الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الأول - الباب الثالث)

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثالث : في ميدان الحلمية الجديدة (في المبني القديم)

مد جديد

خرجنا من هذه المأساة الأليمة ،وفي القلوب جراح لا تندمل علي مر الزمن ، لأنها تتصل بأخوة قلوب لا صداقة طريق ... ولم يكن مناص من استئناف المسير بعد هذا التوقف الطويل .. ودوي نداء القائد فسرعان ما استجاب الجنود ، ورأينا الدعوة تشق طريقها شقاً ما كانت تستطيعه من قبل ... وأحسست في التفاف الإخوان حول قائدهم كأنما شعروا وأيقنوا أن دعوتهم وقد عبرت المحنة .. هي دعوة الحق .. ودعوة الحق جديرة بالتفاني فيها والبذل في سبيلها ، فصار الإخوان ألصق بدعوتهم من ذي قبل ...

ورأينا الشباب ، من كل مهنة ، ومن كل حي ، يتقاطرون علي المركز العام أفواجًا يلتمسون طريق الله لإصلاح الناس ليلتزموه وليكونوا حماته والداعين إليه ... وكانت الظاهرة الجديدة أننا رأينا بابنا يطرقه طوائف من العمال والتجار وذوي المهن ، ولم يكن حتى قبيل المحنة يطرقنا إلا الطلبة وقلة من صغار الموظفين ، وهنا بدأت فكرة تكوين شعب ذات كيان حقيقي في أنحاء القاهرة ، وهو ما كان يتوق إليه الأستاذ المرشد من قديم . العجيب حقاً .. أن الدعوة خرجت من هذه المحنة كأنما نشطت من عقال فالإقبال عليها من كل فج عميق ، والدار ضاقت بروادها ، واتجه فكر الأستاذ إلي البحث للمركز العام عن مكان آخر يتسع للنشاط الجديد .

الانتقال إلي الحلمية الجديدة

اهتدي الأستاذ المرشد إلي دار في ميدان الحلمية الجديدة ، وهي منزل كامل لا جزء من منزل كالمقرين السابقين في الناصرية والعتبة ... وميدان الحلمية الجديد يقع في قلب القاهرة القديمة لكنه أجمل وأنظف حي فيها . والمنزل يطل علي الميدان نفسه ويتكون من دورين أحدهما يقع نصفه تحت الأرض ونصفه الأخر فوقها ، والدور الآخر مما يسمونه " السلاملك " حيث تصعد إليه بصف الدرج . وفوق هذا السلاملك سطح فسيح . ويلحق بالمنزل فناء واسع تقرب مساحته من مساحة المنزل كله ، وبجانب بوابة المنزل علي يمين الداخل حجرة منفردة كأنها حجرة البواب . ولابد أن الله تعالي علم من مستقبل دعوته ما لم نكن نعلم ، فهيأ لها مكانًا ما كنا نحلم به وموقعاً وسطًا ، كما يسر للأستاذ المرشد سكنًا قريبًا من هذا المكان ، وهو ما كان الأستاذ المرشد دائمًا حريصًا عليه .

مرحلة جديدة

كان الانتقال بالمركز العام من دار إلي أخري مرتبطاً بالانتقال بالدعوة من مرحلة إلي مرحلة جديدة ، فكانت فترة الإقامة بدار شارع الناصرية مرحلة من مراحل الدعوة لها حدودها ولها خصائصها ولما سماتها كما بينا ، ثم كانت فترة الإقامة بدار ميدان العتبة مرحلة أخري لها حدودها وسماتها الخاصة بها والمميزة لها ، ثم كان الانتقال إلي دار ميدان الحلمية إيذانًا التي صادرت شجيرة ثم غلظ عودها وأخرجت شطأها فآزرها وطال ساقها وألقت بفروعها ذات اليمين وذات الشمال .. نعم إنها بذلك قد اكتسبت ثباتاً وقوة لكن استطالتها وارتفاعها قد جعلها عرضة لمهب الرياح من كل اتجاه ، لقد كانت في مرحلتيها الأوليين وهي بادرة ثم وهي شجيرة في مأمن من أن تنال منها هبات الرياح ، أما في هذه المرحلة وقد أغلظت واستطالت وتفرعت وتشعبت فإنها صارت عاتقاً في طريق الرياح من أية ناحية هبت ، فعليها حينئذ أن توطن نفسها علي استقبال صفعات الرياح وأن ترد عليها بمثلها أو أن تحاول تحاشيها بحركة ماكرة ماهرة .

كان حسن البنا يعلم كل هذا وهو يعد العدة للانتقال بالمركز العام من العتبة إلي الحلمية الجديدة ، وستري إن شاء الله خططه التي وضعها منذ الشهور الأولي في هذه الدار ما يدلك علي أن كل هذه المعاني كانت في خاطره . لم يغب عن خاطر الأستاذ لحظة أن عدوه الطبيعي الذي يتربص به ، والذي عليه أن يواجهه في كل لحظة إنما هو الانجليز .. عدو قوي ماكر : واسع الحيلة ، حسن الاستعداد ، قادر علي المواجهة لكنه يؤثر التستر وراء صنائع له من أهل البلد الذي يريد السيطرة عليه ... لم يغب عن خاطر الأستاذ أن عليه أن يواجه كل هذه الأساليب ، ولم يغب عنه أن صنائع الانجليز في مصر كثيرون ، وقد زودهم الانجليز بمختلف وسائل السلطة ، وأن هؤلاء الصنائع بعد أن تربوا في أحضان الانجليز ، وتمرنوا في خيرات بلادهم التي سلبها الانجليز وخصوهم بها دون أصحابها .

لم يغب شيء من هذا عن خاطره ، كما لم يغب عنه لحظة أن الانجليز بوسائلهم الخاصة وبواسطة أذنابهم المصريين يراقبونه ويعدون عليه أنفاسه ، ويعدونه عدوهم الأصيل وعدوهم الوحيد ، لأنه وأن هذا المبدأ وهذه الفكرة إنما تقوم علي أساس القرآن الذي لا يجتمع والظلم في مكان واحد ، لابد أن يقضي واحد منهما علي الآخر . لقد عمل حسن البنا في المرحلة السابقة كل جهده أن يتحدي الانجليز تحديًا سافرًا لفضح فظائعهم من ناحية ، وليلفت الأنظار إلي دعوته من ناحية أخري . لأن دعوته كانت في أمس الحاجة إلي وسيلة من وسائل الإعلام ليحس بها هذا الشعب الغافل ... أما في هذه المرحلة فإنه لم يعد في حاجة إلي وسائل إعلام فقد أحس الناس بالدعوة ، وأقبلوا عليها ، حتى امتلأت السفينة لم يعد بين حافتها وبين الماء قيد شبر .. ودفعتها الرياح حتى وصلت إلي وسط البحر . وركبت أمواجه المتلاطمة ، وصارت مهمة القائد أن يحسن توجيهها ، وأن يحاول أن يتفادى ما يتدافعها من أمواج حتى تصل إلي مرفأ أمين . وعليه مهمة أخري لابد أن ينهض بها في وقت واحد مع مهمته الأولي ، تلك هي إعداد هؤلاء الركاب بحيث لا يأخذهم علي غرة لصوص البحر وقطاع الطريق وما أكثر عددهم وأشد بأسهم .

سمات هذه المرحلة وخصائصها

أرسي الأستاذ المرشد قواعد العمل في هذه المرحلة علي الأسس الآتية :

أولاً : بدأت هذه المرحلة مع بدء اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939 ، وكان الأستاذ المرشد يري أن الحرب العالمية تغير وجه العالم ، وتفعل في سنواتها مالا يتم فعله من تغيير في مئات السنين ، فهي تختصر الزمن .. وعلي العقلاء الانتفاع بهذه الميزة قبل فواتها .

ثانيًا : ومن هنا فإن يري أن المرحلة التي يحتاج الإخوان في قطعها إلي عشرات السنين ، يمكنهم – بالانتفاع بهذه الميزة – أن يقطعوها في سنوات قلائل .

ثالثًا : أن مواجهة الأعداء والخصوم بهيئة ضعيفة وتكوين هزيل مجازفة غير مأمونة بل إنها قد تؤدي بالفكرة الإسلامية إلي الزوال ، فإذا أضفت إلي ذلك أن هذه المواجهة ستكون في ظروف كلها ظروف استثنائية وكل المرافق للمستعمر ، و المستعمر أعصابه علي أشدها لأنه يخوض حرب حياة أو موت ، كانت المواجهة انتحارًا لا شك فيه ولا إفلات فيه .

رابعًا : كما أنه يري أن انشغال المستعمر بالحرب ومن ورائه الحكومة المصرية ، فرصة للعمل للدعوة دون عوائق ، وعلي الإخوان في هذه الحالة أن يكشفوا من جهودهم حتى ينجزوا أكبر قدر من العمل في أصغر قدر من قبل أن تنتهي الحرب فجأة فيتفرغ هؤلاء – المستعمر والحكومة – للكيد للدعوة وبث العراقيل في طريقها قبل أن تكون قد استكملت عناصر قوتها .

خامسًا : أنه يري أن عناصر القوة التي يجب استكمالها في أقرب وقت هي عنصران : التشعيب والتكوين ، أما الأول فهو العمل علي أن تصل الفكرة الإسلامية إلي كل فرد في أنحاء مصر وأن يصل صداها إلي البلاد العربية والإسلامية وأن يكون للدعوة شعبة في كل حاضرة ومدينة وقرية وعزبة في جميع أنحاء مصر ، وأما التكوين فيكون بالعمل علي ربط المنتمين إلي الدعوة معا بروابط من الإخوة والحب والتعاون في ظل أسلوب عمل من التربية البدنية والروحية والثقافية .

سادسًا : أنه في سبيل إنجاز هذا العمل الكثير ، يجب علي الإخوان – في خلال فترة الحرب أن يغضوا الطرف عن الشئون السياسية فيتجنبوا اتخاذ مواقف سياسية محددة ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا مكتفين بالتعرض لما سوي ذلك من الشئون التربوية والاجتماعية والاقتصادية وإذا دهمهم موقف سياسي معين فعليهم أن يتفادوه ، وأن يطوعوه لخدمة هدفهم الكبير .

سابعًا : أنه يري أنه إذا سلك الإخوان هذا المسلك فإنهم سيفاجئون العالم بعد انتهاء الحرب بأقوى هيئة قادرة علي المواجهة وقادرة علي النهوض بأثقل التبعات ، ويستحيل علي أية قوة في الأرض أن تقضي عليها ، لأنها تكون قد تركزت في النفوس ، واختلطت بالمهج ، وضربت بجذورها في الأعماق .

علي هذه الأسس السبعة سار العمل طيلة سنوات الحرب ، وشقت السفينة طريقها في بحر هادئ كالحصير ، وكلما هبت عاصفة عمل القائد الماهر علي تفاديها حتى وصلت إلي شاطئ الأمان فكانت هي السفينة الوحيدة التي وصلت في سلام بجميع ركابها الذي أقلعت بهم من أول الطريق وبأضعاف هؤلاء من ركاب السفن الأخرى التي أشرفت علي الغرق في أثناء الطريق فمدت إليهم يد الإنقاذ بها من كل جانب .

الفصل الأول : في البناء الداخلي : التركيب البنائي للدعوة في هذه المرحلة

حتى ما قبل هذه المرحلة لم يكن للدعوة تركيب بنائي بالمعني الاصطلاحي المعروف ، وإنما كان هناك المركز العام في القاهرة وفي الأقاليم شعب متناثرة ، وتتلقي هذه الشعب تعليماتها من المركز العام وكان المركز العام يخص نفسه بأساليب معينة في التربية لا يطالب الشعب بالقيام بمثلها مثل نظام الكتائب ، ونستطيع أن نجمل النظام البنائي الذي كان سائدًا بأنه كان أقرب إلي النظام المركزي ... فلما انتشرت الدعوة وعمت أنحاء البلاد وكثرت الشعب حتى لم تعد مدينة ولا حاضرة ولا قرية تخلو من شعبة كان لابد من نظام بنائي جديد يسهل معه العمل وتتوزع فيه المسئولية وتتحدد به الحقوق والواجبات وتتيسر عن طريقه الاتصالات والمتابعة .

والخطوط الرئيسية للنظام البنائي الجديد هي :

أولاً : المكاتب الإدارية

اعتبر كل إقليم إداري في الدولة مكتبًا إداريًا ومعني هذا أنه صار للإخوان المسلمين في كل عاصمة لمحافظة مكتب إداري هو بمثابة المركز العام للإخوان في أنحاء المحافظة فكل شعب المحافظة تابعة له وهو يشرف عليها ويصدر إليها التعليمات ويتابع تنفيذها . ومنوط به نشر الدعوة في الأماكن التي لم تصل إليها الدعوة في حدود المحافظة ، كما أنه مكلف بمعالجة ما يجد من مشاكل في شعب المحافظة وعليه نقل النظم التربوية التي يضعها المركز العام إلي جميع هذه الشعب والإشراف علي الأخذ بها كما أن عليه توضيح ما تتخذه الهيئات العليا للدعوة من قرارات للشعب التابعة له مع متابعة تنفيذ هذه القرارات . ويتكون المكتب الإداري من أعضاء مجلس الإدارة لشعبة عاصمة المحافظة مضافاً إليهم نواب الشعب الرئيسية في المحافظة ، وعلي كل شعبة من شعب المحافظة المساهمة بجزء من ماليتها في تكوين رصيد للمكتب الإداري يخصص للإنفاق منه علي نشر الدعوة .

ثانيًا : مجالس إدارات الشعب

يدبر شئون الدعوة في كل شعبة مجلس إدارة يتكون من عدد من الإخوان ينتخبهم أعضاء الشعبة فيما بينهم ويرأس كل مجلس إدارة الشعبة ، ومهمة مجلس إدارة شعبة عاصمة المركز مع شعب بلاد المركز هي نفس مهمة المكتب الإداري بالنسبة لشعب عواصم المركز ، وهكذا تتسلسل القيادة وتتدرج المسئولية .

ثالثا : المركز العام

تعتبر القاهرة كغيرها من المحافظات مكتبًا إداريًا تتبعه شعب القاهرة ، وفي القاهرة أيضًا المركز العام للإخوان المسلمين وهو شيء آخر غير المكتب الإداري للقاهرة فهو يتعامل مع المكتب الإداري للقاهرة كتعامله مع أي مكتب إداري آخر . والمركز العام هو المقر الذي يجمع اللجان والأقسام التي تمثل أوجه النشاط التي يقوم الإخوان بمباشرتها أداء لحق الدعوة وتحقيقًا لأهدافها وهذه اللجان والأقسام هي :

لجنة الطلبة واللجنة الثقافية وقسم العمال وقسم الجوالة وقسم نشر الدعوة وقسم الكتائب والأسر وقسم الخدمة الاجتماعية وقسم الاتصال بالعالم الإسلامي وقسم الأخوات المسلمات . ولكل لجنة من هذه اللجان ولكل قسم من هذه الأقسام فرع في كل مكتب إداري تتلقي هذه الفروع تعليماتها من اللجنة الموجودة بالمركز العام وترفع إليها تقاريرها وتستعين بها في تنفيذ برامجها ... وقد لا يكون لبعض الأقسام فروع في المكاتب الإدارية لأن طبيعة مهمتها ترتبط بالقاهرة دون غيرها من البلاد مثل قسم الاتصال بالعالم الإسلامي .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قـيادة الدعـوة

ويمثلها هيئات ثلاث هي :

أولا : الهيئة التأسيسية

وهي الهيئة العليا للدعوة يناط بها رسم الخطوط الرئيسية لسياسة الدعوة ، ويرجع إليها في كل ما يمس هذه السياسة أو ما يجد من أمور خطيرة أو ما يستدعي تعديلا في هذه السياسة أو ما يتصل بكيان الدعوة من قوانين أو إجراءات أو تصرفات ... واجتماعها العادي مرة كل عام ولكن للمرشد العام دعوتها للاجتماع في أي وقت يري ضرورة لاجتماعها لعرض مسائل جوهرية عليها . وقد تكونت هذه الهيئة أول ما تكونت في سنة 1941 من مائة عضو اختارهم المرشد مراعيا في اختيارهم الشروط الثلاثة الآتية :

1 – أن يكونوا من السابقين الأولين في الدعوة .

2 – أن يكونوا ذوي كفاءات ممتازة أو ذوي تضحيات بارزة من أهل الرأي .

3 – أن يكونوا ممثلين لمحافظات القطر ما أمكن .

وتعتبر الهيئة التأسيسية الجمعية العمومية للإخوان المسلمين ، ومن اختصاصها أن تنتخب من بين أعضائها لجنتين تكمل بها هيئات قيادة الدعوة هما مكتب الإرشاد العام ولجنة العضوية .

ثانيًا : مكتب الإرشاد العام

ويتكون من اثني عشر عضوًا ومهمته تنفيذ السياسة التي أقرتها الهيئة التأسيسية وحددت خطوطها العريضة ، وإصدار القرارات في مختلف شئون الدعوة مما تلتزم بتنفيذه المكاتب الإدارية وشعبها ... وهو يعتبر مجلس الإدارة للدعوة يمثلها أمام الرأي العام وأمام الجهات الرسمية .

ثالثاً : لجنة العضوية

وتتكون من سبعة أعضاء مهمتها اختيار الأعضاء الجدد للهيئة التأسيسية ، وتحقيق ما يثار حول أعضاء هذه الهيئة وإصدار القرارات في شأنهم ... وقد رأي الأستاذ المرشد أن أكون عضوًا في هذه اللجنة لما يعلم من صلتي بالكثير من قدامي الإخوان وحديثيهم في القاهرة وغيرها من البلاد ، ولهذا فقد طلب إلي أن أكون بجانبه عند اختياره للأعضاء المائة ليكونوا أعضاء الهيئة التأسيسية حتى يكون ذلك نبراسًا لي عند اختيار أعضاء جدد عن طريق لجنة العضوية فيما بعد . علي أن أعضاء الهيئة التأسيسية لم يزد عددهم حتى منتصف الخمسينات عن مائة وخمسين عضوًا مع أنه كان من حق لجنة العضوية قانونًا اختيار عشرة أعضاء جدد كل سنة ولكن ظروفاً نشأت أعفت اللجنة من أجلها بعض الأعضاء حالت دون استيعاب هذا العدد .

ولقد كان من حكمة الأستاذ المرشد وبعد نظره أن أنشأ الهيئة التأسيسية في هذا الوقت بالذات فقد ظهر بعد ذلك من المواقف والمشكلات والأزمات والخلافات ما لو لم تكن هذه الهيئة موجودة لقضي علي الدعوة وانهار صرحها ، وسوف يري القارئ إن شاء الله الكثير من ذلك فيما بقي من هذه المذكرات . كما أن وجود هذه الهيئة قد أغني عن عقد المؤتمرات التي كانت تعقد كل سنة أو سنتين يحشد فيها أكبر عدد من مختلف بلاد القطر ليلخص أمامهم الأستاذ المرشد ما قطعته الدعوة في خطوات منذ المؤتمر السابق وليشرح لهم بعض ملامح الخطة المستقبلية وكانت هذه المؤتمرات تكلف الإخوان الكثيرين الذين يحضرون من بلادهم الكثير من الجهد والمال كما تكلف المركز العام مثل ذلك ... ومع ذلك فقد كانت طبيعة هذه المؤتمرات لا تتيح فرصة مناقشة ما يعرض من تقارير عن الماضي أو مقترحات للمستقبل .

علي أن هذه المؤتمرات لم تكن ليصلح عقدها بعهد أن كثرت الشعب وكثر عدد الإخوان في كل مكان بحيث تضييق بمندوبيهم الأمكنة في القاهرة مهما اتسع نطاقها للاجتماع والنوم .. أما وقد أنشئت الهيئة التأسيسية علي القواعد الثلاث التي أشرت إليها فإن الأستاذ المرشد كان يدعوها بأعضائها المائة فتضمهم حجرة فسيحة من حجرات المركز العام فيعرض عليهم ما يشاء ويناقشهم ويناقشونه ويقترح عليهم ويقترحون عليه ، ويتحدث كل منهم عن مشاكل محافظته ويصلون في النهاية إلي قرارات مدروسة محددة ، فيرجع هؤلاء الأعضاء إلي محافظاتهم يشرحون لإخوانهم ما تم في الاجتماع بتوضيح وتفصيل ... فيتحقق بهذا الأسلوب مالا تحققه المؤتمرات مع إعداد الدعوة وإعفاء الإخوان من كثير من الجهد والمال والمشقة . ولهذا فقد كان المؤتمر السادس الذي عقد قبيل تكوين الهيئة التأسيسية في 9 يناير سنة 1941 هو آخر المؤتمرات .

استطراد

لست أدري هل يعد استطرادًا أن أترك هذا الحديث العام لأتحدث عن أمور تخصني ، أم أن حديثي عن هذه الأمور هو من الحديث المتصل ؟ .... إن هناك مجموعة في هذه الدعوة لم تعد حياتها الخاصة منفصلة عن الدعوة بل هي جزء منها ؛ لأنها ارتضت يوم خيرها الأستاذ في اجتماع لجنة الأربعة والعشرين في منزله أن تضع حياتها ومستقبلها رهنا بما تطلبه الدعوة . لقد كانت الدعوة في شخص مرشدها تتحكم في وقت هذه المجموعة فتوجهها التوجيه الذي تريده . فكان الأستاذ المرشد مع شدة احتياجه أن نكون بجانبه ، يمنعنا من الحضور إلي المركز العام طيلة الشهر الذي يسبق الامتحان لأنه يري في إنهائنا حياتنا الدراسية نفعًا للدعوة لا يتوفر لها إذا طالت هذه الحياة الدراسية . وكان الفرد من هذه المجموعة حين يتخرج لا يتجه إلي حياة عملية لا بعد أن يستشير الأستاذ المرشد باعتباره أبصرنا بالاتجاه الأنفع للدعوة ... أفليس الحديث في هذه الأمور إذن حديثاً في صلب الدعوة وفي صميمها ؟ ...

بعد التخرج

يحسن قبل التطرق إلي ما كان من شأني بعد التخرج أن أبدأ بإشارة موجزة إلي الحالة الاجتماعية التي كانت سائدة في مصر فيما يتصل بالوظائف والموظفين حتى يكون القارئ علي صورة واضحة ؛ كان المتخرجون ف ي أية كلية من الكليات أو مدرسة عليا كما كان أكثرها يدعي في ذلك الوقت لا يجد أمامه عملا يلتحق به ويرتزق به ... كانت فرص العمل نادرة ندرة تصل إلي درجة العدم ، ولم يكن العمل إذ ذاك موجودًَا إلا في الوظائف الحكومية . كان المتخرج يوم يتخرج يكتب طلبات التحاق بعدد وزارات الحكومة ومصالحها ويرسلها جميعا وينتظر لعله يصادف عملا في أي منها ، ولم يكن عادة يصله رد .. ويظل هكذا عاطلا ، وبعد كل ستة أشهر يعيد كتابة الطلبات وتحفي أقدامه في ارتياد الوزارات التي يتوسم أن يجد فيها عملا أيًا كان ، فإذا كان محظوظاً وجد بعد سنتين من تخرجه عملا باليومية في إحدى الوزارات ؛ ومعني ذلك أنه لا يضمن أن يستمر في العمل طول العام فقد يستغني عنه في أي يوم من الأيام . لم يكن في نيتي العمل في وظيفة حكومية بعد تخرجي حتى ولو وجدت وظيفة مناسبة ، وإنما كانت نيتي معقودة علي القيام بعمل حر ، بل إنني حددت نوع العمل أن يكون في الألبان ، ولم نكن ندرس الألبان في كلية الزراعة إلا في السنة النهائية . كاشفت الأستاذ المرشد بعزوفي عن الالتحاق بالوظائف الحكومية ، وبعزمي علي الاشتغال الحر بالألبان ، فزكي الفكرة ، وأبدي استعداده لمؤازرتي في هذا السبيل ، ومن قبل نالت الفكرة قبولا لدي والدي وأبدي استعداده لإمدادي بالمال اللازم .

مشروع الألبان

كانت الفكرة مختمرة في نفسي ، وعزمي علي تنفيذها علي أشده ، ولكن كيف أنفذها ، وكيف أنتقل بهذا العوم إلي واقع الحياة ؟ كانت معضلة أمام شاب ناشئ لا خبرة له بالحياة . وبعد أيام ناداني الأستاذ ، وكان لتوه راجعًا من رحلة له في الصعيد وقال لي : لقد عثرت لك علي طلبتك . ذهبت إلي مغاغة من أجلك لأني أعلم أن أخاً كريمًا فيها وزميلاً لك تخرج في كليتك منذ أربعة أعوام ، كان قد أنشأ معملا للألبان فيها ، وقد رأيت أن أقابله وأعرض عليه فكرتك ، وقد قابلته وعرضت عليه الفكرة فزكاها ، وأخبرني بأنه أغلق المعمل لأنه محتاج إلي شريك ، ورحب بك شريكًا له .. وكذلك ذلل الأستاذ المرشد عقبة كئودًا كانت في طريقي . وكان لي زميل في الدراسة تخرج معي هو عباس نجل الأخ الكريم الأستاذ محمد حلمي نور الدين ، وقد اقترح والده أن يكون شريكًا ثالثًا في المشروع فرحبنا به .. كنا في ذلك الوقت عقب امتحان البكالوريوس مباشرة أي في أواخر يونيه وأوائل يوليه سنة 1939 ولما كان موسم الألبان يبدأ مع ظهور البرسيم في الحقول فد كانت أمامنا فترة نقضيها في القاهرة قبل الذهاب إلي مغاغة حتى يجئ شهر أكتوبر علي الأقل .

مفـاجـأة

لم يكد يمضي علينا بعد ذلك شهر واحد وإذا بوفد من إخوان مغاغة – محافظة المنيا – يطرقنا في المركز العام علي غير موعد ويعرض علينا مشكلة غريبة . تتلخص هذه المشكلة في أن في مغاغة مدرسة ابتدائية أهلية تملكها جمعية قبطية . وهي المدرسة الابتدائية الوحيدة – (المدرسة الابتدائية في ذلك الوقت تعادل في أيامنا هذه المدرسة الإعدادية) – التي يلتحق بها أبناء مغاغة وضواحيها الكثيرة ... وناظر المدرسة من قديم هو الأستاذ الشيخ حسن سيد وهو من العلماء وإمام وخطيب المسجد الكبير بمغاغة ... فلما أنشئت شعبة الإخوان المسلمين بمغاغة انضم إليها فضلاء أهالي مغاغة ومنهم الأستاذ الشيخ حسن سيد وأسندت رياستها إليه ... ولم يدر بخلد الإخوان ولا خلد الأستاذ الشيخ حسن سيد أن في هذا تعارضًا مع مصلحة المدرسة ... ولكن تبين أن هناك عقولا ضعيفة ، وصدورًا لا تنطوي إلا علي الحقد والضغينة رأت في انضمام الأستاذ الشيخ حسن إلي الإخوان خروجًا علي الطاعة وتمردًا علي العبودية ، فلم يفاتحوه في ذلك ليقنعهم بخطأ نظرتهم إلي الإخوان المسلمين ، ويشرح لهم أن هذه الدعوة إنما يريد الخير لا للمسلمين وحدهم بل لجميع سكان البلاد علي اختلاف عقائدهم ؛ ون الإخوان – حين انضم إليهم واختاروه رئيسًا لهم – لم يرو في عمله في مدرسة الأقباط ما يتعارض مع دعوتهم ....

لم يفاتحوه في ذلك بل أسروه في نفوسهم حتى انتهي العام الدراسي فلم يفاتحوه أيضًا ، وانتظروا حتى قاربت إجازة الصيف علي الانتهاء وتيقنوا أن جميع المدارس الأهلية في القطر قد استوفت العدد اللازم لها من المدرسين والنظار وأن جميع المدرسين قد تم تعاقدهم مع المدارس ، حينئذ فاجئوا الرجل الذي أفني زهرة شبابه في خدمتهم بخطاب يقولون فيه إن الجمعية قد قررت الاستغناء عنه . وينبغي أن يعلم القارئ أن المدارس الأهلية – أو كما نسمي الآن المدارس الخاصة – في ذلك الوقت لم تكن تحت إشراف حازم من وزارة المعارف لاسيما ما يتصل بحقوق العاملين في هذه المدارس من نظار ومدرسين وكتبة وعمال بل كان كل هؤلاء تحت رحمة ملاك هذه المدارس ؛ فهم الذين يتعاقدون معهم علي المدة التي يردنها علي المرتب الضئيل الذي يحددونه ، وعلي عدد الحصص التي يدرسونها في اليوم وفي الأسبوع ، وهم الذين يلغون هذه العقود في أي وقت يشاءون ودون إبداء الأسباب .

وكانت مرتبات هؤلاء المدرسين من الضآلة بحيث لا تكاد تصدق ؛ فقد لا يصل مرتب المدرس إلي ثلاثة جنيهات ... كما لا يخفي أن مرتبات موظفي الحكومة كما قدمت – وإن كانت أحسن حالا من ذلك ، إلا أن مرتبات أئمة المساجد في وزارة الأوقاف لم تكن أحسن حالا من مرتبات المدارس الأهلية فكان مرتب الإمام المتخرج في الأزهر ويحمل شهادة العالمية في حدود الجنيهات الثلاثة . وقد رأيت أن أشير إلي ذلك حتى يتضح للقارئ فداحة المصيبة التي أصابت هذا الرجل الذي خدم هذه المدرسة ثمانية عشر عامًا والذي كان يعول أسرة كبيرة ، وقد رتب معيشته ومعيشة من يعول علي أساس هذا المورد الذي يكتسبه من عمله بهذه المدرسة حيث لم يكن مرتبه من وظيفته في الأوقاف يبلغ نصف مرتبه من المدرسة ... وفي الوقت الذي انقطع عنه فيه هذا المورد أضحي عاجزًا أن يجد عملا يعوضه عنه لأن التوقيت الذي اختاره ينبأ الاستغناء عنه توقيت مدبر ، أملاه الحقد الأسود بقصد القضاء علي هذا الرجل تامًا ، وفضيحته أمام الناس حيث تظهر الفاقة عليه وعلي أولاده وذويه ، ويضطر إلي الاستدانة والاستجداء ... ولم يكن في ذلك الوقت في تلك المدارس حق للمفصول أو المستغني عنه في معاش ولا مكافأة .

وامعتصماه

كان وقع هذه القصة حين قصها وفد إخوان مغاغة علي سمع الأستاذ المرشد كوقع كلمة " وامعتصماه " علي سمع الخليفة العباسي المعتصم بالله حين نقلت إليه عن المرأة المسلمة التي أسرت ببلاد الروم منتهزين فرصة أنها امرأة وحيدة لا نصير لها في بلادهم .. وكان رد الأستاذ المرشد تمامًا كرد الخليفة إذ قال لإخوان مغاغة وهو يبتسم " لا بأس . إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها " . لم يكن لقولة الأستاذ المرشد هذه معني في عرف العقل والمنطق والقياس للأسباب الآتية :

أولاً : لم يبق علي بدء الدراسة إلا أقل من شهر واحد .

ثانيًا : أن هذا المشروع إذا أريد تنفيذه فإنه يحتاج إلي رأس مال لا يقل عن بضعة آلاف من الجنيهات في ذلك الوقت ؛ علي أن يسترق تنفيذه إذا وجد المال سنة علي الأقل .. فكيف يمكن مجرد التفكير فيه وليس لدي الشعبة ولا المركز العام شيء من هذا المبلغ .

ثالثاً : إذا افترضنا جدلا أن مدرسة كاملة المباني وافية بجميع ما يشترط من الشروط الصحية والاجتماعية نزلت لنا من السماء الآن ، فإن العقبة الكبرى التي لا يمكن تذليلها هي العثور في هذا الوقت علي مدرس واحد يتعاقد معه بعد أن ارتبط كل مدرس بمدرسته .

رابعًا : أن إعداد المقاعد والقماطر والسبورات لمدرسة كهذه يحتاج إذا وجد المكان والمال إلي عدة أشهر .

خامسًا : إذا افترضنا جدلا أن هذه المدرسة موجودة بكامل معداتها ومدرسيها فإنها باعتبارها مدرسة جديدة تحتاج إلي عام كامل – مع جميع وسائل الإعلام الميسورة – حتى يعلم الناس بوجودها .. ثم هي لا تبدأ إلا بالسنة الأولي أي بالصف الأول فقط ، لأن الناس لن يثقوا بها إلا إذا أثبتت نتائجها جدارتها لاسيما وفي المدينة مدرسة قديمة أثبتت جدارتها من قبل والجميع يثقون بها .

تلقي وفد إخوان مغاغة وتلقينا نحن الحاضرين من إخوان المركز العام قولة الأستاذ هذه بابتسامة فيها كل المعاني التي تضمنتها الخمسة أسباب السابقة ، ولكن الأستاذ المرشد مصممًا علي قولته حيث كررها أكثر من مرة تكرار الواثق المتمكن ... ومع ارتيابنا بل ما نراه من استحالة في تحقيق هذا المشروع فإن ثقتنا التي تفوق كل تصور في الأستاذ المرشد جعلتنا نتهم عقولنا ونتهم المنطق والواقع ونصدق ما يقول ..... إن هذا الرجل الذي أتاه الله تعالي من العلم والحكمة ما بهر عقول كبار العلماء فطلبوا إليه أن يؤلف كتبًا يودعها هذه المعارف فكان رده عليهم : إنني لا أؤلف كتبًا يكون مصيرها تزيين الوقوف وأحشاء المكتبات ، وإنما مهمتي أن أؤلف رجالا أقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه ، فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلي الناس ، ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم ، ويبثهم كل ما في قلبه وعقله ، ويؤلف منهم رجالا كما ألف هو من قبل .

إن هذا الرجل الذي ربي هذا الشباب الغض علي أسمي المعاني الإنسانية وأجلها من إيمان وإيثار وتضحية لم تكن تربيته هذه تربية عقيما يقف بها عند حدود تطهير النفس وتزكية الروح ثم يعتزل أصحابها المجتمع متفانين في العبادة ، بل كان يربيهم هذه التربية ثم يلقي بهم في خضم المجتمع باعتبار أنهم كنوز يستثمرها في إصلاح ما فسد منه وبناء ما انهار من بنيانه .. وكان الأستاذ نفسه هو أقدر الناس علي استثمار هذه الكنوز وأبرعهم في الإفادة منها ، وأبصرهم بمكامن اللآلئ والدرر فيها ، وأكثرهم تمكنا من سد كل ثغرة من ثغرات المجتمع بما يناسبها من هذه اللآلئ والدرر كما يقول المثل العربي " يضع الهناء مواضع النقب " . علي أساس من معرفته بما تحت يده من هذه الكنوز قال واثقا قولته التي قالها ... قالها وهو يعلم أنها بحكم العقل وحده والمنطق والحساب إنما هي نوع من المحال ، ولكن الذي بيده مفاتيح هذه الكنوز هو فرق العقل والمنطق والحساب " والله يرزق من يشاء بغير حساب " . إن العنصر البشري طاقة كامنة لا حدود لقوتها ولكنها مفتقرة دائمًا إلي من يستطيع تفجيرها .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إنشاء المدرسة أو تحقيق المحال

قال الأستاذ المرشد لوفد إخوان مغاغة ، أنتم مكلفون بأمرين اثنين عليكم أن تنجزوهما :

الأول : أن تقولوا للأخ الأستاذ الشيخ حسن سيد إن الإخوان قرروا أن ينشئوا لك في مغاغة مدرسة ابتدائية تبدأ الدراسة فيها من أول هذا العام الدراسي وتكون أنت ناظرها .

الثاني : أن تجتمعوا بإخوانكم جميعًا وتدبروا مكانا يصلح أن يكون مدرسة مهما كان إيجاره والمركز العام متكفل بدفع إيجاره .

فإذا تم تدبير المكان فأخبرونا لنكمل الخطوات الأخرى إن شاء الله .

وبعد أيام وصل وفد من مغاغة يحمل إلينا نبأ إيجاد المكان المطلوب وقالوا إن الأخ المهندس الزراعي الأستاذ شلبي محمد جاد وكيل الشعبة – وهو نفسه الأخ الذي كان الأستاذ المرشد قد اتفق معه لأكون شريكاً له في معمل الألبان – قدم لنا منزلا يملكه ملحق به فناء واسع وهو مكون من ثلاثة طوابق ليكون مقرًا للمدرسة ، وتبرع بقيمة إيجاره في السنة الأولي . وأراد الأستاذ المرشد أن يقتحم علي منافسينا بصاعقة تذهلهم وتفقدهم رشدهم ، فقال لوفد مغاغة : ارجعوا إلي إخوانكم واطبعوا أكبر عدد ممكن من الإعلانات واكتبوا فيها أن المدرسة الإسلامية بمغاغة قد استقدمت جميع هيئة التدريس بها من القاهرة وكلهم من خريجي كليات الجامعة ويحملون شهادات البكالوريوس والليسانس – واكتبوا أسماءهم ومؤهل كل منهم أمام اسمه – واكتبوا في الإعلان أنهم سيحضرون إلي مغاغة يوم كذا في قطار الساعة كذا – وحدد لهم اليوم والساعة ...

وقال لهم : عليكم أن توزعوا الإعلانات في جميع أنحاء مغاغة وفي جميع قري المركز .. وعليكم أن تكونوا جميعًا في انتظارهم علي محطة السكة الحديد . ثم التفت إلي وقال : عليك أن تتأهب أنت وزميلك عباس حلمي ومحمد بسيوني (تخرج محمد بسيوني في ذلك العام في كلية الحقوق) للسفر معًا إلي مغاغة في يوم كذا وفي قطار الساعة كذا وهو اليوم والساعة اللتان حددهما لإخوان مغاغة . ودعوت زميلي وقابلنا الأستاذ فقال لنا : إنكم ستقومون بأهم دور في هذا المشروع الذي أنا أعده مشروع الساعة للدعوة والاختيار الدقيق لها ، وستحملون أنتم أكبر عبئ فيه ... إن عليكم أن تعرفوا الناس بأنفسكم وبمؤهلاتكم ، وعليكم أن تزوروا أعيان مغاغة وجميع البيوت المعروفة في قري المركز ... وستكون زياراتكم هذه لهذه البيوت مبعث ثقتهم في نجاح المشروع ، ودافعًا لهم علي التبرع له بسخاء ... ثم عليكم مع ذلك أن تتعاونوا مع إخوان مغاغة في تدبير كل ما يلزم المدرسة من مقاعد وقماطر وغيرها ... وحين تبدأ المدرسة فعليكم أن تقوموا بأنفسكم بتدريس جميع العلوم وسنضم إليكم في التدريس الأستاذ الشيخ حسن سيد الناظر ، ولا تتركوا مواقعكم في التدريس إلا بعد أن نعثر علي عدد كاف نتعاقد معه من المدرسين المحترفين . تلقينا هذه التعليمات من الأستاذ المرشد ولم يخطر ببالنا أننا مقدمون علي أشق مهمة علي الإطلاق ..

لا يعرف الشوق إلا من يكابـده

ولا الصـبابة إلا من يعـانيـها


مظاهرات من نوع جديد

حزمنا أمتعتنا – ولم تكن أمتعة ذات بال ، فهي لا تعدو أن تكون ملء حقيبة ضمت أمتعتنا نحن الثلاثة ... وركبنا القطار الذي حدده لنا الأستاذ وتوكلنا علي الله ، حتى إذا صارت محطة مغاغة قاب قوسين أو أدني أعددنا أنفسنا أمام باب عربة القطار التي كنا فيها لنكون أول النازلين حين يقف القطار ، ولما كنا لم ننزل بمغاغة من قبل طمأننا الأستاذ أن سنجد في انتظارنا عددًا من الإخوان الذين عرفناهم في القاهرة . ووقف القطار ، ولم نكد نقدم رجلا للهبوط حتى رأينا المحطة تموج بمئات الناس الذين يبدو عليهم أنهم من علية القوم ، ورأينا الجميع يشيرون بأيديهم إلينا ، وتقدم نحونا الإخوان الذين عرفناهم في القاهرة وتناولوا حقيبتنا وخذوا بأيدينا وأحاطوا بنا ، وخرجنا من المحطة في موكب ضخم مهيب نتقدمه نحن الثلاثة وحولنا إخوان مغاغة وخلفنا هذه الجموع كأننا " عرسان " يزفون ليلة الزواج والهتاف " الله أكبر ولله الحمد " يشق عنان السماء .. وسلكوا بنا في هذا الموكب الشارع الرئيسي الذي يخترق المدينة من أولها لآخرها ، وعلي طول الطريق يرشفنا الناس علي الجانبين بنظرات ، ويوجهون نحونا إشارات كأنهم كانوا علي علم بمقدمنا وفي شوق لرؤيتنا ، حتى وصلنا إلي الدر لم تعد لتكون مقر المدرسة فدخلنا ودخل معنا كثير من الناس وأخذ الجميع يرحبون ويبدون سرورهم بمقدمنا .

كان باقيًا علي موعد بدء الدراسة في المدارس الابتدائية أقل من شهر ، ولم يكن بد من تقسيم المسئوليات علي الإخوان لينهض كل بما يوكل إليه في أسرع وقت ممكن ، وكان من مسئولية الأخ الأستاذ شلبي محمد جاد المتبرع بالدار أن يغير من شكل المبني ومحتوياته فيهدم أجزاء ويضيف أجزاء حتى يتواءم المبني مع الرسم الذي طلبته وزارة المعارف وجعلته شرطا لاعترافها بالمدرسة ، وكان علي الأخ الأستاذ محمد فؤاد سليمان ومعه مجموعة من الإخوان أن يحصلوا من مخازن الوزارة ومن المكتبات الأخرى علي الكتب اللازمة والكراريس وغيرها من الأدوات المكتبية للصفوف الأربعة . وهكذا قسم العمل وكان الموكول إلينا من المسئوليات هو أن نشترك في النهار مع اللجان المختلفة في مسئولياتها حتى إذا انتصف النهار وتناولنا طعام الغداء ، أعددنا أنفسنا لرحلة يومية يشترك معنا فيها الأستاذ الشيخ حسن سيد وبعض الإخوان لنزور كل يوم بلدًا من بلاد المركز أو بلدين لنشرح للناس مزايا هذه المدرسة والسبب في إنشائها وما كان من أمر الغدر بالشيخ حسن سيد كما يرون بأعينهم الأشخاص ذوي المؤهلات العالية الدين سيقومون بمهمة التدريس ، فتكون نتيجة كل زيارة من هذه الزيارات ضمان نقل أولادهم من مدرسة الأقباط إلي المدرسة الإسلامية وإلحاق أولادهم الجدد بها ، ثم تبرعًا سخيا يقدمه أثرياء البلد لحساب إنشاء هذه المدرسة .

كان هذا المجهود المتواصل شاقًا فقد كنا نغادر مغاغة كل يوم عصرًا ولا نعود إليها إلا منتصف الليل لنستأنف في الصباح الباكر العمل مع اللجان المتعددة المسئوليات . انهالت التبرعات من أثرياء القرى التي زرناها وتمكنا بذلك من شراء جميع احتياجات المدرسة من كتب وأدوات وسبورات ومكاتب وكراسي للمدرسين والزوار وأدوات النظافة وغيرها ثم واجهتنا معضلة أننا نريد قماطر للتلاميذ ونريد عددًا كبيرًا يتسع للعدد الذي قدرناه من التلاميذ نتيجة دعايتنا وزياراتنا ، وإذا كان معنا ثمن هذه القماطر فإن صناعتها قد تستغرق عدة أشهر ولم يبق علي موعد بدء الدراسة إلا عشرة أيام . تذكرت أن أحد أصدقائنا في رشيد كان قد أنشأ مدرسة ابتدائية في مطوبس ولكنه أخفق في المشروع فباع محتوياتها فاشتراها أخ كريم من إخواننا التجار برشيد فأرسلت إليه أن يشحن لنا جميع هذه القماطر (التخت) التي اشتراها فوصلت مع بدء الدراسة وكانت جديدة وقد طلب في الواحدة المزدوجة المقاعد ثلاثة عشر قرشًا وهو نفس الثمن الذي اشتراها به مع أنه كان يستطيع أن يبيعها في ذلك الوقت بأكثر من ثلاثين قرشًا ، ولو أننا اضطررنا إلي صنعها لتكلفت أكثر من ضعف ذلك .

بدء الدراسة :

بدأت الدراسة في موعدها والمدرسة مستوفية جميع مالا تستوفيه مدرسة إلا بعد مضي أربع سنوات علي إنشائها أو أكثر إذا كانت الظروف مواتية ، وكادت مدرسة الأقباط تتوقف لولا ما تبقي بها من أولاد الأقباط وقليلا ما هم ، وأحس المستكبرين الغادرون بفشلهم وخطأ تقديراتهم فبعثوا إلي الأستاذ الشيخ حسن سيد يطلبون الصلح معه لكن الرجل رفض أن يضع يده في يد غادرين . وقمنا نحن الثلاثة بالتدريس طول اليوم ومعنا الناظر وابنه وأخ كريم حصل علي دبلوم الفنون التطبيقية في ذلك العام هو الأخ الأستاذ حسن عبد الله القباني قام بتدريس مادة الرسم ، فكان كل منا يدرس جميع حصص اليوم متصلة ، وقد يدرس لفصلين في آن واحد .. وقد انتهكتنا هذه الفترة التي دخلناها ونحن في أشد حالات الإرهاق من أثر الزيارات المتلاحقة للبلاد .... وكان الإخوان في خلال ذلك سواء في القاهرة وفي مغاغة يجدون في البحث عن مدرسين للتعاقد معهم حتى وفقوا إلي ثلاثة منهم حلوا محلنا بعد شهر من بدء الدراسة ، وقد أدركونا ونحن في الرمق الأخير .

تقييم هذه التجربة

كان هذا العمل الذي انتدب الإخوان أنفسهم للقيام به في مغاغة ، والذي حتمت الظروف النهوض بأعبائه ، كان امتحانًا قاسيًا ورائعًا لهذه الدعوة التي تعد في عمر الدعوات دعوة ناشئة ، وقد كشف هذا الامتحان عن طبائع هذه الدعوة بأسلوب جلي وقد تتضح منه القسمات التالية :

أولا : أثبتت الدعوة للإخوان أنفسهم أنها دعوة إيجابية فعالة ، كما أثبتت ذلك لغير الإخوان ممن شهدوا مسرح الأحداث ، وبينت للجميع أنها دعوة لا تقف عند حد الأقوال والدعاية الكلامية والإقناع العقلي بالأسلوب المنطقي بل إنها تفعل ما تقول وقد تفعل كثر مما تقول .

ثانيا : أثبتت أن العنصر البشري إذا ما تربي التربية الإسلامية السليمة الكاملة النابعة من الكتاب الكريم يستطيع أن يأتي بما يشبه المعجزات ، وأنه لا تعوقه العوائق المادية مهما عظمت .

ثالثاً : أن القيادة القادرة التي تولت الشباب الغض وأنشأته علي أقوم الأسس وأعطته من ذات نفسها هي التي تعرف مقدار ما يكمن في هذا الشباب من طاقة خارقة للعادة ، وهي التي تعرف كيف توجه هذه الطاقة ومن توجهها لإنجاز أعمال يحكم العقل والقدرة المادية والمنطق باستحالة إنجازها .. ومن دستور هذه القيادة المأثور قولها : إذا صح العزم وضح السبيل .

رابعًا : فسرت معني الأخوة الإسلامية " المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه " وأنها إنما تقوم علي أسس من التضحية والإيثار لا علي الأثرة والاستغلال ، فهذا المجهود الذي بذل في إنشاء هذه المدرسة في الظرف المعين الذي كان يجب أن ننشأ فيه ، لا يمكن تقديره بمال مهما كثر ، ومع ذلك وبغير من ولا أذي حين اكتمل المشروع الاكتمال سلم إلي الأخ الذي هببنا لنجدته يتصرف فيه كما يشاء حيث قال الأستاذ المرشد حين بلغه نبأ الغدر به " إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها " .

خامسًا : أثبتت الدعوة أنها مع قدرتها دعوة سلام وعفة ، فقد كان في تصور من دبروا جريمة الغدر من قادة جمعية الأقباط ، كما كان في تصور الناس جميعًا في مغاغة أن رد الإخوان علي هذه الجريمة النكراء سيكون الاعتداء علي هذه الجمعية باليد واللسان ، ولكن المفاجأة كانت في أن شيئًا من هذا لم يحدث ، وإنما كان الرد هو ما تحدثنا عنه دون مس أي من هؤلاء كانت بكلمة نابية أو لفظ جارح ، ذلك أن الدعوة الإسلامية أبعد الدعوات عن فحش القول وعن الاعتداء ، لكنها تهب هبة المذعور لحماية من اعتدي عليه من أبنائها ولا تدخر وسعًا في حمايته وحياطته ..

إلي مشروع الألبان

بعد أن تم إنشاء المدرسة وبعد أن تسلم المدرسون المتعاقد معهم أماكنهم في المدرسة اتجهنا إلي مشروعنا الأصلي الذي اعترض طريقه هذا المشروع المدرسي الطارئ ، وكان من توفيق الله أننا فرغنا من مشروع المدرسة في الوقت المناسب لمشروع الألبان ، وتذاكرت وشريكي الأستاذ شلبي المشروع وكان معمله مجهزًا أحسن تجهيز وكتبنا عقد الشركة وعرضناه علي الأستاذ المرشد – لأنه كان حريصًا علي الاطلاع عليه – ووقعناه – وفهمت من شريكي أن سبب فشله في المشروع هو عدم تصريف منتجاته فتكفلت أنا بذلك بعد أن استوثقت من إخوان القاهرة التجار استعدادهم لشراء كل ما ينتجه المعمل ، واستمرت الشركة موسم لبن كاملا كنت خلاله كثير التردد علي القاهرة ثم رأيت إنهاءها .

وقد يكون مفيدًا للقارئ أن أسرد علي مسامعه تفاصيل هذا المشروع ولكن إيجازًا للقول أكتفي بوضع خلاصة له بين يديه ولا أكون بذلك قد خرجت علي الموضوع فتاريخ الدعوة هو تاريخ القائمين بها والعاملين لها والذين كرموا حياتهم للنهوض بها ، فلم يكن تحركي لهذا المشروع إلا بوحي من هذه الدعوة ، وما كان اهتمام الأستاذ المرشد به إلا لكونه يري أن مثل هذه المشاريع دعائم للدعوة ، وهاك الخلاصة :

1 – لم يكن يعوذنا المال فالمال كان متوفرًا ولم يكن يعوزنا تصريف الإنتاج فقد كان المطلوب منا أكثر من ضعف إنتاجنا .

2 – لم يكن يعوزنا الإخلاص فشريكي كان من المثل العليا التي يندر وجودها وممن يخشون الله ويتقونه ، وسأذكر واقعة واحد تنبئك عن مدي عمق إيمانه بالله ، فقد كان يملك قطعة أرض واسعة في وسط مغاغة فجاءه رجل أجنبي من خارج مغاغة وعرض عليه ثمنًا مشرفًا لهذه القطعة يبلغ ضعف ما يستحق لينشئ عليها دار للسينما وإذا لم يرغب في بيعها فليدخل معه شريكاً في هذه السينما – وكانت السينما في ذلك الوقت أربح مشروع – فطلب منه مهلة وسألني رأيي في هذا العرض فأجبته بأن السينما ما هي إلا أداة لعرض ما يراد عرضه فيها ولكن الأفلام التي تعرض هي عادة أفلام تدعو إلي الرذيلة .. فرفض عرض الأجنبي علي ما فيه من إغراء خشية أن يكون فيه ما يغضب الله .

3 – لم نبع صفقة إلا بربح ومع ذلك خسرنا خسارة كبيرة نتيجة قلة اللبن الوارد إلي المعمل ، والمصاريف اليومية والشهرية التي كان لابد من صرفها علي المعمل كانت تكفي لتصنيع عشر أضعاف كمية اللبن التي كانت ترد لنا ، ومن هنا نشأت الخسارة .

4 – سبب قلة الوارد إلي المعمل ترجع إلي إيثار شريكي عدم المجازفة بدفع أثمان اللبن لأصحاب المواشي قبل توريده إلينا في حين أن تجار " السمن " في القاهرة كانوا يدفعون لأصحاب المواشي في مغاغة مبالغ كبيرة قبل بدء موسم البن .. وقد اختلفت وجهة نظرنا في هذا الموضوع فكنت أري أننا أولي بالاطمئنان علي مالنا إذا دفعناه إلي هؤلاء الفلاحين من أولئك الذين يعيشون في القاهرة ويدفعون لهم الأموال . ولكن شريكي – لظروف شرحها لي قابلته في تربيته وهو طفل – جعلت عنده في كل تصرفاته فرط حرص .

وكما أن قيامي بهذا المشروع كان بمشورة من الأستاذ المرشد ، فقد كان إنهائي له وفض الشركة بمشورة منه أيضًا ... علي أن الذي أحب أن ألفت النظر إليه أن فض الشركة بيني وبين الأخ الأستاذ شلبي لم يكن له أي أثر علي ما بيننا من علاقة أخويا وسوف يأتي إن شاء الله في سياق هذه المذكرات ما يوضح ذلك .

رأي عظيم لرجل عظيم

قدمت من خلال الحديث من مشروع الألبان أنني كنت في خلال فترة قيامي بهذا المشروع أتردد علي القاهرة ففي إحدى مرات ترددي وكان مساء يوم خميس وجدتهم في المركز العام يوزعون الدعاة يوم الجمعة علي عدة مساجد ، فلما رأوني بينهم أدخلوني في التوزيع فكان من نصيبي ومعي الأخ صالح عشماوي مسجد أحمد زكي باشا بالجيزة .

وذهبت وزميلي إلي المسجد قبيل صلاة الجمعة ، ولما أذن للصلاة صعدت المنبر وخطبت الناس وأنا أتفحص وجوههم ، فلاحظت من بينهم وجهًا مشرقاً لشيخ معمم ذي لحية بيضاء وقور يرمقني وكأنه هو الذي يتفحصني ، فشغلني أمر الرجل حتى أنهيت الخطبة وصليت بالناس ، ثم قدم الناس يصافحونني وأنا أبحث عن الرجل فلم أجده بين من صافحوني .. فلما انفض الجميع وقلبي منشغل بالرجل تبين لي أنه باق في مجلسه . فلما رأي الناس قدًا تكشفوا عني رأيته قادمًا نحوي فتقدمت نحوه ، ومد يده إلي فشددت علي يده ثم صافح وميلي ثم خرجنا ثلاثتنا من المسجد وسرنًا معًا وقد طلب حين خرجنا من المسجد أن نشرب عنده القهوة فقبلت علي التو شوقاً إلي معرفة الرجل ، حتى إذا كنا أمام " فلة " جميلة قال تفضلوا ، ولمحت علي باب " الفلة " الخارجي لافته عليها اسم صاحبها فظننت رجلنا ساكنًا بها . فلما دخلنا وأخذنا مجالسنا قال الرجل : نريد أن نتعارف ، وقدم لي بطاقته ، فإذا عليها نفس الاسم المكتوب علي لافتة " الفلة " وهو " منصور مهران " الأستاذ بدار العلوم سابقًا ، فبدأت أعرف قدر الرجل ، وإن كنت ازددت له احترامًا فقد كنت أوليه لوقاره احترامًا يتواءم وهذا الوقار .. ثم التفت إلي فقلت : أنا فلان بكالوريوس زراعة وصاحب معمل ألبان في مغاغة ، وزميلي صالح مصطفي عشماوي بكالوريوس تجارة ومحاسب .

قال الشيخ : كم تعطيكم جمعية الإخوان المسلمين التي تنتسبون إليها في كل مرة تقومون بنشر دعايتها وإذا كانت تحاسبكم بالشهر فكم تعطيكم شهريًا .

قلت له : إن الجمعية لا تعطينا شيئًا لنشر دعوتها لا بالمرة ولا بالشهر .

قال : إذن من الذي يتكفل الدعاة بمقابل أتعابهم ومصاريف انتقالهم ؟ .

قلت : ليس عندنا مقابل أتعاب ، وكل منا يتكفل بمصاريف انتقاله .

قال : أنتما فقط أم هذا حال جميع الدعاة ؟ .

قلت : هذا حال جميع الدعاة .

قال : أليس للجمعية دعاة بمرتبات تدفعها لهم ؟ .

قلت : كل الدعاة مثلنا متطوعون . بل إن هؤلاء الدعاة يقدمون للجمعية من جيوبهم .

قال : كم يدفع العضو في الشهر ؟ .

قلت : الاشتراك في جمعيتنا ليس محددًا فمن الأعضاء من لا مقدرة عنده فلا يدفع شيئًا ، ومنهم من يدفع خمسة قروش ومنهم من يدفع عشرة قروش وهكذا ومنهم من يدفع جنيها أو أكثر حسب قدرته ولا فرق بين الجميع .

قال : ومن هو رئيس الجمعية ؟ .

قلت : ليس للجمعية رئيس وإنما لها مرشد هو الأستاذ حسن البنا وهو متخرج في دار العلوم وكان أول دفعته وهو مدرس بمدرسة عباس الابتدائية بالسبتية .

قال : وهل حددت الجمعية له مرتبًا من ماليتها ؟ .

قلت : لا .. وإنما هو يقسم مرتبه الذي يأخذه من وزارة المعارف بينه وبين أولاده وبين الجمعية ، وهو يقوم بنشر الدعوة في الأقاليم ويسافر كل أسبوع مرة أو أكثر علي حسابه الخاص .

قال الرجل .. اسمعوا يا أولادي .. إن هذا اليوم أسعد أيام حياتي ..إنني أؤمن بأن هذا الدين لا ينبض به إلا دعاة يبذلون له ولا يرتزقون منه .. ثم قال : نحن الأزهريين عيال في دراستنا علي كتب الرجال الأمجاد الشيخ الصباغ والشيخ النجار والشيخ الحداد وهؤلاء العلماء لم يسموا بهذه الأسماء إلا لأنها صناعاتهم . فالشيخ الصباغ كانت مهنته التي يرتزق منها هي صباغة الأقمشة ، والشيخ النجار كانت مهنته النجارة وهكذا كان لكل مهنته التي يكتسب عيشه منها ثم في وقت فراغه يضع هذه المؤلفات الإسلامية التي نحن مدينون بمعارفنا لها تقربًا إلي الله .

يا أولادي ... اليوم أموت وأنا مرتاح الضمير لأن الفئة التي كانت تنقص المجتمع الإسلامي قد وجدت ، ونهضة الإسلام كانت مرهونة بوجودهم . وهنا وقفت وزميلي مستأذنين وشاكرين الشيخ حسن ضيافته ودعوته لزيارة المركز العام فاعتذر بأنه قد لا يستطيع لضعفه لكنه حملنا التحية للأستاذ المرشد . ولما رجعنا وقابلت الأستاذ المرشد أبلغته تحية الشيخ وأطلعته علي بطاقته فقال لي إنه كان أستاذه ، ولما حدثته بحديثه استمع إليه باهتمام وقال : إن أمثال هذا الرجل بمثل هذا الفهم قليل في عالمنا اليوم .

الشاي في الصعيـد

كنت منذ صغري من محبي الشاي ومن المقبلين علي احتسائه كل صباح في المنزل ، فلما شبيت وكنت في السنة الرابعة الثانوية ونظرت إلي هذا الشراب فوجدته له جنايتين علينا نحن المصريين ، إحداهما إنه صادر عادة لنا أو بالتعبير المألوف " كيفاً " سيطر علي أعصابنا بحيث لم تعد تستطيع الاستغناء عنه ، فكأنما استعبدنا فصار لنا سيدًا وصرنا له عبيدًا والأخرى أنه مع ذلك بضاعة أجنبية ، واقتنعت بوجوب مقاطعته .

ولما كنت في مغاغة لاحظت أن أهل الصعيد أشد انغماسًا في هذا " الكيف " منا نحن أهل الوجه البحري ، فالعمال مثلا ينفقون أكثر مما يكتسبون علي الشاي .. وقد لمست خطورة هذا الشراب عن قرب حين كان ساكنا معي الأخ الأستاذ حسن عبد الله القباني وهو من أهل قوص إحدى حواضر قنا وهو مدرس الرسم بالمدرسة كما ذكرت قبلا .. فرأيته يهيئ لنفسه الشاي كل صباح بطريقة يكثر فيها من الشاي الجاف ويظل يغليه في الماء حتى يصل إلي قوام يشبه قوام الزيت ، وحتى إن طعم السكر لا يظهر فيه مهما أكثرت منه عليه ، و يخشي منه قبل أن يذهب إلي المدرسة ثلاثة أكواب صغيرة ثم يذهب للمدرسة ويبدأ عمله في الساعة الثامنة حتى إذا وصلت الساعة العاشرة حيث استراحة التلاميذ ظهرًا فيتغذي ويهيئ الشاي لنفسه بطريقة الصباح ، ثم يذهب إلي المدرسة لفترة ما بعد الظهر حيث تنتهي الدراسة الساعة الثالثة فيجد الفراش بالكوب في انتظاره ثم يشرب الشاي بعد العشاء بمثل طريقة الصباح ،وقد يشرب مرة بين الساعة الثالثة والعشاء .

إنه هو الذي ذكر لي هذا النظام الذي يلتزمه والذي إذا افتقد مرة من مراته عجز عن أداء عمله حتى يسعف بالشاي . ولقد أخبرني أن الشاي في حياتهم هو كل شيء حتى إن أطفالهم يفطمون علي الشاي وأنه هو شخصيًا فطم علي الشاي . ولما كانت القدوة هي أقوي وسائل التأثير فقد سهل علي إقناع الأخ الكريم بضرر الشاي وخطورته وعاونته في أتباع خطة انتهت إلي مقاطعة الشاي والاستعاضة عنه بمشروبات وطنية أخري كالكركديه والينسون والنعناع ، فأدي ذلك إلي تحرره من هذه العادة المسيطرة كما أدي إلي تحسن كبير في صحته . وبهذه المناسبة أذكر أنه لما جاء موعد إجازة نصف السنة وسافر الأخ حسن إلي بلدته قوص ليقضي الإجازة فيها فلما عاد من الإجازة قال لي سأروي لك شيئًا طريفاً وقع لي في هذه الإجازة .. قال : لما وصل بي القطار إلي محطة قوص ، وكان أهلي علي علم بموعد وصولي نظرت من القطار فوجدتهم في انتظاري علي رصيف المحطة ، فنزلت من القطار ومعي حقيبتي فلم يتقدم نحوي أحد منهم ليحمل عني حقيبتي كالمعتاد ، كما لم يتحرك أحد منهم كأنهم لم يروني ، فتقدمت نحوهم حتى التصق بهم ولم يمد أحد منهم يد لمصافحتي فعجبت وقلت لهم مالي أراكم هذه المرة تتجاهلوني ماذا حدث ؟ قالوا من أنت ؟ قلت أنا حسن عبد الله فبدا عليهم الدهشة وقالوا أنت حسن ؟ إذن أنت تغيرت كل التغير ، لقد كنت نحيفًا أسمر الوجه ونراك الآن ممتلئ الجسم أبيض الوجه ماذا حدث ؟ فتذكرن أن شيئًا لم يحدث لي إلا لمقاطعتي للشاي التي أدت إلي فتح شهيتي للطعام فقلت لهم فتعجبوا .

وقد يكون الإسراف في الشاي فعلا من أسباب ضعف الجسم فلازلت أذكر كلمة للأخ الدكتور محمد أحمد سليمان قالها في أثناء محاضرة كان قد ألقاها علينا في المركز العام حيث قال : إن الشاي يحتوي علي حمض العفصيك " التنيك " الذي يستخدم في دبغ الجلود ، وقال إن الهضم في المعدة يتم عن طريق أهداب قطيفية تبطن المعدة من داخلها فإذا نزل الشاي علي هذه الأهداب القطيفية دبغها أي قضي عليها فتعجز المعدة من الهضم .

مواجهة بين المرشد العام وطه حسين

لما انتقلت الدعوة بمركزها العام إلي ميدان الحلمية الجديد ، رأي الأستاذ أحمد السكري أن ينتقل إلي القاهرة ورأي الأستاذ المرشد أن يهيئ له ذلك فألحقه بوظيفة في ديوان وزارة المعارف سكرتيرًا لمدير التعليم الزراعي . وفي ذلك الوقت عين الدكتور طه حسين المستشار الفني لوزارة المعارف ، وهو منصب لم يكن موجودًا من قبل ولكنه أنشئ للدكتور طه شخصيًا ، وكان لتعيين الدكتور طه في هذا المنصب دوي هائل في جميع الدوائر التعليمية والثقافية في مصر وفي خارج مصر ، باعتبار أن صاحب هذا المنصب هو الذي سيوجه الثقافة في مصر حيث يشاء ، وسيحتكم في تلوين ثقافة البلاد باللون الذي يروقه . وقد يكون هذا المنصب أخطر المناصب تأثيرًا في بلد ناشئ كمصر تتجاذبه تيارات متضاربة لا يدري أيها أنفع له ولا إلي أيها يتجه . ولطه حسين نزعات عرفت عنه واشتهر بها . وتوجس الكثيرون خيفة مما عسي أن يسفر عنه تعيينه في هذا المنصب الخطير .

وطه حسين أديب ضليع تلقي الأدب علي الشيخ المرصفي الذي كان إمام عصره ، ودرس في الأزهر حتى أوشك أن يحصل علي شهادة العالمية منه – وهي أعلي شهاداته – ولكنهم – لسبب ما – أسقطوه مع أنه لم يكن يعوزه العلم ولا اللغة ولا الذكاء .. فاتجه منذ ذلك الوقت – مكرها – إلي الجامعة المصرية الناشئة وحصل منها بتفوق علي الليسانس ، وأوفدته الجامعة في بعثة إلي باريس حيث حصل علي الدكتوراه وتزوج فرنسية حضرت معه إلي مصر وعين مدرسا بكلية الآداب وصار يكتب ويحاضر في الجامعة وخارجها ... واقتحم إلي ميدان السياسة وناصر حزب الوفد فاعتبر بذلك من المناوئين للسراي ... وألف مؤلفات في الأدب الجاهل والشعر الجاهلي كان لها ضجة في أنحاء البلاد ، واستطاع بذلك أن يبرز في المجتمع ، فحقق بذلك من آماله مالم يكن ليحققه لو أنه حصل علي العالمية وسلك طريقها ..

وكاد الأزهر في حملاته عليه أن يعصف به ويقضي عليه قضاء تامًا لولا أنه كان يأوي بانتسابه لحزب الوفد إلي ركن شديد .. ومع ذلك فإن الأزهر بعدائه له واستعداده للسراي استطاع في إحدى الفترات أن يفصله من الجامعة فاحتضنه الوفد وأوسع له من صحفه يحرر فيها بأسلوبه الأدبي الناقد مستغنيًا بذلك عن مرتب الجامعة .. ولكنه بعد كل هذا استطاع أن يرجع إلي الجامعة ويصير عميدًا لكلية الآداب وتبوأ علي المناصب حتى وصل إلي هذا المنصب الذي استحدث أجله تقديرًا لمكانته وإقرارًا بفضله . علي أن احتفاء حكومة في بلد كمصر – لاسيما في الزمن الذي نحن بصدده – بإنسان وإحلاله في أعلي المناصب وإضفاء الألقاب الرنانة عليه ، ليس دليلا علي فضله ولا علي جدارته ، فمثل هذه الحكومات إنما تستوحي قراراتها وتستلهم اختياراتها من إهواء شخصية أو عصبية حزبية أو توجيهات أجنبية ... ولست أقصد من هذا إلي الطعن في طه حسين أو الغض من مقدرته الأدبية أو الاستخفاف بمواهبه الفطرية ، فقد ألمحت إلي ذكائه ومكانته الأدبية ، ولكنني أحببت أن لا يولي القارئ اتجاهات الحكومات في ذلك العهد من الاهتمام والتقدير أكثر مما تستحق .

أما عن طه حسين نفسه فإنه .. مع ذكائه ونافد بصيرته – شاب طاردته أكبر جامعة دينية في بلده فتلقفته جامعات فرنسا ، وأوسعت له من وارف ظلها ، فأحس في ظلالها بترحاب لم يحط بشيء منه في بلده وتقلب في أحضان نعمة لم يذق مثلها في منشئه ، ولم تكتف فرنسا بذلك كله بل حبته أيضا قطعة من نفسها حتى يكون حيث كان ومعه روح فرنسا تسيطر علي بيته ونفسه وقلبه وعقله ، تلك هي زوجته ... ولولا أن طه حسين منطويًا علي قلب حصين – لأنه كان يحفظ القرآن منذ نشأته – لما كان مثله بعد ذلك إلا فرنسيًا مخلصًا . وضع طه حسين في هذه الأثناء كتابة " مستقبل الثقافة في مصر " ضمنه أراء فيما يجب أن تتجه إليه الثقافة في مصر ، وكان لهذا الكتاب دوي كبير في جميع الأوساط لاسيما الأوساط التعليمية والتربوية التي كان يعنيها موضوع الكتاب قبل غيرهم ، ولأن الكتاب كان دعوة صريحة إلي الاتجاه إلي الغرب بطريقة مزعجة فقد جاء في الكتاب ما يكاد يكون نصه " وأري أن نأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها حلوها ومرها " .

وقد تناولت الكتاب أقلام النقاد بين قادح ومادح ، وسالت أنهار الصحف بهذا النقد ، فالمادحون هو الذين تربوا في أحضان الحضارة الغربية فهم بها مفتنون ، والقادحون كان أكثرهم من أعداء طه حسين التقليديين ... ولا أعتقد أن كتابًا في العصر الحديث في مصر استأثر باهتمام المشتغلين بالتربية والتعليم مثلما استأثر به هذا الكتاب ، للظروف التي صدر فيها والتي أشرت إلي ظرف منها . كنت في ذلك الوقت في عملي في مغاغة ، ولم تكن وسائل المواصلات ولا وسائل الإعلام قد تقدمت في بلادنا في ذلك العهد بعد ؛ فلم يكن الراديو قد انتشر في مصر أو قد وجد ، فكانت الأحداث التي تضطرب بها العاصمة قلما يصل من أنبائها إلي غيرها من البلاد لاسيما بلاد الصعيد ولولا أن هذا الكتاب قد ظهر وقرأت عنه وأنا أتردد علي القاهرة في أوائل أيام انتقالي إلي مغاغة لكنت كأهل الصعيد خالي الذهن عنه .. وصلني خطاب من الأستاذ المرشد يخبرني فيه أنه سيحضر لزيارة إخوان " سدس الأمراء " وأنه يريد أن أكون في انتظاره علي محطة " ببا " وحدد لي اليوم وموعد وصول القطار ...." وفي الموعد المحدد كنت والأستاذ شلبي ومجموعة من الإخوان في انتظاره ، وقد صحبناه إلي سدس الأمراء – وهي قرية من أعمال مركز ببا محافظة بني سويف .. وكان يومًا كريمًا من أيام الله ..

وفي أثناء ذلك انتهز الأستاذ فرصة كنت وإياه منفردين فقال لي : أتعرف يا محمود لماذا حرصت هذه المرة علي أن تقابلني ؟ قلت : لعله خير إن شاء الله . قال : إن عندي حديثًا يجب أن تعرفه وظروفك حالت دون أن تكون معنا لتشهده . قلت متشوقاً : وما عساه أن يكون ؟ قال : لعلك طبعًا علمت بما كان من أمر كتاب الدكتور طه حسين الذي أصدره أخيرًا عن " مستقبل الثقافة في مصر " وما تناولته الصحف من نقده ، قلت نعم ... قال : لقد بلغني أن الرجل لم يكترث بكل ما كتب وأنه مصمم علي وضع آرائه في الكتاب موضع التنفيذ باعتباره " مستشار الوزارة " ولم أكن لضيق وقتي قد اطلعت علي هذا الكتاب بعد .. وقد اتصل بي بعض أصدقائنا من الغيورين وطلبوا إلي أن أنقد الكتاب .. فلما قلت لهم إنني لم أطلع عليه قالوا : إنه لم يعد هناك وقت وكان يجب أن تكون قد قرأت الكتاب فقد ظهر منذ عدة أشهر والدكتور طه حسين لم يكترث بكل ما كتب وبكل ما قيل وقد قرر وضع الكتاب موضع التنفيذ ، ولا ينبغي أن يكون هناك تغيير جذري في سياسة البلد الثقافية دون أن يقول الإخوان كلمتهم قال : ولم يكتفوا بذلك بل أخبروني أنهم حددوا موعدًا في دار الشبان وطبعوا الدعوات وكان الموعد بعد خمسة أيام . قال الأستاذ : ولم أكن أستطيع التحلل من مواعيد كنت مرتبطًا بها في خلال هذه الأيام الخمسة فلم أجد وقتًا أخصصه لقراءة هذا الكتاب إلا فترة ركوبي الترام في الصباح إلي مدرستي وفترة رجوعي منها في الترام ، قال : فقرأت الكتاب – لأنه لم يكن كبيرًا– وكنت أضع علامات بالقلم الرصاص علي فقرات معينة..ولم تمض الأيام الخمسة التي كنت قد استوعبت الكتاب كله .

قال الأستاذ : وفي الموعد المحدد ذهبت إلي دار الشبان فوجدتها – علي غير عادتها – غاصة .. والحاضرون هم رجالات العلم والأدب والتربية في مصر ، ليس من هو دون هذا المستوي .. ووقفت علي المنصة واستفتحت بحمد الله والصلاة والسلام علي رسول الله ، وبجانبي الدكتور يحيي الدرديري السكرتير العام للشبان المسلمين : ورأيت الكتاب كله منطبعًا في خاطري بعلاماتي التي كنت علمتها بالقلم الرصاص ... قال وبدأت أول ما بدأت فقلت : إنني لن أنقد هذا الكتاب بكلام من عندي وإنما سأنقد بعضه ببعضه .. وأخذت – ملتزمًا بهذا الشرط – أذكر العبارة من الكتاب وأعارضها بعبارة أخري من نفس الكتاب .. ولاحظ الدكتور الدرديري أنني في كل مرة أقول " يقول الدكتور طه حسين في الكتاب في صفحة كذا وأقرأ العبارة بنصها من خاطري ثم أقول ويناقض الدكتور طه نفسه فيقول في صفحة كذا وأقرأ العبارة بنصها أيضًا من خاطري ، فاستوقفني الدكتور الدرديري ، وطلب إلي أن أمهله حتى يحضر نسخة من الكتاب ليراجع معي النصوص والصفحات لأنه قرأ الكتاب ولم يلاحظ فيه هذا التناقض وكأنه لم يقرأ العبارات التي يسمعها الآن .

وأحضر له الكتاب ، وظل يتابعني فيجد العبارات لا تنقص حرفًا ولا تزيد حرفاً ، ويجد الصفحات كما أحددها تمامًا ، فكاد الدكتور الدرديري يجن كما ساد الحاضرين جو من الدهشة والذهول ، والكل يتجه – كلما قرأت من خاطري عبارتين متناقضتين – إلي الدكتور الدرديري كأنهم يسألونه : أحقاً هذه العبارات في الكتاب ؟ فيقول الدكتور الدرديري في كل مرة " تمامًا بالنصوص والصفحات " . قال الأستاذ وظللت علي هذه الوتيرة حتى أنهيت الكتاب كله وأنهيت المحاضرة .... فقام الجميع وفي مقدمتهم الدكتور الدرديري بين معانق ومقبل . قال الأستاذ : ولما هممت بالانصراف رجاني الدكتور الدرديري أن أنتظر برهة لأنه يريد أن يسر إلي حديثاً ، واقترب مني وأسر في أذني سرًا تعجبت له قال : لما نشرنا عن موضوع محاضرتك وموعدها اتصل بي الدكتور طه حسين وطلب إلي أن أعد له مكانًا في هذه الدار يستطيع فيه أن يسمع كل كلمة تقولها دون أن يراه أو يعلم بوجوده أحد فأعددنا له المكان وحضر المحاضرة من أولها إلي آخرها ثم خرج دون أن يراه أو يعلم به أحد .

قال لي الأستاذ المرشد : وفي اليوم التالي ، طلب الدكتور طه حسين بمكتبه بوزارة المعارف الأستاذ أحمد السكري وقال له : أحب أن ترتب لي اجتماعًا بالأستاذ حسن البنا في أي مكان بحيث لا يكون معنا أحد وبحيث لا يعلم به أحد ، وليكن هذا المكان في بيته أو بيتي أو في مكتبي هنا ، فليختر واحدًا من هذه الأمكنة . قال الأستاذ : وأبلغني الأستاذ أحمد السكري بذلك فريت أن يكون الاجتماع في مكتبه بالوزارة . قال : وبدأ الدكتور طه الاجتماع بقوله : لعلك يا أستاذ حسن لا تعلم بأني حضرت محاضرتك وبأنني كنت حريصًا علي حضورها وعلي الاستماع إلي كل كلمة تقولها لأنني أعرف من هو حسن البنا ، وأقسم لك لو أن أعظم عظيم في مصر كان في مكانك ما أعرته اهتمامًا .... قال لي الأستاذ المرشد : فشكرته ثم سألته عن رأيه في المواضع التي وجهت النقد إليها في الكتاب وهل لديه من رد عليها ؟ .

قال الدكتور طه : ليس لي رد علي شيء منها ، وهذا نوع من النقد لا يستطيعه غيرك ، وهذا هو ما عناني مشقة الاستماع إليك ،ولقد كنت استمع إلي نقدك لي وأطرب ... وأقسم يا أستاذ حسن لو كان أعدائي شرفاء مثلك لطأطأت رأسي لهم ، لكن أعدائي أخساء لا يتقيدون بمبدأ ولا بشرف ، إن أعدائي هو الأزهريون ، وقد ظنوا أنهم يستطيعون أن يمحوا أسمي من التاريخ ، وقد كرست حياتي لإحباط مكايدهم ، وهاأنذا بحمد الله في الموضع الذي وتتقطع أعناقهم دونه ... ليت أعدائي مثل حسن البنا إذن لمددت لهم يدي من أول يوم . ثم قال الدكتور طه : هل هناك سوي ذلك مما قد تختلف عليه مما تعرفه عنه ؟ .

قلت : هناك قضية العلم والدين ، إنكم تنادون بأن يكون الدين في خدمة العلم ،و هو الرأي الذي تقوم عليه الحضارة الحديثة في الغرب ... وهذا الرأي خاطئ لأن معناه أنه إذا اصطدم الدين مع العلم في أمر من الأمور نبذ الدين واتخذ العلم دينًا . يجب الفصل بين العلم والدين ، لأن الدين حقائق ثابتة والعلم نظريات متطورة ، فإذا ألبسنا العلم ثوب الدين جمدنا العلم ، إذا نحن أخضعنا الدين للعلم ، فلسفنا الدين فأخرجناه بذلك من طبيعته ولم يعد دينًا .

قال الأستاذ : ثم تناقشنا في مواضيع مختلفة تدور حول طبيعة الفكرة الإسلامية ، ومدي إحاطتها بكل نواحي المجتمع فكان آخر حديث لي بعد أن تحدثنا أكثر من ساعتين أن قلت له : لو أن أصحاب الآراء حين يختلفون حول أمر من الأمور لم يعتقد كل منهم أن رأيه هو الصواب كله وأن آراء غيره هي الخطأ كله بل أضاف إلي اعتقاده في صحة رأيه اعتقادًا بأنه قد يكون في آراء الآخرين نوع من الصواب وإن لم يبن له ، .. لما اشتد الخلاف ووصل إلي خصومة تطمس في ظلماتها معالم الحقيقة . وينقلب النقاش من كونه وسيلة للبحث عن الحقيقة إلي محاولة للانتصار للرأي والمجادلة بالباطل قال الأستاذ وقلت له : إن خير مثل يوضح ذلك ما ذكره الإمام الغزالي من أن أربعة من العميان وقفوا فيل فلمس أحدهم أقرب ما يقابله منه فكان الخرطوم فقال إن الفيل ما هو إلا خرطوم طويل رفيع ، ولمس الثاني أذن الفيل فقال : لا إن الفيل هو صفحة جلدية واسعة ، ولمس الثالث رجل الفيل فقال : لا ... بل هو عمود مستدير ، ولمس الأخير جسم الفيل فقال لا : بل هو حائط عريض أملس ... قال الأستاذ : فلو أن هؤلاء الأربعة لم يتعصب كل منهم لرأيه وتركوا فرصة للتفاهم فيما بينهم .. ولا يمكن تفاهم إلا إذا أفترض كل منهم أن يكون في رأي غيره بعض من الحقيقة – لامتدت يد كل منهم إلي مواضع أيدي زملائه فيلمس ما لمسوا فتتكون عند كل منهم صورة كاملة عن الفيل .

هذا ... وبعد أن رويت عن الأستاذ المرشد ما رويت في هذه الواقعة ، يجدر بي أن أقرر – تحريًا للصدق – وصونًا لأمانة النقل – أني أسجل ما دار في هذه اللقاءات بعد ستة وثلاثين عامًا من سماعي إياها فقد أكون أنسيت بعضًا منها – وقد أنسيت بغير شك الكثير – وقد لا يكون تعبير عن البعض الباقي في الذاكرة منها دقيقًا تمام الدقة .. لكنني كنت حريصًا علي تسجيل الخطوط العريضة منها ، وتسجيل أن من آثار هذا اللقاء أن عدل الدكتور طه حسين عن آرائه التي سجلها في كتابه هذا وفي كتبه ومقالاته التي سبقته وكان في بقية حياته خط آخر استحق به أن يكون عميد الأدب العربي .

عودة إلي البناء الداخلي للدعوة

بعد هذا الاستطراد الذي تناولنا فيه تجربة مغاغة والمواجهة بين الأستاذ المرشد وطه حسين ، نرجع إلي ما خصصنا له هذا الفصل مما يتصل بالبناء الداخلي للدعوة فنقول : سافرت إلي القاهرة ناوياً الإقامة فيها فرأي الأستاذ المرشد أن يسند إلي بعض مهام الدعوة حيث كنت في تلك الأثناء متفرغًا فكلفني بالإشراف مع الصحافة والطلبة .

1 – صحافة الدعوة

مجلة التعارف

بعد أن فقد الإخوان مجلة النذير في أعقاب الفتنة الأولي لم يعد للإخوان مجلة يملكون امتيازها فلجئوا إلي استئجار مجلات كان أصحابها قد حصلوا علي الترخيص بها لإصدارها لحسابهم – لأنهم يعجزون عن ذلك – وإنما فعلوا ذلك حتى تستأجرها منهم هيئة من الهيئات .. وقد ظل المركز العام منذ انتقاله إلي الحلمية الجديدة يستأجر مجلات من هذا النوع عدة سنوات وكلما صودرت واحدة استأجر أخري ومن هذه المجلات النضال والمباحث والتعارف ... والمجلة التي أسند إلي الإشراف عليها كانت مجلة التعارف ، وكان إشرافي عليها في الفترة التي سقطت فيها فرنسا في يد الألمان ، وكان لسقوطها دوي هائل في أنحاء العالم لم تستطيع الثبات أمام هجمات الألمان حتى ركعت علي ركبتيها واستسلمت وتألفت فيها حكومة جديدة علي رأسها الماريشال بتيان وكان من أشهر القواد الفرنسيين ، وقد صرح تصريحًا مشهورًا سجله التاريخ أقر فيه بأن هذه الهزيمة المنكرة إنما تعزي إلي الانهيار الخلقي الذي انحدر إليه الشعب الفرنسي .

وكان هذا التصريح مثار تعليقات في الصحافة العالمية لأمد طويل لأن سقوط فرنسا بهذه السرعة كان مفاجأة أذهلت العالم كله .. وكان أشد الناس اهتمامًا بتصريح الماريشال بيتان أولئك الذين ظلوا سنين طويلة من قبل يحذرون شعوبهم وحكوماتهم من سوء العاقبة إذا لم يتمسكوا بأهداب الدين والخلق .. وكان الإخوان المسلمون في مصر علي رأس هذا الصنف من الناس وكانت مجلتهم هي المرآة التي تعكس مدي اهتمامهم بهذا التصريح فظلت تكتب أمدًا طويلا المقالات الضافية تعليقًا علي سقوط فرنسا وأسباب هذا السقوط التي اعترف بها ماريشال فرنسا . وكانت هناك سلسلة متصلة من المقالات في هذا الموضوع دبجها يراع طالب بكلية أصول الدين كانت قطعًا أدبية بالغة الروعة ، فلما وصلتني المقالة الأولي منه أخذت بروعتها ولكنني حين رتبت وضع المقالات في المجلة جعلتها في الصفحات الداخلية باعتبار أنها علي كل حال من كتابة طالب ولكنني حين عرضت علي الأستاذ المرشد الترتيب الذي هيأته للنشر توقف عند هذه المقالة وقال لي : ألم تأخذ بلبك هذه المقالة ؟ قلت : بلي . قال : ولم لم تجعلها المقال الافتتاحي إذن : ألأنه طالب ؟ قلت : هذا فعلا هو السبب . قال : أري أن تجعلها المقال الافتتاحي وأن تجعل كل مقالاته دائمًا المقالات الافتتاحية لأنني أشم في كتابته أدب الرافعي رحمه الله . وقال لي : إنه الرافعي الصغير ، وكان هذا الطالب الذي أطلق عليه الأستاذ المرشد لقب " الرافعي الصغير " هو إسماعيل حمدي الطالب إذ ذاك بكلية أصول الدين ، وكنا إذ ذاك في الإجازة الصيفية فكان يرسل إلي مقالاته تبعً من بلدته " إمري " .

وبهذه المناسبة أذكر أن الأستاذ المرشد كان يضع أدب الرافعي في أعلي مراتب الأدب في عصره وينظر إلي الرافعي باعتباره رائد الأدب الإسلامي ، وناهيك بمن يحله الأستاذ المرشد هذا المحل ، فالأستاذ المرشد كان هو الرجل الذي لو شاء أن يتخصص للكتابة الأدبية لملك ناصيتها ولكان قمة الأدب ولما لحق به كل من تسنموا هذه القمة ... فكان رحمه الله – وهو صاحب الدعوة الإسلامية في هذا العصر ... يري الرافعي رحمه الله في مقام حسان بن ثابت في عصر النبوة ... وكان – كما ألمحت من قبل – يحفظ الكثير من شعر الرافعي مع أنه أكثر الناس – وكنت منهم – لا يعرفون أن الرافعي كان شاعرًا ناثرًا ولا يعرفون أن له ديوانًا مطبوعًا ، وأنا شخصيًا لم أر هذا الديوان إلا عند الأستاذ المرشد ، ولا شك في أن القوي الخفية المعادية للفكرة الإسلامية كانت من وراء حجب ما أمكنها حجبة من أدب الرافعي عن الجمهور لأنه كان أدبًا نفاذًا إلي القلوب صادرًا من قلب يضطرم باسمي العواطف الإسلامية ، وحسبك أن تستمع إلي نشيده الوطني الذي اخترق بأعجوبة هذه الحجب المصطنعة فردده الشعب في أثناء صحوة من صحواته الوطنية والذي فاصلته :

لك يا مصـر السـلامة

وسـلامًـا يا بـلادي

إن رمي الدهـر سهامًا

اتقيـهـا بفـــؤادي

واسلمي في كل حيـن

ومن أبياته التي كان الأستاذ المرشد يتمثل بها قوله :

لو كل مزمار لهو عنـدنا خنث

لنــابه مدفـع عنـانه بشـع

إذن لكانت لنا بين الورى لغـة

متى تقل قولها في العالم استمعوا

وكان الأستاذ المرشد حريصًا علي تربية خليفة يخلف الرافعي في أدبه لأن الدعوة الإسلامية لا تستغني عن قلم يدافع عنها في عالم الأدب ويرفع رايتها بين الرايات فيه ، وكان يرشح اثنين لهذه الخلافة : إسماعيل حمدي ، وعبد المنعم خلاف ؛ وكان يعمل دائمًا علي إفساح الطريق لهما بكل ما يستطيع من وسائل ولكن يبدو أن النكبات التي توالت علي الدعوة لم تدع لهما فرصة . وكان من الكتاب الذين يوصيني الأستاذ بالعناية بهم وإفساح المجال لمقالاتهم " محمد الغزالي " الذي كان إذ ذاك طالبا بكلية أصول الدين أيضا فقد كان الأستاذ المرشد يبدي إعجابه بقلمه وبأسلوبه

مجلة المنار

مجلة المنار هي المجلة التي كان يصدرها ويحررها الأستاذ الشيخ محمد رشيد رحمه الله ، وكان قوامها ما ينشره في صدرها من تفسير القرآن الكريم للشيخ محمد عبده ، حيث كان الشيخ محمد عبده يلقي درسًا في جامع الأزهر في تفسير القرآن تحضره مجموعة من صفوة العلماء ورواد الفكر والأدب والوطنية وكان له في مقدمتهم زميله وأقرب تلامذته إلي نفسه الشيخ محمد رشيد رضا .. وكان الشيخ محمد رشيد رضا حريصًا علي كتابة ما يلقيه أستاذه في الدرس وينشره في هذه المجلة تباعًا . ولما كان الشيخ محمد عبده علي رأس رواد الفكرة الإسلامية في هذا العهد وصاحب نظرية إصلاحية أبرزت الفكرة بصورة شاملو لم يكن للناس ، ولا لعلماء الأزهر بها عهد ، فقد كان تفسيره للقرآن طرازًا جديدًا من التفسير تهافت الناس علي قراءته في أنحاء مصر وفي أنحاء العالم العربي والإسلامي وكاتب الوسيلة الوحيدة إلي ذلك هي اقتناء مجلة المنار ... وبذلك حظيت هذه المجلة من الذيوع والانتشار مع التوفير والاحترام بما لم تحظ به مجلة أخري في العالم العربي والإسلامي لاسيما في أوساط العلماء والأدباء والمثقفين .

ولما اختار الله الشيخ محمد عبده إلي جواره واصل الشيخ محمد رشيد رضا إصدار المنار مقتضيا أثر أستاذه في التفسير بنفس الأسلوب وبنفس المستوي حيث كان الشيخ رشيد في درجة من العلم والإدراك والإحاطة لا تقل عن درجة أستاذه فيها ... ولذا فقد ظلت المنار بعد وفاة الشيخ محمد عبده في مكانها الرفيع من نفوس العالم العربي والعالم الإسلامي . علي أن المنار لم تكن قاصرة علي مقال التفسير – وإن كان مقال التفسير يشغل أكثر صفحاتها – بل كانت تحفل بمقالات وبحوث وفتاوى كان أكثرها بقلم الشيخ رشيد ، وإن كانت لا تخلو من مقالات قليلة لبعض كبار الكتاب الإسلاميين حيث لا يجرؤ أكثر الكتاب علي التقدم إليها بمقالاتهم ....

وظلت " المنار " ف مكانها الرفيع حتى اختار الله الشيخ رشيد إلي جواره وكان قد وصل في التفسير إلي سورة هود ، فأخذت أسرة الشيخ رشيد في البحث عن أكبر عالم في العالم العربي ليخلف الشيخ رشيد في المنار حتى وفقوا إلي طلبتهم فأسندوا تحريرها إلي عالم جليل من سوريا لا أذكر اسمه الآن فحاول متابعة التفسير علي مستوي الشيخ رشيد فأتم تفسير سورة يوسف وهنا فوجئ الأستاذ بأسرة الشيخ رشيد تطلب إليه أن يقوم بأعباء " المنار " . ولم يكن الأستاذ المرشد غريبًا علي أسرة الشيخ رشيد فلقد كان علي صلة وثيقة بالشيخ منذ كان طالبًا بدار العلوم وكانت دار مجلة " المنار " ملتقاه بأكثر من التقي بهم من رجالات الحركة الإسلامية في ذلك العهد واتخذت أكثر القرارات في مواجهة المؤامرات ضد الإسلام في هذه الدار ، وظل الأستاذ علي اتصال بالشيخ بعد قياد دعوة الإخوان وكان يستشيره في كثير من الأمور . تردد الأستاذ المرشد أمام طلب أسرة الشيخ مع علمه بأن إسناد تحرير " المنار " إليه شرف لا يعادله شرف واعتراف له بالزعامة العلمية والأصالة الإسلامية ، ولكن تردده بل رفضه الذي صرح به لأسرة الشيخ كان لسببين يكتمهما عن الأسرة هما :

أولاً : أن إسناد تحرير " المنار " إليه سيقتطع من وقته جزءًا كبيرًا لأنه سيضطر – أخذا بطريقة الشيخ ومتابعة لخطته ومحافظة علي مستوي المجلة – إلي تحريرها كلها بنفسه ، ولما كانت الدعوة لا تتيح له هذا الوقت فإنه يخشي أن تطغي واحدة منهما علي حق الأخرى .. وفي حين أن الدعوة لا تستغني عنه فقد يجدون هم في العالم الإسلامي من يقوم بأعباء " المنار " .

ثانيًا : أنه حرصًا علي استمرار صدور " المنار " باعتباره أحد المعالم الإسلامية يري أن لا يصدرها هو ، حتى تكون في مأمن من المكايد التي يدبرها أعداء الإسلام للدعوة ومنها مصادرة صحفها وسحب تراخيصها ، وقال لهم : إنني مع حرصي في هذا الطور من أطوار الدعوة علي تجنب الاصطدام بالسلطات فإنهم ألغوا لنا عدة مجلات كنا نستأجرها ونصدرها ... وقال لهم : إن أعداء الدعوة من الخسة والنذالة بحيث لا يتورعون عن إلغاء " المنار " نكاية فينا لأنهم لا وازع لهم من دين أو خلق أو حياء .

وأصر الأستاذ المرشد علي الرفض وأصرت الأسرة علي إلزامه حتى اضطر أخيرًا إلي النزول علي إرادتهم بعد أن بين لهم المخاطر . وأصدر الأستاذ " المنار " وصار يحرر أكثر ما فيها بقلمه وبدأ في التفسير حيث انتهي سلفه فبدأ بتفسير سورة الرعد ، فخرجت " المنار " تفسيرًا وتحريرًا في المستوي الرفيع الذي اعتاده قراؤها في العالم الإسلامي أيام الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا . وكان لإصدار الأستاذ المرشد مجلة " المنار " أصداء في الأوساط العلمية الإسلامية عبر عنها الأستاذ الشيخ محمد مصطفي المراغي شيخ الأزهر في ذلك العهد بمقال قدم به الأستاذ المرشد إلي قراء المنار أنصف به الرجل الأستاذ المرشد إنصافًا أقر له بالإمامة في العلم وفي الدعوة . وصدر من المنار بضعة أعداد ثم أصابته جائحة من الجوائح الحكومية وانقطع عن الصدور مع انقطاع المجلة الأسبوعية .

الشهاب

ثم أصدر الأستاذ " الشهاب " وهو بديل للمنار وفي نفس اتجاهه ومستواه وبعد أن صدرت منه بضعة أعداد كان مصيره مصير سابقيه .

2 – الطلبة

كانت المهمة الأساسية التي أسندت إلي وشغلت وقتي كله وجهدي كله فهي مرور دائب لا ينقطع علي المدارس والمعاهد والكليات وزيارات للعواصم ومحاضرات ومساجلات ومناقشات ومؤتمرات خاصة بالطلبة كنا نعقدها بدار جمعية الشبان المسلمين وكان الأستاذ يوليها أعظم اهتمام تصدر منها مقررات تطبع وتوزع في القاهرة والأقاليم .

==== ندوة الخميس ==== وهي أسلوب استحدثته لمخاطبة الطلبة فقد رأيت أن " حديث الثلاثاء " غير كاف للإجابة علي كل ما تختلج به نفوس الطلبة وعقولهم من أحاسيس ومشاكل وأفكار مع أن الأستاذ المرشد كان حريصًا علي أن يطرق في حديث الثلاثاء مواضيع شتى تمس جميع الفئات . وقد اقترحت علي الأستاذ المرشد أن يخصص يومًا في الأسبوع للطلبة وحدهم يتقدمون فيه بأسئلتهم ويجيب عليها : وبدأنا هذا الأسلوب عن طريق أسئلة شفهية يقوم الطالب في الندوة فيلقي سؤال ويقوم الأستاذ بالإجابة عليه . ثم تبين لي أن لدي بعض الطلبة أسئلة يحجمون من التصريح بها شفاها فطورنا الندوة إلي أسئلة تكتب وتقدم للأستاذ وهو علي المنصة فيجيب عليها ثم تبين لي بعد ذلك أن هناك أسئلة تتلجلج في نفوس الكثيرين منهم ويستحيون أن يتقدموا بها لو مكتوبة – حيث كنت أتسلمها طيلة الأسبوع ثم أقدمها للأستاذ عند عقد الندوة . فأعددنا صندوقاً ثبت علي حائط يلقي فيه كل صاحب سؤال بسؤاله مكتوبا ولصاحب السؤال أن لا يذكر اسمه .. وفي نهاية الأسبوع أفتح الصندوق وأتناول ما فيها من أوراق وأقدمها إلي الأستاذ فيقرأها ويرتبها ويجيب عليها في الندوة .

