المفتون وأمثاله ليسوا مسلمين .
بعد هذا الحادث ظهر أن نيات الجهات الرسمية من ابتدائها لم تكن مخلصة في مفاوضاتها مع الشيخ . وبدأ القلق يساوره فقلت له : من الخير أن تطلب من الحكومة الرحيل من القاهرة إلي جهة نائية تقيم فيها حتى تنقشع غياهب الأحداث . فقال : إني خيرت المسئولين في واحدة من أربع : أما أن يطلقوا سراح كبار الإخوان لنعمل معا جادين مخلصين حسب توجيه الحكومة حتى تطمئن ويزول ما في النفوس وتهدأ الخواطر – وأما أن يختاروا قرية لجأ إليها ولو كانت في مكان قفر – وإما أن يسمحوا لي بمغادرة القطر إلي أي بلد عربي أو إسلامي – وأما أن يعتقلوني كما اعتقلوا أصحابي – ولكنهم إلي الآن لم يستجيبوا إلي واحدة من هذه الأربع . فتبينت العبث ظاهرا في هذه المعاملة ، وطلبت من الشيخ بإلحاح أن يغادر القاهرة من تلقاء نفسه إلي أي قرية بعيدة يختارها ، ويخطر الحكومة بانتقاله إليها – وقمت إلي أسوان متألما من الموقف بعد أن وثقت من أن الشيخ سيغادر القاهرة غداة سفري إلي قرية بها شيخ كبير السن من الإخوان يعيش بجواره .. ولست أدري ما الذي أخر سفره ؟ ، ومرت الأيام وأنا بأسوان حتى سمعت بمقتله ... وأين ؟ علي باب الشبان المسلمين التي قدم طلبا بالانضمام إلي عضويتها .. فيا للخيانة ويا للغدر .. مات الشيخ حسن البنا فمات بموته خلق كثير " .
شهادة محافظ القاهرة تلقي أضواء أكثر :
ويحسن في هذا المقام زيادة في الإيضاح بعد هذا البيان الجامع للواء صالح حرب أن نورد ما يتصل بهذا الموضوع من شهادة الأستاذ فؤاد شيرين محافظ القاهرة في ذلك الوقت أمام مستشار التحقيقات محمد علي جمال الدين في 18/3/1953 حيث وجه المحقق إليه سؤالا علي الوجه الآتي :
س : هل تقدم الشيخ حسن البنا لحضرتك بطلب التصريح له بالسفر للخارج ؟ جـ : أذكر جيدا أنه وصلني جواب من المرحوم حسن البنا يقول فيه إنه يريد السفر إلي بلدة قليوبية للإقامة عند قريب له ، وحدث بعد ذلك أن قابلت الأستاذ إبراهيم عبد الهادي رئيس الحكومة في مكتبه ، ووجدت أنه علي علم بهذا الخطاب وقال لي : لا ترد عليه ، فقلت له : إنه يطلب الرد . فقال لي : أليس هناك أشخاص كثيرون يكتبون إليك ولا ترد عليهم ؟ فقلت : نعم ، فقال : إذن أفعل ذلك معه .
وانتهي الحديث عند هذا الحد ، وأظن أن حضرة إبراهيم عبد الهادي يذكر ذلك .. وبناء علي ذلك لم اتصل بالشيخ حسن البنا ، ولم يتصل هو بي لأنه قتل بعد فترة قصيرة .
س : ألم تفهم من حديث إبراهيم عبد الهادي ما هو السبب أو الداعي في عدم الرد وعدم التصريح للشيخ البنا في السفر والإقامة مع قريبه في بنها ؟ جـ : لا .. لم أفهم شيئًا ، ولكني تألمت لأني كنت أريد أن أرد عليه . س : ألم تعلم باعتقال الشخص الذي كان البنا يريد الإقامة عنده ؟ جـ : لا .. لأن شئون الإخوان لم تكن تعرض علي ولا أخطر بها .
الفصل الثاني: التدبير الأثيم
وقعت هذه الجريمة في اليوم الذي اعتقد فيه المرشد العام– أمام المواثيق التي قدمتها إليها الحكومة عن طريق وسطائها – أنه اليوم الذي ثابت فيه الحكومة إلي رشدها ، وأرادت أن تخرج بالبلاد من ورطتها ، وإنقاذها مما آل إليه حالها من تدهور في الأمن ، وفقد للطمأنينة والأمان ، وتحول البلاد إلي ميدان حرب بينها وبين الشعب . وقد تلمح هذا المعني فيما جاء بشهادة عبد الفتاح عشماوي أبو النصر حين استدعاه المحقق في 17/3/1953 فقال : إنه موظف بوزارة المعارف وإنه من الإخوان . وقد اتصل به البوليس السياسي ليعمل مرشدا في خدمته فأبلغ ذلك للشيخ حسن البنا الذي طالب منه مسايرة البوليس لمعرفة أغراضه . واستطرد يقول : فاشتغلت بمكتب عبد المجيد العشري الضابط بالقلم السياسي ، وطلب مني أن أخبره بكل اجتماعات مكتب الإرشاد . وكنت أطلع الشيخ البنا علي كل أخبار البوليس السياسي .
وفي يوم الحادث كنت أنا والأستاذ أحمد سليمان المدرب بالسعيدية الثانوية – وهو من الإخوان وكان مرشدا أيضا للبوليس السياسي – عند الأستاذ المرشد العام لتبليغه خبر اعتقال الشيخ النبراوي . فأخبرنا أنه سوف لا يخرج في اليوم المذكور ؛ لأن الحكومة في سبيل السماح له بزيارة المعتقلين وتسوية المسائل ... وخرجنا علي أن نعود إليه في اليوم التالي ولكنه اغتيل .. وقال لي الضابط عبد المجيد العشري : إحنا أخذنا بالثأر . فسأله المحقق : لماذا لم تبلغ هذه الوقائع في حينها ؟ فقال : كل واحد كان يتقدم للشهادة كان يعتقل . وهكذا خدع المرشد العام .. وما كان له إلا أن يخدع ، فهو إنسان لم يعد يملك لنفسه شيئا أمام حكومة جردته من كل شيء : من إخوانه وأهله وسلاحه وسيارته وقلمه ، في الوقت الذي تجردت هي فيه من جميع القيم ، ومن أبسط قواعد الأخلاق ، ومن أدني صفات الإنسانية . وأباحت لنفسها مالا تبيحه عصابات السطو والإجرام ، فاستباحت أول ما استباحت الكذب والنفاق والخداع والقتل والخيانة والغدر .
تطورات الأحداث حتى وصلت إلي نهايتها :
ولكن يتتبع القارئ تطور الأحداث حتى وصلت إلي نهايتها نقول :
مسارعة المرشد لتدارك الأمر :
1 – عقب صدور أمر الحل مباشرة سارع المرشد العام إلي مقابلة إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الديوان الملكي في ذلك الوقت ، وسلمه بيانا أعده لإذاعته علي الإخوان يناشدهم فيه التزام الهدوء والسكينة ، وأن يتركوا له أمر التفاهم مع الحكومة بما يتفق ومصلحة البلاد العليا.. فلما تسلم النقراشي باشا هذا البيان رفض نشره بالصحف وأنكره علي المرشد العام قائلا : أن إخلاد الإخوان إلي الهدوء والسكينة من شأن الحكومة وليس من شأن حسن البنا .
علي نفسها جنت براقش :
2 – كان من أثر هذا الصلف والغرور والجهل الذي تسلط علي عقلية ذلك الرجل النقراشي متى رفع عليه العصا اتجه حيث يريد ... كان أول أثر أن راح صاحب هذه العقلية الضحية الأولي لصلفه وجهده وغبائه فاغتيل في سويداء عرينه الذي لم يغن عنه شيئا.
الحكومة تدفع الشباب إلي عمل أهوج :
3 – قبض علي قاتل النقراشي وعلي عدد معه من الإخوان ، واتبع في التحقيق معهم أساليب لا يقرها القانون ، وانتزعت منهم اعترافات بوسائل دنيئة ، في ظل نيابة عامة علي رأسها النائب العام محمود منصور الذي تحدثنا عنه من قبل ... وخيل إلي شاب ممن ينتسبون إلي الإخوان – الذين عزلتهم الحكومة الغاشمة عن قيادة ترشدهم وتحسن توجيههم – خيل إليه أن إنقاذ إخوانه الذين سيموا العذاب في هذا التحقيق لا يكون إلا بنسف المحكمة التي أجري في حجراتها هذا التحقيق وحفظ في خزانتها أوراقه. وناهيك بعقلية شاب في العشرين ، فاقد الأعصاب لفظاعة ما تتبعه الحكومة من أساليب القهر والاستفزاز ، ويجد نفسه وحيدا ، حيث لا يبيح أمر الحل أن يجتمع مع أي آخر من إخوانه مطاردا .. فهل يتفتق ذهنه إلا علي أفكار خاطئة ؟! .
الحكومة تخادع المرشد العام :
4 – عقب اغتيال النقراشي باشا تم لرسل الحكومة الحصول من المرشد العام علي " بيان للناس " الذي طلبوا إليه أن يستنكر فيه اغتيال النقراشي باشا . ونشروا هذا البيان في الصحف . وتبين بعد ذلك أنهم إنما طلبوا هذا البيان ليزلزلوا به عقيدة قاتل النقراشي كما جاء في خطاب اللواء صالح حرب باشا الذي نشرناه آنفا – وكان في هذا من معاني النذالة ما فيه . وعقب محاولة نسف محكمة الاستئناف – وكان المرشد العام في حالة من التأثر الشديد كما وصف اللواء صالح حرب .. جاء رسول الحكومة واستطاع الحصول من المرشد العام في ظل هذه الحالة من التأثر علي بيان آخر عنوانه " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " وقد ألقي رسول الحكومة في روع المرشد العام أن الحكومة في أمس الحاجة إلي بيان بهذا المعني يهدد فيه المرشد العام الإخوان إذا تكرر منهم حادث آخر أن يقدم نفسه للقصاص .. وألح الرسول في طلب البيان في الحال لينشر في الصحف مباشرة قبل أن يقدم الإخوان علي حوادث أخري . تصرف مريب إزاء هذا البيان :
5 – أخذت الحكومة هذا البيان ، وبدلا من أن تنشره في الحال ، احتفظت به دون نشر نحو شهر .. ولم يكن مفهوما تعليل لهذه التصرفات المناقضة لنفسها .. حكومة تلح في الحصول علي البيان بحجة حاجتها إلي سرعة نشره ليكون وازعا للإخوان عن الإقدام علي أعمال أخري .. حتى إذا أخذت البيان حجبته عن النشر لا يوما ولا أسبوعا بل شهرا كاملا ... ولكن الأحداث تكفلت فيما بعد بالتفسير الواضح والتفسير الوحيد لهذه التصرفات العجيبة مما نفصله فيما بعد إن شاء الله .
رئيس الحكومة يستدرج المرشد إلي حيث يغتاله :
6 – كان المرشد العام دائم الإلحاح علي الحكومة في كل اجتماع يجتمع فيه يرسلها أن تتيح له فرصة الالتقاء بالمسئولين من الإخوان ، إما بالإفراج عنهم وإما بالسماح له بزيارتهم في المعتقل ليستعين بهم علي تهدئة الحال وتنقية الجو.. وكانت الحكومة دائمة الرفض لهذا الطلب ..كنها فجأة ودون مقدمات وافقت وحددت موعدا يقوم فيه المرشد العام بزيارة الإخوان المعتقلين ... وكان هذا التغير الفجائي في موقف الحكومة – دون مقدمات ودون أن يطرأ عنصر جديد يصلح أن يكون مبررا لهذا التغير – أمرا غير مفهوم ، يقف العقل أمامه مشدوها متحيرا ... ولكن الأحداث أيضا تكفلت فيما بعد بالتفسير الواضح والتفسير الوحيد لهذه المفاجأة المذهلة . ونورد في هذا الصدد ما جاء في شهادة زكي علي باشا الوزير بوزارة عبد الهادي أمام المحكمة مما يلقي ضوءا باهرا علي هذا التغير المفاجئ :
المحكمة – ما معلوماتك فيما يتعلق بحادث الشيخ البنا ؟
الشاهد – الشيخ البنا جاءني أثناء كنت وزيرا دولة ، وكان بيني وبينه علاقة قديمة بصفتي وكيل جمعية الشبان المسلمين ، وقال لي : أنا جيت لك أحب أن تكلم رئيس الوزراء فيما يتعلق بالإخوان . فقلت له : أنا مش مختص . وسألته عن طلباته فقال : أنا مضطهد ، وكل مجلس الإرشاد معتقل ، ومافيش داعي لهذا الاعتقال .. فاتصلت برئيس الوزراء فقال : إذا كان هو حقيقة حسن النية يذكر لنا أسماء الأشخاص اللي يشك فيهم أن عندهم أسلحة ، ومن جهة أخري يرشدنا عن محطة الإذاعة السرية التي كانت تذيع كل يوم الساعة السابعة صباحا ... فرجعت الشيخ البنا وقلت له عن المطلوب فقال : إن مسألة محطة الإذاعة لا أعرفها إطلاقا ، وأن الأشخاص اللي بتقول عندهم أسلحة ما أعرفهمش ، واللي يعرف عن هذا مجلس الإرشاد ، كما قال لي : إن أمكنني الاتصال بالمعتقلين يمكن أعرف حاجة .. فأنا قابلت إبراهيم عبد الهادي باشا وقلت له رغبة الشيخ البنا . فقال لي : المحطة تذيع أخبارا لا يعرفها إلا الشيخ البنا. وأما من جهة مسألة الإخوان ومجلس الإرشاد فإنه لا يمكن إجابته لطلبه .. فقلت هذا للشيخ البنا فقال لي : أنا مصر أن أقابل أعضاء مجلس الإرشاد بالمعتقل ويمكن أعرف حاجة فقلت له طيب .. وقابلت رئيس الوزراء وقلت له ، فكان متشددا في هذه المرة فخرجت .
وبعد بضعة أيام جه رئيس الوزراء وقال لي : تقدر تقول للشيخ البنا إنه يقابل جماعة الإرشاد يوم الاثنين التالي . وهذا الكلام كان يوم الأربع أو الخميس أي قبل الحادث فأنا قلت أنا أروح له يوم الجمعة وأبلغه ، وأنا كنت اعتقد أن هذا الكلام يسره . ويوم الجمعة لم يحضر الشيخ البنا ، فاتصلت بالأستاذ الناغي سكرتير الجمعية وقلت له : اعمل معروف اتصل بالشيخ البنا وقل له إنه يقدر يقابل الجماعة ، وأظن قلت له يوم الاثنين المقابلة – وبعد كده لم أعرف هل هو بلغ الشيخ البنا أم لا ، ولم أعرف الحادث إلا ثاني يوم الصبح لما قرأت الجرايد .
7 – كان التغير الفجائي في موقف الحكومة حيال السماح للمرشد العام بزيارة المعتقلين تطورا هاما جدا وملفتا للنظر ، ومثيرا للاهتمام ؛ لأنه ذو دلالات بعيدة المدى بالنسبة للجريمة حتى إن المحكمة والنيابة استفسرتا من الشاهد عن هذا التغير علي الوجه الآتي: المحكمة – ما قالش لك الأستاذ البنا أنه مراقب وأنه مهدد ؟ الشاهد – قال لي إنه مراقب وموش متمتع بحريته ، وإذا كانوا عايزينه يترك البلد فهو علي استعداد . المحكمة – ما عرفتش من الناغي الإجراءات التي حدثت قبل الجريمة ؟ الشاهد – الناغي قال لي أنه راح قابل رئيس الوزارة واتفق معه علي زيارة الشيخ البنا للمعتقل وأنه طلب الشيخ البنا في الجمعية الساعة الخامسة يوم الحادث ، وبعدين خرج من الجمعية وانصرف . المحكمة – هل كنت تعلم أن الأستاذ الناغي كان حلقة اتصال بين الشيخ البنا ورئيس الوزراء بصفته من أقربائه ؟ الشاهد – لا . النيابة – سيادتك بتقول إنك اتصلت بإبراهيم عبد الهادي وطرحت عليه إنه يسمع للشيخ البنا بمقابلة المعتقلين كان يرفض ، وإنه بعد كده سمح بذلك ، ما الذي جعله يغير رأيه ؟ الشاهد – اللي فهمته أنه اتخذ احتياطه عند تنفيذ الفكرة .
8 – ترتب علي هذا التغيير الفجائي في مواقف الحكومة إدخال عنصر جديد في الموقف بالنسبة للمرشد العام – عنصر فيه بالنسبة له رائحة الأمن ، فقد شعر بأنه ظفر بما كان يأمله ويلح عليه منذ صدور أمر الحل.. وما كان لمثل الأستاذ المرشد أن يحمل هذا التصريح إلا علي محمل الجد ، فإنه تصريح من رئيس الحكومة إلي وزير من وزرائها ثم أكده لأحد أقربائه الذي يشغل منصبا كبيرا في الحياة الاجتماعية للبلاد هو الأستاذ الناغي العضو المؤسس لجمعية الشبان المسلمين . مما جعل هذا الأخير يرسل أقرب شخصيات جمعية الشبان المسلمين إلي نفس المرشد العام وهو الأستاذ محمد يوسف الليثي رئيس قسم الشباب بالجمعية إلي بيت المرشد العام ليلقي إليه بالنبأ السار ، الذب يؤمل المرشد من وزرائها حل الأزمة كلها ، ويطلب إليه الحضور إلي دار الجمعية في الساعة الخامسة من مساء ذلك اليوم السبت الموافق 14 ربيع الثاني 1368 – 12 فبراير 1949 للتفاهم معه في هذا الموضوع .
9 – عنصر الأمن هذا الذي ولده التغير المفاجئ في موقف رئيس الحكومة هو الذي جعل المرشد العام يغير من خططه ، ويعدل عن عزمه الذي اتفق عليه مع اللواء صالح حرب من مغادرة القاهرة إلي مكان آخر من تلقاء نفسه – دون استئذان الحكومة – ثم يبلغها بمكانه الجديد. حتى أن سروره بتلقي هذا النبأ وما يؤمله من ورائه من خير قد طغي علي شعوره بعكس ذلك مما تؤيده الوقائع ، وما تبعثه في النفس الظروف الغامضة المسيطرة . فلقد كان شعور الريبة الذي أشرت إليه آنفا هو الشعور الذي تنطق به الظروف / لا في نفس المرشد العام وحده ، بل في نفس كل من كان يعايش هذه الظروف .. فقد جاءني في شهادة الأستاذ محمود محمد جبر شاعر الشبان المسلمين قوله :
"قبل الحادث بيوم ، رأيت رؤيا قصصتها علي الأستاذ البنا: شفته بيصلي أمام بيتنا ، وبعد الانتهاء من الصلاة رحت أسلم عليه. وأخذته وخرجنا من الجامع فقال: أنا عاوز أشرب فلقيت واحدة في الحارة طلبت منها شوية ميه . فأحضرت لي ميه في كوز . ولاحظت دماء علي ذراع المرشد فبعد أن شرب مسحت له الدم علي إيده بالميه ومشيت " . بل إن المرشد العام نفسه رأي في تلك الليلة فيما يري النائم أنه سيقتل في اليوم التالي . وأخبر أسرته وأولاده بما رأي ، فلما جاءه الأستاذ الليثي ونقل إليه ما أخبره به الأستاذ الناغي أخذ في التأهب للخروج للموعد ، فتوسل إليه أولاده وبكوا ألا يخرج في ذلك اليوم ، ولكنه أصر علي الخروج قائلا : كيف نهاب الموت والله تعالي يقول : ( ) .
طغي شعوره بالأمل في إصلاح الأمور عن طريق لقائه بالإخوان المعتقلين علي ذلك كله . حتى إنه حين جاءه الإخوان اللذان وكل إليهما موفاته بأنباء البوليس السياسي وأخبراه بأن الحكومة اعتقلت الشيخ النبراوي الذي كان سيأوي إليه في بنها لم يكترث بهذا معتقدا أن هذه المسألة الجديدة ستعالج ضمن معالجة الموضوع كله ، ورد عليهما الرد الذي أشرنا إليه في مستهل هذا الفصل .
10- كان الذي أوصل النبأ إلي الأستاذ المرشد هو الأستاذ محمد الليثي ، والذي كلفه بهذه المهمة هو الأستاذ الناغي ، ويبدو أن توصيل النبأ عن طريق الأستاذ الليثي شخصيا كان أمرا مقصودا ، لما يعلمون من ثقة الأستاذ المرشد فيه ، وكان اهتمام الأستاذ الناغي واضحا حتى إنه قال لليثي : إنني قابلت إبراهيم عبد الهادي باشا في الصباح وعندي أخبار سارة ، روح انده لي بالشيخ البنا وأنا لن أخلع ملابسي إلا بعد أن تخبرني بالنتيجة بعد الظهر . فقال له الليثي : تذهب أنت إليه في البيت . فرفض فذهب الليثي وألح علي الأستاذ بعد الظهر . فقال له الليثي : تذهب أنت إليه في البيت . فرفض فذهب الليثي وألح علي الأستاذ المرشد بناء علي إلحاح الأستاذ الناغي .. ولابد أن إلحاح الناغي كان بناء علي إلحاح قريبه إبراهيم عبد الهادي .
والله وحده يعلم هل كان الناغي في ذلك ساعيا في الخير أم كان متواطئا مع قريبه ، ولكننا نستبعد ذلك ونقدم حسن الظن ونقول إن إبراهيم عبد الهادي علي عادته في استمراء النذالة قد استغل قريبه الناغي أسوأ استغلال .. وإن كانت هناك أقوال في شهادة الأستاذ الليثي تلقي ظلالا من الشك علي حسن الظن فقد قال : أن الناغي نزل من الجمعية الساعة الثامنة إلا عشر دقائق ، وبعدها قعدت مع الشيخ وقال لي " أن الحديث مكرر وليس هناك جديد " . ولما سألته المحكمة : هل كان الناغي مستعجل عندما أرسلك في طلب الشيخ البنا ؟ أجاب : كان مهتم جدا ومتضايق لتأخير الشيخ . ولكن غياهب الشك هذه تنقشع حين نسمع إجابة الأستاذ عبد الكريم منصور – المحامي وزوج شقيقة الأستاذ المرشد العام وكان مرافقه في تلك الأيام – علي رئيس المحكمة حين سأله : وإيه معلوماتك عن الأستاذ الناغي ؟ فيقول : أنا اعتقد بما أحسه بقلبي أنه برئ ورجل طيب ، ولكن هو كتم بعض الأقوال اللي قالها إبراهيم عبد الهادي وكان عايز الإمام ييجي الجمعية . ولكن مظهره وتقواه وشكله باين إنه لا يرتكب جريمة .
مراقبة دائمة علي منزل المرشد العام :
11- كانت هناك مراقبة دائمة من البوليس السياسي علي منزل المرشد العام سأل المحقق عنها الأستاذ فؤاد شيرين محافظ القاهرة في تلك الوقت فقال إنه ليس لديه معلومات عن الرقابة علي الشيخ البنا ، إذ كان ذلك من اختصاص القسم السياسي بالاتفاق مع رئيس الحكومة ووزارة الداخلية.. فلما بدأ التحقيق في هذا الموضوع أنكر ضباط البوليس السياسي وجود هذه الرقابة . وقد سأل المحقق المخبر عبد المنعم إبراهيم الذي كان يراقب منزل الأستاذ البنا فأكد أنه ظل يراقبه حتى ليلة اغتياله – فسئل : س – هل تتبعت الشيخ البنا في اليوم الذي وقع فيه الحادث ؟ جـ - أيوه . س – من أصدر إليك أمر المراقبة ؟ جـ - البوليس السياسي ، وأنا كنت في مكتب الصاغ محمد كمال عبد المنعم ومحمد علي صالح ، والأخير هو الذي كلفني شخصيا بذلك . س – هل كنت ترفع التقارير ؟ جـ - نعم كنت أعمل تقارير تودع في ملف خاص بالمكتب . س – ألم يصدر لكم في ذلك اليوم بالكف عن المراقبة ؟ جـ - أبدا ... أبدا . س – هل قدمت تقريرا كالمتبع في ذلك اليوم ؟ جـ - لم يطلب مني أحد تقريرا ، وأنا ذهلت من حادث اغتياله .
وقام المستشار المحقق بالاطلاع علي تقارير مراقبة منزل الشيخ حسن البنا ، فتبين أنها كانت ترفع يوميا موقعة من المخبر السابق سؤاله وزميله ، وأنه مؤشر عليها تارة من الصاغ توفيق السعيد أو الجزار أو محمد علي صالح ، وأنه لا يوجد تقارير عن مراقبة يوم الحادث .
مواجهة :
واستدعي البكباشي محمد علي صالح فنفي أنه هو الذي كلف المخبر بمراقبة الشيخ حسن البنا ، وقال : إن مسائل الإخوان كانت من اختصاص الجزار وتوفيق السعيد . فلما ووجه بإمضائه علي أحد التقارير أصر علي كلامه ، كما أصر علي تكذيب المخبر . فووجه به وتمسك المخبر بن الضابط المذكور هو الذي كلفه بحراسة منزل الشيخ حسن البنا .
ارتكاب الجريمة :
12 – بعد مقابلة المرشد العام للأستاذ الناغي ، غادر الناغي الجمعية في الساعة الثامنة إلا عشر دقائق من مساء ذلك اليوم 12 فبراير 1949. وحوالي الساعة الثامنة والنصف خرج الأستاذ المرشد العام والأستاذ عبد الكريم منصور ومعهما الأستاذ الليثي الذي طلب من أحد سعاة الجمعية أن ينادي علي سيارة أجرة . فجاءت السيارة وركب فيها الأستاذ المرشد وعلي يساره الأستاذ عبد الكريم منصور – ولم تكد السيارة تبدأ السير حتى انقض عليها الجناة .. وخير وصف لما حدث ما جاء في شهادة الأستاذ عبد الكريم منصور شفت ثلاثة حيث طلبت منه المحكمة وصف ما حدث فقال :
"وإحنا خارجين من الجمعية شفت ثلاثة أشخاص علي ناصية الشارع الفاصل بين الجمعية ووابور المياه ، ولم أشك في الأمر. وركبنا السيارة ، وبعدين بدأ الضرب من الجانبيين . وحاول أحد الجناة أن يفتح الباب من ناحيتي فأنا قاومته فتغلب علي وفتح الباب وضربني بالمسدس ، والرصاص جه في الأول في الزجاج وتهشم ولم يصب . ولما فتح ضربني بالرصاص جت الرصاصة في ساعدي ... وفي هذه اللحظة لاحظت أن الجاني الثاني بيحاول فتح الباب وتمكن من فتح الباب اللي ناحية الإمام الشهيد وضرب الإمام بالرصاص فجري الإمام وراءه . وتبين أنه أصيب . ولما رجع سألته هل مسكت الجاني فقال : لا دول ركبوا عربية نمرة 9979 ، فسألته هو أنت أخذتها فقال أيوه وبعدين رحنا الإسعاف .
13- يقول الأستاذ الليثي في شهادته: لما دخلت الجمعية بعد وقوع الضرب لأطلب الإسعاف وجدت السماعة مرفوعة ، وتذكرت أن التليفون منتظرني للمكالمة. وما إن رفعت السماعة حتى عرفت أن المتكلم هو الصاغ محمد الجزار . فقلت له أن الشيخ البنا قتل الآن . فقال بصوت هادئ : لا يا شيخ مات ولا لأ ؟ - وهنا لاحظت أن التاكسي تحرك فجريت خلفه حتى وصلت الإسعاف . وهناك وجدت شابا أسمر يلبس جلبابا وطربوشا وقال لي : أنا شفت نمرة العربية التي ارتكبت الحادث وذكر لي رقم 9979 فكتبت النمرة علي ورقة – وأثناء ذلك أخرج الشيخ البنا علي نقالة إلي القصر العيني . وطلبت من هذا الشاب التوجه للجمعية لانتظاري هناك .عدت إلي الجمعية لمقابلة الشاب الذي صرح لي برقم السيارة ، ولإبلاغ النيابة بالأمر ، فمنعت من دخول الجمعية حيث كانت محاضرة بقوات كبيرة من البوليس ، وأخيرا استطعت الدخول .
بيان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " المدخر :
15 – يقول العلماء المتخصصون: إن أية جريمة ترتكب مهما اتخذ مرتكبوها من وسائل الاحتياط والحذر ، ومهما أوتوا من ذكاء وبراعة ، فإنهم لابد أن يتركوا أثر يستدل منه عليهم.. وهذه الجريمة قد توفر لمرتكبيها جميع أسباب الحذر والاحتياط ، فواضعو الخطة هم رئيس الحكومة ووزير الداخلية بتوجيه من الملك وحاشيته ووكيل الداخلية للأمن العام الذي كان من قبل مديرا (محافظا) لجرجا ، وكان خبيرا في معرفة من يكل إليه أمر تنفيذ مثل هذه الجريمة ، فاختار رجلا من كبار رجال الوزارة له تاريخ هو يعرفه . وهذا الرجل هو مدير المباحث الجنائية بالوزارة – وتداول الرجلان بما لهما من خبرة لاختيار مخبرين عريقين في الإجرام ممن عملوا تحت رياستها في جرجا ، وقد وقع اختيارهما علي ثلاثة مخبرين .
وقد استقدما هؤلاء الثلاثة إلي القاهرة منتدبين للعمل بالوزارة – دون إسناد أي عمل إليهم – وكان جور رئيس الحكومة ووكيل الداخلية في الجريمة هو ما أسلفنا في الفصل السابق من إخلاء جو البلاد من الإخوان يحلهم واعتقالهم وبتجريد المرشد العام من كل سلاح أو حراسة .. وتكفل رئيس الحكومة وحده بإحضار المرشد العام إلي دار جمعية الشبان المسلمين في يوم معين وفي ساعة معينة بحيث لا يغادرها إلا ليلا . وكانت مهمة مخطط التنفيذ مدير المباحث الجنائية أن يخصص سيارته الحكومية لتوصيل الجناة الحكوميين إلي مكان الجريمة ثم نقلهم – بعد ارتكابها بأسلحة وزارة الداخلية – بعيدا عن مسرح الحادث بآخر سرعة . وكل هذا يتم تحت رعاية السراي الملكية التي كان هؤلاء جميعا في ذلك الوقت يعتبرونها المعبود القادر علي كل شيء .. ويتم هذا في ظل الأحكام العرفية بعد تشييع الجو مدة شهرين – عن طريق الصحف ووسائل الإعلام – بروح القهر الحكومي والإرهاب الرسمي ، حتى أن أحدا مهما رأي أو سمع لا يجرؤ أن يخاطر بنفسه فيتقدم للشهادة .
ونورد هنا شهادة اليوزباشي عبد الباسط البنا شقيق الإمام الشهيد حيث يقول أمام المحقق : " كنت ملازما لشقيقي حتى اعتقلوني عندما وجدوني أنني أتبعه بمسدسي لحراسته . وقال : أنني اعتقد أن ما تم حتى الآن في القضية هو تحقيق مع فريق من ثلاث فرق أو عصابة من ثلاث عصابات تسمي عصابة التنفيذ . أما العصابتان الباقيتان فهما عصابة المؤامرة وعصابة التمويه . أما عصابة المؤامرة فتتكون من الملك السابق وإبراهيم عبد الهادي الذي اعتقل جميع الإخوان ولم يعتقل حسن البنا الذي كان يقول " أنتم تقتلوني بعدم اعتقالي " . واتخذ عبد الهادي مع الشهيد سياسة تنبئ بخبيث النوايا ، فكان يتظاهر بأنه يريد أن يصل معه إلي اتفاق لإنهاء التوتر بين الحكومة والإخوان ، وكلف اثنين من الوزراء للمفاوضة معه ، بينما كان يمهد لتنفيذ ما بيت عليه العزم مع بقية العصابة ، ثم استدعاه بواسطة قريبه الأستاذ الناغي إلي جمعية الشبان المسلمين حيث تم تنفيذ الخطة .
وقال : وكذلك اشترك في الجريمة الأستاذ حامد جوده ، فعندما كان رئيسا لبعثة الحج سنة 1948 كان الشهيد يؤدي فريضة الحج ، دبرت مؤامرة لاغتياله ، فظن إليها جلالة الملك عبد العزيز آل سعود فعين له حراسة قوية ، وأعطاه سيارة مسلحة لحراسته مما أنهي هذه المؤامرة بالفشل – وقد علمت من تحرياتي الخاصة أن حامد جوده استصحب معه أفرادا من عصابة له من بلده " درنكة " ليقوموا بهذا العمل ، وأنه كان ينوي أن يموه بأن جناة من أقطار أخري ارتكبوا الحادث ولعل مما يؤيد ذلك ما جاء بأقوال عبد الرحمن عمار من أن القتلة من قبل إمام اليمن .
وعبد الرحمن عمار هو الذي أعد للجريمة عدتها ، واستخدم سلطته لتنفيذها ، فقد أجري نقل الجناة جميعا كما هو واضح ، وجمعهم حول رئيسهم محمود عبد المجيد . وقد اتضح من غير هذه القضية أن مهمة هؤلاء إنما هي القتل . وأخر أفراد عصابة المؤامرة هو مندوب السراي وصفي الذي فضل أن ينتحر . أما عصابة التمويه لإبعاد التهمة عن الجناة فيشترك فيها عبد الرحمن عمار واللواء عبد الهادي الحكمدار وقتئذ واللواء أحمد طلعت " أهـ . ويتضح من ذلك أن الظروف المواتية ، والوسائل المتاحة التي توفرت لمخططي هذه الجريمة ولمرتكبيها لم يتوفر مثلها لمرتكبي الجرائم من قبل ... ولكنهم مع كل هذه الاحتياطات وكل هذا الحذر قد أغفلوا طرفا واحدا لخيط رفيع لم يخفوه حين أخفوا بإتقان جميع أطراف الخيوط – وكان هذا الطرف هو رقم السيارة .
محنة الأستاذ الليثي برقم السيارة :
16 – لقد لقي هذا الشاب محمد يوسف الليثي من العنت والإرهاق ، وعاني من فتنة الإغراء ورعب التهديد ، ما لا يصير عليه إلا من تولاه الله وربط علي قلبه من أهل الإيمان واليقين.. وكان هذا كله من أجل غرمه علي أداء الشهادة ، وإبلاغ المحقق برقم السيارة الذي أخذه من الشاب الأسمر الذي قابله في دار الإسعاف .
جبهات البوليس الضالعة في الجريمة :
كان هناك من جبهات البوليس – غير الجبهة التي أسند إليها دور ارتكاب الجريمة – جبهتان أخريان دورهما حراسة هذه الجبهة ، وإتمام إسدال الستار عليها ، وهاتان الجبهتان هما : 1 – البوليس السياسي. 2 - الحرس الحديدي.
