الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الأول - المدخل)
الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، محمود عبد الحليم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه علي رسوله الكريم ؛ محمد الذي أرسله إلي الناس كافة منقذًا ومصلحًا ومبشرًا ونذيرًا ، وأنزل عليه الكتاب الذي وصفه فقال :
" ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين " ، " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرًا من الناس لفاسقون ، أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكمًَا لقوم يوقنون ؟ " .
وبـعـد :
فإن دعوة الإخوان المسلمين هي صدي الدعوة الأولي وليست بالدعوة المستحدثة ، فهي طور من أطوار الدعوة الإسلامية ظهرت في هذا القرن بظهور حسن البنا سنة 1928 .. وتتأهب في أيامنا هذه لطور جديد . والذي بين دفتي هذا الكتاب ليس تاريخًا لهذه الدعوة ،وإنما هي جوانب منها عاصرتها وشاركت في أحداثها وكنت جزءًا منها .. ولا أدعي أن هذه الجوانب هي كل جوانبها . ولا يستطيع أحد أن يدعي لنفسه مثل ذلك ، في دعوة بلغت من اتساع الرقعة حدًا يقصر عن الإحاطة بمداه نظر ناظر واحد – مهما قوي بصره – وتشعبت تشعبًا متابعته في كل اتجاه أمرًا مستحيلاً ، فحسب كل نظر أن يصف ما وقع في مجال نظره ، وحسب كل ذي موقع فيها أن يتحدث عما مكنه موقعه من الإحاطة به .. وبعد أن يصف الجميع ما رأوا ، وبعد أن يتحدث جميع ذوي المواقع فيها عما أحاطوا ، يأتي دور المؤرخين الذين يجمعون كل ما رأي الراءون وتحدث المتحدثون ليخرجوا من مجموعه بتاريخ لهذا الطور من أطوار هذه الدعوة .
والذي يتمرس هذا الطور من الدعوة الإسلامية سيجد نفسه أمام سلسلة متداخلة الحلقات من الأحداث ، وأقصد بالتداخل أنها ليست أحداثًا مترادفة يتلو بعضها بعضًا ، فكلما انتهي حدث بدا آخر ، بل إن أكثر من حدث قد يقع في وقت واحد ، ذلك بأن هذه الدعوة تعمل في أكثر من جبهة .. ومن هنا رأيت أن أقرر للقارئ – بادئ ذي بدء – حقيقة يجب أن أقررها هي أنني حين أكتب هذه الصفحات لن أكون مؤرخًا يجمع شتات الأحداث ، ويجري وراءها حيث كانت حتى لا يفلت منه شيء ، وإنما أنا أكتب عن أحداث وقعت بين يدي وشاركت فيها .. وقد أكون خالفت هذه القاعدة في نقطتين اثنتين : أولاهما ما كتبته عن أيام الدعوة في الإسماعيلية ، وقد راعيت فيه الاختصار التام ، وقد سمعته من الأستاذ الإمام نفسه ، والأخرى بطولات الإخوان في حرب فلسطين سنة 1948 ، وقد أثبت في بابها أني نقلت أكثر ما كتبته عنها من كتاب الأخ الكريم الأستاذ كامل الشريف الذي كان من كبار قادتها .
وتحليل الأحداث ، وإبداء الرأي في القضايا ، أمر لا مفر منه لإنسان عاصر هذه الأحداث وباشر هذه القضايا ، ولكن ليس من حقي أن أقرر أن تحليلي هو التحليل الأوحد ، وأن رأيي هو الرأي الأصوب ، فلكل إنسان أسلوب في التحليل ، ورأي فيما يعالج من قضايا .. وحسبي أنني بسطت المواضيع ، وألقيت الأضواء علي الظروف والملابسات ، وكشفت القناع عن كثير مما غشيه الغموض .. وهذه المعلومات الكافية لتغذية القوة الحاسبة في العقل البشري لتخرج لك الحكم الصحيح والرأي السديد . وليس المقصود من تسطير ما سطرت ، ومن سرد ما أوردت ، ومن الإشارة فيما أوجزت ومن الإفاضة فيما أسهبت .. هو إمتاع القارئ بقصة طولها خمسون عامًا ، يملأ بها فراغ وقته ، ويزيد معلوماتها مخزون علمه ، وإنما المقصود من ذلك أن أبرز له صور محددة المعالم للفكرة الإسلامية ، وأوضح له كيف حمل الفرد المسلم أعباء هذه الفكرة ، وكيف أخذ بها نفسه ، وكيف خاطب بها مجتمعه ، وأبين له كيف تلقت المجتمعات هذه الفكرة : فمجتمع الأكثرية المغلوبة علي أمرها من الفقراء والضعفاء ، تلقوها بترحاب ، ومجتمع الأغنياء والمترفين والحكام تلقوها برفض وصلف ، ومجتمع ذوي المصالح من المستغلين والمستعمرين تلقوها ومكر وتآمر – وأجل له الأسلوب الذي واجه به حامل هذه الفكرة هذه المجتمعات ، والصراعات التي نشأت خلال هذه المواجهات ، وكيف اشتدت ، وكيف احتدمت ، وكيف تفاقمت ، وإلي أية نهاية انتهت .
وقراء هذه المذكرات من أبنائها من هذا الجيل الجديد ، سيجدون أنفسهم حين يقرأونها أمام أحداث وشخصيات لا عهد له بأكثرها .. فهل يصرفهم ذلك عن قراءتها أم يكون ذلك حافزًا لهم علي الإقبال عليها واستيعابها ؟ .. فإذا صرفهم ذلك عن قراءتها فسيكون ذلك دليلا علي أن المؤامرة العالمية ضد الدعوة الإسلامية قد تم لها النجاح ، واكتملت لها أسباب الفوز ، فإن الحلقة الأخيرة في سلسة هذه المؤامرة هي إسدال ستار كثيف علي هذه الأحداث وعلي هذه الشخصيات ، ومحاولة محوها من صفحة التاريخ ، وإذا لم يكن بد من إبراز بعضها فليكن إبرازه في صورة مقلوبة أو مشوهة علي الأقل .. ذلك أن مدبري المؤامرة العالمية حريصون كل الحرص علي أن لا يعرف هذا الجيل والأجيال التي تليه أن هذه الأحداث هي التي صنعت التاريخ الذي يعيشونه .
ومن نافلة القول أن نقول : إن شعبًا يجهل حقيقة ماضيه محال أن يتطلع إلي مستقبل مشرق . والمعلومات التاريخية لا تؤخذ عن الطريق الرسمي ، لأن حرص الحكام علي استبقاء أزمة السلطة في أيديهم وفي أيدي شعبيتهم من بعدهم ، يدفعهم عادة إلي صياغة للتاريخ بالأسلوب الذي يحقق أمانيهم ويظهرهم في أعلي قمم العدالة ، ويظهر منا في أدني درك من الخسة والنذالة .. وهم لا يقتصرون في الصياغة علي تزوير الأحداث التي تجري في أيامهم فحسب ، بل تمتد أيديهم إلي الأحداث التي سبقتهم فيعلمون فيها المسخ والتزوير . ولو ادارك علمهم في أحداث المستقبل لزوروها لحسابهم .. ولكنهم مع قصور علمهم بأحداث المستقبل يتقون في أنهم سيطرون عليها بما زوروا من أحداث أيامهم وأحداث سابقيهم ؛ فعقول الجيل التي صيغت بالمعلومات المزورة ، وتشتت عليها وملئت بها أن تبني مستقبلها إلا علي ضوء ما ملئت به من زيف وتزوير ..
ومن هنا كان الخطر الداهم والكارثة المروعة .. ومكمن الخطر والترويع في ذلك أن هذا الجيل حين يتجه بمستقبل بلاده إلي الهاوية – إكمالاً للخط الذي رسم له في ماضيه وحاضره – يتجه واهمًا أنه متجه إلي الأمن والسلامة ؛ فهو لا يلتفت إلي محذر ، ولا يستمع إلي ناصح .. وأمثال هؤلاء أنبأنا القرآن عنهم وحذر انحدارهم إلي الهاوية وهم غافلون فقال وقل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا ؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . وإذا كان الله عز وجل قد تكفل لكلمة الحق أن لا تطفأ شعلتها وأن لا يخبو ضوءها ، فهذا شأنه سبحانه وهذه مشيته .. أما أن يكشف معصوبو العيون العصائب عن أعينهم ليروا هذه الكلمة فهذا شأن آخر تركه سبحانه لعباده إن شاءوا رفعوها فرأوا ، وإن شاءوا أبقوا عليها وتشبثوا بها فظنوا في ضلالهم سادرين " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " وقد رتب علي هذا التخيير الثواب والعقاب وحدد يومًا للحساب " إنا أعتدنا الظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها " كما تحيط العصابة – التي يتشبثون بها – بأعينهم لتحاصرهم عن رؤية الحق وهم بذلك راضون وعن الحق ناكبون .
ومما ينبغي أن يعلمه القارئ أن هذه الدعوة .. علي مكانتها بين دعوات العالم ، ومع صراعها مع الظلم والطغيان في الداخل والخارج طيلة خمسين عامًا – فإنها لم تعن بجانب التسجيل عناية كافية والله لا يحس بخلوها من هذه الناحية الهامة إلا من عرض نفسه – لتسجيل أحداثها .. وقد يعزي ذلك إلي أن هذه الدعوة قد تملكت من أول يوم أفئدة من آمنوا بها وعاهدوا علي العمل لها ، بحيث لم تدع لأحد منهم فرصة يخلو فيها إلي نفسه ، أو يخلد فيها إلي راحته ، فهو دائب الحركة ، يواصل الليل بالنهار ، متنقلاً بين المجتمعات ، غارقًا في محادثات ومناقشات ، عاكفًا علي إعداد خطط ومناهج .. حتى إذا أوي إلي فراشه منهكًا لا تكتحل عيناه بنوم حتى تجتر مخيلته ما عاني طول يومه من حقوق الدعوة عليه .. ويصحو من نومه حين يصحو علي ما أوي إلي فراشه عليه من التفكير في الدعوة وحقوق اليوم الجديد ، فهو في سباق مع الزمن ، لا يفرغ لحظة من ليل أو نهار .. فأني لهؤلاء أن يسجلوا ؟! .
ثم كانت أحداث جسام ، وظلمات طال ليلها ، وقهر وكبت وتعذيب وإعنات .. طال الأمد علي الكلمة المسجونة في أغوار الذاكرة من عشرين عامًا ، حتى بات استخراجها منها أمرًا عسيرا ، واختلطت الكلمات في سجنها بعضها ببعض بفعل الزمن حتى لا يعد صاحب الذاكرة يعرف أيها السابق وأيها اللاحق ، وتداخلت التواريخ ، وأصبح صاحب الذاكرة علي خطر عظيم . هذه حقائق مرة واجهتها في أول يوم أمسكت فيه بالقلم لأسجل أحداثا لهذه الدعوة عاصرتها وشهدتها وساهمت في الكثير منها .. وجدت مخزون ذاكرتي علي ما صورت ، وحاولت الرجوع في شأن هذه الأحداث إلي مرجع فوجدت الساحة خاوية الوفاض .. أغفل الإخوان في غمرة لذاتهم في دعوتهم أن يولوا ناحية التسجيل أدني اهتمام .. ثم أتت يد الإثم والعدوان من عربدة الحكام علي الوثائق والمحررات والصحف في كل مكان خاص وعام ، فلم يبق شيء يرجع إليه أو يعتمد عليه .. حتى المكتبات العامة جردوها من كل ما يمت إلي هذه الدعوة بصلة .
وبالرغم من طول الأمد ، وترادف الأرزاء ، وانقطاع الصلات ، فإن الأحداث التي عاصرتها لم تند عن خاطري لأنها كانت فلذة من كبدي ، وقطعة من ذات نفسي ، وجزءًا من أعصابي ودمي ؛ فكيف أنساها ؟ .. ولكن الذي أعياني هو الترتيب الزمني لبعض هذه الأحداث وهو أمر جوهري لا غني عنه لمن أراد يسجل أحداثاً . ولم أجد أمامي إلا مراجعة الصحف اليومية التي صدرت في خلال أربعين عامًا مضت .. وقد عكفت علي مراجعة هذه الصحف ردحًا طويلاً من الزمن ، فوجدت فيها طلبتي في الترتيب الزمني لما في خاطري من أحداث .. ولقد أفدت من مراجعتي هذه الصحف فائدين ، أولاهما ترتيب الأحداث كما قدمت ، والأخرى نصوص بعض المذكرات والخطابات .. ومما يدل علي أن جانب التسجيل لم ينل حظه في دعوة الإخوان المسلمين ظهور كتاب في هذه الأيام يضم مذكرات الدعوة والداعية ، للأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله ، فقد جاءت هذه المذكرات برهانًا قاطعًا علي إغفال هذه الناحية الهامة ، فلم يسجل في هذه المذكرات عشر معشار ما مر بصاحبها من أحداث ، ولم يكن – رضي الله عنه – عاجزا من تسجيلها وتحليلها ولكن هكذا شاءت الأقدار .
وهذا الفراغ في ميدان التسجيل الذي رأيت دعوة الإسلام في هذا القرن تعانيه هو الذي دفعني إلي النهوض بهذا الواجب ملأ لجزء من هذا الفراغ ، وأداء لحق هذه الدعوة علي . وإعذارًا إلي الله في حق هذا الجيل والأجيال القادمة . ولقد تعرضت في هذه المذكرات لمعالجة نقاط ذات حساسية بالغة ، ربما تحاشي الكثيرون التعرض لها ، وحاولوا تفاديها . ولكنني آثرت التعرض لها مدفوعاً إلي ذلك بدوافع منها :
أن هذه النقاط – مهما بلغت درجة حساسيتها – هي جزء من تاريخ هذه الدعوة ، وكان لها آثار عميقة في هذا التاريخ ، وما كان ينبغي لعارض أحداث تاريخ أن يغفل جزءًا منه استحياء من ذكره أو طمسًا لمعالمه ، أو إهانة للتراب عليه حتى لا يراه الناس .. والتاريخ كما يقولون – لا يرحم . فإذا تعافي عنه أصحابه وأغفلوا فسيتولى نشره غيرهم .. وحينئذ لا يلام الناشرون إذا هم نشروه مشوهاً أو محرفاً .
ومن هذه الدوافع أنني كنت أكثر الناس ملابسة لهذه النقاط ، وأشدهم اتصالا بها ، وأقربهم رؤية لحقائقها ، فكان لزامًا علي أن أتعرض لها لأكشف النقاب عن كثير مما غاب عن الرائين ، وأن أميط اللئام عما خفي من ظروفها وبواعثها ، وأن أقضي حق للتاريخ في تمحيصها وتجليتها . ودافع ثالث هو أن ألفت النظر – نظر أصحاب الدعوات وأتباعها من الأجيال القائمة والأجيال القادمة – إلي أن إطلاق العنان للعواطف – مهما نبلت من العواطف ومهما حسن مقصدها – قد يجني علي الدعوات ومجتمعاتها . وأن السبيل الأقوم دائما فيما يتصل بالمجتمعات هو الاقتصاد في العواطف والسيطرة عليها والحد من انطلاقها . كما ألفت نظر القائمين علي شئون الدعوات الشريفة إلي أن تعلق نفوسهم بأبهة المناصب فيها ، ومحاولة الاستئثار بمواقع السلطة والنفوذ بها ، وقد يكون عاملا مدمرًا لهم ولها .. وأن هذه الدعوات لا يصلح لها إلا من يهبها قلبه كله ووجدانه كله .. أما الذين يتذبذبون بين نداء دعوتهم ونداء مصالحهم الشخصية أو العائلية ، فسرعان ما تشدهم الجاذبية الأرضية بمغرياتها فيهوون إلي القرار " واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواءه .
ولما كانت الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ، لم تأت لتخاطب طائفة معينة ، ولا لتعامل فئة محدودة ، ولا لنعالج قضايا زمن خاص أو مكان محدد ، فقد كان عليها أن يكون كتابها منشور لا يخفي صغيرة ولا كبيرة دون أن يبرزها بين يدي العالم كله .. فلا حجب ولا أسرار ، ولا خصوصيات يحتفظ بها وراء أستار .. ولقد تعرض القرآن الكريم نفسه لأحداث هي من أخص خصوصيات محمد صلي الله عليه وسلم وأسرته ، قد يتحاشى الكثيرون إذا وقع لهم مثلها أن يسمحوا بذكرها بل يحاولون إخفاءها حتى لا يطلع عليها الناس .. ولكن القرآن تناولها في آياته التي تتلي ليل نهار ، بل تناولها بالبسط والإسهاب وبالتحليل والتفصيل والتعقيب ، وخرج منها بقواعد عامة تنتفع بها المجتمعات .. وما نبأ حادثة الإفك ببعيد . وقد يكون من حق القارئ أن أعتذر إليه فيما قد يلاحظه في الصفحات الأولي من هذه المذكرات من أسلوب هو أقرب إلي الهدوء منه إلي الإثارة ... ذلك أنني .. كما قدمت – لست أتخير موضوعات لمجرد الإمتاع ، وإنما أنا ملتزم بالتمشي مع هذه الدعوة في أطوارها . فإذا كانت الدعوة في مهدها لا تزال تخطو حابية وئيدة – كدأب كل كائن وليد – فما كان لي أن أنتحل لهذا الوليد ما ليس من طبيعته وما هو فوق طاقته . وعلي القارئ أن يوطن نفسه علي أن الذي بين يديه في هذه المذكرات تاريخ حياة لا قصة من نسج الخيال ، ولكل طور من أطوار الحياة وخصائص ، فلا يتعجل ما ينشد من أحداث مثيرة ، فإن الوليد الذي تضرب فوقه الكلل ، وتسدل من حوله الستائر ، لن يلبث حين يشب أن ينبثق عنه فارس مغوار يأتي بالعجب العجاب ، ويأخذ بالقلوب والألباب .
وهناك قضية جديرة أن يضعها القارئ موضع التمحيص والمناقشة ؛هي أن يجنح كاتب المذكرات في ثنايا تسجيله لأحداث الدعوة ، ومواقعها إلي تناول بعض جوانب حياته ومعالم شخصيته .. فهل في هذا ما يمد خروجا عن الموضوع ، وانتقالاً بالقارئ من ميدان هيأ نفسه وفكره لاستطلاعه إلي ميدان آخر لا يعنيه أمره ؟ . أما أنا فأعتقد أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل في كتابة المذكرات بل وفي تأليف الكتب عامة ، فإن القارئ حين يقرأ كتابا لا يعرف عن مؤلفه إلا اسمه ، يكون كالغريب الذي يرتاد مدينة واسعة الأرجاء ، مترامية الأطراف ، لا عهد له بها ، دون دليل معه من أهلها ، فقد يضرب في شوارعها وحاراتها وأزقتها علي غير هدي ، وقد يري من معالمها ما تقع عليه عيناه ، وقد يأوي في النهاية إلي مأوى فيها .. ولكنه في ذلك كله لا يشعر بألفة ولا بائتناس ، ولا يخرج بصورة واضحة عنها – أو يكون الذي يتخذ طريقه في الظلام بغير مصباح يكشف له معالمه ، ويدخل الاطمئنان إلي نفسه ، فهو يخطو ما يخطو متوجسًا خائفاً .
فتقديم المؤلف نفسه إلي قارئه ، وكشفه له عن بعض جوانب نفسه ، وإلقاء الضوء بين يديه عن شيء من معالم حياته .. يدخل الأنس إلي نفس القارئ ، ويبعث روح الألفة بينه وبينه ، فيسير في قراءة الكتاب وقد عقد مع المؤلف صداقة أتاحت لهما أن يكونا متلازمين في رحلة طولها طول الكتاب .. وكلما قرأ عن مؤلف أو حدث أو فكرة قرأها وهو يري جذورها التي تنبت منها وبذورها التي انفلقت عنها ، فلا تكون القراءة في هذه الحالة قراءة سطحية لا يصل أثرها إلي أعماق النفس . ثم إن حياة الدعوات ليست إلا حياة رجالها ودعاتها . والفصل بين حياتهم وحياتها أمر غير مستطاع لاسيما إذا كانت الدعوة قد شكلت حياتهم ، وسيطرت علي كل تصرفاتهم حتى فنوا فيها فصاروا وإياها كما قال الشاعر :
ومازلت إياها وإياي لم تزل
- ولا فرق بل ذاتـي لذاتـي أحبت
وموتي بها وجدًا حياة هنيئة
- وإن لم أمت في الحب عشت بغصة
وتقع هذه المذكرات بطبيعة موضوعها في ثلاثة أجزاء .. يعالج الجزء الأول منها الدعوة في عهد المرشد الأول ، ويعالج الجزء الثاني منها الدعوة في عهد المرشد الثاني ، ويعالج الجزء الثالث الدعوة فيما بين العهدين . ولما شرعت في تبويب الجزء الأول لاحظت أن أطوار الدعوة فيه مرتبطة بالأمكنة التي شغلها العام فجاءت بذلك أربعة أبواب . وقد وطأت المذكرات بمدخل قدمت فيه نفسي إلي القارئ ، وأومأت إلي تأثير نشأتي في اتجاهي الذي انتهي بي إلي دعوة الإخوان المسلمين ، والطريق الذي سلكته إليها . علي أنني وقد طرقت باب التسجيل في دعوة الإخوان المسلمين ، لا أدعي أنني ألمعت بكل شيء وحتى القليل الذي ألممت به لا أدعي أنني أوفيت فيه علي الغاية .. ولكنه جهد المقل .. وحسبي أن تحسست الطريق وارتدته لمن يرغب في سلوكه من بعدي . والله تعالي أسأل أن يجعل هذا المجهود لوجهه ، وأن يتقبله فيما يتقبل من العمل الصالح ، وأن يرفعه وينفع به ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول ، وإنه نعم المولي ونعم النصير .
