الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الأول - الباب الأول)

من معرفة المصادر

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الأول : في شارع الناصرية

مقدمة الباب الأول

إذا كان لصاحب الدعوة يبغى من وراء دعوته أن يتوطد مركزه ، ويعلو مقامه ، ويكون فى عز من التفاف الناس حوله ، وائتمارهم بأمره ، ومسارعتهم إلى ما يرضيه ، وتنافسهم فى التقرب إليه ، وبذلهم كل نفيس فى سبيله ، فإن ذلك كله قد نوفر لحسن البنا فى الإسماعيلية وما حولها .. ونستطيع أن نقول واثقين إن حسن البنا قد صار أعظم شخصية فى هذه المنطقة .

فماذا يريد إنسان بعد ذلك ؟ إن مثل هذا الداعية - وقد تحقق له أعظم ما يخطر بخيال إنسان ليطيب له المقام حيث العز والجاه والسلطة والشهرة دون منافس ولا منازع .

ولكن حسن البنا لم يكن هدفه الحصول لنفسه على هذه المتع الشخصية التي هي منتهى آمال كثير من الدعاة ، وإنما كان هدفه أبعد من هذا بكثير ... إنه كان يرى أنه يدعو إلى الدعوة عالمية ، فلابد أن ينتقل بها إلى حيث يبلغ صوته أوسع دائرة ممكنة من هذا العالم ... نعم إنه سيترك مكانا يشار فيه بالبنان ، ويتحدث عنه فيه بالإجلال الرجال والنساء الصبيان ، وإذا نادي هرع إليه ألوف من الناس ، وإذا قال ردد قوله ألوف آخرون .. سيترك ذلك إلى مكان لا يعرفه فيه أحد ، ولن يحظى بتوقير واحترام ، وإذا نادي بأعلى صوته لم يستجيب لندائه فرد واحد .. سيترك ذلك إلى مكان يكون فيه من غمار الناس ومجهوليهم .. كان يعلم هذا وأكثر منه ولكن بطبيعة دعوته تفرض عليه أن ينتقل ..

ومن أطراف ما حدثنا به الأستاذ المرشد مما يتصل بهذه المناسبة قوله : إنه بعد انتقال الدعوة إلى القاهرة بثلاث سنسن وانتقال مركزها العام 13 شارع الناصرية بالسيدة زينب ... حضر أحد إخوان الإسماعيلية إلى القاهرة لزيارتي ، ولم يكن هذا الأخ قد زار الأخ قد زار القاهرة من قبل ... وكان يعتقد أن المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة له من الشهرة ما للمركز العام السابق فى الإسماعيلية وأن من أشهر شخصيات القاهرة ..

فلما نزل من القطار فى محطة القاهرة سأل أول من قابلهم من أهل القاهرة عن المركز العام للإخوان المسلمين ، فلما سمعه هؤلاء يسألهم عن شئ مجهول - وكأنه يسأل عن أحد معالم القاهرة اعتقدوا أنه شخص ساذج وقالوا له - ساخرين - اتجه من هذا الطريق ( وأشاروا إلى ناحية ما ) ثم اسأل هناك ... وظن الأخ أنهم جادون فى كلامهم واتجه حيث أشاروا ثم سأل فأجيب بنفس الطريقة ... وهكذا ظل يضرب فى شوارع القاهرة على غير هدى حتى قابلته صدفه وقد جاوز دار المركز العام بمسافة ... يقول الأستاذ فقص على الأخ ما حدث معتقدا أن هؤلاء الناس دلوه على الطريق وأثنى عليهم ... غير أنه لما قفل راجعا مع الأستاذ المرشد المسافة التي جاوز بها دار المركز العام قال للأستاذ المرشد : إن كل من سألتهم عن الطريق صدقوني إلا هذا المحل ( وأشار إلى محل على بعد أمتار لا تعدو الخمسين من المركز العام ) فقد سألته فقال لي : امش إلى نهاية هذا الشارع ( شارع الناصرية ) فستجد ميدان السيدة زينب فاسأل هناك عن المركز العام .

ضحك الأستاذ المرشد ، وفهم أن الدعوة حتى بعد انتقالها إلى القاهرة بثلاث سنوات لازالت إحدى النكرات حتى أن الملتصقة دكاكينهم بدار مركزها العام لا يعرفونه.

محال إذن أن من يكون هدفه أن يعيش فى جو من الشهرة والانطباع ، والشيعة والأشياع ، أن يغادر مكانا يتوفر له فيه كل ذلك ، لينتقل إلى مكان يكون فيه نكرة مجهولة ، وكمية مهملة ولكن المصلح يستجيب لدعوته مهما كلفته هذه الاستجابة .

انتقل فى عمله الخاص الذى يكتسب منه عيشه منه إلى مدرسة عباس الابتدائية بالسبتيه بمصر ، واتخذ لأسرته مسكنا فى حارة الروم بالغورية ، وجعل مقره هذا مقرا للمركز العام بالقاهرة .. أما تعرفي على الدعوة فلم يكن إلا بعد أن اتخذوا للمركز العام مكانا فى شارع الناصرية ، ويعد هذا الموقع بالنسبة لموقعهم السابق كالخروج من تحت الأرض إلى ظهرها ، وان كانت الدار كما قلت من قبل دارا قديمة متداعية .