وكان لهذا الأسلوب آثار طيبة جدًا في توضيح ما كان غامضًا علي كثير من الطلبة من الحقائق والمواقف في الفكرة الإسلامية وغيرها ، كما أنه كان وسيلة ناجحة لحل مشاكل عائلية وعقد نفسية كانت مستعصية ما كان هناك من سبيل للكشف عنها ومعالجتها بغير هذا الأسلوب . وعن طريق هذا الأسلوب الذي وفقنا الله إليه تخرج من هذا الرعيل من الطلبة أفواج انتشرت في أنحاء البلاد فكانوا منار وهدي ودعاة خير لأنهم صاروا بهذا الأسلوب دعاة مستبصرين .

من آثار النظام الإداري التربوي الإخواني

تحدثت عن النظام الإداري الذي أخذت به الدعوة حين انتشرت في أنحاء البلاد واقتضي الأمران يرتبط الإخوان بنظام تتسلسل فيه القيادات ويسهل عن طريق الاتصال بين أعلي قيادة وأبعد فرد في أقرب وقت ، وتتوزع فيه المسئوليات توزعًا يفتت نظام المركزية الذي من طبيعته أن تنعدم فيه الفرص لتكوين الشخصية في التابعين ، في حين أن طبيعة الإسلام وأساسه توفير جميع العناصر التي تكون الشخصية لكل فرد من أتباعه " أن لا تزر وازرة وزر أخري . وأن ليس للإنسان إلا ما معي . وأن سعيه سوف يري . ثم يجزاه الجزاء الأوفى " .

ولا شك في أن هذا النظام الإداري قد أتي أكله ، وأثمر أينع الثمر ، فلقد كنت تحضر جلسة من جلسات أصغر وحدة من وحدات هذا النظام الإداري وهي مجلس الإدارة لشعبة فرعية ، فتحس كأنك جالس وسط برلمان يتجلي فيه النظام والديمقراطية بأجلي معانيهما ، فالمناقشات تدور في حدود جدول أعمال يقدمه نائب الشعبة فيدلي كل برأيه متوخيًات المصلحة العامة مهتديًا بأضواء الفكرة الإسلامية دون أنانية ولا تعصب ، وتتلافح الآراء ويخرجون منها بالرأي الذي ينتهون إليه سواء بإجماعهم أو بأغلبيتهم ... وتلمح في عيون الجميع الجد والاهتمام حين يدرسون مواطن الضعف في قريتهم وكيف يعالجون هذه المواطن كأن الواحد منهم يدرس أخص مصالحه الخاصة ، وبعد أن يشخصوا أنواع الضعف ويضعوا علاجًا لكل نوع يوزعون مسئوليات هذا العلاج علي أنفسهم وعلي زملائهم بالشعبة فيعرف كل منهم ما هو منوط عليه به من بذل أو عمل ... وبعد ذلك كله يتكلمون عن مسئولياتهم العامة أمام أمتهم باعتبارهم أعضاء في دعوة مهمتها إصلاح مرافق الأمة الإسلامية بالأسلوب الإسلامي الحكيم ... وحين تسمع حديثهم في هذه الناحية تنسي أنك في قرية صغيرة في أطراف البلاد وأنك بين أفراد من هذه القرية أقرب وصف لهم أنهم أميون أو أشباه أميين ... ولكن المثير حقاً هو ما لهذه الدعوة الإسلامية من صبغة يصطبغ بها المنتمون إليها فتنطلق فيهم هذه الصبغة من طاقات الفهم والإدراك وحسن التقدير وواسع الإحاطة ما يسمو بهم إلي أعلي المستويات مهما كانوا من قبل في أدناها .

وتحضرني في هذا العدد واقعة حدثت في خلال هذه الحقبة من الزمن التي تعالج وصف حال الدعوة فيها وقد حدثني صاحبها عنها في وقتها :

صاحب هذه الواقعة كان أخاً صغيرًا من إخوان شعبة فوة وكان إذ ذاك في سن دون العشرين اسمه الأخ مصطفي عناني وكان يعمل نجارًا في ورشة والده ولم تتح له الظروف أن يحصل علي أدني قسط من التعليم لكنه كان ملمًا بشيء من مبادئ القراءة والكتابة ، فلما شب وصار في السن الذي ذكرت كلفه والده بأن ينوب عنه في شراء الخشب الذي يلزمهم من الإسكندرية ، فكان إذا أعد نفسه لهذه المهمة ليس " بدله " بدلا من ملابس الشغل ، وكان سفره دائمًا في الدرجة الثالثة من القطار ... وكان طلاب جامعة الإسكندرية من أهل دمنهور وما حولها يذهبون صباح كل يوم إلي الإسكندرية بالقطار ويرجعون إلي دمنهور بعد انتهاء الدروس بقطار المساء .

قال لي الأخ مصطفي : أنهيت عملي في الإسكندرية في ذلك اليوم وذهبت إلي محطة الإسكندرية لأخذ القطار الذي يوصلني إلي دمنهور كالمعتاد حيث دمنهور هي المحطة الأولي في ذلك الوقت بين الإسكندرية وفوة – قال فوجدت القطار مزدحمًا أشد ازدحام في الدرجة الثالثة فانتقلت إلي عربة من عربات الدرجة الثانية فوجدت أحد دواوينها مكانًا شاغرًا فاقتحمت إليه وجلست فيه .. وتحرك القطار فلاحظت أن السبعة الموجودين معي في الديوان من طلبة جامعة الإسكندرية وأخذوا يتناقشون في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تشغل بال الناس في ذلك الوقت ، وظلوا يتناقشون وأنا أستمع فكنت أنا الوحيد الذي ألتزم الصمت في حين تكلم الجميع .. ويبدو أنهم لم يعتادوا أن يروا في مجتمعهم هذا من يلزم الصمت فاتجه نحوي أحدهم وسألني لِم لم تشترك معنا في الحديث وما رأيك فيما أثير من موضوعات ؟ فاعتذرت إليهم من هذا الصمت ودخلت معهم في المناقشة وأخذت أتناول كل موضوع أثاروه وأحلله وأناقشه في ضوء الدعوة فرأيت الجلسة قد تغير وضعها واتخذت وضعا آخر ، فبعد أن كان النقاش يدور بحيث يتبادلون الحديث فيأخذ كل منهم بطرف رأيتهم جميعا قد التزموا الصمت واتجهوا إلي بأسماعهم وأبصارهم ، قال وظللت في تناولي للمواضيع المثارة بالأسلوب الذي ذكرت حتى أتيت عليها جميعًا ، وحينئذ كان القطار قد قارب محطة دمنهور ، فتقدم إلي كل واحد من السبعة يريد أن يتعرف علي وسألوني في أي كلية أنت ؟ فابتسمت فقالوا لا تؤاخذنا في هذا السؤال فنحن نعرف أنك لابد أن تكون طالبا في الدراسات العليا ولكننا نحب أن نتعرف علي كليتك لأننا معجبون بمعلوماتك وثقافتك العالية وهذه فرصة نحب أن لا تفلت منا لنحرص كل يوم علي أن تكون معنا في قطار واحد وفي ديوان واحد لنستفيد منك ... قال الأخ مصطفي فابتسمت أيضًا وكان القطار قد أوشك علي دخول المحطة فقلت لهم : إني لست في جامعة الإسكندرية ولكنني في جامعة أعظم فقالوا : في جامعة القاهرة قلت : لا بل جامعة أعظم قالوا : أين هذه الجامعة ؟ قلت لهم : أنا في جامعة الإخوان المسلمين وأنا لست طالبا وإنما أنا نجار لا أكاد أحسن القراءة والكتابة ولكنني تربيت في هذه الجامعة فخرجت مني ما ترون ، ومع ذلك فما أنا إلا من أصغر طلابها ... قال الأخ مصطفي فكانت هذه الجلسة أعظم دعاية عملية للدعوة . وأن صياغتها للنفوس والعقول تأتي بما يشبه المعجزات .

وقد أوردت هذه الواقعة لأبين للقارئ بيانًا عمليًا ما نوهت عنه من المستوي الرفيع الذي صاغت الدعوة في قالبة المؤمنين بها والعاملين لها والداعين إليها ون هذا المستوي الذي تلمسه في أعلي الهيئات الإدارية في القاهرة ستجده هو نفسه في الهيئة القائمة علي الدعوة في القرية النائية ، فليس هذا المستوي الذي بهر به طلبة جامعة الإسكندرية كان خاصا بالأخ مصطفي بل هو مستوي إخوانه في الشعبة وفي مختلف الشعب " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " . وهذه الصبغة التي صاغتها الدعوة للإخوان المسلمين ليست بدعًا ، وإنما هي طبيعة هذه الدعوة ودأبها وبدنها فهي التي صاغت من الرعيل الأول عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وأسامة بن زيد وأبا ذر الغفاري والمثني بن حارثة ، وإخوانهم فلم يكن هؤلاء من العلماء الذين درسوا علوم الاجتماع بل كانوا رجالا كسائر رجال الجزيرة العربية الذين سماهم القرآن " الأميين " ( هو الذي جعل في الأميين رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين . وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " .

ثم إن هذا البرلمان الصغير في الشعبة الفرعية للقرية إذا استشكل عليه أمر ولم يستطع أن يصل فيه إلي قرار فإن بجانبه قربًا منه برلمانًا أكبر منه للشعبة الرئيسية للمركز حيث يعقد اجتماع دوري فيها يحضره مندوبو الشعب الفرعية وهي فرصة سانحة لدراسة ما استشكل علي هذه الشعب من أمور . فإذا تبقي في هذا البرلمان أمور دون حل فاجتماع المكتب الإداري كفيل بإيجاد الحلول . وفي نفس الوقت تتبادل الآراء وتناقش المسائل عن طريق آخر هو طريق الدعاة بين الفينة والفينة من المركز العام . الذين يتحسسون أحوال الشعب في جميع الأنحاء ينقلون نبضها إلي المركز العام ليعالج الأمور علي بصيرة . كما أن هذه التشكيلات المتتابعة في أنحاء البلاد علي ما يخض كلا منها من مسئوليات للدعوة في الشئون المحلية تنطلق في هذا السبيل وهي مطمئنة إلي أن لها ديدبانًا في القاهرة ساهرًا لا يغمض له جفن يرقب تطورات الأحوال في مصر وفي البلاد العربية وفي العالم الإسلامي وفي العالم كله ليسلك بالدعوة السبيل الأقوم إزاء هذه التطورات ، فهو يرقب التطورات كل يوم وكل ساعة فإذا وجد مكتب الإرشاد من هذه التطورات ما عظم عليه معالجته دعا الهيئة التأسيسية التي لكل هذه التشكيلات في داخل البلاد أضلاع فيها لتصدر الرأي البات والقرار الأخير .

هل تقليد هذا النظام كاف لأثمارة نفس الثمر ؟

هذا النظام الإداري المحكم الحلقات ، ما كان لينجح ويؤتي ثماره ، لولا أنه كان مطعمًا بنظام آخر تربوي روحي هو نظام الكتائب .. كان نظام الكتائب يسري في النظام الإداري علي اختلاف درجاته سريان الروح في الجسد فيبعث فيه الحياة والقدرة والحركة .... ولعل هذا هو السر في أن هيئات كثيرة بعضها شعبي وبعضها رسمي أخذت بالنظام الإداري للإخوان المسلمين أخذًا كاملا ولكنها فشلت ، ولم تصل به إلي شيء مما يعود عليها بفائدة أو بتماسك أو بترابط أو ينفع بل كان وبالا عليها وثقلا جديدًا أضيف إلي ثقالها وحملا علي كاهلها ومعوقا في طريقها ، فلقد أخذت الهيئات بالجسد دون الروح .... وقد تستطيع بشيء من الإنفاق أن يصنع لك الفنانون هيكلا رائعًا لجسد عظيم ، ولكنك مهما أنفقت لن تستطيع أن تجد من ينفخ في هذا الهيكل الروح ، لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم " " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " .

قسم الأخوات المسلمات

كان واضحًا في ذهن حسن البنا أن دور المرأة في الإسلام دور خطير ، له أثره البعيد في تكوين الرجال وأمهات المستقبل ... والدعائم التي ارتكزت عليها دعوة الإخوان المسلمين هي تكوين الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم ثم الحكومة المسلمة . وحين أسس الأستاذ المرشد أول دار للدعوة في الإسماعيلية وأنشأ مسجدًا ، اتبع ذلك ببناء مدرستين إحداهما للأبناء سماها " معهد حراء الإسلامي " والأخرى للبنات أطلق عليها " مدرسة أمهات المؤمنين " وقد عني بهذه المدرسة عناية كبيرة – حيث لم تكن فكرة تعليم البنات قد وضحت السامي للبنات والأمهات والزوجات ، وبين مقتضيات العصر ومطالبه من العلوم النظرية والعلمية والعملية . وقد أدت المدرسة رسالتها فاستتبع ذلك إنشاء قسم الأخوات المسلمات سمي في أول الأمر " فرقة الأخوات المسلمات " يتألف من نساء الإخوان وقريباتهن ، وتقوم بالتدريس فيه مدرسات علي كفاءة خاصة من أهل الإسماعيلية نفسها . ووضع الأستاذ لهن لائحة خاصة ننظم طرائق السير ووسائل نشر الدعوة بين السيدات والفتيات من بيوت الإخوان وغيرهن ... وقد جاء " بمذكرات الدعوة والداعية " للأستاذ المرشد في هذا الصدد وفي صفحة 150 ما يلي :

لائحة فرق الأخوات المسلمات

" وللذكري نثبت هنا أول لائحة للأخوات المسلمات ، وكان عليها العمل بالإسماعيلية وبالقاهرة بعد ذلك :

في غرة المحرم سنة 1352 ، 26 إبريل 1933 تألفت في الإسماعيلية فرقة أدبية إسلامية تسمي الأخوات المسلمات ، الغرض من تكوين هذه الفرقة :

التمسك بالآداب الإسلامية ، والدعوة إلي الفضيلة ، وبيان أضرار الخرافات الشائعة بين المسلمات .

وسائل الفرقة : الدروس والمحاضرات في المجتمعات الخاصة بالسيدات ، والنصح الشخصي والكتابة والنشر .

نظام الفرقة :

1 – تعتبر عضوا في الفرقة كل مسلمة تود العمل علي مبادئها وتقسم قسمتها وهو " علي عهد الله وميثاقه أن أتمسك بآداب الإسلام وأدعو إلي الفضيلة ما استطعت " .

2 – رئيس الفرقة هو المرشد العام لجمعيات الإخوان المسلمين ، ويتصل بأعضائها وكيلة عنه تكون صلة بينهن وبينه .

3 – كل أعضاء الفرقة ومنهن الوكيلة إخوان في الدرجة والمبدأ ، وتوزع الأعمال التي يستدعيها تحقيق الفكر عليهن ، كل فيما يخصه .

4 – يعقد أعضاء الفرقة اجتماعًا خاصًا بهن أسبوعين يدون فيه ما قمن به من الأعمال خلال الأسبوع الماضي ،وما يرونه في الأسبوع الآتي .

وفي حالة ما إذا كثر عدد يصح أن يقتصر هذا الاجتماع علي المكلفات بالأعمال منهن .

5 – تصدر اشتراكات مالية اختيارية حسب المقدرة ، وتحفظ في عهدة إحدى الأخوات للإنفاق منها علي مشروعات الفرقة .

6 – يصح تعميم هذا النظام في غير الإسماعيلية في حدود هذه اللائحة .

7 – يعمل بهذه اللائحة بمجرد التصديق عليها من أعضاء الفرقة التأسيسية ، والتوقيع منهن بما يفيد ذلك .

.... وبانتقال الدعوة إلي القاهرة تكونت بالقاهرة " فرقة الأخوات المسلمات " .. وقد اتخذ مقرًا به المنزل رقم 17 شارع سنجر الخازن بالحلمية الجديدة واختار الأستاذ المرشد الأخ الأستاذ محمود الجوهري سكرتيرًا لهذا القسم منذ إنشائه ، وظل الأخ الكريم يباشر هذه المهمة ويؤديها أحسن أداء حتى الآن بمعاونة الأخت الكريمة عقليته من الله عليها بالشفاء وأسبغ عليها ثوب العافية . وقد ساهم القسم في المشروعات الاجتماعية النافعة من المستوصفات ودور الطفولة ورعاية الأيتام والمدارس وتنظيم مساعدة الأسر الفقيرة .. وأنشأ " دار التربية الإسلامية للفتاة " بشارع بستان الفاضل بالمنيرة .

ولما انتشرت الدعوة في أوساط الفتيات والأمهات في القاهرة والأقاليم رؤى إدخال تعديل علي لائحة القسم تضمن " أن يكون مقر شعب الأخوات المسلمات ودروسهن دور شعب الإخوان المسلمين أو بيوتهم أو المساجد التي يشرفون عليها بشرط أن يلاحظ إخلاء الدور من الإخوان تمامًا كلما كان هناك اجتماع أو درس للأخوات " ... وقد انتشرت شعب الأخوات في القاهرة والأقاليم حتى زاد عددها علي المائة شعبة . وكما كانت جهود الأستاذ – كما ذكرنا من قبل – موجهة في معظمها العناية بالطليعة من الجامعين طلبة وخريجين ، فإنها كذلك وبنفس القدر من العناية والاهتمام كانت موجهة إلي الطليعة بنفسه ولم يكن يتخلف عن هذه الدروس حتى في حالة المرض . ومن هذه الطليعة تكونت لجان الزائرات اللاتي يقمن بزيارات لشعب الأخوات في أنحاء القطر ويشرفن علي سير الدعوة فيها وينظمن إقامة المعارض الإنتاجية للأخوات ويوجهن المؤسسات الثقافية والعلاجية والعملية . وكانت لقسم الأخوات نشاط في مختلف الميادين حتى إنه في مارس سنة 1946 تقدم إلي المندوب السامي البريطاني بالقاهرة بمذكرة احتجاج علي اعتداءات جنود الجيش البريطاني المحتل علي الآمنين من المصريين .

علاقة قسم الأخوات بالنظام الإداري للإخوان

أخرت الحديث عن هذا القسم – مع بالغ أهميته – لأني وإن كنت أوردته ضمن الأقسام الإدارية للإخوان المسلمين فإنني كنت حريصًا علي النأي به عن الارتباط الإداري وأساليبه .. وقد نشأ حرصي هذا مما كنت ألاحظه من حرص الأستاذ الإمام رحمه الله علي هذا المعني فيما يتصل بهذا القسم الرئيسي الكبير . ذلك أن مهمة هذا القسم في رأي الأستاذ رحمه الله هي إعداد جيل من الفتيات والنساء يزود بأعظم قدر من التربية الإسلامية المستنيرة مع قسط من المعلومات الفقهية والتاريخية استعدادًا لإنشاء البيوت الإسلامية التي قد تعتمد في إنشائها علي المرأة أكثر مما تعتمد علي الرجل ... فالزوجة هي التي تعين زوجها علي النهوض بأعباء الدعوة الإسلامية ، وهي التي تقعد بهمته عنها ، والأم هي التي ترضع أبناءها وبناتها حب الخير وهي التي تدفعهم إلي الشر .

وإذا لم توجد في البناء الإخواني الأم المسلمة الصالحة ، والزوجة المسلمة الصالحة فهيهات أن يقوم هذا البنا مهما كان الرجال مثلا عليا ... ولهذا قام بناء الدعوة حين قام علي أساسين معًا ، ففي الوقت الذي ينشأ فيه الرجال شيبًا وشبانًا كان ينشأ فيه النساء أمهات وأخوات ... جدران متوازيان ومتسامتان ... ولكن لما كانت فرص الاجتماعات أمام الأخوات غير متاحة بالقدر الذي هي متاحة للإخوان فإن الأستاذ رحمه الله كان حريصًا علي أن يجعل هذه الاجتماعات خالصة للتثقيف والتربية دون أن يقتطع من وقتها أو كثير في الانشغال بالشئون الإدارية ، كما كان حريصًا علي أن لا يضيع جزء من جهود الأخوات في الالتفات إلي المناصب الإدارية والإعداد لها والتطلع إليها مما قد لا يتناسب مع طبيعة المجتمعات النسائية إذا أريد الإنتاج دون معوقات . وربما كان هذا الأسلوب من أهم الأسباب في نجاح التنظيمات النسائية في الإخوان المسلمين بينما فشلت مثيلاتها في جهات أخري .

ولما كانت دعوة الإخوان المسلمين دعوة عملية لا تعترف بالترف العلمي ولا تقف عند حدود التضلع من العلم الإسلامي لمجرد التضلع بل هي حقول تجارب يرى العضو فيها انه مطالب بتطبيق ما تعلم أولا بأول في هذه الحقول في البيت وفى العمل وفى الشارع وفى النادي وفى نفسه أولا فإن الأخوات كن كلما تعلمن شيئا من التعاليم الإسلامية يجدن أمامهن حقل التجارب في بيوتهن يطبقن فيها هذه التعاليم على أنفسهن وعلى أزواجهن وأبنائهن وأهليهن . ومن هنا كانت الدعوة تسير قديما إلى الأمام لا يعوقها عائق فإن العربة متى كان يجرها حصانان وكلاهما يجر في اتجاه واحد فإنها تنطلق في طريقها أمنة مطمئنة إذ كل العوائق الخارجية يمكن تفاديها أما الذي لا يتفادى لا يقاوم ولا أمل معه في مواصلة السير فهو العوائق الداخلية الناشئة من داخل البيت ومن داخل الأسرة وناهيك بعربة يجرها حصانان كل يجرها في اتجاه مضاد بفضل قسم الأخوات المسلمات وعلى الأسس0 القويمة التي أسسه عليها الأستاذ الإمام أسست بيوت على تقوى من الله ورضوان وأنشئت أسر متماسكة طاهرة رصينة لا يتطرق أليها الوهن ولا يعرف طريقها التمزق الذي عصف بكثير من الأسر الأم والأب ذوا هدف واحد ويرميان عن قوس واحدة والأبناء والبنات يقتفون أثار الأبوين على هدى وبصيرة .

لقد أثبت هذا القسم جدارته في كل الأحوال في حال الرخاء وحال الشدة وإذا كان تفصيل الحديث عما خاضه الإخوان من غمرات الظلم والإعنات الوحشية لم يحن بعد فحسب القارئ في هذا المقام أن يعلم أن قسم الأخوات المسلمات قد خاض نفس الغمرات وتحملت عضواته من المشقات والأهوال ما قد يفوق ما تحمله الإخوان وكلا وعد الله الحسنى .

ولقد بهت الأعداء لما قد فوجئوا به من عمق إيمان الأخوات وشدة ثباتهن على الحق وقوة صبرهن على المكاره واستهانتهن بوسائل التخويف والإرهاب مما ذكر الناس بالسابقات الأوليات من الرعيل الأول من الصحابيات الجليلات – فقد كان منهن من قمن بدور أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر حين كانت تقوم بنقل الطعان والأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر خارج مكة بينما كانت قريش قد رصدت مائة ناقة لمن يدلها عليهما وكان منهن من ألقى بهن في غياهب السجون والمعتقلات وكن يسمن فيها العذاب مما ذكر الناس بسيمة أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعا.

نظام الأسر

باعتبار الإخوان المسلمين هيئة من الهيئات لها كيان حدده القانون ولها نشاط يجرى داخل أبنية في مختلف البلاد تعتقد فيها الاجتماعات وتلقى فيها المحاضرات كان هذا النظام الإداري المطعم بأسلوب الكتائب كافيا لربط أواصر الكيانات الإخوانية بعضها ببعض ولكن باعتبارهم فكرة تحمل أعباء نشرها دعوة فإنهم في حاجة إلى أسلوب أخر من أساليب الربط أداة من أدوات الاتصال . والأفكار والدعوات بطبيعتها لا تكاد تنشأ في مكان حتى ينشأ معها فيه أعداؤها ولا تكاد تذيع وتعتنق حتى تجرد لها الهجوم والمطاردة ولا نكاد نثبت أقدامها حتى تقتلع اقتلاعها عنيفا ليلقى بها بعيدا في غياهب النسيان. ... أعداؤها حريصون علي محو آثارها .. وإذا هم عاجزون عن محو آثارها من النفوس فليسوا بعاجزين عن محو آثارها من الدرر والبنيان ... والأنظمة الإدارية مرتبطة بالدور والبنيان فإذا زالت الدور والبنيان فإن الأنظمة الإدارية لا تغني فتيلا . وإذن فلابد من رباط يربط معتنقي الأفكار والمستجيبين للدعوات بعيدًا عن الدور والبنيان ، ولا يترك هذه الجموع المؤقتة ضائعة هائمة علي وجوهها إذا فقدت الدور ذات اللافتات وذات المقاعد والمكاتب ... وكان هذا الرباط هو نظام الأسر .

ولم يكن الإخوان المسلمون هم أول من عرف أهمية هذا النظام ، فقد عرفه قبلهم دعوات أخري ، كما انتظم في مثله من بعدهم تجمعات أخري ، لكن هؤلاء وهؤلاء سموه نظام الخلايا ... والفرق بين النظامين فرق كبير ، فنظام الخلايا نظام حيواني مأخوذ عن الحيوان فالعلاقات فيه علاقات مادة ومصلحة وهذا الرباط يستبيح معه أعضاء الخلية أن يقتلوا عضوا منها إذا استنفذوا جهده ولم يعد صالحًا لحمل أعباء يفعل أعضاء خلية النحل في بعضها الآخر ، ولكن نظام الأسرة الإخوانية يقوم الارتباط فيه علي أساس الأخوة والحب والإيثار والتعاون ، يحمل القوى فيها الضعف ، ويقتدي كل عضو فيها بنفسه وبماله الأعضاء الآخرين ، ولهذا لم يسمها خلية بل سموها " أسرة " .

وتتكون الأسرة من خمسة أفراد ، وهذا العدد هو أدني عدد لجماعة تريد أن تؤدي جميع أنشطة الدعوة من دراسة للفكر ونشر لها والأخذ بنظم التربية البدنية والعقلية والروحية ، مع متابعة تطورات الأحداث ودراسة كل تطور وإصدار القرار المناسب له ، وتلقي التعليمات من القيادة ووضعها موضع التنفيذ والإلمام التام بغيرها من الأسر ، ويمكن التعبير عن الأسر بأنها هيئة الإخوان المسلمين في صورة مصغرة ... وتكوين الأسرة من هذا العدد القليل يسهل لها الوجود في أي مكان وفي أي وقت دون التنفيذ بمكان معين أو زمن معين .. وللأسرة نقيب هو الذي يتصل بالقيادة المحلية والقيادات المحلية نقيب يتلقي من القيادة الأعلى وهكذا حتى يكون التلقي في أوله من المرشد العام ... وللأسرة صندوق للطوارئ ، وهذه الصناديق كلها في النهاية هي صندوق الدعوة ، وكما أن علي الأسرة أن تتلقي التعليمات فلها أن تقترح بنفس الطريق . ونظام الأسر ليس حلقة مقفلة وليس بالنظام العقيم ، بل هو نظام ولاد مثمر فقد تلد الأسرة نتيجة اتصال أفرادها بمجتمعهم أسرًا جديدة بعدد أفرادها ، وتلتزم الأسر الجديدة بنظم الأسرة المقررة من الدراسة والتربية والبذل ونشر الدعوة – وهكذا أعد الإخوان المسلمون أنفسهم لمواجهة الظروف التي قد تتعرض لها كل دعوة بهذا الرباط المحكم الوثيق .

النظام الخاص أو الجهاز السري

قدمت أن الدعوة بانتقالها إلي مقرها الجديد بالحلمية الجديدة قد اشتد عودها وقوي ساعدها وبدأت تبرز قليلا علي مسرح الحياة المصرية ... وأدرك الأستاذ المرشد بحاسة القيادة التي وهبه الله إياها أن أعداء الدعوة التقليدين وهم المستعمرون وعلي رأسهم الانجليز ثم أذنابهم من الحكام المصريين الذين هم اليد التي يبطش بها هذا المستعمر ... أدرك أن هؤلاء الأعداء هم للدعوة بالمرصاد ،وأن الدعوة يجب أن لا تكون فريسة باردة لهم ، بل أن تكون ذات شوكة لا يسهل التهامها ... ومن هنا نبتت فكرة " النظام الخاص " للدفاع عن الدعوة . وقد أدرك الأستاذ المرشد نم قضية فلسطين قضية الإخوان المسلمين ، وأن الانجليز بتواطئهم مع اليهود لن يعدلوا عن خطتهم ويسلموا البلاد لأهلها إلا مكرهين ، وعلم الأستاذ المرشد أن الانجليز يسلحون عصابات اليهود ، وأنه لابد من معركة فاصلة بين الإخوان المسلمين وبين هذه العصابات مادام الإخوان مصرين علي تحرير هذه البلاد وإنقاذ المسجد الأقصى الذي هو هدف اليهود الأصيل ... وأدرك الأستاذ المرشد أن الحكومة المصرية والحكومات العربية حكومات ضعيفة هازلة متخاذلة بل متواطئة ،وأن ليس في البلاد العربية جيوش سوي الجيش المصري ، ولكن هذا الجيش من الهزال والجهل وعدم الخبرة بحيث لا يقوي علي مواجهة عصابات اليهود المدربة المسلحة بأحدث أسلحة الانجليز الأمريكان والتي تحارب عن عقيدة مستمدة من دينهم ... أدرك الأستاذ المرشد هذا أيضًا فكان ذلك حافزًا علي سرعة الاستعداد لتكوين " النظام الخاص " .

كان ذلك في عام 1940 حين دعا خمسة منا هم صالح عشماوي وحسين كمال الدين وحامد شربت وعبد العزيز أحمد ومحمود عبد الحليم ، وعرض علينا الدواعي التي رآها تقتضي الاستعداد وإنشاء نظام خاص تواجه الدعوة به مسئولياتها في المستقبل ... واقتنعنا برأيه فكون منا نحن الخمسة قيادة هذا النظام وعهد إلينا بإنشائه وتنظيمه وتدريبه ، علي أن يكون علي أساس من العسكرية الإسلامية القوية النظيفة ، وعلي أن يحاط بالسرية المطلقة بحيث لا يعرف عنه أحد شيئًا إلا أعضاؤه ، وعلي أن يكون تمويله من جيوب أعضائه لأنه علامة الجد فيمن تقدم للتضحية بروحه أن يضحي بماله ... ورتب القيادة بحيث يكون صالح عشماوي الأول باعتباره المتفرغ الكامل ويليه كمال الدين حسين فمحمود عبد الحليم فحامد شربت فعبد العزيز أحمد . وعند مباشرة عملية الإنشاء وجدت نفسي أشبه بالعضو المنتدب لهذه القيادة حيث رأيتني أعمل وحدي ولعل ذلك لأن إخواني في القيادة رأوا أنني أوثقهم صلة بالطلبة – باعتباري مندوبًا للطلبة – والطلبة هم العنصر الأساسي في جميع التكوينات ... وقد تخيرت مجموعة منهم توسمت فيهم الجد وعمق الفهم والاتزان ، وعرضت عليهم الفكرة فاستجابوا لها وكانوا هم نواة هذا " النظام " كما تخيرت أفرادًا من شباب الموظفين ومجموعة من العمال الفنيين ذوي الثقافة الإسلامية واستجاب الجميع فكان هؤلاء جميعًا هو الرعيل الأول في هذا النظام " الذي أطلق عليه بعد ذلك " الجهاز السري " نظرًا لأنه يقوم علي السرية المطلقة .

ومما ينبغي التذكير به أن هذا الرعيل الأول قد اشتركوا في حرب فلسطين سنة 1948 وقد أبلوا فيها أعظم بلاء شيد به الأصدقاء والأعداء ، وقد استشهد كثير منهم علي أرضها الطاهرة . وكان برنامج المنضوين تحت لواء هذا النظام يقوم علي الأسس الآتية :

1 – تقسيمهم إلي أسر – خاصة بهم – مع تسلسل القيادة – مع اشتراكهم في جميع أوجه النشاط العامة للدعوة .

2 – دراسة عميقة مستفيضة للجهاد في الإسلام وما جاء بشأنه في القرآن الكريم من سور وآيات وما جاء بشأنه في السنة النبوية والتاريخ الإسلامي القديم والحديث مع أخذ العضو نفسه بأنواع من العبادات والصيام .

3 – التدريب علي الأعمال الشاقة .

4 – التدريب علي توزيع المنشورات .

5 – التدريب علي التخاطب والتراسل بالشفرة .

6 – التدريب علي استعمال الأسلحة .

7 – المبالغة علي السمع والطاعة في المنشط والمكره وكتمان السر .

وقد أخذنا من أول يوم في وضع هذا البرنامج موضع التنفيذ ، ومن طرائف ما أذكره بهذا الصدد في الأيام الأولي لهذا التنفيذ : أن أحد الإخوان كان طالبا إذ ذاك في إحدى كليات الأزهر وكان سمينا وكان التدريب في ذلك اليوم علي القفز من شرفة ارتفاعها ثلاثة أمتار وقد رأيت إعفاء هذا الأخ من القفز فأبي إلا أن يقفز وكادت قفزته تلحق به الأذى لولا أن تداركه إخوانه . كما أننا كنا نطبع منشورات بكلام غير ذي هدف معين غير أنه كلام يلفت النظر ويثير الاستغراب وكان إخوان النظام يوزعونها علي المنازل والمكاتب والمتاجر والمدارس والملاهي بطريقة لا يحس بها أحد مع تخصيص شارع لكل واحد منهم .. ثم يصبح في اليوم التالي كل عمله فإذا سمعنا من زملائنا في المصالح الحكومية وفي غيرها من أماكن التجمع استغرابهم لما جاء في منشور وصل إليهم يقول كذا وكذا علمنا أن التدريب قد نجح .

وكانت المشقة الكبرى أمامنا هي الحصول علي الأسلحة ، وقد ذلل لنا هذه الصعوبة أننا كنا إذ ذاك في السنة الثانية من سني الحرب العالمية ، وكانت جيوش المحور – ألمانيا وإيطاليا – قد بدأت تطرق أبواب بلادنا من ناحية الصحراء الغربية ، وجلب الانجليز إمدادات من جنودهم وجنود الإمبراطورية من هنود واستراليين وأفريقيين ... وعن طريق هؤلاء نشأت في صحراء مصر تجارة السلاح ، فكنا نشتري من هؤلاء التجار بنقودنا القليلة وبما كان يصلنا من مال من الهيئة العربية العليا بفلسطين . وأقبل خلص الإخوان علي الانخراط في سلك هذا النظام الجديد ، الذي كان ترجمة لما طالما درسوه وسمعوه عن الفكرة الإسلامية الشاملة التي ما قدمت إلا لتحرر الناس من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده والتي شرع الله فيها الجهاد دفاعا عن الدين وجعله قمة الأمر وسنامه ليكون وسيلة إلي ذلك

الابتعاد عن القاهرة

بعد تجربتي في موضوع الألبان مكنت في القاهرة متأهبًا لاستئناف تجربة أخري من العمل الحر بعد أن أقضي فترة تستقر خلالها نفسي ولم يخطر ببالي أن أتقدم إلي عمل حكومي لندرة الأعمال من ناحية ولحقارتها وحقارة السبيل إليها من ناحية أخري فقد كانت الوظيفة الحكومية علي حقارتها لابد للوصول إليها من وساطة من وزير أو كبير وهو ما أربا بنفسي عنه . ولكن إعلانا نشر في الصحف تطلب فيه وزارة المالية ثلاثين من الحاصلين علي بكالوريوس الزراعة لنعينهم في وظيفة فرازين للأقطان تمهيدًا لتمصير هذه الوظيفة التي لم يكن يشغلها حتى ذلك الوقت إلا الأجانب وجاء في الإعلان أن التعيين في هذه الوظائف الثلاثين سيكون عن طريق مسابقة تجري بين المتقدمين .

وجاءني زملائي ليجبروني بهذا الإعلان الذي جاء فيه ما يغري بهذه الوظائف من الناحيتين المادية والأدبية ولكنني – لسوء ظني بالأساليب الحكومية كما قدمت – رفضت مشاركتهم في التقدم لهذه الوظائف فما كان منهم إلا أن تحدثوا مع الأستاذ المرشد في ذلك فاستدعاني وأقنعني بوجوب التقدم لهذه الوظيفة قائلا : هب أنك وجدتها كسائر الوظائف تعتمد علي الوساطات فماذا خسرت ؟ لن تخسر شيئًا إذا أنت توقفت عن المضي في طريقها ، وقد تكون هذه الوظيفة علي غير ما اعتاد الناس وتكون الحكومة هذه المرة جادة فيما نشرت من امتحانات فلا نكون قد أضعنا علي أنفسنا الفرصة .

وكان رأي الأستاذ المرشد في محله وتقدمت فرأيت بنفسي في الامتحان الأول – الذي تقدم إليه نحو خمسمائة منهم كثير من الموظفين – زملاء كان معهم خطابات توصية من وزير الزراعة ووكيل وزارة المالية لشئون القطن قدموها إلي لجنة الامتحان ، ولم يكونوا ضمن الستين الذين نجحوا في هذا الامتحان وكنت أحدهم وقد شجعني ذلك علي دخول الامتحان الشفوي بعد ذلك الذي تمخض عن فوز ثلاثين كنت واحد منهم أيضًا . ولما كانت زراعة القطن وتجارته تعم أنحاء القطر ما عدا القاهرة فقد كان ابتعادي عن القاهرة أمرًا لابد منه ، وقد رأي المرشد أن أطلب تعييني في دمنهور .

عبد الرحمن السندي

لما استقر الرأي علي أن ألتحق بهذه الوظيفة وأن أكون بذلك بعيدًا عن القاهرة وكان – الأستاذ المرشد علي علم بأنني أكاد أن أكون المباشر الوحيد .. دون زملائي في القيادة – لمهمة الإشراف علي " النظام الخاص " طلب إلي الأستاذ أن استخلف من يباشر الإشراف علي هذا النظام . وقد نظرت فإذا جميع أعضاء هذا النظام مرتبطون بأعمال تشغل أكثر وقتهم وتستفرغ معظم جهدهم والإشراف علي هذا النظام يحتاج إلي تفرغ أو ما يقرب من التفرغ علي الأقل كما يحتاج إلي صفات معينة تتناسب مع خطورة هذه المهمة .

منذ التحقت بكلية الزراعة كنت أسكن بالجيزة ، وفي السنة الأخيرة لي بالكلية اتخذت لي سكنا مع بعض الإخوان في منطقة خلف مباني الجامعة تسمي " بين السرايات " وكانت الشقة التي نسكنها في الدور الأول من منزل رجل صالح كان يحبنا ونحبه .. فلما جاءه ساكن الدور الأرضي من المنزل رأي أن يستشيرنا ، وكان الساكن طالبا في كلية الآداب ومعه شقيقه الطالب بالمدارس الثانوية ، فلما التقيت بالشابين وتحدثت معهما شمت فيهما الصلاح والخلق الفاضل فصارا من جيراننا ، وكان هذا الجاران هما عبد الرحمن السندي وشقيقه . ثم كان أن جاء الأخ عبد العزيز كامل ليلتحق بكلية الآداب وكان من إخوان الإسكندرية الذين أعرفهم ، وكان يريد أن يسكن قريبًا منا فسكن مع هذبن الجارين مستقلا بحجرة من هذه الشقة .

ولما كانت صلتي بالأخ عبد العزيز تقتضيني أن أكثر من زيارته لأونسه من ناحية ولأنه كان قد التحق بقسم الجغرافيا بكلية الآداب وكنت أحب أن أطلع علي بحوث شائقة لهذا القسم في الأجناس والطبائع وما شابهها من ناحية أخري .. لذا كثر ترددي علي هذه الشقة فكان هذا التردد فرصة لي للتحدث مع الساكنين الآخرين بها . وقد لاحظت علي عبد الرحمن هذا الهدوء والرزانة والجد ، كما لاحظت إقباله علي إقبالا يوحي بأن الدعوة التي عرضتها عليه تملك شفاف قلبه وتشعر بتشوقه إلي يوم يفتديها فيه بنفسه ، وظللت طيلة ذلك العام علي اتصال وثيق به ، حتى إنه كان لشدة ثقته بي ، وفرط حبه لي يعرض علي مشاكله الخاصة – فلما وثقت به تمامًا عرفته بالأستاذ المرشد باعتباره عضوًا بالنظام الخاص " . وقد فهمت منه في أثناء ما عرضه علي من شئونه الخاصة أن له إيرادًا يمكن أن يقوم بشئونه ، فلما كنت بصدد اختيار من يخلفني في الإشراف علي "النظام الخاص " تذكرت عبد الرحمن فرجعت إليه لألم بظروفه التي طرأت منذ انتهت دراستي بالكلية وغادرت " بين السرايات " ففهمت منه أن كل الذي طرأ عليه هو أنه لم يوفق في امتحان تلك السنة وأنه الآن يعيد السنة الأولي ...

فشرحت له ظروفي وأنني مضطر أن أكون خارج القاهرة ، وأنني أبحث عن شخصية تخلفني للإشراف علي " النظام الخاص " واشترط أن تكون مستوفية شروطًا معينة ، وقلت له : إن هذه الشروط تكاد أن تكون مستوفاة فيك عدا " التفرغ " فهو ليس بالأمر الميسور ... فقال لي : إنني أشكر لك حسن ظنك بي ... وأنت تعلم أولا أنني مريض بالقلب ، ومعرض للموت في كل لحظة ، وأحب أن تكون موتتي في سبيل الله ... كما تعلم أن لي إيرادًا – وإن كان محدودًا – إلا أنه يعينني علي مطالب الحياة الضرورية ... وتعلم كذلك أنني رسبت في السنة الأولي بالكلية وأنني أعيدها ... وقد استقر رأيي علي الانقطاع عن الدراسة وسألتحق بوظيفة في وزارة الزراعة بالثانوية العامة ... وبذلك يتوفر لي عنصر التفرغ الذي تطلبه . وعرضت الأمر علي الأستاذ المرشد فوافق عليه ، وأحضرت عبد الرحمن للأستاذ المرشد بايعه أمامي علي أن يقود هذا النظام وعلي أن لا يقدم علي أية خطوة عملية إلا بعد الرجوع إلي لجنة القيادة ثم إليه شخصيًا . وسار عبد الرحمن بالنظام سيرًا موفقاً فحاز حب من يليه من القيادات والأفراد كما حاز ثقتنا حيث كان يرجع إلينا في كل خطوة عملية بل فيما دون ذلك . ومع وجودي في دمنهور كنت أسافر إلي القاهرة في كل شهر مرة أو مرتين يعرض علي عبد الرحمن ما تم في خلال مدة غيابي ، وما يقترحه للمستقبل . واتسعت رقعة النظام في القاهرة ، وأخذت تتشعب في الأقاليم فضمت صفوة الإخوان في مختلف البلاد .

أول عمل للنظام الخاص

كنا في ذلك الوقت في أوائل أعوام الحرب العالمية الثانية ، وكانت القاهرة تعج بجحافل الجنود الانجليز ، وكنت لا تكاد تمشي في شارع من شوارع القاهرة لاسيما الشوارع الرئيسية خصوصًا بالليل إلا ويحتك بك جماعات من هؤلاء الجنود في حالة سكر وعربدة ، يهاجمون الرجال والنساء ، ويعبثون بكل ما تصل إليه أيديهم ، في الوقت الذي تلازمهم فيه أسلحتهم كأنهم في ميدان القتال . وجأر الأهالي بالشكوى من عبث هؤلاء الجنود ، ومن كثرة ما جنوه منن قتل أبرياء وهتك أعراض وتحطيم محلات ، ولكن الحكومات التي تحكم البلاد لم تكن تجرؤ حتى علي توصيل هذه الشكاوى إلي مسامع السادة الانجليز . ورأي إخوان " النظام الخاص " أن يعملوا عملا يبث الخوف في قلوب هؤلاء الجنود العابثين ، لعل هذا الخوف يردعهم عن عبثهم حين يشعرون أن الطريق أمامهم ليس سهلا كما اعتادوا ، وأن هناك من يقف لهم بالمرصاد ، وأن حياتهم ستكون ثمناً لهذا العبث .

وقرر " النظام " لكي يكون للعمل أبلغ الأثر أن يختاروا توقيتًا معينًا ومكانًا معينًا ومناسبة معينة ، فاختاروا ليلة عيد الميلاد ، واختاروا النادي البريطاني حيث يكون مكتظًا بالجنود الانجليز وضباطهم وألقوا عليهم قنبلة لم تقتل أحدًا ولكنها بعثت الرعب في نفوسهم وحققت الغرض منها تمامًا فبدأوا يفهمون أنهم يعبثون وسط قوم يستطيعون أن يحفظوا كرامة أنفسهم بأنفسهم وأن يلقنوا من يعتدي عليهم دروسًا قاسية ، وقد قبض في هذا الحادث علي بعض الإخوان أذكر منهم الأخ نفيس حمدي الذي كان إذ ذاك طالبًا والأخ حسين عبد السميع .

الصاغ محمود لبيب :

ضابط من ضباط الجيش ، كان من القلائل الذين كانت تجيش صدورهم بالحسرة علي ما آلت إليه حال بلادهم ، وكانوا يتناجون سرًا فيما بينهم ، وكانوا يبحثون عن وسيلة لإنقاذ هذه البلاد من ذل الاستعمار ، ومن غائلة الفساد الذي نشره في ربوعها . وكان من رعيل عزيز المصري وصالح حرب ، وكان ممن رحلوا إلي تركيا في أثناء أزمتها واضعًا نفسه رهن إشارتها للمحافظة علي الكيان الإسلامي الذي كانت تمثله في ذلك الوقت الخلافة الإسلامية ، وشارك في كل الحركات العسكرية التي قامت في مصر وفي غيرها والتي كانت بواعثها وطنية إسلامية .

وقد أحيل الاستيداع مبكرًا ولذا كان رتبة الصاغ (الرائد) ، ويبدو أن هذا الرجل كان خيرًا بطبعه وكان ميسور الحال ... جاء ذكر اسمه علي لساني مرة أمام والدي رحمه الله فقال لي إنه يعرفه إذ كان والدي منتدباً ناظرًا لمدرسة بوغاز رشيد – وكان ذلك في أوائل الثلاثينيات – فذكر موظفو فنار رشيد أن نقطة السواحل التي بجانبهم جاءها ضابط يرأسها اسمه محمود لبيب من أتقي الناس ومن أحسنهم معاملة لمرءوسيه وللناس جميعًا ، ولم يحضر إلي هذه النقطة ضابط نال إعجاب جميع الناس والكل يحبونه إلا هذا الضابط ، قال لي والدي : وقد تعرفت عليه وجلست معه فشعرت بعاطفته الإسلامية الجارفة وجدتني أحببته ، إلا أن إقامته في هذه النقطة لم تطل .

تعرف هذا الرجل علي الأستاذ المرشد مبكرًا في أواخر الثلاثينيات ، وكان الأستاذ يحبه ويحترمه ، وكان الرجل – وقد تعرفنا عليه – قليل الكلام .. وكان نواة التكوينات الإخوانية في الجيش كما أنه كان المشرف علي تنظيم التدريبات العسكرية للمدنيين من الإخوان سواء من كان منهم في " النظام الخاص " وغيره ، وكان هو ممثل الإخوان في لجان الاتصال بين الإخوان وبين الجامعة العربية في إعداد متطوعي الإخوان لحرب فلسطين وكان من القلائل الذين كانوا يفهمون الإسلام دينًا ودولة ، وما كاد يعلم بظهور الإخوان المسلمين حتى ألقي بنفسه وماله ووقته وكل مواهبه بين أيديهم ، فقد كانوا أمنيته وحلمه الذي تحقق ... وكان هذا الرجل الصامت من أكثر الإخوان إنتاجًا ، ولم يقبل أن يكون له منصب رسمي من مناصب الهيئة لأنه كان يكره أن يعرف الناس إنتاجه ... ومع أنه لم يكن له منصب رسمي في الدعوة فقد كان الأستاذ المرشد يكل إليه كل ما هو عسكري فيها فكان بمثابة وكيل الدعوة في الشئون العسكرية ... وقد لعب في حرب فلسطين سنة 1948 دورًا عظيمًا .