محمود محمد عبد الحليم
الإسكندرية 5 من شهر ربيع الأول 1398
12 من فبراير 1978
المدخـل
إلي متى تمضي بنا الأيام والسنون وعامل التسويف هو العامل المتصرف في حياتنا وأعمالنا ؛ فنفكر ثم نعزم ثم يقول عامل ما فنؤجل ، وتمضي الأيام سراعًا – وليتها تمضي مليئة بالعمل – ثم نتذكر فنفكر ، ونعزم ثم يكون التأجيل ... وما هو العمر حتى يتسع لعشرات من هذه الدورات التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ ؟! ..
وقد لا يكون موضوع التفكير والعزم مثيرًا وهامًا لأن أصحابه لم ينتهوا إلي النهاية المثيرة التي تستحق الإعجاب وتثير الاشتياق ؛ إلا أن الحكم بمجرد النهاية قد لا يكون حكمًا قاصرًا وظالمًا ، فقد يكون استعراض سلسلة الأحداث مما يغير رأي الذين لا ينظرون إلا إلي النهايات وحدها .... ثم إن اعتبار الهزيمة نهاية أمر فيه نظر ، فانهزام الأشخاص في حياة الدعوات واختفاؤها تحت التراب زمنًا حتى تطأها أقدام الغافلين طورًا من أطوار حياتها لا تستقيم حياتها إلا به .... وهذه ظاهرة فيما أعتقد وأعلم تلازم كل الدعوات علي اختلاف أهدافها وأفكارها .. وقد اعتبرها الإسلام سنة لم يستثن نفسه منها ؛ فتاريخ الدعوة الإسلامية منذ بزغ نوره تنتابه هذه السنة ... فمصباحه بين التبلج والخفوت حتى يظن أنه انطفأ .
والدوافع التي وراء المؤامرات التي تدبر للدعوة الإسلامية تنحصر عادة وتنبع دائمًا من حسب السيطرة الذي يستولي علي نفوس بعض الحكام سواء أكانوا من المنتسبين إلي الإسلام بحكم مولدهم أم كانوا من غير المسلمين ، يجد هؤلاء في الدعوة الإسلامية العقبة الكبرى أمام تحقيق مطامعهم في السيطرة لأن الإسلام بطبيعته ما جاء إلا لتحرير الإنسان والقضاء علي الاستبداد والاستعباد لغير الله . ولتوضيح ذلك يجمل بنا ونحن في مستهل الحديث عن طور من أطوار الدعوة الإسلامية أن نحاول تصوير هذه الدعوة تصويرًا مجملا ، مبرزين الخطوط العريضة المسكونة لهيكلها فنجدها ثلاثة هي :
أولا :العقيدة ثانيا : العبادة ثالثا : المعاملة .
أولا : العقيدة
هي حجر الأساس وهي الركيزة العظمي التي لا قيام للدعوة الإسلامية إلا عليها ، كما لا قيام لأية دعوة إلا عليها ... ولكل دعوة سواء أكانت دينًا سماويا أو وضعيا عقيدة ، وعلي قدر سلامة العقيدة ينجح العمل المبني عليها .. ونقصد بسلامة العقيدة موافقتها للفطرة للعقل والمنطق ، ومجافاتها للأوهام والتعقيد ، وتجاوبها مع الفطرة السليمة . وعقيدة الإسلام لله وحده ، هي ما نزل وما دعا إليه كل نبي ورسول سبق نبينا ، فهي نفس عقيدة المسيح عيسي وعقيدة موسي وعقيدة إبراهيم " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " لا أن أطماع الدنيا وتسلطها علي نفوس من آلمت إليهم أمور الإفتاء في شئون الدين بعد الأنبياء فعلت فعلها فجعلت من هؤلاء الورثة أداة طيعة في أيدي المستبدين من الحكام فحرفوا في كتبهم وأخفوا منها وزادوا عليها حتى يستقر الأمر لهؤلاء الطغاة من الحكام " وقطعناهم في الأرض أممًا منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون . فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ، ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا علي الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .
وكيف يستطيع حاكم مستبد أن يحكم قومًا وفي أعماق كل رجل منهم وامرأة وطفل مناد يهتف بهم في كل وقت من ليل أو نهار أن لا خضوع إلا الله وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأن لا خوف إلا من الله وأن لا فضل إلا من عند الله " قل أغير الله أبغي ربًا وهو كل شيء " ، " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير " ، " قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض وهو يُطعم ولا يطعَم " ، " أليس الله بكاف عبده ويخوفك بالذين من دونه " ، " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " . " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " .
والعدالة بين الطغاة من الحكام وبين العقيدة الإسلامية مستحكم من قديم ، فهذا الحاكم المستبد الذي أحسن خطورة هذه العقيدة علي استبداده فاستدعي " إبراهيم " عليه السلام وهو في غرور سلطته وأدار معه حوارًا علي النحو الذي ورد في الآية الكريمة " ألم تر إلي الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " وينهزم الحاكم المستبد حين يدخل مع العقيدة الإسلامية في الحوار فيطيش صوابه ولا يجد في حصته إلا البطش والإرهاب فيأمر بإحراق صاحب هذه العقيدة لعلها تحترق باحتراقه وتبيد ويستريح منها ولا يجد أمام استبداده عائقًا يقف في وجهه " وإبراهيم إذ قال لقومه أعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وتختلفون إفكًا ، إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون " ، " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو احرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين " .
والقارئ حين يقرأ قصة موسي وفرعون ويري القرآن يقلبها بين صفحاته وفي ثنايا سوره علي كل وجه من وجوهها ليبرز من معاني الظلم والاستبداد ومن ألوان الزهو والكبر والغرور من فرعون وحاشيته ومن أفانين الاضطهاد والتعذيب وأصناف التنكيل والإبادة الموجهة إلي العقيدة الإسلامية التي كان يحملها في ذلك الوقت قلة من بني إسرائيل ... هذا القارئ سيبين له لماذا يكن الملوك المستبدون والحكام الطغاة الكراهية لهذا الكتاب ولماذا يحيكون ضده المؤامرات فهو يؤجج ثورة عارمة ضد كل مستبد ظالم " طسم . تلك آيات الكتاب المبين . نتلو عليك من نبأ موسي وفرعون بالحق لقوم يؤمنون . إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم إنه كان من المفسدين . ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " .
ورسالة موسي رسالة واضحة صريحة ، لا تخرج عن كونها دعوة لإنقاذ شعب اضطهده حاكم مستبد لا لشيء لأنه مستمسك بعقيدته التي تتعارض وطغيان هذا الحاكم " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين . أن أرسل معنا بني إسرائيل " . ويحس فرعون من موسي قوة وصلابة فيحاول استمالته فيقول له " ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " ... وقد يلين الرجل إذا ذكر بهذا الفضل الذي لا يجحد في كل موقف إلا في موقف واحد هو موقف يتعلق بالعقيدة التي لا مساومة عليها فيرد عليه موسي فيقول " فعلتها إذن وأنا من الضالين . ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين ثم يقرر موسي مبدأ خطيرًا بأن استعباد الناس جريمة يذهب مع فظاعتها كل فضل أتاه المستبد فيقول " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ".
ولسنا بصدد السير مع قصة موسي وفرعون بكل الوجوه التي قلبها القرآن ، فإن ذلك مجال جد فسيح ن وإنما قصدنا إلي إيراد وجه من هذه الوجوه لندرك منه مدي خطورة هذه العقيدة علي طموح المستبدين وآمال الطغاة الظالمين ، وكيف أن هذا الكتاب بما جاء به من عقيدة هو تحد دائم لا ينشي وسيف مصلت لا ينثلم وحده في وجه الطغيان والاستبداد .
ثانيا : العبادة
لاشك في أن العبادة وليدة العقيدة ، وكل عبادة ليست وليدة عقيدة إنما هي نوع من النفاق لأن العبادة هي اقوي أنواع مظاهر الاعتراف بالفضل ، ومظاهر الاعتراف بالفضل كثيرة متنوعة ، ولكن قمة هذه الأنواع الاعتراف بالعبودية لصاحب الفضل . ويحث الإسلام الناس على الاعتراف بالفضل للمخلوقين بجميع مظاهر الاعتراف إلا بمظهر العبودية الذي حرمه على الناس ألا لله وحده وجعل الاعتراف بمظهر العبودية لغير الله شركا لا يغفره الله (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر من دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد أفترى إثما عظيما )) (النساء 48) .
والمقصود من العبادة أولا أن يرى الله تعالى من عباده مدى امتثالهم لأمره . والامتثال هو نوع من الطاعة إلا أنه أعلى درجاتها ؛ فإذا كانت الطاعة هي تنفيذ الأمر فيما يسيغه العقل ويسلم به المنطق فإن الامتثال هو الصدوع بالأمر لمجرد أنه أمر ، وكل مبرراته الثقة الكاملة في الذي أصدره . فإذا أمرنا الله تعالى بخمس صلوات في اليوم والليلة في مواقيت محددة وكل منها ركعات محددة فإذا هذا التوقيت وهذا التحديد إذا عرضا على العقل والمنطق لم يجدا لهما تعليلا ولا تبريرا ؛ فالتزامك بأداء هذه الصلوات بهذا التوقيت وهذا التحديد هو امتثال لأمر الله لأنك تؤديها لمجرد أنه أمر من الله عز وجل الذي آمنت به من قبل عن طريق العقل والمنطق وفى الامتثال معنى العبودية الكاملة التي أرادها الله حيث يقول (( وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون )) (الذاريات 56) .
والمقصود الأخر من العبادة هو أن تكون وسيلة للتعرف على الله والتقرب إليه واستمداد العون منه باعتباره سبحانه هو وحده القادر الوهاب الفعال لما يريد .. وإذا كانت الحياة الدنيا بشرورها وغرورها مسلطة على قلب الإنسان . وإذا كان الإنسان بطبيعته لا يقوى على مدافعة هذه الشرور وهذا الغرور وقد قال الله تعالى في شأن الإنسان (( يريدا لله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)) ( النساء 28) فما كان أحوجه إلى ركن شديد يأوي أليه وإلى سند منيع يفزع إليه ؛ فكان من فضل الله على عباده إن أتاح لهم فرصا للفزع إليه والاستمداد منه ؛ فشرع لهم العبادة صلة بينهم وبينه وبابا يهرعون إليه كلما حزبهم أمر أو قست عليهم نوائب الحياة (( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين . ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين )) (الذاريات 50 - 51 ). (( يا عبادي اللذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون )) (العنكبوت56) ... ولذا فإن المؤمن لا يتطرق اليأس إلى قلبه مهما ادلهمت عليه الخطوب وأظلمت في وجهه سبل الحياة .. وكيف يجد اليأس سبيلا إلى قلبه وهو يسمع واهب الحياة ومدبر الآمر وصاحب الملك كله يناجيه فيقول (( ورحمتي وسعت كل شئ فساكبتها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )) (الأعراف 156 ). ويقول (( يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )) ( يونس 57 -58) . ويقول (( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادي في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين )) (الأنبياء 87-88 ).
والعبادة تلعب الدور الأكبر في تكوين الأمة ؛ لأنها تكون الفرد وتصقل روحه وتصفى قلبه وتزكى نفسه وتغسل بما فيها من مناجاة الله صدره . فهو بها دائم التذكر لربه دائم الخوف من عذابه ، دائم الشوق إلى جنته ، يرى الجنة دائما عن يمينه والنار عن شماله ؛ ومثل هذا لا يصدر منه إلا فضائل الأعمال ... وما الأمة إلا مجموعة من الأفراد (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) (آل عمران 110 ) .
والفرد المسلم في هذه الحالة لا يندفع إلى قول أو عمل من صميم قلبه لا من آمال تتعلق بمتاع الدنيا ، وكلم شدته الدنيا إلى متاعها ، وجرته إلى مغرياتها ، وحاولت تلويثه ببهرجها ، وكادت تغمسه في فتنتها ؛ سمع المؤذن ينادى إلى الصلاة فكان الآذان تنبيها له من غفلته فيترك ما هو فيه شان ويجيب النداء فيتوضأ ويقف بين يدي ربه فيذكر الله بلسانه فينبه لسانه قلبه ثم يستعرض في صلاته عظمة ربه وجلال فضله وشدة عذابه وواسع مغفرته ومدى رقابة الله عليه ومدى احتياجه إلى عونه فيخرج من الصلاة خلقا آخر كأنما اغتسل من قذر ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول (( أرئيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يترك ذلك من درنة شيئا ؟ قالوا لا قال ذلك مثل الصلوات الخمس )) وكما يقول الله تعالى في الزكاة (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها )) (التوبة 102) . وكما يقول في الصيام ((يأيها اللذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على اللذين من قبلكم لعلكم تتقون )) (البقرة 183)(( ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج ((من حج فلم يفسق ولم يرفث رجع كيوم ولدته أمه)) .
والأمة التي يتجه زعماؤها وحكامها في تربيتها إلى غير هذا الطريق إنما هي أمة تائهة ؛ لأن القوانين - مهما تضمنت من عقوبة – لا تردع الفرد متى استطاع التهرب من طائلتها فإن حراس القانون لا يستطيعون مراقبة كل فرد في كل وقت وفى كل مكان . فإذا لم يكن للفرد رقابة على نفسه من نفسه فهيهات أن تجدي القوانين ... وهذه الرقابة النفسية إنما هي الأثر المباشر للعقيدة والعبادة . فالعقيدة تزرعها فى النفس والعبادة نتعهدها فترويها وتنميها والى ذلك يشير قوله تعالى (( وما تكون فى شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون عن عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )) (يونس 61) . والتهرب من القانون وحراسة أمر سهل وميسور ، أما التهرب من الله عز وجل فأمر غير مستطاع ولذا فإن القرآن قد جعل الإيمان باليوم الأخر شرطا لا يقوم الإيمان إلا به ففي فاتحة الكتاب التي يرددها المسلم كل يوم سبع عشرة مرة فى صلاته يقول (( الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)) ويوم الدين هو يوم الحساب ... وفى أول سورة البقرة جعل أول وصف للمتقين الإيمان بالغيب وهو الحساب والجنة والنار (( ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب )) وأشار القرآن الكريم أن انفراط العقد وحبوط العمل إنما سببه ومرده عدم الإيمان بلقاء الله حيث يقول (( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون )) ( يونس 7-8) .
والأمة الإسلامية التي تربت على هذه الأسس أثمرت فيها هذه التربية ثمرا ستظل روعته مضرب المثل فى التاريخ ؛ وحسبنا أن نذكر مثالين أو نموذجين : فهذا (( ماعز)) وقد زل فأتى خطيئة لم يره أحد حين أتاها ولم يعلم بها أحد ويعرف فظاعة عقوبتها ويعرف أنه أصبح بمنجى من هذه العقوبة لكنه مع ذلك نراه يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له رسول الله : لقد زنيت . فيحاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن هذا الاعتراف فيقول له : لعلك قبلت فيقول : لا لقد زنيت حتى يقول له : لعلك فاخذت فيقول : لا لقد زنيت ويصر على قوله ويطلب تنفيذ الحد عليه فيأمر رسول الله به فيرجم بالحجارة حتى يموت . فيصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى من عمر تخلفا عن الصلاة عليه بدعوى أنه زان ؛ فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول (( لقد تاب والله توبة لو وزعت على أهل الأرض لو سعتهم )) .
وفى موقعة القادسية لما دخل المسلمون إيوان كسرى وزالت بذلك دولة الفرس وأرسلت الغنائم إلى المدينة ووزعت الغنائم كما شرع الله ولم يعد أحد يشك فى أن كل ما غنم قد سلم إلى بيت المال ؛ تقدم جندي من جنود الموقعة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وسلمه أثمن ما كان يملكه كسرى ؛ سيفه ومنطقته وزبر جدته . فنظر إليها عمر وقال قولته المشهورة (( إن قوما أدوا هذا ولم يستأثروا به لذووا أمانة )) .
ثالثا : المعاملة
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( الدين المعاملة )) . وما من دين أنزله الله وما من نبي أرسله إلا وهو يدعو إلى حسن المعاملة بين الناس بعضهم مع بعض . ولكن الدعوة إلى حسن المعاملة كانت فى كل ما سبق الدعوة المحمدية دعوة مجملة أو مركزة في ناحية واحدة ؛ فدعوة هود كانت مركزة فى النهى عن التطاول فى البنيان وفى الاقتصاد فى البطش والجبروت .. ودعوة صالح كانت مركزة فى النهى عن الرفاهية وفى الدعوة إلى العدالة فى اقتسام مياه الري ... ودعوة لوط كانت مركزة فى النهى عن إتيان الفاحشة ... ودعوة شعيب كانت مركزة فى النهى عن الغش فى الكيل والميزان ... وهكذا حتى بلغت الإنسانية رشدها فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة بالكتاب الكامل الشامل فوضع لكل نوع من أنواع التعامل بين الناس حدودا مفصلة وقوانين محددة ؛ فوضع أسس تكوين الآسرة كما حدد حقوق الفرد نحو مجتمعه وحقوق مجتمعه عليه ، فعلاقة البيع والشراء والعلاقات التجارية والزراعية وحقوق المال وحقوق العمل كما نص على عقوبات للجنايات ... وحسبك أن تعلم أن أطول آية فى كتاب الله إنما نزلت فى معالجة موضوع الديون وكيفية كتابة وثائقها وهى الآية282 من سورة البقرة.
فالإسلام نظام كامل شامل لإدارة الدنيا فى جميع شئونها ونواحيها ،ولا يصلح أن يقتبس منه جزء يرفع به نظام خر فكل جزء منه مرتبط ببقية الأجزاء فإما أن يؤخذ بالنظام الإسلامي كله وإما أن يترك كله ؛ فإذا لم ترتكز قوانينه فى المال والجنايات والأسرة على أساسين من العقيدة والعبادة كانت هذه القوانين جسما بلا روح ... وهذا ما تعانيه بعض الدول الإسلامية التي ظهر فيها زعماء لم يفقهوا هذا المعنى فراحوا يدعون إلى الأخذ بالشريعة الإسلامية فى المال والجنايات فى حين أن شعوبهم فاقدة الأصل الأصيل من العقيدة والعبادة فانتهوا إلى مجموعة من المظاهر التي تنتسب إلى الإسلام تخفى تحتها نفوسا لا تمت بصلة إلى الإسلام وصدق الذي قال :
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبق ولا ما نرقع
ورحم الله أستاذنا الإمام فقد كان يقول : إن القاضي الذي صقلت نفسه التربية الإسلامية يستطيع بهذا القانون الوضعي أن يخرج لنا أحكاما تتفق مع روح الشريعة الإسلامية .. أما القاضي الذي ليس له نصيب من التربية الإسلامية فإنه حتى إذا حكم بالقانون الإسلامي فإن أحكامه تكون مجافية للعدالة وروح الإسلام ...
نعم لابد من أن تكون الشريعة هي قانون البلاد ، ولكن لابد من أن ترافق ذلك تربية إسلامية على أساس من العقيدة والعادة تكون الفرد المسلم الذي سيكون بمثابة الروح لهذه القوانين ، والذي يصبغ بشخصيته المجتمع الذي يعيش فيه أو يتصل به ، والذي يكون الأداة الفعالة للإبداع فى كل عمل يزاوله ، والذي سيعفى الدولة مما تتورط فيه الحكومات من إنشاء رقابة من فوقها رقابة من فوقها رقابات حتى تضمن من أفرادها أداء ما وكلته إليهم من أعمال إن محاولة الإصلاح عن طريق القوانين دون التربية الإسلامية لأفراد الأمة هو نوع من البناء على الرمال ... فإذا رافقت التربية الإسلامية الحكم بالشريعة كانت أحكام الشريعة فى هذه الحالة أشبه بالبذور تنزل على ارض أخذت حقها من الإعداد والري فأنبتت نباتا حسنا وجاءت بأطيب الثمر ... أما إذا نزلت هذه البذور - وهى فى أجود حالاتها - على أرض وعرة أو أرض سبخة لم تمتد إليها يد الإصلاح فان جودة البذور لن تغنى عنها شيئا وستموت على هذه الأرض ولست أقصد من هذا أن تنتظر الأمة الإسلامية فى عصرنا هذا ممثلة فى دولها حتى تتم تربية شعوبها ثم تبدأ بعد ذلك فى الآخذ بأحكام الشريعة الإسلامية .
وإنما الذي أقصده هو أن تتخلص الدول من تصور خاطئ سيطر على تفكير قادتها ، وهو أن النظام الإسلامي منحصر فى الأخذ بالقوانين الإسلامية ضاربة عرض الحائط بما سوى ذلك من أصول التربية الإسلامية القائمة على الأساسين الركينين من العقيدة والعبادة ... فهذه الدول تريد الأخذ بالقوانين الإسلامية فى الوقت الذي تنشر وسائل الإعلام فيها ليلا ونهارا وفى كل شارع وفى كل بيت الدعوة إلى الفساد والتهتك والانحلال الخلقي ... تريد الأخذ بقوانين الشريعة وهى تاركة لنسائها الحبل على الغارب لإغراء الشباب المجرد من أسلحة المناعة الخلقية ... تريد الأخذ بقوانين الشريعة وكبار موظفيها وصغارهم لا رادع لهم من خلق والقوانين الإسلامية وحدها لا تخلق الضمير ولا تنشئ الخلق .