أما البوليس السياسي فمعروف وتحدثنا عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب حديثا موجزا وحديثه موصول بإسهاب في هذا الجزء إن شاء الله .
وأما الحرس الحديدي فقد تبين أن الملك فاروقا كان قد ألف عصابة من رجال البوليس ورجال الجيش مهمتها حراسته واغتيال من يعتقد أنه يقف في طريق عبثه ومجونه ، وكان علي رأس هذه العصابة الضابط الأميرالاي محمد وصفي الذي كانت وظيفته الرسمية قائد حرس الوزارات .
وهاتان الجبهتان تصدتا للشاب محمد الليثي حين علمنا أنه عرف رقم السيارة ، وإليك بعض الأساليب التي لجئت إليها العصابتان في التصدي له .. وهو بعض ما قصه هذا الشاب علي المحكمة فيما بعد :
الضابط محمد الجزار : أ – محاولاته في التأثير بالإغراء :
يقول الأستاذ الليثي للمحكمة :وحوالي الساعة العاشرة والنصف من ليلة الحادث ، حضر القائمقام مصطفي حلمي إلي الجمعية وسأل عني وأخذني إلي حجرة السكرتارية فوجدت السماعة مرفوعة ، وطلب مني أن أتكلم في التليفون ، وعرفت أن المتكلم هو الصاغ محمد الجزار ، الذي طلب مني أن أكلمه من تليفون آخر بعيد عن الناس ، وسألني عن معلوماتي ، وطلب مني عدم الإدلاء بمعلومات أمام النيابة ، ونصحني بعدم الشهادة خالص . وقال لي : سأرسل لك عربة لتوصيلك إلي منزلك حتى تكون مطمئنا وإن شهادتك سوف تسبب لك متاعب كثيرة . وحوالي الساعة 12 مساء حضر مصطفي حلمي أخري وقال : شوف مين عاوزك علي الباب . فوجدت الجزار نفسه . قال لي: ألف مبروك لنجاتك .. أنت مجنون تعرض نفسك لضرب الرصاص ؟ وأنا جاي مخصوص علشان أنصحك بعدم الشهادة . فقلت لا يمكن ؛ لأن النيابة تعلم أني شاهد – فقال : لا دي مسألة في إيدينا ، والإخوان المسلمين مش حينفعوك ، وإحنا قطعنا رأس التعبان والسم انتهي . فقلت له : أنا قلت للصحفيين علي نمرة العربية ، وأنا اللي أحضرت الشيخ البنا من بيته والناس تقول علي لابد شريك في الجريمة . فقال : سأعين لك حراسة تمشي وراك ولا تخاف . والصحافة في إيدينا ... فشككت في الأمر فقلت له : أنا يمكن أختلف في رقم واحد فأقول النمرة 9997 أو 9997 – فقال لي : لازم تغير الرقم كله . فرفضت وأخرجت الورقة التي بها رقم السيارة من جيبي فخطفها من يدي ومزقها وقال : هات إيدك واقرأ الفاتحة وأنا سأفرج لك عن توفيق بلال ومحمود شكري اللي كلمتني عنهم .
وبعد ذلك حضرت مجموعة من الضباط من بينهم محمد وصفي ، وحضر المحقق . وكنت كلما استرسلت في الحديث عن نمرة العربية واحد يضربني بالكرسي من الخلف ، فقلت النمرة 9979 أو 9997 والسيارة سوداء علي العموم ، فلقيت وصفي قال : لا النمرة ماهش كده . ولما نزلت حضر لي الضابط ماهر رشدي وهددني وقال لي : أنت إرهابي كبير من الإخوان . والحق أني كنت في أشد ضيق بعد أن غيرت رقم العربة ، حتى أني كنت أشاهد صورة الشيخ البنا أمامي أينما ذهبت . كأنما يعتب علي لتغيير شهادتي . وبعد ذلك انتظرنا حتى حضر النائب العمومي محمود منصور (أشرنا إليه من قبل) وقال لي : شرفت يا حضرة شاهد الإثبات. وبعد ذلك حضر عبد العزيز حلمي المحقق فقلت له : أني غيرت النمرة تحت ضغط الجزار والنمرة الحقيقية هي 9979 فأثبت ذلك . وبعد نصف ساعة اتصل بي الجزار وقال : مبروك أفرجنا عن أصحابك وطلب مني أن أقابله في محل نيوزبار خلف الجمعية . ولما تقابلنا هناك قال لي : أنت أعصابك تعبانة وهيا نشرب كاسين وسكي ونفرفش .. وطلب من الجرسون إحضار العشاء وكاسين ويسكي فأكلت ورفضت الشرب .. وأخذ يسب في الشيخ البنا ويقول إنه راجل ساحر ، وهو الذي قتل الخازندار والنقراشي وسليم زكي ، وسيبك من الجماعة دول ، ومحدش حينفعك ، وخليك تعيش لأولادك ، ويلا نقضي ليلة كويسة ... ولازم تروح قسم عابدين وتغير أقوالك ، وتطلع جيبك ورقة مكتوب فيها النمرة غلط وتصر عليها .. فرفضت .
وأثناء الحديث التفت الجزار إلي فتاة تجلس بجوارنا وابتسم لها وبادلته الابتسام وقال لي : اضحك لها فرفضت وقلت أنا متزوج فقال لي ولا يهمك أنا متجوز كمان .. وأخرج من جيبه رزمة فلوس وقال لي دي هدية لك من الحكومة مبلغ 500 جنيه (خمسمائة جنيه) علشان تروح القسم ، ولو أردت أي مبلغ آخر لما تروح النيابة أنا مستعد .. فاعتبرت ذلك جرحًا لشعوري ورفضت ، وبعدين عرض علي الفلوس تاني للذهاب للقسم ساعتها فرفضت . وقبل ما أقوم أخرج ورقة وقال لي: اكتب رقم العربية7999 أحسن تنساها ، فأنا قلت له : لا أنا فاكرها وإحنا علي العموم حنتقابل بكره وروحت .وفي هذا اليوم نمت خارج البيت . وخفت منه ؛ لأنه ضابط بوليس ، وتذكرت حديثه معي وتهديده لي – ونزلت الصبح بدري ، وقعدت علي القهوة ، و طلبت حرم اللواء صالح حرب في التليفون ، وقلت لها : أنا عاوز أقابلك في أمر هام نظرا لسفر اللواء صالح في أسوان . ورحت لها البيت وسألتني عن الحادث فذكرت لها ما حدث بيني وبين الجزار. فقالت لي : اتصل بالأستاذ مصطفي الشربجي فاتصلت به فقال : أنت تروح للأستاذ فتحي رضوان وتفهمه الموضوع ؛ لأنه هو اللي قال لي أروح لك ويروح معك النيابة .
وبعد كده رحت الجمعية وقابلت السكرتير والمراقب بها ، وقلت لهما القصة . فاتصلوا بزكي علي وكيل الجمعية فرحت له الوزارة ؛ لأنه كان وزير في وزارة عبد الهادي وقصيت له القصة فقال لي . مافيش مانع تقول الحقيقة . واتصلت بالأستاذ فتحي رضوان فقال لي : تعالي عندي المنزل بمصر الجديدة .. لما ذهبت إليه اعتذر عن الذهاب معي للنيابة لعدم جواز حضور المحامي مع الشاهد . فاتصلت بعد ذلك بالأستاذ أو الخير نجيب وكان محررًا بجريدة الأهرام ، فاقترح علي الاتصال بعمر عمر نقيب المحامين لأخذ رأيه في الموضوع فاتصلت به فلم أجده . فذهبت إلي النيابة وأدليت بها بأقوالي ، وذكرت لهم كل التفاصيل التي دارت بيني وبين الجزار سواء بالتليفون أو أثناء مقابلاتي له .. ولقد دهشت يا حضرات المستشارين عندما علمت علي لسان الجزار أن شاهدًا هو الأستاذ حسني عباس المدرس بكلية التجارة قد ذكر رقما للسيارة التي ارتكبت الحادث يخالف الرقم الحقيقي الذي تأكدت منه ، وطلب مني الجزار أن أتوجه لقسم عابدين لأؤيد رواية هذا الشاهد فاعتقدت أن هذا الكلام غير صحيح والمقصود هو تغيير رأيي بأي وجه من الوجوه ولقد أرسلت تلغرافاً إلي النيابة أطلب منها حمايتي نظرا لما أدليت به في حق البوليس السياسي.
ب – أسلوب فاجر لوصم الشرفاء : كان ضباط البوليس السياسي يختارون من بين ضباط البوليس الذين لا ضمير لهم ولا حياء عندهم ولا خلق ولا دين . ولذا فإنهم كانوا يستبيحون كل منكر ، ويرون اللجوء إلي الكذب والافتراء وإلصاق التهم بالبرءاء وسائل مشروعة لا يؤنبهم عليها الضمير ؛ لأنهم خلو من الضمير . ومن هذه الوسائل أنهم إذا حاولوا تجنيد إنسان لخدمة أهدافهم الدنيئة ففشلوا في تجنيده .. يرمونه بأنه كان عميلا لهم ، وأنه كان يأخذ من الأموال السرية .. وهذه التهمة من السهل عليهم رمي أي إنسان بها ؛ لأنه كان من حق أي ضابط في البوليس السياسي أن يطلب من الأموال السرية ما يشاء وينفقها كما يشاء ، دون أن يطالب بتسجيل طريقة إنفاقها في سجل معين .. فإذا رمي ضابط منهم إنسانا بأنه كان عميلا له ، لم يجد هذا المتهم وثيقة يرجع إليها في دفع هذا الاتهام .
وقد حاول الضابط الجزار – من قبل حل الإخوان زمن طويل – تجنيد الليثي لينقل إليه أخبار جمعية الشبان المسلمين وأسرارها فلم يفلح . وكان الليثي يخبر اللواء صالح حرب أولاً بأول بمحاولات الجزار معه .. فلما لم يفلح وجاء حل الإخوان ، وفتحت جمعية الشبان المسلمين دارها للمرشد العام ، ووضعت الحكومة خطة لاغتياله ، وارتكبت الجريمة ، وحصل الليثي علي رقم السيارة .. أعاد الجزار محاولاته مع الليثي الأسلوب الذي أشرنا إليه ، وهو الأسلوب الوضيع من رمي الليثي العمالة للبوليس السياسي .. ولكن الليثي استطاع أن يثبت زيفه ، ويبين كذب أدعائه وتناقضه مع نفسه إذ قال في شهادته :
"وفي النيابة فوجئت بأنهم يعتبرونني من رجال البوليس السياسي ، وكان المحقق ليس من رجال النيابة بل هو توفيق السعيد زميل الجزار. ودهشت حين قال لي السعيد :إن الجزار استغني عن خدماتك ؛ لأنك لا تقدم تقارير عن الجمعية فأنا استغربت ؛ لأنه لو كنت من البوليس السياسي حقيقة لما أمكن للجزار الاستغناء عني وخصوصا في هذه الفترة التي كان يتردد فيها الشيخ البنا علي الجمعية وكان في حاجة إلي من يمده بالمعلومات . الأميرلاى محمد وصفي ممثل الملك في الجريمة :
حتى بعد أن تم ارتكاب الجريمة ، أرادت الجبهتان الاطمئنان إلي ما تحقق مما هدفوا إليه من خطتهم وهو إرهاق روح حسن البنا لا مجرد الاعتداء عليه . يقول الأستاذ الليثي في شهادته : " ذهبت إلي القصر العيني ورأيت الأستاذ الإمام حين أدخل حجرة العمليات ، وكانت حالته في نظري غير خطيرة ، بدليل أنه حينما طلب الدكتور من التومرجي خلع ملابس الشيخ البنا هب الشيخ وجلس وخلع ملابسه بنفسه ، كما أنهم لما طلبوا أخذ عنوان الأستاذ عبد الكريم منصور رد الشيخ البنا وقال : اتركوا عبد الكريم ؛ لأنه حالته خطيرة وأعطاهم هو العنوان . وبعد ذلك وجدت شخصا يقول للدكتور : أنا جاي من قبل الحكمدار لأعرف حالة الشيخ البنا . فرد الدكتور بأن حالته ليست خطيرة .. فانتهزت الفرصة وقلت لذلك الشخص إني أعرف نمرة السيارة ، فنظر إلي بسخرية دون أن يتكلم . وعرفت بعد ذلك أنه الأميرلاى محمد وصفي " . هذه الجبهات كانت تعد للجريمة منذ زمن طويل :
ويجدر بنا هنا أن نلفت النظر إلي أمرين من الأهمية بمكان : أولهما : أن هذه الجبهات كانت تمهد للجريمة من قبل وقوعها بزمن طويل ، فبعد صدور أمر الحل وما تبعه من اعتقال ومن عزل الأستاذ المرشد العام عن الإخوان وتجريده من كل سلاح يدافع به عن نفسه ، صور لهم الوهم أنه قد يكون مرتديا تحت ملابسه درعا يحميه من وصول الرصاص إلي جسمه إذا ما هو ضرب بالرصاص . يقول الأستاذ عبد الكريم منصور في شهادته :
"بعد صدور قرار الحل ، قرر الأستاذ الإمام رفع دعوي أمام مجلس الدولة يطالب فيها بإلغاء أمر الحل. وعند دخولي أنا والأستاذ مجلس الدولة فتشنا ، وجاء شخص فتش الأستاذ الإمام تفتيشًا عجيبا كأنه يبحث هل هو يلبس درعا . ولما سألت عن هذا الشخص قيل لي : إنه شخص غريب وإنه مرسل من قبل الأستاذ الدماطي مدير مكتب رئيس الوزراء .
وثانيهما : تبين من وصف الأستاذ الليثي لحالة الأستاذ الإمام وهو في حجرة العمليات بالقصر العيني ومن رد الدكتور الذي كشف علي جسم الأستاذ الإمام – علي استفسار محمد وصفي عن حالته " أن حالته ليست خطيرة " ... ومعني ذلك أن علاجه ممكن وميسور .. في حين أن حالة الأستاذ عبد الكريم منصور هي التي كانت خطيرة بدليل أنه لم يستطع الإجابة عن عنوانه حين سأله الطبيب عنه وتولي الإمام الإجابة عنه ... فكيف يستقيم هذا مع النتيجة التي انتهت إليها حالة هذين المصابين ... ؟ .
بعد ساعات تعلن وفاة الأستاذ الإمام وشفاء الأستاذ عبد الكريم منصور .. ما هذه المفارقات المذهلة ؟ ... إن التعليل الذي يصبغه العقل ، والذي تناقله الناس في ذلك الوقت عن شهود عيان تبليغ تلك الجهة العالية بحالة الأستاذ الإمام عن طريق محمد وصفي – بأن يترك الأستاذ البنا بالقصر العيني تنزف جراحة حتى يموت .
17 – الدرك الأسفل من النذالة والخسة:
بلغ من خسة هذه الحكومة بعد أن ارتكبت الجريمة النكراء أن أدخلت جثمان الإمام الشهيد إلي منزله وسط مظاهرة من رجال البوليس شاهرة المسدسات والبنادق في وجه سيدات أسرته العزل من كل سلاح ، وأرغمت السيدات علي حمل الجثمان إلي النعش . ولم يسمح لواحد من رجال هذه الأسرة بالاقتراب من الجثة ... حتى القرآن حرم عليهم تلاوته . ثم نقل النعش وسط هذه المظاهرة المسلحة إلي مسجد قيسون القريب من المنزل ، ولم يسمح لأحد بالصلاة عليه ، ولا بالدخول إلي المسجد إلا لوالده ، ثم نقل الجثمان إلي المقابر ، ولم يسمح لأحد بتشييعه ، حتى إن البوليس كان إذا رأي أحد المارة يقرأ الفاتحة باعتباره يري ميتا أي ميت ، كانوا يلقون القبض عليه .. وقد خاطر بعض الناس بزيارة قبره فاعتقلوه ... ولم يستطع أحد من تقديم العزاء فيه إلا مكرم عبيد باشا ... وظلت الحراسة المسلحة قائمة علي القبر حتى تغير العهد . عنصر الزمن : 18 – قلنا في البند الخامس عشر أن مخططي الجريمة – بالرغم من توفر جميع وسائل الحذر والحيطة والذكاء لهم قد أغفلوا شيئًا واحدًا هو طرف خيط رفيع تمثل في رقم السيارة التي ارتكب بها الحادث ... ونقول الآن إن إغفالهم هذا الطرف لم يكن وحده كافيا لكشف جريمتهم ولا لفضح مؤامراتهم.. ولكن العنصر الذي أغفلوه حقا وكان كافيا لكشف جريمتهم وتعرية سوءاتهم هو عنصر الزمن . وهذا العنصر مع بالغ أهميته ، وخطير أثره يغفله أكثر مخططي الجرائم ويتعامون عنه مع أنه ظاهر ملموس . وكما كانت إمكانات المخططين أعظم كان لهذا العنصر أكثر .. فإذا كان المخططون أصحاب السلطة كان إغفالهم له إغفالاً تامًا ؛ لأنهم في هذه الحالة يكون قد سيطر عليهم الشعور الذي صورته الآية الكريمة (• • • ) .
فالسلطة التي كانت تتمتع بها حكومة السعديين في ذلك الوقت كانت سلطة مطلقة ، فهي تباشر الحكم وهي تحس أنها ربيبة واهبي السلطات جميعا ابتداء من الملك وانتهاء بالدول العظمي في العالم ، ويتخلل ذلك برلمان مصنوع يدين لها بالولاء .. ذلك أنها تنفذ الخطة التي أجمعت عليها كل هذه السلطات .. ولقد كانت هذه السلطات دائبة البحث عن منفذ مصري فاجر لخطتها .. فإذا وجدوه في هذه الوزارة ، فلم لا يمنحونها السلطة المطلقة والتأييد الأبدي ؟! .
ولو أطلع مطلع علي مخيلة إبراهيم عبد الهادي في ذلك الوقت ، لما وجد فيها أثارة باحتمال فقده للسلطة المطلقة التي كان يتمتع بها أو حتى الانتقاص منها ، لما وجد تفقد أو تنتقص وهو علي الولاء التام الكامل لواهبي السلطات وتحت يده برلمان لا يعصي له أمرًا ؟! ولهذا ، فحين أوشكت فترة الأحكام العرفية علي الانتهاء ، طلب من هذا البرلمان مدها لمدة سنة أخري ، فاستجاب له مجلس النواب بما يشبه الإجماع ، كما استجاب له مجلس الشيوخ ولم يعارض فيه إلا ثلاثة عشر عضوا . ومن العجيب أن هؤلاء الذين لا يعترفون بعنصر الزمن هم أولي الناس بالاعتراف به .. فحسبهم أن ينظروا إلي أنفسهم ويسائلوها : كيف أل إلينا الحكم ؟ ألم يؤل إلينا علي أنقاض آخرين سبقونا ؟ وإذن فلابد أننا تاركو هذا الحكم لغيرنا أو كارهين .. وهذا هو الذي قرعت به الآيات المحكمات آذان هؤلاء الغافلين في قول الله تبارك وتعالي :( •• • • • ) .
وهكذا شهد الأستاذ محمد الليثي أمام المحقق برقم السيارة ، وأبلغ جريدة " المصري " بالرقم فنشرته .. وكان هذا هو كل ما فعله طرف الخيط الرفيع الذي أغفلوه ... فهل أجدي وحده ؟ لم يستطع وحده أن يغني فنيلا .. فقد صودرت جريدة " المصري " . وقد سأل المحقق الأستاذ محمود يوسف الموظف بدار الكتب والذي كان رقيباً للنشر بجريدة " المصري " في ذلك الوقت فقال أنه حذف ما حذف عن مقتل الأستاذ أنور حبيب في ذلك فأحضر الملف الخاص بالرقابة علي " المصري " يوم الحادث – وقد قام المستشار المحقق بالاطلاع علي مجلد الرقابة المذكور فتبين فيما يختص بيوم الحادث إنه يحوي البيانات الآتية :
"تعليمات لحضرات الرقباء الساعة الحادية عشرة والنصف مساء 12 فبراير 1949. حادث إطلاق الرصاص أمام جمعية الشبان المسلمين ، ينشر الحادث كما وقع أي مجرد وقائع مجردة عن المقدمات والتعليقات والعنوانات الكثيرة ولا تنشر صور فوتوغرافية بتاتا ، ولا شيء عن جماعة الإخوان المسلمين المنحلة . وكل ما يراد نشره تنفيذ هذه التعليمات يعرض قبل التوقيع بإجازة النشر . ، وكل ما هو معروف إلي الآن " أن الشيخ حسن البنا كان خارجا من جمعية الشبان المسلمين ومعه آخر فأطلق مجهول الرصاص عليهما ونقلا إلي القصر العيني " . وقد أرفق بها بروفات " المصري " التي أشر عليها الرقيب بالحذف .
هذا هو ما كان من أمر رقم السيارة ونشره بجريدة " المصري " – كما أن النائب العام في ذلك الوقت كان صنيعة العهد محمود منصور وقد أمر بحفظ التحقيق وتقييد الجناية ضد مجهول . ولم يستطع أحد – تحت سيف الإرهاب الحكومي الفاجر – أن يدلي بشهادة أو أن ينبس ببنت شفة ... وقتل حسن البنا ووري التراب ووري معه قضيته ، واعتقد الجناة إنهم قد دفنوا هذه القضية في أعماق الأعماق وتحت أطباق الثرى يوم دفنوا جثة فريستهم دون أن يراها أحد أو يشيعها أحد . وهنا صفا لهم الجو " وظنوا أنهم قادرون عليها " وأخذوا في مكافأة كبير المنفذين للجريمة صاحب السيارة التي نشر رقمها في جريدة " المصري " وشهد به الشاب المخاطر الأستاذ الليثي .. فقد ظهر في الصف علنا في يوم 4/7/1949 ما يأتي :
"تفضل جلالة الملك فأنعم برتبة البكوية من الدرجة الثانية علي حضرة الأميرلاى محمود بك عبد المجيد مدير المباحث الجنائية بوزارة الداخلية – وقد قوبل الإنعام السامي بالاغتباط لما بيديه حضرته من جهود في خدمة الأمن. طغيان مسعور : 19 – هذا الشعور الذي استولي علي تفكير هذه الحكومة ، والذي أشرنا إليه بقوله تعالي: ( • ).دفع بهم إلي طغيان مسعور ، فملئوا السجون والمعتقلات.. وقد فتح إبراهيم عبد الهادي خزانة الدولة علي مصراعيها لرجال البوليس ، يكافأ الواحد منهم بقدر ما يورد للمعتقلات من أفراد الشعب . حتى أن الصحف نشرت في 4/5/1949أن شابا كان ماشيا في حي السيدة زينب بالقاهرة فاعترضه رجال البوليس وسألوه عن اسمه فارتبك – كشأن أي شاب صغير يفاجأ بمثل ذلك – وبتفتيشه وجدوا في جيبه ورقة بها أبيات من الشعر تذم رئيس الوزراء ، فاعتقلوه واعتقلوا الطالب الذي قال الشعر . والطالبان هما عبد الله المنياوي وزميله الشاعر مهدي محمد يوسف الطالبان بمدرسة المنيرة الثانوية. ومع دلالة هذه الحادثة الصغيرة علي مدى تشوف رجال البوليس في تلك الحقبة من الزمن إلي الاغتراف من خزينة الدولة المفتوحة لهم ، والمشروط الاغتراف منها بمدى التهجم علي الشعب ، فإنها تدل أيضًا علي مقدار ما يكنه الشعب لهذه الحكومة من كراهية ومقت وما تحسه هي نحوه من شكوك وفزع .
وبدافع من هذا التشوف ، قام البوليس –تحت قيادة البوليس السياسي– بحملات مكثفة علي بيوت الإخوان لاعتقالهم بغير مبرر . وقد أدي هذا الاعتداء وهذا التحدي إلي ترك كثير من الإخوان لاعتقالهم بغير مبرر. وقد أدي هذا الاعتداء وهذا التحدي إلي ترك كثير من الإخوان بيوت البوليس – ولكن البوليس مع ذلك تتبعهم وطاردهم فقتل بعضهم وقبض علي بعض آخر ، ناسبا إليهم تدبير مؤامرات لقلب نظام الحكم ، مدعيا عليهم حيازتهم لأسلحة ومتفجرات ، وسمي المنازل التي اختفوا فيها هربا من الاعتقال سماها أوكارا . ولما رأي شباب الإخوان المطارد أن الحكومة قد فعلت بالأستاذ المرشد ما فعلت ، وأنها تواطأت ودبرت مؤامرة اغتياله ، ثم إنها بعد ذلك حفظت التحقيق وقيدت القضية جناية ضد مجهول – أثار ذلك بعض الشباب فأرادوا أن يقتصوا بأنفسهم من القاتل الحقيقي إبراهيم عبد الهادي . فتربص عدد منهم له في طريق عودته إلي منزله – مع علمهم بأنه لا يتحرك إلا وسط جيش لجب من الحراس .. ولكن تبين أن الذي مر في ذلك الوقت كان حامد جود رئيس مجلس النواب وقبض علي هؤلاء الشباب .
وسنفرد إن شاء الله لهذه القضايا وما تم فيها من محاكمات وتحقيقات وتلفيقات وأساليب وحشية تكشف عن حقيقة هذا العهد ومخازيه فصلا خاصا . وقد جاء وصف لهذا الطغيان المسعور في الكلمة التي أوردناها في الفصل السابق للواء صالح حرب ، ونورد وصفا آخر لهذا الطغيان جاء في بيان نشره في 5/7/1949 بجريدة " المصري " الأستاذ أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة بعد رجوعه من لندن قال فيه :
"وفي وسط هذا الجو الذي عشته في انجلترا ، تلقيت من الوطن أنباء تجديد الأحكام العرفية التي يعتبر العالم مجرد اسمها يرمز إلي طراز من الحكم قد انقضت أيامه إلي غير رجعة ... فوقع علي هذا النبأ موقع الصاعقة ، ولم يزدني السبب الذي أعلن تبريرًا لهذا الإجراء الشاذ إلا فزعاً واستنكارا ، فقد قيل أن الأحكام العرفية جددت بسبب حوادث الإرهاب. إن الجميع يعلمون أن هذه الحوادث الإرهابية لم تنشأ إلا في ظل الأحكام العرفية وما تخوله للحكام العسكريين من سلطة مطلقة من شأن مزاولتها إيغار الصدور فهل سنظل ندور في دائرة مفرغة ، بمعني أن يشتد القمع فيولد الإرهاب ، فنبقي محكومين بالأحكام العرفية إلي ما شاء الله دون عباد الله أجمعين ؟! .
وعدت إلي مصر فوجدت آلافا من الشباب لا تزال المعتقلات تغص بهم . ولا يكاد الإنسان يفتح اليوم صحيفة من الصحف إلا ويطالع فيها نبأ الهجوم علي أوكار إرهابية جديدة أو خلايا شيوعية ، والقبض علي الناس بالجملة ، وتفتيش البيوت بالعشرات والمئات .. وليست هذه البيوت التي تفتش في نهاية الأمر إلا بيوتا مصرية ، وليس هؤلاء الذين يقبض عليهم سوي نفر من أبناء الأمة المتعلمين .. والتسليم بأن هؤلاء جميعا إرهابيون أو شيوعيون معناه أن شباب مصر كله ، قد تحول إلي شيوعي أو إرهابي ، ويكون هذا الحد ذاته قضاء علي الحكم الحاضر بالإفلاس . وتوضع الآن قوانين تجعل مجرد حيازة كتاب من الكتب جريمة ، وتفرض عشر سنوات من الأشغال الشاقة لا علي المشتغلين بالشيوعية والتي حددها القضاء المصري تحديدا فنيا ممتازًا فإنها صورة من العمل علي قلب نظام الحكم بالقوة ، ولكن هذه العقوبة تشمل عبارات وأقوالاً ما فتتنا ننادي بها جميعا منذ سنوات لا فرق فينا بين حزب أو بين جماعة وجماعة ، دون أن يعتبر هذا إثما أو أمرا غير مشروع . أي أن الأمر قد تحول كله إلي سد الثغرات والمنافذ التي يمكن للناس أن يتكلموا من خلالها أو أن يعبروا عن أفكارهم في حرية واطمئنان . والأمر كله هو قمع وبطش علي كافة الصورة والأشكال في سائر الاتجاهات يمينا وشمالا .
وإنني أري أن ذلك كله دليل علي أننا نعيش في أوضاع خاطئة ، وأن الاستمرار في هذه الأوضاع لا يعود علي أحد بالخير أو الفائدة ، بما في ذلك الذين يظنون اليوم أنهم يستفيدون بهذه الأوضاع . وحسبي إلي أن أشير إلي ما قاله ممثل إسرائيل في هيئة الأمم المتحدة ، وسط تصفيق دول العالم عندما قبلت دولة إسرائيل عضوا بالهيئة حيث قال : إننا لم نذهب فلسطين لتأليف دولة يهودية فحسب ، ولكننا ذهبنا لنحمل إلي الشرق الأوسط الحرية والديمقراطية التي لم يستمتع بها أهله منذ أجيال وقرون ، ونرفع مستوي حياتهم إلي مصاف الأمم الراقية . ثم قال الأستاذ أحمد حسين : ولما كنت لا أملك من الأمر شيئا إلا إيماني وإخلاصي لبلادي ، فلم يبق أمامي إلا الاعتكاف في الريف ، والابتعاد عن الحياة السياسية في الوقت الحاضر ، حتى يقتنع الجميع بأن استمرار هذه الحالة الحاضرة وتجاهل إرادة الشعب ، بل ومناوأته بهذه الأساليب من شأنه أن يمعن في العودة في العودة بمصر القهقري " .
ولعل قد استبان للقارئ من الإشارات التي وردت في هذه الكلمة صورة الحالة التي آلت إليها البلاد في تلك الأيام السوداء .. حتى قد بلغ الهلع بهذه الحكومة إزاء ما تشعر به من معاداتها للشعب ومقت الشعب لها أن صارت تشتبه في كل مصري وفي كل مواطن حتى أن رئيس الوزارة أصدر أمرا في 6/7/1949 بتفتيش السفن في ميناء الإسكندرية للقبض علي المشتبه فيهم ... ويجدر بنا هنا أن نشير إلي أن الأستاذ أحمد حسين قد تمكن من إصدار هذا البيان وأن جريدة " المصري " قد تمكنت من نشره ؛ لأن الأحكام العرفية كان ينتهي العمل بها في منتصف شهر مايو 1949 وتعمل الحكومة علي مد العمل بها سنة أخري . وتحت ضغط المعارضة في مجلس الشيوخ تقرر تخفيف هذه الأحكام في أثناء فتنة إجراء الانتخابات التي كان قد حان ميعادها ، وقد تناول التخفيف في خلال هذه الفترة موضوع الرقابة علي الصحف .
اطمئنان إلي الخلود في الحكم :
20 – مع أن البرلمان بمجلسيه كان ألعوبة في يد هذه الحكومة ، تصدر منه ما تشاء من قوانين استثنائية شاذة ، فإن أقلية ضئيلة في مجلس النواب من أعضاء أحرار يمثلون الحزب الوطني والمستقلين ، وأقلية أخري من أعضاء حزب في مجلس الشيوخ ، بدأت تثير غبارًا في وجه هذه الحكومة. ففي مجلس الشيوخ قد استجواب عن استغلال الأحكام العرفية في التضييق علي حرية النشر والصحافة ، وفي مجلس النواب قدم استجواب بهذا المعني . كما قدم طلب مناقشة في موضوع الحكم العرفي ومبرراته بعد عقد الهدنة الدائمة في فلسطين واتفاق رودس والموقف العسكري والسياسي في فلسطين . ومع أن رئيس الحكومة قد استطاع بأغلبيته العددية الساحقة في المجلسين أن يتفادى تأثير ذلك كله علي حكومته ، فإنه رأي أن تكرار مثل هذا الهجوم قد يحرجه في يوم من الأيام ، لاسيما وهو – وإن كان يعتقد أنه مخلد في الحكم – فإنه لا يستطيع مع ذلك أن يبقي علي الأحكام العرفية إلي الأبد ... وإذن فلابد من حل ماكر يواجه به هذا التحدي ويضمن له الاطمئنان إلي أن هذه السلطة المطلقة التي يتمتع بها ستظل في يده في المستقبل . نلخص الحل الذي اهتدي إليه في وسيلتين إحداهما مؤقتة والأخرى دائمة :
أما الوسيلة المؤقتة فهي أن يطلب مد الأحكام العرفية منذ عام . وسيحل موعد الانتخابات في خلال ذلك العام ، وسيجريها بنفسه ، وسيحصل طبعا علي الأغلبية الساحقة ويظل في الحكم .. وقد يستطيع بمجلسه الجديد – الذي قد لا يدع لغير أتباعه فرصة دخوله – أن يمد الأحكام العرفية سنة أخري أو سنتين .
أما الوسيلة الدائمة ، فهي أن يسن تشريعا يسميه " تشريع تنظيم الجمعيات " يودعه كل ما في الأحكام العرفية من قيود ، بحيث يكون تكوين الجمعيات في مصر مستحيلا إلا أن تكون فرعا من فروع الحزب الحاكم تحت اسم مغاير لأسم الحزب . وسنفرد لهذا التشريع فصلا مستقلا لبالغ أهميته إن شاء الله .
وتقدم إلي برلمانه الحالي يطلب مد الأحكام العرفية لمدة سنة أخري فوافق البرلمان في الحال . وتقدم إليه أيضًا بمشروع قانون لتنظيم الجمعيات فأحيل إلي اللجنة التشريعية بمجلس النواب لإعداد تقريرها عنه .. ولم تطلب الحكومة إلي برلمانها نظر هذا التشريع علي وجه الاستعجال ، حيث لا داعي في نظرها لذلك إذ أمامها عام كامل ستحكم البلاد خلاله بالأحكام العرفية .
في انتظار المكافأة :
21- صفا الجو لحكومة إبراهيم عبد الهادي بعد أن أدت المهمة الكبرى التي كان عليها إنجازها فقد أزالت العقبة الكئود من طريق أولياء نعمتها ، بالتنكيل بالإخوان المسلمين واعتقالهم ، واغتيالهم المرشد العام في جنح الظلام ، وإلقاء ستار كثيف من الضباب حول هذه الجريمة مما حجب الرؤية حجبا كاملا.. ثم آمنت بعد ذلك ظهرها للمستقبل ، فمدت الأحكام العرفية سنة جديدة ، وبدأت في وضع مشروع لتنظيم الجمعيات ... ثم جلسات بعد ذلك تنتظر من أولياء نعمتها المكافأة .