أول محاكمة في تاريخ الدعوة : اتهام بمحاولة قلب نظام الحكم

كانت النية معقودة عند الانجليز وأتباعهم من حكام مصر علي الوقوف في وجه المد الإخواني الذي بدأ وكأنه السيل المنحدر من فوق الجبل . وقد اقتنع هؤلاء – بالتجربة – بأن مواجهة الدعوة بوسائل العنف والتصدي البوليسي لها لن ينال منها بل قد يزيدها قوة ، ويزيد الرأي العام التفافاً حولها ، وإذن فلابد من إلصاق تهمة ضخمة بهم أولا ، وتدبير مقدمات لهذه التهمة من الإحكام بحيث يكون حكم القضاء فيها ضد الدعوة مضمونًا ودامغًا فينتزع هذا من نفوس الشعب الثقة وحسن الظن بهذه الهيئة ، وهنا تتخذ الحكومة إجراءاتها ضدها بحكم القانون وبتأييد من الشعب ... وهكذا درج الانجليز علي أن تكون خططهم في محاولة القضاء علي أعدائهم مبنية علي مظهر قانوني مؤثر في نفوس الرأي العام مثير لمشاعره .

كان ذلك في أوائل سني الحرب العالمية الثانية سنة 1942 ، وكان للانجليز في تلك الأيام مؤسسات منتشرة في معظم عواصم البلاد لتكون عيونًا لهم علي تحركات الوطنيين لاسيما الإخوان المسلمين ، وكانت هذه المؤسسات في مظهرها ثقافية لتعليم اللغة الانجليزية ونشر الثقافة البريطانية وتسمي هذه المؤسسات " المجالس البريطانية " وكانت تباشر عملها في اصطياد الوطنيين ذوي النشاط في المجتمع بواسطة عملاء من المصريين – وما كان أكثر هؤلاء العملاء ، وما كان أحقر نفوسهم ، باعوا أنفسهم للمستعمر لقاء دراهم معدودة ليكونوا سوطًا علي ظهور أبناء جلدتهم – وقد عانيت شخصيًا من هؤلاء العملاء تجربة قد أشير إليها . قام " المجلس البريطاني " بطنطا – بالاستعانة بعملائه المصريين – بتلفيق قضية خطيرة ضد الإخوان المسلمين في شخص فردين من خيرة أفرادها هما الأخوان محمد عبد السلام فهمي وجمال الدين فكيه وحشروا معهما خمسة أفراد آخرين .. والتهمة التي وجهوها إليهم " أنهم يعدون جيشًا للترحيب بمقدم " رومل " القائد الألماني الشهير ، وأنهم يحدثون بلبلة في الأفكار ، ويعدون عناصر معادية للخلفاء " – ولما كانت البلاد في حالة حرب مع الأعداء فقد طالبت النيابة بإعدامهم . وسميت هذه القضية بالجناية العسكرية العليا رقم 882 لسنة 1942 قسم الجمرك وستأتي الإشارة إليها في موضوع قادم إن شاء الله ...

وكان بطل التحقيق في هذه القضية هو الأستاذ محمد توفيق رفقي رئيس النيابة الذي سبق التحدث عنه في المحاولة الأولي لتقديم الأستاذ المرشد إلي القضاء لما نشره في الصحف عن مطالبته بتسليح الجيش المصري وتسليح الشعب المصري . وقد قدمت القضية أمام محكمة الجنايات العسكرية العليا بباب الخلق وكانت مكونة من خمسة أعضاء برئاسة المستشار فؤاد بك أنور وعضوية المستشارين محمد توفيق إبراهيم بك وزكي أبو الخير الأبوتجي بك ( وكانوا يسمونه جارو مصر ) ومعهم اثنان من العسكريين :

ولازالت هذه القضية مائلة في خاطري مع مرور أكثر من ثلاثين عامًا عليها ، وهذه الثلاثون عامًا مليئة بالأحداث الجسام التي كانت جديرة أن تعفي عليها وتمحو من الذهن آثارها .. لكن الذي أبقاها في خاطري هو ما كنت ألاحظه من شدة اهتمام الأستاذ المرشد بها ، حتى إنه كان مواظبًا علي حضور جميع جلساتها ، ولم يكتف بذلك بل كلفني بالمواظبة كذلك علي حضور جلساتها وبأن أكون مجموعة من الإخوان تحضر أيضًا وتكون مهمة كل واحد منهم أن يكتب كل ما يحدث في الجلسة وكل لفظ يقال فيها علي أن أجمع كتاباتهم في كل يوم وأستخرج منها صورة كاملة عن الجلسة أقدمها إليه ، وعلي ضوئها يكتب ملاحظات يقدمها لهيئة الدفاع لتستعين بها في إعداد دفاعها ، وكان الأستاذ يقول لي : " إن هذه القضية تؤرقني لأنها قد أعدت إعدادًا محكمًا ، واختير لها وقت يبرر كل إجراء استثنائي ، فالمحكمة عسكرية والمحقق خادم الانجليز ، وشهود الزور تحت يد الانجليز ، والحكام المصريون لا يكنون لنا خيرًا ، وإذ حكم علي فكيه وعبد السلام فسيكون ذلك قضاء علي الدعوة ، فالشعب لازال في غفلة ، ويستطيع الحكام اعتمادًا علي هذا الحكم أن يلوثوا سمعتنا واتخاذ ما يحلو لهم من إجراءات ضدنا " .

اتصل الأستاذ المرشد بأشهر المحامين في مصر وطلب إليهم الحضور في هذه القضية ، وترك لهم أن يحددوا أتعابهم كما يشاءون ، علي أن يولوا القضية كل اهتمامهم ... ولكن هؤلاء المحامين رفضوا أن يتقاضوا أتعابًا وتطوعوا مشكورين ، وأذكر من هؤلاء المحامين الأساتذة محمد علي عليوة باشا وعبد الرحمن البيلي بك ومحمد فريد أبو شادي بك وعمر التلمساني وعلي منصور ... ومع أن هذه المجموعة من أعلام المحاماة لم تجتمع في قضية من قبل فإن الأستاذ المرشد .. رغبة في إتمام دعم هيئة الدفاع – تاقت نفسه إلي محام كان بعد ذلك الوقت الحجة التي يرجع إليها في معضلات القانون سواء إليه شخصياً أو إلي مؤلفاته وكان عميدًا لكلية الحقوق واستقال لا ليترافع وإنما ليستشار في المعضلات ذلك هو الأستاذ علي بدوي بك . كان الأخ محمد فهمي أبو غدير تلميذه ، وهو الذي لفت نظر الأستاذ المرشد إليه ، ولكن أني لنا أن يصل إلي قلبه لاسيما ونحن لا نطلب منه مجرد استشارة بل نريده أن يتبني القضية ويترافع فيها ، وكان فهمي يلمس فيه نزعة إسلامية لكنه لا يجرؤ أن يتفاهم معه فيما نطلب ... وفيما نحن تقلب الأمر تذكر عبد الحكيم عابدين أن الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون هو خال علي بك بدوي .. وعبد الحكيم أيام كان غارقاً في بحار التصوف كانت له صلات قوية بكبير أسرة آل أبي العيون الشيخ محمد أبو العيون لأنهم أهل بيت علم وتصوف فانبري عبد الحكيم لحمل مسئولية موضوع علي بك بدوي ... وباتصال عبد الحكيم بخاله الأكبر الشيخ محمد أبو العيون وبشرح دعوة الإخوان لعلي بك وسط ظروف القضية والكشف عن أبعادها وهدف الانجليز من ورائها قبل علي بك أن يتبني القضية ويدافع فيها دون مقابل .

وقد قضي الإخوان الكريمان فكيه وعبد السلام فترة الحبس علي ذمة القضية ثمانية أشهر في سجن الحضرة بالإسكندرية ، ولما حان موعد تقديمهما إلي القضاء نقلا إلي سجن الاستئناف بالقاهرة . وقد استغرقت المحاكمة جلسات كثيرة لا أذكر عددها الآن ، وكانت كل جلسة تستغرق اليوم كله .. وكان الذي يحيرني هو وجه رئيس المحكمة فؤاد بك أنور ، فقد كنت حريصًا علي أن ألاحظ ملامح وجهه وما تتركه المفاجآت التي تحدث في أثناء الجلسات من آثار علي هذه الملامح ، لعلها توحي إلينا باتجاه هذا الرجل ، ولكنني لم أكن أري في هذه الملامح تغيرًا حتى أنني كنت أقول للأستاذ المرشد كأن وجه هذا الرجل وجه تمثال . وكان في القضية كثير مما يثير سواء في شهادة الشهود المملاة عليهم أو في مهاجمة الدفاع لهؤلاء الشهود لإظهار بطلان شهادتهم أو في مرافعة النيابة وما كالته للإخوان من تهم الخيانة العظمى وما طالبت به من تطبيق مواد الإعدام .. والذي يسمع مرافعة النيابة وما دعمت به من أدلة ومضبوطات وشهادة شهود يفهم أن هذه المرافعة ليست مرافعة رئيس النيابة الذي يقرأها بل هي خلاصة جهود متعددة تضافرت علي تضييق الخناق حول أعناق هؤلاء المتهمين بقصد الإيقاع بما وراءهم من هيئة هي بيت القصيد .

وقد شهدت جلسات القضايا مختلفة ، واستمعت إلي الدفاع فيها ، فلم أر ولم أسمع مثل هيئة الدفاع في هذه القضية ، كان المحامون مستميتين في الدفاع كأن المتهمين أبناؤهم ، وكانوا يفهمون أنهم لا يدافعون عن هؤلاء المتهمين وإنما يدافعون عن هيئة الإخوان المسلمين التي اقتنعوا – قبل أن يقبلوا الوكالة في الدفاع عنها – أنها النبت الطاهر النقي الوحيد في هذا البلد الذي يؤمل في إنقاذ البلاد علي يديه ، والذي تضافرت جهود كل ذوي السلطة من داخل البلاد وخارجها علي تدمير والقضاء عليه قبل أن يكبر ويغلط ويستوي علي سوقه . وهنا كلمة حق يجب أن تقال هي أن السلطات المصرية والبريطانية مع كل ما كانت تدمغ به من ملوك الكثير من وسائل العبث والإفساد ، فنها لم تمد يد عبثها إلي القضاء ، فإن قدسية القضاء كان لها في نفوس الجميع رهبة وتوفير واحترام حتى نفوس هؤلاء العابثين ... نعم إنهم وجدوا من رجال النيابة من باع نفسه لهم ولكن صمام الأمان وهو القضاء نفسه كان سليما مصونًا ، وكان القاضي يري نفسه السلطة العليا فوق كل السلطات كما كان الناس جميعًا حكامًا ومحكومين يرونه كذلك .

ولما جاء دور الأستاذ علي بدوي في المرافعة – وكان آخر المترافعين علي ما أذكر – جاء في سياق مرافعته بصدد ما ورد في بعض الأوراق المضبوطة من عبارات عن قنابل ومتفجرات ونحوها تعليلات طريفة فحواها أن الشعوب والأفراد تتأثر لغة تخاطبها سواء بالكلام المنطوق أو المكتوب بما تعيش فيه من ظروف ، فظروف الحرب المستعمرة التي نعيشها تركت طابعها علي تعبيراتنا فتشبيهاتنا واستعاراتنا وكتاباتنا تلمح فيها أسماء الآلات الحربية فتسمع أو تقرأ أن فلانا ألقي بالأمس قنبلة أو فجر ديناميتًا والقصد من ذلك أن هذا الفلان جاء في حديثه بمفاجأة وأن فلانا فرق جمعًا من خصومه ،وقال : لا يجوز في وقت الحرب كالذي نعيش فيه أن نحمل هذه الألفاظ وهذه العبارات علي ظاهرها وأن لا يستنتج منها معان كانت تؤديها في وقت السلم ، وقدم إلي المحكمة عددًا من " المصور " بعد أن قرأ منها عبارات من هذا القبيل وردت في مقال كاتب من كتابة ، وقال لو أننا أخذنا بهذه الألفاظ وهذه التعبيرات علي ظاهرها لقدمنا هذا الكاتب إلي محكمة الجنايات .

أما بحوث الأستاذ علي بدوي الفقهية في تفنيد شهادة الشهود وما أجري من التفتيش وتحقيق فكانت مستفيضة وكان يستشهد بفقرات من كتبه وكتب غيره ، وكانت المحكمة تنصت إليه باهتمام شديد وكثيرًا ما كان رئيس المحكمة وعضواها يستعيدونه مقاطع من المرافعة يدونوها في أوراق أمامهم ، لأنه ذو صوت خفيض ، ولولا السكون التام الذي كان يخيم علي قاعة الجلسة ما سمعه أحد ، ولعل مكبرات الصوت لم يكن مسموحًا بها في داخل الجلسات في ذلك الوقت – وكان استماع المحكمة إلي الأستاذ علي بدوي كاستماع المغرمين إلي مطرب قد أخذ بألبابهم ، مما يدل علي شغف رجال القضاء في ذلك الوقت بالبحوث الفقهية العميقة دون الوقوف عند السطحيات والقشور وشقشقة الكلام . وبعد انتهاء المرافعات أعلنت المحكمة رفع الجلسة للمداولة لإصدار الأحكام واستمرت المداولة نحو ساعة كانت علينا وعلي الأستاذ بالذات أطول من أعوام الخطورة ما ستتمخض عنه هذه الساعة من كلمات معدودة ينطق بها رئيس المحكمة تقرر مصير هذه الدعوة المرهون بهذه الألفاظ ... وانتهت المداولة وخرجت هيئة المحكمة بكامل أعضائها ووقفنا جميعًا ونطق رئيس المحكمة بالأحكام وفي صدرها براءة فكيه وعبد السلام فهتف الجميع الحاضرين " يحيا العدل " وكأنما كان هذا الحكم بعثًا للأستاذ من مرقده ، فاتجه مستبشرًا إلي المحامين فهنأهم وهنأوه وعانقهم وعانقوه .

وفكيه وعبد السلام كانا " قطبين " من أقطاب الدعوة في طنطا ، وكان فكيه موظفا ببلدية طنطا ، وكان عبد السلام مهندسًا في مصلحة الطرق والكباري بها ، وقد سافر إلي انجلترا بعد ذلك وحصل علي الدكتوراه وعمل أستاذًا بكلية الهندسة بأسيوط ثم عميدًا لها ثم وكيلا لجامعة الأزهر .

وزيادة في خطورة المجالس البريطانية التي لفقت هذه القضية أذكر أنني حين عينت في دمنهور سنة 1941 كنت أغشي المجتمعات فيها وأتحدث عن دعوة الإخوان المسلمين وكانت المقاهي ضمن هذه المجتمعات ... وكان زملائي في العمل والأقدم مني وجودًا في دمنهور يحيطون بي ، حيث كان لهم معارف وأصدقاء من مختلف الطبقات . وجاءني زملائي في يوم من الأيام وطلبوا إلي أن أتوقف عن غشيان هذه المجتمعات فترة ، فسألتهم عن السبب فقصوا علي قصة مؤداها أن مؤامرة قد حبكت للإيقاع بي عن طريق شخص مثقف من أسرة كريمة من أسر دمنهور ويعمل صحفيًا – وذكروا لي اسمه – وفي نفس الوقت يعمل عميلا للمجلس البريطاني بالبحيرة ، سمعني هذا الشخص أتحدث في إحدى المقاهي وتناول حديثي الانجليز ، فكتب تقريرًا يتهمني فيه بمهاجمة الانجليز ومعاداة الحلفاء وسمعه زملائي يسأل بعض الحاضرين عن اسمي وعن وظيفتي فتنبهوا إلي غرضه وحاولوا أن يثنوه عن عزمه من تقديم التقرير إلي المجلس البريطاني – وكان التقرب إلي الانجليز في ذلك الوقت من التفاخر به – لكنهم عجزوا عن ذلك ، و تذكروا أن هذا الشخص شقيق خياط كلهم كانوا زبائنه فذهبوا إليه وقصوا عليه قصة أخيه وفهم الخياط أن هذا التصرف من أخيه إذا تم فإنه سيفقده أكثر عملائه فذهب إلي أخيه وأرغمه علي العدول عن تقديم التقرير ومزقه بنفسه .

محنة أولي القربى أو الفتنة الثانية

إن تقدير الإخوان للأستاذ المرشد ، وحبهم إياه ، وتفانيهم في حبه ، وإثاره علي أنفسهم كان هو الشعور الغامر النابع من كل قلب ، وقد كنا نقرأ عن مدي حب الصحابة رضوان عليهم لرسول الله صلي الله عليه وسلم فكنا نظن ذلك مغالاة من الرواة حتى قام هذا الرجل – حسن البنا – بدعوته ، وتعرفنا عليه ، وسرنا معه ، وعاملناه وعاشرناه فرأينا في خلقه وحديثه وتوجيهاته ومعالجته للأمور صورة مصغرة من حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم فأحببناه وازددنا مع الأيام حبًا له وتفانيًا في حبه ، فاستطعنا حينئذ أن نفهم ونتصور ما رواه الرواة عن مدي حب الصحابة لرسول الله صلي الله عليه وسلم وأن ما رواه الرواة لم يكن مغالاة ولا تهويلا بل كان مجرد إشارة إلي معان يعجز التعبير عن تصويرها .

لم يكن الرجل يعيش لنفسه ،ولم يكن يدخر مالا ولا جهدًا ولا وقتًا ولا صحة دون دعوته وأذكر بهذه المناسبة أنه أبلغ وهو بالمركز العام بأن السيدة قرينته قد اشتد عليها المرض فطلب بالتليفون الدكتور الغمراوي – وهو الطبيب الذي كان يعالج الأسرة – ولما حضر الطبيب صحبته إلي المنزل ، وبعد إجراء الكشف أخذ الطبيب في كتابة روشتة الدواء ، فمال علي الأستاذ وطلب مني جنيها سلفة وأعطاه للطبيب ، ذلك أنه كان يجعل مرتبه للدعوة لا ينتقص منه إلا ما يكفي الضرورات الأساسية للبيت الذي كان يعيش أدني عيشة يعيشها بيت في مستواه ... ولا يفوتني أن أذكر أن الأستاذ في أول الشهر التالي أصر رد السلفة إلي مع أنني كنت أقول له إننا نعتبر بيتك جزءًا من الدعوة . كان يعيش لدعوته ، وما فهمت معني قول عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله صلي الله عليه السلام فقالت " كان خلقه القرآن " إلا بعد أن عايشت هذا الرجل وعاشرته فرأيت كلامه وصمته وحركته وسكونه ويقظته ونومه وحبه وبغضه وكتابته وقراءته وفكره كلها للإسلام فكنا نراه الإسلام في صورة بشر .. عرفنا رجالا قبله وبعده دعاة للإسلام لكن الإسلام لم يكن يشغل إلا جانبا من حياتهم وكانت أمور أخري تشغل الجوانب الأخرى ... أليس القرآن الذي كان خلق النبي صلي الله عليه وسلم هو الذي أشار إلي معني التخلق بالقرآن حيث قال " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له " ؟ .

ألمحت هذه الإلماحة السريعة لأوضح كيف يحب الإخوان أستاذهم وإلي أي مدي يحبونه ويتنافسون في الحظوة برضاه ، باعتبار رضاه من رضا الله عز وجل فهو لا يحب إلا لله ولا يرضي إلا لله ... وكان للأستاذ في ذلك الوقت ولد وبنتان وكانوا صغارًا ،وكان له شقيقتان ، فاتجهت أنظار الإخوان المؤهلين للزواج في ذلك الوقت إلي شقيقته الكبرى ، وتنافس الكثيرون في السعي للخطوة بهذا الشرف ، وكل منهم يعتقد أن له من المكانة في نفس الأستاذ ما يجعله أهلا للخطوة ، ولم يكن أحد يجرؤ علي طلب ذلك صراحة بل كان تلميحًا – وكنا نحن – من أمثالي الدين لم يكونوا بعد مؤهلين للزواج – نرقب هذا التنافس ولا نعرف أي المتنافسين سوف يحظي بما يأمل . وأنا بحكم ما بيني وبين عبد الحكيم عابدين من اتصال دائم كنت أعلم أنه قد دخل هذه الحلبة وقد أسر إلي بذلك طالبًا مني الرأي ... ولم يكن طلبه الرأي مني فيما إذا كان اختياره هذه الزوجة مناسبًا أم يعدل إلي غيرها ، وإنما كان طلبه الرأي فيما إذا كنت أراه هو مناسبًا أم غير مناسب ، وقد أحسست في عرضه الأمر علي ، وطلبه الرأي مني أنه يريد يسمع مني ما يشجعه علي المضي في هذا السبيل . وقد سمع مني فعلا ما يريد ... غير أني كنت أري في قرارة نفسي أن دون تحقيق ذلك لعبد الحكيم خرط القتاد ، فالطلاب كثيرون والضغوط علي الأستاذ المرشد من كل جانب وعبد الحكيم هو أقل الطالبين مالا وأدناهم مركزًا ومكانة في المجتمع ؛ إنه في ذلك الوقت لم يكن يملك ما يصلح أن يكون مهرًا فلا مورد له إلا مرتبه من وظيفته المتواضعة في إدارة الجامعة ومع ذلك فهو مطالب بمسئوليات مالية لأهله – كما أشرت من قبل – والأستاذ المرشد يعلم ذلك - ... لا مؤهل لعبد الحكيم إلا مواهبه الشخصية وما قدمت في فصل سابق من هذه المذكرات من أنه أول أخ تخرج في الجامعة وبايع علي أن يجعل مستقبله رهنا بمطالب الدعوة مع أنه كان أحوج الحاضرين وأقدرهم علي تنمية موارده لاحتياج أهله إلي هذه الموارد .

وكانت المفاجأة أن اختار الأستاذ المرشد عبد الحكيم زوجًا لشقيقته .. فقوبل هذا النبأ في الظاهر بما يشبه الرضا من الجميع ، ولكنني كنت أحس بأن هناك نفوسًا قد أصابها هذا النبأ بشعور من خيبة الأمل .. ومع ذلك فلم أكن أعتقد أن هذا الشعور سيؤدي إلي كوارث . وقد ذكرني اختيار المرشد لعبد الحكيم دون الآخرين بسعيد بن المسيب رضي الله عنه حين طلب إليه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أن يزوج ابنته لأبنه فأعرض عن ذلك وزجها تلميذه الفقير عبد الله بن أبي وداعة الذي سأله سعيد . لِم لم تتزوج ؟ فقال له : ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة .

وقد انقسم الإخوان إزاء هذه المفاجأة ثلاثة أقسام :

قسم تلقي هذه المفاجأة بالإجلال والإعجاب لأنها هي نظرة المؤمنين الصالحين حين يختارون لبناتهم . وهذا القسم هو الكثرة العالية من الإخوان .

وقسم أصابته المفاجأة بخيبة أمل حيث أخطأه الاختيار وكان يتمني أن يكون هو المختار .. وهذا القسم هو مجموعة من شبان الإخوان المؤهلين للزواج والذين عرضوا أنفسهم وهم عدد قليل .

والقسم الثالث أصابته المفاجأة بخيبة أمل مع أنهم لم يرشحوا أنفسهم ولم يكونوا صالحين لذلك لأنهم في سن الكهولة ولهم بيوت يعولونها ولكنهم كانوا يتمنون أن لا يتم هذا الزواج لعبد الحكيم بالذات ، لأنهم يعرفون أن عبد الحكيم ذو مواهب تؤهله للبروز في المجتمع ، ولما كانوا هم يشغلون المناصب البارزة في الدعوة ، فقد يزاحمهم عبد الحكيم في هذه المناصب لاسيما واختيار الأستاذ المرشد لعبد الحكيم دليل علي ثقته في هذه المواهب .

وهناك قسم رابع نشأ بعد ذلك كانت مهمته استغلال القسمين الثاني والثالث لتحقيق أغراض في قرارة نفسه أكثرها سياسي وبعضها شخصي .

ولما كانت شخصية المرشد لها من الإجلال في النفوس ما لا يجرؤ معه أحد علي النيل منه ، كما أن مسلكه في مقدرته الفائقة علي توزيع عواطفه علي جميع الإخوان توزيعا يملأ نفوس الجميع لم يتح لأحد أن يجد فيه ثغرة ينفذ منها إليه ، ولا مغمزًا يغمز به ، فكان لابد إذن من البحث عن سبيل آخر لإيذائه عن طريق ملتو غير مباشر ، وكان الطريق هو محاولة تجريح شخصية عبد الحكيم والنفوذ من ذلك إلي تجريح الدعوة نفسها . وسأعرض الآن لواحدة من هذه المحاولات كان مبعثها مبعثا شخصيًا ،وقد بدأت أحداث هذه المحاولة منذ كانت الدعوة في ميدان العتبة وبدأ الطلبة يقبلون علينا وكنا نحسن استقبالهم ونوليهم كل ما نستطيع من اهتمام وعناية وكان من هؤلاء الطلبة طالب في كلية الآداب اسمه (ع.س.أ) ... استقبلناه كغيره من الطلبة ولكني رأيته مقبلا بشكل ملحوظ علي عبد الحكيم عابدين مما جعلني أرتاب فيه ، ولكن هذا الشعور لم يجعلني أقصر في حقه فكنت أعامله كما أعامل زملاءه ... غير أني رأيت عبد الحكيم يوليه من العناية أضعاف ما يولي زملائه – وعبد الحكيم كما قدمت إنسان كله عاطفة ، فما كاد يشعر بإقبال هذا الطالب عليه حتى غمره بسيل من عواطفه فكان كلما قابله قابله بالعناق ، وكنت أفتقد عبد الحكيم فإذا لقيته سألته أين كنت بالأمس فيقول لي كنت عند الأخ (ع) في بيتهم ... وقد أوسع عبد الحكيم له في مجلة النذير فكان يكتب المقالات تمجيدًا في الإخوان المسلمين وإشادة بهم .

لم يكتف عبد الحكيم بأسلوبه العاطفي المتطرف الذي يتعامل به مع هذا الأخ بل جاء يعاتبني في عدم إقبالي عليه بنفس أسلوبه وأخذ يذكر لي مزايا هذا الأخ الأدبية وحماسه المتأجج للدعوة وأسلوبه في الكتابة ، وأخذت أذكره بما سبق أن قلته له من قبل منذ كنا في دار شارع الناصرية وبما حذرته منه من شعور البداوة الذي نشأ عليه والمبني عن حسن الظن المطلق بكل الناس وفي كل الظروف ومن مظهر هذا الشعور البدوي من التغالي في الحب والعناق في كل لقاء وإباحة بيتك لكل من أحببته يدخله في غيابك وحضورك ، ودخولك بيوتهم كأنها بيتك ، ومعاملتك أهليهم كأنهم أهلك ، وقلت له : كل ذلك لا أرضاه .. وقد أرضاه إذا ضمنت لي أنك تعيش في بيئة أو مجتمع من الملائكة المنزهين عن الأهواء المطهرين من سوء الظن وسوء النية .. أما المجتمع الدنيوي الذي نعيش فيه فهو الطيب والخبيث ، وقد ينقلب الطيب خبيثا ، و قد ينقلب الخبيث طيبًَا ، فلا ينبغي أن ننطلق في عواطفنا انطلاقا لا حدود له مهما سمت هذه العواطف وذكرته بوصية رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك " أحبب حبيبك هونًا ما ، عسي أن يكون بغيضك يومًا ما ، وأبغض بغيضك هونًا ما ، عسي أن يكون حبيبك يومًا ما " .

واشتد الحوار بيني وبين عبد الحكيم ورماني في نهايته بأن معاملتي " الرسمية " للإخوان لاسيما الجدد منهم من أمثال هذا الأخ تنفرهم من الدعوة فقلت له : إنني لا أعامل أحدًا معاملة رسمية كما تدعي بل إنني أعطي كل إنسان حقه في حسن اللقاء ، وكل ما أحاوله هو أن أقتصد في عواطفي ، فالمصافحة عند اللقاء تكفي ، والعناق عند الرجوع من السفر أو بعد الغياب الطويل لا بأس به ، والزيارة في البيوت بدعوة ملحة من صاحب البيت كما يقولون " زر غبًا تزدد حبًا " وكررت تحذيري متمسكًا بطريقتي في المعاملة . وغادر عبد الحكيم الغرفة التي كنا نتلازم فيها من المركز العام وهو مصر علي أنه يسلك الطريق الإسلامي الأقوم ... وشاب ذو نفس شاعرة نشأ في بيئة بدوية ثم تلقفته الصوفية بأشد طرقها تصفية للنفس ثم اتصل بدعوة الإخوان المسلمين التي تضع مرتبة الأخوة في الدعوة فوق مرتبة الأخوة في الدم ، شاب كهذا قلما يعدل عن خطته في الاندفاع بعواطف الأخوة والحب التي تتأجج بين جوانحه إلا بكارثة .

وانتقلت الدعوة إلي الحلمية الجديدة ، واستمر عبد الحكيم في اندفاعه الذي كان يجد له تجاوبًا من الطرف الآخر ، ولا أدري لم كان هذا التجاوب الذي لا أجد مبرراته متوفرة في هذا الطرف بل كنت أري فيه معني التصنع وأشم منه رائحة الاستدراج ، وظللت كعادتي أسأل عن عبد الحكيم في بيته فلا أجده المرة تلو المرة ثم أقابله فيخبرني بأنه كان في بيت هذا الأخ . ومرت الأيام وأعلنت خطوبة عبد الحكيم لشقيقة الأستاذ المرشد ، فكان هذا الإعلان بمثابة إعلان حرب لا هوادة فيها علي عبد الحكيم أو قل في الحقيقة علي الدعوة نفسها ولكن اتخذ عبد الحكيم قميص عثمان . انقلب هذا الأخ الذي أشرت إليه انقلابًا فجائيًا علي عبد الحكيم وخاصمه بغير مقدمات واتهمه بأنه قد اتخذ صداقته له وأخوته معه وسيلة إلي مداعبة شقيقته .. وبغير مقدمات رأينا هذا الأخ يعلن مقاطعته للمركز العام وتبرأه من الدعوة مالم يبتر منها عبد الحكيم ...

مفاجآت وجدت آذانًا صاغية من أولئك الذين أشرت إليهم في القسمين الثاني والثالث ، وجدت هذه الاتهامات الفجائية هوى في نفوسهم فقاموا يروجونها وينشرونها بطريقة مثيرة ،وعادت إلي الذاكرة حادثة الإفك " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ، لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم ، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولي كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذه إفك مبين " . ولما كان الأستاذ المرشد يعلم عن عبد الحكيم ما أعلم ، كما أنه كان يتوقع أن يكون لإعلان خطوبة عبد الحكيم لشقيقته آثار لابد أن تمس بعض القلوب ، فإنه لم يرعه من هذه الحملة الفجائية إلا كونها جاءت بغير مقدمات وبطريقة مفاجئة تحس معها أن أصحابها قد فقدوا رشدهم فتخلوا عن أدني مبادئ الأدب والحياء .

جاءني عبد الحكيم وهو يكاد يموت غمًا وقال لي ، لقد فهمت الآن أنك كنت علي حق ، وأنك كنت أبعد مني نظرًا ، وأنني لم أكن إلا أبله لا أدري ما يراد بي ، ولا ما يدبر لي ؛ لقد خالفتك وأخلصت لهذا الأخ وجعلت له من نفسي وقلبي مالم أجعله لأشقائي ؛ فكان يدعوني لي منزلهم وعرفني بوالده ووالدته وإخوته وأخواته كما دعوته إلي بيتي كما تعلم ، وتوالت دعواتهم لي حتى إن والديه يدعوانني دونه ؛ وكنت أعتبر والديه والدي وإخوته وأخواته إخواني وأخواتي .. ومرضت شقيقته الكبرى مرضًا خطيرًا ، ولما كانوا يعرفون عن صلتي بالأطباء (كان لعبد الحكيم صداقة وطيدة مع أشهر أطباء القاهرة وكان محببا إلي نفوسهم إلي الحد الذي كانوا يستجيبون له إذا طلبهم بليل أو نهار حيث كان دون أن يتقاضوا أجرًا ، ولم يكن يطلب أحدا منهم لنفسه ولا لذويه إلا نادرًا ، وإنما كان يطلبهم لعلاج من يلجأ إليه من الإخوان) استغاثوا بي وطلبوا إلي أن استدعي لهم طبيبًا كبيرًا معينًا ففعلت واستمر العلاج ولكن المرض قد استفحل حتى صارت الفتاة هيكلا عظيمًا بلا لحم ولا دم ، وعلا وجهها شحوب الموت حتى إن أمها وأخواتها عافوها وابتعدوا عنها ، وشعرت الفتاة بذلك فصارت تبكي وتنعي بنفسها ، وهنا اضطررت أن أجلس بجانبها ، مع أنني في قرارة نفسي باعتباري بشرًا كأي بشر متقزز من منظرها ومن رائحتها ،ولكنني كنت أحاول أن أرفع من روحها ، وأعيد إليها ثقتها في الحياة – ولقد كان والداها وإخوتها وأخواتها – ومنهم هذا الأخ – يشكرونني علي أداء هذه الخدمات الإنسانية التي عجزوا هم عن أدائها .

قال عبد الحكيم : وبتفاني أصدقائي الأطباء في علاجها ، وبما اتبعته من أساليب لرفع معنوياتها تحسنت حالتها ، ودبت فيها الحياة من جديد ... وحتى آخر يوم كنت موضع إجلالهم جميعًا ، ولا حديث لهم إلا حول اعترافهم بجميلي عليهم ، وبإنسانيتي التي فاقت ما عرفوه من إنسانية . قال : وفي اليوم التالي ذهبت كالمعتاد لزيارتهم فرأيت وجومًا علي وجوههم حتى خيل إلي أن الفتاة ماتت ، ولكنني رأيتها بخير ، وحاولت أن أعرف سبب الوجوم فلم أستطع فخرجت وأنا في حيرة من هذا التبدل المفاجئ ، واستعرضت كل تصرفاتي معهم لعلي أذكر شيئًا بدر مني فأغضبهم فلم أجد إلا تقديرًا منهم لكل كلمة قلتها أو تصرف أتيته ، فعزمت علي أن أسأل نجلهم الأخ (ع) حين ألقاه ليلا بالمركز العام كالمعتاد فلم أجده حضر ولكنني سمعت قالة سوء توجه إلي منسوبة إليه . ولا يردد هذه القالة شخص واحد بل ترددها مجموعة معينة بطريقة تشعر بأنها مبيتة ومدبرة ... ولم أصدق أنه هو قائلها في أول الأمر لكنني تبينت أنه هو مصدرها وأنه هو الذي باء بإثمها ، وأنني لم أكن حتى تلك اللحظة إلا سادرًا في حسن ظني متجللاً برداء غفلتي ولم أتنبه من غفلتي إلا الآن ، فإن اليوم الذي في مسائه قلبوا لي ظهر المحن هو نفس اليوم الذي أعلن في صباحه نبأ خطوبتي لشقيقة الأستاذ المرشد ، وما كنت منتظرًا منهم إلا أن يقابلوني بالبشر والتهاني والتبريك .

وعبد الحكيم المشبوب العاطفة ، المتصوف ، الشاعر ، البدوي ؛ لم تكن هذه الصدمة لتقف به عند حد إفاقته من غفلته ، ورد رشده إليه فحسب ، بل إنها قذفت به علي الطرف الآخر البعيد ؛ فإذا به يقرر أن يعتزل الناس لأنه فقد الثقة فيهم ؛ فانقطع عن المركز العام وعن غشيان أي مكان آخر ما سوي بيته وعمله ، وهجر أصدقاءه وأحباءه ومعارفه وحتى أهله ، وعكف علي الصيام المتصل والقيام بالليل تكفيرًا عن زلته بإفراطه في حسن الظن بالناس .. ولما طال انقطاعه ومضي أكثر من شهر زرته في بيته أو بمعني أدق في معتكفه وعاتبته علي هذا الأسلوب فقال لي : ما كنت أعتقد إلا أنك آخر من يعاتبني في ذلك ؛ فالذي أفعله الآن إلا تكفير لمخالفتي لنصيحتك . قلت ، ولكن التكفير لا يكون بالانتقال من النقيض إلي النقيض ،وانقطاعك عن المجتمع لا يقل ضررًا عن أنهماكك فيه مندفعًا بغير حدود ، ولكن المطلوب هو التزام الوسط في كل الأمور .. ومازلت به حتى أنهي اعتكافه وصومه ورجع إلي المجتمع ولكن بعد بضعة أشهر قطع في خلالها شوطًا بعيدًا في حفظ القرآن أو لعله أتم حفظه .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، وإنما امتدت آثاره وتشعبت إذ صار عداء للدعوة يظهر في صور مختلفة من ابتعاد عن الدعوة إلي استقالات إلي اعتكاف مجموعات تجتمع في البيوت والكل يشيعون قالة السوء بغير علم ، وكلما وجدوا عدوًا للدعوة لاذوا به وظاهروه عليها متناسبين قول الله تعالي " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينا " . ويبدو أن بسط القرآن لقصة الإفك ؛ وجعلها صدر سورة من سوره ، والإسهاب في سرد تفاصيلها ، وتحليل مواقف الفئات المختلفة فيها ، والتهديد بأقسى العقوبة لمثيريها وللراتعين فيها وحتى للذين يلذ لهم مجرد الاستماع إليها ثم يخرج من ذلك كله بتحذير مزلزل فيقول " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " ... هذا السرد المفصل في أبرز موضع من السورة يوحي بمدي خطورة هذا الأمر كما يوحي بأن الدعوة الإسلامية في مختلف العهود وعلي مر الزمن عرضة لتكرار مثل هذه الحادثة فيها ولذا حذر جل شأنه من تكرارها بقوله " إن تعودوا لمثله أبدًا " وقرن العودة إلي مثلها بالتخلي عن الإيمان بقوله " إن كنتم مؤمنين " ثم أشار لي اهتمامه بالتفصيل والتوضيح لخطورة العواقب بقوله " ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " .

ذلك أن الدعوات الإصلاحية عامة والدعوة الإسلامية خاصة إن هي إلا مجتمعات يتفاعل بعضها مع بعض ، وهذا التفاعل مع اختلاف المشارب ، وتباين البيئات ، وتنوع الآمال ، يؤدي بطبيعته إلي شيء من خلاف في الرأي أو التنافس علي أمل أو تسابق إلي منصب ، وقد يورث مثل ذلك في بعض النفوس الضعيفة العداء ويوقظ فيها الحيطة والحقد ... وحين تفكر هذه النفوس الضعيفة في الانتقام من المخالف أو المنافس أو المسابق لا تجد أمامها وسيلة أيسر ولا أسهل ولا أقل تكليفًا من النيل منه بكلمة يرسلونها في عرضه لا تكلفهم شيئًا ولا تقتضيهم جهدًا ولكنها كافية إ1ذا وجدت آذانًا ممن في قلوبهم مرض أن تهدر كرامته وتهوي به في المجتمع إلي الحضيض بل تخرجه من المجتمع منبوذًا .. فإذا كان هذا المنافس ركنًا من أركان الدعوة دعوة انهارت الدعوة بانهياره وقضي عليه وعليهما معًا .

ولقد وقفنا مع الأستاذ المرشد إزاء هذا الهجوم الغادر الوقفة التي يرضاها الله تعالي ولا يرضي سواها ؛ ظننا بأنفسنا خيرًا كما أمر الله عز وجل في هذا الموقف حيث يقول " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين " وكنا كما تمني القرآن الكريم أن يكونه المجتمع الإسلامي إذ يقول : " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " فتولي الله تعالي عنا رد كيد الكائدين في نحورهم وكفي الله المؤمنين القتال وخرجت الدعوة من هذه الفتنة مرفوعة الرأس بأدنى قدر من الخسائر التي هي في حقيقة أمرها تخليص للدعوة من خيال علق بها " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين " .

المؤتمـر السـادس

كان المؤتمر السادس هو آخر المؤتمرات العامة للدعوة كما أشرت إلي ذلك من قبل ، ذلك أن الإخوان بعد ذلك قد كثروا وتشعبوا إلي الحد الذي لم يعد مكان يتسع لاجتماعهم علي هذه الصورة ، وقد استغني عن أسلوب المؤتمرات بنظام الهيئة التأسيسية والمكاتب الإدارية وتسلسل القيادة المركزية . وقد أقيم هذا المؤتمر بدار المركز العام بالحلمية الجديدة في 11 ذي الحجة 1329 الموافق 9 يناير سنة 1941 ، وقد حضر عدد كبير جدًا من إخوان القاهرة والأقاليم وكان له صدي مدو في جميع الأنحاء . ومع أنني كنت السكرتير العام المساعد لهذا المؤتمر حيث كان الأستاذ أحمد السكري السكرتير العام فليس لدي الآن مرجع أرجع إليه في تفاصيل هذا المؤتمر غير ما بقي في ذاكرتي مع أننا طبعنا رسالة خاصة بكل ما تم فيه ووزعت علي أوسع نطاق . وقد طرق الأستاذ المرشد في بيانه في هذا المؤتمر كل الموضوعات التي تتصل بالدعوة التي طرقها من قبل في المؤتمرات السابقة لكنه طرق في هذا المؤتمر موضوعين جديدين لم يطرقهما من قبل وهما :-

الأول : الشركات الأجنبية في مصر

كان الأستاذ المرشد إذا أراد أن يعد بيانًا ليلقيه في مؤتمر من المؤتمرات الإخوانية العامة تفرغ لنفسه ساعتين أو ثلاثًا فيخرج بالبيان الكامل الشامل ... أما إعداد بيانه لهذا المؤتمر فقد أجهد نفسه فيه إجهادًا كبيرًا واستغرق منه أيامًا كثيرة وقد طلب إلينا أن نمده بمطبوعات إحصائية ضخمة صار يعكف علي قراءتها الأيام تلو الأيام ويقتبس منها البيانات الدقيقة التي جعلها صلب خطابه . وكان بيانه في هذا المؤتمر أطول بيان ألقاه في المؤتمرات . وقد تضمن لأول مرة إحصاء دقيقًا للشركات العاملة في مصر ، وبين أنها جميعًا تقريبًا شركات أجنبية ، وبين جنسية كل منها . وتحدث عن مستوي المعيشة للمصريين وقارنه بمستوي المعيشة لغيرهم .

وتناول هذا الموضوع كان فضحًا لحقيقة كانت جميع الجهات في مصر تتستر عليها فقد حدد عددها بأنها ثلاثمائة وعشرون شركة تسيطر سيطرة كاملة علي اقتصاد البلاد ، وتمتص خيراتها دون أهلها . ويخيل إلي أن تناول الأستاذ المرشد لهذا الموضوع الخطير الذي هو لب الاستعمار كان من أهم العوامل التي لفتت نظر المستعمرون لخطورة دعوة الإخوان المسلمين عليهم ، والتي بدأوا من أجلها يخططون للقضاء عليهم . وكان أول أسلوب لجئوا إليه هو تلفيق تهمة تدمغهم بالخيانة ، وقد تناولت الحديث عنها آنفًا تحت عنوان " أول محاكمة في تاريخ الدعوة " ولولا عدالة القضاء المصري وأصالته لتحقق للمستعمرين ما أرادوا . علي أن تناول لهذا الموضوع كان أمرًا لابد منه ، فما كانت دعوة الإخوان المسلمين مجرد مبادئ وأفكار وفلسفة ، وإنما هي برنامج إصلاحي شامل ، فكيف تتفادى الحديث عن عصابات تسرق قوت الشعب تحت اسم شركات وتنقله إلي بلادها وتترك هذا الشعب يتلوى جوعًا وعريًا وحفاء ... وما كانت المبادئ والأفكار لتغني مثل هذا الشعب فتيلا إذا لم تعمل علي توفير أسباب المعيشة الكريمة له ، وأول هذه الأسباب ؛ أن يعرف الشعب كيف يتسرب قوته وثمرة جهده إلي خارج البلاد .

وإذا كانت هذه الشركات قد استطاعت بمهارتها أن تقطع ألسنة الأحزاب السياسية في مصر علي اختلافها بأن انتقت كل حزب أفرادًا من أبرز من فيه وعينتهم أعضاء وهميين في مجالس إدارتها بمرتبات ومكافآت خيالية فكانت رشوة مقتنعة لم يتنبه إليها الشعب المضلل .. فإن الإخوان المسلمين بحكم إيمانهم بربهم واستمساكهم بعقيدتهم كانوا أنواع أمنع من أن تستحوذ هذه الشركات بأحابيلها وإغراءاتها عليهم فكانوا هم في إعلان كلمة الحق أحق بها وأهلها . وبقدر ما كان تناول الأستاذ لهذا الموضوع مفاجأة للشركات وللمستعمرين ولجميع الجهات المسئولة في مصر وخارج مصر ، فلقد كانت مفاجأة أيضًا للإخوان المسلمين أنفسهم الذين حضروا المؤتمر والذين قرأوا بيانه فيما بعد ؛ لأن الإخوان لم يكونوا قد اعتادوا أن يسمعوا في مؤتمراتهم إلا شرحًا لدعوتهم وتوضيحًا لمواقفهم ... ولكن القيادة الموهوبة هي التي تستطيع أن تنتقل بجنودها وأتباعها من ميدان إلي ميدان في الوقت المناسب وبالأسلوب الذي تستكمل به الدعوة خطواتها وتثبت وجودها وتحقق معانيها في واقع حياتها .

والموضوع الآخر هو الملك

وينبغي بهذا الصدد أن نذكر أن الملك فاروقاً كان حتى ذلك التاريخ لا يزال مناط آمال الشعب وموضع احترامه ، لأن سيرته مرضية ومسلكه كان مسلكًا شريفًا ، ولعل ذلك نتيجة تأثير الشيخ محمد مصطفي المراغي عليه . وقد سبق لي أن أشرت إلي هذا الرجل وقلت إنه لم يكن مجرد شيخ للأزهر كسابقيه أو لاحقيه الذين كانوا مجرد موظفين يدينون بالولاء للحكومة والملك ، بل كان شخصية ذات تأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية للبلاد وكان موضع احترام الملك فاروق وتوقيره وكان في صحبته إلي المساجد ، وهو صاحب فكرة إعلان القاهرة عاصمة مفتوحة في أثناء الحرب العالمية الثانية ، وقد أعلن ذلك وهو في صحبة الملك في أحد المساجد ، ولم يكن الانجليز يرتاحون إليه ، ولما توفي الشيخ في سنة 1945 في مستشفي المواساة بالإسكندرية ، أدي الملك فاروق صلاة الجمعة التالية في مسجد سيدي بشر وطلب من المصلين بعد أن يقرأوا الفاتحة علي روح صديقه الشيخ المراغي .. ولم يبدأ فاروق في الانحراف إلا بعد وفاة الشيخ . وحسبك أن تعلم أن فاروقاً هو الذي أمر في ذلك الوقت بجعل الهجرة النبوية من الأعياد الرسمية وأمر بالاحتفال بها وقد سجل ذلك الشاعر الكبير محمود غنيم في قصيدة له ألقاها في المهرجان الأدبي الذي أقيم بدار الأوبرا في 12 فبراير سنة 1942 حيث يقول :

ملك إذا الإسـلام عـد حمـاته

كان للطليعـة في صفـوف حمـاته

نور الصلاح يلوح فوق جبينـه

والشـعب يصلحـه صلاح ولاتــه

الله أكبر هـل بصرت بركبـه

يمـشي الهوينـا غاديـًا لصـلاتـه

والشعب يدعو الله خلف ركابـه

حتى يهز العـرش من دعــواتـه

فكأنه فاروق يثرب نفســـه

يسـعي بمـوكبـه إلي جمـعاتــه

قل للمشيد بعيـد هجرة أحمـد

جـددت عهد الفتـح بعـد فـواتـه

هذا جهــاد في سبيل الله مـا

نضـج الـدم القاني علي رايـاتـه

معذرة للقارئ في هذا الاستطراد قبل أن أدخل في الموضوع الذي أنا بصدده فقد أحببت أن أسجل تاريخًا لعل أكثره قد حجب عن شباب هذا الجيل بسوء قصد فقد درج حكامنا علي سنة أهل النار " كلما دخلت أمة لعنت أختها : فلكي ينسب حاكم نفسه إلي الفضل لا يرضيه إلا مجرد سابقيه من كل فضل .. أما نحن – الإخوان المسلمين – فلا تستبيح تزوير التاريخ من أجل إبراز فضل لنا ، ولا نبالي أن نشيد بمحاسن أعدائنا إن كان لهم محاسن لأننا ملتزمون بقول الله تعالي " ولا يجرمنكم شنآن قوم علي أن لا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى " .

وليس معني هذا أننا ننكر أن فاروقاً هذا تولاه بعد ذلك شياطين الإنس من رؤساء أحزاب وبطانة فاجرة فصنعوا منه شيطانًا فباءوا بإثمه وإثم ما حاق بالبلاد من انحطاط وتدهور ودمار ... ولكن الحقبة التي انعقد فيها المؤتمر السادس للإخوان كان فاروق علي ما وصفنا ، فتعمد الأستاذ المرشد أن يفسد علي الانجليز وأذنابهم محاولاتهم في إيغار صدر فاروق علي الإخوان بما ألقوه في روعه من أن الإخوان هم أعداء الملك ، فقال في بيانه في وضوح لا ليس فيه : وإن ما يشاع عن أننا أعداء الملك ليس صحيحًا بل إننا نلتزم يقول الإمام مالك رضي الله عنه " لو كانت لي دعوة واحدة مستجابة لجعلتها للسلطان فإن صلاحه يصلح به خلق كثير " . وعلي العموم فإن هذا المؤتمر لم يستوف حظه الجدير به من التسجيل التاريخي لفقداننا المرجع الأساسي في شأنه وهو الرسالة الخاصة به وتجتزئ بهذا القدر عنه الآن وعسي أن تظفر فيما بعد بنسخة من هذه الرسالة فنسجل ملحقًا له إن شاء الله .

إلي دمنهور

في 16 يونيه سنة 1941 انتقلت إلي دمنهور حيث تسلمت عملي بمصلحة القطن بها حسب توجيه الأستاذ المرشد لي كما قدمت . ولم تكن دمنهور غريبة علي فقد كنت أقضي في ربوع محافظتها جزءًا كبيرًا من إجازة الصيف كل عام لنشر الدعوة ، إذ كنت أحس إحساسًا داخليًا بأن علي مسئولية خاصة محو هذه المحافظة التي ولدت بها ، .. ولم أكن أتصور أن هذه المحافظة من السعة وترامي الأطراف بهذا القدر الذي وجهته حين عزمت علي ارتياد أنحائها .. وتستطيع أن تقول إنه في خلال تلك السنة وما بعدها بدأ الأستاذ المرشد يقذف كل إقليم من أقاليم القطر بثمرة من ثمرات تربيته التي عكف عليها خلال سني الدراسة في الجامعة . وإذا تحدثت عن الدعوة في إقليم البحيرة وقد ساهمت في إرساء قواعد فيها فإنما أعرض بذلك صورة لإرساء هذه القواعد في كل إقليم والذي كان من نتيجته أن نشرت الدعوة رواقها علي البلاد من أقصاها إلي أقصاها لم تدع عاصمة ولا مدينة ولا قرية ولا نجعًا إلا دخلته وكان لها فيه مستقر ومستودع .

في دمنهور

كان يتقاسم النفوذ في هذه المدينة أسرتان ؛ أسرة تنتسب إلي حزب الوفد وأسرة تنتسب إلي الأحزاب الأخرى ، وكنا حريصين علي أن نحسن صلاتنا بالأسرتين ، دون أن يمنعنا هذا من جذب بعض من شباب الطائفتين إلينا . وكان اهتمامنا ينصب أكثره علي طلبة المدارس الثانوية والصناعية والزراعية ، وكنا نأخذ هؤلاء الطلبة ومعهم أتراب من ذوي الحرف بنظام الكتائب الذي خرج منهم رجالا صالحين ، . ولم يكن عدد الإخوان بهذه الشعبة كبيرًا ، كما لم يكن من بين هؤلاء الإخوان شخصيات بارزة من شخصيات المدينة ، كما لم تكن دار الشعبة في مظهرها وأثائها فخمة بل كانت متواضعة بدائية ، لكن كان من يرتاد هذه الشعبة يشعر بفيض غامر من الروحانية الجارفة ، لأن أفراد هذه الشعبة علي صغر أسنانهم ، ضآلة مراكزهم الاجتماعية كانوا أمما يفهمون دعوتهم حق الفهم ويعرفون حقوقها عليهم ويعطون هذه الدعوة حقها من نفوسهم وقلوبهم وألسنتهم وعقولهم وأبدانهم . فتري الجد في حركاتهم وسكناتهم وتري الأخوة والمحبة والإيثار في تعاملهم فيما بينهم ، فلا تلبث حين تجلس إليهم أن تمتزج بهم .

كان الأخ المهندس الدكتور محمد عبد السلام فهمي مدير أعمال بمصلحة الطرق والكباري بطنطا في ذلك الوقت ، وكانت طنطا مسقط رأسه ، وكان من أحبابي الأقربين منذ كنا طلبة بالجيزة ... جاء لزيارتي مرة بدمنهور واختلط بإخوان الشعبة ، فطلب من إدارة الطرق والكباري بطنطا أن تسند إليه المرور علي فروعها بالبحيرة ، ومع ما في ذلك من مشقة عليه فإنه كان يقول لي : إن روحانية هذه الشعبة وما بها من امتزاج نفسي وعمل جاد متناسق كنه موسيقي جذبني وهون علي المشقة .


اضطهاد حكومي

ولست أدري لم خصت الحكومة هذه الشعبة باضطهاد دون غيرها من الشعب ودون الاضطهاد الحكومي العام ؟ .. فبينما كانت الشعب جميعًا في أنحاء القطر تنعم بالحرية كانت شعبة دمنهور تهاجم ليلا نهارًا في فترات متقاربة . كان هناك بكباشي اسمه " الرفاعي " له مكتب خاص وإدارة مستقلة ووظيفته مدير الشئون العامة بالمدينة كان يهاجمنا في أثناء المحاضرات الأسبوعية ويحاول منع المحاضرة ويطلبنا للتحقيق معنا في مكتبه ثم لا يجد شيئًا يعتمد عليه من القانون ... كان في دمنهور – وأعتقد أنه كان في كل عاصمة – قسمان للبوليس لكل قسم منها مأمور ومعاون وضباط خاصون به ، أحدهما يسمي البندر ومهمته ما يتصل بمدينة دمنهور نفسها والآخر يسمي المركز ومهمته ما يتصل بما سوي المدينة من قري مركز دمنهور وكان القسمان في مبني واحد .. وكان لبندر دمنهور معاون بوليس اسمه اليوزباشي محمد أبو السعود .. وكان هذا الرجل وكأن لا عمل له إلا الاصطدام بنا ، كان يهاجمنا ليلا نهارًا ويرسل لنا مخبرًا من المباحث لحضور كل محاضرة تلقي بالشعبة ، وبناء علي ما يكتبه هذا المخبر يأتي هذا المعاون في اليوم التالي ليحقق معنا ، وكنت استثقل هذا الرجل السمين ذا الكرش فكنت أصادمه وأتحداه سواء في الشعبة أو في مكتبه في البندر ... وقد ذكرت اسم هذا الرجل ومواقفي معه هنا لأن موقفًا قد حدث لي مع هذا الرجل بعد خمسة عشر عامًا سيأتي الحديث عنه في حينه إن شاء الله .

ولازلت حتى هذه الساعة أجهل الجهة التي كانت تحرض هؤلاء الناس علينا هل هي أوامر حكومية عليا ؟ وهذا مستبعد لأن الأوامر لا تخص شعبة دون أخري . أم هو تحريض موضعي من رجال الوفد في عهد حكومة الوفد ومن رجال الأحزاب الأخرى في أيام حكمهم ... ولكن هؤلاء الناس من الأسرتين كانوا دائمًا يحسنون استقبالنا ولا نحس منهم بروح عدوانية .. أم أنها كراهية شخصية دفعت الشخصين من رجال البوليس إلي تحدينا ؟ ..


رب ضارة نافعة

كانت هذه المضايقات المستمرة والمصادمات المتتالية تترك في نفوسنا بعض المرارة ، مع أنها لم تكن تنتهي في كل مرة بأكثر من مشاجرة بيني وبين محمد أبو السعود سواء في دار الشعبة أو في مكتبه .. إلا أن هذه المضايقات كان لها فائدة لم نعرفها إلا بعد نحو عام . ذكرت أن بوليس البندر وبوليس المركز كانا في مبني واحد . وتبين لنا فيما بعد أن ضابطًا من ضباط بوليس المركز برتبة ملازم كان يراقب ما يحدث بيننا وبين هذا المعاون السمين ، وكان يسائل نفسه لم هذا التهجم المستمر علي هؤلاء الشباب بغير جريرة ؟ ولم لم يسأم هؤلاء الناس هذا التهجم المتوالي دون هوادة فيتركوا الفكرة التي من أجلها يساءون هذا الظلم فيستريحوا من هذا العناء ؟ ...

وقد نقل هذا الضابط بعد ذلك رئيسًا لنقطة بوليس " صفط الملوك " مركز إيتاي البارود .. وكانت الدعوة في ذلك الوقت قد سبقت إلي ما حول هذه النقطة ووصلت إلي آل أبي رقيق في " المسين " عن طريق نجلهم صالح أبو رقيق الطالب إذ ذاك بكلية الحقوق بالقاهرة . وتعرف صالح علي هذا في نقطة صفط الملوك ؛ . وكأنما كان هذا الضابط أرضًا خصبة شديدة الخصوبة لا ينقصها إلي الماء لتنبت وتزدهر وتؤتي أشهي الثمار ، وكان الماء هو هذه الدعوة التي احتضنها احتضان الأم لولدها الذي آب بعد غياب طويل ... ومنذ ذلك اليوم عاش هذا الضابط لهذه الفكرة ، ونهم بها زمنًا ، وشقي بها أزمانًا ولكنه شقاء لم يستطع مع بالغ قسوته أن يمس القلب الذي لم تفارقه السعادة لحظة واحدة .

كان هذا الضابط هو الأخ الحبيب الأستاذ صلاح شادي ؛ الذي زرته في بيته في نقطة صفط الملوك في ذلك الوقت وقص علي قصة مراقبته إيانًا في مضايقات المعاون محمد أبو السعود ، وأن هذه المضايقات كانت أول شيء شد انتباهه إلي هذه الدعوة ،وأحس معه أنها دعوة حق ... وقد تصادف أن كان عنده في ذلك اليوم زائر آخر عرفنا به فكان هو شقيق زوجته مدرسًا للغة الانجليزية بالمدارس الثانوية بالقاهرة وكان هذا الزائر هو الأخ الأستاذ محمد فريد عبد الخالق الذي اقتنع بالدعوة ، وعاهد عليها وصدق ما عاهد الله عليه . وقد أوليت الأخ صلاح شادي هذا الاهتمام لأن هذا الأخ قد نهض بأدوار خطيرة في الدعوة ما كان لينهض بها غيره . ولقي في سبيلها أشد ما يلقاه مؤمن علي يد اعتي الظالمين وسنعرض إن شاء الله لهذه الأمور في مواضعها .


نشر الدعوة بالبحيرة

لم يكن بالبحيرة في ذلك الوقت شعب للإخوان إلا في دمنهور ورشيد والمحمودية وشبراخيت ، فرأينا أولا أن نركز علي تكوين شعبة قوية منظمة في دمنهور ثم نهضنا بنشر الدعوة في بلاد المحافظة فكنا نخصص مساء يوم الخميس ويوم الجمعة كل أسبوع لزيارة مركز من المراكز حتى صار في كل مركز شعبة ثم انتشرت الدعوة إلي ما سوي ذلك من المدن والقرى .. وكان للأستاذ المرشد حنين شديد لزيارة شعب هذه المحافظة التي نشأ فيها وكان له ذكريات في كثير من مدنها وقراها ... وأذكر بهذا الصدد أننا كنا نتنقل معه بين بلاد مركز كوم حمادة حتى وصلنا إلي قرية " خربتا " فقال لنا إنه بعد أن حصل علي دبلوم مدرسة المعلمين الأولية من دمنهور عين مدرسًا في مدرسة خربتا الإلزامية .


مناقشة حول الربا

تعتبر دمنهور من أشهر بلاد القطر في تجارة القطن وحلجه وكان بها في ذلك الوقت ثلاثة عشر محلجًا ... ورغب زملائي في العمل تأسيس رابطة لهم تودع أموالها في بنك بفائدة فلما عرضوا علي المشروع رفضته لهذا السبب باعتبار هذه الفائدة ربا ... وكنت مع بعض زملائي في زيارة صاحب أكبر محلج بالمدينة فسألني : هل صحيح أنك تعتبر فوائد البنوك ربًا فأجبت بالإيجاب فتعجب وقال ما حجتك علي ذلك ؟ .. فقلت قول الله تعالي " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ،وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون " ومعني هذا أنك إذا أقرضت إنسانً أو بنكًا مبلغًا من المال أو اقترضت منه فحين تسترد هذا المبلغ أو حين ترده يجب أن لا يزيد مليما وأن ى ينقص مليمًا .. وهل الربا إلا عقد ترتبط فيه الزيادة في المال بزيادة المدة ؟ ... قال : إذا كان ما تقول صحيحًا فمعني ذلك أنني في عملي أتعامل بالربا ، فقلت له وهل هناك شك في أن تجارة القطن في بلادنا إنما تقوم علي الربا ؟ قال : إنك تعلم مدي تمسكي بالدين ... ولو علمت بأن تعامل مع البنوك في تجارة القطن ربًا لتركت تجارة القطن ، ولكنك فاجأتني بشيء لم أسمعه من قبل وفي البلد علماء وأزهر .

قلت سأوضح لك الأمر بمثل واقعي : إذا حددت البورصة سعر صنف من أصناف القطن بأربعين ريالا للقنطار ونزل في مركز دمنهور مائة تاجر كل تاجر يعول بيتًا ويملك كل منهم ألف جنيه لشراء القطن من المنتجين ،وتوزعوا في قرة المركز فنزل في قرية منها خمسة تجار ، وعاين أحدهم الأقطان وأعطي سعرًا لها ثلاثة وأربعين ريالا . ثم مر الأربعة الآخرون واحدًا بعد الآخر فزادوا السعر الزيادة المعقولة في حدود خمسة قروش لكل منهم فصار السعر الأقصى أربعة وأربعين ريالا ، ومعني ذلك أن هؤلاء التجار المائة سيشتري عشرون منهم عشرين صفقة وسيجتمع للواحد منهم برأس ماله حوالي مائة قنطار ، يستطيع أن يحلجها لحسابه ويبيعها محلوجة ويجني منها ربحًا مناسبًا يعيش به هو وأسرته عيشة كريمة وربما عاشت بجانبه أسر . أما الذي يحدث الآن فعلا ؛ فصاحب محلج مثلك رأس ماله مثلا عشر آلاف جنيه لو اشتري بها جميعا قطنًا زهرًا فإنها لا تكفي لشراء أكثر من ألف قنطار . فإذا اشتري هذه الكمية ترك فرصة واسعة لمئات من صغار التجار أن يشتروا بجانبه ، ولكن الواقع المؤلم هو أنك لا تعتمد في الشراء علي العشرة الآلاف التي تملكها بل تذهب إلي البنك وتقترض منه بضمان البضاعة وبفائدة محددة فيضع البنك تحت يدك مائة ألف جنيه ، فإذا نزل هؤلاء المئات من التجار الصغار مشترين فلن يستطيعوا منافستك في أية قرية من القرى لأن مندوبيك في القرى سيرفعون السعر رفعًا تقوى عليه المائة ألف جنيه ولا تقوى عليه الألف جنيه وبذلك يتعطل هؤلاء التجار ولا يجدون مناصًا من طرق بابك واللجوء إليك لتتخذ منهم عمالا بأجر زهيد عندك .

وحسب الربا ظلمًا أنه يقضي علي المئات الذين يريدون أن يعيشوا مجرد عيشة كريمة ليرفع علي أنفاسهم فردًا واحدًا ليعيش في أعلي درجات الرفاهية .


في فوة ... تجربة ناجحة للدعوة

كان عملي الحكومي كما قدمن في دمنهور ، وشاءت الأقدار أن يكون رئيسي فيها رجلا سكيرًا لا يتعفف ، ومع أنني كنت حريصًا علي أن لا أحتك به فإنه كان يعتقد أنني أطارده كالمثل الذي يقول : يكاد المريب يقول خذوني ... وقد عمل هذا الرجل بما له من صلات مع الرؤساء الكبار علي التخلص مني ففوجئت بعد سنة واحدة في دمنهور بنقلي إلي فوة . سافرت إلي فوة وذهبت إلي المحلج الذي سأكون مسئولا عما يدور فيه من عمل ولما رأيت طريقة العمل فيه ومعاملة أصحابه لموظفي الحكومة المشرفين عليه فهمت لماذا اختار لي هذا الرئيس هذا المحلج بالذات ... عرفت أن ثلاثة عشر موظفاً من مصلحة القطن نقلوا إلي هذا المحلج قبلي ولم يستطع أحد منهم أن يستمر فيه إلا عدة أشهر نقل بعدها علي أثر ضربة ضربًا كاد يقضي به إلي الموت ... كان أصحاب هذا المحلج قومًا يريدون أن يربحوا من أي طريق لا يبالون بشرف ولا دين ولا قانون معتمدين في ذلك علي انقطاع بلدتهم عن غيرها لسوء المواصلات كما أن المحلج يقع خارج العمران كما يعتمدون علي فساد ذمم الرؤساء واستعدادهم لقبول المنح والهدايا .

كنت في ذلك الوقت في سن مبكرة لم أعد الاثنين والعشرين عامًا ولم أكن جربت حقارة النفوس التي وجهت بها لأول مرة وعلي حين غرة لم أكن أتصور أن يكيد رجل لم أحتك به ولم أنله بأذى لشاب مثلي في سن أحد أبنائه فيلقي به بين أنياب السباع ... أسفت وتألمت ولكن ذلك لم يكن يؤثر في مباشرتي عملي فقد باشرته .. ومباشرتي عملي في ذلك المحلج لا تعني إلا شيئًا واحدًا هو مصادرة أصحاب المحلج في مورد رزقهم الحرام ... ويبدو أن هؤلاء الناس لم يتعودوا علي رؤية من يقف في طريقهم لأنهم تعجبوا أولا ثم تقدم نحوي ابن صاحب المحلج وكان مديرًا للمحلج ورفع يده مهددًا بصفعي ... وهنا ذهبت إلي مكتبي وكتبت استقالة والدموع تقطر من عيني وأرسلت الاستقالة إلي رئيسي . وحضر رئيسي من دسوق وحاول إصلاح ما بيني وبين إدارة المحلج متوسلا إليهم ومحذرًا إياي من أن يصيبني ما أصاب الثلاثة عشر زميلا من قبلي ومزق الاستقالة .

وهدأت نفسي إلي أنني قبل كل شيء صاحب دعوة ، وأن البيئة التي وجدت فيها في هذا المحلج مهما تلوثت به من مساوئ فإنها لا تخلو من خير دفين ، وعلي صاحب الدعوة أن يكشف عن هذا الخير وإلا كان فاشلا أو كانت دعوته غير جديرة أن تكون دعوة إصلاحية ، ولما كانت دعوته مما لا يتطرق الريب إلا صلاحيتها فإنه هو الذي – إذا لم يستطع النفوذ بها إلي قلوب الناس علي اختلافهم – يكون فاشلا . إن تجربتي في هذا المحلج قد أثبتت لي أن هذا الجنس البشري مهما تدنس ، وانحط إلي أسفل السافلين ، وفشلت في علاجه وسائل الإصلاح فإنه لا يستعصى علي الدين .. وثبت لي أن بلادنا هذه لا تقاد إلي أعلي مراتب السمو والنبل إلا عن طريق الدين .. وكل ما سوي ذلك من وسائل الإصلاح ليس إلا مضيعة للوقت وتبديدًا للجهد ... محال أن يقاد الإنسان إلا من قلبه !!! ...

والناس يريدون أن يروا الإنسان الذي يخالطهم ولا يتكبر عليهم ولكنه يترفع عن متاع دنياهم ... إنهم يقبلون عليه ويحبونه ويفتدونه ... أما الذين يخالطون الناس ويخاطبونهم باسم الدين بعين ، في حين يمدون عينهم الأخرى إلي ما متع الله به هؤلاء الناس من زهرة الحياة الدنيا ، فهؤلاء لا تفتح لهم أبواب القلوب ولا يحظون منهم برضًا ولا تقدير ... يروي أن الرشيد الخليفة العباسي أحس من نفسه يومًا أنه في حاجة إلي من يعظه : فأرسل في طلب كبار العلماء فحضروا ، وصار كل واحد منهم يعظه فيمنحه صرة من المال ، حتى كان آخرهم عمرو بن عبيد فوعظه ما شاء الله له أن يعظه ثم قام وانصرف وجد في السير ، فأرسل خلقه من يحاولون اللحاق به لتسليمه الصرة حتى لحقوا به لكنه رفض .. فرجعوا بها إلي الرشيد فنظر إليه الرشيد وشيعه ببصره وهو يقول :

كلكم يطـلب صيــــد  ::: كلكم يمـشي رويــــد

غيـر عمـر بن عبيـد

إن الناس يتمنون في أعماق قلوبهم أن يروا من يري نفسه أكبر من دنياهم ليتخذوه لهم القدوة وإمامًا .... ولكن أين هؤلاء وسط البحر الزاخر من عبيد المادة .

لم يمض علي هذه الحادثة التي تهجم علي فيها صاحب المحلج أكثر من شهر حتى فعل مقلب القلوب فعله ، فإذا بصاحب المحلج نفسه الذي كان ظهيرًا لولده من قبل ينادي ولده ، وكان رجلا متزوجًا وذا أبناء – وقال له أمام الناس : كل ما يفعله " فلان " – يقصدني – في المحلج لابد أن تخضع له ، وإذا تعرضت له ولو بكلمة سأطردك من المحلج ومن البيت ... ولم يكن الرجل يقصد بكلامه هذا إحراجي كما قد يتبادر إلي الذهن بل كان يقول وهو يعني ما يقول ، لأنه بعد أن قال ذلك طلب مني أن أجلس إليه وسألني عن الأشياء المخالفة للقانون التي أريد أن أمنعها فسردتها له وهي تتلخص في منع دخول أشخاص معينين تعودوا أن يحضروا للمحلج أقطانًا مغشوشة يبيعونها له بسعر منخفض ... فطلب بواب المحلج أمامي ونبه عليه بمنع دخول هؤلاء الأشخاص مطلقاً .. ثم قال لي : يا فلان لعلك تعلم أن أكثر ربحي كان من هذا النوع من الأقطان ولكنني والله قد أصبح رضاك عني أحب إلي من هذه الأرباح .


الإقلاع عن الكيوف لا يحتاج إلا إلي عزيمة

لم يكن هذا الرجل يصلي وكان يشرب الخمر ويتعاطي الحشيش والأفيون ومن قبل كان يتعاطي الهورايين ويجدر بي بهذه المناسبة أن أضع بين يدي للقارئ تجربة مرت بهذا الرجل وحدثني عنها وفي ذكرها نفع كبير لمن يقرأها ، قال لي : كنت في شبابي من أقوي الناس بنية ، وابتليت بتعاطي الهورايين حتى أنحل جسمي إلي حد أنني صرت إذا هبت علي الرياح أخشي أن توقعني علي الأرض ، وكنت في الصيف أنزح إلي الإسكندرية حيث لي بيت فيها ، وكنت خلال إقامتي في الإسكندرية أتردد علي مقهى السنانية ، وكان صاحب المقهى يشتري لي الهورايين وكانت العلبة بعشرين جنيهًا .. وفي إحدى المرات اشتري علبة فلما رجعت إلي المنزل فتحتها وتعاطيت منها فلم أتأثر بها فعلمت أنها مغشوشة فرجعت بها إلي المقهى وأعطيت العلبة لصاحب المقهى وذكرت له ما كان شأنها ، فاستدعي الذين اشتراها منه وذكر له ما قلته بصددها فرد الرجل ردًا فاحشًا ثم التفت إلي وقال : إذا ذكرت ذلك مرة أخري عن بضاعتي فسأصفعك صفعة ألقيتك بها علي الأرض . فكان لتهديد الرجل إياي أثر عميق جدًا في نفسي وقلت لنفسي إن هذا الرجل صادق في كلامه فإنه إذا صفعني فإنه سيلقي بي علي الأرض لأن جسمي لا مقاومة فيه ... يا للهوان إلي هذا الحد أصبحت تافها حتى إن مثل هذا الصعلوك يشتمني ويهددني ... وقررت في نفسي أمرًا ... وهنا انبري صاحب المقهى بماله من سطوة يدافع عني ويشيد بمكانتي ويهدد الرجل ويأمر بتغيير العلبة المغشوشة في الحال فانصاع الرجل وأحضر العلبة الحقيقية فأخذتها ووضعتها في جيبي وغادرت المقهى إلي المنزل .

قال لي : ودخلت شقتي واتجهت إلي المرحاض وأخرجت العلبة وفتحتها وأفرغتها في المرحاض عن آخرها وشددت السيفون ثم دخلت حجرة النوم وبدأت الآلام تنتابني ، وكلما مر الوقت تضاعفت الآلام حتى صرت أصرخ كالمجنون من شدة ما تمزقني الآلام ... وجاءوا بالطبيب فقرر أن أتعاطي الهورايين وإلا فالموت ... فرفضت وآثرت علي الموت ثم جاءوا بأطباء آخرين فقروا نفس القرار وأصرت علي الرفض . وكانت الآلام تستبد بي حتى أفقد وعيي فأنزل من المنزل وأنا لا أحس بنفسي وأهيم علي وجهي كالمجنون حتى كان أهل يجدونني في بعض الأحيان علي بعد أميال نائمًا علي " دكة " أحد البوابين . ظلت هذه الآلام المبرحة نحو شهرًا ثم أخذت تخف شيئًا فشيئًا فقرر الأطباء أن أقضي شهرًا في جهة خارج المدينة فاستأجرت مكانًا في المكس ومكثت فيه حتى اكتملت لي صحتي وعادت إلي عافيتي التي كنت أنعم بها قبل أن ابتلي بهذا " الكيف " الملعون .

وجدير بالذكر أن ننبه إلي أن " الهورايين " هو مسحوق أبيض مخدر يتعاطي عن طريق الشم بالأنف وهو أشد المخدرات تأثيرًا وأخطرها سمية وأقواها استيلاء علي مراكز الإحساس .. وهذه التجربة الواقعية تثبت أن العزيمة القوية قادرة علي قهر اعتي العادات والكيوف مهما تمكنت من النفس واستولت علي مراكز الإحساس فيها .

وجاءني الشيخ صاحب المحلج في يوم من الأيام وقال لي : سأخبرك بشيء يسرك ، لقد امتنعت عن الخمر ... وبعد ذلك بفترة وجيزة أخبرني أنه امتنع عن الأفيون ثم الحشيش ثم طلب مني حين أقوم لصلاة الظهر أن يصحبني فكنا نصل جماعة أنا وهو في مكتبه ، ورأيت في أحد أطراف فناء المحلج حجرة مهجورة مهدمة فسألت عنها فقيل إنها المسجد الذي كان من شروط الترخيص الحكومي بالمحلج أن يكون ضمن بنائه فبني ولم يستعمل حتى تهدم . فأشرت علي الشيخ أن يصلحه فأصلحه وفرشه وكنا نصلي فيه أنا وهو ومعنا كثيرون من الموظفين والعمال بالمحلج . وجاء ميعاد الحج فاستعد الرجل لأداء الفريضة وأداها ثم قام أهل فوة بجمع تبرعات لإصلاح دورة مياه مسجد أبي المكارم أكبر مساجد فوة فلما علم بذلك تعهد بأن يقوم بهذا العمل وحده وقد هدم هذه الدورة وأنشأ دورة أخري علي أحدث طراز كلفها خمسمائة جنيه .

خلاصة القول أن الرجل أجاب داعي الله بعد أن كان غارقًا في بحار الشر فكان برهانًا علي أن الدعوة الإسلامية الخالصة هي وحدها العلاج الناجع لمجتمعنا ولا علاج غيرها .


الدعوة في فوة

إذا أحببت أن تعرف معدن أهل فوة فحسبك أن تعلم أن الأستاذ حسن البنا هو من أهل فوة . ولد في شمشيره إحدى قرى مركز فوة ... نزلت هذا البلد الكريم ولم تكن الدعوة قد وصلت إليه بعد ، ولعل السبب في ذلك صعوبة المواصلات إليه في ذلك العهد .. وما كدت أتصل بأهل هذا البلد الكريم حتى أقبلوا علي مستجيبين لدعوة الله وأنشئوا شعبة ضمت صفوة الناس شبابًا وشيبًا وزاولت جميع أوجه النشاط الروحي والثقافي والرياضي والعسكري ، وصار إخوان فوة مثلا عليا في كل وجه من هذه الأوجه .


تجديد في أساليب الدعوة

لم يكن بفوة في تلك الأيام أية مؤسسة من مؤسسات الترفيه ، فلا سينما ولا مسرح ... وقد رأيتها فرصة سانحة لنقل الأفكار الإسلامية إلي عقول الفلاحين وعقول الناشئة وأهليهم ، فصغت من أحداث نفي مشركي قريش لرسول الله صلي الله عليه وسلم ولبني هاشم في شعب من شعاب مكة مسرحية ، وكنت من قبل قد وضعت أحداث معركة القادسية في مسرحية باللغة العامية لتخاطب عامة الناس وجعلت هدفها معالجة ما درج عليه الفلاحون ، في ذلك الوقت من الاستدانة بالربا من الجنود الذين أنشئوا مكاتب في المدن ويبعثون بمندوبهم إلي القرى والعزب للإيقاع بهؤلاء الفلاحين العوام . ولما كانت مسرحية القادسية طويلة فقد اجترأت بفصلها الأخير .

وقد استغرقت وقتًا طويلاً في تدريب مجموعة من شباب الشعبة علي التمثيل حتى أتقن كل منهم الدور الذي أسند إليه تمام الإتقان ... وعرض لنا بعد ذلك عائق ضخم وهو المكان الذي تمثل فيه هذه المسرحيات ... ولم يطل بنا البحث فقد خطر لي أن أعرض علي الحاج محمد المصري صاحب المحلج . وكان الوقت في مقتبل الصيف وفناء المحلج خال من القطن – أن نستعمل فناء المحلج لهذا الغرض ، ورحب الرجل كل الترحيب . وأقام الإخوان المسرح مستفيدين بأخشاب المحلج ، وأعلن عن الحفل وأقبل الناس عليه من فوة وما حولها من القرى بالألوف مما لم يكن يتسع له مكانًا آخر غير هذا الفناء المترامي الأطراف . ونجح الحفل بحمد الله وتوفيقه نجاحًا لم يخطر علي بال أحد ، وتأثر الناس بالأفكار التي رأوها وسمعوها وصارت حديثهم الذي يتحدثون به في مجالسهم .. وكان هذا الحفل سببًا في تعديل مسار كثير من الناس وسببًا في افتتاح شعب كثيرة .. وعلي أثر هذا لحفل أدي الشيخ محمد المصري فريضة الحج ورجع نائبًا نقيًا .

بين حب الناس وحقد الرؤساء

قدمت أن نقلي إلي فوة لم يكن إلا حقدًا وضغينة من رئيس مارق ، ولما كان لهذا النقل أثر سيء علي الدعوة في البحيرة ، فقد ألح إخوان دمنهور علي الأستاذ المرشد أن يعمل علي رجوعي إلي دمنهور وقد فعل وجاء أمر النقل – ويبدو أنه كان صادرًا من رئيس الوزراء – حيث كان هو وزير المالية – لأن أحدًا من السادة الرؤساء الحاقدين لم يستطع أن يضع في سبيله العراقيل ... والواقع أنني سررت به لا لشيء إلا لأقهر رئيسي المارق في عقر داره في دمنهور .

ولكن الذي حدث أنني رأيت نفسي أمام مظاهرة من إخوان فوة – وما أكثرهم وما أحبهم إلي نفسي – ومن الحاج محمد المصري صاحب المحلج الذي ظن أن النقل طبيعي من الحكومة فقرر أن يذهب إلي الوزير لإلغاء هذا النقل فلما علم بأن النقل إنما جاء عن طريق الأستاذ المرشد ، قرر السفر إليه وحمل معه مجموعة من الإخوان وطلبوا إليه إلغاء النقل ، وشرح له الحاج محمد المصري حالته قبل وجودي بفوة وحالته بعد وجودي ... واتصل بي الأستاذ المرشد تليفونيًا يسألني عن وأبي بعد هذه المظاهرة ولم يكن أمامي باعتباري إنسانًا يقدر الناس إلا أن أوافق علي إلغاء النقل والبقاء بفوة وقد كان . ولما جاء صيف عام 1946 أتممت زواجي ولم أكن أعلم أن الرؤساء المارقين قد تواطئوا علي مؤامرة محبوكة الأطراف لنقلي إلي جهة بعيدة ، وتم لهم ما أرادوا حيث نقلت إلي ديروط بمحافظة أسيوط .

عرض من الأستاذ

وهنا عرض علي الأستاذ المرشد أن أستقيل من عملي بالحكومة وأتفرغ للدعوة بمرتب أكبر من مرتبي ، فطلبت منه أن يمهلني حتى أستنير برأي والدي الذي سألته فقال لي : يا محمود لأن نعطي الدعوة خير من أن نأخذ منها " فلما أخبرت الأستاذ بما قاله والدي وقع من نفسه أحسن موقع وقال " ذرية بعضها من بعض " .

في ديروط

كانت ديروط في ذلك الوقت بلدًا لا يزال أهلها يعيشون عيشة الجاهلية ، فكل فرد منهم يبيع كل ما يملك في سبيل أن يستأجر لنفسه رجلا أو أكثر مهمتهم أن يسيروا خلفه حيثما سار ،وأن يجلسوا حوله أينما جلس ، وكل منهم يحمل بندقيته علي كتفه ؛ فالفقير يسير خلفه رجل واحد والمتوسط الحال يسير خلفه رجلان أو ثلاثة والثري يسير في موكب من هؤلاء السدنة والحراسة الذين لا لزوم لهم ولا داعي إلا الظهور بمظهر العظمة والقوة المتكلفة المستعارة ... وكانت ديروط في تلك الأيام أكثر بلاد القطر جرائم .... سافرت إلي ديروط وتسلمت عملي بها وأنا أكاد أتميز من الغيظ من نجاح هؤلاء الرؤساء المارقين الذين أرادوا أن يتخلصوا مني ليستمتعوا بالكسب الحرام دون رقيب فقذفوا بي أولا إلي فوة ، ظنًا منهم أنهم ألقوا بي بين براثن الأسد ، وكادوا يحققون أملهم بتركي هذا العمل نهائيًا وقد استقلت فعلا ولكن رئيسي المباشر ثناني عن الاستقالة ، ثم رأوا وجودي بفوة منع عنهم موردًا حرامًا كانوا يستمتعون به من وراء سلوك محلجها سلوكًا يخالف القانون ، وباهتداء صاحب المحلج إلي صراط الله المستقيم لم ير داعيًا يدعوه إلي تقديم ما كان يقدمه إليهم .. فدبروا حين علموا بزواجي أن يقذفوا بي إلي أشد بلاد القطر إجرامًا في الصعيد لأمل وأستقيل فيتحقق لهم ما يريدون .

ذهبت إلي ديروط وحدي دون زوجتي وأقمت في فندقها الكبير أمام المحطة ، وكان دوره الأرضي مطعمًا ومقهى وكان المقهى " سلاحليك " أكبر من سلاحليك مراكز البوليس ، لأنه زبائنه كانوا من هذا النوع المسلح اختيالا وتفاخرًا وجاهلية . فكان الزبون إذا دخل المقهى بتابعيه تناول عمال المقهى منهم السلاح وعلقوه بالسلاحليك ثم يسلمونه لهم عند خروجهم ... وكان عمل يقتضي أن أذهب إلي المحالج التي أشرف عليها صباحًا ومساء حتى الساعة التاسعة كل يوم ، ولما كانت المحالج خارج البلد نصحني قوم من عقلاء البلد أن ى أذهب إلي عملي فترة المساء اتقاء الخطر ؛ وحدث فعلا أكثر من مرة حوادث قتل في هذه المنطقة وبلغ من جرأة المجرمين أنهم كانوا يهاجمون جنود البوليس في هذه المنطقة ويجردونهم من سلاحهم وعجز المركز عن مقاومتهم .

وبعد فترة قصيرة من وجودي بديروط فوجئت بزائر لم أكن أعرفه ولكنه عرفني بنفسه فإذا هو رئيسي مفتش مصلحة القطن في محافظتي المنيا وأسيوط ، وعجبت حين رأيته يواسيني ، وقد لاحظ دهشتي فقال لي : لا تدهش فأنا مظلوم مثلك ، أنا أقدم موظف في المصلحة وأعلاهم مؤهلا ولكني مثلك لا آكل الحرام – كان هذا الرئيس مسيحيًا – فكان جزائي أن ألقوا بي هنا في هذه الوظيفة مع أنني قاربت سن المعاش ... وأنا سمعت عنك وأتابع أخبارك بحب وإشفاق ، فلما علمت أنهم قذفوا بك إلي أسوأ بلد في نطاق سلطة وظيفتي قدمت إليك لأعرض عليك أقصي ما أستطيعه من تخفيف عنك في نطاق سلطتي وهو أن أنقلك إلي مغاغة التي تعد أرقي بلد في التفتيش النابع لي وأقرب بلد فيه إلي القاهرة ... ولما كانت مغاغة ليست غريبة علي فلي فيها إخوة أعزاء وذكريات كريمة رحبت بعرضه وشكرته عليه ...

كيف كانت تدار شئون الدولة

وسافر الرجل وبعد يومين وصلني كتاب منه فيه القرار بنقلي إلي مغاغة محل السيد (ع.ح) علي أن يتسلم الأخير العمل في ديروط وعلي أن يكون التنفيذ فورًا . لم أكن أعرف السيد (ع.ح) هذا الذي سيحل محلي وأحل محله ، وإن كنت أعرف مغاغة تمام المعرفة فلم يمض علي فراقي لها إلا سبع سنوات ، وذهبت في اليوم المحدد إلي مغاغة فرأيت عجبًا وسمعت عجبًا ... العجب الأول أنني حين نزلت مغاغة اتجهت مباشرة إلي شريكي السابق وصديقي وأخي الأستاذ شلبي محمد جاد وكان في ذلك الوقت قد صار عمدة مغاغة ، فتلقاني أحسن لقاء ثم تحدثت معه عن سكن لي باعتباره أكبر مالك للعقارات في المدينة ففوجئت بأن مغاغة ليس فيها حجرة واحدة , وقام معي فعلا ومررنا فأثبت مرورنا هذه الحقيقة المرة . ثم رجعنا إلي مكتبه وجلسنا نتحدث وإذا بشخص يستأذن في الدخول فرأيت رجلا يكبر منا جميعا ، في سن تجاوز الخمسين وتشرف علي الستين وعلي عينيه نظارة سوداء فسلم وجلس ، وكأنه كان يريدني دون الحاضرين فانتقل إلي جانبي وعرفني بنفسه فإذا هو السيد (ع.ح) الذي قدمت لأحل محله .

قال لي الرجل : لعلك فوجئت بلقائي إياك في هذا المكان ، فالمكان المعهود للقائي معك هو جهة العمل لتتم عملية التسليم والتسلم ؛ ولكنني لما علمت بأنك ستحضر إلي مغاغة اليوم أيقنت أنك ستنزل عند أخيك الأستاذ شلبي فحرصت علي لقائك عنده . قال الرجل : وسأكون معك صريحًا غاية الصراحة لأني أعلم أنك لست كأي زميل حاول أن ينقل مكاني ... وهنا عجبت لقوله إنه سيكون معي صريحًا كأن في الأمر شيئًا أنا أجهله . قال : إنني هنا منذ عشر سنين وقد حاولوا نقلي أكثر من مرة ففشلوا . قلت : إن هذا الكلام غامض فمن الذين حاولوا ولماذا حاولوا وما الذي يعنيهم من أمر نقلك بالذات وكيف فشلوا ؟ .. قال : يا أستاذ محمود يجب أن تعلم أن كل زملائنا هنا في الصعيد يستفيدون من وظائفهم أكثر من أضعاف مرتباتهم ، وأنت الوحيد الذي أقر الجميع بترفعك عن ذلك – وشرح لي وسائل الاستفادة – ثم قال لي : إنني هنا في مغاغة قد توطدت العلاقة بيني وبين أصحاب المحلجين فيها وأصبحت أعيش من أثر ذلك في رغد والحمد لله .. وإنني اعتبر نقلي من هنا قتلا لي ، ولذا فقد ضحيت بالكثير وبذلت الكثير في سبيل إلغاء نقلي في كل مرة ، حتى إنني في المرة الأخيرة وكانوا قد أحكموا الخناق حول رقبتي اضطررت أن أبذل مبلغًا كبيرًا في السراي (السراي الملكية) حتى صدر أمر منها إلي وزير المالية بإلغاء نقلي وكانت صدمة للذين وضعوا الخطة .

ثم قال : لقد حدثتك بالحقيقة التي لم يكن أحد يعرفها ولم أحدث بها أحدًا غيرك ، ومع ذلك فإذا قررت تنفيذ النقل فلن تلقي مني أية مقاومة لأني لا أجرؤ علي الوقوف في وجه رجل طاهر وإن كنت أجرؤ علي الوقوف في وجه الوزير نفسه . وهؤلاء هم أبنائي ( وأخرج من جيبه صورة لثلاثة أبناء في مختلف المدارس وفي الجامعة ) ثم قام مستأذنا بعد أن عزم علي أن أكون ضيفه تلك الليلة وانصرف وهو يكاد يبكي . وبت تلك الليلة عند أخي الأستاذ شلبي أكرمه الله فقد كان علي العهد لم يتغير ، ولا أنسي ما عرضه علي في تلك الليلة وألح علي في قبوله حيث قال : إن شقتي التي أسكنها واسعة مكونة من ست غرف ، وسأقسمها بيني وبينك تأخذ ثلاث غرف وأنا أخذ الثلاث الأخرى ، فشكرت له جميل عرضه الذي ذكرني بما عرضه الأنصار علي إخوانهم المهاجرين ... وقلت له : يا أخي لقد عرفت الليلة عن عملي الذي أنتسب إليه مالم أكن أعرف ، وسأسافر صبيحة غد إن شاء الله إلي المنيا لمقابلة المفتش الذي نقلني إلي مغاغة وأعتذر إليه بأنني لم أعثر علي سكن ، وأسأل الله تعالي أن يحفظ علي إيماني وسط هذه الفتن .


عرف الانجليز عن ديننا مالم نعرف

في خلال الفترة التي أقمتها بديروط وحدي في الفندق أشار علي بعض الأصدقاء . أن أودع نقودي في صندوق توفير البريد حفظًا لها ... فذهبت إلي مكتب البريد – وكان معاون البريد صديقاً لي وكان شابًا ظريفًا وكان مسيحيًا – وقلت له إنني أرغب في إيداع ما معي من نقود في صندوق التوفير فسألني : هل تريد استمارة للمسلمين أم استمارة بفوائد ؟ فلما سمعت هذا السؤال منه ظننته يمزح معي لأنه يعرف أنني من الإخوان المسلمين فأراد أن يتندر بهذا الأسلوب ، فقد كنت أعرف أن البريد يخير المتعامل معه بين طريقتين : التعامل بالفوائد والتعامل بغير الفوائد ، وكان اعتقادي أن استمارة التعامل بدون فوائد مطبوع عليه " استمارة التعامل بدون فوائد " حيث إن الأخرى مطبوع عليها استمارة للتعامل بفوائد : فقلت للمعاون : دعنا من المزاح وأعطني الاستمارة المطبوع عليها " التعامل بدون فوائد " فرد علي قائلا : إنك حملت كرمي علي محمل المزاح ... إنه ليس مزاحًا وناولني الاستمارة فرأيت مطبوعًا عليها " استمارة للمسلمين " .

كان لهذا الحادث العارض في نفسي تأثير عميق ودلالات مؤلمة ... وقلت لنفسي إن الذي أسس مصلحة البريد في مصرهم الانجليز وهم الذين وضعوا نظمها وأسسها وأساليبها ، ولا يزال العمل يدور بهذه المصلحة علي نفس النظم والأساليب التي وضعوها . فالانجليز إذن قد فهموا من ديننا أن المسلم بحكم أنه مسلم لا يجوز له أن يتعامل تعاملا ماليًا مع أحد – ولو كان هذا الأحد مصلحة حكومية – بفوائد لأن الفوائد ربًا والربا حرمه الإسلام وعلي هذا الأساس طبعوا نوعين من الاستمارات نوع بدون فوائد وسموه " استمارة للمسلمين " ونوع آخر بفوائد وفي نظرهم أنه لغير المسلمين . ثم يأتي أكثر المسلمين متنكرين لدينهم متناسين أنفسهم معرضين عن الاستمارات التي أعدت للمسلمين متعاملين بالاستمارات الربوية ... لقد عرف الانجليز عن ديننا مالم نعرف ، وقدرونا ولكننا احتقرنا أنفسنا .


التنقل إلي دمنهور ثانية

كانت الفترة التي قضيتها في ديروط فترة غير مستقرة ، فقد كنت موزع الخاطر ، ثم تخلل هذه الفترة شهور طويلة أصاب البلاد فيها وباء الكوليرا – أعاذنا الله منه ولا أعاد أيامه ، وفي خلاله كان الناس يعيشون في خوف ، وتقطعت الصلات بين البلاد حيث أوقف سير قطارات السكة الحديد وغيرها من طرق المواصلات ، ومنع الانتقال من مكان إلي مكان حتى إنني حين أقبل العيد حاولت السفر إلي رشيد بالطائرة من أسيوط فقيل لي إن جميع الأماكن محجوزة لما بعد العيد بأسبوع ... وقد استضافني في أيام العيد الأخ الكريم السيد محمد حامد أبو النصر في منفلوط المتاخمة لديروط وبالغ في إكرامي أحسن الله إليه وعوضه خيرًا عما ناله من ظلم كبير . ولم ألبث بعد ذلك إلا قليلا حتى نقلت إلي دمنهور ، ويبدو أن مما سهل نقلي هذا أن لهذه الأماكن النائية والبعيدة عن أعين الرقابة طلابًا كثيرين يتهافتون عليها .


ترشيح المرشد العام لمجلس النواب سنة 1942

قد يبدو هذا العنوان كما يبدو العنوان الذي يليه في هذا الفصل وكأنهما دخيلان عليه ؛ إذ أن فيهما احتكاكًا بالحكومات القائمة وقتذاك وقد يراهما القارئ أليق بأن يلحقا بالفصل القادم المخصص للعمل الوطني منهما بالإلحاق بهذا الفصل الذي يعالج العمل الداخلي ... ولكن القارئ سوف يقتنع بأنهما من صميم هذا الفصل حين يعلم أن هدف الأستاذ المرشد من وراء هذا الاحتكاك إنما كان تمهيد السبيل لتثبيت دعائم الدعوة في أنحاء البلاد ، وتأمين خطواتها في هذا السبيل حتى تستكمل كل وسائل القوة المعنوية والمادية .

ومن المسلم به أن أية دعوة ذات أهداف نبيلة وبرامج إصلاحية تريد تحقيق هذه الأهداف والبرامج ينبغي أن يكون من وسائلها إلي ذلك العمل علي الوصول بأعضائها إلي مقاعد المجالس التشريعية ، ولا يتأتي ذلك إلا بخوض المعارك الانتخابية ... ومن بدائه الأمور أنه كلما كان عدد النواب لهيئة من الهيئات أكثر كان تحقيق آمالها أيسر ؛ ولكن الإخوان كانوا يعتقدون أن حصولهم علي مقعد واحد في مجلس النواب كفيل بأن يؤثر في هذا المجلس أبلغ التأثير إذا كان صاحب هذا المقعد هو حسن البنا ؛ ذلك أن لديه من قوة الشخصية والقدرة علي الإقناع مع ما يتمتع به من روحانية فياضة وبلاغة آسرة ما يشد إليه الأسماع والعيون والعقول والقلوب ، وما يفعل في السامعين فعل السحر ... وقد استطاع بهذه المواهب النادرة أن يجمع حوله من الأنصار الذين يفتدون دعوته بأموالهم ودمائهم مئات الألوف في أنحاء مصر وغير مصر من الدول العربية والإسلامية .