إذا كانت هذه الدول جادة فى الأخذ بقوانين الشريعة فلتأخذ بها فى الوقت الذي تأخذ فيه بأساليب التربية الإسلامية لشعوبها حتى تكون قوانين الشريعة مدعومة بهذه الأساليب التي يظهر أثرها فى وسائل الإعلام وفى صفوف المدارس وفى مكاتب الموظفين وفى مسلك الرجال والنساء أما الأخذ بقوانين الشريعة وكل أجهزة الدولة سائرة فى خط معاكس لهذه القوانين فهو الذي نرفضه لأنه لن يعود على الأمة بفائدة ولا يكون إلا تشويها لسمعة الشريعة الإسلامية . ولعمري ما أيسر الحكم بالشريعة الإسلامية فإن ذلك لن يكلف الحاكم شيئا إلا أمرا بذلك يصدره . أما تربية الشعب وإعداده ليكون شعبا مسلما نعيش فى قلب كل فرد منه رقابة الله فإن ذلك هو الأمر العظيم الذي لا يقدر عليه كل أحد ولا يقدر عليه إلا كل عظيم من الناس ؛ لا يقدر عليه إلا لقدوة الحسنة . وتحول الفرد إلى أن يكون قدوة حسنة يقتضيه الكثير من التضحيات فهذه هي الوظيفة الكبرى للأنبياء ولا يقدر على ذلك من بعدهم إلا ورثة الأنبياء على أن لا يكونوا من الأدعياء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النشأة
رأيت أن أبدأ بهذه العجالة التي ترسم الخطوط العريضة للفكرة الإسلامية ، والتي يتبين مهما مدى خطورة هذه الفكرة على ذوى المطامع من الجبارين والمستبدين والمستعمرين ؛ ولذا فإن الذي شرعها – عز جاره وجل شانه - شرع معها الجهاد لحمايتها والذود عنها وجعل هذا الجهاد ذروة سنامها كما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذه الفكرة بهذا التخطيط والشمول لم يكن لها - منذ خمسين عاما - وجود فى أذهان المسلمين فى أنحاء الأرض ، وإنما كان الموجود منها فى الأذهان نتفا وأجزاء .. وكان هذا نتيجة خطط محكمة أختطها الاستعمار الذي كان إذ ذاك مسيطرا على جميع البلاد الإسلامية ، وقد تمكن بهذه الخطط من مسخ الفكرة الإسلامية فى أذهان الناس فأصبحت العقيدة مجرد ألفاظ تلوكها الألسن فى حلقات الذكر فاقدة معانيها ؛ فمعنى تحدى الظلم الذي هو أبرز معاني العقيدة حل محله الدعوة إلى العزلة وتحريم التصدي للحاكمين مهما طغوا وظلموا بل وتحريم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فكانوا إذا رأوا أحدا يتصدى لذلك يقولون له : دع خلق الله فى ملك الله )) ، (( لا يقع فى ملكه إلا ما يريد)) (( يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )) (المائدة 105 ) .
مع أن الانحراف بهذه الآية الكريمة عن معناها إلى عكسه هو الذي حمل أبا بكر رضي الله عنه وهو على المنبر أن يفسرها ويقول للناس (( إنكم تحملون هذه الآية على الدعوة إلى العزلة وترك الناس تفعل ما يشاء ألا إن معناها هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن لا سيروا فى ركب أهل الضلال مهما كثروا وقويت شوكتهم بل على المؤمنين أن يخالفونهم ويتمسكوا بكتاب الله ... وناهيك بالتمسك بكتاب الله وما فيه من حث على الجهاد ومقاومة للظلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وكان الناس يؤدون العبادة بنفس هذا المعنى الميت ؛ فهي طقوس تؤدى وحركات وألفاظ يرثها جيل عن جيل ليس لها هدف ولا مغزى ... حتى الدروس فى المساجد لم تكن أكثر من حلقات للتسلية والإمتاع ... وبهذه الصورة لم يكن المستعمر وأذنابه من الحكام يعارضون فى بناء المساجد وفى إتيان الصلاة وإلقاء الدروس بها لأنها لم تكن مصدر إقلاق لهم بل كانت وسيلة من وسائل إشاعة روح التخاذل والإلهاء والخضوع فى الناس على حد ما كانوا يقولون : ليس فى الإمكان أبدع مما كان .
وكان الذين يفهمون الإسلام فهما صحيحا قلة من الناس . ومن فضل الله على أن أهلي وأسرتي كانوا من هذه القلة . لأنهم لم يتلقوه عن طريق رسمي فى مدارس الحكومة وإنما تلقوه من أصوله فى أمهات الكتب التى كانت تزخر بها مكتبتهم التى ورثوها كابرا عن كابر وكان كل جيل يزيد فيها . رأيت أن أبدأ بهذه العجالة التى ترسم الخطوط العريضة للفكرة الإسلامية ، والتي يتبين مهما مدى خطورة هذه الفكرة على ذوى المطامع من الجبارين والمستبدين والمستعمرين ؛ ولذا فإن الذي شرعها - عز جاره وجل شانه - شرع معها الجهاد لحمايتها والذود عنها وجعل هذا الجهاد ذروة سنامها كما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذه الفكرة بهذا التخطيط والشمول لم يكن لها - منذ خمسين عاما - وجود فى أذهان المسلمين فى أنحاء الأرض ، وإنما كان الموجود منها فى الأذهان نتفا وأجزاء .. وكان هذا نتيجة خطط محكمة أختطها الاستعمار الذي كان إذ ذاك مسيطرا على جميع البلاد الإسلامية ، وقد تمكن بهذه الخطط من مسخ الفكرة الإسلامية فى أذهان الناس فأصبحت العقيدة مجرد ألفاظ تلوكها الألسن فى حلقات الذكر فاقدة معانيها ؛ فمعنى تحدى الظلم الذى هو أبرز معاني العقيدة حل محله الدعوة إلى العزلة وتحريم التصدي للحاكمين مهما طغوا وظلموا بل وتحريم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فكانوا إذا رأوا أحدا يتصدى لذلك يقولون له : دع خلق الله فى ملك الله )) ، (( لا يقع فى ملكه إلا ما يريد)) (( يأيها الذين آمنوا ليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )) (المائدة 105 ) .
مع أن الانحراف بهذه الآية الكريمة عن معناها إلى عكسه هو الذى حمل أبا بكر رضي الله عنه وهو على المنبر أن يفسرها ويقول للناس (( إنكم تحملون هذه الآية على الدعوة إلى العزلة وترك الناس تفعل ما تشاء ألا إن معناها هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن لا يسيروا فى ركب أهل الضلال مهما كثروا وقويت شوكتهم بل على المؤمنين أن يخالفونهم ويتمسكوا بكتاب الله ... وناهيك بالتمسك بكتاب الله وما فيه من حث على الجهاد ومقاومة للظلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وكان الناس يؤدون العبادة بنفس هذا المعنى الميت ؛ فهي طقوس تؤدى وحركات وألفاظ يرثها جيل عن جيل ليس لها هدف ولا مغزى ... حتى الدروس فى المساجد لم تكن أكثر من حلقات للتسلية والإمتاع ... وبهذه الصورة لم يكن المستعمر وأذنابه من الحكام يعارضون فى بناء المساجد وفى إتيان الصلاة وإلقاء الدروس بها لأنها لم تكن مصدر إقلاق لهم بل كانت وسيلة من وسائل إشاعة روح التخاذل والإلهاء والخضوع فى الناس على حد ما كانوا يقولون : ليس فى الإمكان أبدع مما كان .
وكان الذين يفهمون الإسلام فهما صحيحا قلة من الناس . ومن فضل الله على أن أهلي وأسرتي كانوا من هذه القلة . لأنهم لم يتلقوه عن طريق رسمي فى مدارس الحكومة وإنما تلقوه من أصوله فى أمهات الكتب التى كانت تزخر بها مكتبتهم التى ورثوها كابرا عن كابر وكان كل جيل يزيد فيها .
ولاشك فى أن أعظم عامل يؤثر فى حياة الفرد هو البيئة التى أحاطت به فى شأنه فإنها كفيلة أن تحدد له اتجاهه فى الحياة لأنها تسكب فى قرارة نفسه وتخلط مع مهجة قلبه وتحفر فى ثنايا عقله قيمها ومفاهيمها ... وهكذا نشأت فى بيئة تجمع بين الدين والعلم والأدب والوطنية ؛ فلقد كانت أسرتنا برشيد متميزة بكل هذه المعاني وكان لها مدرسة تخرج فيها جيل من الناشئين على يدي عمين لي كانا أمة كاملة للسمو البشرى بمختلف ألوانه ؛ فلقد كانا يعيشان لا لنفسيهما بل للمجتمع الذي نشآ فيه ، فكانا قادة كل حركة تقاوم الظلم والاستبداد والاستعمار . عاشا ما عاشا يبذلان ولا يأخذان ، وينفعان ولا ينتفعان .. لم يكونا من حملة الشهادات الدراسية لكنهما كانا طودي علم وأدب .
من آثار البيئة
معذرة للقارئ فقد أكون شغلت جانبا من وقته بحديث قد لا يعنيه ولكن من حق أصحاب الفضل أن يذكروا ... وأعوذ إلى السياق فأقول ؛ فى هذه البيئة نشأت فوجدته بين يدي كتبا كانت غذاء لعقلي ومهذبا لطبعي . ورأيت بين يدي مثلا حيه لكثير من أروع ما رأت ؛ فلقد كان اتصالي بعمى هذين أكثر من اتصالي بأمي وأبى ... وكنت الابن الوحيد فى تلك الآونة للأسرة كلها فعمل كل بثي كل ما عنده ، وعلى تنشئتي على الصورة التى هي فى قرارة نفسه .. وقد هيأ لي هذا الاتصال أن أقرأ وأتا بعد فى سن مبكرة فى دراستي الثانوية كتبا ذات شأن كشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ووفيات الأعيان لابن خلكان ورسالة التوحيد لمحمد عبده والعقد الفريد لابن عبد ربه والبيان والتبيين للجاحظ والكامل لأبى العباس المبرد كما قرأت ديوان امرئ القيس وديوان المتنبي وديوان البارودي والمعلقات السبع وغيرها من أمهات كتب الدين واللغة والأدب .
ويجدر بي فى هذه المناسبة أن ألفت النظر إلى الأدب العربي شعره ونثره والى ما ينطوي عليه هذا الأدب من توجيهات إلى السمو بالنفس عن الدنايا وإلى تبصير الإنسان بما يجعله إنسانا موفورا الكرامة . مرفوع الرأس محببا إلى الناس فهو يوضح له المواقع التى عليه أن يتجنبها وتلك التى يسلكها ويعلمه كيف يعامل الناس وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول (( إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة )) ويخيل إلى أن الحكمة الهادية لا يكاد يجدها المرء بعد كتاب الله وحديث رسوله إلا فى كتب الأدب نثرا وشعرا حتى إنه ليبدو لي أن الأديب حين يكتب وان الشاعر حين يقول الشعر تتولاه حالة يكون مهيأ فيها لنوع من الإلهام فتراه يضمن كلامه أو شعره حكما سامية وتوجيهات رائعة ينتفع بها قارئها وقد لا ينتفع هو بها ... ولعل فى هذا إشارة إلى قول الله تعالى (( والشعراء يتبعهم الغاوون . ألم ترأنهم فى كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ملا يفعلون . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا)) .. (224-227 الشعراء)
وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم معلقة زهير بن أبى سلمى الشاعر الجاهلي التى منها :
ومن لا يصانع فى أمور كثيرة
- يضرس بأنياب ويوطأ بمنسـم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
- وإن يرق أسباب السماء يسلـم
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
- وإن خالها تخفى على الناس تعلم
قال عليه الصلاة والسلام " هذا من كلام النبوة " . وإنك لواجد في أشعار الشعراء من التوجيهات والحكم مالا تجده في غيرها وما يوجهك أحسن توجيه فحين تسمع قول الشاعر :
والنفس راغـبة إذا رغبـتها
- وإذا ترد إلي قلـيـل تـقنــع
نعرف كيف تسوس نفسك وتحملها على مالا يعيبك وتخرج بذلك من إسار العرف الذي يدعى أن النفس طبعت على طبائع لا يمكن التخلص منه وحين تسمع هذين البيتين :
بلاء لـيس يـعدله بـلاء
- عـداوة غيـر ذي حسب وديـن
يبيحك منه عرضا لم يصنه
- و يرفع منك فى عرض حصـين
تعرف كيف تعامل من لا خلاق لهم من الناس فلا تحتك بهم ولا تعاملهم معاملة الند بالند .......... وحين تقرأ :
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
- هوانا بها كانت على الناس أهوانا
فهمت أن احترام الناس لك مرهون باحترامك لنفسك وذكر عن على كرم الله وجهه أنه لما بلغه وفاة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال : رحم الله أبا محمد فقد كان كما قال الشاعر :
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
- إذا ما هو استـغنى ويـبعده الفقر
وأنشد النابغة الجعدى النبي صلى الله عليه وسلم شعره حتى وصل إلى قوله :
ولا خير فى حلم إذا لم تكن له
- بوادر تحمى صفوة أن يكدرا
ولا خير فى جهل إذا لم يكن له
- حليم إذا ما أورد الأمر أصدر
والشعر المأثور عن شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام فى صوره المختلفة وأغراضه المتباينة يزخر بدرر من التوجيهات والحكم لا يمكن تعليل ورودها على ألسنة قائليها إلا بأن وضع الإنسان نفسه فى المجال الموسيقى للشعر يجعله فى تواؤم مع تلقى نوع من الإلهام .
وقد أردت بهذه الإلماحة إلى فضل الأدب والشعر فى توجيه الناس إلى المحامد وصرفهم عن المثالب أن ألفت نظر الجيل الناشئ إلى أن ينظروا إليها نظرتهم إلى منهل يعينهم على تكوين شخصيتهم المسلمة .
ولولا خصال سنها الشعر ما درى
- بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
ورضي الله عن الفاروق عمر الذي كان يقول : الشعر ديوان العرب .
التعلق بالقرآن
إن النفس العربية ، في البيئة العربية ، وفي جو الأدب الرفيع الذي يدفع إلي السمو ؛ يجد المرء نفسه جاثيًا أمام كتاب الله العزيز ، ناهلاً من صافي سلسبيله ، مستروياً من عذاب مائة ... وهكذا وجدتني منذ الصغر وأنا في سن السابعة أجلس بين يدي كتاب الله ، أتلو منه وحدي والله وحده يعلم هل كنت في أول عهدي به كثير الخطأ في تلاوته أم قليله .. لأني لم أكن أتلو أمام غيري ... وقد خرجت في إحدى الأجازات الصيفية وأنا في تلك السن المبكرة أن ألتحق بأحد الكتاتيب في رشيد فلم ترقي طريقهم التي تعتمد علي الاستظهار والحفظ دون التلاوة ، فانقطعت عنه واكتفيت بالتلاوة المنزلية ؛ فكنت أقرأ المصحف بالترتيب ، ولم أكن – كما – كما قدمت – أوقن أنني أقرأ قراءة صحيحة إلا أنني تنبهت بعد فترة من الزمن – نحو خمس سنين – حين كنت في أوائل الدراسة الثانوية فوجدتني ماهرًا في تلاوته ، واستطعت في خلال دراستي الثانوية أن أجمع إلي المهارة في التلاوة الحذق في التجويد دون أن يكون ذلك عن دراسة منظمة لفن التجويد ؛ فاللسان العربي قادر بطبيعته مع القليل من التوجيه والملاحظة علي النطق الصحيح وإخراج الحروف من مخارجها الصحيحة ... وقد نكون مداومتي علي التلاوة دون انقطاع مما سهل لي هذا الأمر .
أول فراق لرشيد
لم يكن برشيد فى ذلك الوقت مدارس ثانوية ، فكان على أن أرحل إلى الإسكندرية ، وكم كان ذلك شاقا على نفسي وعلى نفس والدي .. إلا أنني أفدت الكثير من هذا الفصال الذي فطمني عن عهد الطفولة وأحيا فى نفسي عوامل الرجولة والاعتماد على النفس ، وأوجدني فى بيئة ضممت مزاياها إلى مزايا البيئة التى نشأت فيها ... نعم كنت طالبا (( داخليا )) تعد المدرسة لي الطعام والمنام ووسائل النظافة لكن هذا ليس كل شئ فى الحياة ... لقد تعرفت على أقوام من شتى البلاد وخالقتهم وعاشرتهم وأضفت إلى أصدقائي التقليديين من أهل بلدتي أصدقاء آخرين من بلاد أخرى وكان ألصقهم بنفسي الطالب محمد جمال الدين نوح الذي كان والده زميل والدي وكانوا مقيمين فى الإسكندرية إلا أنه كان طالبا ((داخليا)) .
ومن أجمل مزايا نظام (( الداخلية)) تنظيم حياة الطالب ، فالاستيقاظ من النوم فى الصباح فى موعد محدد ، والإفطار الجماعي فى موعد محدد والغداء والعشاء كذلك والوجبات التى تقدم على مدار الأسبوع أنواع محددة ثم المذاكرة فى مكان محدد وموعد محدد وتحت إشراف يرشد ويعين ، ثم النوم فى موعد محدد .
كانت فترة دراستي الثانوية فى الإسكندرية فترة إنضاج فكرى وروحي لي : فلقد دخلت هذه المرحلة فى سن الثانية عشر وأنا مزود بشحنات من نور القرآن ، وبثقافة سياسية وأدبية - وقد أفردت لأول مرة دون من كنت أستمد منهم وأتلقى عنهم - فوجدتني مهيأ لدور قيادي فى هذه المدرسة . فبغير إرادة منى وجدتني قدوة يقتدي بي زملائي فى المدرسة ؛ فمصلاي التى كانت تلازمني بجانب فراشي جعلت كل من تهفو نفسه إلى الاستقامة والخير يتجه إلى ؛ ثم فى مسجد المدرسة - وكان مسجدا عظيما . وجدني أوجه زملائي .
ومما يدل على أن التدين لا يرتبط بدراسة معينة أن هذه المدرسة كانت نعج بمدرسي اللغة العربية والدين والمتخرجين فى الأزهر ودار العلوم ، ومع ذلك فلم يكن يصلى معنا فى هذا المسجد من المدرسين إلا مدرس احد هو الأستاذ عفيفي مدرس المواد الاجتماعية ، وهو الذي كان يؤمنا ، كما أن ناظر المدرسة حين رأى إقبال الطلبة على الصلاة فى المسجد انتدب الأستاذ عفيفي ليؤمهم .
ولا أنسى هنا أن أشيد بذكر رجل كان له فضل على كبير فى تنمية ثقافتي الإسلامية ، ذلك هو الشيخ محمد على أمين ، الفراش النوبي المختص آنذاك بمغسل المدرسة فقد كان هذا الرجل عالما عابدا ذا خلق ودين . وكان يقتنى أقيم الكتب ، فقد قرأت من كتبه غير قليل من زاد المعاد لابن القيم والفتاوى الكبرى لأبن تيمية وشرح مسلم للنووي والمجموع فى فقه الشافعي للنووي أيضا وغير ذلك مما غاب خاطري الآن يعد هذه المدة الطويلة ... وهو الذي دلني على تفسير القرطبي وقت أن بدأت دار الكتب المصرية فى طبعه .. كان هذا الرجل مهذبا كريم المعشر عالي النفس مثلا حيا للإسلام ، وكنت أحترمه كما أحترم أقرب أساتذتي إلى نفسي ؛ ولم يكن يدخر وسعا فى معاونتي على الإلمام بمختلف القضايا التى تتصل بالإسلام ... وكان عضوا فى جمعية أنصار السنة المحمدية بالإسكندرية ؛ ولهذه الجمعية مزايا لا تنكر ؛ أهمها أنها دلت المنتسبين إليها على كنوز من الكتب الإسلامية عفي عليها زمن التخلف الذي شمل العالم الإسلامي بضعة قرون ، ومن بينها كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وكتب السنة عموما ؛ فقد كان من معالم تقهقر المسلمين فى القرون الأخيرة هجرهم كتب السنة والاكتفاء بتأليف المتأخرين ، وكان كل متأخر يعلق كلام سابقه حتى نسيت السنة فى غمار هذه التعليقات والمجادلات اللفظية .
ومن حق هذا الرجل على أن أنوه بفضله ، وأن أدعو الله له أن يحسن جزاءه لآن له عندي يا لا أنساها ؛ فإنه أحسن حين لقينى فى غمار عمله ضمن من يلقى من الطلبة أنى أهل لتوجيهه ، وكنت بعد فى سن مبكرة حوالي الثانية عشرة ، ومثلى لم يكن ليستطيع فى مثل هذا السنان يقرأ فى أمهلت كتب الفقه والسنة ، فكيف كشف هذا الرجل بنافذ بصيرته استعدادي للقراءة فى مثل هذه الكتب ؟ لقد كان رجلا متقد الذهن نافذ البصيرة ، كنت تقرأ فى قسمات وجهة ، وفى بريق عينيه ، وفى شحوب وجنتيه ، وفى وضاءة جبينه ، مع وسامة وهدوء ؛ كنت تقرأ فى ذلك سمة قوام الليل صوام النهار .