ولم يخطر ببال عبد الهادي أن تكون مكافأة تجديد فترة حكمه لخمس سنوات أخري .. فهذا كان في نظره وفي نظر الناس المعاصرين أمرا مفروغا منه ، كما أنه لم يفكر في أن تكون المكافأة توسيع رقعة أملاكه من الأرض الزراعية ، فهذا أمر في يده هو باعتباره رئيس الحكومة وقد زاد الرقعة التي يملكها حتى صارت عشرة أضعاف ما كان يملك . أما ما كان ينتظره مكافأة له ، فهو أن تأتيه المكافأة في صورة إنعام ملكي سام بالرتبة التي طالما حلم بها لتضعه في البروتوكول وفي التاريخ في مصاف النحاس باشا وعلي ماهر وحسين سري باشا ، رتبة " حضرة صاحب المقام الرفيع " . ور يعجب القارئ لهذا النوع من الآمال . فلكل عهد سماته وأوضاعه وآماله . وكان من سمات هذا العهد التهالك علي الرتب والألقاب ، وما تضفيه هذه الألقاب علي صاحبها من أبهة وانتفاخ في المجتمع الذي يعيش فيه ، مما يذكرنا بقول الشاعر الأندلسي :
مما يزهدني في أرض أندلـس ألقاب معـتمد فيـها ومعتضـد ألقاب مملكة في غير موضعـها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
أما الشعب المسكين المغلوب علي أمره ، المنكوب بزعمائه ورؤسائه ، فلم يكن أمله الذي يحلم به يتعدي أن يري هذه الحكومة – حكومة الملك – قد خففت من وطأة ظلمها ، ورفعت عن ظهور المواطنين سياط جلاديها ... أما تغيير الحكومة فأمر لا يخطر بخيال أحد ؛ لأنها حكومة الملك ، جاء بها لتوطد أقدامه ، وقد وطدتها بتحقيق ما كان يأمله ، فأمنته من خوف كان يقض مضجعه ومضجع سادته الانجليز . ولكن فريقا واحدا من هذا الشعب كانت آماله أوسع من ذلك مدى ، وأوجب أفقا ، وأبعد طموحا .. وكان هذا الفريق هو " الإخوان المسلمون " ، الذين كانوا يتربصون بهذه الحكومة وأولياء نعمتها عنصر الزمن ، فكانت آمالهم معقودة بخالق الزمن والمتصرف فيه .. ولو أن الإخوان المسلمين غفلوا لحظة عن إيمانهم بخالق الزمن الذي () لما ثبتوا في موقفهم لحظة ، ولما واصلوا كفاحهم للطغيان دون هوادة ساعة من نهار ... وهل يستطيع من ملأ اليأس قلبه أن يثبت علي قدميه ؟ ...
وسوف يري القارئ في فصل قادم إن شاء الله أن الإخوان المسلمين قد تحملوا في خلال هذا العهد الأسود المنكود ما تنوء بحملة الجبال ، ( ) وكما بهروا العالم بشجاعتهم المنقطعة النظير في حرب فلسطين ، فقد أخذوا بلبه بثباتهم علي مبدئهم واستمساكهم بعقيدتهم وهم في أتون التعذيب والقهر والإهانة والتنكيل . وعلي حين غرة من الجميع فعل عنصر الزمن فعله . فوقف الشعب كله مشدوها فاغرا فاه شاخصة أبصاره لهول ما رأي وما سمع ... لقد قذف مصرف الزمن وخالق كل شيء بمفاجأة خيبت ظنون الظالمين ، وقضت علي أحلامهم ، وشتتت النوم من عيونهم ، فقد جاءهم الشر من حيث انتظروا الخير ، وأتاهم العذاب من حيث كانوا يترقبون المكافأة .. فإذا الخير الذي ينتظرون ، والغيث الذي يترقبون .. ريحا صرصرا عاتية ، اقتلعتهم من مقاعدهم وألقت بهم بعيدا في عالم النسيان فكان حالهم كما قال الشاعر الحكيم :
إذا كان غير الله للمـرء عـدة أتته الرزايا من وجـوه الفوائد
وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون .
ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى .
22 – كان الإخوان في ذلك الوقت في معتقداتهم وفي سجونهم وكنت أنا في منفاي الذي اختاروه لي – مما يأتي بيانه بعد قليل إن شاء الله – وكنا نتلقى في كل يوم من الحكومة مطارق جديدة علي رءوسنا ، ففي كل يوم مطاردة ، وفي كل يوم قبض ، وفي كل يوم مؤامرة ، وفي كل يوم تهم جديدة ومحاكمة ، وفي كل يوم أوامر متلاحقة بالتضييق والتهديد والتنكيل.. وقد وطنا أنفسنا علي ذلك نستقبله استقبال الأمر المتوقع .. ولكننا مع ذلك ، ومع انغلاق جميع المنافذ أمامنا لم يخامرنا اليأس من رحمة الله .. ولكن كيف تنفذ إلينا هذه الرحمة والمنافذ كلها محكمة الإغلاق ؟ هذا ما كنا نتركه لقدرة الله وإرادته .
- رؤيا لي نادرة: وقد كنت إنسانا قليل الرؤى بل أكاد أكون عديمها.. وطالما شكوت ذلك إلي الأستاذ الإمام فكان يطمئني بأن هذا ليس عيبا يعيب المؤمن .. وقد مكثت الفترة الأولي التي مكنتها في منفاي – أكثر من خمسة أشهر – لم أر خلالها رؤيا واحدة .. ولكنني في إحدى ليالي الثلث الأخير من شهر يوليو 1949 وكان ذلك موافقا لإحدى ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان رأيت رؤيا طويلة زاخرة أذهلتني وأطارت لبي وأثارت وجداني وأرسلت دموعي .
وحين أحاول الآن – بعد ثلاثين عاما – أن أتذكر تفاصيل هذه الرؤيا أجد أكثر هذه التفاصيل قد بهتت في خاطري حتى لا أكاد أراها .. ولكن الذي لا يزال ماثلا أمامي منها حتى الآن هو منظر الأستاذ الإمام واقفا علي منصة عالية . ونحن – عدد غير قليل من الإخوان – بين يديه يحدثنا ويوجهنا ويوصينا وكأنه يريد أن يشعرنا بأنه مغادرنا . ووصاياه كلها في الحرص علي الإخوة والترابط والحث علي الصبر .. وكان شعوري بما يعتزمه من مفارقتنا قد جعل دموعي تنهمر لا أقوي علي مدافعتها .. وقد أكثر أنا وزملائي من الاستفسار عنه عن أمور كثيرة ، وكنا في عجلة في توجيه الأسئلة إليه قبل أن يغادرنا المغادرة التي نشعر ألا لقاء بعدها ... وكنت حريصًا علي أن ألتزمه وأعانقه عناقا حارا طويلا ثم أمسك به حتى لا يفارقنا .. ولكنه كان يشعر بهذا الشعور منا فيمهلنا حتى يتم وصاياه إلينا .. وكان ارتفاع المنصة ارتفاعا لا يتيح لأحد منا أن نصعد إليه إلا أن ينزل هو إلينا . وكان مما لفت نظري واسترعي انتباهي في هذه الرؤيا أن الأستاذ المرشد كان خلالها حليق اللحية ، وهو منظر لم نره فيه من قبل . كما أنه كان حين يتكلم ويوجه نصحه إلينا ويسدي وصاياه كان يفتح فمه ويحرك شفتيه ولسانه كالمتكلم تماما ولكنه لا يصدر صوتا ، ومع ذلك كنا نفهم كل ما يقول ... وفجأة التفتنا فإذا بنا لا نراه .
وفي مساء اليوم التالي ، أتاحت لي فرصة عجيبة – وسط اجتماع أخوي حبيب – أن ألتقي بضيف طارئ لم أره من قبل ، وكان شيخا وقورا ذا لحية ضخمة وفي سن يناهز السبعين – وقد أنسيت اسمه – وقد علمت أنه عالم أديب ومن المجاهدين غير المصريين المطاردين ... فلما قصصت رؤياى علي إخواني في هذا الاجتماع ابتسم هذا الشيخ ابتسامة عريضة وقال لي ولمن حولي من الإخوان : أبشروا فإن الله سيغير الأوضاع ، وهذه رؤيا صادقة ودليل صحتها وصدقها أمران ، أولهما رؤيتك الأستاذ المرشد بغير لحية مما لفت نظرك ، والثاني كلامه المفهوم بغير صوت ، فالأستاذ الآن في حياة البرزخ ، وهي الحياة التي بين الحياتين الدنيا والآخر ، ومن مميزاتها أن يكون الناس فيها في سن واحدة وبدون لحي . وقد يكون من القول المعاد أن أقول أن الفترة التي رأيت فيها هذه الرؤيا لم يكن يخطر ببال أحد في مصر لاسيما في بال رئيس الوزراء أن تتغير الوزارة ، وكان أي محال يبدو ممكنا إلا أن يخلع إبراهيم عبد الهادي من الوزارة وهو أقرب المقربين إلي الملك ، ويؤيده مجلسا البرلمان بلا تحفظ وهو الخادم المطيع المحضرة الملكية التي كانت معبودا لهم من دون الله .
وبعد أيام من هذه الرؤيا وقع النبأ الذي لم يكن متوقعا . واهتزت البلاد من أقصاها إلي أقصاها ؛ لأنه الحدث كان أبعد الأحداث عن الاحتمال . وأعلن سقوط وزارة عبد الهادي وتأليف وزارة سميت " محايدة " وأعلن في خطاب تأليفها أن مهمتها النظر في الإفراج عن المعتقلين وتدل مجريات الأحوال علي إسقاط وزارة عبد الهادي وتأليف وزارة محايدة لم يكن من بنات أفكار الملك وحاشيته ، كما لا يمكن أن يكون من تفكير عبد الهادي وحزبه ، وإنما كان من تفكير الانجليز وسعة دهائهم ، وأنهم أمروا الملك بذلك ؛ لأنهم خشوا لو طال بقاء عبد الهادي أكثر من ذلك لأدي إلي انفجار الموقف انفجارا قد لا تسهل السيطرة عليه . وقد يتطلع القارئ إلي معرفة الصورة الرسمية التي تم هذا التغيير في إطارها فنقول – نقلا عن الصحف في ذلك الوقت – أن الملك أوفد حيدر باشا – وكان قائدها عاما للقوات المسلحة ومن المقربين إلي الملك – إلي إبراهيم عبد الهادي لإبلاغه رغبة الملك في استقالته ، كما أوفد حيدر باشا إلي حسين سري لإبلاغه بتكليف الملك إياه لتأليف الوزارة الجديدة ... ولما كان إبراهيم عبد الهادي لا يملك إزاء هذه الصفعة القاتلة إلا الخضوع والإذعان ، فقد قدم استقالته ونصها :
"مولاي – تفضلتم فعهدتم إلي بالحكم في ظروف دقيقة. وقد استطعنا بفضل سامي توجيهكم ، وكريم إرشادكم ورعايتكم أن تنهض بالأمانة وأن تؤديها علي خير ما نرجو – والآن وقد أوشكت الدورة البرلمانية علي النهاية فإن الحكومة تضع استقالتها بين يدي جلالتكم ، لتوجهوا البلاد وفق ما ترجونه لها من خير " .
وقبل أن يكتب هذه الاستقالة رد علي حيدر باشا بقوله : إنني أتلقي هذا التوجيه الملكي بالاحترام والإجلال وسأبلغه إلي زملائي وننزل علي هذه الرغبة الكريمة . وقد رد الملك في نفس اليوم علي عبد الهادي بقبول استقالته وجاء في الرد : وإنا إذ نجيبكم إلي ملتمسكم لنذكر بالتقدير تلك الهمة العالية والوطنية الصادقة التي سستم بها أمور البلاد ، في حرص علي طمأنينتها وسعي لتوطيد الأمن في ربوعها . هدية الملك إلي الشعب :
ولما كانت إقالة هذه الوزارة قد تمت في 30 رمضان 1368 ، فقد أصدر الملك نطقا ملكيا بأن الملك قد جعل هذه الإقالة هدية الملك إلي شعبه بمناسبة عيد الفطر المبارك . وفي أول جلسة لمجلس النواب حضرها حسين سري باشا رئيس الوزارة الجديدة ألقي حسين سري بيانًا مقتضيًا لم يشر فيه إلي المعتقلين ، فقام مكرم عبيد باشا عضو المجلس وطالب بإلغاء الأحكام العرفية والإفراج عن جميع المعتقلين في الحال ، فصاح النائب السعدي فتحي المسلمي قائلا : إذا أفرج عن المعتقلين فستكون أنت أول ضحاياهم .
وكان الدليل المادي علي كذب هذا النائب السعدي وحزبه هو أن رئيس الوزراء الجديد في الوقت الذي قرر فيه أن تبقي الحراسة حول دار إبراهيم عبد الهادي وترك الحرس الكبير الذي كان يحرس رئيس الوزراء السابق – ورفع بوليس حرس الوزارات الذي كان قائما حول مبني ديوان الرئاسة وديوان المالية ولم يبق سوي ثلاثة جنود موزعين في أماكن متباعدة . ولما قدم له عبد الرحمن عمار وكيل الداخلية للأمن العام بعد عشرة أيام تشكيل الوزارة كشوفا بأسماء من تمنحهم إدارة الأمن العام مكافآت شهرية من المصاريف السرية أعاد إليه الكشوف مؤشرا عليها عدم الصرف وإلغاء هذا النوع من المكافآت – ونقله هو شخصيا من وزارة الداخلية وكيلا لوزارة المواصلات ... ومع ذلك لم تحدث حادثة واحدة تعكر صفو الأمن . تنفس الناس الصعداء ، وأخذت التحقيقات في القضية المراد طمرها تشق طريقها من جديد ولكن علي استحياء .
الفصل الثالث: شخصيات ومواقف كشفت عنها المحنة القاسية
مقـدمة
كنت – منذ بدأت مؤامرة الحل – في دمنهور تحت الحراسة الأخوية النبيلة من الرجل الكريم الأستاذ (ع) – فلما ارتكبت الجريمة الشنعاء كاد الحزن يقتلني .. ومع أنه كان فيما أسر إلي به الأستاذ (ع) من قبل إشارة إلي احتمال وقوع هذه الجريمة ، فإن ذلك لم يخفف من أثر وقوعها فعلا في نفسي ..ولم أفهم الحديث الذي كنت أقرأه ومعناه أن النبي صلي الله عليه وسلم يقول : " إذا عظمت مصيبة أحدكم في عزيز فليذكر مصيبته لي فتهون عليه مصيبة " إلا حين وقعت هذه المصيبة ووجدتني عاجزاً عن احتمالها ، فقدرت مدي مصيبة المسلمين بوفاة رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأنها حقا أعظم مصيبة يصاب بها مسلم إلي يوم القيامة . قد كانت مصيبتي باستشهاد حسن البنا أعظم مما يتحمله قلب ، لقد صار الموت أحب إلي من الحياة ، ولقد بدأت أفهم معني قول الله تعالي : (• ) وقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أبيه وأمه ومن نفسه التي بين جنبيه " .. وبدأت أفهم معني قول الصحابي الجليل : كنا إذا أحمر الحرق ، وحمي الوطيس احتمينا برسول الله صلي الله عليه وسلم .
لقد كان محمد صلي الله عليه وسلم هو صاحب الدعوة ، تلقاها بالوحي عن ربه . وقد قرر القرآن له حقا علي المؤمنين أنه أولي بهم من أنفسهم . وحين قرر القرآن هذا الحق لم يكن مقررا إلا أمرا واقعا ، وشعورا متملكا قلب كل مؤمن نحو هذا الرسول الكريم .. وبعد أن أدي مهمته ، وبلغ رسالته ، اختار الرفيق الأعلى ، فكانت المصيبة التي أذهلت أثبت المؤمنين جنانا ، وأصلبهم عودا ، وأقواهم شكيمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه . ثم كان علي مر الزمن ، بين الفينة والفينة ، دعاة يقومون علي أثر محمد صلي الله عليه وسلم ، يجددون دعوته ، ويجمعون الناس علي لب رسالته .. هؤلاء الدعاة قلة علي طول الزمن .. لا يكاد الزمن يجود بواحد منهم إلا بعد مرور أجيال وأجيال ، يكون الدين في خلالها قد درست معالمه ، وطمست قسماته ، وذهبت نضارته ، وغابت تحت أكداس الزيف والترهات حقيقته .. حتى صار أصحاب العقول يتلمسون من ينقذ الدين مما ألم به ، ومن يأخذ بيد الأمة الإسلامية الضالة الحائرة فيقفها علي أول الطريق .. فيمن الله الرءوف الرحيم بواحد من هؤلاء الدعاة فيتسابق أصحاب العقول إلي مبايعته ، ثم يستجيب له الناس طوائف ، فيسير فيهم سيرة النبي الكريم في صحابته فيحبهم ويحبونه ، ويؤثرهم علي نفسه ويؤثرونه ، ويعرفون له فضله في هدايتهم إلي الحق ، ويحسون السعادة في عمق تأثيره في نفوسهم بإعراضه عن متاع الدنيا ، ويتعلمون بين يديه التضحية في سبيل الحق حين يرونه يخوض الغمرات في سبيله ، يتعلمون بين يديه صناعة الموت .. وما أعظم الفرق بين الموت وبين صناعة الموت ، فكل الناس يموتون ..ولكن الذين تعلموا صناعة الموت لا يموتون إلا إذا رغبوا لموتهم ثمنا غاليا وريحا كبيرا يموتون في المواقف التي يحيي موتهم فيها أممهم وعشائرهم حيث يرجون لأنفسهم في الآخرة مكانا عليا .
هؤلاء الدعاة ، تكون المصيبة في فقدهم قريبة في فداحتها علي المؤمنين من مصيبة المؤمنين في فقد رسول الله صلي الله عليه وسلم – وكأنما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقصد هؤلاء الدعاة والمستجيبين لهم حين قال لأصحابه : " ما أشوقني إلي إخواني . فقال الحاضرون : ألسنا إخوانك ؟ قال : لا .. بل أنتم أصحابي . إخواني قوم يأتون من بعدكم ، أجر الواحد منهم كأجر أربعين . قالوا : وكيف استحقوا هذا الأجر ؟ قال : إنكم تجدون علي الخير أعوانا ، أما هم فلا يجدون علي الخير أعوانا " أو كما قال صلي الله عليه وسلم .
أدرت الحديث حول الدعوة والدعاة لأقرب إلي خيال القارئ مدى فداحة الرزء الذي ينزل بالمؤمنين حين يفقدون مرشدهم وقائدهم .. ولم يكن هذا شعوري وحدي ، وإنما كان شعور مئات الألوف من الناس ، لا في مصر وحدها ، بل في العالم الإسلامي كله .. لقد أذهلني المصاب عن أهلي وعن أولادي وعن بيتي وعن عملي وعمن حولي وعن نفسي ... وإذا كانت الخنساء تقول حين فقدت أخاها صخرًا وهو رجل كسائر الرجال :
ولولا كثرة الباكين حولي علي إخوانهم لقـتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن اعزي النفس منهم بالتـأسي
فأني لنا أن نجد عزاء في فقد حسن البنا الذي قلما تجود الأيام يمثله ؟! لم أجد بجانبي في ذلك الوقت العصيب إلا الرجل الطيب الدمث الأخلاق الكريم المحتد الأستاذ (ع) ، قضيت معه بعد المصاب أياما لا تعدو الأربعة ، لم يكن يفارقني فيها إلا وقت النوم – إن كان هناك نوم –ثم وصلني أمر بالنقل فورًا إلي " أبو تيج " . وقد تبين لي أنه ليس نقلا بالمعني المألوف بل هو تحديد إقامة ، فقد طلب إلي أن أسافر وحدي دون أسرتي وأولادي ، فلما وصلت إلي هناك علمت أنني ممنوع من مغادرة ذلك البلد إلي أي مكان آخر ... وقد دعني الرجل الكريم الأستاذ (ع) والدموع تترقرق في عينيه ، وهو يقول لي معتذرا : لا تؤاخذني يا فلان فإن هذا النقل هو أخف إجراء استطعت أن أصل إليه معهم فيما يختص بك .
أولا – شخصيات ومواقف خاصة :
لما حملني القطار إلي " أبو تيج " وكنا في المساء نزلت في فندق بها ووجدتني مضطرا لقضاء هزيع من الليل في مكان آخر حتى يغلبني النوم حيث حالة الفندق تقتضي ذلك ، فاتخذت لي مجلسا في مقهى أمام الفندق – ولما كنت وجها غريبا فقد تقدم نحوي شابان ظريفا كانا يجلسان معا في مقهى قريبا مني وتم التعاون بيني وبينهما . ولما علما بأنني نزلت بالفندق – وكانا يعرفان حالة الفنادق في هذا البلد – أصرا علي استضافتي في شقتهما ذات الجرتين الواسعتين القريبة من الفندق . والحق أن الشابين – سعد وحسن – الموظفين بالمحكمة وأولهما من الفيوم والآخر من بنها ، كانا معي غاية في الكرم ، فلقد حضر الأخ الكريم الحاج هاشم محمد خليل صبيحة اليوم التالي – حين علم بحضوري – وحاول انتزاعي منها فرفضا بكل شهامة ، فأمدني الحاج هاشم – أكرمه الله – بكل ما يلزمني ، وشاركتهما السكن .. وكانت حجرة حسن أوسع فشاركته فيها .
ومعذرة إلي القارئ في هذا الاستطراد فسأقص طرفا من قصتي مع هذين الشابين ومع غيرهما ممن صادفني في تلك الفترة من حياتي بهذا البلد الطيب ، فلقد تعلمت علي يد هذين الشابين أمورا في حياة بلادنا الاجتماعية من الخير أن يلم بها القارئ . وكأنما نحن – الإخوان المسلمين – أراد الله أن يطلعنا علي خبايا من الحياة الاجتماعية لجمهور الذي هو منا ونحن منه حتى إذا تحدثنا إليه تحدثنا من نعرف عنه الكثير . خطورة القمار :
لاحظت أن " حسنا " قد كرر اقتراضه مني حتى اقترض مني أربع مرات في خلال أسبوعين . فسألت " سعدا " عن ظروفه التي دعته إلي هذا الاقتراض ففاجأني بأن " حسنا " يلعب القمار . فلما واجهت " حسنا " بذلك أنكر . وكان من عادتي أن أستسلم للنوم بعد العشاء . فلفت " سعد " نظري إلي أن " حسنا " يسهر معظم الليل في لعب القمار ، وحدد سعد المكان الذي يباشر فيه هذا اللعب . فلما سألت " حسنا " عن ذلك أنكر . فلما علم سعد بهذا الإنكار طلب لي أن أخالف عادتي وأسهر الليلة القادمة . وصحبني نحو منتصف الليل إلي مكان ناء خارج المدينة وأشار إلي حجرة مغلقة الباب والنوافذ في الدور الأرضي . وكنا إذ ذاك في ليالي الشتاء الباردة . وقال هذه في الحجرة . وطرقنا باب الغرفة . وفتحوا لنا الباب بعد أن أطمأنوا إلي أننا لسنا من رجال البوليس ، فاندفع نحونا من الباب هبة نتنة من هواء ساخن فاسد ، مما حملنا علي التراجع قليلا منحرفين عن الباب حتى خفت حدة هذه الهبة ، ودخلنا فإذا هي غرفة صغيرة تتوسطها منضدة ، والغرفة مكتظة بالأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين الشاب والكهولة ، ورأيت بينهم صديقنا " حسنا " الذي بدا علي وجهه الخجل – ولا أقول احمر وجهه خجلا ؛ لأن اكتظاظ الغرفة بهذا العدد مع الانفعال المستمر أثناء اللعب جعل الدم مندفعا إلي وجوههم فهي حمراء دائما . وبعد أن صافحنا حسنا أنسجنا من الغرفة .
ولما التقيت بحسن بعد ذلك اعتذر إلي من هذه " الهفوة " التي حاول أن يقنعني بأنها غلطة لن تتكرر .. وقد انتهزت الفرصة وشرحت لحسن خطورة مجرد وجوده داخل مثل هذه الحجرة وتنفس هذا الهواء النتن ، وحذرته من أن خروجه من هذا الهواء الساخن ومقابلة الجو البارد قد يعرضه لمرض خطير .. فأقسم لي أن هذا لن يتكرر . ولكن سعدا لفت نظري إلي أن حسنا مستمر في خطته ، وأنه في أكثر الليالي لا يأوي إلي المنزل لينام إلا بعد منتصف الليل ، وفي بعض الليالي لا يأتي إلا قبيل الفجر ، وأنه حريص حين يدخل الشقة ألا يحس به أحد فهو يمشي علي أطراف أصابعه .. أما أنا فكنت أصحو من النوم لأصلي الفجر فأراه نائما في سيره .. ومع ذلك فقد كنت حريصًا علي أن أسدي إليه النصح من الناحية العامة المرة بعد المرة ، وهو يقنعني في كل مرة بأنه امتنع منذ الليلة التي رأيناه فيها في معمعان اللعب .. وكان حريصا علي أن يصلي صلاة الصبح أمامي كل يوم . وفي صباح أحد الأيام حين استيقظت لصلاة الفجر رأيت سرير حسن خاليا ، فخشيت أن يكون قد أصابه مكروه ، ولكنني بعد أن صليت الفجر واتخذت مضجعي في السرير ثانية ، وكادت الشمس تشرق ، أحسست أن أحدا قد فتح باب الشقة بخفة ، فتظاهرت بالنوم ورأيت صاحبنا قد دلف إلي الحجرة في هدوء وأوي إلي فراشه .
ولما حان الموعد الذي نتأهب فيه للذهاب لأعمالنا ، استيقظ حسن وهو معتقد أنني لم أشعر بدخوله ولكنني أفهمته أنني أحسست به فانتحل بعض الأعذار .. وشددت عليه النصح حتى بكي ووعد بالحضور مبكرا .. وما هي إلا أيام حتى عاد إلي ما كان عليه ، ووصل الحال آخر الأمر إلي أنه لا يحضر إلي المنزل ويستغرقه اللعب في الحجرة الملعونة طول الليل حتى يحين موعد الذهاب إلي عمله في الصباح فيهرول ولا يصل إلي عمله إلا متأخرًا .. ويخبرني سعد بذلك ولا أراه أياما متتالية .. ثم يتفاقم الأمر ويخبرني سعد بأنه قد اكتشف عجز في خزينة المحكمة وأن حسنا يواجه تحقيقا قد يؤدي إلي فصله (كان سن أمين خزينة المحكمة) ولكن زملاءه من موظفي المحكمة تعاونوا معا وأنقذوا الموقف . وهنا طلبت من سعد أن يحضر لي حسنا إلي المنزل بعد صلاة العشاء مباشرة حين جلست معه جلسة طالت إلي جوف الليل .. واجهته فيها بكل ما في نفسي وشرحت له خطورة ما هو منغمس فيه من ضلال وكذب ، وما هو مقبل عليه من دمار وتحطم .. وبينت له ألا داعي للكذب أمام إنسان يتمني الخير لك وهو لا يملك لك ضررا ولا نفعا .. ويبدو أن حالة من الانفعال في النصح لبستني وكأنما لمست أخيرا موضع الإحساس من قلبه ، فتغيرت لهجته فجأة واتجه إلي بقلبه لأول مرة وقال : يا فلان .. أنت الآن أعز علي من أبي ودعني أصارحك لأول مرة بما لم أصارح به أحدا من قبل : كان والدي مدرسا في ثانوية بنها وكنت طفلا مدللا ، فكنت ألعب " البلى " مع الأطفال في الشارع فلم ينهني والدي ، والبلى ليس إلا نوعا من القمار فانغرس في نفسي منذ ذلك العهد حب القمار ، فلما كبرت باشرت أنواعا أخري من القمار دون أن أجد من ينهاني فصار الشغف بالقمار مختلطا بدمي – وأحب أن أقرر بين يديك أن المقامر مهما أقسم لك أنه امتنع عن القمار فهو كاذب ؛ لأن القمار داء من تمكن منه استعبده واستولي علي قلبه ومشاعره بحيث لا يستطيع التخلص منه طوعية فقد يستدين ويبيع ما يملك ويسرق إلا أن يجد من يحبسه عنه بالقوة ولمدة طويلة .
فقلت له يا حسن ليتني أملك أن أحبسك ولكنك تعرف الظروف التي تحيط بي أنا الآن أبكي ؛ لأنني أعرف النهاية التي تقترب منها كل يوم . وليتني أستطيع أن أدفع عنك . وتطورت الأيام بعد ذلك ، وغادرت " أبو تيج " إلي بلاد أخري ، وبعد سنوات التقيت بسعد صدفه فسألته عن " حسن " فقال لي : إن " حسنا " قد اغتاله " السل " والعياذ بالله ومات به .. فكان ما توقعته وحذرته منه ، اسأل الله تعالي أن يتغمده برحمته . من أضرار الحشيش :
أما " سعد " فلم يكن يلعب القمار ، وكان يبدو لي شابا مستقيما ، بل إنه كان يلفت نظري إلي انغماس " حسن " في القمار رجاء إصلاحه ، وقد ظللت علي ظني هذا حتى كانت ليلة أيقظني علي غير عادتي في منتصف الليل حصر بول ، فقمت من سريري متجها إلي دورة المياه التي كان بابها قبالة باب حجرة سعد .. وقد استوقفني عندما استيقظت أصوات منبعثة من حجرة سعد الملاصقة لحجرتنا ، ولاحظت أن الأصوات لأكثر من شخص وأكثر من شخصين ، كما لاحظت أن الألفاظ التي تبينتها من هذه الأصوات ألفاظ غير مهذبة .. فتريثت لحظات ثم أرغمني البول علي مغادرة الحجرة إلي الصالة حتى إذا وصلت إلي باب دورة المياه وجدت حجرة سعد مضاءة ووجدت بابها مفتوحا ورأيت منظرًا مهينا .. ورأيت هؤلاء الأشخاص بعد أن لعب الحشيش – الذي فاحت رائحة دخانه – بعقولهم وقفوا جميعاً كل أمام الآخر وقد رفعوا ثيابهم وكشفوا عن عوراتهم وكل منهم يتبول علي الآخر متفوها بألفاظ مزرية . وفي الصباح قررت أن أنقل سريري إلي مسكن آخر مع صديق . وقد عارض سعد في ذلك أشد المعارضة ، لكنه أحس من شدة إصراري أنني أطلعت علي ما لم يحب أن أطلع عليه من أمره مع أصدقائه المنحرفين – ويعلم الله أنني ما قصدت إلي الإطلاع – فاضطر أسفا أن ينزل علي رغبتي .. ولعله بعد ذلك قد أقلع وتاب . هذا ولعلي بهذه الكلمات القصار قد ألقيت بعض الضوء علي مرضين خطيرين من أمراضنا الاجتماعية ما كنت قبل تجربتي هذه أقدر خطورتهما هذا القدر . في النار ولا يحترق :
قدمت من قبل أنني كنت أثق كل الثقة في مقدرة الأستاذ الإمام علي اختيار الرجال . كان الأخ الحاج هاشم محمد خليل من أوائل من وقع اختيار الأستاذ عليهم لعضوية الهيئة التأسيسية ، ولم تكن معرفتي به تتعدي فترات اللقاء في اجتماعات الهيئة القليلة العدد .. فلما اختارت وزارة السعديين " أبو تيج " لتكون لي منفي ، كان هذا المنفي الذي أرادوه هو أحب مكان إلي بفضل تعرفي عن قرب علي شخصية الأخ الحاج هاشم . كان الحاج هاشم تاجرا وعالما وأديبا ، وكان أكبر تاجر للدخان في الوجه القبلي ، يستورد أوراقه الشجرية من الخارج ويوزعه علي التجار والمصانع ، وعلمت تفكر في إنتاج توليفة لسيجارة جديدة ترسل إليه مندوبا يعرض عليه التوليفة ليبدي رأيه فيها .. ومع هذا كله فهو لا يدخن مطلقا حتى أنه حين يختبر التوليفة المفتوحة كان يتذوقها بأن يدخن منها عدة أنفاس دون أن يبتلع أي دخان منها .. وقد سألته في هذه المفارقة العجيبة ؟ كيف يكون أكبر تاجر للدخان وفي الوقت نفسه لا يدخن .. فكانت إجابته كالآتي :
تناول نوعا من السجاير كان يعد بعد ذلك الوقت أغلي وأرقي أنواع السجاير ويسمي " سيجار التوسكاني " والسجارة عبارة عن ورق شجر الدخان بحالته الطبيعية ملتف بعضه علي بعض ولا يغلفه ورق عادي كالذي يغلف جميع أنواع السجاير . تناول واحدة منها وأشعلها وسحب منها عدة أنفاس وتركها حتى انطفأت (طبيعة هذا النوع أنه ينطفئ من تلقاء نفسه عدة مرات ويعيد مدخنه إشعال السيجار في كل مرة) فلما انطفأت كسر السيجارة نصفين وقربهما من أنفي فشممت رائحة نتنة لم أطقها – فقال لي : لهذا أنا لا أدخن ... هذه شجرة نتنة ، ولولا أنني ورثت هذه التجارة عن أهلي وآبائي ما زاولتها .
قلوب تلطف عسف القوانين :
لما طال غيابي عن أولادي المقيمين في رشيد عدة أشهر ، وتولاني القلق عليهم ، فكرت في زيارتهم . فتحدثت في هذا الشأن مع رئيسي المقيم في أسيوط وكان زميلا لي مسيحيا ، وطلبت منه أجازة لمدة أسبوع . فتلعثم وبدا عليه الحرج . ثم كاشفني بأن هذا النقل هو بأمر وزارة الداخلية ، وأطلعني علي الخطاب السري الخاص بذلك . ولما كان هذا الرئيس زميلا كما قدمت ، فقد أخذ يفكر معي في وسيلة للخروج من هذا المأزق ، وانتهي التفكير إلي أن السفر إذا أمكن فلا يكون بأجازة رسمية ، وأبدي استعداده للقيام بعملي في غيبتي ، لكنه لفت نظري إلي أن رقابة من وزارة الداخلية مفروضة علي . وكنت أعلم أن مأمور المركز رجل كريم ومن أسرة عريقة . في العلم والدين ، فذهبت إلي المركز وقابلت ضابط المباحث ، وكان شابا دمث الأخلاق ذا سيرة طيبة . فكاشفته بالموضوع بصراحة تامة . فقال لي أن الرقابة المحلية هنا مقدرة لظروفكم ونستطيع التهاون فيها ، ولكن هناك رقابة أخري من وزارة الداخلية بالقاهرة .. واتفق معي علي أن أسافر في جنح الظلام ، وأترك رقم تليفون في رشيد ، وألا أشعر الناس في رشيد بوجودي .. فإذا جد في الأمر شيء اتصلنا بك تليفونيا للحضور في أول قطار .