تركيز الجهود على الطلاب

تكوين لجنة الطلبة

تحدثت عن الطلبة الذين التقيت بهم فى المركز العام حين ترددت عليه أيام محاولتي استكناه أمر هذه الدعوة وأمر العاملين فيها . وقد لفت نظري اهتمام الأستاذ حسن البنا بالطلبة اهتماما شديدا فإذا تخلف طالب من المنتمين إلى الإخوان لأي سبب من مرض أو غضب أو غير ذلك عطل كل أعماله وخف إلى زيارته فى مسكنه مع مجموعة من زملائه الطلبة ويقضى عنده الساعات الطوال ؛ وهو الرجل الذى يضن بالدقائق أن يقضيها فى استقبال زائر مهما علا مقامه ؛ والرجل الذى كتب على مكتبه هذه العبارة ( الوقت هو الحياة ) لأنه كان يخطئ المثل الذى يقول ( الوقت من ذهب ) ويقول : إن الذهب إذا ضاع أمكن استرداده ولكن الوقت إذا ضاع لم يمكن استرداده . وكان على مكتبه أيضا لافته تقول (( الواجبات أكثر من الأوقات )) .

كان يرى أن الطالب هو أحق إنسان أن يعتني به وأن يحرص عليه وأن يبث إليه ما فى العقل والقلب . كان حريصا على أن تكون أمور الطلبة من اختصاصه هو دون غيره ، ويخيل إلى انتقاله إلى القاهرة كان أهم دوافعه أن يكون فى الموقع الذى يمكنه من الاتصال بالجامعة التي كانت فى ذلك الوقت وحيدة لا أخت لها فى بلد آخر من بلاد القطر .. ومن مظاهر حرصه على الاتصال بالطلبة والعناية بأمرهم ما حدثني به فى ذلك الوقت الأخ الكريم محمد فهمي أبو غدير قال لي : إن الأستاذ المرشد حريص كل الحرص على الاتصال بطلبة الجامعة بكل الوسائل الممكنة ، وكان يعتبر إقناع طالب واحد فى كلية من الكليات أنفع للدعوة من دخول بلد بأسرها فيها ، وكان يتلمس وسائل هذا الاتصال فعلم أن كلية الحقوق قررت على طلبة السنة الأولى بها دراسة مائة حديث نبوي اختارتها .. فهرع الأستاذ إلى هذه الأحاديث المقررة فشرحها شرحا رائعا ونشرها فى مجلة الإخوان وقام الإخوان الطلبة بعرض هذا العدد من المجلة على طلبة الكلية فأقبلوا عليها وتهافتوا على اقتنائها وبهذه الوسيلة اكتسبت الدعوة عددا جديدا من طلبة كلية الحقوق .

وبعد فترة قصيرة من التحاقي بالدعوة رأى الأستاذ المرشد أن يكون للطلبة مجلس إدارة سماه (( لجنة الطلبة )) تمثل كل كلية فيها بطالب فكان يمثل كلية الآداب محمد عبد الحميد أحمد وكلية الحقوق حسن السيد عثمان وكلية الطب إبراهيم أبو النجا وكلية العلوم جمال عامر وكلية التجارة طاهر عبد المحسن وكنت أمثل كلية الزراعة واختار الأستاذ المرشد حسن السيد عثمان رئيسا للجنة واختارني سكرتيرا لها .

كان تكوين اللجنة عملا كبيرا فى أثره وإن كان فى مظهره شيئا تافها ، فلجنة مكونة من ستة شبان صغار فى حجرة صغيرة من شقة متواضعة فى شارع غير مرموق لا نثير شيئا من الاهتمام ، ولا تبعث فى النفوس آمالا ترتقب ... ولكن الأستاذ حسن البنا بحاسته التي حباه الله بها ، والتي يرى بها المستقبل مالا يراه جيله ، كان يعرف ما سيكون لهذه اللجنة من آثار بعيدة المدى ، فكان يعقد عليها آمالا عريضة أثبتت الأيام أنه كان على حق فى عقدها وإذا كنا نريد أن نعرض لآثار هذه اللجنة فسنقول الكثير ، وسيطول القول ، وسنرى آخر الأمر أن جميع تطورات الدعوة وكل ما قامت به من أعمال وما حققت من أمال وما أخفقت فيه من ذلك ، وأن بروز الدعوة على المسرح المصري وانتشارها فى المجالين العربي والإسلامي ، ومواجهتها للاستعمار الغربي وللغزو الفكري الروسي منذ سنة 1936 حتى الآن ؛ كل ذلك هو آثار من هذه اللجنة .