ومع أنه كان عضوا بارزا فى جماعة أنصار السنة المحمدية كما قدمت ، غير أنى - وقد عاشرته خمس سنوات - كانت كلها مدارسه ومناقشة لم أسمع منه كلمة واحدة عن آيات الصفات والاستواء ؛ مع أن أعضاء هذه الجماعة - وقد احتككت بهم فيما بعد فى القاهرة وكانت لي معهم تجارب ومواقع - لم يكن لهم حديث مع الناس حتى العوام منهم إلا عن هذه الآيات التى فرقت آراؤهم فى تفسيرها المسلمين وغرست بذور العداء فيما بينهم ... ولا عجب مع ذلك فى تجنب عضو بارز كالشيخ محمد على أمين الخوض مع الناس فى مثل هذه المواضيع فإن المنشغل بمهام الأمور لا جد وقتا لسفسافها وصدق البارودي إذ يقول :
ودع من الأمر أدناه لأبعده
- في لجة البحر ما يغني عن الوشل
لقد ازددت على يد هذا الرجل علما وفقها وتعرفت على رجال فى تاريخ الدعوة الإسلامية والفقه الإسلامي لا ينبغي لمسلم يتصدى للدعة الإسلامية أن يجهلهم كابن تيمية وابن القيم ومحمد ابن على الشوكانى وهو إمام يمنى من أهل القرن الثاني عشر الهجري أحيا بمؤلفاته ما أندثر من السنة ولعل أشهر كتبه (( نيل الأوطار )) .
وقد لا يكون خروجا عما نحن بصدده الآن أن نتوقف لحظة عند ابن تيمية .. فهذا الرجل وهو إمام الأئمة ليس له من الآثار ، فى عالم الكتب والتأليف ما يصلح أن يسمى (( بالفتاوى الكبرى )) ولا يخرج عن كونه مجموعة من الفتاوى صدرت عنه فى مناسبات متفرقة جمعها أحد تلاميذه ... ذلك أن هذا الإمام لم يكن همه موجها إلى تأليف الكتب وتصنيفها لأنه كان منشغلا بما لم يكن أحد يقدر عليه غيره وهو حمل لواء الدعوة الإسلامية ، فهو الذى هدى الله على يديه التتار حين تحدث مع زعمائهم فكان إسلام التتار من المواقف الحاسمة فى تاريخ الدعوة الإسلامية بل وفى تاريخ العالم ... لم يكن وقته يتسع للتأليف والتصنيف ولكنه استطاع أن يؤلف رجالا منهم ابن القيم الذى ملأ الدنيا كتبا ومؤلفات تعد من أعظم ذخائر المكتبة الإسلامية .
ولما كان ابن تيمية هو حامل لواء الدعوة الإسلامية فى عصره ، كان كثير الإتباع كما كان كثير الأعداء ، وأعداء الدعاة عادة هم من الحكام أو من اللائذين بالحكام ، وقد غلت مراجل الحقد فى صدور هؤلاء اللائذين من أدعياء العلم على ابن تيمية لالتفاف الناس حوله ، فوشوا به عند السلطان الذى أودعه السجن حتى مات فيه ، وانتهت حياته بما تنتهي به عادة حياة حملة لواء هذه الدعوة فى كل زمان .
بلورت دراساتي الخاصة فى منزلنا ثم دراساتي على يد الشيخ محمد على أمين فى المدرسة بلورت الفكرة الإسلامية فى رأسي بحيث تحددت صورتها تماما ، واختمرت هذه الفكرة ، ولم يكن بد بعد ذلك من أن أوضحها لزملائي ، وأتيحت لي الفرص واستجاب كثيرون وكثر المصلون وشعر الجميع سواء فى ذلك زملائي الطلبة وأساتذتي ورجال إدارة المدرسة بأنني الذى يمثل الدعوة الإسلامية ؛ فكانت المدرسة إذا رغبت فى الاحتفال بمناسبة تمت إلى الإسلام بصلة دعتني للاشتراك مع الإدارة فى تنظيم الحفل ، وكنت أؤم المصلين فى المسجد فى غياب الأستاذ عفيفي .. وكان المشرف على الداخلية - بعد أن هداه الله إلى الصلاة _ يرسل إلى كل صباح من يأخذ مصلاي ليؤدى عليها صلاة الصبح .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فى أجازة الصيف
كان طبيعيا أن تكون أجازة الصيف فى رشيد فرصة سانحة لعرض الفكرة الإسلامية بالصورة التى اكتملت فى خاطري على أصدقائي وزملائي ... وكان مما هيأ لي أحسن الفرص أننا -أنا ومجموعة من أترابي - قد تعودنا على أداء أكبر عدد من أوقات الصلاة فى المسجد (( المحلى )) ثم ننطلق بعد صلاة العصر إلى الرمال فى خارج رشيد للتريض معا ... وكان زملاؤنا الطلبة الذين يكبروننا سنا قد أنشئوا ناديا سموه (( نادي الطلبة )) لم يكن نشاطه يتعدى الاجتماع فيه للمرح واللهو ولم يكن هذا أسلوبنا. .. فلما استجاب لي كثير من الأصدقاء والزملاء فكرنا فى إنشاء جمعية لنشر هذه الفكرة ، واستقرت الآراء على تسميتها : (( جمعية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر )) وقد اتخذت مقرا لها مؤقتا فى منزلنا حيث كانت مدرسة أعمامي تعمل نهارا ونستغل نحن المكان لنشاط الجمعية ليلا ... وقد عكفنا على وضع القانون الأساسي لهذه الجمعية ... ومع إننا كنا صغارا فإنني لازلت أذكر أن المواد التى تضمنها هذا القانون قد شملت كل الأهداف الإسلامية ، وأحاطت بما تحتويه من معالجة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واشرنا إلى وجوب إيجاد صلات بين المسلمين فى أنحاء الأرض باعتبارهم امة واحدة ... وكان هذا فى ذاته أمرا عجبا لان المسلمين فى ذلك الوقت لم يكونوا يفهمون الإسلام على هذه الصورة .
ثم انتقلت الجمعية إلى دار فسيحة فى وسط المدينة تبرع بها والد عضوين معنا وكان لهذه الدار فناء فسيح . وكانت الدار تزخر طيلة اليوم والليلة بعدد كبير من الطلبة وغير الطلبة من الشباب العامل فى مختلف الحرف ، وقد تعرف هؤلاء على الجمعية نتيجة ما كانت تقيم من حفلات تلقى فيها المحاضرات والخطب والقصائد كلها فى شرح الفكرة الإسلامية وفى إيقاظ الهمم لإحياء مجد الإسلام . فى صيف سنة تاليه كثر عدد الأعضاء وأقبلت عناصر جديدة كانت تستنكف من قبل أن تشترك معنا فلما رأوا نجاح جمعيتنا رأيناهم يأتوننا هرولة .
جمعية الشبان المسلمين برشيد
ضاقت الدار التي كنا نشغلها بالوافدين الجدد الذين تركوا نواديهم إلينا ، وما كان لنا أن نرد قادما أو نرفض وافدا ؛ وسر إخواننا بهذه الوفود الجديدة ؛ ولكنني كنت منقبض الصدر لأنني كنت أعلم أن هؤلاء الوافدين لم يدفعهم إلينا إيمانهم بفكرتنا بل كان الدافع لهم أنهم رأوا لنا نجاحا أرادوا أن يستغلوه فى الظهور والبروز ... ولم يكن بد من فتح الأبواب لهم ، فلما استقر بهم المقام اقترحوا أن تتخذ الجمعية اسما آخر غير اسمها ، وصوروا للأعضاء الآخرين من إخواني وزملائي أن اتخاذ اسم مشهور يبرز الجمعية فى المجتمع ويعلى صوتها ويرفع مكانتها واقترحوا أن يكون الاسم الجديد هو جمعية الشبان المسلمين برشيد ، واستقر الرأي على ذلك .
وكان لي خبرة بجمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية فى ذلك الوقت حيث كان لي زميل بالمدرسة مشتركا فيها وعضوا فى فريق كشافاتها وفهمت منه أن هذه الجمعية تهتم بالنواحي الرياضية ولا توالى الناحية الدينية اهتماما يذكر فلما جلسنا لوضع القانون الأساسي لهذه الجمعية اشترطت على اللجنة المنوط بها هذا الأمر - وكنت عضوا فيها - أن ينص على أن هذه الجمعية برشيد لا علاقة بينها وبين جمعية الشبان المسلمين فى القاهرة والإسكندرية وتمسكت بهذا الشرط حتى أجازته اللجنة .
واتخذت الجمعية لأول مرة مقرا مستقلا بأجر شهري وفى أبرز مكان فى المدينة واتسعت وذاع صيتها حتى أن النحاس باشا - وكان فى ذلك الوقت زعيم البلاد غير منازع - كان مدعوا فى حفل كبير أقامته لها لجنة حزب الوفد برشيد ، فلم يقم بعد انتهاء الحفل بزيارة لأي مكان أو لأية شخصية إلا هذه الجمعية ؛ والطريف أنه حين قدمنا له دفتر الزيارات ليكتب لنا كل كلمة فيه سألنا قائلا : هل جمعيتكم هذه فرع من جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة فنفينا ذلك وأطلعناه على قانون الجمعية وما فيه من نص على ذلك فابتسم وقال : لو كانت جمعيتكم فرعا من جمعية القاهرة ما قبلت أن أكتب لكم شيئا ومع أن الجمعية قد استكملت مظاهر الأبهة وتقاطر الناس على الاشتراك فيها أموالها إلا أنى كنت أرى عوامل الفشل تدب فى أعضائها وتنخر فى عظامها فقد كثر المتسللون إليها من ذوى الأغراض وطلاب المناصب وعشاق المظاهر وصار من الصعب مقاومتهم حيث صاروا أغلبية فحولوا الجمعية عن أغراضها ولم تعد أكثر من ناد يؤمه الفارغون والمتسكعون فقررت البعد عنها وأعلنت ذلك للجميع .
افتقاد الضالة المنشودة
أعلنت انفصالي عن الجمعية التى أنشأتها ؛ وحملت معي فكرتي الإسلامية التى تمكنت من نفسي تمكنا جعلني أزن بها كل ما يعرض على ، وأقيس بها ما يقدم لي . ولم أخرج من هذه الجمعية وحدي بل خرجت بالمجموعة التى كنت بثثتها ما عندي من أحاسيس وأفكار ، ولم نكن هذه المجموعة من علية القوم ولا من اكبر مثقفيهم لكنها كانت مجموعة مؤمنة بما أؤمن به وتضطرم نفسها بما تضطرم به نفسي ، وهى المجموعة التى التفت حولي من أول يوم .
كانت وطأة الاستعمار على البلاد على أشدها ، وكان فى البلاد أحزاب يدعى كل منها أنه صاحب الفكرة المثلى لمقاومة الاستعمار فكان حزب الاتحاد ... وبدراسة هذه الأحزاب تبين لي أن الوفد أكثرها جدا وبذلا وتضحية ،واتصالا بالجماهير ومعاداة للملكية فركنت إليه ...
وظهرت في ذلك الوقت جمعية مصر الفتاة التى أنشأها الأستاذ أحمد حسين المحامى ، وكانت تصلنا فى المدرسة مجلتها (( الصرخة )) تفيض بالحماسة الدفاقة ؛ وكنت أميل إليها باعتبارها فكرة ناهضة إلا أنني لم أتخذها لي مبدأ وفكرة لأن نفسي كانت تشمئز من الانتماء إلى التراب ، واتخاذ مصر إلها نقدم له القرابين ؛ إذ كان مبدأها (( مصر فوق الجميع )) وهو ادعاء على غير أساس وتميز عنصري يستطيع كل جنس ادعاءه وما أنزل الله به من سلطان .
وكان (( لمصر الفتاة )) فى تلك الحقبة إنجاز يستحق التسجيل إذ كان لباس الرأس فى تلك الأيام هو الطربوش المصنوع من الصوف أو الجوخ الأحمر ، ولم يكن أحد يجرؤ على كشف رأسه أو تغطيتها بشئ آخر غير الطربوش ، وكان هذا الطربوش يصنع فى خارج البلاد . فنادي الأستاذ أحمد حسين بتمصير لباس الرأس وتكونت لجنة بمشروع سمته (( مشروع القرش )) يجمع من المواطنين قروشا لبناء مصنع فى القاهرة لصنع الطرابيش ونجح المشروع فعلا وأنشئ المصنع ولبس المصريون من إنتاجه واستغنوا عن استيراده .
كنت أميل إلى الوفد باعتباره الحزب الذى يقف للملك بالمرصاد ؛ إلا أنني كنت أحسن بأن فى الفكرة الإسلامية الغناء عن هذه الأحزاب ؛ ولكن الميدان فى مصر خلو من جماعة تبرز هذه المعاني السياسية فى الفكرة الإسلامية ... وهذا هو الذى كان يحملني على الانتساب إلى الوفد آملا فى أن أجد فى يوم من الأيام الجماعة الإسلامية التى تملأ هذا الفراغ .
إلى الجامعة فى القاهرة
أول لقاء عابر لي مع الأستاذ حسن البنا
بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة نزحت إلى القاهرة للالتحاق بالجامعة التى كانت تسمى فى ذلك الوقت بالجامعة المصرية لأنها كانت الجامعة الوحيدة فى البلاد .. وكان أصدق صديق لي خلال دراستي الثانوية - كما قدمت - زميلي محمد جمال الدين نوح ، وكان والده زميل والدي وصديقه ... وقد توطدت الصداقة بيني وبين جمال إلى حد أننا لم نكن نطيق الافتراق ..... وكانت المدرسة قد رشحتني وجمالا أن نكون من العشرة الأوائل فى شهادة الثانوية العامة معتمدة فى ذلك على مقدرتنا العقلية إلا أن طبيعتنا فى عدم الصبر على الاستظهار لم تتح لنا الفرصة إن نكون من العشرة الأوائل كما أملوا فينا ولكننا حصلنا على مجموع لا بأس به .
لأول مرة فى حياتي سافرت وزميلي جمالا إلى القاهرة لنلتحق بإحدى الكليات .. وحين وصلنا إلى القاهرة قال لي جمال إن والده أوصاه أول ما يصل إلى القاهرة أن يزور صديقا له وكان فى يوم من الأيام تلميذا له أسمه ((الأستاذ حسن البنا )) وقال لي إن والده أعطاه عنوانه وهو 5 حارة الروم بالغورية وانطلقنا نبحث عن هذا العنوان فى أحشاء حي عريق فى القدم حتى وصلنا إليه فرأيناه بيتا من الطراز العتيق يشبه الربع وسألنا فيه عن الأستاذ حسن البنا فصعدنا عدة درجات من سلم جانبي ودخلنا غرفة كبيرة ثبت على جدرانها رفوف خشبية مملوءة بالكتب والمجلدات ورأينا مكتبا تحيط به الرفوف من كل جانب يجلس إليه شاب أبيض الوجه مستديرة و لحية سوداء يرتدى بدلة وعلى رأسه طربوش ؛ فكان منظرا عجيبا حيث لم يكن مألوفا فى ذلك الوقت أن يكون أحد معفيا لحيته إلا ويرتدى جبة وعمامة ... فلما رآنا ترك مكتبه وتلقانا بترحيب حار ، وقال إن الأستاذ محمد خلف نوح أستاذي ... وتحدث معنا فيما جئنا إلى القاهرة من أجله وشجعنا على مواصلة الدراسة وألح علينا أن ننزل فى ضيافته فشكرناه ؛ فطلب إلينا أن نتصل به فى كل ما يلزمنا وانصرفنا ؛ ولكن صورة هذا الرجل وحديثه وأسلوبه وأدبه وجلوسه وسط هذه الأكوام من الكتب واللافتة التى رأيناها تعلو باب البيت المكتوب عليها (( الإخوان المسلمين )) تشغل أفكارنا .
والتحقنا معا بكلية العلوم فكنا فى صدر المقبولين بها وخيرنا بين البقاء بها والانتقال إلى كلية الطب لكبر مجموعنا فرأى جمال البقاء فى كلية العلوم ورأيت أنا أن أحول أوراقي إلى كلية الزراعة وكان لهذا التحويل قصة قد ارجع إليها عند الحديث عن الشيخ طنطاوي جوهري إن شاء الله .
كيف تعرفت على الإخوان المسلمين
كنا آنذاك فى السنة الدراسية 1935- 1936 وكانت هذه السنة سنة نشاط سياسي كبير، إذ أعقبت بضع سنوات تولى الحكم خلالها إسماعيل صدقي وفعل - كما أفهمنا زعماء الوفد - بالبلاد الأفاعيل ، وكان من هذه الأفاعيل أنه ألغى دستور سنة 1923 ووضع دستورا بدلا منه سماه دستور سنة 1923 كنا ندرسه فى التربية الوطنية فى السنة الثالثة الثانوية وإن كنت الآن قد نسيت محتوياته إلا أنني أذكر أنه فى مجموعه كان يهدف إلى الحد من سلطة الشعب - وكانت الدولة المستعمرة - بريطانيا - تؤازر هذا الاتجاه ... وكنت فى مساء كل يوم أذهب إلى مقر حزب الوفد وكان يسمى (( النادي السعدي )) وكان يفد إليه خليط من الطلبة وصغار الموظفين والعمال والتجار كما كان أقطاب الحزب يحضرون ... وقد رأى هؤلاء نشاطي فى إقناع الوافدين من الطلبة بفكرة الوفد فأعدوا لي مكتبا بالنادي ... وفى تلك السنة أنشأ الوفد كتائب القمصان الزرقاء فكنت أحد أفراد أول نواة لها وكانت هذه النواة كلها من طلبة الجامعة والأزهر وكان يقودها طالب بكلية الطب اسمه محمد بلال .
أما اليوم الدراسي فى الكلية فكانت تتخلله فترات لا بأس بها من الفراغ كنت أستغلها فى إدارة نقاش سياسي مع الطلبة فى فناء الكلية ، وكان النقاش فى بعض الأحيان يحتدم ويطول ويزداد عدد الطلبة الملتفين حولي ومنهم من يلتف للاشتراك فى المناقشة ومنهم من يلتف لمجرد السماع والملاحظة وتنتهي أكثر هذه المناقشات عادة بكسب أنصار الوفد . وفى أثناء إحدى هذه المناقشات تقدم إلى طالب وآسر فى أذني أنه يريد أن يتحدث إلى حديثا خاصا بعد انتهاء المناقشة فى وقت مناسب ؛ وانتحيت وهذا الطالب جانبا فقال لي : أنا زميل لك بالسنة الأولى ومن الفيوم واسمي (( إسماعيل الخبيرى )) وأنا خالي الذهن عن أية أفكار أو مبادئ ، وقد استمعت إليك كثيرا وأعجبني أسلوبك فى المناقشة وأحس فيه الصدق والإخلاص ، وقد رأيت أن أسلمك نفسي لتوجهني إلى المبدأ الذي تختاره لي ... وأنا أراك تدافع عن الوفد فهل تختار لي أن أكون وفديا ؟ ...
فقلت لا ... فتعجب الشاب من هذا الرد الذي لم يكن يتوقعه ... قال : كيف تكون وفديا ولا تختار لي أن أكون كذلك ؟ ... قلت إنك شاب عديم الخبرة بالمبادئ والأفكار ، وقد استشرتني والمستشار مؤتمن . ولا أرضى لنفسي أن استغلك منتهزا فرصة خلو ذهنك لأحشوه بما أريد .
قال : إذن فماذا ترى ؟ ...
قلت : الذي أراه أن نذهب بنفسك إلى منتديات الأحزاب وتستمع بنفسك إلى قادتها وتناقشهم وتقضى فى كل ناد عدة ليال ، وتجئ كل صباح تقص على ما رأيت وما سمعت حتى إذا أتممت الجولة على كل النوادي نجلس معا لتقرر بنفسك الاتجاه الذي تسلكه ... قال إذن أرشدني إلى مكان هذه النوادي فأرشدته وكانت هذه النوادي هي: الوفد -الأحرار الدستوريون - السعديون - مصر الفتاة - الحزب الوطني .
ويجدر بي بهذه المناسبة أن أذكر أنني منذ أقمت بالقاهرة - وكان مقر دراستي وسكنى بالجيزة - كنت حريصا على أداء صلاة الجمعة دائما فى مسجد الرفاعى بالقلعة لأن خطيب هذا المسجد الشيخ محمود على أحمد كان خطيبا مفوها وكانت خطبة ذات اتصال بالحياة ، وكان رواد هذا المسجد الفسيح من أعلى طبقات القاهرة ثقافة ... وكنت الأحظ دائما بعد الصلاة فى مستهل الدرس الذي يلقيه الشيخ بعد الصلاة أنه كان يلفت نظر الحاضرين إلى شاب بين يديه مجلات يوزعها ويحثهم على اقتنائها فكنت أحد الذين يشترونها ... وقد تركت هذه المجلة فى نفسي - وكان اسمها (( الإخوان المسلمون )) - أثرا عميقا عندما وقع نظري على واجهتي غلافها ؛ فعلى وجهها وملء الصفحة رسمت الكرة الأرضية مركوزا عليها علم كتب عليه (( إنما المؤمنون إخوة)) . وتمسك بالعلم قبضة يد قوية كتب تحتها (( الإخوان المسلمون )) - أما ظهرها فيملأه ((أكلشيه)) بعنوان (( عقيدتنا )) تحته سبعة بنود يتكون كل بند من جزئيين أولهما مبدوء بكلمة (( أعتقد )) والآخر مبدوء بكلمة (( أتعهد )) ... وقد لخصت هذه البنود السبعة الفكرة الإسلامية كما تصورتها بجميع أبعادها . إلا أن ((التعهدات )) قد نقلت الفكرة المجردة إلى معترك الحياة فى جميع ميادينها ... وحرصا منى على انتفاع القارئ بهذه البنود رأيت أن أثبتها بنصها لأنها خير ما يصلح أن يكون دستورا ينظم حياة الفرد المسلم والأسرة المسلمة والأمة المسلمة فى أوجز العبارات وأدقها وأجمعها للمعاني .