ونفذت الخطة . وبعد يومين من وصولي إلي رشيد جاءني التليفون فاستقللت أول قطار وذهبت إلي عملي في أبو تيج حيث اتصل بي فيه تليفونيا مأمور المركز وطلبني لمقابلته .. فأطلعني علي الإشارة التليفونية المرسلة إليه من وزارة الداخلية يسألونه عما إذا كنت قد غادرت أبو تيج طالبين منه سرعة الرد – ورد الرجل – أكرمه الله – عليهم ردا كريما ، دافع فيه عني قرر أنه كان يتصل بي يوميا في عملي وأنني لم أغادره مطلقا . وهكذا يقوم الرجال الصالحون بتلطيف القوانين مهما بلغت هذه القوانين من الجور والظلم والعدوان . وعي فج مقلوب :
في البلاد الصغيرة التي يعرف الناس فيها بعضهم لا يكاد الناس يتأثرون بدعايات الحكومة ولا بما تذيعه أجهزة إعلامها من زور وافتراء ، حيث يسمعون ويقرأون عن الإخوان المسلمين أوصافا يجدون عكسها فيمن ينتسب إلي الإخوان من أهل بلدهم . ولهذا كان محل الأخ الحاج هاشم – بالرغم من التضييق الحكومي – ملاذا للمثقفين من أهل " أبو تيج " ومن الطارئين عليها علي اختلاف مبادئهم واتجاهاتهم وآرائهم . وفي إحدى جلساتنا بمحل الحاج هاشم انطلق أحد الجالسين – وكان شابا حقوقيا يشغل منصبا إداريا مرموقاً بالمدينة – يقول : لقد أثبت النحاس باشا أنه رجل طيب حقا ؛ لأنه ضرب بالنار ولكنه لم يصب ، أما حسن البنا فيبدو أنه كان رجلا شريرا بدليل أنه لما ضرب بالنار أصيب وقتل . فقلت له : مهلاً يا أخي ولا تتسرع بالحكم .. فلو أننا أخذنا بمقياسك هذا لخرجنا بنتائج عجيبة .. فبهذا المقياس يكون عمر بن الخطاب رجلا شريرا ، ويكون عثمان بن عفان رجلا شريرا ، ويكون علي بن أبي طالب رجلا شريرا ، ويكون الحسين بن علي رجلا شريرًا وهكذا ... فبهت الشاب وأسقط في يده . وقد سقت هذه الواقعة ؛ ليقف القارئ علي مدي سذاجة الناس في نظرتهم إلي الأحداث ، وفي تقديرهم للرجال ، ومدي فقدانهم للوعي السليم ، وافتقارهم إلي ميزان دقيق يزنون به الأمور .
بعثة الأزهر للتوعية :
إن كل ما نزل بالإخوان في ذلك العهد من مصائب ، وما انصب علي رءوسهم من ويلات ، لم يجرح قلوبهم ، ولم يدم أفئدتهم .. ولكن الذي جرح قلوبهم وأدعي أفئدتهم هو ما سمي " بحملات التوعية الأزهرية " .
وظلم ذوي القربى أشد مضـاضة علي النفس من وقع الحسام المهنـد
وينبغي ألا يتطرق إلي ذهن القارئ أن الأزهر كان عدوا للدعوة الإسلامية المتمثلة في الإخوان المسلمين ، فإن شباب الأزهر كانوا هم عماد دعوة الإخوان ، وكانوا في مقدمة من صب علي رءوسهم البلاء .. ولكن الذين أقصدهم فئة قليلة من كبار الشيوخ عبدوا المناصب ، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم . في خلال فترة وجودي في " أبو تيج " كان الأخ الكريم الشيخ أحمد شربت مفتش الوعظ في محافظة أسيوط . ولم تكن الحكومة قد تيقظت بعد إلي أنه من الإخوان المسلمين ، فكان لذلك حر الحركة . وكنا حريصين علي ألا يكون اتصاله مباشرا حتى يمكننا الإبقاء علي حريته ، فكان يتصل بنا عن طريق أشخاص معينين . وفي يوم من الأيام جاء رسول الشيخ أحمد ينقل إلينا الخبر التالي :
وصلت إلي أسيوط بالأمس " حملة الأزهر للتوعية " مكونة من عدد من العلماء برياسة الشيخ محمد عبد اللطيف دراز (مدير الوعظ والإرشاد بالأزهر ووكيل الأزهر فيما بعد) . ولما كنت المسئول عن الوعظ في المحافظة فقد كنت في استقبالهم ، وطلبوا إلي أن أرافقهم لمقابلة المحافظ – كما الديب باشا – ليستأذنوه في المرور ببلاد المحافظة فرافقتهم . ولما دخلنا مكتب المحافظ استقبلنا الرجل وأخذنا مجالسنا . وشرع الشيخ دراز – باعتباره رئيس الحملة – يتحدث عن الإخوان المسلمين حديثا يطعن في إيمانهم .. فلما أحس أن الحديث بهذا الأسلوب لا يلقي قبولا لدي المحافظ اختصر الشيخ الكلام ولجأ إلي الأسلوب آخر فقال : أن الإخوان المسلمين هم السبب في أن فقدت البلاد رجلين من رجالها . فسأله المحافظ : ومن هما الرجلان ؟ فقال الشيخ : النقراشي باشا وحسن البنا . فإذا بالمحافظ ينطلق قائلا : ولكن يا فضيلة الشيخ " حسن البنا " لا يعوض . وكأنما كانت كلمة المحافظ هذه سمها أطلقه علي الشيخ فأصاب منه مقتلا ، إذ سكت الشيخ وارتج عليه ولم يتكلم حتى استأذن وانسحب برجاله . ولا داعي من ناحيتنا نحن للتعليق علي كلمة هذا الرجل الكبير الذي نطق بما نطق به وهو في منصبه الرسمي ممثلا للحكومة السعدية في وجه شيخ كبير من شيوخ الأزهر معروف بميوله لحزب الحكومة – كما لا أري داعيا للإشارة إلي ما قامت به حملة التوعية هذه من جوب البلاد تنشر الأكاذيب ، وتشيع البهتان ، وتثير الفتن ، مشيعين من أهل الريف الطيب في كل مكان نزلوا فيه بالاحتقار والازدراء .
ثانيا – شخصيات ومواقف عامة :
في الأسطر القليلة السابقة أشرت إلي شخصيات ومواقف لابستها في الوضع الذي قضيت فيه أحرج الأوقات المحنة . وكانت هنالك في نفس الوقت أحداث تجري ، وشخصيات تتكشف ، ومواقف تتحدد ، علي مستوي القطر كله .. في القاهرة ، حيث حيكت المؤامرة ، وحيث المسرح الذي تتصارع علي خشيته القوى المتآمرة والقوى المتحالفة ، والقوي المتزلفة ، والقوى المؤمنة ، والقوى الشريفة ذات الضمير وذات المبدأ . وأحاول هنا إن شاء الله أن أضع بين يدي القارئ نماذج من هذه الشخصيات ، وعينات من هذه المواقف ، ليتبين له دورها فيحكم علي كل منها الحكم الذي هي جديرة به .
الأول : الهيئات الدينية :
وهذه الهيئات إما رسمية ويمثلها الأزهر . وإما شعبية وهي الهيئات التي تناولنا تفصيلها في الجزء الأول من هذا الكتاب .. أما الأزهر فإنه كان يستغل في بعض المواقف أسوأ استغلال ، وتجد الحكومات في ضعاف النفوس من بعض شيوخه من يضع نفسه في خدمتها ، وحسبنا ما ذكرناه آنفا . وأما الهيئات الشعبية فكانت في تلك الأيام تغط في نوم عميق ، وتري دورها قاصرا علي تكفير بعضها بعضا لزيارة ضريح أو لتفسيرات مختلف عليها لآيات معينة . وموقفها بعد ذلك إزاء ما يجري علي أرض هذه البلاد موقف سلبي حيث يعتقد أنها إذ فعلت مما أشرنا إليه فقد أدت حق الله والإسلام والوطن والمروءة .
ولكن الهيئة الإسلامية الشعبية الوحيدة التي لم ترض لنفسها هذا الموقف هي جمعية الشبان المسلمين ، وذلك بفضل رئيسها الرجل الشجاع المؤمن المناضل صاحب التاريخ المجيد اللواء صالح حرب – وقد ألمحنا إلي بعض مواقفه المجيدة في مختلف المناسبات – وبفضل رجال حوله أوفياء مثل عبد القادر بك مختار والدكتور يحيي الدرديري .. وإن كان يؤسفنا أن نذكر أن من أعضاء مجلس إدارة هذه الجمعية من لم يكونوا علي مستوي رئيسهم شجاعة ومروءة ونجدة ووفاء في خلال تلك الأيام الملتهبة التي كشفت عن معادن الناس . وقد يأتي توضيح ذلك في سطور قادمة إن شاء الله .
الثاني : المـلـك :
كان يكفي دليلا علي تجريم فاروق في هذه المؤامرة الدنيئة أنه هو الذي كان محتضنا حزب السعديين منذ حكومة أحمد ماهر إلي آخر أيام إبراهيم عبد الهادي .. ومعروف أن السعديين حزب لا فائدة له من الشعب ، فهو يستمد سلطته وقوته بل ووجوده من الملك .. وما كان هذا الحزب ليجرؤ علي الانقضاض علي ما أنقض عليه من مقدرات الشعب وحرياته لولا ثقته المطلقة في تأييد السراي له ، ومباركتها اتجاهه الأثيم ... ولكننا لن نكتفي بهذا الدليل الدامغ وسوف نلجأ إن شاء الله في إثبات الإدانة إلي ما جاء في التحقيقات التي أجراها القضاء في القضية : من شهادة الأستاذ فؤاد شيرين :
في 18/3/1953 طلب الأستاذ فؤاد شيرين الذي كان محافظا للقاهرة أيام وزارة عبد الهادي للشهادة أمام المستشار محمد علي جمال الدين الذي انتدب لإجراء التحقيق ، فسأله المحقق : س – ألم تعلم باعتقال الشخص الذي كان الشيخ البنا يريد الإقامة عنده ؟ ج – لا ... لأن شئون الإخوان لم تكن تعرض علي ولا أخطر بها . والسبب في ذلك أنني كنت أخالف في رأيي السراي والحكومة في موضوع الإخوان . وهذا الخلاف كان ينصب علي حل هذه الجماعة . وقد أوضحت للأستاذ حسن يوسف وكيل الديوان الملكي في ذلك الوقت – وكانت السراي تؤيد الحكومة في موقفها من ضرورة حل الإخوان – فأوضحت له أن ذلك قد يكون له نتائج سيئة ، أذان للإخوان هيئة يرجعون إليها في تصرفاتهم ويخشونها ، فإذا حلت الهيئة لم يعد أفرادها يخشون أحدا .. ولكن لم يؤخذ برأيي .
وبعد حل الإخوان ببضعة أيام قابلت الأستاذ حسن يوسف فقال لي : إن جلالة الملك يقول لك " إننا حلينا الإخوان ولم يحدث شيء " .. وقال المحافظ في التحقيق أيضا أنه ليس لديه معلومات عن الرقابة علي الشيخ البنا إذ كان ذلك من اختصاص القسم السياسي بالاتفاق مع رئيس الحكومة ووزارة الداخلية .
(ليلاحظ القارئ أن الأستاذ فؤاد شيرين صاحب هذا الرأي المخالف للحكومة والملك ، كان المفروض أن تعزله الحكومة – جريا علي سياستها – أو تنقله إلي عمل آخر ، لكنها لم تفعل ولم تجرؤ علي ذلك حيث كانت مرتبطة بالسراي صلة قرابة ونسب .. وبهذا نجا الرجل الصالح من بطش الحكومة الغاشمة. وقد يذكرنا موقفه هذا بموقف مؤمن آل فرعون الذي حكي لنا القرآن عنه فقال : من شهادة الأستاذ حسن يوسف وكيل الديوان الملكي :
ثم استدعي المحقق الأستاذ حسن يوسف وكيل الديوان الملكي ودار التحقيق معه علي الوجه التالي : س– ألم يدر بينك وبين الأستاذ فؤاد شيرين أي حديث بخصوص جماعة الإخوان ؟ ج – ذكر أن الأستاذ شيرين زارني وأفهمني أن من المصلحة تعاون القصر مع الإخوان ، وأنه – بحكم صلته بهم – مستعد لتلقي أي توجيه من الملك .. فأخبرته بأن هذه المهمة تعتبر من المسائل السياسية وأحلته علي رئيس الديوان .. وأذكر أنني بلغت رغباته واقتراحه للملك فقال لي فيما يتعلق باقتراحه الخاص بالإخوان : أن ردك عليه في محله . س – هل لديك معلومات عن حادث اغتيال الشيخ حسن البنا ؟ ج – أذكر أن الملك اتصل بي تليفونيا في مساء يوم الحادث ، وكنت في منزلي . وأظن أنني كنت نائما . وقال لي : هل سمعت الحادث ؟ فقلت له : أي حادث ؟ فقال : الشيخ حسن البنا ضربوه بالرصاص .. وأذكر أنني قلت لا حول ولا قوة إلا بالله وأرجو ألا يكون قد أصيب وأن يكون الجناة قد قبض عليهم . فقال : لسه ما فيش تفاصيل . س – هل تعلم ممن تلقي الملك هذا الخبر ؟ ج – أنا ليس لي معلومات بهذا الشأن ، وفيه بوليس سري لذلك .. وأذكر أنه كان من عادة الملك أن يكون هو البادئ بإخبار رجال الديوان بالحوادث الهامة علي سبيل الزهو .
من شهادة محمد حسن الأمين الخاص للملك : ثم طلب المحقق محمد حسن الأمين الخاص وكان التحقيق علي الوجه الآتي : س – أما كان الملك السابق يبدي تخوفه من الإخوان المسلمين قبل حصول الحادث ؟ ج – ما فيش شك .. إنه كان يبدي تخوفه من الإخوان من ناحية أن الجماعة دول راح يقلبوا نظام الحكم . س – ألم يبد منه ما يدل علي رغبته في التخلص من هذا الحزب ومن رئيسه ؟ ج – كان متخوفا منهم ، ولكنه لم يبد أمامي رغبة في التخلص منه . وكل ما لاحظته بعد وقوع الحادث أنه لم يكن ممتعضا من وقوعه ، بخلاف ما لاحظته عندما قتل النقراشي حيث كان متأثرا جدا في حين أنه وقت مقتل الشيخ حسن البنا لم يظهر أي تأثر بتاتا . س –ذكرت في أقوالك في قضية مقتل الضابط عبد القادر طه أن الضابط محمد وصفي قال إنه سينفذ الجريمة أي قتل عبد القادر طه بواسطة ضابط وعسكريين ، فهل ذكر اسم هذا الضابط والعسكريين ؟ ج– لم يذكرهم وإنما أورد هذا في سياق حديثه لأحمد كامل قومندان بوليس السراي ، وسمعت وصفي يقول لأحمد كامل أن دول هم اللي قتلوا الشيخ حسن البنا . س –ألن تسأله عن أسمائهم ؟ ج– أنا لم أسأله ، وما أعرفش إذا كان أحمد كامل يسأله أم لا .. ووصفي كان بيقول هذا الكلام اعتدادا بنفسه ، وبيقول أنا عندي رجالة وفيه عسكريين رايح أنقلهم من الصعيد ، وقال إن دول أولاد قتالين قتله ، ويقتلوا ولا يهمهم . وقال لنا أهم دول اللي قتلوا حسن البنا عيني عينك ولم يذكر أسماءهم ... ووصفي قال كمان أنه بعد ما أصيب سن البنا هو راح المستشفي بقصد أنه إذا كان حيا يخلص عليه . من شهادة أحمد كامل : ثم استدعي المحقق أحمد كامل قومندان بوليس السراي وسأله عن شعور الملك السابق نحو الإخوان فقال : " كان الملك متخوفا من الإخوان كثيرا ، لدرجة أنه كلفني في ذلك الوقت أن أشدد الحراسة عليه في تنقلاته ، وعمل حواجز حديدية علي الأبواب الرئيسية لسراي القبة وعابدين لإجبار السيارات الداخلة إليها علي الوقوف والتحقق ممن فيها – كما طلب مني إخراج المستخدمين والموظفين الذين ينتمون إلي جماعة من السرايات والتفاتيش الملكية – واعتقادي الشخصي أن هذا الحادث ارتكب لحساب الملك السابق والحكومة " .
الثالث : الأحـزاب :
أ – مصر الفتاة :
كان موقف مصر الفتاة موقفا كريما ، وقد وضح للقارئ ذلك من مرافعات الأستاذ أحمد حسين في قضايا الإخوان ، كما وضح في كلمته التي نشرها في جريدة المصري حين رجع إلي مصر من زيارة قام بها إلي انجلترا .
ب– اللجنة العليا للحزب الوطني :
ونحب أن نذكر القارئ بأن هذه اللجنة هي شيء آخر غير الحزب الوطني . وهي مجموعة من شباب الحزب الوطني أرادت أن تحمل الحزب علي الاحتفاظ بمبادئه التي وضعها مؤسسة مصطفي كامل فلما يئست من استجابة كبار رجال الحرب انفصلت عنه وحملت هي مبادئ مصطفي كامل ورأسها الأستاذ فتحي رضوان . وهذه اللجنة لم تأل جهدا في الدفاع عن الإخوان حتى في عنفوان المحنة مخاطرة في ذلك بمستقبلها ، فلقد كانت الهيئة الوطنية الوحيدة التي لجت لدي حكومة النقراشي باشا علي حل الإخوان المسلمين عندما صدر هذا الأمر ، فقد نشرت جريدة " المصري " في 8/2/1950 تحت عنوان " اللجنة العليا للحزب الوطني تعترض علي أمر حل الإخوان المسلمين " ما يلي : تلقينا من الأستاذ فتحي رضوان البيان التالي باسم اللجنة العليا للحزب الوطني :
" حينما نشر الأمر العسكري رقم 63 في 8 ديسمبر 1948 قاضيا بحل جمعية الإخوان المسلمين ، أذاعت اللجنة العليا للحزب الوطني بيانا – الذي لم تأذن الرقابة وقتذاك بنشره – إنها لا تحتج علي حل هيئة الإخوان المسلمين تشيعا لها ولا تشيعا ضد خصومها ، وإنها تصدر في ذلك الاحتجاج عن حرص علي نص الدستور وروحه .. وقد كفل الدستور في المادة 21 في ذلك الاحتجاج عن حرص علي نص الدستور وروحه .. وقد كفل الدستور في المادة 21 للمصريين حق تكوين الجمعيات .. ثم قال .
ونحن نذكر اليوم ما ذكرناه بالأمس من أنه لا توجد هيئة سياسية لم ينسب إلي أفراد أو جماعات من التابعين لها ارتكاب الجريمة أو الجرائم . وقد صدرت أحكام ضد البارزين في كل هيئة سياسية في مصر – ومع ذلك لم يقل أحد أن هذه الهيئات تتحمل وزر عشرة أو عشرين من أعضائها . ولعل من أبلغ الأمثلة علي أن ما يلقيه التطاحن السياسي علي الأحزاب والجماعات السياسية من ظلال الجريمة يكون ظالما أو علي الأقل يكون عارضا يزول مع الزمن أن غاندي وهو الداعي إلي المسألة قضت عليه محكمة الهند أكثر من مرة علي أساس مسئوليته عن جرائم التخريب والشغب والقتل . ونحن لا نزال أن المرحومين ماهر والنقراشي اتهما بالقتل ولم ترتض بريطانيا الحكم الصادر ببراءتهما " .
جـ - حزب الأحرار الدستوريين :
أما حزب الأحرار الدستوريين ومعه المستوزرون وهم الذين كانوا يسمون بالمستقلين ، فقد سجلوا علي أنفسهم الخزي والضعة ، لقد كانوا يتهربون من لقاء الأستاذ المرشد العام ، فإذا زار أحدهم أمضي الجلسة يتلفت يمينا وشمالا خوفا من أن يراه أحد مع الأستاذ المرشد فيبلغ رئيس الوزارة فيغضب عليه . ولقد عبر الأستاذ محمد يوسف الليثي – وقد كان أكثر شخص اتصالا بالأستاذ المرشد في تلك الحقبة – عن ذلك فقال : أن الأستاذ المرشد كان يحس بمرارة من خسة هؤلاء الناس وجبنهم حين كان يزور بعضهم علي أمل أن يجد منهم من يكون وسيط خير بينه وبين الحكومة . ولقد كان يزور واحدا منهم ومعه شقيقة عبد الباسط فإذا بالرجل يفزع ويسأل : من هذا الذي يرافقك ؟ فهذا الأستاذ من روعه وقال له لا تفزع إنه شقيقي عبد الباسط البنا . أما موقف حزب الوفد فنري أن نؤجله حتى توضحه فصول قادمة إن شاء الله .
د – الحزب الوطني : ... والحزب الوطني – كما سبق لنا الحديث عنه – هو بحكم نشأته ، وبمقتضي دستوره الذي وضعه مؤسسه مصطفي كامل رحمه الله ، وارتضاه صحبه وأنصاره. هو أقرب صورة من الأحزاب السياسية - إلي هيئة الإخوان المسلمين – فهو يؤمن به الإخوان من الرابطة الإسلامية والامتداد التاريخي الإسلامي والتربية الإسلامية .. ولا أزال أذكر حتى الساعة أنني كنت وأنا صغير أسمع والدي وأعمامي –وكانوا يمثلون قيادة الحزب الوطني في رشيد في إبانه – يتحدثون عن المسرحية التي كلفهم الحزب بتمثيلها أمام الجمهور ، وقاموا هم بتمثيل الأدوار الرئيسية فيها ، وهي تشرح للمشاهدين المعاني الإسلامية العليا والروابط الأخوية بين المسلمين في بقاع الأرض والتي قامت علي أساسها الدولة الإسلامية الجامعة الممثلة في " الخلافة " .
ولقد تعاقب علي زعامة هذا الحزب بعد مؤسسه رجلان ، أولهما محمد فريد ، وقد سار علي نهج زعيمه مصطفي كامل حتى مات مشردات غريبا – ميتة المجاهدين – وخلفه من بعده حافظ رمضان فتابع سيرة سابقيه في أول الأمر محترزا من فتنة الحكم ، فكان الحزب – مع انحسار عدد مؤيديه – رمزا للثبات علي المبادئ ، وللكفاح الحر الشريف العارف عن المغانم الرخيصة التي كان الكل في ذلك الوقت يلهثون وراءها مدعين أنهم يجاهدون . ومما تجدر الإشارة إليه أنه في خلال هذه الفترة التي تتكلم عنها قد ظهرت في أفق السياسة المصرية بدعة المفاوضة في حقوق البلاد ، في حين كانت النغمة التي ضرب علي وترها مؤسس الحزب الوطني وطرب لها الشعب كله هي " لا مفاوضة إلا بعد الجلاء " . واقتضي هذا المبدأ أن يقاطع الحزب مناصب الحكم مادام الغاصب يحتل البلاد .
فلما ظهر الزعماء الجدد وعلي رأسهم سعد زغلول فتنوا الشعب بنغمتهم الجديدة ، فتبوعهم مولين ظهورهم للحزب الوطني آملين أن تتحقق آمال البلاد بالأسلوب الهين اللين الجديد .. ومع توالي الأيام صار الوصول إلي كراسي الحكم هو الهدف الأصيل للزعماء الجدد ، وتميعت قضية حقوق البلاد . علي أن الحزب الوطني لم يقف موقفا سلبيا من الأوضاع الجديدة ، بل كان له أعضاء في مجلس النواب من أمثال محمد محمود جلال ، ومحمد فكري أباظة ، وعبد اللطيف الصوفاني ، والدكتور عبد الحميد سعيد وعدد آخر من أضرابهم ، كانوا يزلزلون بمساجلاتهم ومناقشاتهم واستجواباتهم أرجاء هذا المجلس . وكان الناس يترقبون نصوص ما يصدر عنهم في المجلس ليقرأوه بإمعان ، حيث مستقر في نفوس الناس أن هو الموقف الجاد . والرأي الأصوب والتوجيه السليم ؛ لأنه صادر عن أشخاص عرفوا مناصب الحكم وما يلازمها من ضغوط وإغراءات – وكان هؤلاء النواب فوق كل هذا موئل كل مظلوم ، وملتجأ لكل من حافت عليه السلطة . ولكن يبدو أن المسئولين في هذا الحزب قد طال عليهم الأمد ، وخيل إليهم أنهم إذا هم أدخلوا بعض التعديل علي خطتهم فإنهم قد يحققون من أهدافهم الوطنية ما لم يحققوه طيلة عهودهم الماضية – وكان هذا التعديل الذي أدخلوه هو استعدادهم للمشاركة في الحكم مع وجود جيوش المستعمر جاثمة علي صدر البلاد . وكان في هذا التعديل خروج سافر علي شعارهم العتيد . وتجاوز لمبدئهم القويم ... أدخلوا هذا التعديل الكبير علي خطتهم فانظر ماذا حققوا من وراء هذا التعديل . ماذا حقق الحزب الوطني بخروجه علي مبدئه الأصيل ؟
1 – كان من أوائل الوزارات التي اشترك فيها الحزب الوطني وزارة أحمد ماهر باشا في 9/10/1944 اشترك فيها رئيس الحزب حافظ رمضان باشا وزيرا للعدل – وكان منحه رتبة الباشوية دليلا علي رضا السراي عنه - .. وهذه الوزارة هي الوزارة التي باءت بإثمين كبيرين : أحدهما داخلي وهو التضامن مع جيش الاحتلال في إسقاط المرشد العام حين رشح نفسه لمجلس النواب في دائرة الإسماعيلية – مما أتينا علي تفصيله في الجزء الأول من هذا الكتاب .
والإثم الخارجي الذي باءت به هو استجابتها للمستعمر في إعلانها الحرب علي المحور ، فكانت بهذا الإعلان قد خرجت علي إجماع الأمة بجميع أحزابها وهيئاتها وطوائفها في وجوب أن تقف بلادنا علي الحياد .. وقد راح رئيس هذه الوزارة ضحية هذا الخروج علي إجماع الأمة . فماذا فعل اشتراك رئيس الحزب الوطني في هذه الوزارة ؟ هل استطاع أن يحول بينها وبين التواطؤ مع المستعمر ؟ وإذا فرضنا أنه حاول ذلك ففشل ، فهل استقال احتجاجا علي خطة لا يرضاها ؟ ... لم يفعل من ذلك شيئًا .
2 – وبعد مقتل أحمد ماهر خليفة النقراشي فتولي الرياسة الداخلية والخارجية ، وأبقي علي الوزارة بتكوينها الذي كانت عليه. ومعني هذا أن الحزب الوطني ظل ممثلا في هذه الوزارة برئيسه ... فماذا فعلت هذه الوزارة التي تولت الحكم في أواخر فبراير 1945 وماذا سجل التاريخ لها ؟ لم يسجل لها شيئا وإنما سجل عليها المذكرة الرزيلة المتخاذلة التي تقدمت بها إلي المستعمر للمطالبة بحقوق البلاد بعد نحو عام ضيعته في إعدادها ، فكانت علي حد قول القائل : " سكت دهرا ونطق كفرا " مما أطمع المستعمر ، وقوي مركزه ، وجعل في موقف المستجدي لا في موقف المطالب بحق مغتصب – وقد دمغت جميع الهيئات والأحزاب هذه المذكرة بالخزي والعار .
3 – ثم ختمت هذه الوزارة النكدة أيامها البغيضة بعار لا يمحي علي الزمن .. تلك هي مذبحة كوبري عباس الثانية التي نوهنا عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب ، وأصيب فيها 160 طالبا فقد منهم ثمانية وعشرون ... والفرق بين هذه المذبحة وبين سابقتها في نفس المكان عام 1936 أن الذي أمر بالضرب في الأولي ضابط انجليزي ، ولكن الذي أمر بالضرب في هذه مصري هو عبد الرحمن عمار وكيل الداخلية المصري الذي تبرأ " المصرية منه ومن وزيره الذي فوضه في ذلك.... فماذا رئيس الحزب الوطني المشترك في هذه الوزارة ؟ . ثم جاءت بعد ذلك وزارتان أولاهما برياسة إسماعيل صدقي والأخرى برياسة النقراشي مرة أخري . ولم يشترك الحزب الوطني في هاتين الوزارتين وإن اشترك رئيسه في وزارة النقراشي ثم استقال – وقد أحسنا الظن آنذاك وقلنا لعل الحزب رأي رأي أنه مخطئ في العدول عن خطته الأصيلة بعد أن جرب فعاد عليه الاشتراك في الحكم بخسران مبين .. ولكن هذا الظن قد اصطدم بتصرف عجيب من الحزب نفسه .. فبعد أن أصدر حزب السعديين الأمر العسكري بحل الإخوان واغتيل النقراشي علي أثره وأسندت الوزارة إلي إبراهيم عبد الهادي رأينا الحزب الوطني يشترك في هذه الحكومة بوزيرين هما عبد العزيز الصوفاني سكرتير الحزب ومحمد زكي علي أحد كبار أعضائه .
ولا داعي هذه المرة للسؤال الذي نسأله في كل مرة اشترك فيها الحزب عما فعل اشتراكه للبلاد من خير ، فإن مجرد اشتراكه في وزارة يعلم الجميع سمتها والظروف المحيطة بها يثير الفزع ويبعث علي الريبة والاشمئزاز ، ثم إن هذا الاشتراك قد استمر حتى بعد ارتكاب هذه الوزارة جريمة اغتيال المرشد العام !!! .
4 – ومع كل هذا الذي جنح إليه الحزب من الانغماس في حمأة السياسة المشبوهة فإن الأستاذ المرشد العام – بما طبع عليه من مرونه ورحابه صدر ، وتقديم لحسن الظن دائما ، والتماس العذر لكل من بدا منه انحراف أو تقصير – لم يسئ الظن بهذا الحزب ، ولم يفقد الأمل فيه ، بل ظل يعتبره في مقام الأقربين الأولي بالمعروف ، والأحق بأن يتشاور معهم.. فلما صدر أكر الحل كان أول من فكر في التشاور معه حافظ رمضان باشا ، بحثاً عن وسيلة لتسوية الأمور بين الإخوان والحكومة .
وقبل أن أترك مجال الحديث للأستاذ فتحي رضوان ، الذي كان أشد أعضاء هذا الحزب اتصالا بأحداث هذه الفترة ، وألصقهم بأشخاصها ، وأكثرهم معاناة لتناقضها – أراني مطالبا أن أحيط القارئ علما بما تلا وزارة عبد الهادي من وزارت حتى أصل إلي الظروف التي اضطر الأستاذ فتحي رضوان أمامها إلي الكشف عن حقائق كان يجهلها أكثر الناس فيما يتعلق بقصة الحزب الوطني مع الإخوان وقصته هو مجموعة من زملائه أعضاء الحزب نفسه . فقد أسند الحكم بعد سقوط عبد الهادي إلي وزارة ائتلافية اشتركت فيها جميع الأحزاب ومنها الحزب الوطني ، كما اشترك فيها مصطفي مرعي ممثلا للمستقلين ، وكانت برياسة حسين سري . ثم استقالت هذه الوزارة وألف حسين سري وزارة كل أعضائها محايدون أجرت الانتخابات التي أسفرت عن فوز حزب الوفد ، فألقت وزارة وفدية برياسة مصطفي النحاس وكان فؤاد سراج الدين وزير الداخلية بها .
علي غير ما هو معهود في وزارات الوفد ، ولأسباب لا يعلمها إلا الوفد نفسه ، غيرت هذه الوزارة أسلوبها ، وأخذت تصانع الملك وتلاينه مما قضي علي السبب الوحيد الذي كان يجعل الملك دائما في ضيق من وزارات الوفد حيث كان يلتمس لها الأخطاء ، ويتصيد الفرص لإقالتها والتخلص منها . ولعل هذا الشعور الجديد بين الوفد والملك قد ألقي في نفوس السعديين وأحزاب الأقلية الأخرى اليأس من أن تتاح لهم فرصة في المستقبل للاستمتاع بمناصب الحكم ، فقد سد الوفد المنفذ الذي كانوا ينفذون إليها منه ... فماذا هم فاعلون ؟ اجتمعوا جميعا وقرروا رفع عريضة موقعة منهم إلي الملك يتباكون فيها علي البلاد لما انتشر فيها من فساد في جميع مرافقها ، ويطالبون بإصلاحات في كل ناحية ... ويومئون في خلال فقراتها من طرف خفي إلي مواطن ضعف تمس الملك شخصيا .. وكانت هذه الإيماءات التي بثها السعديون بالذات بين سطورها هو بيت القصيد والأمل الوحيد – كأنهم يهددون الملك قائلين : إذا لم تنتبه إلينا وتعرنا التفاتا فسنجهر بها إلي الشعب – ونحن أعرف الناس بأسرارها ؛ لأننا نحن الذين يسرنا لك أمرها يوم كنا نعمل لحسابك ..
واستطاعت حكومة الوفد أن تحول دون وصول العريضة إلي الملك . فأخذوا في سلوك الطريق الآخر باستجواب قدمه مصطفي مرعي في مجلس الشيوخ – وهو المستقل الذي حشر نفسه وسط أصحاب العريضة ولكنه كان مستورا .. وقد كشف هذا الاستجواب حقيقته ، فقد ثبت منذ اللحظة أنه حليف إبراهيم عبد الهادي ومولاه ويده التي يبطش بها وعقله الذي يدبر به ويحيك المؤامرات . وكان الإخوان في ذلك الوقت قد خرجوا من المعتقلات ، ورأت الأحزاب التي نفذت خطة الإبادة بعينها كما رأي غيرهم أن هذه الخطة قد فشلت كل الفشل . فالإخوان عادوا كما كانوا من قبل قوة وعزما وثباتا وحيوية .. فأخذ كل حزب يتزلف إليهم ، ويتملص مما هو منسوب إليه من مساهمة في خطة الإبادة أو إعانة عليها . والآن اترك المجال للأستاذ فتحي رضوان ليروي قصة الحزب الوطني مع الإخوان في خلال الفترة العصيبة التي انصهرت في حر نارها المعادن فمازت الخبيث من الطيب :
قصـة الحزب الوطني مع الإخوان : مساجلة حزبية بين الوفد والحزب الوطني بصدد الإخوان :
في 26 أكتوبر 1950 – في عهد وزارة الوفد – نشرت جريدة الأهرام تصريحا لفؤاد سراج الدين وزير الداخلية قال فيه : أن الإخوان سيباشرون نشاطهم قبل مايو المقبل . وقد سأل مندوب " الأهرام " حافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطني في ذلك فجاء في رده : " وقد حاولت جهدي أن أقنع زملائي ممن وقعوا علي " العريضة " المرفوعة إلي جلالة الملك بالنص فيها علي وجوب إلغاء قرار حل الإخوان ولكنهم لم يوافقوا – ماعدا مكرم باشا – لأنهم كانوا في الحكم عندما صدر قرار الحل . ولما قلنا لسعادته أنه كان عضوا في الوزارة التي أصدرت قرار الحل أجاب بأنه استقال قبل صدور القرار لأسباب سياسية معروفة .. وأخذ يهاجم قرار الحل .