لهذا اتخذ الإخوان قرارًا بترشيح المرشد العام عن دائرة الإسماعيلية في الانتخابات التي أعلنت حكومة الوفد إجراءها سنة 1942 ... وإذا كان أعظم المرشحين لم يكن لتقدمه للترشيح من صدي إلا في دائرته التي ينتمي إليها ، فإن تقدم حسن البنا للترشيح كان له صدي يتردد في جميع محافظات القطر ومراكزه وحواضره وقراه بل وقد تعدي ذلك الصدى إلي خارج مصر ؛ ذلك أن في كل مكان من هذه الأماكن رجالا ونساء يعقدون الآمال للعريضة علي هذا الترشيح . وينبغي أن يكون مفهومًا أن ترشيح حسن البنا في دائرة الإسماعيلية ليس له إلا معني واحد هو أنه من قبل أن تجري انتخابات قد صار عضوا بمجلس النواب مهما نافسه في الترشيح مائة مرشح منهم رئيس الحكومة نفسها ، ذلك أن أهالي هذه الدائرة وعن بكرة أبيهم رجالا ونساء وأطفالا يعتبرون ترشيح حسن البنا عندهم شرفًا لا يعادله شرف ، وأن انتخابهم إياه فريضة من فرائض الدين وقربة من أعظم القربات إلي الله عز وجل . وهذه الحقيقة التي يعرفها أهل الإسماعيلية ويعرفها الإخوان في كل مكان ؛ ويعرفها الانجليز أيضًا ،وإن كان يجهلها – حتى ذلك الوقت – فئات أخري منهم حكام مصر ورجال الأحزاب المصرية الذين لم يستطيعوا أن يفهموا عن الإخوان المسلمين أكثر من أنهم جماعة تدعو إلي الدين الذي لا يخرج في تصورهم عن كونه طقوسًا وعبادات ومحاربة للمنكرات بالوعظ والإرشاد ... بالرغم مما يبذله الإخوان من جهود لتوضيح فكرتهم عن الإسلام باعتباره دينًا ودولة ، وعقيدة وشريعة ، وبرنامجًا إصلاحيًا شاملا لجميع شئون الحياة .

تقدم الأستاذ المرشد يطلب الترشيح إلي وزارة الداخلية كالمعتاد ... فما الذي حدث ؟... بعد أيام قلائل جاء ه رسول من قبل مصطفي النحاس باشا رئيس الحكومة يدعوه لمقابلته .... وسأنقل هنا نص ما جاء في تقرير الأمن العام عن هذه المقابلة وعن هذا الموضوع عامة وقد نشره في جريدة الأهرام في 14-2-75 الدكتور عبد العظيم رمضان مدرس التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة طنطا ضمن وثائق نشرها ، قال التقرير :

" لم يكد يذاع خبر ترشيح الأستاذ حسن البنا ويدفع التأمين إلا واتصل به حضرة عبد الواحد الوكيل بك صهر حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا ، وتكلم معه في موقف الإخوان المسلمين ، وطلب منه الرجوع إلي رفعة النحاس باشا ، وتكلم معه في موقف الإخوان المسلمين ، وطلب منه الرجوع إلي رفعة النحاس باشا لكي يكون رفعته علي بينة من أمرهم لأن رفعته لديه فكرة غامضة عنهم . وبعد بضعة أيام تلقي دعوة بمقابلة رفعة النحاس باشا ، وتمت المقابلة بفندق مينا هاوس ، وقد طلب منه رفعة النحاس باشا أن يتناول عن الترشيح . وصارحه رفعته أنه يطلب ذلك إيثارًا للمصلحة العامة ولمصلحته (أي مصلحة الأستاذ البنا) إن كان يريد الإبقاء علي جماعات الإخوان المسلمين في مختلف البلدان ، فرفض ذلك وقال إنه يستعمل حقاً من حقوقه الدستورية ولا يري ما يمنعه من الترشيح ، وإن كان هناك موانع فإنه يطلب بيانها لكي يتبين مبلغها من الصحة ، وفضلا عن ذلك فإن قرار الترشيح صدر من هيئة المكتب العام لجماعة الإخوان ، وأنه شخصيًا لا يملك الرجوع في ذلك .

فرجاه رفعة النحاس باشا أن يعمل علي إقناع الأعضاء بالعدول عن ذلك ، وأن رفعته رأي أن يدعوه لينصح له بالتنازل وإلا اضطر إلي اتخاذ إجراءات أخري يراها رفعته قاسية ، ولا يرتاح إليها ضميره ، ولكنه حرصا منه علي مصلحة البلد مضطر إلي تنفيذها . ولما استوضحه تلك الإجراءات قال رفعته إنها حل جماعات الإخوان المسلمين وتلقي زعمائها خارج القطر ؛ وتلك هي رغبة هؤلاء الناس (يقصد الانجليز) الذين بيدهم الأمر يصرفونه كما يرون ، ونحن مضطرون إلي مجاملتهم خصوصًا في هذه المسائل الفرعية ، وفي هذه الظروف العصيبة ، لأنهم يقدرون علي كل شيء ، وفي استطاعتهم إن شاءوا أن يدمروا البلد في ساعتين .

وقد ترك رفعته فرصة للتفكير في الأمر ، وأن تتم مقابلة أخري في هذا الشأن ، وقد عرض الأمر علي هيئة مكتب الإرشاد فلم توافق الأغلبية علي التنازل ، ولكنه هو شخصيًا وافق عليه لا خوفاً من النفي ولكن حرصًا علي قيام الجماعة واستمرارها في تنفيذ أغراضها . وأخيرًا أستقر الرأي علي التنازل ، وتوجه مرة أخري لمقابلة رفعة الرئيس بوساطة سليم بك زكي الذي بسط لرفعته دعوة الإخوان ومدي انتشارها في المدن والأقاليم ، فانتهز هذه الفرصة وطلب من رفعته ضمانات بقيام الجمعية وفروعها . وعدم الوقوف في سبيلها وعدم مراقبتها والتضييق علي أعضائها للحد من نشاطهم فوعده رفعته بما طلب " .

وقد أوردت ما جاء بتقرير الأمن العام عن هذه المقابلات لأنه هو فعلا نص ما حدثنا به الأستاذ المرشد عقب رجوعه من كل من المقابلتين ، فقد كنا في ذلك الوقت في المركز العام ننتظر رجوعه علي أحر من الجمر لأن موضوع الترشيح كان أمرًا جوهريًا بالنسبة لنا ولجميع الإخوان في أنحاء البلاد ، ولهذا فإنه رأي بعد أن قص علينا ما حدث أن ننتقل إلي الإسكندرية وطنطا وغيرها من العواصم ليقصه عليهم حتى يكون الجميع علي صورة واضحة من الموضوع . وموقف الأستاذ المرشد في هذا الموضوع كان أحد المواقف القليلة التي جاء رأيه النهائي فيها صدمة لمشاعر الإخوان وعواطفهم ، فما من أحد من أنحاء البلاد إلا وشعر بهذه الصدمة التي تمثلت لنا في صورة فرصة أفلتت منا بإرادتنا ولو أننا تمسكنا بها لأفادت الدعوة منها أعظم فائدة . ولم يسلم الإخوان للأستاذ المرشد بما طلبه إليهم ، ولم ينزلوا علي رأيه إلا للثقة التي لا حدود لها فيه ، وللاطمئنان الكامل إلي إخلاصه ومقدرته وبعد نظره وحسن تدبيره للأمور .

وتقريرًا للواقع أقول إن هذا الموقف الذي وقفه الأستاذ في هذا الموضوع – وإن كان قد جرعنا في أوله بعض المرارة – إلا أنه عاد علي الدعوة بما لا حصر له من الفوائد ، وحسب القارئ أن يعلم من قوة الإخوان المسلمين في ظل هذا الموقف وفي خلال أربع سنوات بعده قد تضاعفت أضعافًا كثيرة كما وكيفاً حتى صارت أقوى هيئة شعبية في مصر وفي البلاد العربية علي الإطلاق . ومع أن حزب الوفد الحاكم في ذلك الوقت كان حريصًا علي أن يخرج من تجربته هذه مع الإخوان بكسب معنوي لحسابه ، فإن الإخوان قد خرجوا منها بمكاسب لدعوتهم لا يقاس بأدناها كسب الوفد – إن كان قد كسب شيئًا – فضلا عما أشرنا إليه آنفاً من انفتاح كل الطرق أمام الإخوان لبث دعوتهم في كل مكان دون عوائق ؛ فإن هناك مزايا أخري ما كانت لتنجز وتتخذ سبيلها إلي واقع الحياة في مصر لولا هذين اللقاءين الذين تما بين الأستاذ المرشد والنحاس باشا وعلي رأس هذه المزايا .

1 – إحياء الأعياد الإسلامية لاسيما مولد النبي صلي الله عليه وسلم وجعله عيدًا رسميًا للدولة وقد أصدر رئيس الحكومة حديثًا رسميًا مستفيضًا تحية لهذه الذكري الكريمة .

2 – إلغاء البغاء في أنحاء البلاد وكان وصمة عار في جبينها .

3 – قانون بوجوب استعمال اللغة العربية في تعامل جميع الشركات والمؤسسات ومراسلاتها .

4 – تحريم الخمر – وإن كان التحريم قد اقتصر علي المناسبات الدينية .

5 – بذل جهد مشكور في وضع أساس إنشاء الجامعة العربية .

وقد كان الأستاذ المرشد قد أخبرنا فيما أخبرنا به عما دار بينه وبين النحاس باشا في هذين اللقاءين أنه كان حريصًا أن يلقي في روع النحاس باشا أن أتناوله عن الترشيح لابد أن يقابله ما يسد هذه الفجوة بعمل إسلامي تقوم به الحكومة يثلج صدر الشعب الذي كان يؤمل الكثير من العمل الإسلامي من وراء دخولي مجلس النواب ، وقال له إن العمل الإسلامي الذي تقوم به الحكومة يقربها إلي نفوس الشعب ويرفع اسم زعامة الوفد .. وقد تعهد النحاس باشا بالنهوض بهذه المطالب . وقد وفي الرجل بتعهده ، وقد ألقي عقب هذين اللقاءين حديثاً ضمنه هذه المعاني التي اتفق عليها . وعقب صدور هذا الحديث عن النحاس باشا تقابل عبد الواحد الوكيل باشا مرة أخري مع الأستاذ المرشد واقترح عليه أن يصدر بيانًا يسجل فيه أن التنازل قد تم احترامًا لقرار الوفد بترشيح شخص آخر ويعلن فيه تأييده لسياسة الوفد في التعاون مع بريطانيا لتنفيذ معاهدة التحالف – فرفض الأستاذ المرشد ذلك واكتفي بذكر فقرات في خطاب النحاس باشا معلنًا أن الإخوان عون له في سياسة الإصلاح الديني والاجتماعي .. ونثبت هنا نص الخطاب الذي وجهه الأستاذ المرشد إلي النحاس باشا كما نشر بجريدة المصري يوم 23 مارس سنة 1942 تحت عنوان : الإخوان المسلمون يستجيبون لنداء الزعيم – ويعلنون أنهم عون للحكومة في تحقيق برنامجها الإصلاحي .

كتاب قيم من المرشد العام للرئيس الجليل

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا رئيس الحكومة المصرية .

أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأصلي وأسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وأحييكم فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد ....

فقد تحدثتم رفعتكم إلي الأمة المصرية حديثاً رائعًا جميلا ، ضمنتموه كثيرًا من المبادئ القويمة والأماني الطيبة التي يسر كل مصري وأن يحققها الله علي أيديكم ... فقد أشدتم بالصراحة والتعاون والإخلاص ، ودعوتم الأمة إلي مصارحتكم والتقدم إليكم بالنصح ووددتم أن تمتلئ صدورنا جميعًا بهذه المعاني السامية (فنحن أبناء أسرة واحدة وهي الأسرة المصرية الكريمة) .

وقررتم رفعتكم أنه من دواعي سروركم أن تتعاون الأمة والحكومة في هذه الظروف الدقيقة في تنفيذ سياسة خارجية حكيمة ،وتصميم سياسة داخلية بصيرة ... فالواجب يقتضينا والمصلحة تدعونا إلي أن ننفذ بإخلاص وحسن نية أحكام المعاهدة التي وقعناها بمحض اختيارنا وملء حريتنا وقصدنا من ورائها سلامة استقلالنا القومي والاحتياط لمثل هذه الظروف العصيبة .. كما أن الحكومة ساهرة علي أتباع سياسة عمرانية عاجلة لخير الطبقات الفقيرة قبل غيرها .. ومن واجب الحكومة والبرلمان أن يضعا في رأس برنامجهما درس المسائل الاجتماعية والسعي إلي حلها حلا سريعا حاسمًا . وقد أشرتم إلي التطور الجديد في حياة العالم كله تطورًا " هو مقدمة لتطور أعمق غورًَا وأبعد أثرًا يجعل مظهر العالم في غير مظهرة اليوم ؛ " .

ثم ختم هذا الحديث " بأن علينا أن نعبر الطريق المحفوف بالمخاطر ، المحوط بالمكاره ، متعاونين متحدين مع الشعوب الشرقية وإخواننا أبناء العروبة الكريمة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا ، مترقبين بزوغ فجر الحرية والإخاء بين الشعوب ؛ فيقوم عدل الحكام علي أنقاض الظلم والاستبداد ، وتتفيأ أمم ظلال الطمأنينة والسكينة والسلام "

أصغينا إلي هذا الحديث القيم ثم طالعتنا الصحف بنصائحكم الجليلة إلي حضرات المديرين والمحافظين ، ودعوتكم إياهم إلي " أن يكونوا نواة سلام ودعاة صلح وتفاهم بين العائلات ، وأن يديموا التجوال في البلاد ليتبينوا مطالب الأهلين ، وينظروا فيها بالغين المجردة عن كل ميل وهوي ،وأن يستمعوا إلي شكاوى المظلومين ويعملوا علي رفع المظالم عنهم " . وقرأنا في الصحف أن معالي وزير الصحة أخذ يدرس باهتمام مشكلة البغاء تمهيدًا لتخليص مصر من وصمته الشائنة ،وأنه قرر فعلا البدء بإلغاء دور البغاء في القرى والبنادر من أول مايو المقبل . والإخوان المسلمون أمام هذه الآمال الصالحة ، والأعمال الطيبة النافعة ، يرون من واجبهم أن يستجيبوا لندائكم وأن يعلنوا أنهم حريصون كل الحرص علي أن يكونوا عونًا لكم وللحكومة المصرية في تحقيق برنامجكم الإصلاحي الذي أعلنتموه ، مستمسكين دائمًا بآداب الإسلام العالية وتعاليمه القويمة وأخلاقه الفاضلة .

والله نسأل أن يهيئنا جميعًا لخير هذا الوطن العزيز والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

وبعد عام من هذا التاريخ ، ومع التكوين الجديد للوزارة بعد خروج مكرم عبيد باشا منها لخلافة النحاس باشا رغب أعضاء الوزارة في زيارة المركز العام للإخوان ، فوجه الإخوان إليهم الدعوة ، وننقل وصف هذه الزيارة وما تم فيها كما نشرته جريدة المصري يوم 17 مايو سنة 1943 بعنوان ... الإخوان يضيفون وزراء الشعب .

" أقام المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين حفلة كبرى بداره بالحلمية الجديدة في الساعة السابعة من مساء أمس دعا إليها أصحاب المعالي الوزراء فلبي الدعوة فؤاد سراج الدين وزير الزراعة . و . . . . و . . . . و . . . . . . وكان في استقبالهم فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن البنا والأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة وبقية الإخوان وفرقة الجوالة الخاصة بهم ، وكان الإخوان يستقبلون كل وزير عند حضوره بالهتاف والتكبير " الله أكبر ولله الحمد " .

وعلي آثر وصول الوزراء حان وقت صلاة المغرب فأذن المؤذن وأم المصلين فضيلة المرشد العام ولما كانت المصلي لا تتسع لجميع الذين حضروا فقد أدي العديدون الصلاة في الحجرات وفي حديقة الدار وخارجها وقد فرشت بالبسط والحصير – وتصادف أن حضر في هذه الأثناء وزير التموين الأستاذ أحمد حمزة فأدي الصلاة مع المصلين خارج الدار ، فكان منظرًا إسلاميًا ديمقراطيًا رائعًا رؤية أصحاب المعالي الوزراء وهم بين الإخوان يؤدون صلاة المغرب في خشوع المؤمنين الصالحين ...

وبعد الصلاة جلس أصحاب المعالي الوزراء مع الإخوان فوق سطح الدار حول موائد الشاي والحلوى والمرطبات .. وافتتحت الحفلة بتلاوة آي الذكر الحكيم ثم ألقي الأستاذ أحمد السكري كلمة ترحيب وتلاه الأستاذ حسن البنا بكلمة أوضح فيها فكر دعوتهم وأهدافهم . وألقي بعد ذلك كل من أصحاب المعالي الوزراء الزراعة والتموين والشئون والتجارة كلمات مناسبة أشاروا فيها إلي مشروعات حكومة الوفد وعلي رأسها النحاس باشا وهي المشروعات التي تحقق الأغراض الإسلامية مثل إلغاء البغاء . وإحياء الأعياد الإسلامية وتحريم الخمر والموبقات وقانون استعمال اللغة العربية وغير ذلك من مفاخر حكومة الوفد . ثم وقف الأستاذ أحمد السكري فشكر الوزراء علي ما أبدوه في كلماتهم من استعداد طيب نحو تشجيع جماعة الإخوان المسلمين ورجالهم أن يبلغوا رفعة الرئيس تحيات الإخوان وأطيب تمنياتهم وأن يقدموا له باقة من كتاب الله وهي الآية الكريمة " ولينصرن الله من ينصره إن اله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور .

وانتهي الاحتفال في الساعة العاشرة مساء " .

وقبل أن نصل في معالجة هذا الموضوع إلي نهايته ، لا يفوتنا أن نومئ إلي غمزات وردت في تعليق الكاتب الذي أشرنا إليه آنفًا فيما نشره بجريدة الأهرام في 14-2-1975 حيث شكك سيادته في صدور العبارات التي وضعنا تحتها خطوطًا مما نقلناه من تقرير الأمن العام عن النحاس باشا ، وملخصها أن الانجليز هم الذين طلبوا من النحاس باشا إرغام حسن البنا علي التنازل . وحسبنا في الرد علي هذا المؤرخ الذي يستقي معلوماته من وثائق إدارة الأمن العام ، أن يطلب من هذه الإدارة وثيقة عما تم في ترشيح الأستاذ حسن البنا نفسه في نفس الدائرة في سنة 1944 في أيام وزارة أحمد ماهر ، فإذا لم يعثروا علي هذه الوثيقة ، فليذهب إلي الإسماعيلية ويسأل عشرات الآلاف من أهلها الذين حضروا هذه الانتخابات ولا يزالون علي قيد الحياة ليسمع منهم كيف تدخل الانجليز بأنفسهم وبجيش احتلالهم المرابط في الإسماعيلية لإسقاط حسن البنا مما سنفصله في الصفحات القادمة إن شاء الله .

وسيادة المؤرخ كان مدرسًا بجامعة طنطا حين أرخ لهذا الموضوع سنة 1975 ، وهذا المنصب يكون صاحبه عادة في سن تناهز الأربعين ، ومعني ذلك أنه في أثناء هذه الفترة التي يؤرخ لها كان في مهد الطفولة . ولكنه حين يؤرخ لهذه الفترة يؤرخ لفترة شهدها جيل لازال يعيش معه فكان عليه وهو مدرس للتاريخ المعاصر ويؤرخ لتاريخ معاصر أن يرجع إلي من عاصروا هذه الأحداث في مواقعها ، وهم لا يزالون علي قيد الحياة بدلا من أن يقتصر في تاريخه علي الوثائق التي لا يكتفي بها عادة إلا في تاريخ لأحداث طال عليها الأمد ولم يعد علي قيد الحياة من يرجع إليه فيها . علي أننا سوف نتناول تعليق هذا المؤرخ بمناقشة موضوعية في الفصل القادم إن شاء الله .

نقل المرشد العام إلي قنا

أشرت في أوائل هذه المذكرات إلي أول بعثة أعدها الإخوان لحج بيت الله الحرام وكان الأستاذ المرشد علي رأسها كما أشرت إلي المؤتمر الذي عقده الملك عبد العزيز آل سعود ودعا إليه عظماء المسلمين في حج ذلك العام وإلي حضور الأستاذ المرشد وإخوانه هذا المؤتمر بغير دعوة باعتبارهم مستمعين ، وإلي تقدم الأستاذ المرشد إلي المنصة بعد انتهاء الخطباء الأصليين من مختلف البلاد الإسلامية ،وإلي اكتساحه كل من تقدموه ، وحظوته وحده دون جميع الخطباء بإعجاب الحاضرين حتى إن الحكومة السعودية نشرت خطبته في جريدتها الرسمية الوحيدة في ذلك الوقت " أم القرى " ولم ننشر سواها . بقي أن نذكر أن من بين الذين حضروا هذا المؤتمر – مدعوين من الحكومة السعودية – ومن بين الذين خطبوا فيه وكانوا موضع رعاية خاصة من جانب الحكومة لا باعتبارهم من كبراء البلاد الإسلامية فحسب بل باعتبارهم أيضًا من كبار الكتاب والأدباء والخطباء والدكتور محمد حسين هيكل باشا " .

والدكتور محمد حسين هيكل باشا أديب من أدباء مصر ، وكاتب من أعظم كتابها ، وله مؤلفات بعضها روائي مثل قصة " زينب " وبعضها تاريخي وتحليل مثل " حياة محمد " و " منزل الوحي " ، وهو من كبار رجال حزب الأحرار الدستوريين ، وتولي رياسة الحزب فيما بعد ، وكان " رئيس تحرير جريدة " السياسة " اليومية الناطقة بلسان هذا الحزب كما كان يصدر مجلة أسبوعية تجمع إلي السياسة الأدب واللغة والتاريخ وكانت تسمي مجلة " السياسة الأسبوعية " . تولي هذا الرجل أول منصب حكومي له في تلك السنة (1944) حيث أسندت إليه وزارة المعارف العمومية ؛ وكأنما كان هذا الرجل يسر في نفسه أمورًا لم يبد بها لأحد وأنه كان يطوي علي أضغان كانت تعتمل في نفسه منذ سنين ولم يجد الفرصة لإصعاد زفراتها التي كانت تحرق قلبه ؛ فلما أتيحت له الفرصة لم يستطع أن يحبس منها شيئًا فأطلقها سوداء قائمة ، شوهاء بشعة .. وكأنما تذكر الرجل مواقف معينة – وإن كان قد طال عليها الأمد – إلا أنها لازالت ماثلة في خاطره حائكة في صدره وإليك وإيماءة إلي هذه المواقف :

أولا : موقف الأستاذ المرشد في مؤتمر مكة الذي نوهنا عنه آنفاً

ثانيًا : في خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات كان اتجاه المثقفين اتجاهًا غريبًا ؛ ذلك أن الطبقة الرائدة منهم كان أكثرها ممن تلقوا تعليمهم في جامعات أوروبا ، وهؤلاء هم الذين كان بيدهم توجيه الثقافة في مصر فنشئوا وكأنهم أجانب عن بلادهم وأهليهم ، وكان أول مظهر من مظاهر تأثرهم بالقرب تنكرهم لدينهم حتى صار التمسك بالدين وأداء فرائضه دليلا في نظرهم علي الجهل والتأخر والبعد عن الحضارة والثقافة ... ولذا كنت تري المؤلفات تتناول ما بهم الغرب والغربيين أكثر مما بهم أهل البلاد ،وبمعني أوضح كان الناس لاسيما القادة مفتونين بالغرب يكادون يحسون بالخزي والعار من انتسابهم إلي تاريخهم وقوميتهم ودينهم .

وكان من أوائل من تلقي العلم في أوروبا وعاد إلي مصر دون أن يفتن عن أصله ودينه محمد أحمد جاد المولي بك ، وكان المفتش الأول للغة العربية بوزارة المعارف العمومية ، وقد وضع كتابين ، أولهما " محمد المثل الكامل " والآخر " محمد الخلق الكامل " تناول فيهما مواقف من حياة الرسول صلي الله عليه وسلم منذ سعد العالم بولادته حتى لحق بالرفيق الأعلى أثبت بها أنه هو وحده الذي حقق المثل العليا التي طالما حلم بها الفلاسفة وتخيلها الحكماء . وعلي عكس ما كان يتوقعه أترابه ومعاصروه من قادة الثقافة في مصر صادف الكتابان قبولا في مختلف الأوساط المصرية والعربية ، وحظيا بانتشار واسع أسال لعاب هؤلاء القادة ، ناظرين إلي ما يجني من وراء هذا الانتشار من ربح مادي وكسب معنوي .. وجريًا وراء هذا الربح بدأوا يفكرون في الرجوع إلي أصلهم ، والانتماء إلي أرومتهم ... ولكن كيف يقتحمون هذا الميدان ؟ لم يقتحموه عن طريق السوي ، ولم يلقوا بأنفسهم بين أحضانه كما يرجع الوليد العاق التائب إلي أحضان أمه وأبيه ، بل اقتحموه عن طريق ملتو كأنما لا يعرفون طريقاً يوصلهم إلي بيوتهم إلا عن طريق الغرباء الذين اتخذوهم أئمة .

أراد الدكتور محمد حسين هيكل أن يكتب في سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم فكيف يكتب ؟ .... كان أحد المستشرقين الفرنسيين واسمه " دير منجهام " قد وضع كتابًا سماه " حياة محمد " فطفق الدكتور هيكل يترجم هذا الكتاب وينشر كل أسبوع فصلا منه في مجلته " السياسة الأسبوعية " ويعلق عليه حتى إذا أتم ترجمة الكتاب ونشره في المجلة معلقاً عليه ، جمع ما نشر من أصل وتعليق في كتاب أخرجه بنفس الاسم . لقي الكتاب رواجًا . والكتاب قيم في أسلوبه وطريقة عرضه للأحداث ومعالجته للمواقف وتحليلها ... وقد نفدت طبعته الأولي لأول ظهورها ، لكن في الكتاب مغمزًا لا يدركه إلا الراسخون في العلم وقد أدركه الأستاذ المرشد وعلق عليه في أحاديثه الخاصة والعامة وفي مجلة الإخوان المسلمين ؛ ذلك أن الدكتور هيكل اقتدي بالمؤلف الفرنسي فيما جرت عليه الحضارة المادية الغربية من إخضاع كل شيء للمقاييس العلمية التي هي نفسها المقاييس المادية مما يطلقون عليه اصطلاح " العلم التجريبي " .. وهذه المقاييس إن صحت في كل ما يتصل بالمادة فإنها لا تصلح أن تكون مقياسًا لما هو وراء المادة ؛ وهو الجزء الأعظم والأهم الذي يقوم علي أساسه الدين .. وقد سبق أن أشرنا إلي هذه النقطة فيما كان من حديث بين الأستاذ المرشد والدكتور طه حسين .

إن الأساس الأول في الدين هو الإيمان بالغيب ، وهو أول صفة للمتقين جاءت في مستهل سورة البقرة " ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدي للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب " والغيب هو ما وراء المادة أو مالا يحيط به العقل البشري ، ومالا تدركه الحواس الخمس ... ومعجزات الأنبياء من هذا الباب ، ومن الخطأ إخضاعها للعلم التجريبي ، وهو أشد خطأ من قياس الضوء بالمقياس الذي نقيس به القماش مثلا ، مع أن كليهما مادة ؛ فما بالك بما هو ليس بمادة ؟.. ومن هنا أعرض الدكتور هيكل عن معجزات النبي صلي الله عليه وسلم جميعًا ولم يستثن منها إلا القرآن الكريم ... نعم إن القرآن هو أعظم المعجزات لكن هذا لا ينفي أن هناك معجزات أخري ثابتة بصحيح السنة لا يجوز إنكارها وقد يكون في إنكارها مساس بصميم الإيمان . أراد الأستاذ المرشد أن يلفت النظر إلي هذا الخطأ الكبير الذي وقع فيه الدكتور هيكل ، ووقع فيه عن عمد وإصرار حيث سجل في مقدمة كتابه تقيده بالأدلة العلمية التجريبية .. فأعلن الأستاذ المرشد عن حفل تكريمي للأستاذ محمد أحمد جاد المولي بك لكتابه " محمد المثل الكامل " في دار المركز العام ودعا إليه كبار المشتغلين بالأدب والعلم من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية .. وفي هذا الحفل ، وفي حضور هذه الجمع المنتقي وفي مقدمتهم المكرم ؛ أعطي جاد المولي بك حقه من الاحتفاء والتكريم باعتباره الرائد الأول وصاحب اللواء الذي اقتحم حلوكة الظلام وأضاء مصباحه المتبلج جنبات الميدان فهرع من خلفه – مهتدين بمصباحه – الجميع حتى المترددون والمعرضون وتحدث الأستاذ المرشد عن المعجزات وأفاض فيها وعن المادية الغربية وافتتان كتاباتها ... أنا لم أحضر هذا الحفل لأنه أقيم قبل أن أتعرف علي الإخوان ، ولكن الأستاذ المرشد حدثني عنه حديثًا مستفيضًا ... ولم يكن يخطر ببال أحد أن هذا النقد الموضوعي البريء سيحمله الدكتور هيكل في نفسه ويدخره ليوم هو في عرفه يوم الانتقام .

ثانيًا : الدكتور هيكل صحفي بني مجده علي الصحافة والتحرير ، ومجلة " المنار " كانت تعتبر في العرف الصحفي في ذلك الوقت قد من قم الصحافة لا المصرية وحدها بل العربية أيضًا التي يشرف صحفي مثل الدكتور هيكل أن تنشر له مقالا ... ثم يري الدكتور هيكل – وقد اعتلي متن وزارة المعارف العمومية – مدرسًا في مدرسة ابتدائية عنده يرأس تحرير هذه المجلة الشامخة ... ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، بل يقرظه الشيخ المراغي شيخ الأزهر تقريظًا لا يطمع هو أن يحظي بكلمة واحدة مما جاء به ، ثم يصدرها هذا المدرس المجلة الشامخة ويحررها كلها تقريبًا بقلمه فيرفعها إلي القمة التي كانت عندها أيام صاحبها ... أجج هذا نار الحقد التي طوي الدكتور هيكل ضلوعه عليها .

ثالثا : هذه المواقف الثلاثة لا تمس إلا الدكتور هيكل وحده ؛ لكن هيكل لم يكن يستطيع أن ينتقم لنفسه إذا لم يصادف الانتقام هوي في نفس الحكومة القائمة بأسرها .. وقد كان هذا الهوى محتملا في نفس الحكومة ؛ فإنها كانت حكومة الأحزاب الشكلية التي لا قاعدة لها في الشعب ، ولا تشتد إلا في القصر ، الذي يتخذها مطية إلي مطامعه . وهذه الأحزاب أشد حنقاً علي الإخوان منها علي الوفد ، لأن الوفد حين يغار من الإخوان يحاربهم بنفسه لأنه حزب شعبي له قوة ذاتية ، أما هؤلاء الشراذم من الباشوات خدام القصر ومن هم من وراء القصر ، فإنهم لا شعبية لهم ، فليس لهم قوة ذاتية يحاربون الإخوان بها ندًا لند ، وإنما يستعدون عليهم القصر والانجليز ، وشتان ما العدوان .

وسط معمعان العمل الدائب في المركز العام الجديد بالحلمية الجديدة ، ووسط البحر الخضم بدعوة الله ، مبايعة علي الإيمان والجهاد .. وسط هذا الجد كله فوجئنا بقرار هازل يجيئنا من الحكومة التافهة بتوقيع وزير المعارف هيكل بنقل الأستاذ المرشد إلي قنا علي أن يكون التنفيذ فورًا ... والقرار تفوح منه رائحة الحقد الدفين النتن . ورد الأستاذ المرشد فورًا علي حامل القرار بالرفض ، ووقف الإخوان جميعًا من وراء هذا الرفض متحدين ما تصنعه هذه الحكومة الحقيرة التي يرأسها أحمد ماهر الذي نلقي الأضواء علي شخصيته بعد قليل إن شاء الله ... وكان حامل القرار قد أبلغ الأستاذ المرشد بأن مجلس الوزراء قرر حل الإخوان إذا لم ينفذ الأستاذ قرار النقل ... وكنا إذ ذاك في أواخر سني الحرب العالمية الثانية والأحكام العرفية سيف مصلت في يد الحكومة ... ومع ذلك قرر الإخوان تحدي الحكومة والوقوف في وجهها ... وتواردت أفواج الإخوان من جميع نواحي القطر تعلن ولاءها ووقوفها وراء الأستاذ المرشد مهما كلفها ذلك .

ورأت الحكومة التافهة هذه السيول الجارفة من الإخوان ، رفضت في أعينهم أمارات الجد والاستعداد ، وأحست بأن الأمر أخطر مما كانت تعتقد ، ورأت أن مصلحتها في التقهقر .. ولكن تقهقرها بعد إقدامها علي القرار المتهوس ليس أمرًا ميسورًا بعد أن شاع وذاع وأصبح علي كل لسان ... فلم تجد وسيلة أمامها لحفظ ماء وجهها إلا توسيط رجال يعرفون أنهم أثيرون لدي الأستاذ المرشد ، وكان هؤلاء أكثر من رجل أذكر منهم الأستاذ الشيخ رضوان السيد وكان من العلماء وكان عضوًا في مجلس النواب وعضوًا في حزب الأحرار الدستوريين وكان صديقًا للأستاذ المرشد ، وأسرة الشيخ وبلده من الإخوان ... وقد تردد هذا الرجل في تلك الفترة العصيبة علي المركز العام مرات كثيرة مما ذكرني – وأنا أكتب هذه السطور – بما نقرأه في أيامنا عن سياسة " المكوك " التي يقوم بها وزير خارجية أمريكا " كيسنجر " في المفاوضات بين مصر وإسرائيل .

وكان الذي يحمله هؤلاء الوسطاء هو ما يشبه الاعتذار ينقلونه عن رئيس الوزراء بأن هذا القرار صدر خطأ وأنه يخشي إن أعلن في الحال رجوعه عنه وسحبه أن يذهب هذا بهيبة الحكومة أمام الرأي العام ، لهذا فهو يلتمس أن يعينه الأستاذ البنا علي تلافي الخطأ بطريقة تحفظ كرامة الحكومة وذلك بأن يقبل تنفيذ القرار لمدة شهر واحد يعود بعده إلي مكانه . ومضي علي قرار النقل الفوري أكثر من أسبوع والإخوان في كل هذه الوساطات مصرون علي الرفض ، مستعدون للتحدي .. وصار مركز الحكومة في حرج شديد ، وهنا دعا الأستاذ المرشد إلي اجتماع للإخوان في المركز العام كان أشبه باجتماع للهيئة التأسيسية موسع بعض التوسيع وتناول الموضوع وتطوراته وقال إنه في خلال هذه الفترة بعد صدور القرار ومقابلة الوسطاء وتقليبه الأمر علي مختلف وجوهه خرج برأي قد يكون مفاجئًا لمشاعر الإخوان هو أن ينفذ قرار النقل وأخذ في شرح رأيه فقال :

أولا : إن صدور قرار النقل مقترنًا بالتهديد بالحل ، وفر علينا الكثير لأنه كشف لنا عما تكنه صدور هذه الأحزاب الشكلية من كراهية وحقد ، والدعوة في حاجة إلي أن تعرف أصدقاؤها وأعداءها ومدي ما يكنه كل منهم لها من حب وبغض .

ثانيًا : أن هذا القرار قد كشف لهم عن مدي تضامننا ومقدار قوتنا مع أننا لا نزال في أول الطريق ، كما كشف لنا عن مدي ضعفهم وتخاذلهم مع أنهم قمة السلطة .

ثالثًا : أن أحزاب الأقلية هذه إنما تعتمد في وجودها علي الملك ، وأن اتصال هذه الأحزاب بالملك لا يزيده إلا فسادًا ، وهم يعملون علي عزله عن الشعب حتى لا يري غيرهم أمامه ، ومن مصلحة الملك وبالتالي من مصلحة الشعب أن تتاح له الفرصة رؤية الإخوان المسلمين باعتبارهم الهيئة الوحيدة التي لا تسعي إلي تحقيق شخصية ، فهي وحدها القادرة علي تقديم النصيحة له وبصلاح الملك تصلح البلاد .. وقد كان في خلد هذه الحكومة أن تصدر قرار النقل ويتم التنفيذ في يوم وليلة دون أن تثار ضجة فيشفون بذلك غليلهم دون أن يصل شيء إلي مسامع تلك ولكن الأمور جرت علي غير ما يحبون وكانت ضجة وصلت إلي كل مسمع ... ومن المصلحة والأمر كذلك أن لا تظهر بمظهر المتعنت . بعد أن أحس الجميع بقوتنا حتى لا يجد هؤلاء فرصة لتشويه موقفنا .

رابعًا : ليس هدفنا هو منازلة أحزاب الأقلية ، ولا ينبغي لمناوشات جانبية أن تلتفت لها فيشغلنا ذلك عن المعركة الكبرى والتي نعد لها ، ويجب أن ندخر لها كل قوتنا ، ولا نبدد شيئًا منها أمام الإثارات والاستفزازات .

خامسًا : إننا في حاجة – لتأمين خطواتنا القادمة في الدعوة وهي خطوات هامة وخطيرة – إلي فترة فيها بمنأى عن الرقابة الرئيسية بمختلف أسمائها ، التي تلاحقنا في كل وقت وفي كل مكان ، ولن يتأتي لنا ذلك إلا بظهورنا بالمظهر السلمي الذي قد يبدو مسلمًا بكرامتنا لكن وراءه الخير الكثير للدعوة ، ولن ننس في موقفنا هذا معاهدة الحديبية التي أخفت وراء بنودها – التي أغضبت كبار الصحابة – كل ما سجله الإسلام بعد ذلك من انتصارات وفتوح ... وذكر الأستاذ المرشد أن من ضمن التعهدات التي قطعتها الحكومة علي نفسها – ونقلها إلينا الوسطاء إذا أنا قبلت التنفيذ أن يرفعوا عنا الرقابة البوليسية .. وقال الأستاذ المرشد : وأنا لا أتصور أن يرفعوا عنا الرقابة نهائيًا ولكن قد يخفضونها وهذا يكفينا .

سادسًا : أن الصعيد الأعلى – لبعد المسافة وسوء المواصلات – لم ينل حظه من عناية الدعوة ، ولعل هذه فرصة أتاحها الله لتدارك ما فات من حق هذه البقعة العزيزة من البلاد .

وكانت المجموعة التي أسر إليها الأستاذ المرشد بهذه الكلمات البالغة الأهمية هم صفوة الدعوة . ومع أن حججه كانت مقنعة عقلا ، فإن عواطفهم المتأججة لم تتحمل أن تري الأستاذ ينزل علي أمر الحكومة فبدأ أكثرهم وقد انفجر في البكاء ... فكان هذا من الجنود هو الموقف الفدائي الأسمى ، كما كان من القيادة الموقف الذي وضح فيه أن هذه القيادة ليست من الطراز الذي تسوقه الجماهير وتجتاحه العواطف ، وإنما هي القيادة الموهوبة الواسعة الأفق النافذة البصيرة ، التي قد تبتلع الهزيمة المؤقتة مسيغة مرارتها وباختيارها لا رغمًا عنها لأنها تري في انسحابها هذا أمام عدوها فرصة لها ستمكنها من القضاء عليها . ولا أستطيع أن أنكر أننا جميعًا كنا فيما يشبه المأتم بعد أن حدثنا الأستاذ حديثه هذا ، ولكن ثقتنا فيه واقتناعنا بقدرته علي الرؤية البعيدة المدى ، وتناوله الموضوع تناولا كأنما اخترق فيه حجب الغيب ، كل ذلك لم نملك معه إلا الموافقة والتأييد .

وأعد الأستاذ نفسه للسفر ، وقد استخلف في هذه الغيبة الشيخ الباقوري ، ولم يبين لماذا استخلفه في هذه المرة دون غيره ، ولكن الحكمة في ذلك لم تكن خافية علينا ولا علي الشيخ الباقوري فقد كان الأستاذ المرشد يريد أن يشعر هذه الأحزاب الحاكمة بمنتهي الأمان من جانبه ، وبالمصير الدارج كان يريد أن " ينومهم " فالشيخ الباقوري موضع ثقة منه ، وهو في الوقت نفسه صهر الشيخ محمد عبد اللطيف دراز الذي كان في ذلك الوقت من كبار رجال أحد حزبي هذه الوزارة وإن لم يكن عضوًا رسميًا في الحزب . وسافر الأستاذ المرشد إلي قنا ، أو قل انتقلت الدعوة إلي قنا .. ومع أنه كان يتردد علي القاهرة إلا أننا لاحظنا أن هذه المنطقة من مصر العليا صات تحتل من تفكيره واهتمامه الجزء الأكبر فقد أخبرنا في أول مرة حضر فيها إلي القاهرة أن هذه البلاد في أمس الحاجة إلي دعوة الإخوان .. فأكثر المسلمين في هذه المنطقة يسيطر عليهم الخمول والكسل مما جلب عليهم الفقر ونشر بينهم الجهل والمرض فصاروا وكأنهم عالمة علي غيرهم ... وقال لنا : إنني سافرت إلي هذه البقعة وأنا علي عزم أن أمكث فيها الشهر الذي تم الاتفاق عليه مع الحكومة ولكنني بعد أن رأيت حالة المسلمين فيها فلن أغادرها إن شاء الله حتى أصل هؤلاء المسلمين بدينهم ليصبحوا مثلا كريمة في النشاط والعمل والإنتاج والعمل والابتكار .

ومضي الشهر ، وانتظر المسئولون في الحكومة أن يستنجزهم الإخوان وعدهم فلم يجدوا .. وجاء الوسطاء والتقوا بالأستاذ المرشد وأخبرهم بأنه لا يريد الرجوع الآن . فأسعد ذلك الحكومة أيما إسعاد .. وظل الأستاذ في قنا شهرًا بعد شهر وإذا بهذه المنطقة التي تضم محافظتي قنا وأسوان قد دبت الحياة في أوصالها وهبت من رقادها ، والتهب شعور هؤلاء الخاملين ، وفهموا الإسلام علي حقيقته فأنشئوا المنشآت وأقاموا العمارات ، وافتتحوا المدارس ، وأقبلوا علي العلم ، وواصلوا الليل بالنهار في العمل ، كأنما كانوا ماردا نائمًا تحت أطباق الثري فقام ينفض عن نفسه أثقال ما هيل فوقه من تراب وانطلق يعوض ما فاته ...

ولما كانت الفئات الأخرى من غير المسلمين في هذه المنطقة قد أثرت وتأثرت من وراء خمول المسلمين وجهلهم وتخاذلهم ، وصاروا سادة المنطقة علي حساب خنوع المسلمين وفقرهم وتقاعسهم فقد فوجئت هذه الفئات بالمسلمين وقد تبدل كسلهم نشاطا ، وخمولهم حركة ، وتقاعسهم عن العمل دءوباً ، وتحجر عقولهم إنتاجًا وابتكارًا ، وتفرغهم اجتماعًا ، وتشاحنهم فيما بينهم حبا وتضامنًا ، ونفورهم من العلم إقبالاً عليه وتسابقًا إليه ، ورضاهم بالفقر انبعاثًا في طلب الغني من أكرم سبله فوجئوا بذلك ، وهالهم ما رأوا من تبدل حال بحال مما يشبه فعل السحر ... فخوفا علي ما حققوا من مراكز مالية وأدبية في حفلة مواطنيهم المسلمين ، وأملا في الاحتفاظ بهذه المراكز – وقد علموا أن شيئًا لم يطرأ علي المسلمين في بقعتهم فغيرهم هذا التغيير ، ونقلهم هذه النقلة التي هي أقرب إلي الخيال ، إلا وجود هذا المدرس الذي نقل إلي بلدهم منذ بضعة أشهر ...

إذن ، فلابد – تداركًا للأمر – من السعي لدي المسئولين بالقاهرة لنقل هذا المدرس من إقليمهم إلي جهة أخري ، لأنهم تصوروا أن هذا الرجل إذا طالت إقامته في بلدهم فسيقضي علي مجدهم ويصفي مراكزهم ... وانهالت الشكاوى من وجود الأستاذ البنا تطلب من الحكومة نقله ، وقامت الوفود من الفئات ذات النفوذ وسافرت إلي القاهرة طالبين من المسئولين الغوث بنقل الأستاذ البنا ... وعلم المسلمون هناك بذلك فقامت المظاهرات تطالب ببقائه بينهم ، فصارت الحكومة مرة أخري في موقف لا تحسد عليه ... ما كادت الحكومة تسر لغياب الأستاذ البنا عن القاهرة ورضاه بالبقاء في هذا المنفي الذي اختاروه له حتى فوجئت بعد بضعة أشهر بقوي ذات النفوذ تطالب بإلغاء نقله إلي قنا ، ويقوي شعبية عارمة يخشي بأسها تطالب بإبقائه بقنا ... ولم تستطع الحكومة اتخاذ أي إجراء لأنها لا تقوي علي الوقوف في وجه ذو النفوذ من أهل قنا ولا علي مواجهة جموع شعب قنا فلم تجد أمامها من سبيل للمرة الثانية إلا اللجوء إلي الأستاذ البنا لأنه هو وحده الذي يستطيع أن ينقذ الحكومة من حرجها .

واستجاب الأستاذ لرجال الحكومة ، وقبل الرجوع إلي القاهرة وتكفل بإرضاء هذه الجموع الشعبية الثائرة ... وقد كان .. ورجع إلي القاهرة بعد أن رد الروح إلي الجسد الإسلامي الذي كان هامدًا في هذه البقعة العزيزة من البلاد .

الفصل الثاني : في العمل الوطني في ظل الحرب العالمية الثانية

كان العمل الوطني دائمًا في الدعوة يسير جنبًا إلي جنب مع العمل في البناء الداخلي ، وما قدم أحدهما علي الآخر إلا لظروف تدعو إلي ذلك ، فخلال الحقبة من الزمان التي ظلت نيران الحرب العالمية الثانية مشتعلة الأوار لم تكن فرصة العمل الوطني متاحة ، فأذهان الناس في جميع شعوب الأرض ، وكل قضايا الشعوب بأحداثها ومواقعها ، مرتعدة خوفًا من شبح وصول لهبها إلي بلادها ، وكل قضايا الشعوب ، ومطالبها وخلافاتها كلها وضعت علي الرف حتى تنقشع سحائب الهول التي أظلت العالم كله .

ورأي الإخوان أن خير ما تستغل فيه هذه الحقبة أن تستغل في إرساء بناء داخلي راسخ للدعوة في قلوب الشعب في مختلف الأنحاء ، وإن اقتضي ذلك التغاضي عن مواقف عارضة في الطريق ربما وسمت الدعوة من أجلها بسمة الضعف والانهزام ، وقد أشرنا في الفصل السابق إلي موقفين من هذه المواقف وكشفنا النقاب عما كان وراءهما من كسب للدعوة في الميدان الذي تريد أن تفرغ جهدها له ولبذل كل ما في وسعها لتأمينه وتثبيت أركانه . ومع ذلك فلم يتوان الإخوان لحظة في أي وقت من الأوقات عن إجابة داعي الوطنية بكل ما يطلبه ذلك الداعي من جهود ، وسنري في هذا الفصل إن شاء الله كيف كان الإخوان دائمًا عند حسن ظن ذلك الداعي . وقد بدأت الحرب العالمية الثانية في أواخر عام 1939 ووضعت أوزارها في سنة 1945 ، وفي خلال هذه السنوات الخمس حدثت تغيرات كبيرة في مصر وفي العالم أجمع .. وكان الأستاذ المرشد في أوائل أيام هذه الحرب كثير الإشارة إلي أهمية سني الحروب وإلي عمق تأثيرها في كل شيء ، ويحذرنا من التباطؤ في ملاحقة أيامها ويقول : إن سنوات الحرب وإن كانت عادة لا تتعدي عدد أصابع اليد فإنها تطوي الزمن طيا ، فيتم من التغيرات في خلالها مالا يتم في مائة عام . ويحثنا علي مضاعفة الجهد حتى لا نؤخذ علي غرة عندما تنتهي الحرب فنجد أنفسنا متخلفين .