عقيدتنا
1- أعتقد أن الأمر كله لله - وان سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم رسله إلى الناس كافة ، وأن الجزاء حق وأن القرآن كتاب الله . وأن الإسلام قانون شامل لنظام الدنيا والآخرة .
2- أعتقد أن الاستقامة والفضيلة والعلم من أركان الإسلام .
وأتعهد بان أكون مستقيما أؤدي العبادات وأبتعد عن المنكرات ، فاضلا أتحلى بالأخلاق الحسنة ، وأتخلى عن الأخلاق السيئة ، وأتحرى العادات الإسلامية ما استطعت ، وأوثر المحبة والود على التحاكم والتقاضي ، فلا الجأ إلى القضاء إلا مضطرا ، وأعتز بشعائر الإسلام ولغته ، واعمل على بث العلوم والمعارف النافعة فى طبقات الأمة .
3- أعتقد أن المسلم مطالب بالعمل والتكسب ، وأن فى ماله الذي يكسبه حقا مفروضا للسائل والمحروم . واعهد بان اعمل لكسب عيشي ، واقتصد لمستقبلي ، وأؤدي زكاة مالي ، واخصص جزءا من إيرادي لأعمال البر والخير ، وأشجع كل مشروع اقتصادي إسلامي نافع ، وأقدم منتجات بلادي وبني ديني ووطني ، ولا أتعامل بالربا فى شأن من شئوني ، ولا أتورط فى الكماليات فوق طاقتي .
4- أعتقد أن المسلم مسئول عن أسرته وأن من واجبه أن يحافظ على صحتها وعقائدها وأخلاقها وأتعهد بأن أعمل لذلك جهدي ، وأن أبث تعاليم الإسلام فى أسرتي ، ولا ادخل أبنائي أية مدرسة لا تحفظ عقائدهم وأخلاقهم ، وأقاطع كل الصحف والنشرات والكتب والهيئات والفرق والأندية التي تنادى تعاليم الإسلام .
5- أعتقد أن من واجب المسلم إحياء مجد الإسلام بإنهاض شعوبه وإعادة تشريعه وان راية الإسلام يجب أن تسود البشر ، وأن من مهمة كل مسلم تربية العالم على قواعد الإسلام . وأتعهد بان أجاهد فى سبيل أداء هذه الرسالة ما حييت ، واضحي فى سبيلها بكل ما املك .
6- أعتقد أن المسلمين جميعا امة واحدة تربطها العقيدة الإسلامية ، وان الإسلام يأمر أبناءه بالإحسان إلى الناس جميعا . وأتعهد بان أذل جهدي فى توثيق رابطة الإخاء بين جميع المسلمين وإزالة الجفاء والاختلاف بين طوائفهم وفرقهم .
7- أعتقد أن السر فى تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم ، وان أساس الإصلاح العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه ، وأن ذلك ممكن لو عمل له المسلمون .
فكانت هذه أول مرة أصادف قوما يعتقدون ما أعتقد بتفاصيله ودقائقه ، فكان تجاوبا عجيبا ، ولكن تجربتي أسابقه فى جمعيات رشيد التي أشرت إليها قبلا ، أفقدتني الثقة فى الذين يدعون العمل للإسلام .
كان إسماعيل يقابلني فى الكلية كل صباح ، ويقص على ما سمع وما رأى فى ليلته الماضية وأناقشه ويناقشني ، ويخرج فى كل مرة برأي معين ونقيم لكل ما رأى وكل ما سمع .. حتى طاف بجميع الأحزاب والهيئات ولم أراه شعر برضا عن أي منها .. فوجهته إلى جمعيات إسلامية كانت موجودة ومشهورة منها جمعية مكارم الأخلاق والجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة ؛ فطاف بها جميعا ولم يخرج منها بشئ يرضى شغفه ويملأ فراغ نفسه ، وأحسست منه ضجرا مما قد يسلم إلى اليأس . ونذكر المجلة التي أشرت إليها آنفا فقرات عنوان الدار التي تصدرها وقلت له : لم يبقى فى جعبتي إلا جمعية واحدة قرأت عن مبادئها فأعجبتني وملأت نفسي لكن عندي سوء ظن بالناس الذي يعملون بالجمعيات الإسلامية نتيجة تجربة لي سابقة فسأعطيك عنوان هذه الجمعية لتذهب إليها لا لتناقش مبادئها وأفكارها بل لتراقب لي العاملين بها لاسيما رئيسها .. ولقد كنت تقضى فى كل حزب أو هيئة ثلاث ليال أو أربع لكنى أريد أن تقضى فى هذه الجمعية فترة طويلة لا تقل عن الشهر لأن مراقبة العاملين تستغرق وقتا طويلا ..
ذهب إسماعيل إلى هذه الجمعية فى العنوان الذي كتبته له وهو 13 شارع الناصرية بالسيدة زينب وكان كل صباح يقص على ما رأى وما سمع وما لفت نظره ، وكان يمكث بالجمعية كل ليلة حتى تغلق أبوابها . أخبرني عن رئيسها ووصفه لي فتذكرت الرجل الذي زرته وصديقي جمال فى حارة الروم ووجدت أوصافه حين وصفه إسماعيل تنطبق عليه تماما .
بعد انقضاء الشهر شعرت بأنني أصبحت مقتنعا بالعاملين فى هذه الجمعية كما شعرت بان إسماعيل يبادلني نفس الشعور ، وقد قررت بمحض اختياره أنه يركن مطمئنا إلى الجمعية . وقد زكيت اختياره وقلت له إذن فاذهب الليلة إليهم وحرر طلب التحاق بها ، وواظب على اجتماعاتها فقال لي : إنا وحدي ؟ .. قلت : نعم أنت وحدك . قال ولم لا تكون أنت قبلي وأنت أحق منى وانفع ؟ . قلت : إن لي ارتباطات مع هؤلاء القوم ، والحركة السياسية الآن على أشدها ، ولا استطيع أن أنسلخ والحالة هذه فيقال أنى جبنت . فذهب إسماعيل والتحق .
كنا نحن - الطلبة الوافدين -نعد العدة للقيام بمظاهرات ضد القصر والحكومة القائمة - وزارة أحمد نسيم - ومن ورائهما الانجليز . فكنا نجمع الطلبة فى النادي السعدي ونشحنهم بأفكارنا وبالخطب التي كان يلقيها النحاس باشا وبعض لكبار أعضاء الوفد .. وكان السكرتير العام للوفد مكرم عبيد يحضر إلى الجامعة ويخطب فيها ويحمله الطلبة على أكتافهم هاتفين - وصحف الوفد فى نفس الوقت تشعل الحماس بمقالات ما تهبه ... كل ذلك هيا الظروف لقيام مظاهرة ضخمة ضمت عدة آلاف من طلبة الجامعة وسميت هذه المظاهرة فيما بعد بمظاهرة كوبري عباس .
مظاهرة كوبري عباس 1936
لاشك فى أن مظاهرة كوبري عباس هذه كانت الخط الفاصل فى حياتي ، كما أنها أيضا كانت حركة تاريخية جعلت الطلبة والأهالي على بينة من أن الانجليز أعداء الداء ، فقد خرج طلبة الجامعة المصرية من كلياتهم بالجيزة فى مظاهرة سليمة لا تمتد يدها إلى تخريب أو عنف ، وإنما كانت تهتف هتافات موحدة بسقوط وزير بريطاني اسمه صمويل هور لأنه هو الذي أوحى بإلغاء دستور سنة 1923 ، ويطالبون فى هتافهم بإرجاع هذا الدستور ، كما يهتفون بسقوط حكومة نسيم .
وقد سارت المظاهرة فى سلام من حرم الجامعة مخترقة شارع المدارس ثم ميدان الجيزة ثم اتجهت إلى الشارع المؤدى إلى كوبري عباس الذي يصل القاهرة بالجيزة ، ودخلت الجموع كوبري عباس حتى إذا صارت فى منتصفه إذ بالكوبري يفتح فجأة فيقسم المظاهرة قسمين ، قسم كان قد عبر الجزء المفتوح وأصبح فى الجزء المؤدى إلى الروضة وقسم حال فتح الكوبري بينه وبين مواصلة السير للحاق بزملائه فكان عليه أن يرجع أدراجه إلى الجيزة .
حاول هذا الجزء الرجوع فإذا به يجد نفسه محاضرا بقوات تطلق العيارات النارية ، وحاول الجزء الآخر مغادرة الكوبري إلى الروضة فإذا به يجد نفسه محاصرا بقوات عند نهاية الكوبري تطلق العيارات النارية . والذي دبر هذه المؤامرة الغادرة ضباط إنجليز على رأسهم حكمدار القاهرة الانجليزي (( رسل باشا )) رأيناهم بأعيننا يصدرون الأوامر إلى جنودنا المغلوبين على أمرهم بضربنا بالرصاص .
كان الرصاص يملأ الأرض والجو ويطلق فى كل اتجاه وامتلأت الأرض بالمصابين ، ولم يكن أمام الطلبة العزل المساكين إلا أن يجروا فى كل اتجاه باحثين عن مهرب من هذا المطر المنهمر من الرصاص كأنما هي حرب بين بلدين غدرت أحداهما بالأخرى بينما كانا على مائدة الصلح ، فإحداهما عزلا حتى من عصا في يدها والأخرى كانت تخفى ثيابها أفتك السلاح ... غدر لا مثيل له .
استطعت بعد الخوض بين جثث الزملاء الملقاة على الأرض أن أغادر الكوبري وانزل تحته حيث الأحراش والطين ، ومع ذلك لم نسلم من الطلقات فقد تابعونا بالرصاص أيضا .. ووقفت لحظة مع بعض الزملاء ودوى الرصاص يصم آذاننا ، وهنا تمثلت أمامي صورة لي وأصبت وتضرجت فى دمائي وقابلت ربى .. فماذا أقول له حين يسألني فى سبيل ماذا قلت ؟ سأقول له فى سبيل دستور 1923 ... هل دستور 1923 هو الدستور الذي انزله الله ليحكم هذا العالم ؟ هل هو الدستور الذي قال الله تعالى فى شانه (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) .
هنا ، وتحت كوبري عباس ، وتحت وابل الرصاص ... وشبح الموت يطاردنا فى كل مكان ... فى تلك اللحظة قررت إن كتبت لي الحياة لأصححن اتجاهي . ولتكونن حياتي كلها لله وحده ، ولاختطن لنفسي الخط الذي أراد الله للناس أن يسلكوه إليه ، وأن تكون جهودي جميعا فى سبيل إقامة الدولة الإسلامية التي لا يرضى الله بغيرها بديلا (( قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )) .
قتل من زملائنا الطلبة فى هذه المظاهرة طالبان هما (( عبد المجيد مرسى )) و ((عبد الحكيم الجراحي))رحمهما الله رحمة واسعة وكان الأول من طلبة كلية الزراعة والأخر من طلبة كلية الآداب ...أما نحن الذين نزلنا تحت الكوبري فقد واصلنا السير تحته نخوض فى الطين والأحراش حتى خرجنا مقابل مبنى الجامعة .
فى الطريق إلى المركز العام
كان أول شئ فعلته أن طلبت إلى إسماعيل الخبيرى أن يصحبنى معه إلى دار المركز العام للإخوان المسلمين ، ولكنه اقترح على أن نخصص هذا اليوم لزيارة طالب من أهل الفيوم ومن الإخوان المسلمين ويقيم فى شارع المنيل القريب من الجيزة وسألته عن أسمه فقال اسمه عبد الحكيم عدوى عابدين وهو طالب فى كلية الآداب وهو أقدم منا عهدا بالقاهرة فهو فى السنة الثانية .
فلما التقيت بهذا الطالب فى مسكنه وجدتني أمام أديب شاعر متصوف ، وما كاد يحس منى تذوقا لهذه الألوان نفسها حتى أقبل على كأنما عثر على ضالته فأخذ ينشدني من شعره ويقص على من أنباء شيخه الشيخ سلامه الراضي شيخ الطريقة التي ينتسب إليها ، وهى طريقة صوفية تربى أتباعها بأسلوب فريد ، فهم يجتمعون ليلا فى مكان خل بعيد عن الحركة والضوضاء ، ويتخذ كل منهم مكانا منفردا بعيد عن زملائه ، وتطفأ الأنوار ، ويغمض كل منهم عينيه ، ويتابع بمخيلته حياته منذ ولد حتى يموت ثم يدفن ثم يحاسب فى قبره ويسال عن ذنوبه ويوقع عليه عقاب هذه الذنوب ، ثم يرى مكانه فى النار ثم يتعرض لفتن القبر ثم يبعث ثم يرى الموقف العظيم وفى أثناء هذا الاستغراق تنبعث الآهات وتعلو الاستغاثات حيث يصل الاستغراق إلى حد غياب المريد عن وعيه .
وقد كانت هذه أول مرة - مع سابق أختلاطى بكثير من المتصوفين - أسمع فيها عن هذه الطريقة عن أسلوبها فى التربية ، وهو أسلوب ولاشك فريد وعنيف ، وقد يمحص الفرد ويزكى النفس ويسمو بها فى ليلة واحدة وفى جلسة واحدة مالا يفعله فى أشهر الوعظ الكلامي الذي هو المتبع في الوزع والتربية .
وقد أنشدني عبد الحكيم قصيدة له تربو على مائه بيت نظم فيها الأسلوب التربوي بجميع أطواره ، وجعل الحديث فيها على لسان أحد المريدين فهو يغمض عينيه فى الظلام ويتابع حياته بأطوارها ويصف كل ما كان منه وما كان له فى كل طور حتى يصل إلى الحقيقة وهى الموت والحشر والحساب . كما أنشدني عبد الحكيم قصائد له أخرى فى مختلف الأغراض لكن أكثرها كان يدور حول هذه المعاني الصوفية العميقة الغور التي لا حسن التعبير عنها إلا من لابسها وتذوقها .
إلى دار المركز العام
قلت لإسماعيل فى اليوم التالي سأذهب معك إلى دار الإخوان ولكن لا عرفني برئيسهم ولا بأحد منهم كما لا نعرف أحدا منهم بي فإني أحب أن أراقبهم دون أن يعرفوا.. ونفذ إسماعيل .. فقد دخلنا دارا عتيقة فى شارع الناصرية بالسيدة زينب ، والدار مكونة من أربع غرف وصالة صغيرة ، وكانت الدار هي الدور الأراضي من أحد المنازل المتهالكة .. وكانت ميزتها الوحيدة أن أمامها فناء فسيحا غير مسقوف يصلح لإقامة الحفلات وإلقاء الحفلات وإلقاء المحاضرات .
كان الرئيس هو الأستاذ حسن البنا الذي قابلته مع صديقي جمال ، ولم تكن اللافتة الموضوعة على باب حجرة مكتبه بهذه الدار مكتوبا عليها كما هو متعارف كلمة (( الرئيس )) بل كان المكتوب عليها كلمة (( المرشد العام )) .. وكان الموجودون مجموعة من الشباب أكثرهم من طلبة الجامعة وقليل منهم من صغار الموظفين .. ولمست روح المحبة والود تسود كل من فى الدار حتى العلاقة بينهم وبين المرشد العام كانت علاقة محبة وود ... نعم إنهم يحترمونه ويوقرونه ولكن توقيرا نابعا من حب ، أما هو فيتعامل معهم كأنه واحد منهم ... ثم إنك لا تسمع حديثا داخل الدار إلا عن الإسلام وما يتصل به وما يدور حوله ، وليس معنى ذلك أنهم يتناقشون فى أمور الفقه وأحكام العبادات كما يتبادر إلى الذهن ، وإنما يدور حديثهم حول قضايا الساعة ، الاجتماعي منها والاقتصادي والسياسي ويقيسونها بمقاييس الإسلام . وتحس حين تراهم وتسمعهم وتراقب حركاتهم وسكناتهم أنهم يهيئون أنفسهم ليسدوا فراغا فى هذه الأمة طالما ظل شاغرا نتيجة للجهل ولتدابير المستعمرين ولقهر الظالمين .. فترى الشاب منهم مشتعلا بالفكرة الإسلامية باعتبارها الفكرة الوحيدة لإنقاذ العالم مما يعانيه فى مختلف نواحي الحياة .
فإذا حان موعد الصلاة قام أحدهم فأذن على باب الدار ، ورأيت باب حجرة المشد العام قد فتح ودلف المرشد ليؤم الجميع لا تخلف منهم أحد منهم احد . وتشعر حين تنتظم معهم فى الصف أنك لست فى صلاة وحسب بل تشعر مرة أنك فى ميدان القتال وتشعر أخرى أنك تدرس على المستوى العالمي طبائع النفوس وأنواعها وعلاج كل نوع منها ... وتخرج من الصلاة وقد تجددت قلبا ونفسا وعقلا وبدنا .
أما عدد رواد الدار فكان قليلا بحيث لا عد فى ليلة من ليالي الأسبوع أكثر من عشرين فردا لكن طابع الجد كان يبدو فى وجوههم جميعا كأن الواحد منهم يحمل مسئولية أمة كاملة ، مع أن أكثرهم لم يكن مسئولا حتى عن نفسه ، لأنهم كانوا طلبة أو من هم فى مستوى الطلبة وقد أقنعني هذا الطابع الذي أبرز شئ فيهم وفى رئيسهم بأن هذه الهيئة هي بغيتي وأمنيتي .
نظام الدار
كانت هناك أربعة أيام فى الأسبوع ينتظم فيها الإخوان لسماع دروس : ثلاثة منها تلقى فى مسجد الدار ، والرابع محاضرة عامة تصف لها الكراسي و(( الدكك)) فى فناء الدار ويدعى إليها الجمهور فدرس فى التصوف يلقيه رجل كبير السن يدعى (( حامد بك عبد الرحمن )) كان مفتشا للري وأحيل إلى المعاش ، وكلن درسه فى شرح حكم بن عطاء الله السكندري ، وقد أفدت من هذا الدرس حيث صادفت الحكم التي كان يشرحها حامد بك عندما حضرت له صراعا نفسيا كان يهزني هزا فكأنما كان يخاطبني بتلك الحكم .
ودرس فى تفسير القرآن الكريم يلقيه حكيم الإسلام الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري . وكان يفسر القرآن بالعلوم الحديثة ، وهو لون لم يكن مألوفا فى ذلك الوقت ، وكان الرجل بارعا فى التفسير وفى الإقناع حيث كان على قدم راسخة وفى التفسير وفى العلوم الكونية معا .
والدرس الثالث درس التكوين . وهو درس لا تستطيع أن تسميه درس تفسير ولا درس تصوف ولا درس تاريخ ولا درس أخلاق ولا درس سياسة ولا ترس أدب وإنما هو جامع لذلك كله ويجمع إلى السهل الإحاطة بها لأن كل هذه العلوم والفنون كانت تقدم إلى السامعين ممزوجة يذوب النفس وعصارة القلب ومهجة الفؤاد ، وهو ما يجعل مزدج هذه العلوم والفنون قادرا على صهر النفوس وصياغتها من جديد .
وكان يلقى هذا الدرس المرشد العام ، ومع أن الدرسين السابقين لم يكن يواظب عليهما إلا سبعة أشخاص أو ثمانية كنت أحدهم فإن درس التكوين لم يكن يتخلف عن حضوره أحد من الإخوان . لأنه طراز لا عهد لأحد بمثله أما المحاضرة العامة فبالرغم من المجهود الذي كان يبذله الإخوان فى الإعداد لها وفى دعوة الناس من الشوارع المجاورة لحضورها فإن معظم المقاعد خالية مع أن الذي كان يلقيها فى أكثر الأحيان هو المرشد العام ، ولا يتخلف إلا لعذر فإذا تخلف قام شقيقه (( عبد الرحمن الساعاتي )) بإلقائها .