وفي 27 أكتوبر قالت " الأهرام " : تلقينا من الأستاذ عبد العزيز الصوفاني سكرتير الحزب الوطني الكلمة التالية " قرأت في أهرام اليوم تصريحا لفؤاد سراج الدين باشا نسب فيه إلي من يقولون بعودة الإخوان المسلمين إلي العمل وإلغاء أمر حلهم ، أنهم يتملقون هذه الجماعة باعتبارها طائفة من الجماهير – ويسألهم أين كانوا عندما صدر قرار الحل . ولما كان حضرة صاحب السعادة حافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطني هو صاحب وجهة النظر بادية الذكر ، فيكون هو المعني من فؤاد سراج الدين باشا بما قال . ولما كنت سكرتير الحزب الوطني ، وبحكم هذا المركز كنت أطلع علي ما يدور مع رئيس الحزب كما كان سعادته يخبرني أولا بأول بما يجد عنده .. أقر الآتي :
بعد أن صدر أمر حل جماعة الإخوان المسلمين زار المغفور له الأستاذ حسن البنا المرشد العام سعادة رئيس الحزب الوطني ليتبادل معه الرأي فيما يجب عمله ، وطلب إليه أن يبذل جهده لدي السلطات العليا لصالح الإخوان ، ويعمل علي رفع الحيف الذي وقع عليهم بأمر حلهم .. فقام بهذا فعلا .. ورئي أن اللجوء إلي الهيئات النيابية قد يضر ضررا بليغا إذا ما وافقت تلك الهيئات علي إجراء السلطة التنفيذية في حل هذه الجماعة . إن الناس جميعا ومنهم فؤاد سراج الدين باشا يعرفون أن رئيس الحزب الوطني ليس بالرجل الذي يعمل دون عقيدة حبا في التملق للجماهير لكسب عطفهم ؛ لأن ما يعمله دائما يصدر عن عقيدة سليمة لوجه الله والمصلحة العامة ، كما يعرف فؤاد سراج الدين باشا بل هو أعرف الناس بهؤلاء الذي يلجئون إلي تملق الجماهير والعمل علي كسب عطفهم بالطرق الخداعة الملتوية " . الأستاذ فتحي رضوان يتصدي لكشف حقيقة موقف الحزب الوطني من الإخوان في محنتهم :
وفي 29 أكتوبر جاء بالأهرام ما يلي :
لمناسبة ما نشرته " الأهرام " عن الإخوان المسلمين لمعالي فؤاد سراج الدين باشا وسعادتي حافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطني والأستاذ الصوفاني سكرتير الحزب – كتب إلينا الأستاذ فتحي رضوان المحامي ورئيس اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني مقالا روي فيه قصة الحزب الوطني مع الإخوان كما عاصرها . وفيما يلي هذا المقال .
"لما كنت قد اتصلت بالحوادث السابقة علي حل الإخوان ، والمعاصرة للأمر العسكري الذي قضي بتصفية نشاطهم ومصادرة أموالهم ، وما تفرع عن ذلك كله من اضطراب بلغ غايته بمقتل المرحومين النقراشي باشا والأستاذ حسن البنا ، فقد رأيت أن أضع تحت نظر الناس بعض ما يعين علي تاريخ هذه الحقيقة المضطربة حتى يتبين الإخوان المسلمون علي ضوئه طريقهم.
في شتاء 1948 كنت دائم الاتصال بالمرحوم الأستاذ البنا – وقد أسفر هذا الاتصال عن تفكيره رحمه الله – جديا في أن يكل نشاط الإخوان المسلمين السياسي إلي الحزب الوطني وأن يقتصر عمله هو ودعوته علي الناحية الدينية البحتة . ثم وقع الحل فاتخذ المرحوم الأستاذ حسن البنا من مكتبي مكانا يلقي فيه بعض أنصاره ويتصل عن طريقه برجال السياسة والحكومة – وفي أحد الأيام أفضي إلي أنه يود أن يكل إلي هيئة من رجال السياسة المصريين ، حزبيين ومستقلين وبعض المشتغلين بالشئون العربية والإسلامية بأمر الوساطة بين الإخوان وحكومة النقراشي باشا . وكان يؤمل أن تنجح وساطة هؤلاء الكبار في أن تخفف الحكومة من شدة إجراءات الاعتقال ، وأن تعفي من المصادرة والحل للشركات التي تمارس نشاطا اقتصاديا – وعلم الأستاذ الصوفاني بأن الأستاذ البنا عندي بالمكتب ، وأننا نتداول فيما نشأ عن أمر الحل ، فحضر إلينا واشترك في الحديث إلي ساعة متأخرة . وأحطناه علما بما كان فيه من التفكير في دعوة لجنة من الكبار تبسط للحكومة رأي الإخوان ، وتسعي بينهما بالخير والتوفيق . وأضاف الأستاذ البنا أنه كان يطمع في أن يقوم حافظ رمضان باشا بدعوة هذه اللجنة بداره ، وأن يوجه هو إلي أعضائها الدعوة .. وأخذ الأستاذ الصوفاني كشفا بأسماء أعضاء اللجنة ووضعه في جيبه ... وفي اليوم التالي ذهب إلي حافظ رمضان باشا وعرض عليه الفكرة والكشف . فنصحه حافظ باشا بأن يصرف النظر عن المشروع كله – وكان هذا آخر عهد المرحوم الأستاذ البنا بالأستاذ الصوفاني ورئيسه حافظ باشا .
كان رحمه الله يتفضل بزيارتي في كل ليلة بالمكتب . وكانت بداية الحديث بيننا قوله لي مداعبا " ماذا فعل الباشا لنا وبنا .. نسينا أم غضب علينا ؟ " وكنا نضحك . وكنت أقول له : أما قلت لك أن الخلاف بينك وبين الحكومة خلاف مبدئي لا تنفع فيه وساطة الوسطاء . وكنت تقول : هذا باب مفتوح يجب أن نطرقه حتى لا نكون في نظر الناس قد قصرنا في شيء . وعين الأستاذ الصوفاني وزيرا بعد مقتل النقراشي باشا ، واشتدت وطأة الحكومة علي الإخوان ، وضاق صدرها بمن يتصلون بهم أو يدافعون عنهم ، فرأيت من جانبي أن أرجو معالي مصطفي لقائهما في منزل مصطفي بك .. وذهب المرحوم الأستاذ البنا إلي الميعاد ومعه شقيقه الأستاذ عبد الباسط . وكان الأستاذ البنا يحمل معه مسدسه المرخص ، فتجمل بإعطاء المسدس لأخيه حتى لا يلقي الوزير مسلحا ، وخصوصا في تلك الأيام الحرجة . وتحدث هو ومصطفي بك طويلا ، واستمع إليه مصطفي بك ونزلا معا ، فإذا بهما يجدان العسكري الحارس علي دار مصطفي بك قد ألقي القبض علي الأستاذ عبد الباسط فأمر مصطفي بك العسكري بإطلاق سراح عبد الباسط .. ووصل نبأ كل هذا إلي السلطات فأحنق بعضها علي مصطفي بك وأحنق الجميع عليّ .
وعين الأستاذ الصوفاني وزيرا . وهو كما مر بك كان يلقي الأستاذ البنا ، وكان لا يكره أن يتوسط للإخوان عند رئيسه حافظ باشا ، وكان يعرف أن ما بيني وبين الإخوان ومرشدهم قبل وفاته هو الدفاع عن الحرية كمبدأ ، ومشايعة الإخوان كفكرة وطنية تدفع الاستعمار ... فكم كان غريبا أن أسمع أن " معاليه " ذهب إلي مكتب دولة رئيس الوزراء ينقل إليه ما اتصل بعلمه من أنباء تعاوني مع الإرهابيين من الإخوان . ولما كانت الأقدار قد ساقت الأستاذ مصطفي مرعي بك فقد استمع إلي هذا الحديث ، وأدهشه أن يكون للأستاذ الصوفاني من مصادر الأخبار ما لم يتوافر لرئيس الوزراء نفسه ووزير الداخلية بالذات . ورأي أن خير ما يصرف به هذا الحديث " الخطر " هو أن يسأل عن رأي الأستاذ الصوفاني في بيان اللجنة العليا – التي أتشرف برياستها – في الأحكام العرفية ومحاولة مدها .. وأدرك رئيس الوزراء أن بين رأي اللجنة العليا في الأحكام العرفية والأخبار التي وصلت إلي علم الوزير الصوفاني بك صلة لا تخفي علي لبيب . وعرض أمر الأحكام العرفية علي مجلس الوزراء . وانقسم المجلس إلي فريقين : فريق يري مدها ستة أشهر ، وفريق يري إطالة عمرها عاما .. وكان من رأي وزيري اللجنة الإدارية التي يرأسها حافظ باشا رمضان أن يطول عمر الأحكام العرفية عاما .. وكان معني ذلك أن تطول مدة اعتقال المعتقلين عاما علي الأقل . ولا يفوتنك أن المبرر الوحيد عند الحكومة في ذلك الحين لإبقاء الحكومة علي الأحكام العرفية هو جهادها ضد الإخوان المسلمين ودعوى اضطراب الأمن . ولم يكن ثمة سبب لاضطراب الأمن عند الوزارة الإبراهيمية إلا الإخوان ونشاطهم " اللعين " . فإذا أضفت إلي هذا كله أن القبض والاعتقال والتفتيش العسكري والتشريد العرفي استمر في عهد وزارة إبراهيم عبد الهادي كله ولم ينقطع يوما ، وأن وزيري اللجنة الإدارية المتشرفة برياسة حافظ باشا في وزارة إبراهيم باشا بقيا إلي آخر عهدها –مكن لك أن تعرف مدي عطف الأستاذ الصوفاني ورئيسه علي الإخوان ، ومدي اعتقادهما في صحة المثل الأعلى الذي تدافع عنه هيئة الإخوان وتؤمن به". ملاحظات علي بعض ما جاء في حديث الأستاذ فتحي :
أولا: تفكير الأستاذ المرشد العام في أن يكل نشاط الإخوان السياسي إلي الحزب الوطني ، واقتصاره هو علي الناحية الدينية البحتة ، أمر لم يكن لي به سابق علم حيث كنت في ذلك الوقت بعيدا عن القاهرة ، ولكنني لا أستبعده ، فالأستاذ رحمه الله كان رجلا لبيبا مرنا ، واسع الحيلة ألمعيا ، وكان قد رأي غيوم المؤامرات – التي أومأنا إليها – تتجمع في الأفق حتى أوشكت علي سده .. فأراد بهذا الأسلوب أن يشق لدعوته منفذا تنقذ منه مؤقتا ، قبل أن تطبق عليها هذه الغيوم إطباقا كاملا فلا تجد منفذا .. حتى إذا أفلتت من هذا الإطباق عملت بعد ذلك علي تفتيت هذه الغيوم واسترداد ما وزعته من مسئوليات الثقال في أثناء تفادي الإطباق . وإلا فهو – رحمه الله – كان خير من يعلم أن فصل ما يسمونه " السياسة " عن الدين أمر لا يمكن تصوره بالنسبة للإسلام ولا في الخيال ، كما كان يعلم أيضا أن الحزب الوطني بتركيبه الذي كان عليه في تلك الأيام لا يصلح لحمل مثل هذه المسئولية .. ولعله – رحمه الله – كان يهدف من وراء ذلك أن يدخل الطمأنينة إلي نفس الملك الذي كان أحد الأصابع المحركة في جهاز المؤامرات المتربصة بالإخوان خوفا منهم – ويعلم أيضا – رحمه الله – أن الحزب الوطني في أسلوبه المستوزر الجديد أصبح من الأحزاب المرضي عنها من الملك .. ولكنه أي هذا الحزب لا يزال علي كل حال أقلها سوءا .
ثانيًا : جاء بصدد الوزير مصطفي مرعي في حديث الأستاذ فتحي ذكر واقعة تعرض لها الأستاذ محمد الليثي في حديث له نشر " بالأهرام " بعد حديث الأستاذ فتحي .. وربما نقلنا بعض هذا الحديث وشيكا إن شاء الله لما فيه من أضواء ألقاها الأستاذ الليثي علي شخصية الأستاذ مرعي وما لعبته من أدوار في قضية اغتيال المرشد العام .. وأستطيع أن أقول أن الواقعة التي أوردها الأستاذ فتحي في حديثه عن الأستاذ مرعي .. ربما كانت واقعة بذاتها تمت عن طريق الأستاذ فتحي دون علم الأستاذ الليثي ، وأنها وقعت قبل أن نبدأ اللقاءات الرسمية التي كلف بها الأستاذ مرعي من رئيس الوزراء والتي تمت في منزل اللواء صالح حرب .
ثالثًا : بمناسبة ما ذكره الأستاذ فتحي عن رأي وزيري الحزب الوطني في وزارة عبد الهادي بصدد مد الأحكام العرفية ..نضيف أن أحد هذين الوزيرين وهو محمد زكي علي باشا كان وزيرا أيضا في وزارة حسين سري باشا التي خلفت وزارة عبد الهادي. وأعلنت هذه الوزارة أنها ستعود بالبلد إلي حالتها الطبيعية ، وكان مفهوما أن الحالة الطبيعية هي رفع الأحكام العرفية ، غير أنها توانت في ذلك . فشنت جريدة المصري حملة ضد إبقاء الأحكام العرفية .. وكانت هذه الحملة في صورة استفتاء للرأي العام في هذه القضية . وقد وجهت السؤال في هذا الشأن إلي عدد كبير من رجال يمثلون قطاعات الرأي العام . وقد استمر الاستفتاء نحو أسبوعين .
وفي نهاية المدة كتبت " المصري " تلخص نتيجة الاستفتاء فقالت – وكان ذلك في 25/10/1949 -:
"الآن بقي أن نذكر من امتنع عن الإجابة علي سؤالنا: معالي محمود غالب باشا (سعدي) – معالي علي أيوب بك (سعدي) معالي محمد زكي علي باشا (وطني) – الدكتور نجيب محفوظ (طبيب) ... وعلقت الجريدة علي إجابة محمد زكي علي باشا حين رد علي سؤال الجريدة بصدد الأحكام العرفية بقوله: " ليس لي رأي " ... فقالت الجريدة: كم كنا نتمنى أن يكون لمعاليه – وهو الوزير المسئول – ورأي في هذه المسألة ، ولكن ما كل ما يتمني المرء يدركه. وهذا الوزير كان في ذلك الوقت وكيلا لجمعية الشبان المسلمين . فلما مثل للشهادة أمام المحكمة في 18/11/1953 – بعد طرد معبودهم فاروق – وأخذت المحكمة في توجيه الأسئلة إليه بشأن حسن البنا ، كان هو الشاهد الوحيد الذي أخرج منديله ليمسح دموعه التي ذرفها حزنا علي فقده ، وحين سئل المحكمة عن أخلاقه قال : أخلاقه .. هو حد يشك في أخلاقه ؟ .. وكانت مفاجأة أن سمحت المحكمة لشاهد آخر هو الأستاذ محمد الليثي بمواجهة هذا الشاهد . فقال الليثي : " أنا لم أذهب إلي الأستاذ محمد زكي علي بمكتبه بالوزارة إلا بناء علي توجيه من الأستاذ عبد القادر مختار والدكتور يحيي الدرديري ؛ لأني أعلم أن الأستاذ زكي علي كان غير موافق علي حضور الشيخ البنا إلي الجمعية بعد حل الإخوان ، وإنني لم أذهب إليه لأستشيره بل ذهبت إليه لأستعين به بوصفه وزيرا لكي يمكنني من الإدلاء بأقوالي في النيابة .. ولكنه قال لي أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك ؛ لأنه وزير . وأنه لم يقل لي كل الحقيقة ، بل قال لي أنهم يقولون أن هذا رجل مجرم ويقصد بذلك الشيخ البنا – ولكن مافيش مانع إنك تقول الحقيقة .
ولما استدعته النيابة لسماع أقواله في هذه الواقعة غضب علي وأبدي استياءه ؛ لأني ذكرت اسمه في التحقيق ، وأعرب عن هذا الشعور عندما طلب منه اللواء صالح حرب في إحدى المناسبات أن يجلس في مكتبي فلم يقبل وقال : حد الله ما بيني وبينه .. وذلك بعد أن سمع شهادتي أمام المحقق . وأنا لما نشرت بيانات عن الحادث في جريدة المصري احتج الأستاذ زكي علي في مجلس الإدارة وطلب فصلي فلم يوافقه الأعضاء . وأما عن زعل الأستاذ زكي مني فلم يكن لأجل تغيير النمرة ، وإنما لأني عرضته لغضب الأستاذ إبراهيم عبد الهادي عندما كان رئيسًا للوزارة " . وهنا رد الأستاذ زكي علي قائلا : إنني لم كن أكره الشيخ البنا بل إنني كنت أعلم أن الشيخ البنا يريد أن يدمج الإخوان والشبان في جمعية واحدة ، وأنا كنت ضد هذا الرأي ؛ لأن مبادئنا تختلف عن مبادئهم .
هـ - الأستاذ مصطفي مرعي :
أما وقد أفردنا فصلا لتقييم أشخاص وإبراز مواقف في صدد ما نعالج من أحداث تلك الفترة ، فما ينبغي لنا أن نغفل شخصية هذا الرجل الذي رضي لنفسه أن يلعب الدور الذي أترك الحكم عليه للقارئ بعد أن أضع بين يديه الوقائع التي لم تكون من الوفرة والوضوح كما كان ينبغي أن تكون ؛ لأن الدور الذي أتم تمثيله وقع أكثره في الظلام الدامس الذي غطي رداؤه الأسود سماه البلاد أكثر من عام . والأستاذ مصطفي مرعي محام كبير اختاره إبراهيم عبد الهادي في وزارته المشئومة وزير دولة .. ولم يكن هو وحده وزير الدولة في هذه الوزارة . ولكنه كان من بين وزراء الدولة في هذه الوزارة الوحيد الذي اختبر لذاته ، فقد كان زملاءه مرشحين من أحزابهم أما هو فلم يكن منتسبا لحزب .. وإذا اختار إبراهيم عبد الهادي في وزارته تلك التي يعلم في قرارة نفسه المهمة المنوط بها إنجازها – والتي عرفها الناس فيما بعد – إذا اختار عبد الهادي لهذه الوزارة وزير دولة لذاته – في ظل تلك الظروف – فإنما ينتقيه علي أساس من صفات معينة ، ومقدرة خاصة تتلاءم والمهمة الموكول إلي الوزارة القيام بأعمالها . ومهمة هذه الوزارة معروفة .. وإذا كان هناك من خامرة شك في معرفتها ، فقد سجل التاريخ وسجل القضاء نوعها ومدي ارتباطها بما تم في أيامها من جرائم . كيف اختار عبد الهادي مرعي وزيرا ؟
اختار عبد الهادي هذا الوزير اختيارا شخصيا بحتا ، لما يعلم من كفاءته الفائقة لما رشحه للنهوض به من أعمال خطيرة يتوقف علي إنجازها مستقبل هذه الوزارة ومستقبل رئيسها .. وقد اجتباه لنفسه وائتمنه علي أخص خصائصه ، فكان هو رئيس الوزراء والحاكم العسكري العام ووزير الداخلية ، وكان عبد الرحمن عمار – بطل مذبحة كوبري عباس الثانية – هو وكيل الداخلية للأمن العام ، وكان الوزير المختار وزير دولة منوطا به الإشراف علي الأمن العام ... وقد أثبت القضاء أن في ديوان هذه الوزارة – وزارة الداخلية – وفي مكاتب إدارات الأمن العام بها ، قد حيكت المؤامرة الدنيئة لاغتيال المرشد العام . وربما لم يكن في وثائق تأليف وزارة عبد الهادي ما ينص علي تعيين مرعي وزير دولة لشئون الأمن العام . ولكن الأحداث ومجريات الأمور هي التي وضحت مهمته هذه من بين زملائه وزراء بالحكومة ، فقد جاء في شهادة الأستاذ محمد زكي علي وزير الدولة ، وقال لي : أحب أن تكلم رئيس الوزراء فيما يتعلق بالإخوان فقلت له : أنا مش مختص ، وفيه وزير مختص " . فسأله رئيس المحكمة : أمال مين المختص ؟ فأجاب : الأستاذ مصطفي مرعي . ومعني أن وزير دولة بوزارة عبد الهادي هو المختص بشئون الإخوان . معني ذلك أنه هو المختص بشئون الأمن العام ، لأنهما في عهد هذه الوزارة كانا مترادفين . حكومة الوفد مكنت القضاء من مسخ قضية الإمام :
وقد توالت علي الحكم بعد سقوط عبد الهادي وزارتان برياسة حسين سري ، ثم جاءت وزارة الوفد فوجدت نفسها أمام عاملين شديدي الضغط عليها ولكنهما متعارضان :ضغط شعبي جارف يطالبها بفتح باب التحقيق من جديد في قضية اغتيال المرشد العام .. هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى وجود الموصوم الأول بهذه الجريمة – الملك – علي رأس الدولة وهو المسيطر علي شئون البلاد ... وكان خروج هذه الوزارة من المآزق إرضاء لمشاعر الناس ومصانعه للملك أن أمرت النيابة باستئناف التحقيق وأوعزت إليها فأصدرت في نفس الوقت أمر بحظر نشر أي شيء عن هذا التحقيق .. فكان أمر الخطر بمثابة إفقاد هذا التحقيق قيمته ، فإذا كان هذا التحقيق قد أتاح لبعض الشهود البرءاء من كل غرض كالأستاذ الليثي أن يقول ما عنده كما رأي وسمع ، فإنه كان مجالا فسيحا في نفس الوقت للمغرضين أن يزيفوا الحقائق ويزوروا الوقائع بالطريقة التي تحقق أغراضهم وتطمس المعالم ، بحيث يهيئ للمجرمين فرص الإفلات ، ويلقي بظلال الجريمة علي البرءاء .. كان أمر الخطر الذي أصدته النيابة حماية لهؤلاء المزيفين ، فقد كانوا في مأمن من أن يفتضح زيفهم فأني للناس أن يكشفوا هذا الزيف مادام محجوبا عنهم ؟! ولكن عاملا جديدا لم يكن بحسبان رجال الحكم قد طرأ علي الموقف ، ذلك أن القضايا التي لفقها المسئولون في عهد عبد الهادي ضد بعض الإخوان قد حل ميعاد نظرها أمام القضاء العادي – بعد أن والت الأحكام العرفية – وقد طالبت هيئات الدفاع في هذه القضايا بضم ملف التحقيقات التي أجريت في قضية اغتيال المرشد العام . وأمرت إحدى هذه المحاكم بضم هذا الملف مع طبعه وتوزيعه علي أفراد هيئة الدفاع .وعن هذا الطريق افتضح السر الذي كان المتسترون علي الجريمة يريدون أن يظل دفينا . المراحل التي مر بها التحقيق في القضية :
ونحب بهذه المناسبة أن نلفت النظر إلي أن التحقيق في هذه القضية قد تم علي ثلاث مراحل :
المرحلة الأولي : في عهد وزارة عبد الهادي وحين كان محمود منصور نائبا عاما ، وقد للشهادة . وقد طوي التحقيق بعد أيام قلائل حيث لم يجرؤ أحد – أمام الإرهاب الحكومي – علي التقدم للشهادة . وقيد الحادث جناية ضد مجهول .
المرحلة الثانية : في عهد وزارة الوفد ، وقد تم التحقيق بالطريقة التي ذكرتها آنفا ، وقد أستحق أن يقال عنه إنه كان تحقيقا يجري علي استحياء ، فقد تستر صانعو الجريمة وراء قرار النيابة يحظر النشر وراحوا يختلقون قصصا كلها تزوير وكذب وافتراء .
المرحلة الثالثة : بعد أن قامت الثورة وطرد الملك فاروق . وقد تم التحقيق فيها ، ولكن طول المدة التي مرت بين ارتكاب الجريمة وبدء التحقيق في هذه المرحلة لم يتمكن التحقيق معها أن يصل إلي أغوار القضية ، وأن كان كشفت الكثير من ظروفها .. وهو التحقيق المعول عليها ، والذي تنقل عنه في بحثنا هذا من أقوال وشهادات . ادعاءات للأستاذ مرعي داحضة ومريبة :
وقبل أن نورد من أقوال الشهود وأقوال الأستاذ مرعي نفسه ما يلقي ضوءا علي حقيقة دوره ، نوجز في النقاط التالية بعض ادعاءاته التي ادعاها وتبين مخالفتها للحقيقة :
1 – ادعي أمام المحقق وأمام المحكمة أنه لم يكن له سابق معرفة بالمرشد العام إلا ما كان ينشر عن نشاطه ...
وثابت ثبوتا قطعيا أن شقيقه المرحوم الأستاذ أمين مرعي المحامي بالإسكندرية كان رئيسًا للإخوان بها في فترة خلال الأربعينيات ، وأنه رحمه الله – دعا المرشد العام لزيارة موطن أسرتهم وهي قرية من أعمال مركز فوه في البر المقابل لرشيد من النيل ، وكان والدهما رحمه الله عمدة هذه القرية . وقد حضر هذا الحفل جميع آل مرعي كما حضره عدد كبير من إخوان رشيد . فهل مثل مصطفي مرعي شقيق المرحوم أمين مرعي يجوز له أن يدعي أنه لا يعرف المرشد العام ولا يعرف عنه إلا ما يقرأه في الصحف ؟ ... نعم إن شقيقة قد فصل من منصبه في الإخوان بعد ذلك ، ولكن ليس معني هذا أن الفصل من منصب يمحو حقائق التاريخ .
2 – ادعي أمام المحققين أن الأستاذ المرشد هو الذي رغب في مقابلته. فوسط اللواء صالح حرب في ذلك .. وقد كذبه في ذلك الادعاء الأستاذ محمد الليثي كما كذبه اللواء صالح حرب نفسه ، إذ قرر أن الأستاذ مرعي هو الذي رجاه أن يهيئ له مقابلة المرشد العام في بيته ، وقد تمت المقابلة فعلا في بيت اللواء وتكررت ، وكل مرة كانت تتم بناء علي طلب الأستاذ مرعي .
3 – ادعي أمام المحكمة أنه لم يأخذ من المرشد العام بيانا عنوانه "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" ثم ادعي أنه لا يعرف شيئا عن هذا البيان ، ولم يسمع عنه.. وقد كذبه في ذلك الأستاذ محمد الليثي واللواء صالح حرب .
4 – لما أنكر أنه لم يسمع عن هذا البيان قالت له المحكمة إنه نشر في الصحف ، فادعي أنه لا يقرأ الصحف ... ولعل القارئ يري معي أن هذا ادعاء لا يستحق صاحبه حتى أن يكذب (بتشديد الذال المفتوحة).
5 – ادعي أمام المحكمة أنه إنما كان مجرد وزير دولة في وزارة عبد الهادي لا يعرف شيئا عن أعمال الوزارة وقد كذبه في ذلك الأستاذ الليثي بعبرات صدرت منه تفيد أنه كان الوزير المسئول عن الأمن العام ، وبشهادة زميله الأستاذ محمد زكي علي بأنه كان مختصا بشئون الإخوان. أضواء كاشفة علي دور مرعي من شهادة الشهود ومن شهادته نفسه :
والآن نود من أقوال الشهود ومن أقوال الأستاذ مرعي نفسه ما يؤيد ما جاء في هذه البنود الخمسة : من شهادة الأستاذ عبد الكريم منصور :
"إن المرشد رغب في السفر إلي مكان آخر غير القاهرة ، ولكن الحكومة عملت علي إبقائه فيها ليسهل اغتياله ، واتخذت مصطفي مرعي كأداة صيد فقد أخذه مرعي بأساليب ملتوية ممقوتة للعمل علي إبقائه في القاهرة ، موهما إياه بأن الحكومة ستلغي أمر الحل وتعيد الأمر إلي ما كان عليه معهم. فسألته المحكمة : يعني إيه الطرق الملتوية ؟ .
فأجاب : كان يوهمه بأنهم جادون في إعادة الإخوان ويقول له : بس لو سمحت تكتب بيانا صغيرا لإظهار حسن نية الإخوان . وكان يملي عليه بعض الألفاظ ويعارض فيها الشهيد ، وكان يحاول إقناعه بمختلف الأساليب لكتابة هذا البيان . وبمجرد ما كتب أخذه مرعي وأعطاه لرئيس الحكومة فعدلوا فيه وأحضره للشهيد وأقنعه بالتعديل ووقعه الشهيد ، ثم أخذوه وأعطوه لقاتل النقراشي وقالوا له : شوف الشيخ حسن البنا بيقول إيه حتى يزلزلوا عقيدته .
ثم قال : ودليل خبث سريرة مصطفي مرعي وسوء نيته أنه كان غير كريم في موقفه ، فقد افتري علي الشهيد أقوالا لم تحدث إطلاقا ذكرها في التحقيقات(في المرحلة الثانية) .والشهود الذين استشهد بهم مصطفي مرعي مثل صالح حرب كذبوه في أقواله.. مما يدل علي أن هناك مسألة مبيتة وأن الأمور لم يكن المقصود منها مفاوضات " .
ومن شهادة الأستاذ محمد الليثي :
"بناء علي تكليف اللواء صالح حرب لي ، اتصلت تليفونيا في أوائل الأمر قبل محاولة نسف المحكمة – بالرموز المتفق عليها – بالأستاذ البنا قلت له إن الباشا (صالح حرب باشا) يطلبك. فحضر وقابل صالح باشا الذي أفهمه أن مصطفي مرعي اتصل به ويريد مقابلته في منزل اللواء الساعة الخامسة مساء .. فلما تم هذا الاجتماع علمت أن مرعي طلب من الشيخ البنا إصدار بيان يستنكر فيه قتل النقراشي ، ووافق الشيخ بشرط أن تقف حركة الاعتقالات . فردت الحكومة البيان طالبة منه التبرؤ من الإخوان .. وأخيرا صدر البيان لكن الحكومة اعتبرته ناقصا لا يفي بالغرض المطلوب ... وبعد وقوع حادث محاولة نسف المحكمة تكررت اتصالات مصطفي مرعي باللواء صالح حرب للتفاهم علي الأوضاع وأمر المعتقلين ... وتبرم الشيخ من هذه الاتصالات غير المجدية ورفض مقابلة مرعي خصوصا بعد حادث المحكمة .. واقترح مرعي أن يقابله في منزله ... وأخيرا اجتمع به وأصدر الأستاذ البنا لمرعي بيان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " – ورغم ذلك كله زادت حركة الاعتقالات .. وتضايق الشيخ من مرعي ؛ لأنه أحس بأن يكلمه بلهجة الآمر لموظف لديه ، وشعر الشيخ بأن الأمور تزداد سوءا " . ومن مقال للأستاذ الليثي بجريدة الأهرام :
وقد نشر بتاريخ 3/11/1950 قال الأستاذ الليثي :
"وقد لعب سعادة مرعي بك في قضية الإخوان دورا خطيرا اكتنفه الغموض التام ، علي الرغم من أتنه لم يكن له أي اتصال سابق بالإخوان إلا ما عرف من أنه شقيق الأستاذ أمين مرعي رئيس جمعية الإخوان بالإسكندرية والذي أصدر فضيلة الأستاذ البنا قرارا بفصله من رياسته لهذه الجمعية في عام 1947. ولقد ترتبت علي اتصالات مرعي بك بالأستاذ البنا نتائج خطيرة ، مما جعل الأمور تسير من سيء إلي أسوأ . ونقل إلي الأستاذ البنا أن مرعي ينقل عنه أقوالا لم ترد علي لسانه ، مما زاد موقف الإخوان سوءا علي سوء وقد أيد ذلك ما جاء علي لسان مرعي في أثناء تحقيق قضية مصرع الشيخ البنا إذ قال مرعي في ذلك التحقيق أقوالا يمنع حظر النشر في هذه القضية من إذاعتها هنا (نشر هذا المقال في الوقت الذي كان لا يزال ساريا حظر النشر لما يدور في أثناء التحقيق) ولكنها تسئ بغير شك إلي ذكري الأستاذ البنا ، وتهدف إلي إهدار دمه ، فقد أراد أن يدخل في روع المحقق أن الإخوان هم الذين قتلوا الأستاذ البنا
ومن مقال آخر للأستاذ الليثي : وقد نشر هذا المقال أيضا في جريدة الأهرام في 7/11/1950 ولكنه تميز بتفصيل ومعالجة أمور خطيرة بالغة الأهمية جاء فيما يلي : "وبعد أن وقع حادث محاولة نسف محكمة الاستئناف المؤسف ، والذي كان له أسوأ الأثر في نفس فضيلة المرشد ، طلب مرعي من فضيلته أن يصدر بيانا آخر لنشره بالصحف يقول فيه بصراحة (إنه يعتبر أي حادث من هذه الحوادث يقع من أي فرد سبق له الاتصال بجماعة الإخوان موجها إلي شخصه ولا يسعه – أي الأستاذ البنا – إلا أن يقدم نفسه للقصاص ، أو يطلب إلي جهات الاختصاص تجريده من جنسيته المصرية التي لا يستحقها إلا الشرفاء الأبرياء) ولقد أوجد حادث محاولة نسف المحكمة جو صالحا مكن مرعي من الوصول إلي ما يريد من بيانات يود الحصول عليها .. وقد صدر البيان موقعا عليه من فضيلته بعنوان(ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين ) .
البيان لا ينشر في موعده :
وتسلمت الحكومة البيان ، ولكنها بدلا من أن تنشره في اليوم التالي لحادث نسف المحكمة نشرته في اليوم التالي لحادث اغتيال الشيخ البنا .. ثم قدمته لجهات التحقيق زاعمة أن الإخوان المسلمين هم الذين قتلوا شيخهم لإصداره هذا البيان . ولعل هناك محكمة لا يعلمها إلا علام الغيوب ثم مرعي بك في أن يظل هذا البيان حبيسا شهرا كاملا ، وألا يفرج عنه إلا لكي تنشره إحدى الصحف ( " الأساس " صحيفة السعديين) بالزنكوغراف تحت عنوان " النار بدأت تأكل بعضها – الإرهابيون يتقلبون علي شيخهم " .