ولقد كان حديث الأستاذ المرشد في هذه الناحية علي كثرة ما ردده علي أسماعنا غريبًا لا نكاد نفهمه ، ولكننا مع ذلك كنا نستجيب له ومن ورائه في العمل المتواصل الذي لا يهدأ ليلاً ولا نهارًا ولم نفهم معني ما كان يحثنا عليه وما كان يحذرنا منه إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها ووقفت كل هيئة عند الخط الذي وصلت إليه فوجدنا أنفسنا في المقدمة سابقين سبقاًِ عظيمًا ، فحمدنا الله علي هذه القيادة البصيرة التي قطعت بنا مسافة ما كنا نقطعها في أربعين عامًا قطعتها بنا في أربع سنوات ومن قبل قالوا " في الصباح يحمد القوم السري " .

جبهة لإنقاذ البلاد

ظل الانجليز في مصر نحوًا من سبعين عامًا ، وديدنهم التسويف والمماطلة ، لا ينتهون مع مفاوضيهم المصريين إلي نتيجة قاطعة ، ولا إلي حل فاصل .. لكنهم في سنة 1936 خرجوا من طبيعتهم ، وطلبوا من مصر وفدًا ممثلا للبلاد ليعقدوا معه معاهدة ، وكأن بنود هذه المعاهدة كانت معدة لديهم فما كاد الوفد المصري يصل إلي لندن حتى وقعت المعاهدة . والمعروف عن الساسة الانجليز أنهم بعيدو النظر ، يعدون العدة لأمور قد لا يراها غيرهم ، ثم تقع هذه الأمور فلا يؤخذ الانجليز علي غرة ، ولم يتنبه المصريون ولا ساستهم إلي أن الانجليز كانوا متلهفين إلي عقد هذه المعاهدة لأنهم كانوا يلمحون في الأفق أن حربًا كانت علي الأبواب ستقع في خلال سنة أو سنتين ، وأنهم يصطلون بنارها ، وأنهم يريدون أن يتخذوا من مصر دريئة لهم ، وأن يجعلوا من حلفائهم المصريين وقودًا لهذه الحرب .

ووقعت الحرب العالمية الثانية ، واجتاحت جحافل الألمان أوروبا في أسابيع ثم انتقلوا إلي شمال أفريقية .. ومن ليبيا زحفوا إلي السلوم حيث كانت الجيوش البريطانية في انتظارهم فاكتسحوها وفرت بأقصى سرعتها أمام قوات الماريشال روميل الذي وقف بقواته عند مشارف الإسكندرية في العلمين علي بعد 70 ميلا من الإسكندرية . كان أحرار المصريين يمقتون الانجليز ، ويتربصون بهم الدوائر ، ويتمنون أن لو أصابتهم كارثة تأتي عليهم فلا تبقي منهم ولا تذر .. فلما قامت ألمانيا بهجومها المكتسح علي أوروبا هب هؤلاء الأحرار ينتهزون هذه الفرصة لتخليص البلاد من يد الانجليز ...

كون الأحرار علي اختلاف نزعاتهم جبهة لإنقاذ البلاد ، وكان تكوين هذه الجبهة يجري تحت ستار السرية التامة ، وأنا شخصيًا مع أني كنت أقوم ببعض ما كان يوكل إلي من أعمال لهذه الجبهة – لا أعرف من الجهات المشتركة فيها ولا الأشخاص المشتركين فيه إلا الأستاذ المرشد وعلي ماهر والسيد أمين الحسيني مفتي فلسطين . كانت خطة الجبهة تتلخص في محاولة الاتصال بالحكومة الألمانية والاتفاق معها علي أن تحمل مصر عبء الدفاع عن نفسها ضد الانجليز في مقابل أن تستقل وتظل صديقة لألمانيا .. وقد حدث الاتصال ، وكانت تصلنا خطب " هتلر " بنصها ، وكنا ننسخ منها نسخًا لتوزيعها علي المشتركين في الجبهة . وأعدت الجبهة العدة لتهريب " عزيز المصري " إلي ألمانيا في طائرة من طائرات الجيش ، لكن الظروف حالت دون ذلك حيث اصطدمت الطائرة بأسلاك اضطرتها إلي الهبوط ، وقبض علي عزيز المصري وعلي قائدي الطائرة حسين ذو الفقار صبري وعبد المنعم عبد الرءوف .. وعلي غير ما كان منتظرًا أصدرت المحكمة العسكرية التي حاكمتها حكمًا برأهم مما أثلج صدور الأحرار الأطهار في كل مكان .

كما استطاع السيد أمين الحسيني أن يهرب إلي ألمانيا ، والتقي بهتلر وتفاوض معه فيما هدفت إليه الجبهة من استقلال مصر ، واستقلال فلسطين والبلاد العربية ، وكان السيد أمين موضع احترام الحكومة الألمانية طيلة الفترة التي مكثها في ألمانيا . وظلت الجبهة تعمل وتعد نفسها لليوم الذي تطرد فيه الانجليز من مصر حتى شاءت إرادة الله أن ينقلب الموقف رأسًا علي عقب ، ويتقهقر الجيش الألماني حين دخلت أمريكا بثقلها ونزلت قوات الحلفاء في المغرب بقيادة الجنرال الأمريكي إيزنهاور وأصبح الجيش الألماني محاصرًا بين هذا الجيش الجديد والجيش البريطاني . ولم يكن في حسبان ألمانيا أن أمريكا ستدخل الحرب وكانت ألمانيا تحاول دائمًا استرضاءها لأنها تعلم مدي خطورتها ، ولكن تشرشل بأسلوبه المؤثر وزياراته المتكررة وإثارته نزعة الشعوب الناطقة بالانجليز وأن هذه الشعوب في حقيقتها شعب واحد ، استطاع – علي غير توقع من هتلر – أن يجر أمريكا إلي الحرب . وكان من نتيجة ذلك أن تمكن الانجليز ، ويبدو أن مخابراتهم كانت علي علم ببعض المعلومات عن هذه الجبهة فكانت الاعتقالات التي اتخذتها حكومة الوفد في 4 فبراير سنة 1942 .


وزارة علي ماهر سنة 1939

تعد هذه الوزارة نسيج وحدها بين الوزارات التي توالت علي الحكم في مصر ، فقد تولت أمور البلاد في أحرج الأوقات عند بدء قيام الحرب العالمية الثانية ، وكان أعضاءها نوعين من الوزراء فبعضهم كانوا وزراء متخصصين ، وبعضهم الآخر كانوا من ذوى التاريخ الوطني الإسلامي الحافل ومن هذا البعض الأخير كان صالح حرب وزيرًا للحربية وكان عبد الرحمن عزام وزيرًا للشئون الاجتماعية وهي وزارة استحدثت لأول مرة في مصر وللأوقاف . وكان هناك تجاوب فكري ونفسي بين هذه الوزارة وبين الإخوان حيث كانت هذه الوزارة وزارة كفاءات لا وزارة الحشد المألوف من ذوي الألقاب ... ولذا فإنها كانت أول وزارة منطلقة غير محددة الأبعاد إلا بما نوحيه إليها المصلحة العامة .. وقد ساعد هذه الوزارة أيضًا علي الانطلاق أنها كانت مؤيدة من الملك الذي كان إذ ذاك في مقتبل أيامه ولم يكن بعد قد تلوث ، فكانت رغباته متوائمة مع رغبات الشعب ، وكان لا يزال يري في علي ماهر شخصية المعلم الناصح القدير .. وكان البرلمان متوائمًا مع الملك فكان مؤيدًا للوزارة ..

كان الانجليز – وقد أعلنوا الحرب علي المحور (ألمانيا وإيطاليا) – يعتقدون أن مصر – كما تعودوا منها ومن حكامها – ستكون سباقة إلي إعلان الحرب علي المحور تضامنًا معهم ... وقد خاب ظنهم لأول مرة فقد اقتنعت الوزارة بأن لا تعلن الحرب وبأن تعلن الجهاد فكانت هذه ضربة قاصمة لطهر هؤلاء المستعمرين ... وقد لقي هذا التصرف الجريء من الحكومة تجاوبًا من جميع الأوساط في البلاد ، وعده الشعب بطولة من علي ماهر من أعظم البطولات . وبعد أن أذاع علي ماهر قرار إعلان مصر دولة محايدة ، ذهب إلي البرلمان لإلقاء بيان في هذا الشأن وأخذ الرأي علي هذا القرار ، وقد أيد مجلس النواب علي ماهر بالإجماع ، ومع ذلك لم يستطيع الانجليز أن يضبطوا عواطفهم ولا أن يحتفظوا بوقارهم الذي كان شعار سياستهم الاستعمارية فلم يتورعوا في هذا الموقف عن إسقاط هذه الوزارة وهي مؤيدة من مجلس النواب ومن الشعب ومن الملك .


محاولة الإخوان لإنقاذ هذه الوزارة

كان علي ماهر يحس بمراحل الغضب تغلي في صدور الانجليز ، وكان الإخوان يحسون بذلك ، إلا أن الفرق بين الإحساسين كان كبيرًا فقد كان علي ماهر يتصور أن الانجليز لن يخاطروا بسمعتهم فيسقطوا حكومة مؤيدة من الشعب والبرلمان والملك ؛ أما الإخوان فكانوا يعتقدون أن هذا الموقف ليس من المواقف التي يتقيد بها الانجليز حيالها بأية قيود أدبية .. وقد اقترح الإخوان علي الحكومة خطة تلتزم الانجليز بالتفكير عشرات المرات قبل إقدامهم علي مس هذه الوزارة بأذى ، وقد أقنع الأستاذ المرشد بهذا الرأي للأستاذ عبد الرحمن عزام ، وطلب إليه أن يبلغه إلي رئيس الوزراء ، وقد فصل ولكن علي ماهر كان لا يزال متوهمًا تصوره الذي أشرنا إليه ...

أما اقتراح الإخوان فيتلخص في أن تعلن الوزارة علي العالم نفسها حكومة إسلامية ، ويرتكز هذا الاقتراح علي الدعائم الآتية :

أولا : أن الانجليز حين يواجهون بالدين – أي دين – يشعرون بشيء من الرهبة يصرفهم عن المواجهة ، ويبحثون عن صيغة أخري غيرها .

ثانيًا : أن إعلان مصر حكومة إسلامية معناه أن المساس بهذه الحكومة سيكون مساسًا بجميع المسلمين في أنحاء العالم . ولا تقوي انجلترا – لاسيما وهي في حرب – علي مواجهة ثورة يقوم بها المسلمون في كل مكان تأييدًا لهذه الحكومة ... ولا ننسي أن الانجليز وهم في حالة السلم لم يستطيعوا مقاومة مظاهرات قام بها المسلمون في الهند احتجاجًا علي تصريح صرحت به الحكومة البريطانية اشتم منه المسلمون رائحة المساس بحكومة الخلافة الإسلامية في تركيا ، ولم يخرج الانجليز من هذا المأزق إلا بإصدار الشيخ محمد رشيد رضا بيانًا أعلن فيه أن هذا التصريح لا يمس الإسلام .

ثالثا : أن الجيش البريطاني المحارب والذي كان إذ ذاك في مصر وفي شمال أفريقية كان أكثره من الهنود المسلمين والأفريقيين المسلمين ومساس الانجليز الحكومة أعلنت أنها حكومة إسلامية بأذى قد يثير هؤلاء الجنود ؛ وفي إثارتهم أشد الخطر .

رابعًا : أن الإخوان في هذه الحالة سيجدون في يدهم حجة إثارة المسلمين في مصر وغيرها . ولم يعرف علي ماهر أنه قد أسرف في حسن الظن ، وأنه أخطأ في عدم الأخذ باقتراح الإخوان إلا بعد أن أسقطت وزارته .

ولا يشك أحد في أن هذه الوزارة كانت وزارة عظيمة وواقعية وعاملة من أول يوم علي تحدي الانجليز ؛ ففي أول اجتماع لها اعترفت بروسيا وخفضت مرتبات الموظفين 10% وأحالت بعض كبار الموظفين المعروفين بميلهم إلي الانجليز إلي المعاش وكان منهم أمين عثمان .. وقد عملت علي اختيار الرجال ذوى التاريخ الوطني المشرف فقد عينت لقيادة الجيش الفريق عزيز المصري وكان عدوًا للانجليز ، وقد بدأ هذا الرجل يحد من تسلط الانجليز علي الجيش المصري .. وكان الانجليز يعرفون بواسطة أجهزتهم التجسسية صلة هذا الرجل بالإخوان فعملوا علي إزاحته


وزارة الوفد 4 فبراير سنة 1942

هذا التاريخ من التواريخ المشهورة في السياسة المصرية ، لأنه اليوم الذي طلب فيه الانجليز من الملك فاروق دعوة " حزب الوفد " لتولي الوزارة وهددوه باقتحام قصره بالدبابات الانجليزية إذا لم يلب طلبهم وقد فعل ، وتعتبره الأحزاب المصرية بل ويعتبره غيرهم من الأيام السوداء حيث لجأ الانجليز إلي التدخل السافر في شئون مصر الداخلية ، ويصمون النحاس بالخزي والعار لأنه جاء إلي الحكم علي أسنة رماح الانجليز . وتصدينا للحديث عن هذه الوزارة أملا لابد منه حيث كان لنا تجربة – تحدثنا عنها في الفصل السابق – وكثير من المعلقين من الجيل الجديد الذي لم يعش هذه التجربة لم يفهموها علي وجهها الصحيح ، ولذا فسوف نحاول إن شاء الله الكشف عن هذا الوجه الصحيح والإبانة عن حقيقة بعض المواقف في هذه التجربة فيقول :

حشر المؤرخ مدرس التاريخ المعاصر بجامعة طنطا الذي أشرنا إليه قبلا " الإخوان المسلمين " ضمن قائمة أعداء الوفد وخصومه إذ جعل عنوان بحثه المنشور بجريدة الأهرام في سنة 1975 " 4 فبراير . وثائق جديدة . صورة من تقارير الأمن العام التي تسجل تحركات خصوم الوفد بعد الحادث " وأورد تحركات الحزب الوطني وحزب الأحرار الدستوريين وحزب السعديين ثم أورد موضوع ترشيح الأستاذ حسن البنا .. وقد رتب سيادة المؤرخ علي ذلك أن تصرف النحاس مع الأستاذ البنا في موضوع الترشيح كان من تلقاء نفسه باعتباره الإخوان خصومًا له لا من وحي الانجليز ، وقد أورد سيادته في تأييد رأيه هذا الأسباب التالية :

أولا : أنه ليس من المعقول أن يعري النحاس باشا ضعفه علي هذا النحو أمام الشيخ حسن البنا لإقناعه بسحب ترشيحه . خصوصًا أن النحاس كان في مركز قوة وليس في مركز ضعف . فضلا عن أن علاقته بالشيخ حسن البنا كخصم سياسي لم تكن تجيز له أن يسلم خصمه سلاحًا كهذا السلاح يطعنه به .

ثانيًا : الوقائع التاريخية تكذب ذلك تمام التكذيب ، فقد بدأ النحاس عهده بالإفراج عن عزيز المصري وحسين ذو الفقار صبري وعبد المنعم عبد الرءوف ، رغم ما هو معروف من أن تم القبض عليهم أثناء هروبهم بطائرة إلي المحور ، ولم يكتف النحاس بذلك بل أمر بشطب القضية فهل فعل النحاس ذلك بأوامر من الانجليز ؟ اللهم إلا إذا كان الثلاثة قد غيروا مواقفهم وأصبحوا أنصارًا للانجليز .

ثالثًا : أطلق النحاس سراح محمد علي الطاهر المجاهد الفلسطيني وصاحب جريدة الشورى الذي لجأ إليه في 7 مارس سنة 1942 وكان قد قبض عليه في عهد حسن صبري بطلب من الانجليز ثم هرب من المعتقل وظل متخفيًا حتى سلم نفسه للنحاس باشا ، وكان هذا الإفراج دون الرجوع إلي الانجليز .

رابعًا : سبق أن أنكر النحاس باشا أن القبض علي " علي ماهر " قد تم بطلب من الانجليز ، وأعلن مجلس الشيوخ أن مصطفي النحاس ليس من طراز رجال الدولة الذين يضعفون أو يستسلمون أو سيستسلمون ، فكيف يظهر استسلامه أمام البنا ويعترف بانصياعه لرغبة الانجليز بصدده ؟

وانتهي بذلك تعليق السيد " المؤرخ " ويصرف النظر عما ينطوي عليه هذا التعليق من روح التهجم والانحياز فإننا نتناوله من الناحية الموضوعية فنقول :

أولاً : لم يكن بين الإخوان وبين الوفد حتى ذلك الوقت أية خصومة أو عداء فلم يكونوا يعدون الوفد خصما لهم ولم يكن الوفد يعدهم من خصومه ، وقد سبق أن ذكرت في مواضع أخري من هذه المذكرات أن تعليمات الأستاذ المرشد كانت تحت الإخوان المسئولين في هذه الفترة علي إبراز الدعوة بالصورة التي تكون فيها مقبولة من الجميع علي اختلاف أحزابهم ونزعاتهم ، ولم يكن المقصود بالصورة المقبولة من الجميع الأحزاب السياسية وحدها بل يقصد بذلك أن لا يكون بيننا وبين أي صاحب فكرة معينة سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية خصومة لأن الدعوة في تلك الحقبة من الزمن كانت في حاجة إلي أن تأخذ طريقها إلي قلوب المواطنين جميعًا علي اختلاف أحزابهم وطوائفهم ومعتقداتهم دون أن تنشغل عن ذلك بمعارك جانبية مسيرتها . فحشر " الإخوان المسلمين " ضمن خصوم الوفد في هذا الصدد مخالف للواقع كما أن تعبير " خصمه السياسي " تعبير فيه افتراء علي التاريخ .

وإذا كانت المسألة مسألة الخصومة السياسية فلم لم يفعل النحاس مع السعديين والأحرار الدستوريين والحزب الوطني وهم خصومه السياسيون دون شك ما فعله مع الإخوان المسلمين ؟ .

ثانيًا : أما إطلاق النحاس باشا سراح محمد علي الطاهر وعزيز المصري وزميليه ، واتخاذ الكاتب ذلك دليلا علي أن النحاس كان يتصرف من تلقاء نفسه دون استحياء من الانجليز أو دون مبالاة بالانجليز ، فإن هذا استنتاج نظري وقد بترت الوقائع فيه عن ظروفها .

إن مجيء النحاس إلي الحكم علي أسنة رماح الانجليز – مهما قيل في تعليله – كان غصة في حلق كل مصري ، وكان النحاس يعرف ذلك ، وكان الانجليز أيضًا يعرفون ذلك .. فكان علي الانجليز أن يخففوا في آثر هذه الغصة بإطلاق يد النحاس في إجراءات عليها مسحة الوطنية ، وفي الوقت نفسه لا تضر الانجليز كإطلاق سراح محمد علي الطاهر وعزيز المصري وزميليه لاسيما وقد أخذت المحكمة التي كانت تحاكم عزيز المصري وزميليه بنظرية الدفاع بطلان قانون الأحكام العسكرية ؛ فضلا عن أن الإفراج عنهم وعن الطاهر لم يكن إلا إفراجًا شكليًا ؛ لأنهم ظلوا تحت مراقبة القسم المخصوص والمباحث العامة .

ثالثًا : أما اعتقال النحاس لعلي ماهر ، وادعاء النحاس أمام مجلس الشيوخ أن هذا الاعتقال لم يتم بناء علي طلب الانجليز ، فمسألة فيها نظر ... فلا شك أن النحاس يعتبر علي ماهر أشد أعدائه بأسًا ، لأنه يعرف عنه المقدرة السياسية ، وسعة الأفق ، والذكاء اللماح ، واستقلال الرأي . وقوة الشخصية .. يعرف عنه كل ذلك ، ويتمني لو أتيحت له فرصة القضاء عليه ؛ فإذا وجد عند الانجليز نفس هذا الشعور نحو علي ماهر ، فإنه لا شك سيسارع إلي تنفيذ هذا الإجراء دون طلب من الانجليز ؛ كما أن الانجليز لا يطلبونه صراحة ماداموا يثقون أنه سيتم دون أنم يضطروا إلي طلبه .

أما أن ينسب النحاس هذا الإجراء إلي نفسه دون اشتراك الانجليز فيه فهذا أمر لا يضر الانجليز في شيء بل إنهم يسعدهم أن يجدوا من يرضي لنفسه أن يتحمل عنهم هذا الوزر أمام الشعب وأمام التاريخ ... وهل كان علي ماهر حبيبًا للانجليز فاعتقله النحاس تحديًا لهم ونكاية فيهم حتى يكون إعلانه في البرلمان أنه اعتقله من تلقاء نفسه مشرفًا له ، ومفخرة يباهي بها .؟ إنه اعتقله في أعقاب مأساة دستورية لم يحدث لها مثيل من قبل في تاريخ مصر – وقد نوهنا عنها من قبل – وقد ضاق الانجليز به ذرعًا بعد إقالته حين رأوه – بواسطة جواسيسهم – يتعاون مع الأحرار من أبناء مصر علي تكوين جبهة لتخليص مصر من الاحتلال الانجليزي ووقايتها من احتلال آخر ، حيث كانت جيوش الحلفاء في ذلك الوقت في هزائم متلاحقة . فليس إذن نفي إنسان عيبًا ما عن نفسه دليلا علي براءته من هذا العيب إذا ما كانت كل الظروف والقرائن به تصمه بهذا العيب .

رابعًا : ثم نرجع إلي حديث الأستاذ المرشد عن مقابلته للنحاس باشا فأقول إن الأستاذ المرشد قد نص علينا – في اجتماع خاص بالمركز العام – ما تم بينه وبين النحاس من حديث فكان هو بنفسه وبالحرف الواحد ما قصه علي الإخوان في الإسكندرية وطنطا وغيرها من العواصم .

وبالرغم مما ورد في حديثه في كل من هذه العواصم مخاطبًا الإخوان من قوله " وهذا حديث خاص بكم لا يصح إطلاع غيركم عليه " فإنه كان يعلم أن أشخاص من قبل الأمن العام مدسوسون في كل اجتماع من هذه الاجتماعات ... ومعني ذلك أنه كان دقيقًا في نقل عبارات النقاش الذي دار في أثناء المقابلة مع النحاس لأنه يعلم أن مندوبي الأمن العام سيعرضون هذه الأقوال التي سمعوها منه علي رئيس الحكومة ... فلو أن رئيس الحكومة رأي في هذه الأقوال تزيدًا كما ادعي حضرة المؤرخ لما سكت عن ذلك . ولو أن الأستاذ المرشد كان حريصًا فعلا علي أن يخص الإخوان وحدهم بحديثه ، لانعقدت بذلك اجتماعات أخري ذات صبغة أخري لا يسهل اختراقها ولا التسمع عليها سواء من رجال الأمن أو غيرهم . وسيأتي إن شاء الله في صفحات قادمة وما يوضح مدي فهم الإخوان للاجتماعات ومدي ملاءمتها للأغراض التي تعقد من أجلها .


نظرة مجردة إلي حادث 4 فبراير سنة 1942

ينبغي أن يتساءل المؤرخون والمحللون للأحداث عن الدوافع التي حملت الانجليز علي المطالبة بمجيء الوفد إلي الحكم في هذه الظروف .. هل كان دافعًا واحدًا وأن هذا الدافع كان أنهم في ظروف حرب ، ويجب أن يكون في الحكم حزب الأغلبية حتى يضمنوا في البلاد هدوءًا يساعدهم علي التفرغ لشئون الحرب ؟ هل هذا هو الدافع الوحيد أم أنه كان مع هذا الدافع دوافع أخري ؟ ألا يجوز أن يكون من الدوافع الأخرى محاولة تنظيم الوفد نفسه والقضاء علي سمعته ؟... إن دهاء الانجليز وبراعتهم السياسية ، ومقدرتهم علي الإفادة الكاملة من كل ظرف ، أمر مسلم به ولا شك فيه ، فهم فعلا كانوا في ظروف دقيقة ، يسهل مهمتهم فيها أن يكون علي رأس الحكومة زعيم الأغلبية ... وهم يعلمون مدي تكالب الوفد علي الحكم وتشوقه إليه .. ويعلمون في نفس الوقت أن الذي يتولي الحكم في ظروف الحرب التي تلازمها دائمًا قسوة الحياة ، وصعوبة وسائل التموين ، مع تعرض البلاد للغارات ... كل ذلك سيخلق الكراهية في نفوس الشعب للجالس علي قمة الحكم ... وقد استطاع الانجليز تحقيق هذه الأغراض جميعًا حين أتوا بالنحاس إلي دست الحكم ... وقد فهم الشعب بعض ما هدف إليه الانجليز ، ولكنهم لم يفطنوا إلي كل الأهداف إلا بعد أن تحققت فعلا وخرج الوفد من هذه الجولة في الحكم خاسرًا .

ولقد كانت دهشة الناس في مصر علي أشدها حين رأوا الانجليز يطلبون الوفد للحكم ، ووجدوا الوفد يسارع بالإجابة كأنما كانا علي ميعاد ... وكان الذين يحسنون الظن بالوفد يتمنون أن يرفض الوفد أن يتولي الحكم بأمر الانجليز الذين هم بغير شك أعدي أعداء البلاد ، ولكن هؤلاء حين رأوا الوفد مسارعًا إلي إجابة الانجليز ، علموا أنهم كانوا مسرفين في حسن الظن . وقد عبر الكثيرون عن هذا الشعور بطرق مختلفة كان أروعها خمسة أبيات من الشعر نشلاها " الأهرام " يوم 6-4-1942 للشاعر الكبير الأستاذ محمود غنيم تحت عنوان : الذئب والكبش وهاك هذه الأبيات :

الكبش قـام خطيبـًا فوق رابيـة ينعي علي الذئب فتك الذئب باـغنم

فتمتم الذئب في أذنيه : أنت علـي رأس القطيـع أمـير نافـذ الكلـم

فقبل الكبـش ناب الذئب معتـذر عما رمـاه به من سـالف التهــم

وقال للشاه : خوضوا وارتعوا معه من لاذ بالذئـب منـكم لاذ بالحـرم

فإن تصب أحـدًا منكم مخالبــه فإنــها بلسـم يشـفي من السقـم

وكم كان لهذه الأبيات من صدي في نفوس المثقفين في أنحاء مصر ، فلقد عمد الأستاذ محمد غنيم إلي الاستتار وراء التورية حين جعل الموضوع النقدي حديثًا علي لسان الحيوان ، فتلقاها المثقفون بفهم لماح لأن المعني مستقر من قبل نفوسهم . علي أن موضوع 4 فبراير سنة 1942 الذي أقحمنا فيه السيد المؤرخ المعاصر إقحامًا ؛ لم يكن له في نفوس الإخوان ولا في أوساطهم وقد يذكر ، إذا قيس بوقعه في نفوس السراي والأحزاب ... ذلك لأنه بالنسبة للإخوان لم يضف جديدًا إلي معلوماتهم عن الانجليز ولا عن الوفد ولا عن السراي ولا عن الأحزاب الأخرى .. فالإخوان كانوا يعرفون من تجاربهم في قضية فلسطين أن الانجليز إذا سمحت لهم الفرص فجروا .. الوفد منذ عقد معاهدة سنة 1936 أصبح يعتبر الانجليز أصدقاء وحلفاء ، كما يعرف الإخوان أن الوفد أصبح يسعي إلي الحكم لإشباع شهوات أعضائه وأنصاره من مغانم الحكم ولا يبالي من الذي يدعوه إلي الحكم .. أما الأحزاب الأخرى التي لا تصيب لها من الشعب فليس أمامهم إلا التقرب إلي السراي وإلي المستعمر مضحين بمصالح البلاد في سبيل إرضائهما ، فإذا أغضي هذان عنهم وسلما أزمة الحكم لغيرهم لبسوا ثياب الوطنيين ، وأخذتهم الغيرة علي الوطن ، وتباكوا علي ضياع مصالح البلاد .


إنشاء الجامعة العربية

نبتت فكرة إنشاء جامعة الدول العربية أول ما نبتت في أذهان الساسة الانجليز في أعقاب الحرب العالمية الثانية في غضون سنة 1944 . وقد حاول الانجليز أن يوهموا العالم أنها إنما نبتت في أذهان العرب فأوعزت إلي نوري السعيد باشا رئيس وزراء العراق أن يرفع أول صوت مناديًا بها ... وكان الإخوان قد عرفوا من قبل مصدرها الحقيقي وأنها من بنات أفكار ساسة الانجليز .. وقبل أن ينادي بها نوري السعيد ، كان الإخوان قد وضعوها موضع الدراسة والفحص ، وقلبوها علي جميع جوانبها ، وخرجوا من الدراسة بأن يثبتوا هذا المشروع ولو أنه من وضع الانجليز . كان الانجليز يهدفون من وراء هذا المشروع إلي استحداث جهاز يسهل لهم بسط نفوذهم علي جميع الدول العربية ، وليس أقدر علي إصابة هذا الهدف من إنشاء هذه الجامعة – ولكن الإخوان رأوا في إنشاء هذا الجهاز – مع سوء القصد في إنشائه – رمزًا يومئ إلي معني عزيز هو من صميم دعوتهم ألا وهو إشعار قسم ذي بال من المسلمين في هذا العالم بأن هناك آصرة قرابة تربطهم ، وأن هذه البقعة مهما تعددت أسماء الدول فيها فإنها أمة واحدة .

ورأي الإخوان أيضًا في إنشاء هذه الجامعة وسيلة تيسر لهم الاتصال بشعوب هذه الدول ، وتضفي علي هذا الاتصال معني الشرعية بعد أن كان هذا الاتصال شبه محرم إلا خلسة ؛ كما أنهم رأوا أنهم – مع تنبههم لأغراض الانجليز – يستطيعون بوسائلهم الخاصة أن يدسوا أنفسهم في هذا الجهاز أو بالمعني الأدق في تعديل توجيهه بحيث يحقق – بجانب ما أنشأه الانجليز من أجله – أغراضًا نافعة بالخير علي البلاد العربية والبلاد الإسلامية .


وضع ميثاقها

دعي إلي القاهرة رؤساء وزارات الدول العربية المستقلة في ذلك الوقت ، وكانت سبع دول تقريبًا هي مصر والسعودية واليمن والعراق وسورية ولبنان لوضع ميثاق لجامعة الدول العربية ويبدو – كما هو في خاطري الآن – أن اجتماع هؤلاء الرؤساء كان في الإسكندرية . وكانت الخطة التي وضعها الأستاذ المرشد أن يكون في استقبال هؤلاء الرؤساء وفد من الإخوان للترحيب بهم ولإشعارهم بأن المهمة التي قدموا من أجلها تلقي من اهتمام الشعب ما هي جديرة به – وهو ما كان الانجليز يحاولون إبهام الشعوب العربية به – ولذا فإن هذه الحركة من الإخوان قد نالت رضا نوري السعيد الذي كان المتبني لفكرة الجامعة وكان هو الداعي لها ... وقد أتاح الإخوان لأنفسهم بهذا الرضا فرصة الوجود بجانب لجنة الرؤساء ،وعن طريق هذا الوجود استطاعوا أن يعرفوا كثيرًا مما كان يدور خلال اجتماعات هذه اللجنة ، واستطاعوا بطريق غير رسمي الاشتراك في بعض المناقشات .

اختار الأستاذ المرشد الأخ الأستاذ محمد لبيب البوهي رئيس الإخوان بالإسكندرية ليكون ضابط اتصال بين الإخوان وبين لجنة الرؤساء ، وكان اختيارًا موفقًا فقد كان الأستاذ لبيب شخصية مقبولة وأمينة وحكيمة من أولئك الذين قيل فيهم :

إذا كنت في حـاجـة مرسـلا  ::: فأرسـل حكيمـًا ولا توصــه

فكان الأستاذ لبيب يعرض علينا كل يوم ما دار في الاجتماع الذي حضره ،وكان الأستاذ المرشد يدرس النقاط التي ستكون مدار النقاش في الاجتماع القادم ويوضح الصورة التي يحاول الإخوان أن يضعوا القرار في إطارها ، ويحملها الأستاذ لبيب حيث يجتمع الرؤساء ,, وبأسلوبه اللبق ووسائله الخاصة يصدر القرار علي الصورة المطلوبة أو قريبًا منها .


السيد رياض الصلح

استطاع الأستاذ لبيب أن يكتشف أن بين هذه المجموعة من الرؤساء رجلا عظيمًا ،وشخصية قادرة ، تفهم الأمور علي وجهها الصحيح ، وذات قلب كبير مفعم بالإيمان بالفكرة الإسلامية باعتبارها السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد العربية والإسلامية .. وتبين أن الرجل يتابع من طرف خفي نشاط الإخوان وأنه يكن لهم الحب والتقدير .. وتحدث مع الأستاذ لبيب حديثًا صريحًا حول فكرة إنشاء الجامعة ، وأنه حضر بنفسه للاشتراك في وضع ميثاقها لعله يستطيع أن يجعل منها جهازًا نافعًا للعرب كما يجب أن يكون ؛ وطلب منه أن يعتبره الإخوان ممثلا لهم في هذه الهيئة الرسمية التي تضع الميثاق ، وعلي الإخوان أن يمدوه بآرائهم أولا بأول ليدافع عنها ويحاول إدماجها في مواد الميثاق . ذلك هو السيد رياض الصلح رئيس وزراء لبنان وأعظم شخصية في تاريخ لبنان الحديث ، والرجل الذي لم يملأ الفراغ الذي خلفه بموته أحد حتى اليوم ... كان رجلا مؤمنًا قويًا ، واثقاً من نفسه مرهوب الجانب ، من أعظم الرؤساء ، محبوبًا من شعبه ... يري نفسه فوق مستوي الأطماع كما كانت همته غير محدودة بالحدود المصطنعة للعالم الإسلامي المقسم ظلمًا وتعسفًا .

توطدت الصلة بين الإخوان وبين هذا الرجل العظيم ، وكان اكتشاف الإخوان حقيقة هذا الرجل عنصرًا من عناصر إحياء الأمل لدي الإخوان أن هناك كنوزًا مخبوءة يدخرها الله تعالي لدعوته ، فحرص الإخوان علي أن تطل صلتهم به في طي الكتمان حتى يؤدي الرجل ما يستطيع من خير للأمة الإسلامية دون أن يتنبه المستعمرون فيصوبوا إليه سهامهم من كل جانب . ومما تجدر الإشارة إليه ، ومما يجب أن يعيه المتصدون للإصلاح من أصحاب الأفكار والدعوات أن لا يحصروا آمالهم في حدود الظرف المادية المحيطة بهم فيقعد بهم ذلك عن النهوض بالأعباء الجسام ؛ بل عليهم أن لا يتقاعسوا عن انتداب أنفسهم لأشق المهام وأصعبها مراسًا ، فإن ذلك سيفتح أمامهم أبوابًا وسينير لهم سبلا ما كانوا ليروها وهم قاعدون ... فيوم ووجه الإخوان بفكرة الانجليز في إنشاء الجامعة العربية ودرس الإخوان الفكرة ، فوجدوا أن ولاءهم يقتضيهم أن يتلقوا هذه الفكرة من الانجليز ويعملوا علي الإفادة منها ؛ يومئذ كان الإخوان في حيرة من أمرهم كيف يقتحمون إلي هذا المؤتمر وهم يعلمون أن رؤساء الدول العربية صنائع للمستعمر ، ولكنهم رأوا أن واجبهم يقتضيهم أن يقتحموا ففعلوا وآمالهم معلقة بوجه الله وحده ، فكان أن فتح الله بين أيديهم أوسع الأبواب بتعرفهم علي هذا الرجل العظيم وصدق الله العظيم " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم الغالبون وعلي الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " ... ولقد يسرت للإخوان الأمور حتى إنهم كانوا يطبعون مذكرات يشرحون فيها وجهة نظرهم فيما سيعرض أمام لجنة الرؤساء من مواضيع ويوزعونها علي الوفود لتنير لهم الطريق وتهيئ الجو للسيد رياض الصلح حين يتبني رأي الإخوان ويدافع عنه .


مكاسب عن طريق رياض الصلح

وسأحاول الآن أن أسرد بعض ما تمكن الإخوان من تحقيقه من مكاسب عن طريق هذه الجامعة عادت بالخير علي الأمة العربية والإسلامية .

أولاً : إخراج ميثاق جامعة الدول العربية في صورة أكثر فعالية من الصورة التي كان يريدها له الانجليز ... ومعني ذلك أنه حتى الصورة التي أخرج عليها الميثاق لم تخل من قصور ، ولكن بعض التحسين الذي أمكن إدخاله عليها قلل من هذا القصور ، وجعل هناك مندوحة لتقارب هذه الدول بعضها من بعض تقاربًا حقيقيًا إلي حد ما ، كما أتاح لها أن تعمل عملا إيجابياً وإن كان محدودًا .

ثانيًا : اختيار عبد الرحمن عزام أمينًا عامًا للجامعة .. واختيار رجل كعبد الرحمن عزام لهذا المنصب ليس بالأمر الهين ، إذا عرف من هو عبد الرحمن عزام وعرف تاريخه وجهاده وأفكاره ... لقد كان اختيار هذا الرجل أمنية عزيزة للإخوان ... وقد أشرت فيما سبق إلي صلة عبد الرحمن عزام بالإخوان سواء وهو في الحكم عضوًا في وزارة علي ماهر وفي غير الحكم .

ثالثًا : تعرف الإخوان بالقاضي الكيسي ممثل اليمن في لجنة الميثاق ... وقد ينبغي الإشارة في هذا الصدد إلي أن الدعوة حين وجهت إلي اليمن باعتبارها دولة عربية مستقلة لتشترك برئيس وزرائها في وضع الميثاق جامعة الدول العربية بعث الإمام يحيي حميد الدين إمام اليمن بالقاضي الكيسي ممثلا له علي أن يكون مستمعًا دون أن يشترك في المحادثات .. وقد أثار هذا النوع من الاشتراك في اللجان تندر كثير من الأوساط الصحفية والشعبية في مصر حتى صرت مسري المثل ، فإذا دعا أحد أصدقاءه لغداء مثلا وأجابوا وتقدموا للطعام إلا واحدًا فإن هذا الواحد يقول متندرًا : اعتبروني كيسي في هذه الوليمة .

لكن هذا الرجل " القاضي الكيسي " كان رجلاً ذكيًا ؛ فإن مجرد تعرفه علي الإخوان فتح عينيه علي ما كان يحذره إمامه ؛ فلقد كان إمامه حريصًا علي أن لا يعرف مندوبه شيئًا مما يدور في العالم الخارجي لاسيما الدعوات التحررية حتى اختمرت في ذهنه فكرة ، كانت هي نواة الثورات المتلاحقة التي خلصت اليمن من مظالم الحكم الإمامي المستبد ، وإن كان الرجل " القاضي الكيسي " نفسه قد راح ضحية في طريق التحرير ، رحمه الله وأجزل مثوبته علي ما قدم لبلاده .

رابعًا : الاعتراف باستقلال اندونيسيا وباكستان .

تبني الإخوان الدعوة إلي مؤازرة اندونيسيا في جهادها للتخلص من استعمار هولندا ،ومؤازرة باكستان في تخليص المسلمين من اعتداءات البوذيين وعباد البقر من الهنود ،وإقامة دولة المسلمين باسم باكستان تحمي كيانهم وتمكن الأمر لهم ....

ومع أن جهاد المسلمين في هاتين الجبهتين جبهة اندونيسيا وجبهة الهند كان له صدي مدو في أنحاء العالم كله ، إلا أن الحكومات المصرية لم تحس بشيء من ذلك ، ولم تكن تعير هذا الجهاد العظيم اهتمامًا مع أنها كانت أجدر الحكومات أن تهتم به لأنها الحكومة التي ينظر إليها المسلمون علي أنها زعيمة العالم الإسلامي ومناط آماله .. ولم يفت هذا الشعور المتخاذل في عضد الإخوان فدأبوا علي المناداة بتأييد هذا الجهاد المقدس بكل وسائل التأييد ؛ فكان هناك اتصال دائم بين قادة هذا الجهاد في اندونيسيا والهند وبين الإخوان المسلمين .. وقدمت منها وفود استقبلهم الإخوان أحسن استقبال ، حتى قدم السيد محمد علي جناح زعيم المسلمين في الهند والمطالب بتكوين دولة باكستان ؛ وقد استقبله الأستاذ المرشد وأحسن وفادته وعرفه بعبد الرحمن عزام . ولما أثمر جهاد الاندونيسيين والمسلمين في الهند وأعلنوا إقامة دولتين مستقلين . تخاذل الغرب عن الاعتراف بهما أملا في القضاء عليهما وهما بعد نبتتان غضتان .. وهنا تقدم الأستاذ المرشد بمذكرة إلي جامعة الدول العربية يستشير في رجالها النخوة العربية والغيرة الإسلامية طالبًا منهم الاعتراف بالدولتين الناشئتين . ثم كان لعبد الرحمن عزام الفضل في استصدار قرار باعتراف جامعة الدول العربية ، فكان هذا القرار دعامة الدولتين في الوجود القانوني ، ولم تجد الدول الأخرى بدأ من الاعتراف بهما بعد ذلك القرار .

خامسًا : بلاد الشمال الأفريقي :- كانت بلاد الشمال الأفريقي – المغرب والجزائر وتونس – ترزح تحت كابوس ثقيل من استعمار فرنسي غاشم . وكانت ليبيا تثن تحت وطأة الحكم الإيطالي المستبد .... وعن طريق الجامعة العربية وعبد الرحمن عزام استطاع الإخوان أن يلعبوا أدوارًا في التوفيق بين زعامات الأحزاب في هذه البلاد ومساندة الثورات التي شبت بها ضد المستعمر .. ولم يكن الإخوان حريصين علي إبراز أنفسهم في هذا الميدان بل كانوا حريصين الجامعة العربية لأن إبرازها في هذا الموقف كان أنفع لهذه البلاد وأشد تأثيرًا في السياسة العالمية ، ولو أن الرجال القائمين بهذه الأدوار كان الموجهون منهم من الإخوان العاملين في الجامعة العربية وخطة العمل في هذا المجال كانت باتفاق بين الإخوان وبين أمين الجامعة ، وقد انتهت هذه الجهود – والحمد لله – باستقلال هذه البلاد وتخلصها من وطأة الاستعمار .

سادسًا : تطوع الإخوان في حرب فلسطين :- كان لجامعة الدول العربية دور عظيم في تنظيم التطوع في حرب فلسطين وسنرجئ الحديث عن هذا الدور حتى نبسط الكلام في شأن هذه الحرب إن شاء الله .


عرض من الملك عبد الله

في خلال تلك الفترة كان الأستاذ عبد الحكيم عابدين في رحلة خارج مصر زار فيها بلاد الشام بأقسامها ... فلما عاد من رحلته أخذ يشرح لنا ما تم في رحلته حتى وصل إلي الأردن فقال إنه قابل الملك عبد الله الذي أبدي إعجابه بدعوة الإخوان بقيادتهم وأنه ينتظر الخير للأمة الإسلامية علي أيديهم ثم قال الملك : إن الأردن في حاجة إلي جهود الإخوان ، ولتكن أولي خطوات هذه الجهود أن يعين الأستاذ عبد الحكيم عابدين وزيرًا في حكومة الأردن علي أن ينعم عليه وعلي الأستاذ حسن البنا برتبة الباشوية .

فابتسم الأستاذ المرشد وسأل : وماذا كانت إجابتك بات عبد الحكيم ؟ .. قال : وهل تكون إجابتي إلا بالرفض ولكن بأسلوب مهذب ... ولكن الملك مع ذلك أصر علي أن يرجأ البت في هذا العرض حتى أرجع إلي مصر وأقابلك . وقد رد الأستاذ المرشد علي الملك عبد الله برسالة رقيقة استنهضه فيها العمل للإسلام مشيدًا بانتسابه إلي الفترة الشريفة ، وأثني فيها علي حسن ضنه بالإخوان ، واعتذر إليه بأن العمل غير الرسمي للدعوة الإسلامية أحوج إلي جهود الإخوان وأنه يأمل أن تلتقي الجهود الرسمية وغير الرسمية في سبيل هذه الدعوة .

محاولة أخري لدخول مجلس النواب

كان ذلك في أواخر عام 1944 بعد أن استطاع الملك إقالة وزارة الوفد معتمدًا علي ما قدمته له هذه الوزارة من أسلحة بما تورطت فيه من أخطاء مست صميم الشعب في قوته من المأكل والملبس وأقبلت الوزارة وحل مجلس نوابها كالمعتاد ، وأعلن عن انتخابات جديدة لمجلس نواب جديدة ، وقرن هذا الإعلان كالمعتاد أيضًا بالطعن في نزاهة الانتخابات السابقة ، وبأن الانتخابات القادمة ستكون حرة مائة في المائة . وقرر الإخوان دخول هذه الانتخابات بترشيح الأستاذ المرشد في دائرة الإسماعيلية وترشيح عدد آخر من الإخوان في دوائر مختلفة .

كان هناك حرص شديد من الدولة الجديدة علي إبراز هذه الانتخابات في صورة مغايرة لتلك التي كانت عليها انتخابات حكومة 4 فبراير سنة 1942 التي كان من أبرز ما عرف عنها وشوه صورتها منع الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين من ترشيح نفسه وإرغامه علي سحب هذا الترشيح ،وكان لهذا المنع ضجة في جميع أنحاء البلاد .. ولكن أسلوبًا آخر في الخفاء ومن وراء الكواليس كان يجري حسب مشيئة السادة المستعمرين :- في رسالة بعث بها الصاغ محمود لبيب رحمه الله إلي جريدة المصري في سبتمبر سنة 1950 جاء فيها ما يلي :-

" في وزارة أحمد ماهر باشا أراد المرشد العام أن يرشح نفسه ، فعلمت أنا من أحد أصدقائي أن خطابًا أرسل من السفارة البريطانية إلي أحمد ماهر باشا يطلب فيه منه أن يعمل علي منع المرشد العام والأستاذ البرير (كان من كبار السودانيين الأحرار المقيمين بمصر المؤمنين بوحدة وادي النيل) المرشح في دائرة عابدين من التقدم للانتخابات ... فأسرعت إلي فضيلة المرشد فأبلغته ذلك فضحك واستبعد هذه الفكرة . وفي اليوم التالي طلبه أحمد ماهر باشا لمقابلته فلما قابله طلب منه أن يسحب ترشيحه .. وحاول أن يقنعه فرفض . فقال له : لماذا تتشدد معي وقد قبلت مثل هذا من حكومة النحاس باشا وتنازلت عن ترشيحك ؟ .

فرد عليه بقوله : إن حكومة النحاس باشا كانت تواجه حالة سياسية مضطربة في الداخل والخارج ولم يكن هناك بد – إجابة لداعي الوطنية الكريمة – من أن نقبل منها هذا ؛ إذ كانت الحالة تدعو إلي توحيد الجهود لا إلي توزيعها لوجود الأعداء داخل الأراضي المصرية . يقول الصاغ محمود لبيب : وقد قابلت بعد ذلك علي البرير بك فقال لي إن أحمد ماهر باشا طلب هو الآخر وأطلعه بالفعل علي خطاب السفارة الانجليزية . فلما ووجه القصر ممثلا في هذه الأحزاب بإصرار الإخوان علي ترشيح مرشدهم في الانتخابات وجدوا أنفسهم أمام أمرين أحلاهما مر : ففتح الطريق أمام حسن البنا إلي مجلس النواب كارثة حيث نجاحه في هذه الدائرة أمر لا شك فيه .. كما أن منعه من الترشيح يهدم صرح الدعاية الذي شيدوه علي أساس من الحرية المطلقة التي ادعوا أنهم مما جاءوا ليردوا إلي الشعب ما حرمه الوفد منها .