وعبد الرحمن الساعاتي خطيب مطبوع مفوه تحس حين تسمعه أنك أمام عقبة بن نافع ممتطيا صهوة جوداه بعد فتح الشمال الإفريقي حتى وصل إلى شاطئه ويقول (( لو علمت أن وراءك أرضا لخضتك إليها غازيا فى سبيل الله )) كانت خطب عبد الرحمن الساعاتي خطبا تحرك القلوب وتذكر بالأمجاد وتسيل العبرات ... وإذ ذكرت عبد الرحمن الساعاتي وخطبه الرنانة فتحضرني شخصية شاعر عربي عظيم هو (( محمود غنيم )) الذي يعتبر بلبل الإسلام الصداح والذي كانت قصائده التي تنشر فى مجلة الرسالة فى المناسبات الإسلامية أنشودة يتغنى بها الأدباء ويقتبس منها الخطباء ويحفظها النابهون من الشباب ، وكان (( عبد الرحمن الساعاتي )) كثيرا ما يحلى خطبه بأبيات من قصيدة عامرة لمحمود غنيم ، رأيت أن أنقلها هنا لروعتها ولتعبيرها أدق تعبير عن فكرة الإخوان المسلمين ، وقد نشرت بمجلة الرسالة فى العدد الخاص بالهجرة فى سنة 1936 :
إني تذكرت والذكـرى مؤقـتة مـجدا تلـيدا بأيدينا أضـعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام فى بلد تجده كالطير مقـصوصا جناحاه
وريح العروبة كان الكون مسرحها فأصـبحت تتـوارى في زواياه
كم صرفـتنا يد كنا نصـرفهـا وبات يمـكنا شـعب مـلكـناه
كم بالعراق وكم بالهند ذو شجن شـكا فرددت الأهـرام شـكواه
هي الحقيقة عين الله تـكلؤهـا فكـلما حاولـوا تشويهها شاهوا
هل تطلبون من المختار معجزة يكـفيه شعب من الأحداث أحياه
من وحد العرب حتى كان واترهم إذا رأى ولد المـوتـور أخـاه
وكيف كانوا يدا فى الحرب واحدة من خاضـها بـاع دنياه بأخراه
وكيف ساس رعاة الإبل مـملكة ماساسها قيصر من قبل أو شـاه
وكيـف كان لـهم علم وفلـسفة وكيف كانت لـهم سـفن وأمواه
المسـاواة لا عـرب ولا عـجم مالا مـرئ شـرف إلا بـتقواه
وقررت مبدأ الشورى حكومـتهم فليـس للفـرد فيـها ما تمـناه
ورحب الناس بالإسلام حين رأوا أن السـلام و أن الـعدل مغزاه
يا من رأى عمرا تكـسوه بردته والزيت أدم له والكـوخ مـأواه
يهتز كسـرى على كرسيه فرقا من بأسه وملوك الأرض تخشـاه
سـل المـعالي عنا إننا عـرب شـعارنا المـجد يـهوانا ونهواه
هي العروبة لفظ إن نطقت بـه فالشرق والضاد والإسلام مـعناه
استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونـحن كان لـنا مـاض نسيناه
إنا مشينا وراء الغرب نقبس من ضـيائه فأصـابتـنا شـظايـاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهـوا
أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحـين جـاوز بـغدادا تـحـداه
ملك كملك بني التاميز ما غربت شـمس عليـه ولا برق تـخطـاه
ماض نعيش على أنقاضه أمـما ونستـمد القوى من وحـى ذكـراه
إني لأعتـبر الإسلام جامـعة للشـرق لا مـحض دين سـنة الله
أرواحنا تـتلاقى فيه خافـقـة كالنـحل إذ يـتلاقى في خـلايـاه
دستوره الوحي والمختار عاهله والمسـلمون وان شـتوا رعـايـاه
لا هم قد أصبحت أهواءنا شيعا فامـنن علينا براع أنت تـرضـاه
راع يعيد إلى الإسلام سـيرته يرعى بنـيه وعـين الله تـرعـاه
مجلة الإخوان وشعبهم
كان للإخوان في ذلك الوقت مجللة أسبوعية هي بنفسها التي كنت أشتريها عقب صلاة الجمعة بمسجد الرفاعى والتي على غلافها صورة الكرة الأرضية مركزوا عليها علم يمسك به قبضتا يدين كتب تحتها (( إنما المؤمنون إخوة )) ..
ولم يكن هناك في ذلك الوقت فروع للمركز العام فى القاهرة ولا في الإسكندرية ولا الصعيد وإنما كانت فروعه فى الإسماعيلية وما حولها وفى بعض بلاد الشرقية والدقهلية وفى المحمودية . وكان بعض أهالي هذه البلاد من الإخوان يحضرون إلى القاهرة لزيارة المرشد العام كما كان المرشد العام يسافر لزيارتهم .
وكانت هناك شعبة فى شبراخيت وأخرى فى كفر الدوار ؛ إلا أن هاتين الشعبتين لم نكونا إلا رجلين أثنين ؛ فى الأولى الشيخ حامد عسكرية وكان واعظ شبراخيت ، وفى الأخرى الشيخ أحمد عبد الحميد وكان من العلماء الأجلاء وكان مشتغلا بالزراعة . كما كان هناك أفراد آخرون كانوا يعاملون باعتبارهم شعبا فى بلادهم منهم الأستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني المحامى بشبين القناطر والأستاذ محمد عزت حسن معاون سلخانة طوخ .
من هم أعضاء المركز العام ؟
قدمت أن أعضاء المركز العام الذين لا يكادون يعدون الأربعين كانوا بين طلبة وصغار موظفين . ولكن من هم هؤلاء الطلبة وهؤلاء الموظفون وكيف وصلوا إلى هذا المركز العام المغمور وسط أحشاء القاهرة لا يكاد يعرفه جيرانه الملتصقون به ؟!! .
لقد استنتجت الإجابة على هذا السؤال لأنني كنت حريصا على تحليل كل ما أراه في هذا المركز العام لاسيما ما يتصل بالأشخاص ... المركز العام ، في حي السيدة زينب ... وتستطيع أن تقوا إن أرباع هؤلاء الموظفين والطلبة هم من حي السيدة زينب ، وأكثر هؤلاء من شارع واحد هو شارع زين العابدين الذي كان يسكن فيه فى ذلك الوقت الشيخ طنطاوي جوهري ، والشيخ طنطاوي من أوائل من تعرف على الأستاذ المرشد العام ونجله جمال كان أحد هؤلاء الطلبة وكان طالبا بكلية الهندسة ، وجمال الفندى وكان طالبا بكلية العلوم ومختار إسماعيل وكان مدرسا للرياضة البدنية ، كما كان من سكان الحي الطلبة جمال عامر بكلية العلوم وطاهر عبد المحسن ومحمود أبو السعود ورشاد سلام بكلية التجارة ومحمد سليمان وإبراهيم أبو النجا بكلية الطب ومحمد عبد الحميد أحمد وعبد المحسن الحسيني وأحمد عبد العزيز جلال بكلية الآداب وحسن السيد عثمان ومحمد فهمي أبو غدير بكلية الحقوق . وكان من الموظفين الأستاذ محمد حلمي نور الدين وكان كاتبا فى مصلحة الري والأستاذ اسعد الحكيم وهو شقيق زوجة الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي وكانا موظفين معا فى السكة الحديد والأستاذ حسين بدر فى السكة الحديد أيضا والأستاذ أسعد راجح وكان سكرتير لمدير إنجليزي والأستاذ محمد حمص وكل هؤلاء سكان الحي .
وكان من طلبة الأزهر الشيخ أحمد حسن الباقورى وكان فى التخصص وآل شريت وهى أسرة كريمة من أسرة قرية ريفا بأسيوط كان والدهم أستاذ بالأزهر وكان من أسبق الناس إلى الدعوة ومبايعة المرشد العام وكان أبناؤه جميعا وأبناء عمومتهم من أخلص الإخوان منهم الشيخ أحمد شريت والشيخ محمود شريت والشيخ حامد شريت وكلهم تخرجوا فى الأزهر أو دار العلوم وابن عمهم الأستاذ فتحي شريت الذي كان موظفا بالسكة الحديد على ما أذكر ... ومن الأزهر الشيخ عبدا لبارى عمر خطاب وكان طالبا بالمعهد والشيخ عبد اللطيف الشعشاعى وكان طالبا بكلية أصول الدين والشيخ أحمد الشرقاوي وكان طالبا بمعهد القراءات وقد أفدت منه الكثير فى قراءة القرآن وكل هؤلاء كانوا من حي السيدة زينب أو مما يجاورها . فإذا أحصيت بعد ذلك الأعضاء من غير الحي والقريبين منه لم نجدهم يعدون العشرة منهم إسماعيل خيري وأنا وعبد الحكيم عابدين وثلة آخرون .
الزعابدة
أشرت من قبل إلى أن أمارات الجد كانت مرتسمة على وجوه رواد الدار ؛ وكانت دروس التكوين التي يلقيها المرشد العام نذكى فى نفوسهم شعلة الجد ، فكان مجرد التحدث فيما سوى الدعوة يعد شيئا غريبا ، فإذا وصل الأمر إلى الضحك وان كان بريئا فقد يعد جريمة .. وكانت مجموعة من سكان شارع زين العابدين تميل إلى شئ من الضحك أو التهريج المحدود البرئ ، فكانت مجموعتنا الأخرى نعتبر ذلك استهتار لا يليق برجال الدعوة ونوجه إليه اللوم والتقريع وظل الأمر على ذلك حتى وجدنا أنفسنا نحن رواد الدار قسمين ؛ قسم يبالغ فى الجد وقسم لا يتخلف عن أداء حق الدعوة ولكنه يميل إلى الدعاية هو فريق من سكان زين العابدين ، وأطلق الأخ محمد عبد الحميد أحمد وكان طالبا من الحكماء لفظ (( الزعابدة)) على هذه المجموعة واتسع بعد ذلك مدلول هذا اللفظ حتى صرنا نطلقه على الهرجين أينما كانوا .
شخصيات أخرى
ومن الشخصيات الأخرى التي كانت تتردد على الدار وكانت تلفت النظر الشيخ محمد زكى إبراهيم وكان مدرسا أديبا خطيبا شاعرا متصوفا ، وكان ممن يفهمون الإسلام فهما صحيحا وكان يشتعل حماسا للفكرة الإسلامية وممن يحسنون فهم الجو الاجتماعي والسياسي فى مصر وفى العالم الإسلامي ، ولا أدرى لم يبرز اسم هذا الرجل بين شعراء مصر مع انه كان شاعرا مطبوعا ؛ ولعل السبب فى ذلك أن النزعة الصوفية غلبت عليه ... فقد لاحظت أن الرجل كان ملازما للأستاذ المرشد طيلة المدة التي كانت فيها الدعوة مغمورة لا يعرفها إلا الأقلون ، فلما برزت الدعوة وأمها الكثيرون أخذ هذا الرجل فى الابتعاد حتى اختفى اختفاء تاما ... ثم قرأت أخيرا فى أيامنا هذه أنه ألف جماعة سماها (( العشيرة المحمدية)) ولا اعتقد إلا أن هذه العشيرة تقوم على الفكرة الإسلامية الصحيحة التي كان هذا الرجل من أوائل معتنقيها والعاملين لها والمعاهدين عليها .
وقد أدركت لأول عهدا بهذه الدار شخصيتين كانتا متفرغتين للعمل بالدار هما الأستاذ حمدي الجريسى وكان معروفا انه سكرتير المرشد العام والأستاذ محمد طاهر العربي وكان أتصله بالأستاذ المرشد العام يكلفه بأعمال للدعوة خارج الدار ؛ وقد لاحظت أنهما انقطعا عن الدار انقطاعا فجائيا وتاما مما أثار دهشتنا .
ثم (( محمود هبة الله )) الطالب الأزهري الذي انقطع عن الدراسة وأشتغل بالزراعة فى بلدة (( جنبواى )) مركز إيتاي البارود فكان يقضى أكثر أيامه فى المركز العام يلهب المشاعر بحماسه البالغ وعصاه الغليظة وجسمه الفارع صوته الجهوري وهو نجل (( الشيخ الجنبيهى )) من كبار علماء الأزهر الذين آمنوا بالدعوة وبايعوا عليها لأول عهدها بالقاهرة ... وقد عاش محمود هذا ما عاش لدعوته فلما مرض واشتد عليه المرض وأحس باقتراب اجله أبى إلا إن يموت بين إخوته فطلب من أهله نقله إلى دمنهور حيث كنت أسكن ، وظل بين أيدينا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يردد شعار دعوته ويسال الله أن يبعثه عليها رحمه الله رحمة واسعة وغفر الله لنا وله وأوسع له فى رضوانه وألحقنا به فى مستقر رحمته .
وبعد أن أنقطع عن الدار الأستاذان حمدي الجريسى وطاهر العربي ، أحضر الأستاذ المرشد رجلا مسنا صالحا هو الأستاذ أحمد الحسيني وكان يبدو عليه ضعف البصر حيث تغطى عينيه نظارة سميكة العوينات ، وكنت أحب أن أجالس هذا الرجل ، لأنني اعتقد أن الأستاذ المرشد لا يأتي إلى الدار بمثل هذا الرجل المسن إلا إذا كان لهذا الرجل تاريخ ... وكان الرجل يأنس للحديث معي ... وقد تبين لي أن هذا الرجل من الأدباء الذين أفنوا أعمارهم وكادوا يفقدون بصرهم بين مراجع اللغة ومجلدات الأدب ودواوين الشراء حيث كانوا يدرسون الأدب لذاته لا ليتكسبوا من ورائه ، وبعد أن تضلعوا من مناهل الأدب ، وجدوا أنفسهم على قارعة الطريق لا يكادون يجدون قوت يومهم ... فتلقفتهم أيدي بغاة الشهرة من السراة ؛ يستغلونهم أسوأ استغلال ، حيث يجمع لهم الأدباء ما حصلوه من دور الأدب فيأخذه السراة ويصدرون به كتبا تحمل أسماءهم زورا وبهتانا ملقين لهؤلاء الأدباء بدريهمات لا تكاد تقيم أودهم كما يلقون بفتات موائدهم إلى القطط والكلاب التي يقتنونها ، وصدق الله العظيم (( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب اليم )) (آل عمران) .
وقد تكشف لي هذا الأمر عندما ظهر كتاب فى الأدب لكاتب شهير من (( بكوات )) الكتاب فاشتريته ، فلما رآه معي الأستاذ احمد الحسيني قص على قصة هذا الكتاب وكيف كان هو ومجموعة من أمثاله من الأدباء المغمورين يستحضرهم هذا ((البك)) ويعد لهم مكانا فى (( بدروم )) قصره ليجمعوا له مواد هذا الكتاب ، وعين لي الأستاذ أحمد الأبواب من هذا الكتاب التي كانت ثمرة جهده...
ومع أن هذا الرجل كان موظفا بالدار فإنه كان من المؤمنين بالدعوة أعمق الإيمان ؛ ويخيل إلى أن الأستاذ المرشد كان شديد الرفق به فلا يكلفه إلا مالا يشق عليه ولعل مهمته كانت قراءة الوفيات المنشورة فى الصحف ليؤدى الأستاذ المرشد العزاء لها .
ومن هذه الشخصيات أيضا الأستاذ أحمد السراوى وهو شخصية ذات ماض فى الحركات الوطنية كنت تجلس إليه فيأخذ حديثه بلبك فإذا رأيت تصرفاته مع الأستاذ المرشد دهشت وأخذ منك العجب كل مأخذ ... ويبدو أنه كان ذا معرفة بالأستاذ بالمرشدين قديم .. وكان إذا جلس إلى الأستاذ المرشد تحس أنه موضع عطفه ... وكان الأستاذ يحدثنا عن غريبا أطواره ... وكانت أخر تجربة للأستاذ المرشد معه - وكنا عليها شهودا - يوم جاء إلى الأستاذ يكاد يبكى لسوء الحال ، فاستأجر له الأستاذ محلا واشترى له مطبعه وورقا ، وحرر بثمن ذلك كله كمبيالات بضمانة الأستاذ المرشد ، واختار له كتابا يعيد طبعه على ورق مصقول أبيض هو كتاب ((إحياء علوم الدين )) ... وأخرج السراوى عدة أجزاء منه وأقبل الناس على شرائه إقبالا منقطع النظير بالسعر الذي حدده هو طبعا ؛ ومعنى هذا أنه حقق ربحا .. إلا أننا فوجئنا بتوقف صدور الكتاب واختفاء السراوى مما اضطر الأستاذ المرشد إلى تسديد ثمن كل هذه الأشياء من جيبه الخاص .
وهذه التجربة وإن عادت على الأستاذ المرشد بخسارة مادية إلا أنها لم تكن فجيعة له ولا مفاجأة فانه كان يتوقع من الأستاذ السراوى مثل هذا التصرف ؛ وكان من طبيعة الأستاذ المرشد أن علمه بحقيقة شخص لا يمنعه من محاولة استغلال بعض مزاياه للدعوة ؛ فالأستاذ من أول يوم قام فيه بالدعوة كان يعلم أن المطبعة من أهم وألزم وسائل الدعوات ، وكان يتمنى أن نتاح له فرصة يستطيع فيها اقتناء مطبعة ، فلما لم تتح له هذه الفرصة حيث لم يكن فى الإخوان فى ذلك الوقت من يستطيع التفرغ لهذا العمل ، انتهز فرصة افتقار السراوى إلى عمل يكتسب منه ، ففعل ما فعل وكان هدفه من ذلك أن يشعر أن هذا المشروع ممكن التحقيق فاختار لذلك المحل قريبا من المركز العام وجعل ربح المشروع كله لجيب السراوى مكتفيا بالاطمئنان على أنه مشروع ناجح ، وبطبع كتاب ينتفع به كثير من الناس وهو يعده أكبر موسوعة إسلامية ... وقد تحقق للأستاذ المرشد ما أراد من هذه التجربة فلما حدث من الأستاذ السراوى ما كان يتوقعه منه لم يفرط الأستاذ فى أدوات الطباعة إلا بالقدر الذي عجز عن سداد ثمنه فاستبقى منها اكبر قدر يمكن استبقاؤه حيث أبقى على الحروف التي سدت ثغرة كبيرة حين انتقلت الدعوة إلى دار العتبة مما سنشير إليه إن شاء الله فى حينه ... ولم تبرح فكرة المطبعة خاطر الأستاذ المرشد لحظة من ليل أو نهار على أنها أولى الوسائل المكملة لبناء الدعوة حتى حققها أخيرا فيما بعد على صورة أكبر من هذه وكان ينوى تطويرها لتكون أعظم مطبعة فى الشرق لان الذين يملكون الكلمة المطبوعة يملكون توجيه العقول والأفكار ، ولكن الظروف السياسية طغت موجتها فجرفت المشروع فيما جرفت .
المهمات المنوطة بالمرشد العام
كان مجهود المرشد العام موزعا على عدة نواح أهمها : مهنته التي يكتسب منها عيشه ، وإدارة شئونه الخاصة من رعاية منزل وأسرة وأولاد ثم الدعوة ..
أما مهنته ؛حيث كان مدرسا بمدرسة عباس الابتدائية بالسبتية ، فكان لها وقت محدد - كطبيعة العمل - لم يكن ينتقص منه لحظة بل كان يؤديه كله بأمانة .. ولم يؤثر عنه أنه تأخر يوما عن ميعاد أو أهمل فى أداء عمل أو قصر عن المثل الأعلى للمدرس . بل إنه كان يرى فى عمله لذة ويحس فيه سعادة لأنه كان يعتقد أنه إنما خلقه الله ليكون مربيا ، وقد أهله لذلك تأهيلا كاملا ؛ فكان يرى فى المدرسة حقل تجارب لنظريات التربية القديمة والحديثة ولنظريات تربية وصل إليها بفكره الخاص ؛ حيث تضم المدرسة التلاميذ والمعلمين والفراشين وهم من مختلف البيئات والمشارب والعقليات والظروف والأعمار .
كان مما حدثني به فيما يتصل بذلك ؛ أنه كان عليه فى فترة من الفترات أن يراقب التلاميذ فى أثناء (( الفسحة )) وكان الأستاذ (( تقلا بك )) - أول مراقب مسيحي عين هذا المنصب فى وزارة المعارف - قد حضر إلى المدرسة فى ذلك اليوم ... وكان رجال الوزارة يحرصون على التعرف بالأستاذ المرشد يعلم أن التعليمات المبنية على نظريات التربية الحديثة تمنع الضرب فى المدارس لكنه أمسك بمسطرة باعتبارها عصا فى يده وتعمد إبرازها أمام المراقب حتى يسأله فى ذلك ؛ وكان أن سأله فعلا فشرح له شرحا أثبت خطأ هذه التعليمات وأن تربية التلاميذ فى هذا السن لابد أن يكون الضرب غير المبرح من وسائلها على أن يكون بقيود معينة حيث هناك من الطباع مالا يقوم بغير العصا .
وحسبك دليلا على نجاح سياسته فى هذه المدرسة أن تعلم أنه كان موضع حب جميع التلاميذ والمدرسين والناظر والفراشين واحترامهم ، وأنهم جميعا أحبوا دعوته لحبهم لشخصه ، وكان الجميع يتمنون أن يكونوا فى خدمته ليوفروا له الوقت للقيام بأعباء الدعوة ، لكنه كان حريصا على أن يقوم هو بنفسه بعمله المدرسي كاملا وأن لا يكلف أحدا بحمل أي عبء عنه .
ولقد كنا نحتاج إليه فى أمر هام يخص الدعوة فى وقت يكون هو فيه فى المدرسة فنتصل بالمدرسة تليفونيا أو نذهب إلى المدرسة لمقابلته وفى كلتا الحالتين - إذا كان طلبنا إياه قد صادف وجوده فى حصة من الحصص - كان يقول لمن ذهب ليبلغه بوجودنا لمقابلته أو يبلغه أننا نطلبه على التليفون : قل لهم إنه فى الحصة ولا يستطيع مغادرة الفصل حتى تنتهي الحصة فنضطر إلى الانتظار حتى تنتهي لنقابله أو نتحدث إليه فى التليفون فى فترة الاستراحة بين الحصتين .
وأما شئونه الخاصة فكان يرعاها حق الرعاية ، فلم نسمع بشقاق عائلي فى أسرته كما أن أولاده كانوا يحظون منه بما يحظى به الأبناء من والد مثالي . نعم كان الوقت الذي يقضيه فى بيته ضئيلا إلا أن زوجته كانت معوانا له على الدعوة وسنعرض لهذه النقطة بعد ذلك إن شاء الله .