خطاب مفترى بشأن تسليم الأسلحة :
ونشرت هذه الصحيفة أيضا قصة خطاب آخر قالت أن فضيلته أرسله قبل مصرعه بيومين إلي الحكومة ، وأعلن فيه استعداده لتسليم محطة الإذاعة السرية التي تتحدث باسم الجماعة واستعداده لتسليم الذخائر والأسلحة الباقية لدي بعض إخوانه ولم تقع تحت يد البوليس حتى الآن . وإني لأعلن هنا أن قصة هذا الخطاب غير صحيحة . وأؤكد أن فضيلته لم يرسل مثل هذا الخطاب ، وأنه قد صرح لي بأنه أبان لمن تحدثوا إليه من ممثلي الحكومة في هذا الشأن بأنه لا يعلم شيئا مطلقا عما يسمي أسلحة وذخائر أو محطة سرية .
لماذا لم ينشر الخطاب المزعوم ؟
وكان من الطبيعي أن تهتم الصحيفة المشار إليها بنشر صورة زنكوغرافية للخطاب الذي ادعت فيه أن فضيلته أبدي استعداده لتسليم الأسلحة ومحطة الإذاعة إن كان لهذا الخطاب وجود – ولكنها لم تفعل . وإذا كان فضيلته قد أرسل هذا الخطاب فما الذي كان يدعو رئيس الحكومة في ذلك الوقت إلي أن يرسل في يوم 12 فبراير – وهو يوم مصرع فضيلته – مندوبا من قبله ليتباحث مع الشيخ في مسألة ضرورة تسليم الأسلحة والذخائر والمحطة ؟ .
تهديد الشبان المسلمين :
ويقول الأستاذ الليثي : عقب صدور قرار الحل ذهب اللواء صالح وعبد القادر بك مختار والدكتور يحيي الدرديري إلي الأستاذ البنا في منزله وقالوا له : اعتبر دار الشبان هي دار الإخوان ، وفي اليوم التالي حضر الأستاذ البنا إلي دار الشبان . فلما علمت الحكومة بذلك اتصلوا بصالح حرب وقالوا له : إن هذا تحد لأمر الحل . وإذا لم تمنعوه من دخول الدار فسنطبق عليكم بنود هذا الأمر . فأصر صالح حرب وقال لي : أخل حجرة مكتبك للأستاذ البنا ، ولكن حاول ألا يجتمع معه في المكتب أكثر من ثلاثة أشخاص حتى لا يجتمع أكثر من خمسة فيطبق عليه قرار الحل . وقال لي : لا تدع الأستاذ البنا يعلم بشيء مما دار بيننا وبين الحكومة بشأنه .. وقد اشترك الأستاذ البنا في الجمعية ودفع اشتراك خمس سنوات ماضية حيث إنه من مؤسسي الجمعية (انتهي مقال الليثي) . ومن شهادة الأستاذ مصطفي مرعي أمام المحكمة :
وكان الأستاذ مرعي قد بدأ شهادته بقوله " كنت في وزارة عبد الهادي وزير دولة فقط . وعلي هذا لم يكن لي علم بنشاط الحكومة بخصوص القبض علي الإخوان أو غيرهم ؛ لأن هذا هو شأن وزارة الداخلية وحدها – وفي الأسبوع الأول من وزارة عبد الهادي اتصل بي السيد صالح حرب وأفهمني أن الشيخ البنا يطلب أن يجتمع بي فقلت له لماذا ؟ قال : لأشياء يريد أن يصارحك بها حين يلقاك . فأنا لم أعرف عن الشيخ البنا إلا ما أسمعه عن نشاطه ولم أكن أعرفه شخصيا ، ومع ذلك استجبت لطلب صالح حرب . ثم أنهي الأستاذ مرعي شهادته بأن ادعي أن الأستاذ البنا هو الذي طلب من تلقاء نفسه أن يكتب بيانا ... وجاء في مناقشة الدفاع له : ألم تقرأ جريدة المصري بعد حادث الشيخ البنا ؟ مرعي– لا أذكر . الدفاع –إزاي دي أكبر جريدة .. أولا تذكر واقعة مصادرتها ؟ مرعي –لا .. إنما أذكر أن جماعة من نقابة الصحفيين شكوا إلي من شدة الرقابة . المحكمة– ماذا تعرف عن البيان الثاني الذي أذاعه المرشد بعنوان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " ؟ مرعي– لا أعرف عنه شيئا . المحكمة– ألم تنشر الصحف هذا البيان بعد مقتل البنا ؟ مرعي –أنا مش غاوي قراءة جرايد ، ولا أعرف إلا البيان الأول . المحكمة– دا البيان نشر في جريدة " الأساس " بالذات . مرعي– هو أنا غاوي " أساس " أنا لم أقرأ " الأساس " في حياتي إلا مرتين . وأنا مندهش كيف يسمح لهذا الإنسان المدعو الليثي بنقل التحقيق حرفيا ونشره في الجرايد في حين أن التحقيق كان سريا .
وهنا وقف الأستاذ الليثي وطلب من المحكمة السماح له بتوضيح هذه النقطة فرفضت المحكمة) .
مرعي – أقول لكم كيف تمكنت من نشر مقالي في " الأهرام " ردا علي أكاذيب الليثي .. اتصلت بالأستاذ زكي عبد القادر فرحب بنشر المقال . وفي الساعة الواحدة والنصف بعد نصف الليل اتصل زكي عبد القادر وأخبرني أن الرقيب منع المقال بأمر سراج الدين . فاتصلت بسراج الدين فقال لي : النشر محظور في قضية البنا . فسألته كيف يكون محظورا علي ومباحا لليثي ؟ فقال : ما هو شأنك . فقلت له : ماهش عيب ؟ .. وذكرته بخدماتي في أيامه السود . وتمكنت من استدرار عطفه فوافق علي النشر وأدلي بنفسه بحديث " للأهرام " بأني كنت من أشد المتحمسين للإفراج عن الإخوان . عضو اليسار– إيه صلة الموضوع ده بالشهادة ؟ مرعي –أن بأقول إني نجحت في إثارة النخوة في سراج الدين . ومضي يقول : إنه مما ساعد علي إثارة الغبار حول أحد أولياء الدم اسمه عبد الكريم منصور وهو كان موظف حكومة ، فرفع دعوى تعويض والمحكمة قررت ضم ملف الموظف . وأنا كنت في إدارة قضايا الحكومة في ذلك الوقت فغاب الدوسيه وأجلت القضية ، وفوجئت بعبد الكريم منصور يرفع علي دعوى لأني ساهمت بفعلي في الضرر الواقع عليه . المحكمة – هل كنت في الوزارة عند مقتل البنا ؟ مرعي – نعم . المحكمة– ألم تصل لكم معلومات بخصوص السيارة التي استعملت في مقتل البنا ؟ مرعي –لا شأن لي بذلك . وأنا قدمت استقالتي ثلاث مرات من وزارة عبد الهادي . المحكمة– لهذه الأسباب ؟ مرعي –لا.. لخلاف بيني وبينهم . وعلشان كده كنت بعيد عن هذه المعلومات . المحكمة – يبدو غريبا أنك اطلعت علي بيان الليثي سنة 1950 ولم تطلع علي الصحف التي كتبت بعد مقتل الشيخ البنا . مرعي– أبدا .. أبدا .. لأن هذا البيان كان يهمني وله ظروف خاصة . المحكمة– ألم تذكر يوم قتل الشيخ البنا ؟ مرعي –ما أعرفش .
وهنا طلبت المحكمة الأستاذ الليثي ليقول ما عنده فقال: (إن البيانات التي نشرتها في جريدة الأهرام كان الغرض منها الوصول إلي معرفة الحقيقة في قضية الشيخ حسن البنا ..ونظرا لأني كنت قد قابلت الأستاذ فؤاد سراج الدين قبل توليه الوزارة ووعدني في هذه المقابلة بإثارة قضية الشهيد حسن البنا عند عودة الوفد إلي الحكم ، فانتهزت فرصة تولي الوفد الحكم ، وكان الأستاذ فتحي رضوان نشر في ذاك الوقت بيانا أشاد فيه بموقف الأستاذ مصطفي مرعي من الإخوان والمعتقلين .. ونظرا لأني أعرف حقيقة موقف مصطفي مرعي من الإخوان والمعتقلين من الأستاذ البنا ، فضلا عما جاء علي لسان الأستاذ مرعي نفسه في تحقيقات قضية الشهيد من أنه قال للأستاذ البنا بأنني بحثت حالة جميع المعتقلين فوجدت أن اعتقالهم له ما يبره ... كل هذه الأمور هي التي دفعتني إلي الكتابة في موضوع القضية ، ولم يكن الأستاذ مرعي هو المقصود بل إنه جاء في الطريق ؛ لأنه له دور في القضية . ولقد طلبت صراحة في بياناتي التي يدعي الشاهد بأنني نشرتها بناء علي إيحاء من الحكومة الوفدية من الأستاذ فؤاد سراج الدين وزير الداخلية أن يفي بوعده ويثير القضية ، خاصة وأن مرتكبيها من رجال وزارة الداخلية التي يتولاها . وقد نشر الأستاذ مرعي بيانا ضدي في الأهرام ، ولما طلبت من الجريدة أن تنشر ردي عليه أبلغتني بأن وزير الداخلية أمر بعدم نشر أي بيان لك . ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن الوزير نشر بيانا باسمه أشاد فيه بموقف الأستاذ مرعي من المعتقلين . الكلام موجه إلي مرعي .(وإني أطمئنك) وأقول لك بأن محكمة الجنايات التي تنظر قضية الاعتداء علي حامد جودة قررت ضم أوراق قضية الشيخ البنا استجابة لطلب الدفاع ، ووزعت ملفات هذه القضية علي أكثر من عشرين محاميا ، وكان بينهم الأستاذ ماهر الخشاب عضو مكتب الإرشاد بالإخوان المسلمين ، فأطلعني علي أقوالك التي سجلتها علي نفسك في التحقيق . فنشرتها لتأييد أقوالي التي نشرتها عنك . وأظن أن ذلك يبين لك أنني كنت أستقي معلوماتي من الإخوان وليس من الوفد كما كنت تتخيل . شهادة أحد الرقباء علي الصحف في أيام عبد الهادي :
وقد يكون مناسبا قبل أن أختم الحديث عن موقف الشخصية التي نعالج الحديث عن موقفها أن نثبت هنا شهادة للأستاذ بكر درويش الذي كان رقيبا في عهد وزارة عبد الهادي . وقد أدلي بها أمام المحكمة بعد أن أنكر الأستاذ مرعي بطريقة علمه بهذا البيان بيان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " وقد وصل به المتصل من هذا البيان إلي حد قوله إنه لا يقرأ الجرائد ... المحكمة– ما هي معلوماتك عن الحادث ؟ الشاهد الذي أعرفه قد يكون متصلا بسر العمل ، ولكن العدالة ... المحكمة– العدالة لازم تأخذ مجراها . الشاهد –أثير اليوم موضوع البيان الذي كتبه المرحوم الشيخ حسن البنا . ونشر بعد وفاته ... المحكمة– بيان " ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " ؟ الشاهد –أيوه .. وأنا كنت في ذلك الوقت رقيبا بمراقبة النشر بوزارة الداخلية . وكنت أقوم بمراقبة جريدة " صوت الأمة "بعد الحادث بيوم أو يومين علي ما أذكر طلب منا إعطاء البيان للصحف لنشره علي أساس أن يلقي في الأذهان أن الحادث كان مرجعه إلي تذمر بعض الإخوان المسلمين تذمرا أدي إلي ارتكابهم الحادث . المحكمة – هل طلب منك الإيحاء بهذه الجريدة " صوت الأمة " ؟ الشاهد– الذي أذكره أنه طلب منا هذا . المحكمة– من كان الرقيب العام ؟ الشاهد –كان الأستاذ عبد الرحمن عمار ، وكان مدير الرقابة هو الأستاذ توفيق صليب . المحكمة– وممن كنتم تتلقون التعليمات ؟ الشاهد –كان اتصالنا بمدير الرقابة . وكان هو يتلقي التعليمات من الجهات التي يتلقي منها . ولكن كان اتصال الرقباء بمدير الرقابة دائما . المحكمة– وهل أوصيت أنت إلي " صوت الأمة " بذلك ؟ الشاهد –الذي أذكره أنني نفذت التعليمات . وأذكر أني أعطيت البيان للجريدة ونشرته ولكني أظن أنها لم تنشر تعليقا عليه .
و – جريدة " المصري " : من حق هذه الجريدة – ونحن بصدد ما نعالج من قضية – أن تذكر وأن يشاد بذكرها .. ومع أن هذه الجريدة كانت جريدة حزبية ، فإنها كانت طيلة حياتها الصحفية تتلمس طريق الحق وتنتهجه لنفسها طريقا حتى مع حزبها الذي تنتسب إليه وتنطق باسمه .. رأيناها في مواقف هامة تشغب عليه ، وتقف في وجهة تريد أن تسدده ؛ لأنها تري الحق في غير موقفه. ولازلنا حتى اليوم نذكر بالدهشة والإعجاب المقالات الضافية الصارخة التي دبجها يراع الأستاذ أحمد أبو الفتح علي صفحات جريدته الأيام تلو الأيام ، رافعًا لواء العصيان حين أعلنت حكومة الوفد في عام 1950 عزمها علي إصدار تشريع يقيد حرية الصحافة .. وظل الأستاذ أحمد أبو الفتح يوالي مقالاته النارية حتى أحبط المشروع . ولقد كانت هذه الجريدة تكن نحو الإخوان عاطفة من الود – لاسيما بعد أن برزت دعوة الإخوان في أفق الحياة المصرية ، فكانت تنتهز الفرص السانحة للتعبير عن هذه العاطفة بنشر منجزات الإخوان في مختلف المناسبات والتنويه بها .. كما أنها كانت تمنع عن أن يسطر علي صفحاتها ما يعد نيلا من الإخوان إذا ما اقتضت الشهوة الحزبية ذلك . ولو لم تخاطر هذه الجريدة ، ويغش مندوبها ميدان المعركة الخبيثة التي وقعت أمام باب جمعية الشبان المسلمين في الليلة السوداء ، ويلتقط رقم السيارة ممن رآها .. ولولا مسارعة هذه الجريدة إلي طبع كمية من هذا العدد الذي به رقم السيارة وتسريب بعضها قبل أن تنتبه الرقابة .. لو لم تقدم هذه الجريدة علي هذه المخاطرة لاستطاع المجرمون أن يطمسوا معالم الجريمة إلي الأبد . شهادة مدير ومحرر " للمصري " أمام المحكمة :
ونورد بهذه المناسبة الشهادة التي أدلي بها إلي المحكمة الأستاذان محيي الدين فكري المحرر " بالمصري " ومرسي الشافعي مدير تحريرها : قال الأول : كنا موجودين في " المصري " الساعة الثامنة مساء فبلغنا الحادث ، فنزلت وأخذت معي الصور . فوجدنا عربة الإسعاف ووراءها سيارة بوليس – ووصلنا الجمعية وجمعنا معلومات . وبعد خمس دقائق أخرجنا البوليس ، ثم عرفنا نمرة السيارة التي هرب بها الجناة من كونستابلين لابسين ملكي وقالا إنهما أخذا النمرة من الأستاذ الليثي ، مع أننا لم نكن نعرف الليثي في ذلك الوقت .
وقال الأستاذ الشافعي : كان فيه رقابة علي الصحف . فأفهمت الرقيب المعلومات التي عندي . فاتصل برؤسائه وكان البوليس مهتم ليلتها " بالمصري " علي غير العادة وبينزلوا المطبعة ، وكنا ابتدينا نطبع العدد وفيه صورة للشيخ حسن البنا ورقم السيارة . وبعدين صودر العدد وتسرب منه بعض النسخ وحصل معنا تحقيق بعد ذلك . الرئيس –ما تعرفش اللي تسربت قد إيه ؟ الشاهد –حوالي ستة آلاف نسخة .. مش متأكد . الرئيس– والنسخ الثانية صدرت من غير النمرة ؟ الشاهد –أيوه .. نفذنا تعليمات البوليس فشيلنا النمرة والصورة ؛ لأنها تثير الشعور . الرئيس– طيب وما عرفتش ليه منع نشر الرقم بتاع السيارة ؟ .. عرفنا أن الصورة انشالت علشان تثير الشعور .. طيب والنمرة ؟! . الشاهد – في الوقت ده ما كانش يمكننا مناقشة الرقيب .. وإحنا فوجئنا بالبوليس داخل الجريدة . (انتهت الشهادة) . أقول : ثم تابعت " المصري " بالرغم من وجود الأحكام العرفية جهودها في نفس الاتجاه .. وقد طالع القارئ في فصل سابق من هذا الجزء من الكتاب حديث الأستاذ المرشد العام الذي كتبه مقتدا أسانيد مذكرة الحل .. وقد نقلناها عن " المصري " وسيقرأ القارئ حديثا آخر بعد قليل إن شاء الله نقلناه أيضا عن " المصري " . فلما زالت الغمة عن البلاد بسقوط عبد الهادي : أخذت " المصري " تدعو إلي رفع الأحكام العرفية .. حتى إذا خفت وطأتها – أي وطأة الأحكام العرفية – وقفت بجانب الإخوان في موضوع بالغ الأهمية يتصل بهذه الأحكام وبكيان الإخوان بعد رفعها مما نفرد له فصلا خاصا إن شاء الله تعالي .
وقد تابعت قضايا الإخوان منذ عرضت علي القضاء فكانت حريصة علي نشر ما يجري خلالها ، مبررة ما يتصل من مناقشاتها بالتعذيب وانتزاع الاعترافات بالإرهاب أو بالإغراء . "المصري" تحاول كشف دور مرعي:
وكان مما حرصت " المصري " علي التنبيه إليه وإماطة اللثام عنه الدور الخطير الذي مثله الوزير مصطفي مرعي الذي كان موضع سر عبد الهادي فيما يتصل بما تم في أيامه من إجرام .. وقد بدأت " المصري " في ذلك في 28 أكتوبر 1950 بجعلها " كلمة المصري " في ذلك اليوم بعنوان " الإخوان المسلمون " وكتبت تحته ما يلي :
"كان الإخوان المسلمون أصحاب صيحة دينية عالية ، استطاعوا بها أن يشغلوا الأذهان فترة غير قصيرة ، وأن ينقذوا كثيرا من الشباب من براثن الفراغ المقيت ، ومن ممارسة حياة اجتماعية فاسدة قد تدفع إليها ضرورات شباب متعطل. ولا ينكر منكر أنهم استطاعوا –علي هدي من إيمانهم –أن يكونوا أولي الطلائع المصرية بل والعربية جمعاء في الذهاب إلي أرض فلسطين عن طواعية لإحدى الحسنيين : استخلاص فلسطين أو الاستشهاد في سبيل استخلاصها من أيدي الصهيونيين ... وأنهت " المصري " كلمتها بالمطالبة بإعادة حقوقهم إليهم .
وفي2 نوفمبر كتبت تحت عنوان : " مصطفي مرعي بك وعد الإخوان المسلمين بالدفاع عنهم ثم أعد مذكرة كانت سبب تشريدهم ، قالت : " كان مصطفي مرعي بك في وزارة النقراشي رئيسا لأقلام قضايا الحكومة ، واتصل به المرشد العام فتظاهر بأنه معارض للإجراءات التي اتخذتها الحكومة ضد الإخوان ، ووعد بإعداد مذكرة في ذلك . فتبين أنه حتى بعد أن صار وزيرا في وزارة عبد الهادي كتب مذكرة معاكسة لذلك . ولما صار وزيرا في وزارة حسين سري باشا كان هو معارضا في الإفراج عن المعتقلين . ثم أوردت حديثا لزميل له في الوزارة هو عبد العزيز الصوفاني بك يقرر هذا المعني بالنسبة له وبأنه كان معارضا حتى في رفع الأحكام العرفية " .
ثم نشرت " المصري " ردا من مصطفي مرعي تحت عنوان " مصطفي مرعي يقول : لم أهاجم الإخوان المسلمين ولم أكن ضدهم – كنت لهم السفير الداعي إلي الهوادة والرفق والمطالب بحريتهم " . وفي رده هذا حاول أن ينفي عن نفسه ما نشر عنه من موقف معاد للإخوان . ولكن " المصري " نشرت في نفس الصحة ردا علي رده تحت عنوان " كيف أصدر الشهيد حسن البنا " بيان للناس " منع تلاوة القرآن الكريم عند دفن المرشد العام " وقالت : هذا هو رد مصطفي مرعي بك علي ما نشرناه بالأمس . وكنا نود أن يتضمن هذا الرد إجابة أو إيضاحا علي ما أثاره عبد العزيز الصوفاني بك عندما تكلم في هذه المسائل إنما كان يتكلم عن معرفة حقيقة بحكم زمالته لمرعي بك في وزارة عبد الهادي " . ثم نشرت بعد ذلك تحت عنوان " معلومات الأستاذ الليثي " ما يلي :
جاءنا من الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين ، والذي أتيح له أن يرافق الشيخ حسن البنا في أيامه الأخيرة منذ حلت جمعية الإخوان حتى يوم مصرعه . وقد أطلع بحكم هذا الاتصال علي جميع ما دار في الاتصالات التي تمت بين المغفور له الشيخ حسن البنا والمسئولين في ذلك الوقت ومن بينهم مصطفي مرعي بك – يقول الأستاذ الليثي عن رأيه في حقيقة موقف مصطفي مرعي من الإخوان المسلمين والشيخ حسن البنا عندما كان وزيرا للدولة في وزارة عبد الهادي :
رغبة مرعي بك نفسه :
"أحب أن أؤكد أن اتصال مرعي بك الشيخ حسن البنا لم يتم بناء علي رغبة من الشيخ حسن البنا ، بل تم هذا الاتصال بناء علي رغبة من مرعي بك ، وكان في اتصاله هذا ممثلا للحكومة ومتكلما باسمها ، ولذا وسط سعادة صالح حرب باشا الرئيس العام لجمعيات الشبان المسلمين ليساعده علي الاجتماع بالشيخ البنا. وكان مفهوما في أول الأمر أن مرعي بك بوصفه وزير الدولة المشرف علي شئون الأمن في ذاك الوقت – كما ذكر هو نفسه – إنما أراد الاتصال بالشيخ البنا ليتفاهم معه علي إنهاء حالة التوتر التي كانت قائمة بين الإخوان والحكومة ... ولكن اتضح بعد ذلك من المناقشات التي دارت في اجتماعاتهما أن غرض سعادته كان ينحصر في الرغبة في الحصول علي بيان من الشيخ يستنكر فيه مقتل النقراشي ويندد بحركة الإرهاب ومرتكبيها .
ولكن يحصل علي هذا البيان بسط وعودا طمأنت الشيخ البنا ، إذ صرح له بأنه وهو الوزير المسئول سيوقف بمجرد إصدار البيان حركة الاعتقال والتنكيل بالإخوان ، بل ذهب إلي أبعد من هذا ووعد بأنه سيبحث من جديد مع إبراهيم عبد الهادي مسألة الأمر العسكري الصادر بحل الجمعية ، وسيعمل أيضًا علي الإفراج عن المعتقلين علي دفعات . وطلب من الشيخ البنا كشفا بمن يري الإسراع في الإفراج عنهم لظروفهم الخاصة . ولما كان الشيخ موافقا من ناحية المبدأ علي إصدار البيان إذ أنه رحمه الله كان لا يقر الحركات العنيفة ، علاوة علي أن الوعود التي تقدم بها مرعي بك ستؤدي كما فهم الشيخ إلي الكف عن حركات الاعتقال بل الإفراج عن المعتقلين ، فإنه أقر فكرة إصدار بيان رغم ما جاء في بعض فقراته من نصوص لم تكن ترضيه .. وصدر البيان بعد ثلاثة اجتماعات متوالية عقدت بمنزل صالح حرب باشا ونشر تحت عنوان " بيان للناس " . وما أن صد البيان حتى تعذر علي الشيخ البنا مقابلة مرعي بك الذي كان يعتذر دائما عن المقابلة بانشغاله في العمل .
المعتقلـون :
أما عن المعتقلين الذين وعد سعادته بالإفراج عنهم فقد نقلوا من معسكر هاكستيب بالقاهرة إلي معتقل الطور .. وكانت أول دفعة تصل إلي الطور تضم – بين من رحلوا فيها – جميع من طلب الشيخ الإفراج عنهم لظروفهم الخاصة .. وفتح معتقل الهاكستب لاستقبال معتقلين جدد .
كيف دخل الجثمان منزله ؟
وأين كان سعادته عندما أدخل جثمان الشيخ البنا منزله وسط مظاهرة مسلحة من رجال البوليس شاهرة المسدسات والبنادق في وجه سيدات أسرته العزل من كل سلاح .. وأرغمت السيدات علي حمل الجثمان إلي النعش ، ولم يسمح لواحد من رجال هذه الأسرة بالاقتراب من الجثة .. حتى القرآن حرمت عليهم تلاوته ، كما حرم علي أسرته وأقاربه زيارة قبره ، بل اعتقل بعض محبيه ممن زاروا قبره ... وأين كان سعادته يوم كانت الحرية تهدد بهذا الشكل الخطير ؟ وما له ينسي كل هذا اليوم الصفوف محاولا أن يظهر بمظهر المدافع عن الحرية ؟ (انتهي) .
هذا .. ولعل القارئ قد لاحظ أننا في تناولنا تجلية موقف جريدة " المصري " في قضيتنا قد جاءت هذه التجلية في معظمها امتدادا لتجلية موقف الوزير مصطفي مرعي .. وأرجو بعد هذه العجالة الخاطفة أن أكون قد وفقت إلي جمع شتات ما تناثر هنا وهناك من " فتافيت " هذه الصورة التي أراد صاحبها أن يمزقها عن قصد إلي " فتافيت " صغيرة ويرسلها مع الرياح في كل جانب ، حتى لا يقوي أحد علي جمعها ..فتظل بذلك صورته الحقيقية مجهولة المعالم ، ليظهر هو بالصورة التي تروقه مما يناسب كل وقت ، ويتلاءم مع كل مقام .. وإني لأدع القارئ بعد ذلك أن يصدر حكمه علي هذه الصورة بما يوحي به إليه ضميره .
الفصل الرابع: لو ذات سوار لطمتني ؟ .. من هم السعديون ؟
قد يكون فيما أسلفنا في هذه المذكرات من سرد لتاريخ القضية الوطنية وقضية فلسطين ما يكفي لدمغ حكومات السعديين بالخزي والخيانة والعار ، ولكن رأينا مع ذلك أن نختم هذه الفصول التي استأسدوا فيها علي بني جلدتهم من أبناء هذا الوطن بنبذة تكشف عما كان تحت جلود الأسود التي تطاولوا بها علي مواطنيهم من قلوب الذئاب وأحلام العصافير . ومن حق القارئ أن يعرف الحقائق المجردة عن الشخصيات التي لعبت في تاريخه أدوارا خطيرة لازال الشعب يعاني من أثارها ويكتوي بنارها .. ومما يؤسى له أن الظروف السياسية لم تتح إلي اليوم أن يتصدي للكتابة عن هذه الشخصيات إلا للكتاب الذين تمرغوا فيما كان هؤلاء الحكام يعتصرونه من أقوات الشعب ليشتروا به الضمائر والأقلام .. فكان هم هؤلاء الكتاب حتى اليوم أن يحجبوا عن الشعب ما يعرفونه من آثامهم وجرائمهم ... وباب الشعب بعد ذلك مضللا تائها ، لا يميز بين المحسن والمسيء ، ويتقلب في المصائب يصطلي بنارها ، ويحترق في لهيبها وهو يسبح بحمد من أشعلوا منذ ثلاثين عاما فتيلها .
فكان حقا علينا أن تميط الألثمة عن الوجود حتى تبدو علي حقيقتها دون زيف أو تمويه أو تزوير ... وحين نحاول هذه المحاولة لن نلجأ إلي أسلوب القدح والقذف بجارح اللفظ ، فهذا ليس أسلوب المؤمنين ، ولكننا سننقل الحقائق المادية من سطور التاريخ المجمع عليه دون تحرير ولا تنميق ولا زيادة ولا نقصان ... ونترك الحكم بعد ذلك للقارئ وهو حينئذ علي بينة من الأمر . والتاريخ الذي ننقل عنه قد سطر ما سطر في فترتين مختلفتين : أولاهما كتب فيها ما كتب في عهد السلطة الملكية ، وهو عهد كان يحتضن هؤلاء السعديين ويحميهم حتى بعد أن أبعدهم عن الحكم ، فقد يسمح بنشر بعض أخطائهم وفضح بعض جرائمهم ، ولكنه مع ذلك لا يسمح بمؤاخذتهم ولا حتى بمساءلتهم ؛ لأنه يعتبرهم من جملة خدمه ، وقد يحتاج إليهم في يوم من الأيام . والفترة الأخرى من التاريخ هي تلك التي انقشع فيها ستار الحماية الملكية عن السياسيين المحترفين عامة بزوال الطاغوت الذي كان يحتضنهم وهي مستهل أيام ثورة يوليو 1952 ، وهي فترة زالت فيها الحوائل التي كانت تحول دون أخذ المجرمين بجرائمهم
أولاً : فترة ما قبل الثورة :
كانت وزارة إبراهيم عبد الهادي قد سقطت ، وتنفس الناس الصعداء ، وأخذوا يتنفسون في شوق أنفاسا عميقة – بعد أن كتمت أنفاسهم ردحا طويلا – وإن كان الهواء الذي يتنفسونه ليس الهواء النقي الذي تهفو إليه نفوسهم ، بل هو هواء مشوب بأذى وكدر ، ولكنه علي كل حال هواء مسموح بنفسه ، يزيل بعض ما في الصدور من حرج ... بدأت بعض الأوراق المحجوبة تتكشف وبعض الألسنة تفصح وتتكلم ... وإليك بعضا مما تكشف : (1) سفير يشرح كيف جني الجهل والأنانية علي قضية البلاد :
كان محمود حسن باشا سفيرات لمصر في الولايات المتحدة الأمريكية في خلال الفترة التي كان النقراشي باشا رئيسا لوزارته الثانية التي قررت عرض قضية مصر علي مجلس الأمن ، وقد استقال هذا السفير في عهد الوزارة نفسها بعد الانتهاء من عرض القضية علي المجلس والآن أترك له الحديث الذي نشره " المصري " يوم 13/12/1949 وهو يعالج موضوعا سبق لنا أن عالجناه ، ولكنه بإسهاب معالجة الأخصائي المتمرس ، وباعتباره أحد المحاور التي كان يدور عليها الموضوع الذي يعالجه فيقول :
"إن من حق مواطني أن يطالبوني بما أعرفه في صدد قضيتنا ، ولكني رأيت أن الوقت لم يكن مناسبا وقتئذ لتلبيتهم ؛ لأن الجمهور عند عودتي لم يكن قد هدأ من أثر الصدمة التي أصابته بسبب فشلنا في مجلس الأمن حتى جاءت حوادث فلسطين ومأساتها في جمعية الأمم المتحدة ، واندفاعنا بسببها إلي حرب أكدت الحكومة – رغم ملاحظاتي المتكررة – أنها علي أتم استعداد لها ، وهي في تأكيدها هذا لم تكن إلا منخدعة أو مخدوعة. ثم أعلنت الأحكام العرفية فقيدت الحريات ، وفرضت الرقابة علي الصحف ، وقلت أقلام الكتاب ، فحال ذلك بيني وبين سد تفاصيل القضية المصرية ، رغم ما كنت أشعر به من حق الخاصة والعامة علي ولاسيما والقضية مازالت معلقة في مهب الرياح ... وقد يكون لذكر تفاصيلها نفع لمن يريد مخلصا أن يختط خطة سليمة ناجحة أو محتملة النجاح لحل هذه المسألة التي ما عقدتها إلا النزاعات الحزبية ، والمآرب الشخصية ، والرغبة في الإعلان عن النفس ، واكتساب المجد الكاذب .
ثم ذكر كيف أفادت سورية ولبنان وإيران من عرض قضاياها علي مجلس الأمن ، منتهزة الفرص المناسبة ، منتفعة من اختلاف الدول الكبرى فيما بينها ، مكتسبة الدول إلي جانبها .. أما مصر فقد أهملت كل ذلك ، وركزت كل جهدها في مفاوضات طال أمدها كما لو كانت تعيش في عام 1936 .. وكان خليقا بها أن تعرف أن انتحاءها زاوية وحدها مع انجلترا في عزلة عن الدول الأخرى لن تفترق بعدها إلا ونحن من الخاسرين . ولعل فيما جاء علي لسان وزارة الخارجية الانجليزي في ختام فترة المفاوضات الأخيرة " أن هذا هو أقصي ما تستطيع أن تعطيه انجلترا لمصر " ما يفيد أن انجلترا تنظر إلينا نظرها إلي المستجدي لأصحاب الحق . لكنا وبكل أسف لم نلجأ إلي مجلس الأمن إلا بعد أن أمضت (وقعت) الحكومة – بالأحرف الأولي – مشروع اتفاقية مع الحكومة الانجليزية . فأصبحنا في وضع شاذ .. وأكثر منه شذوذا أن يتولي الدفاع عن قضيتنا رجال قبلوا هذا المشروع ودعوا إليه ودافعوا عنه بل وخاصموا غيرهم من أجله . إن الحكومة القائمة في ذلك الوقت لم تكن جادة في الالتجاء إلي هيئة الدولية ، بل هي اضطرت إلي ذلك تحت ضغط المعارضة والرأي العام الذي أشعرها بأنها لن تستطيع البقاء في الحكم وهي واقفة ذلك الموقف السلبي الذي كانت تقفه بعد المفاوضات . وليس أدل علي ذلك من أنها أخذت تسوف وتؤجل – تارة تحت ستار السعي في اختيار أشخاص ممثليها أو اختيار الهيئة المختصة – وأخري في انتظار انتهاء الدور البرلمانية – حتى كان صيف سنة 1947 رأت أن تتحرك بعد أن ضيعت الفرصة تلو الفرصة ، فلا هي نجحت في ضم الصفوف في الداخل ، ولا هي طرحت القضية في الوقت المناسب ، بل لعل الوقت الذي أتت فيه إلي نيويورك كان أبعد الظروف ملاءمة .