وظلوا في حيرة من أمرهم حتى اهتدوا إلي الحل الأمثل الذي علمنا أخيرًا أنه إنما جاءهم من عند واضعي أدوار التمثيلية والذين اختاروا ممثليها والذين تكلفوا بإخراجها إلي الجمهور ، وتبين لنا أن واضع الرواية ومخرجها قد تضطره الظروف إلي القيام بنفسه بدور البطولة فيها وإلا فشلت التمثيلية ولم تحقق هدفها .. واتضح أن واضعي التمثيلية وموزعي أدوارها هم المستعمرين الانجليز . وبدا للجمهور علي المسرح أن ترشيح المرشد العام لا يلقي أي اعتراض من الحكومة ونظرًا لما جبل عليه الإخوان من حسن الظن وسلامة الطوية اعتقدوا أن هؤلاء الناس قد راجعوا ضمائرهم ورغبوا في تحسين علاقاتهم بالإخوان والسير في ركب المواطنين الصالحين .

مفاجـأة :

لم يبذل الإخوان أي جهد في الدعاية للمرشد العام في دائرته – كدأب ما يبذل للمرشحين في دوائرهم – لأن أهل الإسماعيلية بعثوا إلي القاهرة بوفود تمثلهم لتقديم شكرهم إلي الأستاذ المرشد العام أن آثرهم علي جميع دوائر القطر بترشيح نفسه في دائرتهم مع أن جميع الدوائر كانت تتمني أن تحظي بترشيحه فيها .. وتكفل أهل الإسماعيلية بدفع التأمين من جيوبهم . ولما جاء يوم الانتخاب فوجئ أهل الإسماعيلية بتدخل الجيش البريطاني في الانتخابات بأن أحضروا أعدادًا كبيرة من العمال الذين يعملون فيه في سيارات وأدي هؤلاء العمال الانتخاب بتذاكر مزورة بأسماء ناخبين أهل الإسماعيلية وهؤلاء جميعًا ينتخبون المرشحين الآخرين . واحتج أهل الإسماعيلية وأهملت السلطات احتجاجاتهم وانتهي يوم الانتخابات . وظهرت نتائج الانتخابات وكانت نتيجة دائرة الإسماعيلية إعادة بين الأستاذ المرشد وبين مرشح آخر .

هنا بدأ الإخوان يفهمون الوضع علي حقيقته حيث بان الخفي ووضح الأمر ، وتبين أن الانجليز تعزيزًا لمركز حكومة السعديين التي يريدونها ، وافقوا علي أن تظهر هذه الحكومة أمام الشعب بمظهر الموافق علي ترشيح المرشد العام علي أن يتكلفوا هم – أي الانجليز – بإسقاطه ويكون ذلك بالطريقة الآتية :

أن يرشحوا ضده أكثر من واحد من المقاولين الذين يعملون معهم في الجيش ... ونظرًا لتوزع قوة الحكومة في جميع دوائر القطر لحفظ الأمن فسيكون جهد الجيش الانجليزي مع قوة الأمن العادية في الإسماعيلية قاصرًا علي عدم إعطاء المرشد العام أغلبية مطلقة من الأصوات ... فيعاد الانتخاب بينه وبين أحد المرشحين الآخرين ، وهنا في الإعادة تتاح الفرصة لحشد أكبر قوة ممكنة من قوات بوليس الحكومة المصرية للتعاون مع الجيش البريطاني تعاونا يكفي لإسقاطه . وينبغي أن يكون معروفًا أن حكمدار – مدير الأمن – في محافظة القنال كان في ذلك الوقت انجليزيًا ،وأن شركة قنال السويس كان مقرها الإسماعيلية ، وأن قيادة جيش الاحتلال البريطاني كان مقرها الإسماعيلية ،وأن عشرات الآلاف من العمال المصريين الذين يعملون في الجيش البريطاني قد أتوا من مختلف بلاد القطر وأكثرهم من الصعيد ،وكان العامل يتقاضي من الجيش البريطاني أجرًا يعادل ضعفي ما يتقاضاه علي نفس العمل في أي مكان في البلاد .

معركة الإعـادة

من التجاوز في التعبير أن تسمي ما حدث في الإسماعيلية في ذلك الوقت معركة الإعادة أو معركة الانتخابات ؛ فإن الذي حدث كان حربًا أعلنتها الحكومة المصرية متضامنة مع الجيش البريطاني ضد أهل مدينة الإسماعيلية . لقد سافرت إلي الإسماعيلية ضمن عدة مئات من الإخوان من مختلف أنحاء البلاد لنشهد هذه المعركة التي توقعنا أنها ستكون معركة حامية ، لكن الذي رأيناه قد فاق كل ما خطر ببالنا ، ولولا أننا شهدنا بأعيننا لما صدقنا أن يحدث هذا الذي حدث .. وشاء الله أن تكون أكثر بلاد القطر ممثلة لتري بعينها الجريمة التي لم يحدث لها مثيل من قبل ولا أعتقد أن يحدث مثلها من بعد حتى تكون كل البلاد في مصر علي علم بما حدث . ولكي يكون القارئ في مخيلته صورة مصغرة لما حدث فسأضع تحت ناظريه بعض مناظر من أحداث ذلك اليوم .

المنظر الأول : خرج أهل الإسماعيلية منذ الصباح الباكر متجهين إلي أماكن اللجان الموزعة في أنحاء الدائرة ليدلوا بأصواتهم ،ومع كل منهم تذكرته الانتخابية ، فوجدوا أمام مدخل كل لجنة سيارة ضخمة من سيارات نقل الجيش البريطاني تغلق هذا المدخل وتحول بين الناخبين وبين الدخول إلي اللجنة .

المنظر الثاني : كثر عدد الناخبين بمرور الوقت أمام مقار اللجان ، ولما طال انتظارهم ولم تتحرك السيارات المعترضة ، حاولوا اقتحام السيارات للدخول فإذا بقوات ضخمة من بوليس القنال والبوليس المستقدم من القاهرة ومن جهات أخري تعترض طريقهم وفي أيديهم الأسلحة والهراوات .

المنظر الثالث : يلجأ الناخبون إلي الأستاذ المرشد يشكون إليه فيتصل بالمحافظ فيطمئنه المحافظ ولكنه لا يعمل شيئًا فيلجأ إلي الحكمدار الانجليزي فيتز باتريك فيرد عليه بأن عنده تعليمات من الجهات العليا ينفذها .

المنظر الرابع : القوات الضخمة من البوليس فجأة تهاجم الناخبين المحتشدين أمام مقار اللجان وتعمل فيهم هراواتهم وتهددهم بأسلحتهم حتى تبعد بهم بعض الشيء عن مقار اللجان . ثم تطوقهم تطويقًا محكمًا . وهنا تري ناقلات ضخمة من ناقلات الجيش البريطاني قادمة وهي محملة بعمال الجيش البريطاني ، وفي سرعة جنونية تتجه إلي مقار اللجان ، وتكون السيارات المعترضة للمداخل قد أفسحت الطريق فتدخل هذه السيارة حتى باب المبني الذي به لجنة الانتخابات ، وتلصق مؤخرتها بالباب وتفرغ حمولتها من العمال فيدخل كل منهم ويقدم للجنة تذكرة باسم ناخب من ناخبي اللجنة ، ورئيس اللجنة وأعضاؤها يعلمون أن أحدًا من هؤلاء العمال لا يحمل بطاقة انتخابية باسمه بل ليس منهم من يعرف الاسم المكتوب في البطاقة التي يقدمها ،وكل ما لقنه هؤلاء العمال هو أن ينتخبوا الاسم الذي حفظوه وهو اسم المرشح المنافس للأستاذ المرشد .

المنظر الخامس : بعد أن تفرغ السيارة حمولتها تظل في وضعها حتى تؤدي الحمولة المهمة المكلفة بها ثم ترجع الحمولة إلي مكانها في السيارات حتى إذا امتلأ رتل السيارات التي جاءت معًا ينطلق الرتل دفعة واحدة خارج مقر الدائرة وفي سرعة جنونية بين صفوف جنود البوليس حتى تختفي عن الأنظار داخل المعسكرات البريطانية ؛ وبعد قليل يأتي رتل آخر ويمثل الدور نفسه .

المنظر السادس : يدخل الأستاذ المرشد مقر إحدى اللجان ويضبط بنفسه أمام أعضاء اللجنة مائة تذكرة انتخابية مزورة يحملها غير أصحابها من هؤلاء العمال ، ويقدمها لوكيل النيابة فلا يتخذ وكيل النيابة أي إجراء سوي أنه يتسلم التذاكر قائلا إنه سيجري تحقيقًا دون أن يفعل شيئًا .

المنظر السابع : أمام هذه المهازل وهذا الإجرام لم نتمالك نحن – الإخوان الزائرين – أعصابنا فوجدنا أنفسنا نهاجم سيارات الجيش البريطاني المحملة بالعمال ونحاول منعها من دخول اللجان ، فإذا بقوات البوليس تهاجمنا بقيادة فبتز باتريك الحكمدار ، وقد رأيت هذا الحكمدار الانجليزي يأمر الجنود بحملنا في سيارات نقل جاءوا بها وحملت أنا شخصيًا مع مجموعة من الإخوان إلي إحدى هذه السيارات وسط مناقشات حادة بيننا وبين هذا الحكمدار . وبعد أن دخل رتل السيارات القادم من المعسكرات البريطانية والذي كنا نهاجمه إلي مقار اللجان أمر هذا الحكمدار بإطلاق سراحنا .

المنظر الثامن : عند انتصاف النهار ، قرر الإخوان أن يقوموا بعمل عنيف قد يؤدي إلي وقوع ضحايا من الجانبين ، ويبلغ ذلك مسامع الأستاذ المرشد فيحضر حيث يجتمع الإخوان وينهي إليهم رأيه بعدم موافقته علي هذا الإجراء ويقول : إن دماء الإخوان أعز عليه من أن تسفك في سبيل معركة مهما بلغنا في أهميتها فإنها لا تعدو أن تكون معركة جانبية .

ولكن أهمية هذه المعركة الجانبية أنها كشفت لنا بوضوح حقيقة الاستعمار الذي يجثم علي صدر بلادنا وحقيقة ساستنا الذين يتظاهرون أمام الشعب بالوطنية وهم في السر قد تعاقدوا مع الانجليز علي أن يكونوا مطايا لهم وتعالا في أقدامهم يدهسون بها رقاب الشعب المسكين . وينقضي هذا اليوم الأخير ... وتعلن نتيجة الانتخابات بسقوط المرشد العام في الدائرة التي يعلم كل مصري وكل عربي بل ويعلم العالم كله أن هذه الدائرة هي عقر داره ، وأن رجالها ونساءها وأطفالها لا يهتفون إلا باسمه ويؤثرونه علي آبائهم وأمهاتهم .


موقف مسرحي للانجليز

بدت إقالة الملك لوزارة الوفد يوم إقالتها وكأنها انتصار الملك ... لا لأنه أقال وزارة وفدية – فقد أقال من قبل وزارات وفدية – وإنما لأن وزارة الوفد التي أقالها هذه المرة كانت مؤيدة تأييدًا سافرًا من الانجليز ، ولازال اقتحام الدبابات البريطانية سور قصر عابدين لإرغام الملك علي استدعاء النحاس للحكم ماثلا في الأذهان ... فكأن الملك وقد تمكن من إقالة هذه الوزارة قد انتصر علي الانجليز وتغلبت إرادته علي إرادتهم ... ويبدو أن الانجليز كانوا راغبين في إيهام الشعب بهذا المعني فتظاهروا بأنهم غلبوا علي أمرهم ... وتركوا وسائل إعلامنا تبرز هذا المعني أيضًا حتى استقر ذلك في نفوس الشعب . وقد استطاع الانجليز – بهذا الموقف المسرحي – تحقيق الأهداف التالية :

الهدف الأول : أنهم حطموا الوفد باعتباره الهيئة الشعبية المسيطرة ، فقد دخل الوفد الحكم وله في نفوس الشعب الحب والإعزاز . وغادره فاقدًا هذا الحب والإعزاز وحل محلهما البغض والمرارة حيث عانوا في ظل حكمه شظف العيش وقسوة الحياة نتيجة ندوة مواد المعيشة ، واستيلاء الجيش البريطاني علي أطيابها ثم تسلط أتباع الوفد من كبار الموظفين والتجار علي البقية الباقية من هذه المواد بالسلب والنهب والاستغلال .. وهو الهدف الذي أشرنا إليه من قبل عند مناقشتنا لحادث 4 فبراير سنة 1942 ... ولا يخفي أن الطريقة السافرة التي اختارها الانجليز في 4 فبراير لتمكين الوفد من الحكم هي في حد ذاتها قد زلزلت ثقة الكثيرين في الوفد – لكن ما ارتكبه الوفد من أخطاء في أثناء حكمه قد أتت علي البقية الباقية له في النفوس ... وربما كان إحساس الوفد بنجاح سياسة الانجليز في إفقاده ثقة الشعب هو الذي دفعه بعد ذلك إلي تغيير سياسته التقليدية في معاداة الملك وإبدالها بسياسة التزلف إليه والتملق له .

والهدف الثاني : أنهم رغبوا في إنساء الشعب مرارة ما استقر في نفوسهم من آثار الاعتداء والصلف وامتهان الكرامة فيما اتخذوه من إجراء يوم 4 فبراير سنة 1942 .. وقد رأوا أن ظهورهم بمظهر المستكين المغلوب علي أمره أمام السلطة الشرعية الممثلة في الملك مسحًا لهذه الوزارة أو تخفيفًا منها علي الأقل . ويبدو أن هدف الانجليز في هذا الصدد قد تحقق إلي حد كبير ، فقد كنت تسمع من الكثيرين في مختلف الأوساط يوم إقالة وزارة الوفد كلامًا فيه معني الشماتة في الانجليز .

والهدف الثالث : أنهم أرادوا أن يهيئوا جوًا يجعل الشعب علي شوق لاستقبال الوزارة القادمة استقبال الأبطال المتقدمين ، الذين جاءوا رغم أنف الانجليز ليمسحوا عار يوم 4 فبراير سنة 1942 وليردوا للشعب كرامته وشخصيته .

وهذا ما تحقق فعلا كذلك ؛ فقد بدأ للناس كأنما استرد الملك كرامة الشعب في شخصه ، كما بدالهم كأنما جاء الملك متحديًا سلطة الانجليز بالرجال الذين هم أعداء الانجليز ، بدليل أن الانجليز يوم 4 فبراير سنة 1942 قرروا إبعادهم عن الحكم ... إذن فمرحبًا بهم رغم أنف الانجليز ... وتظاهر هؤلاء الرجال بأنهم جاءوا إلي الحكم لإنقاذ الحرية رغم أنف الانجليز .


انكشاف المؤامرة بين الانجليز والسعديين

خدع الشعب تمامًا أمام مكر الانجليز ونفاق السعديين ... والشعب معذور في أن يخدع فقد أحكم الانجليز خططهم ، واستطاع الملك وأنصاره السعديين أن يتقنوا تمثيل الدور الذي رشحهم الانجليز لأدائه ، ولم يكن الشعب يعلم شيئًا عما كان يدور خلف الكواليس قبل أن تفتح أمامه الستارة ليري علي المسرح هؤلاء الرجال وعلي رأسهم الملك وقد ظهروا وبأيديهم سيوف تقطر دمًا مدعين أنه دم الانجليز المعتدين . ولم يفطن الشعب إلي أن ما رآه علي المسرح لم يكن إلا خدعة كما هو ضحيتها ، ولم يبدأ يسترد وعيه شيئًا فشيئًا ، ويفهم ما كان يدور خلف الكواليس إلا بعد أن صدمته فاجعتان .

أولاهما : انتخابات الإسماعيلية وما أثبتته من أن تسلط الانجليز وتبجحهم يوم 4 فبراير سنة 1942 لم يكن أوقح ما عندهم إذ أنهم كانوا في انتخابات الإسماعيلية أكثر تسلطًا وأشد وقاحة وتبجحًا . ففي يوم 4 فبراير سنة 1942 لم يجدوا معاضدة في عدوانهم من السلطة الحكومية ممثلة في بوليسها ورجال إدارتها ، أما في الإسماعيلية فقد وجد العدوان الانجليزي من بوليس الحكومة المصرية ورجال إدارتها ورئيس حكومتها عونًا بل خدمًا يحمون عدوانه ، ويتهافتون علي نيل الخطوة لديه ... في 4 فبراير كان عدوان الحكومة البريطانية موجها إلي الملك وإلي حفنة وراءه من صنائعه البشوات سدته شهواته وخدام نزواته ، ومطلب الانجليز كان استدعاء الحزب الشعبي للحكم أي أنه كان مطلبًا في ظاهره علي الأقل في جانب الشعب ... أما في الإسماعيلية فقد كان عدوان الانجليز مؤيدًا بالملك وصنائعه السعديين ، موجها توجيهًا مباشرًا ضد الشعب نفسه ... مما لم يدع للشعب مندوحة للتعليل أو للتأويل أو لحسن الظن في أن هذه المظاهرة التي قام الملك بتدبيرها مع أذنابه للسعديين لم تكن إلا خدعة للشعب ، واستخفافًا بعقليته ، واستهتارًا بفهمه ووعيه ... ولم يدع عند الشعب أدني شك في أن هذه الوزارة السعدية وعلي رأسها الملك ليست إلا طليعة حقيرة للانجليز .

ومن سوء حظ الانجليز وأذنابهم أنهم ظنوا أن معركة انتخابات الإسماعيلية لن تكون أكثر من معركة في دائرة من ثلاثمائة دائرة أو نحوها لن يشعر بما يدور فيها إلا أهل المنطقة .. ولم يدر بخلدهم أن جميع دوائر القطر ستكون ممثلة يوم الانتخابات في هذه الدائرة ، وأن هؤلاء الممثلين سيرجعون في اليوم التالي إلي بلادهم ويروون لأهل هذه البلاد ما شاهدوه بأعينهم من مآس واعتداء وإجرام . وهكذا استيقظ الشعب المصري في اليوم التالي علي فهم جديد ، ووعي جديد ، ونظرة جديدة إلي الناس وإلي الأمور وإلي الحكومة التي جاءت إلي الحكم باسم حكومة التحرير والإنقاذ ، تحرير الشعب من ديكتاتورية الوفد ، وإنقاذ شرف البلاد وصمة 4 فبراير سنة 1942 .

أما ثانية الفاجعتين التي استيقظ الشعب علي دويها فهي حيرته لم سحب الانجليز تأييدهم لحكومة الوفد التي ضحوا في 4 فبراير سنة 1942 بجانب كبير من سمعتهم في سبيل إسناد الحكم إليها ، ثم نقلوا تأييدهم إلي الجانب الآخر الذي داسوه بأقدامهم في ذلك اليوم ؟ ...

ظلت الحيرة مستبدة بأفكار الشعب ، لا يجدون لها تعليلا ، حتى استقرت الأمور لهذه الحكومة ، وحظيت بمجلس نواب صنعته بيديها بالمواصفات التي حددها الانجليز ، حينئذ انطلقت القنبلة التي أفاق علي دويها الشعب من حيرته ، حيث استبان له ما كان ملتبسًا عليه ، وظهر له ما كان مستورًا عنه وتكشف السر الذي كان في طي الكتمان بين السعديين وبين الانجليز وكان ذلك حين أعلنت الوزارة السعدية برياسة أحمد ماهر الحرب علي المحور (ألمانيا وإيطاليا) . وقد سبقت الإشارة من قبل إلي أن الانجليز منذ أعلنوا الحرب علي ألمانيا سنة 1939 وهم يلحون علي الحكومات المصرية المتعاقبة أن تعلن الحرب علي ألمانيا تنفيذ البنود معاهدة سنة 1936 فقد ألحوا في ذلك علي وزارات علي ماهر وحسن صبري وحسين سري ولكن ما كانت هذه الحكومات تري أن لا مصلحة مطلقا في إعلان الحرب علي دول لم تمسنا بأي نوع من أنواع الاعتداء ، فإنهم جميعًا أصروا علي رفض هذا الطلب حتى صار رفضه سياسة عامة للدولة يقف وراءها الشعب كله بجميع أحزابه وطوائفه .

حتى وزارة الوفد التي جاء بها الانجليز في 4 فبراير سنة 1942 عجز الانجليز عن إخراجها في اتخاذ هذا القرار .. ويبدو أن هذا كان هو السر الحقيقي وراء تخلي الانجليز عن تأييدها آخر الأمر لاسيما بعد أن عقدوا في الخفاء الصفقة مع السعديين . وجاء أحمد ماهر مطمئنًا إلي تأييد الانجليز ، متحديًا إرادة الشعب التي أجمع عليها بكل طوائفه متجاهلا شعوره وعواطفه ، وأعلن الحرب علي المحور ، ظنًا منه أن تأييد الانجليز يحميه من غضب الشعب ، ولكن غضب الشعب كان أقوي مما يظن ؛ إذ قام شاب فدائي من غمار هذا الشعب الغاضب اسمه محمود العيسوي يعمل محاميًا فأفرغ فيه طلقات أردته قتيلاً ، ولما سئل محمود العيسوي في التحقيق عن الدافع الذي دفعه إلي قتل أحمد ماهر قال بصريح العبارة : إعلانه الحرب علي المحور وما قد يجره ذلك علي البلاد من دمار في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل .


أحمد ماهـر

إذا وصل الرجل في قومه أو في دولته بأية وسيلة من الوسائل إلي مركز الصدارة سواء أكان هذا المركز شعبيًا أو رسميًا فقد أصبح من حق الناس في قومه أو في بلده أن يتعرفوا علي تاريخه ، وأن ينقبوا عن دفائن أسراره ،وأن يتعقبوا ما يستخفي به من مسلك بالليل وما يعلن به في النهار ، حتى يكشفوا عن حقيقة أمره ، ويميطوا اللثام عن كنه شخصيته . وإذا كان لكل قوم خصائص ومثل ، وهذه الخصائص والمثل قد تختلف من قوم لقوم ومن شعب لشعب ، فلقد رأينا شعوبا أوربا وأمريكا لا يقوم فيهم زعيم ولا يتصدر رياستهم رئيس إلا كشفوا من أمره – علي ضوء هذه الخصائص والمثل – ما يجعلهم علي بينة من حقيقته ، فإذا رجحت كفته رفعوه إلي مكان الصدارة بأكتافهم ، وحاطوه بقلوبهم ، وإذا خفت موازينه وكشفوا زيف قذفوا به مع أمثاله المضللين إلي غياهب النسيان .

وما أخال الإسلام – باعتباره دعوة عالمية – كان بدعًا من الدعوات في هذه القاعدة السليمة والطبيعة المستقيمة فلقد تتبع القرآن شخصية محمد صلي الله عليه وسلم التي رشحها لقيادة الدنيا إلي يوم القيامة تتبعًا وصل به إلي أدق أسراره الشخصية في بيته مع نسائه . وجعل البحث في مثل هذه الأسرار من حق الأمة التي رشح لقيادتها .. ولا أعتقد أن شخصية من شخصيات العالم مهما بلغت خطورة المنصب الذي أسند إليها أو الزعامة التي سيطرت بها قد أبيح لشعبها أن يعرف من أسرارها الخاصة عشر معشار ما عرف الشعب الإسلامي في أنحاء العالم من أسرار محمد صلي الله عليه وسلم . ومعذرة في هذه المقدمة التي ذهبت بنا بعيدًا عن واقع الحال الذي نعالجه في مذكراتنا هذه عن بلادنا المقبولة الحظ ، المسلوبة الإرادة ، المجني عليها دائمًا .. فقد انفردت الأحزاب بهذا الشعب الطيب ، وشكلت تفكيره بالشكل الذي يرضيها ، فهو لا يتلقي معلوماته إلا منها ، ودرج – كما علمته – علي أن يتلقي ما يتلقاه منها علي أنه حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .

ولا أنكر أنه قد أتي علي وعلي أترابي حين من الدهر كنا ضمن هذا الشعب المغرر به ، فكنا نتلقن من حزب الوفد المعلومات التي تبرز لنا أحمد ماهر هذا في صورة البطل ، وفي صورة الإنسان المثالي .. حتى إذا انفصل عن الوفد وكون ما يسمي بحزب السعديين ، وماء الوفد بجميع النقائض ونسب إليه كل العيوب وجرده من كل المزايا .. واقتنع الشعب بذلك مع أنه كان مقتنعًا بالأمس بعكسه . هذا منطق لا يقره عقل ولا يسيغه ذوق ... ولكن علي هذا درج شعبنا المضلل ، وبهذا الأسلوب السقيم ارتضي لنفسه أن يسير في الحياة معصوب العينين مشلول الإرادة وفي أذنيه وقر ومن بينه وبين الحقائق حجاب .

أما والإخوان المسلمون أصحاب فكرة مضيئة ، ومنهج واضح المعالم ، وغاية بينة القسمات فإن الفرد منهم لا يضل ولا ينحرف لأن ميزانه بين يديه لا يفارقه لحظة ، يزن به كل شخص من تصرفه ، ويقيم ما يقابله من أفكار ومناهج وأهداف ، وصدق الله العظيم " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًَا نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتهدي إلي صراط مستقيم " . في فترة الثلاثينيات وأوائل الأربعينات كان المتخرجون – كما أسلفنا – في مختلف الكليات لا يكادون يجدون – مع الوساطات – وظائف – حتى باليومية ، وكان الواحد منهم يظل السنوات ذات العدد لا يجد عملا .. وكان الأخ طاهر عبد المحسن قد تخرج في كلية التجارة قبلي بسنة أو سنتين وظل هو وزملائه يبحثون عن عمل ... وتصادف أن أعلنت وزارة المالية عن وظائف عندها لحاملي بكالوريوس التجارة ستجري مسابقة للمتقدمين منهم لهذه الوظائف ؛ فتقدم الجميع آملين أن يكون لهم من هذه الوظائف نصيب .

ثم أعلنت الوزارة عن المسابقة وحددت لها تاريخًا وساعة في ذلك التاريخ . كما حددت مكانًا معينًا هو ديوان وزارة المالية ؛ فاستعد طاهر لهذه المسابقة . فلما جاء اليوم المحدد فوجئ طاهر بأن هذا اليوم المحدد بالتاريخ يوافق يوم الجمعة وأن الساعة المحددة هي الساعة الثانية عشر ظهرًا ... ومعني هذا أن الذين سيحضرون هذه المسابقة سيتركون صلاة الجمعة ، فاغتنم طاهر لذلك وعزم علي أن يذهب قبل الميعاد بساعة إلي ديوان الوزارة ليتقدم بشكوى إلي الوزير ضد هذا الموظف المستهتر الذي حدد هذا الميعاد ، ويطلب منه تأجيل هذا الميعاد حرصًا علي أداء صلاة الجمعة ... وذهب طاهر إلي ديوان الوزارة ، واستفسر عن اسم الموظف الذي حدد الميعاد ففوجئ بأن الذي حدد الميعاد هو الوزير نفسه ، وأنه هو الذي سيمتحن المتقدمين للمسابقة بنفسه .. فطلب مقابلته فلما دخل عليه شكا له طاهر أن هذا الموعد سيضيع علي من يحضرون المستبقة صلاة الجمعة وطلب تأجيله إلي ما بعد صلاة الجمعة .. فرد عليه الوزير ردًا وقحًا فيه كل الاستهتار والاستهزاء بالدين وبصلاة الجمعة وبالصلاة علي اختلافها . فثار طاهر عليه ولعنه وألقي بخطاب الوزارة في وجهه وخرج تاركا هذه المسابقة لهذا الوزير الوقح البذيء المستهتر ... وجاء في المساء إلي المركز العام وقص علينا القصة .

أتعرف أيها القارئ من هو هذا الوزير ؟ أنه الدكتور أحمد ماهر ....

وبأي مقياس قاسه طاهر عبد المحسن ... وبأي ميزان وزنه ؟ إنه بمقياس الفكرة الإسلامية وميزانها الذي لا يأتيه الباطل من بيد يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد . وقد شاء الله أن يكشف لنا حقيقة هذا الرجل مبكرًا ... فكثير الناس لا يصلون .. ولكن أحدهم حين يواجه بهذا يقر بخطئه وتشعر بأنه في خجل من هذا الخطأ .. أما هذا الرجل الذي هو في منصب وزير وليس فوقه سلطة تلزمه بتحديد ميعاد في وقت معين فيقوم متطوعًا مختارًا بتحديد اليوم بيوم الجمعة وتحديد الساعة بالثانية عشرة ظهرًا ... ثم يواجه بهذا الخطأ فيكشف عن أنه اختاره متحديًا شعور المسلمين الذين ينتسب إليهم زورًا وبهتانًا . مثل هذا الرجل هو ممن أشارت إليهم الآية الكريمة " وإذا ناديتم إلي الصلاة اتخذوها هزوا ولعبًا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " وقوله تعالي " أرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله علي علم وختم علي سمعه وقلبه وجعل علي بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله " .


الماسـونية

يلزمنا سياق الحديث ونحن نكشف اللثام عن شخصية أحمد ماهر أن نلقي بعض الضوء علي الماسونية حتى يكون هذا الاسم أو هذا الاصطلاح ذا مدلول عند القارئ .

ولفظ الماسون كما يفهم من لفظه الفرنسي فيه معني البناء وقد نشأت الماسونية في أوربا وأطلقت علي نفسها هذا الاسم مدعية أن الماسونيين هم البناة الأحرار وكان ذلك منذ أكثر من قرن من الزمان وهي فكرة يهودية من الأفكار التي وضع اليهود أساسها بعد أن حددوا أهدافها الحقيقية التي احتفظوا بها لأنفسهم ولكنهم أعلنوا لها أهدافاً أخري لا تمت إلي هدفها الحقيقي بسبب . فأهدافها المعلنة هي :

" أنهم يريدون إيجاد أخوة عالمية تذوب في غمارها فوارق العقيدة والقومية والوطنية " وهذا الهدف يبدو للرجل الخالي الذهن القليل التجارب هدفاً إنسانيًا رائعًا تهفو إليه النفوس وتتهافت عليه القلوب ... إنها إخوة إنسانية رفيعة . ولكن هاك حقيقة هذا الهدف :

إن خطورة هذا الهدف إنما تكن في نصفه الأخير الذي يقول : تذوب في غمارها فوارق العقيدة والقومية والوطنية

فالإسلام إنما جاء وهدفه هو إيجاد أخوة عالمية " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا " ولكن إذابة العقيدة والقومية هي بمثابة الديناميت لهذا الهدف كمن يبني صرحًا شامخًا ويضع في أساسه ديناميتًا يكفي لنسفه ونسف ما حوله من صروح ... وتوضيحًا لذلك أضرب المثل التالي :

إذا كنت ماسونيًا مسلمًا فأخونك العالمية هذه تقتضيك أن تفضل أخاك في الماسونية ولو كان غير مسلم أو كان ملحدًا علي إخوتك في الإسلام ..

إذا كنت ماسونيًا مصريًا فأخوتك العالمية هذه تقتضيك أن تفضل أخاك في الماسونية ولو كان غير مصري علي إخوانك في الوطنية .

إذا كنت ماسونيًا عربيًا فأخوتك العالمية هذه تقتضيك أن تفضل أخاك في الماسونية ولو كان غير عربي علي إخوتك في القومية العربية .

ومعني هذا بأسلوب أوضح إذا كنت عربيًا مصريًا مسلمًا وكنت ماسونيًا وطلب إلي المصريين مقاتلة الانجليز المستعمرين لإخراجهم من مصر فإذا رأيت هؤلاء الانجليز المستعمرين لبلادك إخوانًا لك في الماسونية فعليك في هذه الحالة أن تفضل هؤلاء الانجليز عملي بني وطنك وأن لا تقاتلهم بل عليك أن تعمل علي ما فيه مصلحتهم وإن كان في ذلك قضاء علي مصالح بلادك وعلي تحريرها . وإذا قيل لك إن اليهود في فلسطين قد قتلوا المسلمين والنصارى وانتزعوا أرضهم وعليك أن تقاتلهم ثم وجدت أن هؤلاء اليهود إخوان لك في الماسونية فهم عندك أفضل من المسلمين والنصارى أصحاب البلاد وأصحاب الأرض وأصحاب الحق وكنت في جانب اليهود وضد أهل دينك وقوميتك وأهل الحق . ومعني هذا المستوي الواقعي شعبًا تنتشر فيه الماسونية سيكون شعبًا متخاذلاً متفككًا لا يدافع عن نفسه ولا يطالب بحقوق وطنه ولا يستجيب لنداء دينه .

فإذا كان أفراد من الماسونيين في هذا الشعب المهيض الجناح ذوي مناصب مرموقة وذوي نفوذ وسلطة فإنهم سيكونون أشد بلاء علي بلادهم وعلي قومهم وعلي دينهم لأن ماسونيتهم تهيئ لهم فرص التواطؤ مع الأعداء علي بلادهم وقومهم ودينهم ، إذا ما كان هؤلاء الأعداء من الماسونيين وواضعوا أسس الماسونية تواطئوا في وضعها مع الطبقات الحاكمة في دول أوربا علي أن تكون الماسونية في خدمة أغراضهم وعلي أن يكون الشرق الإسلامي بما فيه من كنوز وخيرات هدية تقدم إليهم بين يدي أطماعهم واستغلالهم ، ففي عصر الاستعمار الذي كانت انجلترا فيه رائدة ركبه كان رؤساء وزارتها خارجيتها من الماسونيين ، فهم يخدمون أغراض اليهودية العالمية من ناحية باعتبارها صاحبة الفضل عليهم وعلي بلادهم ولأنها من ناحية أخري هيأت لهم عن طريق الماسونية بلاد الشرق ليلتهموها لقمة سائغة علي أساس نشرهم الماسونية في ربوع هذا الشرق الغافل .

الطريقة العملية للماسونية

وليست للماسونية نظريات تدرس ويتجادل حولها ولا أفكار صاغها مفكرون لمجرد أن تكون غذاء فكريًا كدأب النظريات والأفكار التي تمخضت عنها عقول الفلاسفة ، بل إنها نظام عملي وضع للتنفيذ من أول يوم وضع فيه والذين وضعوه حاكوا بوضعه مؤامرة خطيرة ضد نظام هذا العالم المتماسك لتقويضه من أساسه وتحويله إلي ألعوبة فاقدة الإرادة في يد اليهودية العالمية التي هانت علي نفسها وعلي العالم ، فلا هي بعددها المحدود تستطيع أن تخضع العالم لإرادتها ، ولا هي مستطيعة أن تقنع بنصيبها في الحياة باعتبارها أقلية من الأقليات . وإذن فلا سبيل أمامها لتحقيق أطماعها إلا بحبك مؤامرة لتفكيك أواصر هذا العالم حتى تتمكن من تحقيق أطماعها وترضي دفين أحقادها . ويقوم النظام الماسوني علي السرية المطلقة وعلي أساليب الإيحاء والإحاطة بهالات من الأوهام وعلي الرموز والألقاب التي اشتق أكثرها من المعابد اليهودية .

وقد لا يكون هذا مقام تفصيل لهذا النظام ، وحسبنا مجرد الإشارة إلي أسسه التي يقوم عليها حتى تتاح فرصة للإفاضة في شرحها ، ولنعد إلي الحديث عن الشخصية التي تطرق الحديث عنها وإلي إلقاء بعض الضوء علي الماسونية وآثارها في بلادنا فنقول :

إن الماسونية قد غزت مصر والبلاد العربية منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن وساعد علي غزوها هذه البلاد وجود الاستعمار ووجود جاليات من اليهود بعضهم من أهل البلاد وبعضهم الآخر قدم من أوربا ... وكان هؤلاء اليهود لاسيما الأجانب منهم هم نواة المحافل الماسونية في مصر والبلاد العربية (المحفل الماسوني هو النادي أو المقر الذي يجتمع فيه الماسونيون في بلد من البلاد أو في حي من أحياء عاصمة كبيرة ، وغير مسموح لغير أعضائه بدخوله وإذا دخلته صورة طبق الأصل من المعبد اليهودي حيث تري المذبح والقنابل والتراتيل والملابس الرسمية السوداء) . وقد رأي الغازون أن يكون اليهود الأجانب نواة هذه المحافل لأن هذا الصنف من اليهود كانوا يمثلون أرفع المراكز الأدبية والمادية في البلاد ففي الوقت الذي كانوا يسيطرون فيه علي اقتصاد البلاد ومرافقها كانوا يتمتعون بقسط لا بأس به من العلم والثقافة ، وكانوا باعتبارهم أجانب في بلد مستعمر طبقة متميزة يتمني الكثيرون من أهل البلاد أن يجدوا لهم مكانًا بالقرب منها .

وتهافت الكثيرون من سكان الريف علي التمسح بهذه الطبقة . فوجدت هذه الطبقة الفرصة المواتية لتختار من بين هؤلاء المتهافتين المجموعة التي جاءت الماسونية لاصطيادها . هما طائفتان :

1 – طائفة المثقفين ذوي الأطماع الذين لا يتقيدون بدين ولا يتمسكون بمبدأ ولا يعترفون بمثل ....

2 – طائفة خلاة الأذهان ، طيبو القلوب ، سريعو الاستجابة ، طبعوا الانقياد من أعيان الريف وتجار المدن .

وتكونت المحافل في أنحاء البلاد لاسيما في العواصم التي تؤثر في الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في سائر البلاد .. والأسلوب المنبع هو أن يشعر كل هؤلاء المنتسبين إلي الماسونية من الطائفتين بمزايا ملموسة لهذا الانتساب ، فهناك في جميع المحافل إشارات سرية يتعلمونها ، فإذا دخل عضو ماسوني متجرًا أو مصنعًا أو محكمة أو إدارة حكومية وكان له حاجة يرجو قضاءها ، فما عليه إلا أن يؤدي هذه الإشارة فإذا رأي من يبادله مثلها علم أنه أخوه في الماسونية وتقضي حاجته فورًا ويقدم علي غيره مهما كان غيره أحق منه . وكثيرون من التجار والزراع والصناع والموظفين ، حسنت أحوالهم وأخذ بأيديهم إلي أعظم الأوضاع وارقي المناصب عن هذا الطريق .. وضمن قادة الماسونية بذلك وجود قاعدة عريضة لهم في أحشاء الشعب تدين لهم بالولاء وتسبح لهم بالحمد .

ولما كانت الناحية السياسية في ذلك الوقت وفي تلك البقعة من العالم هي بيت القصيد ، فقد عكف القادة الموجهون علي العناية بعدد من أفراد الطائفة الثانية لهم صلة بالأحداث السياسية ، فمهدوا لهم أسباب البروز – وكذلك إذ ذاك في أيديهم – وفتحوا أمامهم طريق المناصب العليا في الدولة حتى وصلوا بهم إلي حيث ينتهي إليهم التوجيه السياسة في البلاد ، فوجد الشعب هؤلاء يتصدرون إدارة الحكم في البلاد دون أن يعرف كيف كان وصولهم لاسيما أو الأصابع الخفية للماسونية تحرق البخور أمامهم وتنفخ في أبواق المجد من خلفهم والشعب الذي لا يدري من أمر نفسه شيئًا مأخوذ بهذه الهالات التي أحيط بها هؤلاء الصنائع المدسوسون عليه والمزورون في الانتساب إليه .

القطب الأعظم

ومن هذه الشخصيات " أحمد ماهر " فقد تولوه يافعًا وعكفوا علي العناية به شابًا وكهلا حتى وصلوا به في مراتب الماسونية إلي أعلاها فقد صار " القطب الأعظم " ، كما وصلوا به في مناصب السياسة حتى صار " رئيس الوزراء " .

وإنه لما يثير الأسف والإشفاق معًا علي شعبنا المصري وشعوبنا العربية أنها لم تكن حتى ذلك الوقت تنظر إلي الماسونية نظرة تشوبها أية شكوك أوريب بل إن بعض المنتسبين إلي الماسونية – كانوا يخرجوا علي ما تعهدوا به من الكتمان – ويذكرون لذويهم والمحيطين بهم علي سبيل الفخر أنهم ماسونيون ويجدون فيمن حولهم من يغبطونهم علي هذا المقام العظيم . والله وحده يعلم كم من المزايا حققتها الماسونية العالمية لحلفائها المستعمرين علي حساب مصالح بلادنا عن طريق هؤلاء الذين توفرت علي تغذيتهم والعناية بهم وفتح الطريق أمامهم حتى بوأتهم أعلي مناصب الدولة دون أن يحس الشعب التائه المسكين . ولم يكن أحمد ماهر وحده هو الذي تبنته الماسونية العالمية بل إن هناك كثيرين غيره قد وصلوا إلي مناصب الوزراء عن هذا الطريق ومما يؤسى له أن بعض هؤلاء كانوا من أسر ذات سمعة دينية وكانوا من علماء الأزهر الشريف ...

وننقل للقارئ هنا ما نشرته جريدة الأهرام في 20-3-1945 بعد اغتيال أحمد ماهر تحت عنوان : " وفد الماسونية السورية واللبنانية " :

" قدم إلي القاهرة وفد يمثل الماسونية في سوريا ولبنان لحضور حفل التأبين التي ستقام للمغفور له الدكتور أحمد ماهر باشا بوصفه " القطب الأعظم " للمجلس الماسوني السامي في مصر وملحقاتها وهي سوريا ولبنان والبلاد العربية – وهذا الوفد مؤلف من الأساتذة حسين اللاز وإلياس فازان وخليل النصولي وميشيل حداد ومتري الصدى – وقد نزل حضرتهم ضيوفًا علي المحفل الأكبر الوطني المصري " .

ولا أنكر أن الأيام تطورت بعد ذلك وعمل التاريخ عمله وجاء قوم ممن تعلموا في مدرسة الإخوان المسلمين ففهموا الحقائق التي يجهلها الشعب عن الماسونية وغيرها ، وتصدروا منصة الحكم في مصر أمر أو قرار بذلك دون أن يستأصلوا جذورها أو يلغوا ما خلفت من آثار جعلت الشعب يشعر حتى اليوم أنه يعيش في حياة متناقضة فالماسونية تلغي ولكن تمجيد قادتها مازال أمرًا واقعًا فالمؤسسات لازالت تحمل أسماءهم والشوارع والميادين تسمي بأسمائهم .


علي هامش قضية اغتيال أحمد ماهر

تولي رياسة الوزارة بعد مقتل أحمد ماهر زميله وصديقه وظله محمود فهمي النقراشي فأمر بإحالة القضية إلي المحكمة العسكرية العليا برياسة محمود منصور بك وعضوية حسن حمدي بك واثنين من العسكريين ... وقد ترافع عن المتهم علي بك بدوي فدافع دفاعًا رائعًا ،ودفع بعدم اختصاص القضاء العسكري . وتبين أن المتهم كان منتسبًا إلي شباب الحزب الوطني . وفاجأ المتهم المحكمة بأنه يطلب النقراشي شاهد نفي فسألته المحكمة عن أسباب ذلك فقال :

أولاً : إن دولته يعلم أن الحرب كانت ستعلن هجومية وترسل قوات إلي الشرق الأقصى وأوربا ، وأن هذا الوضع تغير بعد ارتكاب الحادث .

ثانيًا : أن إعلان الحرب كان بناء علي تدخل الانجليز وكان أحمد ماهر والنقراشي عند السفير البريطاني في يوم الحادث مما يدل علي أن هناك تدخلا من الانجليز في شئون مصر الداخلية .

ثالثاً : أن النقراشي قال لي شخصيًا إن الحكم في هذه القضية سيكون رادعًا . وقام علي بك بدوي وأيد هذا الطلب

من دفع علي بك ضد القضاء العسكري

جاء في دفع علي بك بدوي بعدم اختصاص القضاء العسكري نظر هذه القضية ما يلي :

" إنه لا يجوز نزع المتهم من قضائه العاديين الطبيعيين وهم قضاة محكمة الجنايات ، وليس معني هذا أنني أشك في القضاء العسكري أو أفاضل بينه وبين القضاء العادي ، وإنما في القضاء العادي وسائل تجعل المتهم أكثر اطمئنانًا ، وفيه ضمانات لحرية دفاعه والتأني في محاكمته . وفي القضاء العادي أربع درجات هي الإحالة ومحكمة الجنايات ومحكمة النقض ومرتين في بعض الحالات . والإحالة مرحلة مهمة ؛ فقاضي الإحالة ليس قنطرة كما يراه البعض ، بل هو يملك بنص القانون تعديل وصف التهمة ، وقد يكون هذا التعديل في صالح المتهم .

ثم إن المحكمة العسكرية تستطيع أن تحكم بالإعدام مثلا غيابيًا ، وينفذ الحكم عند اعتقال المتهم دون سماع دفاعه . أما القضاء العادي فيظل الحكم مطلقاً حتى يقبض علي المتهم فيسقط الحكم وتعاد محاكمته من جديد . فالمتهم قد حرم من كل هذه الدرجات . ثم إن نظر القضية أمام المحكمة العسكرية يؤدي في النهاية بعد الفصل فيها إلي شيء من الحرج ، فقد يكون هناك وجه بنقض الحكم الصادر بالإعدام مثلا وبه أخطاء تستدعي نقضًا ، فتري النيابة حرجًا من الإشارة إلي هذا الخطأ ، كما يري دولة الحاكم العسكري حرجًا في إلغاء الحكم إذا تبين له خطوة نظرًا لصلة الصداقة الوثيقة بدولة القتيل ، فالمتهم لا يطمئن إليه كسلطة نقض نظرًا لما يربط بينه وبين الفقيد من الصلة القوية ، ولحرصه علي أن تكون العقوبة رادعة شديدة ، فهو لا يرضي لنفسه هذا الموقف ففي قبول الدفع رفع الحرج الشديد عنه " .

وكان تكوين هذه الدائرة وإسناد إلي محمود منصور بك ذا دلالة خاصة ربما وضحت هذه المذكرات ذلك في مواضع قادمة إن شاء الله حتى إن المتهم ألح في طلب إحالة القضية إلي دائرة أخري وقال إن هذه الهيئة أصدرت حكمًا في قضية مشابهة استبعدت فيه الصلة السياسية للجريمة بل اعتبرت هذه الصفة ظرفاً مشددًا ... وقد رفضت المحكمة هذا الالتماس مهما اضطره إلي التقدم بطلب رد المحكمة وقد رفضته المحكمة أيضًا .. وطلب المتهم شهادة النقراشي والنحاس وعلي ماهر ومكرم عبيد وحافظ رمضان والدكتور محمد هاشم وعبد العزيز الشوربجي وفتحي رضوان والأستاذ حسن البنا . ورفضت المحكمة هذا الطلب في أول الأمر فلما هدد علي بك بدوي بالانسحاب وافقت علي دعوتهم فلما حضروا قررت سماعهم في جلسة سرية وقد احتج علي بك علي ذلك ولكن المحكمة أصرت .

وعلي العموم فإن هذه القضية والأساليب التي اتبعت في إجراءاتها كانت وصمة عار في جبين القضاء المصري فحسبك أن تعلم أن قضية حول المتهم فيها اتجاه الحكومة الذي كان مبينًا مع السفير البريطاني من إعلان حرب العمومية علي المحور إلي حرب دفاعية وأدلي بالشهادة فيها جميع زعماء البلاد ، هذه القضية لم يستغرق نظرها أمام هذه الدائرة إلا نحو أسبوعين ،، فكأنما كانت هذه الدائرة مجرد بوق لتنطق بالحكم الذي هدد به رئيس الحكومة النقراشي المتهم عندما قابله في أثناء تحقيق النيابة معه ... وخير ما نلخص به هذه القضية وهذه الدائرة أن نثبت هنا ما ختم به الأستاذ الكبير علي بك بدوي مرافعته التي استغرقت ثلاثة أيام حيث قال :

" وهناك كلمة أخري أريد أن أقولها وهي أنه متى تجتمع روح الفقيد وروح هذا الشاب أمام الله فإنه سيحكم بينهما بعدله المطلق دون فارق بين هذا وذاك ... وقد تقدمت لحضراتكم بدفع شكل وبدفاع موضوعي . ودفاعي في الموضوع كله ظروف تبرر إنقاذ المتهم من الإعدام ؛ فإن قضيتم علي دفعي الشكلي وحكمتم برفضه فإني سأبكي المبادئ القانونية أحر البكاء ، وإن نبذتم دفاعي وقضيتم بإعدام هذا المتهم فإن سأبكي من بعده أخلاقه النبيلة وحال هذه الأمة التعسة " .