أما الدعوة فكانت هى محور حياته ، بل هى حياته كلها ، لم يكن يشغله عنها شاغل فى ليل ولا نهار . كانت ملء عقله وقلبه لا مكان فيها لشئ آخر ... لم أقدر النبوة حق قدرها إلا لما رأيت هذا الرجل ، وجلست إليه ، ولازمته وعاشرته .. حينئذ بدأت أحس بقدر النبي ومكانته ، فرجل كحسن البنا هو دون الأنبياء ، ومع ذلك فان الدعوة شغلته بل صهرته حتى أخرجت منه صورة مجسمة لها ؛ فإذا تكلم بالدعوة وللدعوة ، وإذا سكت كان سكوته أسلوبا آخر للدعوة ، وإذا تحرك فلها ، وإذا سكن فلها ، وإذا أحب فلها ، وإذا أبغض فلها ، وإذا ضحك فلها ، وإذا بكى فلها ... فكيف بالنبي الذي صنعه الله على عينه ؟! .. لذا كان مقام النبوة جديرا بقول الله عز وجل (( لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنه )) ... وهؤلاء من أمثال حسن البنا هم ورثة الأنبياء لأولئك الذين وإن تمرسوا بعلوم القرآن والسنة فإنهم لم ينفعلوا بها انفعالا أنساهم ما سواها ولن ينفعلوا بالفكرة الإسلامية إلا من اختلطت بدمه فصارت أساس تفكيره ، وميزان حياته فى أفقها مل أماله ، وصار كل مرمن أجلها حلوا فى حلقه .
إن أصحاب الدعوات لا ينبغي أن نسوى بهم العباقرة ؛ فالعبقرية لاشك إحدى صفاتهم لمنهم من الناس أوتوا بصيرة نافذة ، وقلوبا حية واسعة ، وألسنة تنطق بالحكمة البالغة فهم يرونه مالا يراه الناس يقتنعون بكمال خلقهم قبل إن يقتنعوا بقوة حجتهم ، وطلاقة ألسنتهم ....تجاس إليهم وأنت غير مكترث إلا بنفسك بل قد تكون لاهيا هازلا ، فتحس بعد قليل أن تيارا دافئا أخذ ينساب فى داخلك فيشيع الدفء فى جنباتك ، ثم لا يلبث هذا الدفء أن تشتد حرارته حتى إن حرارته لتذيب جمود نفسك وتشعل فى أعماق قلبك آمالا كانت خابية تحت أطباق من الثلوج ... وترى عقلك الذى كان زمامه بيد اللهو قد استدار دورة ألقى فيها بسالف أفكارك فى زوايا النسيان وانفتح لأفكار جديدة تستجيب لصدى ما تحرك فى قلبك من جمود نفسك ... وتقوم من مجلسك شخصا آخر غير الذي كنت ، ويتغير مجرى حياتك بهذه الجلسة فتقوم وهموم المجتمع الذى كنت أنت فيه هى شغلك الشاغل وهمك القاعد المقيم بعد أن كنت لا تكترث إلا بنفسك ...
وذلك بأن هؤلاء الناس طراز خلقهم الله وفى قلوبهم مراجل تغلي لا يهدأ غليانها ، فهي تشيع الحرارة حيث كانت ، وتذيب الجمود ، وتبعث الحياة فيما حولها وفيمن حولها .. ومهما سكبت على هذه المراجل من ثلوج الدنيا فإنها تذوب والمراجل لا يهدأ لها أوار ... هى قوة دافعة خلقت لتدفع ولا تندفع . ولتؤثر ولا تتأثر ... قلوبهم مستودع للحياة تسكبه على من حولها من الموتى فيحيون ، ويحس كل واحد منهم بلذة الحياة بعد الموت .. هؤلاء الناس يعطون دائما ولا يأخذون ويمنحون ولا يستمنحون ..
هذا فى أصحاب الدعوات أيا ما كانت الدعوات ؛ أما إذا كانت فى ذاتها تحمل كل معاني الحق والصدق ، فإن شخصية الداعية تكتسب من صدق دعوته قوة على قوة ولا يستطيع أحد فى هذه الحالة أن يقاوم صاحب هذه الدعوة بالحجة والبرهان ، ولا يجد أمامه من وسائل المقاومة إلا الجحود والكذب والنكران ثم وسائل العنف والعسف والجهل والاضطهاد .
هكذا كان حسن البنا ؛ صاحب دعوة وهبه الله قوة أصحاب الدعوات ، وزاده قوة أن دعوته فى ذاتها حق لا مرية فيه (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )) ولذا كان إيمان حسن البنا بدعوته إيمانا تزول الجبال ولا يتزلزل ... كنت إذا رأيته لم نر إلا دعونه ، وإذا تحدثت إليه لم تسمع إلا دعوته .. حتى فكاهته ، وما كان أجمل فكاهته ، وما كان أسرع بديهته ... حتى الفكاهة ؛ لم تكن إلا فى صميم دعوته تخرج من سماعها وقد أضفت جديدا إلى عقلك وقلبك وإيمانك .
نعم إن آمال هؤلاء من الدعاة تبدأ حيث تنتهي آمال جيلهم ... لقد تعرفنا على حسن البنا فى أواسك الثلاثينيات ، فسمعنا منه كلاما عن المستقبل المأمول طالما قوبل من أكثر الناس حينذاك بالاستخفاف والاستهزاء والسخرية ... وإني لألتمس لهؤلاء الناس العذر ؛ فقد ظهر حسن البنا فى وقت خيم فى الظلام الحالك فلا يستطيع أنفذ الناس بصيرة أن يرى أبعد من أنفه ، كانت مصر لا أقول تئن تحت كلا كل الاحتلال البريطاني بل إنها كانت مستكينة لهذا الاحتلال وادعة مسترخية ... كان الحكام يسبحون بحمد الاحتلال ... وكان الشعب يسبح بحمد هؤلاء الحكام ، وكان المثل السائد على ألسنة الناس هو الذى يقول : ليس فى الإمكان أبدع مما كان وكنت تسمع من المثقفين ومن شباب الأحزاب إذا أنت حاولت انتقاد الحكام قولهم : لا تعاند من إذا قال فعل ... لم تكن مهمة الأحزاب نتعدى التطاحن فيما بينهم على المناصب ، فكانوا فى ذلك أشبه بسواد الشعب الفقير حين يتهافتون على ما تلقيه معسكرات الانجليز من بقايا طعام ، فيعتبر من يحظى بقسط من هذه (( الزبالة )) نفسه فائزا قد نال قصب السبق : كذلك كان الذى يحظى من الحكام بكلمة رضا من رجال السفارة الانجليز يعتبر نفسه قد حقق أمنيته وبلغ الجبال طولا ويقبل عليه زملاؤه بالتهاني يغبطونه على هذا الفوز العظيم . ولم تكن السراي أحسن من هذه الأحزاب أما الأزهر ، وهو المصدر الوحيد الذى يتلقى الناس منه تعاليم دينهم فإنه كان أداة طيعة فى يد المستعمر عن طريق الحكام ... نشر فى الناس صورة باهته مشوهة للإسلام فكان معنى الإسلام فى نظر الناس بفضل الأزهر لا يتعدى طقوسا تؤدى داخل المساجد أو فى البيوت ، وكادت الاستكانة أن تكون مرادفة للإسلام فى نظر الناس .
ويمكن إجمال وصف الوقت الذى ظهر فيه حسن البنا بأنه ظهر والأمة ميتة تماما لا حراك بها . فإذا خرجت عن دائرة مصر لترى ما حولها من دول عربية وإسلامية ، وجدت كل شعب من هذه الشعوب يغط فى نوم عميق والاستعمار أخذ بخناقهم جميعا ، وقد فقد الجميع كل شئ حتى الإحساس بالظلم ؛ كما أن شعب كل دوله من هذه الدول يجهل كل شئ عن شعوب الدول العربية والإسلامية الأخرى ؛ بل كان المصري على سبيل المثال يعرف الكثير عن البلاد الغربية ويزورها ولا يعرف شيئا عن بلاد شقيقة متاخمة لبلاده ولا يخطر بباله أن يزورها وكذلك كان شعور سكان البلاد العربية والإسلامية الأخرى نحو مصر ونحو بعضها بعضا .
ولذا فإنها كانت مفاجأة مذهلة أن سمع الذين استقروا فى أجداثهم - وارتضوها مساكن لهم - صوتا كالرعد يناديهم أن قوموا من أجداثكم ، ومزقوا أكفانكم ، وانفضوا التراب عن أجسامكم ، فإن أماكنكم التي أرادها الله لكم هى فوق السحاب لا تحت التراب ؛ ألستم ذرية الذين قال الله فيهم (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ؟! .. سيروا ورائي لنحطم الأغلال ، ونبدد سحب الظلام ، لننشر النور فى الآفاق ... قوموا لننسف بروح الإخوة التي سجلها الله لكم فى كتابه ما اصطنع المستعمر من حواجز وهمية بينكم وبين إخوانكم المسلمين فى بقاع الأرض فالمسلمون أمة واحدة (( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون )) (92 الأنبياء ) .
أكثر الذين اخترق آذانهم هذا النداء استقبلوه استقبالهم لحلم كاذب لا يستحق إلا الامتعاض والأغراض . وحملة آخرون على أنه هذيان مخبول من حقه عليهم أن يدعوا الله له بالشفاء ؛ ولم يقع فى موقعه إلا من قلة هى التي كان عندها علم من الكتاب ، وهذه القلة الواعية دائما هى فريق من المطحونين المستضعفين .
لفته إلى وراء: المرشد قبل القاهرة
يجمل بنا قبل الاسترسال فى سرد ما نحن بصدده من حلقات متصلة فى تاريخ هذه الدعوة تلك الحلقات التى كنت أحد عناصرها أو كنت احد مشاهديها ؛ أن نلقى نظرة نطل بها على أيام لهذه الدعوة لم يشأ القدر أن أشارك فيها أو أن أشهدها بنفسي ؛ فإن تعرفي على الدعوة وعلى شخصية مرشدها كما قدمت إنما كان بالقاهرة .. ولكن الدعوة - كما حدثنا الأستاذ المرشد - لم يكن مهدها القاهرة وإنما شاء الله أن يكون مولدها الذى برزت فيه إلى الوجود هو الإسماعيلية .
حدثنا الأستاذ رحمه الله أنه وأسرته من أهالي قرية (( شمشيرة )) مركز فوه ، وقد نزح والده وهو صغير إلى بلدة المحمودية حيث افتتح الوالد محلا لتصليح الساعات ومن هنا لقب الوالد بالساعاتي ، وقد لصق هذا اللقب بعبد الرحمن شقيق الأستاذ الذى يليه فى السن فعرف بعبد الرحمن الساعاتي . وتعلم (( الأستاذ )) فى المدارس الأولية ولما أتم حفظ القرآن الكريم التحق بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور ولما حصل على الدبلوم عين مدرسا فى مدرسة خربتا الأولية مركز كوم حمادة .
وقد رأى أن يواصل دراسته فدرس دراسة خاصة للالتحاق بدار العلوم ، وقد اضطره ذلك إلى الانتقال إلى القاهرة حيث كان مطالبا بالعمل لكسب عيشه فالتحق بعدة أعمال منها أنه اشتغل عاملا فى محل للبقالة ولقي فى ذلك ما لقي حتى أنه لم يكن يجد وقتا يستذكر فيه دروسه ، ولما حان موعد الامتحان المؤهل للالتحاق بدار العلوم نفسها وجد أن مطالب الحياة الضرورية لم تدع له وقتا نؤهله مذاكرته فيه أن يدخل الامتحان ؛ فشكا إلى الله الذى يعلم أنه لم يقصر لحظة واحدة ... يقول رحمه الله : ونمت ليلة الامتحان فإذا بي أرى فيما يرى النائم رجلا يواسيني ويقول لي : التفت إلى فألتفت إليه فإذا بيده كتاب المادة التى سأمتحن فيها فى الصباح فيفتح الكتاب عند صفحة معينه ويشير إلى أن أقرأ حتى إذا قرأت الصفحة فتح الكتاب عند صفحة أخرى فأقرأها وهكذا حتى أنهى الكتاب فأغلقه وتركني ، فلما أصبحت وجدتني حافظا كل ما قرأت - وكانت هذه طبيعة أحفظ كل ما أقرأه - ودخلت الامتحان فإذا الأسئلة كلها هى نفس ما قرأته فى الرؤيا .. وهكذا مرت ليال الامتحان وأيامه على هذا النحو وظهرت النتيجة فكنت الأول . والحمد لله .
يقول رحمه الله : والتحقت بدار العلوم وكنت أهوى الأدب العربي ما كان منه مقررا دراسته وما لم يكن مقررا وكنت أكتب ما يعجبني من قصائد فى كراريس أعددتها لذلك حتى تكامل عندي من ذلك عدة كراريس ، وكان امتحان الأدب العربي هو الامتحان الرئيسي فى الدار وكان الامتحان فيه تحريريا وشفويا ؛ فلما مثلت بين يدي لجنة الامتحان الشفوي فى امتحان الدبلوم النهائي لدار العلوم سألني رئيس اللجنة عما أحفظ من الشعر فقدمت له الكراريس فقال لي : ما هذه الكراريس ؟ . قلت : إن ما فيها هو ما أحفظه فتعجب الرجل وقال : هل أنت على استعداد أن أسمع أية قصيده أختارها من الكراريس ؟ فأجبته بالإيجاب .. فطفق يطلب إلى أن أقرأ حتى أطمأن إلى أنني أحفظ ما فيها جميعا . ثم قال لي : إني سألك السؤال الأخير : ما أحسن بيت أعجبك فى الشعر العربي ؟ قلت : أحسن بيت أعجبني هو قول طرفة بن العبد فى معلقته :
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أقعد ولم أتبلد
قال : قم يا بني ، هذا سؤال يسأل للنابهين من الطلبة فى كل عام هنا وفى الأزهر فلم يجيب أحد بمثل ما أجبت به إلا الشيخ محمد عبده ... إنني أنبأ لك بمستقبل عظيم...
من جهود الطالب حسن البنا
الحملة الصليبية الجديدة أو الغارة التبشيرية
سبق لي أن ذكرت أن الفترة التى قام فى خلالها حسن البنا بدعوته كانت فترة حالكة فى تاريخ هذه الأمة ، وأشير هنا إلى أن هذه الحلكة لم تبدأ مع بدء ظهوره على المسرح وإنما كانت الحلكة مطبقة على الأمة من قبل ذلك ؛ وقد بلغ استهتار الانجليز بمقدرات هذه الأمة أن تجاهلوا أنها أمة مسلمة ذات مجد وتاريخ ففتحوا للحملات التبشيرية أبواب البلاد ، بعد أن مهدوا لها بنشر الجهل والفقر والمرض ، وبعد أن أطمأنوا إلى أن مقاليد الحكم فى البلاد أصبحت فى يد الفئة التى تدين لهم بالولاء والتي فى حقيقة أمرها غريبة عن هذه البلاد فهي كما قال الشاعر
بلاد قد نرى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان
انتشر المبشرون فى أنحاء البلاد فى الوجهين البحري والقبلي ، فى المدن والقرى تحت سمع المسئولين من الحكام وبصرهم ، بل إن هؤلاء الحكام فى المدن والقرى كانوا بحكم تعليمات رؤسائهم يسهلون للمبشرين وسائل دخول المدن والقرى كما يسهلون لها وسائل الاتصال بالأهالي وإجراء ما يشاءون من إجراءات بل وإقامة ما يشاءون من منشآت بل واختطاف من يشاءون من أطفال ونساء ؛ وفى الوقت الذى يضربون فيه بيد من حديد كل من تسول له نفسه أن يتعرض سبيل هؤلاء الغزاة ولو بكلمة معتبرين ذلك اعتداء على الحكومة ... صار هذا الشعب نهبا مباحا لهؤلاء المبشرين .
ولم تكن وسيلتهم إلى التبشير بالمسيحية عرضا لعقيدتهم وشرحا لها أمام الناس كما هو المتبادر إلى الذهن من لفظ التبشير ، وغنما وسائلهم هى استغلال فقر الناس وحاجتهم وجهلهم فيأخذون هذا الطراز من الناس ويأخذون نساءهم وأولادهم وينفقون عليهم ببذخ على أن يظلموا معهم داخل كنائسهم ويقولوا مثلما يقولون ... أما الشباب من أبناء الأغنياء فكانوا يغرونهم بالنساء ... كانت وسائلهم أخس الوسائل وأحطها ... وقد استمر عملهم هذا فى جميع أنحاء البلاد أكثر من سنة ومع ذلك لم يخرجوا بمحصول يزيد على عشرات الأفراد من هؤلاء الجهلة الفقراء المدقعين .. لم تكن هذه الحملات العانية للتبشير إذن ذات أثر يذكر فى نتائجها من ناحية تكفير المسلمين لكنها كانت صورة بشعة متوحشة للاستعمار البريطاني أمام شعب أعزل مغلوب على أمره ، تضافرت على قهره حكومته مع الانجليز ... كان الناس يبكون من شدة الغيظ لأنهم يرون بأعينهم من ينتهك حرمة عقيدتهم - وهى أعز ما يعتزون به - وهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم لأن حكامهم جعلوا الدفاع عن النفس فى هذه الحالة جريمة يعاقب مرتكبها
كنا فى ذلك الوقت فى رشيد - ولم تكن رشيد هدفا للمبشرين لأنهم درسوا طبيعة البلاد قبل أن يحضروا من أمريكا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من بلاد أوربا فعلموا أن هناك مدنا مغلقة لا أمل لهم فيها حيث لها طبيعة خاصة وتاريخ لا ينسى ومنها رشيد ، فلم يحاولوا دخولها .. لكننا كنا نسمع عما يفعلون بالمحمودية وقراها من خطف الأطفال وإغراء الفقراء بالمال وإغراء الشباب بالعبث وبالنساء ... وكان أهل المحمودية يحضرون إلى رشيد فيروون ما يحدث عندهم فيبكون ويبكون ..
أما الصعيد فكان مرتعا خصبا لهم ، حيث الفقر هناك والجهل والمرض أضعاف ما هو عليه فى الوجه البحري ، وحيث كان الصعيد فى ذلك الوقت يعتبر من المجاهل التى تحتاج إلى من يرتادها ويكشف عن معاناة أهلها المعزولين عن الحياة ... لقد فعلوا فيه الأفاعيل .. وكانت أسيوط نقطة ارتكازهم وكان لهم فيها مستشفى يخطفون الأطفال والنساء من القرى وينقلونهم إليه ، ولا يستطيع أهل المخطوف أن يروه أو يعلموا عنه شيئا ، كما لا يجدون من يشكون إليه . كاد الناس يفقدون إيمانهم بالله أمام هذه القوى العارمة المتضافرة ثم لا يجدون من يعترض طريقهم ؛ حتى الصحف لم تكن تشير إلى ذلك مع أنها صحافة حرة لكن نفوذ الانجليز وقانون المطبوعات الذى وضعه الانجليز ، يعطى حكام مصر المتواطئين معهم السلطة فى مصادره أية صحيفة أو وقفها أو سحب الترخيص بها إذا هى تعرضت للمؤامرة المدبرة على إذلال الشعب وتكفيره برضاه أو رغم أنفه ؛ كما أن الأموال الطائلة المعتمدة لحملات التبشير من خزائن أمريكا وانجلترا وفرنسا ودول أوربا كانت تنفق على هذه الصحف بسخاء ..
يقول حسن البنا - الطالب بدار العلوم فى ذلك الوقت - كاد صدري يحترق من زفرات الألم كما كادت تحترق صدور الناس من حولي ، لكنني فكرت فلم أجد لهذا الألم معنى إذا لم يتحول إلى عمل ، ولكن كيف نحوله إلى عمل والحراب مشرعة وجوهنا من رجال الحكم الذين كان يجب أن يكونوا هم ملاذ الناس ، والذين صرنا وإياهم كما قال الشاعر :
وقد كان منا إليك الشكاة فأصبحت أنت الذى تشتكى
فكر حسن البنا فرأى أمامه فى الأزهر شخصيات يرجى نفعها لما يلمس فيها من غيرة على الدين واستعداد للعمل إذا وجدوا إليه سبيلا كالشيخ يوسف الدجوى . فاتصل بهذه الشخصيات فوجد فيها تحرقا إلى العمل لكن الطريق أمامهم مسدود ... ثم لاحت فى مخيلته صورة شخصية أخرى لها كيان علمي وأدبي خاص تفردت به دون غيرها ... ولها من ظروفها ما قد يعين على إيجاد بصيص من نور فى هذه الحلكة القاتمة ... تلك هى شخصية (( أحمد تيمور باشا )) ذلك الجليل سليل المجد والصديق الشخصي للملك فؤاد .
استصحب حسن البنا معه عددا ممن استجاب له من هيئة كبار العلماء وطلبوا مقابلة أحمد باشا تيمور فى منزله ... فاستقبلهم الرجل أحسن استقبال وكان يعرفهم جميعا عدا هذا الشاب الصغير .. وتقدم هذا الشاب الصغير فتحدث عن الموضوع . حديث الثكلى عن فلذة كبدها - ووصف الحال التى تظل البلاد وكيف يعبث المبشرون فى البلاد فسادا تحت سمع الحكومة وبصرها بل وفى حمايتها وانفجر فى البكاء حتى أبكى الباشا فأبكى الحاضرين ... وتداول المجتمعون عسى أن يجدوا مخرجا ... وجاءت سيرة الملك فؤاد فقال تيمور باشا إنه صديقي وأثق فى غيرته على الإسلام وتعددت الاجتماعات ونوقشت أفكار ومقترحات وانتهت إلى قرار بأن أول إجراء لابد منه أن نصدر مجلة تتصدى لهذه المؤامرة وتفضح اعتداءاتها وتستنهض الهمم لمقاومتها .. وبمجهود تيمور باشا وتدخل الملك فؤاد صدرت مجلة الفتح وأسندت رياسة تحريرها إلى الكاتب الإسلامي العظيم الأستاذ محب الدين الخطيب .. قد حضرت فى خاطري الآن قصة كان قد حدثنا بها الأستاذ المرشد ؛ وهى تتصل بأساليب المبشرين فى إغراء أبناء الأغنياء من المسلمين بالنساء مما أشرنا إليه قبلا ... ومعذرة إلى القارئ إذ فاتني ذكرها فى موضعها .