وبعد أن أثبت سيادته نصوص الخطابات التي أرسلها إلي النقراشي باشا برأيه في عرض القضية من ناحية الشروط والظروف المناسبة قال . وكان آخر خطاب مني بعد ما وصلت إلي شبه اليأس وتغيرت الظروف ، حيث عرضت قضية فلسطين علي هيئة الأمم ، وصاحب عرضها دعاية واسعة لصالح اليهود ضد العرب وضد مصر ، والتحاء الأمير عبد الكريم لمصر وما في ذلك من إثارة خواطر الفرنسيين ، ثم الانقلاب الذي حدث في المجروما صحبه من شعور متزايد بضرورة التضامن والتكاتف بين الولايات المتحدة وبريطانيا إزاء الخطر الروسي المتفاقم . يقول : ومع ذلك أصر النقراشي باشا علي المجئ إلي نيويورك ، وتمسك ببقائي في منصبي مع ما طلبته من إعفائي ... فرحت أستشير ذوى الرأي فيما يجب اتخاذه من التدابير ، واقترحت استشارة محام ذي خبرة دولية فوافقت الوزارة علي هذا الطلب . فرأيت أن ألجأ إلي أكبر مكتب في العاصمة ، وهو المكتب الذي تولي مسألتي إيران واليونان عند عرضهما علي مجلس الأمن . وكان هذا المحامي يعرفني حيث كنت ممثل مصر في مجلس الأمن عند عرض هاتين القضيتين ، فرحب بي وطلب إلي أن أزوده بالمعلومات اللازمة عن قضيتنا ووعدني بالرد في أقرب فرصة .. وراح بدوره يدرس القضية وظروفها وملابساتها ، ثم اتصل بي ليبدي جوابه ، فأحاطني علما بأن عرض القضية في القريب العاجل هو أسوأ الأوقات اختيارا ، وأن قضيتنا يجب لتوافر نجاحها أن يكون بجانبها الرأي العام الأمريكي ، ولكن الوقت الحاضر غير مناسب لذلك ، إذ كل البيئات متخوفة من الاتحاد السوفيتي واتجاهه نحو البحر وبلغاريا إلخ .. فعرض القضية ليس فقط بعيدات عن المصلحة فحسب بل هو مضر لمصر . وإن مكتب المحامي علي كل حال لا يقبل التوكيل في هذه القضية في الوقت الحاضر .. ومع كل هذا فقد أصر النقراشي باشا علي عرض القضية في ذلك الوقت وأن يكون هو وحده المتقدم بها إلي المجلس .
ملحوظة : كان من بين المقترحات التي اقترحها السفير علي النقراشي باشا لما رآه مصرا علي عرض القضية في ذلك الوقت غير المناسب ، أن تقوم بعرضها علي المجلس هيئة تضم ممثلين عن جميع الجبهات السياسية في مصر ، لعل ذلك يكسب القضية شيئا من القوة ويبطل حجة الانجليز في أن الذي يتقدم بالقضية شخص سبق أن وافق ووقع علي معاهدة بينه وبينهم وهو ملزم بتوقيعه ... وقد حدث هذا فعلا وكان من أهم الأسباب التي اعتمد عليها المجلس في رفض القضية . وإن كان المجلس قد سمي هذا الرفض تعليقا .
(2)التستر علي خيانة الجيش :
لعل القارئ الكريم يذكر أن من أهم أسباب هزيمة الجيش المصري في فلسطين أنه أمد بأسلحة وذخيرة فاسدة .. وقد قامت إحدى الوزارات التي تولت الحكم بعد إبراهيم عبد الهادي بإجراء تحقيقات في هذا الشأن كانت علي جانب كبير من الأهمية باشرتها النيابة العامة .. وقد كشفت هذه التحقيقات عن وقائع خطيرة وجنايات جسيمة .. ولكن السراي الملكية تدخلت في التحقيقات لصالح المتهمين حيث تبين أن بعضهم كان يعمل لحسابها .. فأخفيت الحقائق حتى أنها لما عرضت علي القضاء لم يجد بين يديه من الأدلة ما يكفي لإدانة المتهمين ، فحكمت المحكمة ببراءة جميع المتهمين ماعدا اثنين حكمت بتغريم كل منهما مائة جنيه .. وقد جاء في حيثيات هذه القضية التي جاءت في مائتي صفحة وحكم فيها في 5/7/1953 ما يلي :
"ثبت أن فاروق هو الجاني الأول ، جعل لنفسه حسابا خاصا باسم إدمون جهلان – أحد سماسرة الأسلحة – وأوفد ناظر خاصته أثناء تفتيش خزانة جهلان يفرض علي سلطة التحقيق أخذ أوراقه من الخزانة ..." . وفي 18 أكتوبر 1950 وتحت عنوان " النقراشي باشا وعبد الهادي باشا تسترا علي جرائم الجيش " كتبت جريدة " المصري " ما يلي :
"في الوقت الذي تعددت فيه الاجتماعات من بعض أفراد المعارضة وبعض المستقلين لوضع العريضة التي قرروا رفعها إلي جلالة الملك ... وفي الوقت الذي يريد فيه موقعو هذه العريضة أن يوهموا الناس بالحرص علي مصالح البلاد وتطهيرها من الفساد ... إلي آخر ما جاء في عريضتهم ... تسلم سعادة الأستاذ محمد عزمي بك النائب العام ملفا رسميا من الملفات التي تحتفظ بها وزارة الداخلية منذ عام 1948 ، احتوي علي مستندات علي جانب كبير من الأهمية والخطورة ، تشير إلي أن النقراشي باشا وخليفته عبد الهادي باشا تسترا واحدا بعد الآخر في منصبيهما كرئيسين للوزارة ووزيرين للداخلية وحاكمين عسكريين علي كثير من الجرائم التي ارتكبت في حق الجيش ويدور بشأنها التحقيق الآن .
تفاصيل التستر :
وترجع تفاصيل هذا التستر من جانبهما واحدا بعد الآخر إلي عام 1948 ، فقد أعلنت الأحكام العرفية في صبيحة دخول قوات الجيش المصري إلي فلسطين ، وكان من نتائج إعلانها أن فرضت الرقابة الدقيقة علي المراسلات والمخابرات التليفونية والبرقية الداخلة إلي مصر والخارجة منها . وقد حدث في خلال أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 1948 ويناير وفبراير ومارس وإبريل ويونيه 1949 – حدث خلال هذه الشهور علي وجه التحديد أن ضبطت وسجلت في محاضر رسمية مخاطبات تليفونية ورسائل تبادلت في الداخل والخارج بين ضباط من المتهمين في التحقيقات الدائرة وعملاء وسماسرة لتوريد الأسلحة ، وقد تضمنت هذه المخاطبات والمراسلات المسجلة في أحد ملفات وزارة الداخلية الرسمية اعترافات صريحة بعدد من الجرائم التي يحقق فيه الآن – كما ضبطت مراسلات هي عبارة عن خطابات بأيدي بعض المتهمين تتضمن هي الأخرى عبارات تثبت الجريمة ، وضعت كلها في ملف المضبوطات التي تعرض علي وزير الداخلية والحاكم العسكري للبت فيها . وكان النقراشي باشا وعبد الهادي باشا من بعده يطلعان بحكم منصبيهما كوزيرين للداخلية وحاكمين عسكريين علي كل هذه المضبوطات .. ومع ذلك بقيت هذه المستندات الخطيرة في الملف الذي احتواها دون أن يفكر أحد منهما في كشف ما انطوت عليه .
(3)حالة الجيش المصري عند إدخاله فلسطين :
في 28 أكتوبر 1950 نشرت المصري هذا التحقيق البالغ الخطورة في صفحتها الأولي فقالت : " وفي الحقائق التي ستوردها هنا تفاصيل جديدة علي جانب كبير من الخطورة تكشف كيف كانت حكومة السعديين تهزل في معالجتها لمصائر البلاد :
قبل بدء حملة فلسطين ببضعة أيام سافر سعادة اللواء المواوي بك إلي الحدود للإشراف علي القوات المصرية هناك التي كان قد بدئ في ترحيلها إلي مراكزها بالتدريج . وقد عكف سعادته بعد وصوله إلي الحدود علي تفقد القوات المصرية والاطلاع علي ما تملكه من أسلحة وعتاد ... وهال سعادته أن تكشف له أن هذه القوات ليست مستعدة بالمرة لأي احتمال بالاشتراك في الحرب . ولما كانت الأنباء تتحدث في ذلك الوقت بصراحة عن استعداد الدول العربية ومشاوراتها لشن حملة تأديبية علي فلسطين ، فقد رأي سعادته أن الواجب يحتم عليه أن يصارح المسئولين بحقيقة الأحوال بالنسبة للقوات المصرية التي تستعد علي الحدود ، فوضع سعادته ما يسميه العسكريون " أمر تقدير " أشار فيه بصراحة تامة إلي أن حالة القوات من حيث العتاد والأسلحة سيئة جدا ، ولاسيما إذا كانت الحكومة تفكر في الاعتماد عليها في حملة ضد الصهيونيين في فلسطين .
وعــود :
وسارعت الحكومة السعدية القائمة تطمئن قواد الجيش المسئولين عند الحدود . وتؤكد لهم أنه إذا تطور الأمر وأصبح من اللازم أن تشتبك القوات المصرية في حرب ضد الصهيونيين فستنهال الأسلحة الثقيلة والخفيفة علي الميدان ، وستمتلئ سماء المعركة بطائرات القتال المصرية التي ستكون كثيرة إلي حد يحجب الشمس عن العيون " .
السـيـارات :
وكان مما أشار به القواد في ذلك الوقت وجوب مد القوات المرابطة عند الحدود بالسيارات ، وقبل أن تصدر الأوامر إلي القوات المصرية بدخول فلسطين بليلة واحدة وصلت إلي القوات المصرية في الميدان 17 سيارة فقط من أكثر من 150 سيارة تعطلت في رمال الصحراء أثناء اتجاهها إلي الحدود . فإذا تصورنا هذا العدد الضخم من السيارات لم يتحمل عبء السفر من القاهرة إلي الحدود . فإذا تصورتا أن هذا العدد الضخم من السيارات لم يتحمل عبء السفر من القاهرة إلي الحدود لأدركنا تفاهة للرجاء في أن تعتمد القوات المصرية علي السيارات التي تيسر لها الوصول . بدء القـتـال :
وبينما القوات المصرية علي كل هذه الحال من العجز والحاجة الماسة إلي العناد والسلاح والسيارات ، صدرت الأوامر من القاهرة ببدء الزحف لتأديب الصهيونيين في فلسطين .
روح معنوية عاليـة :
ولم يسع قواد الجيش إلا إطاعة الأوامر ، وبدأ الجيش المصري الحرب وكل اعتماد قواته علي الروح المعنوية وحجها التي كانت مرتفعة إلي أقصي حد بين رجال الجيش ضباطه وجنوده ، وعلي أمل أن تبر الحكومة بوعدها فتمطر الميدان بما وعدت به من أسلحة .
أول هــدف :
وكان أول أهداف الجيش المصري الزاحف نحو مستعمرة يهودية وقد قدرت المسافة بينها وبين العريش بأربعة كيلومترات ، وكان العجز في السيارات واضحاً . ولكن الروح المعنوية المرتفعة بتت في الموقف أن يكون اتجاه الجيش إلي المستعمرة مشيا علي الأقدام . وسار الجنود البواسل يجرون ما تيسر لهم من مدافع وراءهم . وكان عليهم أن يشقوا طريقهم في حذر حتى لا تقع عليهم عيون العدو ، فاضطروا إلي أن يسلكوا مناطق صحراوية وجداول نضبت فيها المياه ، وهكذا حتى طالت المسافة بينهم وبين الهدف .. وشعر الجنود بالعطش بعد أن فرغ ما يحملونه من ماء ، وأنهكهم المشي علي الإقدام حتى أن بعض الجنود قد اضطر إلي التخفيف من حملهم ، كما اضطر بعضهم الآخر إلي ترك بعض المدافع التي يجرونها وراءهم .
العــودة :
ووصل الجنود إلي المستعمرة فعلا بعد أن قطعوا عشرة كيلومترات ، ولكنهم كانوا في حالة من التعب والإجهاد لم يسعهم معها إلا العودة من حيث أتوا .. وكانت هذه الدبابة بمثابة صدمة عنيفة لم يخفف من حدتها إلا الإيمان الجميع بسمو الرسالة التي وكل إليهم أمر أدائها .
العدو يشهـد :
واستمرت المعارك التي يشترك فيها الجيش المصري ، وأثبتت الجيش خلالها جميعا أنه قوة فعالة جعلت الخصوم أنفسهم يخشونها ، حتى أن بعض الصهيونيين في هذا الوقت طبعوا منشورًا يقع في 31 صفحة يتحدثون فيه عن بسالة ضباط الجيش المصري وجنوده . ووقعت بعض النسخ من هذا المنشور في أيدي القوات المصرية في ذلك الحين ، وكان لها أثر كبير في مضاعفة الروح المعنوية وتحبيب الجنود في التضحية والأقدام .
25 % :
وبقي فؤاد الجيش المصري ينتظرون أن تبر الحكومة بوعودها ، ولم يترددوا مع هذا في مواصلة الحرب بما يملكون من عتاد كان في مجموعة لا يزيد علي 25% مما تحتاج إليه القوات . فعلا .
معركة دير سنيـد :
وجاءت معركة دير سنيد . وقد اشتركت فيها القوات المصرية بروح معنوية عالية يمكن وصفها بأنها كانت رقما قياسيا من ارتفاع المعنوية . وكان سبب هذا هو فرح الضباط والجنود وسعادتهم البالغة بتلك الدبابة التي تسير وهم يسيرون خلفها ، فكانت أول دبابة تطأ " جنازيرها " أرض المعركة في فلسطين من جانب القوات المصرية .
الـدبابـة :
وهكذا كان حال الضباط والجنود يوم معركة " دير سنيد " . أما حال الدبابة نفسها فكان مصيبة بل مهزلة مبكية . كانت دبابة إيطالية قديمة تركتها فلول الجيش الإيطالي المنهزم أمام البريطانيين في الصحراء الغربية . وكانت خالية من كل ما تزود به الدبابات من مدافع وسلاح ، ولم يكن فيها غير " الموتور " الذي يجعلها تتحرك .. ولا يعلم لا الله وحده كيف نقلت هذه الدبابة من مكانها في الصحراء الغربية إلي القوات المصرية المحاربة في فلسطين . ومع هذا كانت هذه الدبابة – بحالها هذا – مصدر فزع ورعب كبيرين للصهيونيين المدافعين عن " دير سنيد " ومعني هذا أنه لو كانت الحكومة القائمة في ذلك الوقت ساهرة بجد علي حاجات الجيش في الميدان لكان في وسعها أن تدرك أن شيئًا من هذا الاهتمام بإعداد عدد غير كبير من الدبابات المزودة فعلا بالسلاح كان من شأنه أن يمكن الجيش المصري من القضاء علي عدوه في الأيام الأولي من المعركة ، وقبل أن يتمكن من الاستعداد والتزود بالأسلحة التي مكنته فيما بعد من الوقوف في وجه الجيش المصري . وكانت نتيجة " معركة الدبابة الواحدة " هذه أن انتصرت القوات المصرية وتمكنت من أسر 112 صهيونيا كان من بينهم طبيب اعتمدت عليه القوات المصرية بعد دخولها " دير سنيد " .
خطـر جـديـد :
وبعد أن استتب الأمر للقوات المصرية في دير سنيد بدأ الضباط والجنود يتفقدون الحصن وما حوله . وهنا تقدم الطبيب الصهيوني الأسير قائلا : هل أحميكم من الموت مقابل تمكيني من إنقاذ ابنتي الجريحة ؟ فقيل له : لك هذا إذا صدقت الوعد . فاصطحب بعض الضباط والجنود المصريين وأرشدهم إلي حقول الألغام التي ثبتت بالقرب من الحصن في طرق كانت القوات المصرية لاشك سنطرقها في تقدمها وتجوالها في هذه المنطقة .
الذخـيرة الفاسـدة :
وحديث الذخيرة الفاسدة حديث طويل . ويكفي أن نذكر منه الآن طلقات المدافع رنة 25 رطلا ، وكانت هذه المدافع بالذات هي أثمن ما يملكه الجيش في الميدان . ولقد سببت الطلقات الفاسدة التي تلقتها القوات في الميدان لهذا النوع من المدافع أن شرخ عدد كبير منها ، بل إن حادثا معينا وقع – وعلمته الحكومة في حينه في تقرير مفصل – يتلخص في أن أحد تلك المدافع قد انفجر أثناء إطلاق قذيفة فاسدة فيه فأودي بحياة كل من كانوا حوله يشرفون علي إطلاقه . وبقي القواد مع هذا ينتظرون أن تبر الحكومة بوعدها أملا في تسلمهم أسلحة وذخائر غير فاسدة ، ولكن الحكومة مضت في تصرفاتهم فراحت ترسل إلي الميدان ذخيرة فاسدة تفتك بأرواح الأبطال من أبناء البلاد
(4)موادة أعداء البلاد :
لما توالت الحكم في عام 1950 وزارة حزب الوفد برياسة مصطفي النحاس باشا أخذت تعالج القضية الوطنية بالأساليب المعتادة التي تعتمد علي التفاوض مع المستعمر واستجدائه . فلما يئست من جدوى هذه الأساليب استجابت أخيرا لصوت الشعب وأقدمت علي خطوة جريئة بإعلانها بطلان معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 وحملت لواء مقاطعة الانجليز ، والتف حولها الشعب ، واستجاب لدعوتها جميع الزعماء علي اختلاف ألوانهم ونزعاتهم .. وكان إجماعا رائعا فلما تحقق مثله في يوم من الأيام . ولكن مصريا واحدا خرج علي هذا الإجماع ، وشد عن الشعب الثائر علي المستعمر ، وذهب يتقرب إلي هذا المستعمر متحديا إرادة الشعب وجماع الأمة ، ذلك هو إبراهيم عبد الهادي باشا الذي انتهز فرصة عيد الميلاد في تلك السنة وأرسل إلي السفير البريطاني برقية يهنئه فيها بالعيد ويبعث إليه بأحسن التمنيات
ويبدو أن عبد الهادي أراد أن يمثل الدور الذي تضمنه المثل العربي الذي يقول : " رمتني بدائها وانسلت " فأوعز إلي جريدة " أخبار اليوم " أن تنشر خبرا مؤادة أن النحاس باشا أبرق إلي المستر تشرشل يهنئه . فلم يكتف النحاس باشا بتكذيب هذا الخبر في خلال تلك الفترة واستخرج منها السر الدفين ، فقد نشرت جريدة " المصري " في 30 ديسمبر 1951 ما يلي : أدعت " أخبار اليوم " أن النحاس باشا أرسل برقية يهنئ فيها تشرشل رئيس وزراء بريطانيا بمناسبة عيد الميلاد – ولكن النحاس باشا كدبها وقال أن الذي أرسل البرقية هو إبراهيم عبد الهادي وهذا نصها :
سير رونالد كامبل
أدمبره– موراى بليس عيد سعيد وأحسن التمنيات بالعام الجديد إمضاء إبراهيم عبد الهادي
العنوان – إبراهيم عبد الهادي باشا بالقاهرة المعادي .
(5)الخروج علي إجماع الأمة وتحدي شعورها :
في 26 يناير 1952 وقع حريق القاهرة . وهو حدث تاريخي كبير سيأتي الحديث عنه في حينه إن شاء الله ، ولكن حسب القارئ الآن أن يعلم أن هذا الحريق قد قوض الجهود العظيمة التي كتلت الأمة جمعاء خلف الحكومة ضد الانجليز .. والفاعل الحقيقي لهذا الحريق هم الانجليز . وقد زاد هذا الحدث الخطير المصريين علي اختلاف نزعاتهم حقدا علي الانجليز ومقتا لهم حتى إنهم قاطعوه ورفضوا التعامل معهم ... ولا عجب في ذلك فلا زالت دماء المصريين كان موقف إبراهيم عبد الهادي وسط هذه المقاطعة الإجماعية ؟! .
في 20/2/1952 تحت عنوان " شكر بريطاني لعبد الهادي باشا " نشرت جريدة " المصري " صورة لعبد الهادي باشا وهو في الكنيسة الانجليزية بالقاهرة وكتبت تحتها ما يلي :
"نشرت منذ بضعة أيام نبأ مبادرة إبراهيم عبد الهادي باشا إلي الاشتراك في الصلاة علي روح جلالة الملك جورج السادس ملك بريطانيا. وأشرنا علي التعليقات التي أثارتها تلك المبادرة من جانب دولته في الوقت الذي امتنع فيه عن الاشتراك في أية مظاهرة قومية ، كما أدي إلي ثورة أحد أعضاء الهيئة السعدية وتهديده بالاعتكاف وقد أعادت مجلة " الدعوة " التي يصدرها الأستاذ صالح عشماوي وفريق كبير من كبار الإخوان المسلمين نشر ما جاء " المصري " أول أمس في هذا الصدد . وقد علقت عليه المجلة يقولها : " ليس هذا غريبا علي إبراهيم عبد الهادي باشا ، ولكن الغريب أن يبقي هذا الرجل علي رأس حزب ولو من الوجهة الرسمية . ونضيف إلي ذلك أن دولته قد تلقي من السفير البريطاني كتابا رقيقا يشكر فيه دولته علي اشتراكه في الصلاة " .
وفي 25/2/1952 نشرت" المصري " تحت عنوان " عبد الهادي باشا يستضيف الانجليز " ونشرت صورة له وكتب ما يلي :
"عندما علم دولة إبراهيم عبد الهادي باشا كثيرا من أصحاب المباني في القاهرة رفضوا تأجير محال أو غرف لمكتبة " سميث " التي احترق محلها يوم 26 يناير ، وأن أصحاب المباني بنوا رفضهم علي أساس أن مكتبة " سميث " يملكها انجليز – عندما علم دولته بذلك بادر فأصدر أمرا بإخلاء ثلاث غرف من الدور الثالث الذي تشغله جريدة " الأساس " – جريدة حزب السعديين – واستضاف المكتبة في هذه الغرف. وقد كان لهذا التصرف الأعظم الأثر في نفس الجالية الانجليزية في مصر وقد اتصل كثير من الانجليز بدولته وعبروا له عن عظيم امتنانهم لدولته لعواطفه نحوهم في كل مناسبة . هذا وقد اقترح بعض أفراد الجالية إقامة حفل تكريم لدولته ولكن رؤى أن الوقت غير مناسب لذلك " . أما أنا فتعليقا علي هذا القول : صدق الله العظيم إذ يقول( • ) .
ثانيا – بعد قيام الثورة :
مع عدم إقرارنا للمحاكمات العسكرية والمحاكمات الخاصة باعتبارها وسيلة من وسائل التقاضي ، فإن النصوص التي نستشهد بها مما جري علي ألسنة رجال النيابة والشهود فيها هي نصوص من صميم الواقع التاريخي . لا علاقة لها بإجراءات التقاضي . وكل الذي فعلته الثورة – في إبانها – هي أنها أزالت السلطة المتحكمة في البلاد ، التي كانت تحمي اللصوص والخونة والسفاحين من رجال الحكم باعتبارهم من أدوات تحكمها ولا تسمح لسلطة القانون أن تمتد إليهم – وبإزالتها وجد هؤلاء المجرمون من الحكام أنفسهم فجأة أمام سلطة المساءلة وجها لوجه . وقد نجد أكثر التهم الموجهة إلي حكام السعديين بعد قيام الثورة هي نفس التهم التي وجهها إليهم من قبل حكام الوفد ، ولكنهم وقفوا عند حد الاتهام دون أن يجرءوا علي محاكمتهم عليها .. وحتى تلك التي جرءوا علي محاكمتهم عليها – خوفا من ثورة الجيش – تدخلت القوة المسيطرة وقتئذ وعلي رأسها الملك فسلبت التحقيقات فاعليتها – كما أشرنا آنفا – حتى لم يعد الاتهام حين قدم إلي القضاء يقوم علي قوائم من القانون . أما عند قيام الثورة فإن الجو كان خاليا من العوائق ، فوجهت الاتهامات مدعومة بأسانيدها ، وانطلقت ألسنة الشهود التي كانت ملجمة من قبل بلجام من الخوف ، وأدلي كل إنسان بما عنده . وإليك بعض الحقائق التاريخية التي تكشفت خلال هذه المحاكمة حيث كان إبراهيم عبد الهادي هو أول سياسي قد للمحاكمة وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلي الأشغال الشاقة المؤبدة . وكانت محاكمته في حقيقتها هي محاكمة عهد حزبه قبل أن تكون محاكمة شخصية له .. ولو أن سلفه النقراشي كان علي قيد الحياة وقتئذ لقدم معه في نفس المحاكمة
1 – تضاعف ثروة عبد الهادي عشرة أضعاف:
جاء في مرافعة النيابة أن ثروة إبراهيم عبد الهادي – مستقاة من المصادر الرسمية – تضاعفت إحدى عشرة مرة في ظل المناصب الحكومية التي تولاها ، فقد صارت 990 (تسعمائة وتسعين) فدانا وثلاثين ألف جنيه وكانت في الأصل تسعين فدانا .
2 – الزج بالجيش في الحرب دون أدني استعداد:
قرر الفريق محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة في أيام حرب فلسطين وأيده في ذلك اللواء موسي لطفي مدير العمليات الحربية آنذاك " أن موقف القوات المصرية بالعريش لا يسمح لها بالدخول في المعركة بالنسبة للنقص الكبير في العربات ، ولأن الموجود منها وإن كان صالحا للسير إلا أنه غير صالح للقتال – والأسلحة والذخائر الموجود منها لا يكفي للبدء في العمليات ويجب التأكد من وجود مورد ثابت مضمون لاستعاضة المستهلك منها ولتسليم الوحدات التي ستستدعي من الاحتياط للخدمة العاملة . وقرر أحمد المواوي – القائد العام للجيش المصري بفلسطين – حين سئل في اللجنة التي جمعت الضباط يوم 10/5/1948 بصراحة تامة عما يفتقر إليه الجيش وما كان يعانيه من نقص فقال :
"لا توجد وحدة ما في الجيش كاملة المعدات والتسليح ، وأذكر أنني فتشت علي الوحدات بمجرد وصولي للعريش وقدمت لرياسة الجيش كشوفا بالنقص وهي مريعة وتجعل الوحدات عاجزة تماما عن الدخول لأية معركة" . ويقول الفريق محمد حيدر في التحقيق وفي لجنة الجيش " بينت للنقراشي الحالة – وعلي الرغم من أني عارضته صمم علي دخول الحرب . وكان في ذلك تحقيق رغبة الملك بدليل حضور رئيس الديوان ، أي أن الأمر كان من السراي ، وكان فاروق يريد تزعم الدول العربية ، وهو الذي دعا رؤساء هذه الدول إلي أنشاص ولم تعلم الحكومة بأمر هذه الدعوة . وأول من اشتهي دخول الحرب هو فاروق والمسئولون عن تحقيق هذه الشهوة اثنان هما رئيس الديوان إبراهيم عبد الهادي رئيس الحكومة النقراشي .. ولو سمعا كلام اللجنة المختصة وعملا به لأقنعا فاروق بوجهة النظر الصحيحة ، ولما دخل الجيش الحرب ، ولكنهما عملا علي تحقيق شهوته – كما أيد هذا اللواء أحمد المواوي في شهادته الموجودة بهذا الملف وكذلك اللواء موسي لطفي . ومما يجب ألا ينسي أن اللواء موسي لطفي بعد أن قرر أمام النقراشي الأمر الواقع للجيش قال له النقراشي " لا تتهيب " ثم قال له " أنتم تحت أوامرنا " .
3 – تضليل البرلمان:
قرر شاهد النفي الدكتور نجيب اسكندر – عضو حزب السعديين وأحد وزرائهم – أن رئيس الحكومة النقراشي لم يكن من رأيه دخول الحرب بعدما رأي في مؤتمر بلودان .. ومع ذلك أعلن في جلسات مجلس الشيوخ والنواب يوم 12 مايو 1948 ما جاء بالحرف الواحد في المضبطة السرية لمجلس النواب يوم 13 مايو 1948 : " أن في الجيش المصري كفاية كاملة ، وأسلحة وافية ، وذخيرة متوفرة ، وأن الذي يقدم علي مثل هذا الأمر يتخذ له عدته " .
4 – إغفال المؤسسات المختصة:
قرر مجلس الجهاد الأعلى أن موضوع الدخول في حرب فلسطين لم يعرض علي المجلس ... كما قرر المحققون في هذه القضية أنه بالبحث عن قرار مجلس الوزراء في شأن الموضوع في محاضر جلسات المجلس أي أن الأمر تقرر شفويا .
5 – نماذج من طريقتهم في الحكم:
[أ] يؤلمه أن يسمع "أن واحد ماشي بالقانون" :
في أثناء محاكمة إبراهيم عبد الهادي طلب شاهدي نفي هما الأستاذ حسين رأفت واللواء أحمد عبد الهادي . وقد استدعي الأستاذ حسين رأفت وجرت شهادته علي النحو التالي وكان السائل هو المدعي : س – في أي عهد كنت مديرا (محافظا) للدقهلية ؟ جـ - نقلت إليها ومكثت مديرا لها ثلاث سنوات في عهد النقراشي وعبد الهادي . س – لماذا نقلت ومتى من الدقهلية ؟ جـ - نقلت في مايو 1949 إلي مدير عام اللوائح والرخص ، وأنا حاولت معرفة السبب الحقيقي فلم اعرف . ولكن الظروف التي كنت فيها جايز تنير الطريق – حصل بيني وبين النواب والشيوخ في الحزب السعدي سوء تفاهم ووصل لرئيس الحزب وكان رئيسا للحكومة وهو السيد إبراهيم عبد الهادي وكان سببه قرب موعد الانتخابات ، فكان لهم بعض طلبات كنت أؤخرها ، فمثلا كانوا عاوزين نقل رؤساء المدارس الأولية والمدرسين في دائرة المديرية (المحافظة) ، فأنا قلت لهم فاضل ثلاثة أو أربعة أشهر . وفيه طلبات أخري بالعمد والمشايخ وبعض الموظفين .. وكانوا بيقولوا إحنا عاوزين نهيئ أنفسنا .. قلت لهم لسه بدري ولازم أعرف سبب كل شيء – وقمت بأجازتي السنوية ، وبعدها طلبني رئيس الوزارة وقال لي إنه طلب كشف بتعديل الدوائر فقلت له : لماذا عملت هذا التعديل قبل حضوري ؟ فقال : أنت حد في تعديلها . وعلمت أنه أرسل صورة منها لرئيس الديوان ، ويظهر أن ذلك كان بناء علي طلب النواب والشيوخ .. فقلت له : مادامت أرسلت لرئيس الديوان حراجع إيه ؟ .
والسبب الثاني في نقلي أن إبراهيم عبد الهادي كان بيطلب مني طلبات ما أقدرش أجيبها .. وأنا كنت أسمع أنه بيقول إني عامل قانوني .. وكان بيؤلمه أن يسمع واحد ماشي بالقانون .. وهو اتصل بي مرة وقال : إنت اعتقلت أد إيه من الإخوان ؟ فقلت له :سبعة . فقال : سبعة ولا سبعين .. أنت منتظر لما ييجو يقتلوني ؟ .. وبعد كده قال لي : إنت بتطبطب علي المعتقلين وتوديهم المعتقل كده ؟
فقلت له : أمال أعمل إيه ؟ فقال : يا أخي اسأل إخوانك . فقلت له : اسأل إخواني ليه .. أنا أتلقي أوامري منك بس تكون في حدود القانون . فقال لي : يا أخي إنت دايما تقول لي .. قانون قانون ..؟! ... س – هل نقلت وحدك أم في حركة ؟ جـ - وحدي . وكان ذلك في عيد الجلوس . س – وهل المركز الذي نقلت إليه كان يساوي مركزك ؟ جـ - مركز المدير (المحافظ) أكبر من الناحية الإدارية .
[ب] عبدالهادي يتصل مباشرة بالضابط السنباطي متجاهلا المحافظ ؟
كان سعد الدين السنباطي أحد الضباط العريقين في الإجرام في عهد إبراهيم عبد الهادي .. وجاء دوره في المحاكمة بعد قيام الثورة عما اقترفه من جرائم التعذيب .. وقد طلب هذا المتهم الأستاذ أحمد راغب الدكروري شاهد نفي ، فاستدعته المحكمة وجرت شهادته علي النحو التالي : س – متى كنت مديرا (محافظا) للغربية ؟ جـ - في نوفمبر 1947 إلي سبتمبر 1949 حيث نقلت إلي الداخلية . س – ما هي الوظيفة التي كان يشغلها سعد الدين السنباطي في عام 1949 ؟ جـ - كان في وظيفة رئيس القسم المخصوص بمديرية (محافظة) الغربية . س – هل حصلت اعتقالات في هذا العهد ؟ جـ - أحب أن أوجه النظر إلي أن السنباطي عندما نقلت للغربية كان من الموظفين الذين وثقت فيهم كل الثقة ؛ لأني لمست فيه الكفاية والإخلاص والجد والاجتهاد ، فقربته مني ، حتى أن كثيرا من إخوانه حقدوا عليه هذه المنزلة وحذروني منه كثيرا ، وقالوا لي إنه رجل خطر .. ولكنني حملت هذا علي أنه حقد .. وظل علي هذا وأنا واثق فيه إلي أن قتل المرحوم النقراشي وظفر إبراهيم عبد الهادي بالحكم . وصحب هذا كله موجة من الإرهاب والطغيان أرسلها إبراهيم عبد الهادي في القطر كله .. وليس هناك من يجهل هذه الموجة .. و كان الغرض من هذه الحملات الإرهابية
الانتقام من الإخوان المسلمين لقتل النقراشي . في هذا الوقت تغير السنباطي ومشي في ركاب الطغيان والإرهاب ، وخرج عن وفائه لي ؛ لأنه كان أدني إلي إبراهيم عبد الهادي منه لي ؛ لأنه صنيعته في الأصل .. وكما علمت منه فيما بعد أنه من أخلص المخلصين له ، وأنه يضحي بنفسه وماله وأولاده في سبيل إرضائه . فكنت ألمس أن إبراهيم عبد الهادي كان يتصل مباشرة بسعد الدين السنباطي في كل ما يتصل بالإخوان المسلمين والاعتقالات والحبس وغير ذلك ، ويتجاهلني تماما .. وكلنا في هذا الوقت كنا نرهب هذا العهد لا لشيء إلا لأنه كان عهدا لا عقل له ، ويجوز أنه كان ينال من الأبرياء . فكان السنباطي – بصفته رئيس القسم المخصوص ، وبحكم اتصاله بإبراهيم عبد الهادي – يتصرف كيفما يشاء ، ويعتقل كيفما يشاء ، ولا معقب لتصرفاته ، فكان يعتقل ويقبض كما يريد ، وما عليه وكان يحصل بهذا علي أوامر الاعتقال . وقد لاحظت أن الحملة الإرهابية كان يصاحبها دائما تفتيشات وضبط أسلحة ومهمات كثيرة مثل الأجهزة اللاسلكية . فلما تكررت العملية بدأت التشكك في أنها صحيحة ، ولكن تشككي لم يذهب إلي حد اليقين . وكنت غير مرتاح لهذا .. ولهذه اللحظة مات أقدرش أقول أني متيقن من أن هذه الأشياء كانت تضبط فعلا أم أنها كانت للفتنة .
وفيما يختص باتصال سعد الدين السنباطي بإبراهيم عبد الهادي واستسلام عبد الهادي لطلباته .. وكان سعد الدين صاغا (رائداً) في ذلك الوقت .. فيه حادثة أقول لكم عليها :
سعد الدين في موجة الإرهاب ادعي أن هناك مؤامرة علي قتله من الإخوان المسلمين . ليه ؟ لأنه داير يقبض عليهم .. بلغني هذا . واتخذ هو بنفسه إجراءات فيها فكان محقق ومجني عليه .. فأنا أشرت أن المسألة لازم تروح النيابة .. وبدأ التحقيق فيها رئيس النيابة .. ولأن القضية فيها مؤامرة علي قتل موظف كبير ، حبيت أشوف التحقيق ماشي إزاي . فذهبت إلي البندر ووجدت رئيس النيابة أمامه أحد المتهمين وكان يسأله عن نقطة معينة أنكرها المتهم . فرئيس النيابة قال له : إن زميلك اعترف بها . فأجابه بأنه يمكن اعترف ؛ لأنهم عذبوه كما عذبوني . فأراد رئيس النيابة أن يسأله عن وقائع تعذيبه . فهاج سعد الدين السنباطي وثار وترك التحقيق وانصرف قائلا لرئيس النيابة : إنت بتسيب التحقيق الأصلي وعاوز تحقق في التعذيب ؟ .. أنا الحقيقة ذهلت .. ماذا أستطيع أن أفعله .. بعد ما سابنا ومشي حاولنا أن نعيده مارضيش إلا بعد نصف ساعة محايله .. وأنا وجدت إني أحسن ما أقعدش فخرجت ورحت قعدت في النادي .. ثم قابلت سعد الدين فقال لي : هذا ليس بتحقيق ؛ لأن رئيس النيابة يترك الموضوع الأصلي ويحقق ضدنا في التعذيب ... ومع هذا هو مش رايح يحقق القضية ، أنا اتصلت بإبراهيم عبد الهادي ووعدني أن النائب العمومي سيصل باكر صباحا لسحب التحقيق منه .
لم أستغرب ولكني برضه استكترتها .. فقعدت أفكر وأنا زعلان منه ؛ لأنه أساءني ومس كرامتي وجت الحكاية دي .. ولو تم ما قاله سعد الدين تبقي هذه الجريمة – جريمة سحب التحقيق من رئيس النيابة – لإني أعتبرها جريمة – تقع علي عاتق مين ؟ سعد الدين السنباطي ولا إبراهيم عبد الهادي ولا النائب العام ؟ انتظرت للصبح فسمعت أن النائب العام وصف للأسف .. رحت أشوف النائب العام فوجدت النائب العام بنفسه ومعه ثلاثة من مفتشي النيابة – سلمت عليه ثم فهمت منه بأنه جاي يفتش فوجد أن رئيس النيابة مشغول بقضية كبيرة وفيه شغل تاني كتير ، وأن رأي من صالح العدالة إنه يسحب التحقيق منه ويعطيه لمفتش النيابات ليتفرغ هو إلي الشغل العادي .. وقد كان وبكل أسف وسحبت القضية من رئيس النيابة .
رئيس المحكمة – من هو النائب العام في ذلك الوقت ؟ جـ - الأستاذ محمود منصور .
بعد كده دلني هذا علي شيء هو أن فيه تعذيب .. ولو لم يكن فيه تعذيب ماكانش سعد الدين ثار واتصل برئيس الحكومة ، ولا كانش رئيس الحكومة يسوغ له العبث بالعدالة . لكن من المسئول ؟ ... هذه المسألة أتركها لكم . س – ألم يصل إلي علمك أن رئيس الحكومة نكل برئيس النيابة وعطل ترقيته ؟ جـ - سمعت فيما بعد من رئيس النيابة أنه كان مدرجا ضمن المشرحين للترقية ، ولما عرض علي إبراهيم عبد الهادي شطبه وآخر ترقيته . وأنا قلت لرئيس النيابة – ولم يكن يعرف السبب الحقيقي – لا يا أستاذ حصل كذا وكذا وحكيت له حقيقة اللي حصل .
[ج] البوليس السياسي في عهدهم:
وجاء دور اللواء أحمد عبد الهادي حكمدار القاهرة (مدير أمن القاهرة) في عهد عبد الهادي لأداء الشهادة فسئل عن البوليس السياسي (وكان يسمي أيضا بالقسم المخصوص) فأجاب : " ضباط البوليس السياسي لم يكونوا خاضعين للحكمدار ، وإنهم يكتبون تقاريرهم من ثلاث صور : إحداها ترسل للسفارة البريطانية والثانية للسراي والثالثة للوزارة " وبعد فهؤلاء هم الذين كانوا يحكمون البلاد في تلك الأيام ... ومن هؤلاء .... جاءت مذمتنا ... ورحم الله أبا الطيب إذ يقول : وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل .
الفصل الخامس: هذه القضية .. تطورها الإجرائي أمام القضاء
في سجلات النيابة العامة والقضاء نقرأ أطوار هذه القضية في الخطوط الرئيسية التالية :
أولا : وقعت الجريمة في الساعة الثامنة من مساء يوم السبت الموافق 12 فبراير 1949 أمام مبني جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة .
ثانيا : أجريت تحريات وتحقيقات وقتئذ لم تسفر عن معرفة الجناة ، وانتهي الأمر بحفظ التحقيق مؤقتا ، وكان ذلك في عهد النائب العام محمود منصور .
ثالثا : استأنفت النيابة التحقيق في عهد وزارة حسين سري ثم في عهد وزارة الوفد ، وأصدرت النيابة أمرا بحظر النشر عن هذا التحقيق فلم تسفر هذه التحقيقات عن الوصول إلي الجناة .
رابعا : لما قامت الثورة ، أمرت القيادة بالقبض علي الأميرالاي (العميد) محمود عبد المجيد وكان مديرا (محافظا) لجرجا في ذلك الوقت وذلك في 29 يوليو 1952 ، كما أمرت بالقبض علي المتهمين الآخرين ، وأودعوا السجن الحربي ، حيث تولي التحقيق معهم نائب الأحكام البكباشي (المقدم) إبراهيم سامي جاد الحق .
خامسا : إحالة القضية إلي غرفة الاتهام :
ثم أحيل التحقيق إلي القضاء ، وندب الأستاذ حسن داود المستشار بمحكمة الاستئناف للقيام به . وأحيلت القضية إلي غرفة الاتهام برياسة الأستاذ مرسي فرحات رئيس محكمة الاستئناف وعضوية الأستاذين محمد علي جمال الدين وعبد الرحمن جنينه . ومثل النيابة الأستاذ فؤاد سري – فقررت الغرفة الإفراج عن اليوزباشي عبده أرمانيوس والبكباشي محمد الجزار – واستمرار حبس الأومباشي أحمد حسين جاد ومصطفي محمد أبو الليل غريب والباشجاويش محمد محفوظ السائق والأميرالاي محمود عبد المجيد . كما قررت إحالة جميع المتهمين إلي محكمة الجنايات – وقررت ألا محل لإقامة الدعوي علي إبراهيم وعبد الرحمن عمار .
سادسا : أول دائرة جنايات تنظر القضية :
ثم تولت دائرة الجنايات برياسة الدكتور كامل ثابت نظر القضية في 10 نوفمبر 1953 ، فبدأت بسماع شهود الإثبات أستمعت إلي الأستاذ محمد يوسف الليثي وهو الشاهد الرئيسي في القضية ، وقد أودنا نتفا من شهادته . شهادة عبد الله خليل فواز :
ثم استمعت إلي شهادة عبد الله خليل فواز من أعيان جرجا ، وكان علي صلة وثيقة بالمتهم الأميرالاي محمود عبد المجيد – وجاء في شهادته : أنه حضر إلي القاهرة في شهر فبراير 1949 لزيارة المعرض ، وفي يوم 12 فبراير دعا مدير الشرقية السابق ومعه محمود عبد المجيد للغداء في مطعم . وفي الساعة التاسعة مساء دخل عليهم محمد محفوظ سائق محمود عبد المجيد وتحدث معه حديثا خاصا نحو عشر دقائق ثم خرجا معا . وفي اليوم التالي قابله محمود عبد المجيد وأخبره بمقتل الشيخ البنا فقال له : إنني سمعت هذه الإشاعة بعد ما تركتموني أمس بربع ساعة – وقال : إن محمود عبد المجيد قال لي : إن البعض أعطي نمرة سيارتي علي أنهم رأوها عند الحادث .. وحدثت مناقشة بيننا حاول خلالها أن يحملني علي أن اعترف بأن سيارته كانت تقف أمام اللوكاندة وقت الحادث . إلا أني نظرا لأني لم أرها قلت له : والله أنا لا أعرف حاجة ، ورفضت أن أشهد بذلك .. وطلب مني عدم السفر حتى أدلي بأقوالي التي يريدها . وفي اليوم التالي قابلته بالوزارة وسألته عما تم فقال : مافيش داعي .. سافر أنت ... اعتراف السائق محمد محفوظ بارتكاب الجريمة :
وبعد أسبوع رجعت إلي القاهرة مرة أخري وركبت سيارة محمود عبد المجيد مع السائق محمد محفوظ .. وأثناء الطريق طلب مني محفوظ أن أتوسط لدي محمود عبد المجيد لترقيته فرفضت ... وفوجئت به يقول : 300 جنيه إيه .. دي حاجة ليس لها قيمة – وأنا كنت خالي الذهن من هذا الموضوع .. إلا أنه لاعتقاده بصلتي بمحمود عبد المجيد ظن أنني أعرف كل شيء ، فبدأ يصارحني واعترف بكل شيء وقال : أنا ركبت السيارة ومعي أرمانيوس ومحمدين وأشخاص آخرون لا أذكر أسماءهم ، وتوجهنا إلي جمعية الشبان المسلمين ، ووقفنا في مكان مقابل لها ، ونزل أحمد حسين – المتهم الأول – ومعه شخص لا أذكر اسمه وراحوا الجمعية وارتكبوا حادث مقتل الشيخ البنا ، وعادوا وركبوا السيارة .. والجماعة اللي كانوا معاهم كانوا حاميين ظهورهم – وبعد الحادث ركبوا معي وأمروني بالاتجاه لوزارة الداخلية ... وهناك غيروا ملابسهم .. وعاد محمد محفوظ إلي اللوكاندة حيث قابل الأميرالاي محمد عبد المجيد ... فأنا دهشت وقلت له : هذه مسائل خطيرة وتضرك كثيرا . شهادة محمد حسنين عضو جمعية الشبان :
وسمعت الحكومة أيضا الشاهد محمد حسنين وجاء في شهادته أنه كان المتهم (وأشار إلي أن أحمد حسين جاد) يتردد كثيرا علي الجمعية . كما أنه شاهد المتهم محمدين يجلس القرفصاء علي الرصيف أمام الدار ، وذلك قبل مصرع الشهيد بأيام – وقد أمرت المحكمة المتهمين بالوقوف فتعرف عليهما الشاهد وأصر علي أقواله . حرم النقراشي تعطي القاتل بقشيشا :
ثم سمعت المحكمة الشاهد سعد الله مصطفي السيد من أهالي أبو دومه بسوهاج وجاء في شهادته ما يلي :
كنت موجودا بسوهاج بعد الحادث بشهر . وقابلني أحمد حسين جاد – وأشار إلي المتهم الأول – فعرض علي قطعتين من الصوف لبيعهما .. وإحنا في سياق الحديث سألناه عن مصدر الصوف فقال : " ده هديه من ناس كبار .. من حرم النقراشي باشا ؛ لأني أخذت لها ثأر زوجها .. ومحمود عبد المجيد وعبد الرحمن عمار أخذونا في المهمة وقتلنا البنا .. وأخذونا عابدين " ثم أخذني إبراهيم عبد الهادي لحرم النقراشي باشا فأعطتني الهدية ، وأعطوني بقشيش 600 جنيه " . فقلت له : مادام صاحب القماش قتل أنا لا أخذه . وتركته .
وسألته المحكمة : هل رأيت شيئا آخر مع المتهم ؟
فقال : وأرني صورة النقراشي مكتوب عليها " هدية لبطل الصعيد وجرجا " وموقع عليها من حرم النقراشي باشا . ثم سمعت المحكمة الشاهد علي محمد يونس تاجر وترزي بطما .. شهد بأن سعد الله مصطفي أخذه إلي القهوة وحضر المخبر أحمد حسين ومعه القماش وصورة النقراشي ، وأريد شهادة سعد الله . اعتراف السائق محمد محفوظ مرة أخري :
وسمعت المحكمة أيضا شهادة الباشجاويش محمد فرج علي الوجه الآتي :
المحكمة : هل حدث حديث بينك وبيم محمد محفوظ ؟ الشاهد – بعد الحادث بثلاثة أو أربعة أيام الأميرالاي محمود عبد المجيد كان عاوز يركب ويروح مجلس الوزراء فلم يجد سيارته ، فركب في سيارتي الحكومية ووصلته وانتظرته هناك . وفي هذه اللحظة جاء محمد محفوظ . وأنا قلت له أن الشيخ البنا قتلوه أول أمبارح ومحدش عما حاجة وأن واحد سفرجي ضربه . فرد علي وقال : الحكاية ماهيش كده .. أقول لك الحكاية وماتقولش لحد ؟ فحلفت له إني لا أقول ولكن لم يصدقني إلا بعد أن حلفت يمين الطلاق . فقال لي : إحنا كنا في الحادث وضربناه إحنا والعيال المخبرين اللي جايين من جرجا ، وكان ويانا سعادة محمود بك عبد المجيد وقت ما ضربوه . وقال لي : أن محمود عبد المجيد كان يلبس الجلابية ولافف تلفيعة علي دماغة وقالوا عليه سفرجي وهو اللي ضرب أول طلقة ، وأحمد حسين هو اللي ضرب الطلقات الثانية . وقلت له : إزاي تعمل كده ؟ فقال : إحنا نعمل إيه ؟ رغبة الحكومة كده والسراي راضية ؛ لأن الإخوان قتلوا النقراشي . وقال كمان إن عبده أرمانيوس وحسين كامل والمخبر محمد السعيد كانوا موجودين معانا ، وكان محمد سعيد يلبس بدلة ، وكلان واقف بالشارع وكانوا دول حارسين . وقال الشاهد : أن هذه المعلومات لم أقلها إلا في القيادة بعد أن قامت حركة الجيش وعلمت أن محمد محفوظ جابوه من جرجا . المحكمة – محمد محفوظ ما قالش لك إنه أخذ فلوس ؟ الشاهد – بعد اعترافه لي بعشرين يوم تقابلنا بالوزارة . وأخذت أشتكي له الضيق وكثرة المصاريف ، فأخرج محفظة من جيبه وبها ثلاث ورقات ، ورقة بمائة جنيه والاثنين التانيين كل واحد بمبلغ خمسين جنيه – فقلت له : ليه شايل المبالغ دي كلها ؟ قال لي : لو كان معايا فكة كنت أعطيت لك اللي أنت عاوزه .
كما سمعت المحكمة شهادة آخرين منهم الأستاذ مصطفي مرعي والأستاذ محمد زكي علي واللواء صالح حرب وطلقته والأستاذ مصطفي الشوربجي .. وقد عرضنا في الفصول السابقة لبعض ما جاء في شهادتهم .
سابعا – رد هيئة المحكمة التي تنظر القضية :
في نهاية جلسة 19/11/1953 وفي أثناء أداء اللواء صالح حرب لشهادته طلب المتهم محمد محمد الجزار عقد الجلسة سرية ؛ لأنه يريد أن يقول أشياء تتصل بالليثي والشاهد وزوجته لا يجوز ذكرها في جلسة علنية . فأصر الشاهد علي أن يقول الجزار ما يشاء علنا ، ولكن محامي الجزار قال للمحكمة أن موكله عدل عن طلبه ... فإذا برئيس المحكمة يقول للمحامي : هل رجعت إلي موكلك في شأن العدول عن السرية ؟ وهنا ثار الأستاذ عبد القادر عودة من المحامين المطالبين بالحق المدني وقال :
إن المطالبين بالحق المدني يرون في تصرف رئيس المحكمة في قوله للمحامي عن الجزار : هل رجعت إلي موكلك بعد أن قرر العدول عن الجلسة السرية وموكله بجانبه ، يرون في ذلك نوعا من التحيز ، لاسيما وقد سمح رئيس المحكمة للدفاع بمناقشة الشهود قبل المطالبين بالحق المدني ، مع أن القانون يجعل للمطالبين بالدفاع المدني الأولوية في توجيه الأسئلة إلي الشهود – وقال : إن رئيس المحكمة تربطه بإبراهيم عبد الهادي روابط معينة ، كما أنني حين كنت قاضيا كنت لا أشعر في ثقة من ناحيته وأشعر بحرج .. وأساس القضاء ليس هو العدالة ولكن الثقة في نفوس المتقاضين – وطلب تنحيه . وقررت المحكمة – بعد المداولة – إحالة الأستاذ عبد القادر عودة لقاضي التحقيق علي أن يتخذ هو من جانبه إجراءات الرد .
واستغرقت إجراءات رد المحكمة زمنا طويلا ، فقد عرض طلب الرد أولا علي دائرة برياسة محكمة الاستئناف أكبر مستشاري محكمة الاستئناف سنا فرفضت طلب الرد . فاستأنف الأستاذ عبد القادر القرار أمام محكمة النقض – الدائرة المدنية – ثم الدائرة الجنائية فقررت كلتاهما عدم الاختصاص . فظل قرار رفض طلب الرد قائما .. وحينئذ تنحت هيئة المحكمة من تلقاء نفسها عن نظر القضية .
ثامنا – هيئة جنايات أخري تعيد نظر القضية :
انعقدت الجمعية العمومية للمستشارين وعهدت إلي دائرة الأستاذ محمود عبد الرازق وعضوية الأستاذين محمد شفيع الصيرفي ومحمد متولي عتلم بنظر القضية ، ومثل النيابة الأستاذ علي نور الدين . وبدأت أولي جلساتها يوم 16/4/1954 . وحضر عن المدعين بالحق المدني الأساتذة عبد القادر عودة ومحمد عزمي وعبد الحكيم منصور والدكتور عبد الله رشوان وعلي لطمان وأحمد كامل . وطلبوا 30 ألف جنيه لزوجة الشيخ البنا وأولاده 30 ألف جنيه للأستاذ عبد الكريم منصور . كما طلب والدا المجني عليه قرشا صاغا من المتهمين والحكومة . وحضر عن الحكومة الأستاذ أحمد محمد أغا المستشار بقسم قضايا الحكومة وطلب رفض الدعوى المدنية وبراءة المتهمين وتألفت هيئة الدفاع عن المتهمين من الأساتذة فريد أبو شادي وأحمد الحضري وشوكت التوني ومحمد علي رشدي وعبد الجليل العمري وسيد مصطفي وحمادة الناحل وعبد الحميد رستم وحسن إدريس وعبده أبو شقة وعبد المجيد الشرقاوي والظاهر حسن ومختار قطب .
تاسعا – شهود جدد استمعت إليهم الهيئة الجديدة : موظف بالداخلية يقرر أن المخبرين جاءوا من جرجا لمهمة سرية :
بعد أن استمعت المحكمة إلي الشهود الذين أدلوا بشهاداتهم أمام الهيئة السابقة ، أخذت في الاستماع إلي شهود آخرين لم يكونوا قد أدلوا بعد بشهاداتهم .. ومنهم الأستاذ زكي عبد التواب الموظف بوزارة الداخلية وعضو جمعية الشبان المسلمين ؛ لأنه سكرتير القسم الاجتماعي بها فسمع فرقعة ، ونظر من نافذة الدور الثاني فرأي رجلا شكله شاذ يلبس جلابية وعلي رأسه تلفيحة كان واقفا عند محطة الترام .. وشهد بأنه غلاما أسمر يقول إنه أخذ نمرة السيارة . ثم قال : وكان واحد اسمه محمد عثمان عندنا في الجمعية ناداني قائلا : يا زكي يا زكي .. فرحت وقال لي : إن الولد ده معاه نمرة السيارة . فسألت الولد فذكر لي النمرة وواحدة من الواقفين كتبها ومش متذكره .. وبعدين الولد ركب علي رفرف العربية وراح معاهم الإسعاف .. وأنا قلت للعسكري هناك : بقي ترتكب أمامكم جريمة ولا تمسكوش الجاني وإحنا نمسكه .. روح يا شيخ ما هو انتو اللي قتلتوه ... ورحت أنا ومحمد مصطفي ومجموعة كبيرة الإسعاف وما وجدناش الشيخ البنا ؛ لأنه راح القصر العيني.
وفي اليوم التالي رحت الوزارة – وزارة الداخلية – وسمعت مخبرين بيقولوا ماحدش ارتكب الحادث ده إلا المخبرين دول . وأن تذكرت شكل الشخص اللي شفته عند التزامواي . ولما شفتهم في الوزارة عرفتهم وسألت عنهم فقيل لي إنهم من جرجا والمدير جايبهم علشان مهمة سرية . فقلت لازم هم اللي عملوا الحادث ، فنزلت علشان أتأكد من الشخص اللي شفته فلم أجدهم ؛ لأنهم كانوا مشيوا . وربطت بين الحوادث دي كلها . وبعد كده بدأ محمد محفوظ يتكلم مع مخبري الوزارة . وفيه واحد اسمه فهمي مصطفي سأل المخبر أحمد حسين قائلا : هو الشيخ البنا فين النهارده ؟ فقال له : إنت بتسألني ليه .. .. هو أنت بتجسس علي ؟ .. والمخبرين اللي في الإدارة قالوا إن محمد محفوظ بيقول لهم : إحنا رحنا واستنتهم بالعربية وارتكبنا الحادث ، وأنا بيتهايألي كل ما أروح الحتة دي أشوف شبح الشيخ البنا .
الرئيس – مين اللي قال كده من المخبرين ؟ الشاهد – واحد اسمه محمدين .. ومرة حصل إن محمد محفوظ كان مدين لفهمي هذا في خمسة قروش صاغ فطلع له محفوظ ورقة بمائة جنيه . ومضي الشاهد يقول إنه حذر الليثي أكثر من مرة نظرا لاهتمامه بالحادث وقال له : يجب أن تكون حذرا ؛ لأن هؤلاء الناس خطرين وإن المجهودات التي يقوم بها ستضيع هباء . الرئيس – وده إذن اللي خلاك امتنعت عن الشهادة ؟ الشاهد – أيوه .. أنا شخصيا كنت خايف ، وعارف أن السعديين خطرين وهم حاولوا نقل خمسة مخبرين مرة واحدة وظهر علي شان كانوا بيتكلموا كتير في الموضوع – ومرة طلب مني الليثي أن أتقدم للشهادة فقلت له : مش ممكن ؛ لأنه مافيش ضمان للواحد . وأنا كان ضميري يؤنبني ، لأني عايز أقول الحاجة اللي شفتها فكتبت جواب من غير إمضاء وبعته لليثي وذكرت فيه المعلومات اللي أعرفها . الرئيس – واشمعني بتبعته لليثي ؟ الشاهد – أنا خفت أرسله للنيابة يخطفوه فبعته لليثي ؛ لأنه متحمس . الرئيس – من هو الشخص الذي اشتبهت في وقوفه أمام محطة الترام ؟ الشاهد – أشار إلي أحمد حسين) وقال : هو ده 80% هو ده وبعدين شفته في الداخلية مع المخبرين الثلاثة . الرئيس – ما شفتش حد غيره من المخبرين اللي شفتهم في الداخلية عند باب الجمعية ؟ الشاهد - أيوة شفت وهم دول (وأشار إلي محمد إسماعيل وحسين محمدين) . الرئيس - هل بينك وبين الأميرالاى محمود عبد المجيد حزازات ؟ الشاهد - أبدا .. أبدا وأنا احترمه . الرئيس - لما سمعت إنهم جابوا مخبرين من جرجا ماعرفتش مين جايبهم ؟ الشاهد - اللي سمعته أن عبد الرحمن عمار هو صاحب الفكرة والموعز بإحضارهم ؛ لأنه كان مدير جرجا من زمان . الرئيس - عرفت منين كده ؟ الشاهد - من الوزارة .. كان الموظفين بيتكلموا وقالوا أن عبد الرحمن عمار خايف علي نفسه بعد حل الجمعية . الرئيس- إيه اللي خلاك فاكر نمرة السيارة ؟ الشاهد - لأنه رقم سهل جدا 9979 .
- شاهد آخر سمع اعتراف محمد محفوظ :
ثم سمعت المحكمة محمد حسن ندا صاحب محل حلوى قال : أنا في محلي فوجدت عربية الأميرالاى محمود عبد المجيد وقفت أمام بيت أحمد سليم جابر اللي جنب المحل ، ونزل الأميرالاى عبد المجيد وفضل السواق محمد محفوظ والمخبرين ثلاثة لا أعرفهم . ومحمد محفوظ دخل جوه المحل عندي فقلت له : أنتم جايين منين كده ؟ فقال : جاسيين من حاجة جامدة .؟. إحنا قتلنا الشيخ حسن البنا . فقلت له : إزاي ؟ فحي لي عن الدور وإنهم ضربوه بالمسدس وانكسر الزجاج والسواق اترمي علي الأرض، وواحد فتح الباب من اليمين والتاني فتح الباب من الشمال - وكان الكلام ده يوم الحادث الساعة تسعة ونصف تقريبا . الرئيس - هل كان محمد محفوظ يتردد عليك قبل كده ، وشفت المخبرين قبل كده ؟ الشاهد - أنا شفت محمد محفوظ كتير قبل كده ، لكن المخبرين ما شفتهومش . الرئيس - ما شفتش حد يتردد عليبيت سليم جابر غير محمود عبد المجيد ؟ الشاهد - كان بيجيله علي حسنين المتهم في قضية عبد القادر طه .
- ومن شهادة الصول محمد البهي شرف :
وهو موظف بإدارة المباحث الجنائية يقول : في خلال شهر يناير 1949 وجدت الثلاثة المخبرين دول في بوفيه الوزارة تحت ، وكنت لاحظت أنهم بيترددوا علي الصاغ حسين كامل فسألتهم أنتم مين ؟ فقالوا : إحنا مخبرين وجايين نشتغل في الوزارة هنا . فدخلت أبحث عن أوراق عن كيفية نقلهم فلم أجد ، فسألت الصاغ حسين عنهم فقال : أيوه .. ثم عاد وطلب مني أن أنتظر حتى يسأل الأميرالاى محمود عبد المجيد ثم دخل لمحمود عبد المجيد وخرج بعد شوية وقال لي : دول جايين في مأمورية خاصة ومالكش دعوة بيهم . الرئيس - ألم تثبت اسم أحد من المخبرين دول في الدفاتر ؟ الشاهد - أظن أثبت اسم أحمد حسين جاد في الوقت الليسألت فيه الصاغ حسين كامل وما أثبتش الباقي علشان الأمر اللي صدر لي .
- جاكتة الصول للسائق محمد محفوظ :
وجاء في شهادة القائمقام طه زغلول أن السائق محمدي الحركي أطلعه علي جاكته صول فصلها محمد محفوظ مقدما ، حيث وعدوه بالترقية مكافة له . فأخذه طه زغلول فأوصله إلي القيادة بالسجن الحربي وسلم الجاكتة للقيادة . فطلبت المحكمة إحضار السائق محمدي الحركي في الحال فأحضر وبسؤاله قرر ما قاله طه زغلول . فلما ووجه بمحمد محفوظ وحاول محفوظ علي الإنكار ، قال محمدي للمحكمة : إذا أصر علي الإنملار فسأذكر اسم الترزي الذي فصلها .. وقد اعتبرت المحكمة موضوع الجاكتة هذا من أهم نقط القضية .
عاشرا - من مرافعة النيابة في القضية :
بدأت النيابة مرافعتها بالسطور التالية :
" الجريمة المقدمة اليوم تعد من أخطر الجرائم التي نكبت بها البلاد في العهد الأخير . وتتمثل خطورتها في ناحيتين : أولا - أنها جريمة اغتيال رجل من أكبر رجال الدين في العصر الحديث هو المغفور له الشيخ حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين - وثانيا - أنها جريمة قتل دبرتها وأشرفت عليها ونفذتها الدولة في سبيل القضاء علي فكرة معينة أو دعوة معينة كان ينادي بها الفقيد . وكانت تلقي التأييد من عدد من المواطنين . وكانت الدولة تري في هذه الدعوة ما يهدد كيانها ، فأرادت أن تقضي عليها بالتخلص من صاحبها ، وذلك باغتياله .. وهكذا سخرت الدولة قوتها وسلطاتها في ارتكاب جريمة قتل رجل أعزل مجرد من القوة والحماية ، لا لشيء إلا للرغبة في إرضاءالحاكمين الذين رأوا أن بقاء هذا الرجل الأعزل يهدد نظام دولتهم وحكمهم ، فدبرت هذه الجريمة بوساطة رجال المن المفروض عليهم المحافظة علي أرواح المواطنين وحمايتهم .
وهكذا عادت بنا هذه الحكومة إلي عصور البربرية الأولي ، حين كانت شريعة الغاب هي القانون الوحيد كان السيف هو اللغة الوحيدة لمناقشة رأي معارض أو فكرة لا تروق الحاكم - كيف لا وقد أهدرت هذه الحكومة كل القوانين السماوية والوضعية ، ونسيت وظيفتها الأولي في حماية الناس وتمكينهم من التعبير عن آرائهم وأفكارهم " .
الحادي عشر - نص الحكم الذي أصدرته المحكمة :
بدأت هذه الدائرة في نظر القضية يوم 16 من إبريل 1954 ، وانتهت من نظرها يوم 7 وبلغ عدد الجلسات التي عقدتها المحكمة 34 جلسة سمعت خلالها 33 شاهدا . وبلغ عدد صفحات محاضر الجلسات 1100 ألف ومائة صفحة عدا أوراق القضية وتبلغ نحو أربعة آلاف صفحة . وقد عقدت الجلسة يوم 2 من أغسطس وأصدرت الأحكام التالية :
أولاً - بمعاقبة أحمد حسين جاد بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشر سنة ، وبإلزامهم بطريق التضامن والتكافل مع الحكومة المسئولة عن الحقوق المدنية : أ - بأن يدفعوا عشرة آلاف جنيه علي سبيل التعويض للسيدة لطيفة حسين الصولي زوجة المرحوم الشيخ حسن البنا وأولاده القصر ومنها وفاء وأحمد سيف الإسلام وهالة واستشهاد المشمولين بولاية جدهم الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا . ب - وبأن يدفعوا للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا والسيدة أم السعد إبراهيم صقر والديالقتيل مبلغ قرش صاغ واحد علي سبيل التعويض المؤقت . ج - وبأن يدفعوا للأستاذ عبد الكريم محمد أحمد منصور مبلغ ألفي جنيه علي سبيل التعويض . وألزمت المتهمين المذكورين بالمصروفات المدنية وثلاثين جنيها مقابل أتعاب المحاماة للفريقين الأول والثاني المدعين بالحق المدني و 20 جنيها للثالث .
ثانيا - ببراءة كل من : مصطفي محمد أبو الليل واليوزباشي عبده أرمانيوس والبكباشي حسين كامل والجاويشمحمد سعيد إسماعيا والأومباشي حسين محمدين رضوان مما أسند إليهم مع رفض الدعوى الموجهة لهم .
ثالثا - بمعاقبة اليوزباشي محمد محمد الجزار بالحبسمع الشغل لمدة سنة ، ورفض الدعاوى المدنية قبله
رابعا - وقدرت المحكمة 20 جنيهًا لكل من المحامين المنتدبين وهم الأساتذة أحمد الحصري وحمادة الناحل وعبد الحميد رستم وعبد الفتاح لطفي تصرف لهم من الخزانة العامة .
وكانت المحكمة خلال هذه الجلسة في حراسة شديدة . وحضر المراسلون لوكالات الأنباء والصحفيون وقد ازدحمت قاعة الجلسة بعدد كبير من رجال القانون والضباط وأقارب المتهمين والسيدات . ومنع الدخول إلا بتذاكر - وسأل الصحفيون رئيس المحكمة عن حيثيات الحكم فقال إنها قد تم إنجازها وهي تقع في نحو خمسمائة صفحة .
وهكذا كان من حق القارئ علينا أن يكون علي تصور كامل واضح لمعالم المحاكمة وإجراءاتها الرسمية التي انعقدت جلساتها في خلال عامي 1953 ، 1954 في قاعة الجنايات بمحكمة القاهرة ، وما دار خلالها وما أسفرت عنه من نصوص الأحكام ... فهذا بلا شك جزء لا غني عن الإلمام لمن يريد أن يلقي علي القضية نظرة شاملة . والواقع أن هذه المحكمة وما جري فيها وما أسفرت عنه لم تكن في حقيقة أمرها إلا مجرد مؤشر ذي دلالة ناطقة أشار بأسلوب رمزي إلي الجناة الحقيقيين من بعيد .. وأومأ من طرف خفي بنداء صامت إلي أصحاب الحقأن استرداد حقوقهم من غاصبيها هو أمر فوق طاقة القضاء .
ذلك أن القضية ليست نزاعا بين أفراد ، بل هو صراع بين أمم ، ونضال مرير بين مبادئ وأفكار ، وأن هذا الخلاف متأصل في النفوس، وأصل إلي أعماقها ، وأن الزمن وحده هو الذي يقضي فيه .. وهو نزاع قديم متجدد .. إنه الصراع بين الحقوالباطل .. هو الصراع الذي بدأت آخر حلقاته برسالة محمد صلي الله عليه وسلم .. ولازالت الحرب منذ ذلك الحين قائمة علي قدم ساق ، وإن تشكلت في كل مرحلة من مراحلها هذه القضية هذا النحو الذي جعلنا نوغل فيما أحاط بها من مؤامرات عالمية ، ومؤشرات سياسية بعيدة الغور ، حللنا في خلالها كثيرا من مواقف الأشخاص والأحزاب والحكومات والدول .
وقد يري القارئفيما وقع بعد ذلك من أحداثجسام أن الحكم الحقيقيفي هذه القضية لم يصدر بعد ؛ لأن الزمن حين يصدرحكمه لا يصده داخل جدران محكمة ، ولكن يصدره في ميادين تراق فيها الدماء ، وترخصفيها النفوس ، وتزهق فيها الأرواح ، وتقوض فيها العروش ، وتدال فيها الدول ، ويتغير معها وجه الدنيا .. وسيظل الصراع قائما هكذا حتى يتمخض آخر الأمر عن انتصار الأفكار التياغتيل حسن البنا من أجلها فتحتل مكانها في القلوب والعقول ، وتكون هي الفيصل بين الناس في جميع شئون حياتهم ، بعد أن يثبت لهم زيف أفكار المتآمرين وإفلاس أساليبهم ( • ) ، ( • • ) ، ( ) .