وقد حدثنا الأستاذ بهذه القصة فى معرض حديثه عن كتاب ((إحياء علوم الدين )) للإمام أبى حامد الغزالي . وكان الأستاذ المرشد يرى أن هذا الكتاب هو أعظم موسوعة إسلامية ، وكانت إحدى أمانيه أن تتيح له الظروف شرح هذا الكتاب . وقد شرع فعلا فى ذلك فأعد درسا أسبوعيا فى منزله لمجموعة من الإخوان فى شرح هذا الكتاب وكان حريصا على كتابة كل درس يلقيه فى كراسة - مما لم يفعله فى أي درس آخر - ولكن الظروف لم تسعف فقد هبت الأنوار من كل جانب على سفينة الدعوة فعصفت أول ما عصفت بهذه الدروس التى لم ندم إلا بضعة أسابيع ولله الأمر من قبل ومن بعد .
قال الأستاذ : فى أوج الحملة التبشيرية - وكنا إذ ذاك بالمحمودية -كان احد الشبان - وذكر لنا أسمه ولكنني نسيته - من أبناء أثرياء المحمودية قد أغرى بإحدى فتيات المبشرين حتى ملكت عليه فؤاده ... ولما كان الشاب مستقيما متدينا فقد أبدى رغبته للمبشرين فى الزواج منها ، فاشترطوا عليه قبل إتمام الزواج بها أن يتنصر وأن يعمل خادما فى الكنيسة .. ففعل ودخل الكنيسة يقضى فيها نهاره وليله ولا يخرج منها أملا فى أن ينال رضاهم فيحققوا له رغبته الجارفة .
وفى إحدى الليالي ، بينما هو نائم فى الكنيسة رأى فيما يرى النائم أنه فى الجنة - وفيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - ثم رأى رجالا ثلاثة عليهم هيبة ووقار قادمين نحوه ... وتقدم أحدهم فسلم وعرف بنفسه فكان موسى عليه السلام ثم تقدم الآخر فكان عيسى عليه السلام ... ثم أشار إلى ثالثهم وقال أتعرف من هذا ؟ قال : لا قالا .. إنه محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين قال : فأخذتني رعدة ... فقالا . إنما جئنا لنعتب عليك فيما فعلت ... وقال عيسى عليه السلام : كيف ترجع على عقبك وتتنصر مع أنني أنا أؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ ...
قال الشاب : فاستحييت من النبي صلى الله عليه وسلم وتصببت عرقا مما فعلت بدافع الشهوة والهوس وحاولت الاعتذار والتوبة فلم أستطع أن أنطق فقد ألجم لساني ... فسكن النبي صلى الله عليه وسلم من روعي وقال لى : إذا أردت أن تصحح إيمانك فاصعد إلى أعلى الجنة - وحدد لى شجرة معينة - فستجد أبا حامد الغزالي جالسا فى ظلها فتلق عنه كتابه (( إحياء علوم الدين )) .
قال الشاب : فصعدت حتى رأيت أبا حامد فابتدرني بقوله : مرحبا بمن بعث به إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم أخذ يفتح كتابه ((الأحياء)) ويشرح لى وكلما شرح لي بابا انكشف عن قلبي غمة حتى استيقظت من النوم وقد غسل قلبي ولم يعد للفتاة التى أحببتها شئ فى نفسي ، وخرجت من الكنيسة واقتنيت كتاب الإحياء .
قال الأستاذ : وعكف الشاب على الكتاب فصار شغله الشاغل حتى كاد يحفظه وكنا نرجه إليه فى فهم ما يصعب علينا فهمه منه . وبعد إيراد هذه القصة المعترضة ...... أرجع إلى سياق الحديث فأقول :
أخذت مجلة ((الفتح )) نفضح مؤامرات الانجليز ، فاضطر الانجليز إلى الانحناء أمام العاصفة وبدأت الحملة الصليبية لأول مرة نواجه مقاومة . وكانت النتيجة العاجلة لفشل المؤامرة أن اضطر الانجليز لسحب أذنابهم حكام مصر من المعركة فلم يبق فى أرض المعركة إلا الصليبيون والشعب وجها لوجه .
وتكونت لجنة فى القاهرة برياسة الشيخ محمد مصطفى المراغى الذى كان من قبل شيخا للأزهر لمقاومة التبشير وتكونت لها فروع فى المدن والقرى ، وتصدت هذه اللجان لمن يسمون أنفسهم بالمبشرين ، وما من مرة تقام مناظرة بين الطرفين علنا إلا أنهزم المبشرون بالحجة والبرهان ، بعد أن زال عنصر الترغيب والإغراء ، وعنصر القهر والإرهاب . ولم تستطيع الحملة الصليبية المسعورة بعد ذلك أن تثبت فى أماكنها إلا أياما معدودة ، فكل يوم تجلو عن البلاد فرقة منهم حتى طهرت منهم البلاد فى أشهر معدودات .
إنشاء جمعية الشبان المسلمين
كانت هذه الحملة الصليبية من أشد ما أصاب مصر من ويلات الاحتلال البريطاني ؛ إذ كان القصد منها تحويل مصر إلى معسكرين متناقضين كما فعلوا بالسودان ؛ فشمال السودان وجنوبه مسيحيون . وقد أرضع مسيحيون الجنوب كراهية مسلمي الشمال ... كذلك أرادوا أن يفعلوا بمصر فقد ركزوا على الصعيد فأنشئوا فيه المركز الرئيسي لهم ، وكانوا ينقلون إليه من يختطفونه من أطفال الوجه البحري ونسائه .. وشاء الله مع ذلك أن يخرج من هذا الشر المستطير خير ؛ فلولا هذه الحملة المسعورة ما أستطاع حسن البنا أن يجمع على العمل للإسلام هؤلاء الذين لم تكن تجمعهم جامعة ولا تضمهم رابطة وجزي الله الشدائد كل خير .
وكان من ثمرات ذلك إنشاء جمعية تسمى الشبان المسلمين وأسندت رياستها إلى رجل مسلم غيور هو الدكتور عبد الحميد سعيد . وكان الطالب حسن البنا من أوائل من أشترك فى عضويتها . وقد وجدت الرياضة فى هذه الجمعية باعتبارها وسيلة لجذب الشباب ، وإن كان تطور الزمن قد غلب الرياضة على جميع أغراضها حتى كادت تفقد المعنى الديني الذي أنشئت من أجله .
كتاب (( الغارة على العالم الإسلامي ))
كان اختيار الأستاذ محب الدين الخطيب لتحرير مجلة (( الفتح )) اختيارا موفقا ؛ فقد كان من القلائل الذين يفهمون الفكرة الإسلامية فهما كاملا دقيقا ، وكان من العلماء بالتاريخ الإسلامي القديم والحديث ، كما كان محيطا بتواريخ الأمم على اختلافها ، ولم يكن مصري المولد فالمعلوم أنه كان من أهل الشام . وشارك فى الحركات الإصلاحية الإسلامية فى نواحي العالم الإسلامي ويبدو أنه نزح إلى مصر هربا من بطش الفرنسيين الذين كانوا لا يطيقون أن يروا كاتبا إسلاميا حرا فقد نفوا زميلا له هو الأمير شكيب أرسلان .. وقد عمل مع الشيخ محمد عبده ومع الشيخ رشيد رضا ... وكانت مكتبة عظيمة فى شارع درب الجماميز وبها المطبعة التى تطبع مجلة الفتح وقد نقل مكتبته بعد ذلك إلى جزيرة الروضة .. وأنا طبعا لم أحضر مجلة الفتح فى أول ظهورها لكنني حين نزحت من أجل الدراسة إلى القاهرة كنت حريصا على اقتنائها وكنت أجد فى قراءتها متعة عظيمة لأنها هى وحدها التى كانت الصوت المعبر عن الفكرة الإسلامية فى ذلك العهد ، وهى وحدها التى كانت تلتقي على صفحاتها أقلام المجاهدين من أنحاء العالم الإسلامي وكان شعارها المكتوب بجانب اسمها على الغلاف هو هذه العبارة (( أنت على ثغرة من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبلك )) .
وكان من أعظم ما أخرجه الأستاذ محب الدين مما سوى مجلة الفتح كتاب (( الغارة على العالم الإسلامي )) هذا الكتاب يجدر بكل مسلم يريد أن يفهم الحقائق فى هذا العالم أن يقرأه . إذ استطاع هذا الكتاب أن يفضح المؤامرة العالمية التى حاكتها الدول المسيحية للقضاء على الإسلام حيث كان .. ولم يعتمد الكتاب فى فضح المؤامرة على مجرد التشهير بها والتنويه بخطورتها ورص عبارات التحذير منها ، وإنما اعتمد فى ذلك على نشر نصوص اتفاقيات سرية تم عقدها بين الدول فى صورة جمعية عالمية للتبشير ألفتها هذه الدول ، وقد استطاع الأستاذ محب الدين الحصول على نصوص هذه الاتفاقية بطريقته الخاصة . وإذا قرأت نصوص هذه الاتفاقيات وما رصدته هذه الدول لتنفيذها من مئات الملايين من الجنيهات وقرأت الوسائل التى رسموها لتقويض دعائم الإسلام فى نفوس معتنقيه لعجبت لبعد نظر هؤلاء القوم ولبراعتهم فى التخطيط التنظيم .
وقد لقي هذا الكتاب حين صدر مقاومة عظيمة واتبعت فى مقاومته نفس الأساليب الملتوية التى خططوها للقضاء على الفكرة الإسلامية ، وربما كان من هذه الأساليب شراء كل ما يصدر من الكتاب من نسخ وإعدامها فيحولوا بذلك بين المسلمين وبين اطلاعهم على محتوياته .. وهذا أسلوب من أساليب الاستعمار فى محاربة الكلمة المطبوعة
ليقضى الله أمرا كان مفعولا
تخرج حسن البنا فى دار العلوم ، وكان أول دفعته بمجموع يصل إلى النهايات ، وكان المتبع أن يوفد أول الدفعة فى بعثة دراسية إلى الخارج ولكن شاء الله أن يحول دون ذلك ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا ، وتؤسس دعوة الإخوان المسلمين فى سنة 1928 بعد أن تم تعيينه مدرسا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية .
في الإسماعيلية
كانت الإسماعيلية فى ذلك الوقت مدينة أجنبية بكل ما تحتمل هذه الكلمة من معان ، بل إن وصفها بهذا الوصف لا يفي بكل معانيها فهي قطعة من أوربا ، فعلية أهلها أجانب من جميع الجنسيات ، والموظفون المحترمون بها أجانب ، وحاكمها (( الحكمدار )) أجنبي ، والجيش المرابط فيها إنجليزي ... وهؤلاء الأجانب الذين يسكونها يعيشون عيشة أكثر رفاهية وأرغد عيشا وأقوى جاها من تلك التى يعيشها أهلهم وذووهم فى فرنسا وانجلترا وغيرها من بلاد أوربا ... لأنهم فى بلادهم قد لا يجدون من يخدمهم من أبناء جلدتهم إلا القليلين الذين يتقاضون أجرا باهظا قد يعجزون عن أدائه مع ذلك فإن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم - حين يخدمونهم - إلا معاملة الند للند ، لا يقبلون منهم غطرسة ولا مهانة ولا كبرياء ... أما فى الإسماعيلية فالمصريون لا يكتسبون قوتهم إلا من خدمة هؤلاء الأجانب الذين يعتبرونهم أصحاب البلد الأصلين أما هم فخدم طارئون لا يتقاضون أجرا على خدمتهم إلا التافه القليل .. أشربت قلوبهم الذل فالرجل منهم لا يشعر أنه أهين إذا ما شتمه سيده الأجنبي أو صفعه أو ركله برجله لأن هذا كان هو الشئ الطبيعي المألوف .
كان سكان هذه المدينة ثلاث فئات : جيش الاحتلال البريطاني وشركة قناة السويس وهى خليط من الأجانب ولكن أكثرهم من الفرنسيين والانجليز والأمريكيين ... والفئة الثالثة هى خدام هاتين الفئتين وهم المصريون ... ولما كانت الطبيعة البشرية تدفع بالأدنى إلى تقليد الأعلى فقد كان هؤلاء الخدم وهم الأهالي وقد فقدوا مقومات التشبه بسادتهم فى عيشة الرفاهية والبذخ لأنهم فقراء فلم يبق أمامهم إلا التشبه بهم فى شرب الخمر والإباحية على طريقتهم الخاصة .
لم يكن أهل الإسماعيلية جميعا عمالا لدى الأجانب بل كان منهم مقاولون ، وما أفخم صدى هذه الكلمة فى الأسماع ، ولكن ماذا كان عمل هؤلاء المقاولين ؟ كان عملهم توريد الخدم (العمال) من المصريين إلى هؤلاء الأجانب فكانت تجارة رقيق مقنعة وكان من عملهم نهب خيرات البلاد من مختلف قراها وأسواقها من الأغذية وحرمان الشعب منها وتوريدها للمستعمرين .. وكان من عملها شراء الزبالة التى يلقى بها جيش الاحتلال من بقايا الطعام وفتات الموائد وهو ما كان يسميه هذا الجيش (Rubbish ) ويبيعه المقاول الكبير إلى مقاولين صغار وهؤلاء بدورهم ينقلونه إلى مختلف بلاد القطر حيث يتهافت أهالي البلاد المحرومون على شرائه ليقتاتوا به .
لم يكن للحكومة المصرية وجود فى الإسماعيلية ، ولا للقوانين المصرية وجود ... وإنما كان الجيش البريطاني سندا لحكومة مستقلة ذات سيادة هى شركة قناة السويس .
نزل الشاب الصغير حسن البنا هذه المدينة الصاخبة وهو فى سن العشرين ، فرأى المدينة على الحالة التى وصفنا ، ووجد أنها تتكون سادة الأجانب وخدم هم المصريون ، وهاله ما رأى من صلف السادة ومهانة المصريين .. وأحس أن الله تعالى قد أختار له هذا البلد لتكون العجزة الإسلامية واضحة بارزة ... درس الشاب المنطقة المصرية من المدينة فوجد أن المساجد بها على ندرتها لا يؤمها الشيوخ القانون وذوو العاهات ، أما آلاف الشباب فلا مقر لهم بعد الخروج من عملهم إلا المقاهي .. ولما كانت الدعوة فى حاجة إلى الشباب فلابد إذن من الاتجاه إلى المقاهي .
أراد أن يلفت إليه الأنظار ، فدخل إحدى المقاهي المكتظة ، وعلى حين فجأة تنازل جذوة ( بصة ) من إحدى التراحيل ((الشيش )) وألقى بها وهى ملتهبة من أعلى فنزلت على إحدى المناضد وسط الجالسين وتناثرت ، فارتاع الحاضرون وغادروا أماكنهم مذعورين وتلفتوا يبحثون عن مصدرها فرأوا شابا وسيما واقفا على كرسي يقول لهم (( إذا كانت هذه الجذوة الصغيرة قد بعثت فيكم الذعر إلى هذا الحد فكيف تفعلون إذا أحاطت النار بكم من كل جانب ومن فوقكم ومن تحت أرجلكم وحاصرتكم فلا تستطيعون ردها ... وأنتم اليوم استطعتم الهرب من الجذوة الصغيرة فماذا أنتم فاعلون فى نار جهنم ولا مهرب منها )) ...
وهكذا استمر فى موعظته يضرب بها على أسماع مرهفة وقلوب متفتحة وأحاسيس فى أشد حالات اليقظة على أثر المفاجأة فكان لها أعمق الأثر فى نفوس الحاضرين . واتجهوا إليه يسألونه عن نفسه وعن عمله وعن مقره ، وبدأوا يلتفون حوله ويغرمون بالاستماع إليه ، وقد حببهم فيه أنه شاب ، وأنه متطوع لا يتقاضى على موعظته أجرا ولا بغى منها لنفسه نفعا وتوالت كلماته فى المقاهي تنقل الحديث عنه من مقهى إلى أخرى حتى كثر الملتفون حوله فبدأوا فى تنظيم اجتماعاتهم به ، ولما ضاقت بهم المقاهي قرروا تكوين جمعية على تسميتها (( الإخوان المسلمون )) ثم رأوا أن يقوموا ببناء مسجد ودار يجتمعون فيها وبنو المسجد والدار فكانت هى أول دار للإخوان المسلمين .
من آثار الدعوة فى الإسماعيلية
بنيت دار الإخوان فى الإسماعيلية وبني مسجدهم وساهم فى بنائهما الأهالي كما ساهمت شركة قناة السويس باعتبارهما عملا دينيا تفهمه الشركة كما كان يفهمه سائر الناس فى ذلك الوقت على أنه دروشة .
شركة جباسات البلاح
وسرت روح الإيمان الجديد من عمال الإسماعيلية إلى زملاء لهم بعيدين فى الصحراء حيث شركة جباسات البلاح وهى شركة أجنبية أيضا تضم مئات من العمال . وتعلم هؤلاء العمال فيما تعلموا (( الصلاة )) ورأوا أن عملهم بالشركة يضيع عليهم بعض الصلوات لعدم وجود مكان بالشركة يصلح لأدائها ... فتقدم هؤلاء العمال إلى الشركة يطلبون بناء مسجد فيها لتأدية الصلاة فاستجابت الشركة لهم إذ هو مما لا يضيرها فلما تم إنشاء المسجد أو عز إليهم الأستاذ أن يطلبوا من الشركة تعيين إمام للمسجد ليصلى بهم .. ولما كانت الشركة لا عهد لها بشروط الإمامة فقد فوضتهم فى اختيار من يصلح لذلك .
كان الشيخ محمد فرغلى طالبا أزهريا ، نهل من معين الدعوة وارتوى ، وكان قد وضع نفسه فى خدمة الدعوة يوجهه الأستاذ حيث يشاء . فاختاره الأستاذ لهذه المهمة مهمة الإمامة وخطبة الجمعة بمسجد الشركة .
ويسر وجود الإمام داخل الشركة للإخوان العمال أن يدعوا زملاءهم للصلاة فتضاعف بذلك عدد المستجيبين للدعوة من عمال الشركة .
جنرال لا إمام
أحس الأجانب المسئولون فى هذه الشركة بعد فترة من وجود هذا الإمام أن عمال الشركة قد تغيروا تغيرا ملحوظا ، فهم وإن زادوا إخلاصا فى عملهم حتى ظهر ذلك فى إنتاجهم إلا أنهم صاروا يعتزون بكرامتهم ولا يقبلون إهانة من أي مسئول بالشركة مهما علت مرتبته مهما كان وراء ذلك من ربح مادي لهم .
إن هذا التطور شئ جديد .. ولم يطرأ على الشركة جديد إلا هذا الإمام الذي عين للمسجد .. إن هذا الإمام ينشر أفكارا صحيحة ونبيلة ومثالية لكنها ستحد من سلطتنا على هؤلاء العمال إذن لابد من إبعاد هذا الإمام . ذهب أحد كبار المسئولين بالشركة واسمه المسيو فرانسوا فى اليوم التالي إلى المسجد بنفسه ونادي الإمام وقال له : إن الشركة قد قررت الاستغناء عنك وستمنحك مكافأة سخية جدا على أن تغادر المسجد الآن ولا تعود إليه .
فقال له الشيخ محمد فرغلى : ولكنني لا أستطيع مغادرة المسجد لأنك لست الذي جئت بي إلى هذا المكان . فقال : ومن إذن الذي جاء بك ؟ قال : الأستاذ حسن البنا .. فبعث مدير الشركة فى طلب الأستاذ حسن البنا . فلما حضر قال له : يا أستاذ حسن أنت لم ترسل إلينا إماما للمسجد وإنما أرسلت لنا جنرالا .
فسأله الأستاذ المرشد قائلا : أحب أن أسألك باعتبارك المسئول الأول فى هذه الشركة ... هل لاحظت عليهم سوء أدب مع زملائهم ؟ قال : لا . قال الأستاذ : إذن لا مانع عندي من سحب الإمام .
زواج المرشد العام
كان من بين من استجاب للدعوة من أهل الإسماعيلية أسرة كريمة من أسرها تدعى أسرة الصولى ، وهم تجار من تجار من متوسطي الحال ... وكانت هذه الأسرة من الأسر المتدينة بطبيعتها وممن يربون أولادهم على الدين .. وكانت والدة الأستاذ تزور هذه الأسرة ، فسمعت فى إحدى ليالي زيارتها صوتا جميلا يتلو القرآن فسألت عن مصدر ذلك الصوت فقيل لها إنها أبنتنا فلانة تصلى فلما رجعت الأم إلى منزلها أخبرت نجلها بما كان فى زيارتها وأومأت إلى أن مثل هذه الفتاة الصالحة جديرة أن تكون زوجة له ، وكانت خير عون له فى دعوته حتى لقي ربه شهيدا مظلوما
انتشار الدعوة فى المنطقة
كان انتشار الدعوة بعد تأسيسها فى الإسماعيلية أمرا طبيعيا وقد ظل الأستاذ المرشد فى الإسماعيلية نحو خمس سنين انتشرت فى خلالها الدعوة فى منطقة القناة فى الإسماعيلية وبور سعيد والسويس وفى منطقة البحر الصغير من الدقهلية وفى بعض بلاد الشرقية - وكانت تعقد مؤتمرات لهذه المناطق فى أوقات دورية .