الفصل الأول : العمل الطلابي المنظم

على أثر تكوين لجنة الطلبة بدأ عمل منظم فى الوسط الطلابي كانت مظاهره ما يأتي :

أولا : توزيع مجلة الإخوان

لم تكن مجلة الإخوان المسلمين مجلة خبرية ولا مجلة ثقافية عامة حتى يقتنيها المتشوفون إلى معرفة الأخبار أو الذين ينشدون الثقافة للمتعة والتسلية ، وإنما كانت لسانا معبرا عن دعوة الإخوان المسلمين ، وكان الأستاذ المرشد يكتب بقلمه أكثر ما ينشر فيها ، وكان يحاول فى كتابته أن يقنع من يقرأها بالدعوة ؛ فكانت هناك سلاسل من المقالات بعناوين (( دعوتنا )) إلى ، (( إلى أي شئ ندعو الناس )) (( هل نحن قوم عميلون ؟ .. )) وأمثال ذلك مما يوضح بأساليب منوعة طبيعة الدعوة وأهدافها ، ووسائلها وآثارها ، وكانت بقية المقالات يدور حول المعنى نفسه .

كما لم يكن لهذه المجلة رأس مال للإنفاق منه عليها ، ولما كان محرروها لا يتقاضون على التحرير فيها أجرا فإن تكاليفها كانت قاصرة على أجر طباعتها وثمن ورقها وكان الأستاذ المرشد يتكفل شخصيا بالجزء الأكبر من ذلك ... ومجلة هذه حالتها وهذه ظروفها ما كان مصدروها ليفكروا فى حمل عبء آخر من أعبائها بأن يتقاعدوا مع شركة توزيع لتوزيعها ؛ وكيف يقدمون على مثل ذلك وهم عاجزون ومن ناحية عن تقديم ما يتطلبه التوزيع من أجر ، ومن ناحية أخرى لا يستطيعون طبع الحد الأدنى من النسخ حتى تصلح للتوزيع فهم يطبعون منها نسخا بقدر ما يملكون من مال . وهذا القدر لا يفي بعشر ما يتطلب التوزيع العام فى مختلف الأنحاء .

لهذا كان يطبع من هذه المجلة قد عدد الإخوان الذين كانوا يقتنونها من أعضاء شعب منطقة القنال وما حولها وترسل إليهم عن طريق مندوبين من هذه الشعب يحضرون إلى القاهرة لتسلمها أو ترسل إلى هذه عن طريق مندوبين يحملونها إليهم وقد ترسل عن طريق البريد وكانت الكمية التي تستبقى فى القاهرة يوزعها الموجودون بالمركز العام على أنفسهم ، وقد نبقى بعد ذلك بقية لا تجد من يقتنيها .

ونظرت (( لجنة الطلبة )) فى موضوع المجلة فوجدت أن توزيع المجلة هو وسيلة من أهم وأجدى وسائل نشر الدعوة ووجدت أن الطلبة قد يكونون أكثر الطوائف فهما لما يكتب فيها وأحوجهم إلى قراءتها وأنفعهم للدعوة إذا اقتنعوا بأفكارها ، فقررت اللجنة أن يلتزم مندوب كل كلية بعدد من النسخ كل أسبوع يوزعه فى كليته .. وبدأت التجربة بعدد قليل وأخذ العدد فى الازدياد وكان الأستاذ المرشد يتابع هذا التوزيع باهتمام لأنه مقياس لمدى نجاح الدعوة فى كل كلية من الكليات .. وكان بعضنا - نحن أعضاء اللجنة - فى أول الأمر يسدد ثمن أكثر ما التزم به من نسخ من جيبه الخاص ولكن نجاح التجربة أغنى عن ذلك فيما بعد

ثانيا : نشر الدعوة داخل الكليات

كانت الكليات خلوا من الدعوة الإسلامية فى الوقت الذى كانت تعج فيه بالأحزاب السياسية والأفكار المنحرفة وكانت رؤية الطلبة زميلا لهم يصلى كافية للتشنيع عليه ورميه بالرجعية ولذا كان الطالب الذى تربى فى بيته على المحافظة على الصلاة يجد مشقة فى أداء الصلاة فى كليته ، وكان يستخفى بالصلاة خشية أن يراه زملاؤه فيرشقونه بألفاظ مؤلمة .. وقد يحمل هذا الكلام على محمل المبالغة أو التخيل ... ولذا فسوف أشرح مواقف توضح للقارئ أن هذا الوصف خلو من أي معنى من معاني المبالغة .

التحقت بكلية الزراعة وكانت الكلية فى تلك السنة 1935-1936 لا تزال مدرسة عليا ، وكانت لا تزال هناك وجبة غذاء فاخرة تقدم للطلبة وكانت فترة الغداء هذه تطول أكثر من ساعة وتمتد فترة الدراسة بعدها إلى ما بعد العصر ؛ فكان أداء صلاة الظهر أمر لا مفر منه فى فترة الغداء ... ولما كنت طالبا جديدا وكنت حديث عهد بالكلية فقد تولتني الحيرة أين أؤدي صلاة الظهر ، فلم أجد أمامي من أتوسم فيه معرفة إلى ذلك إلا الفراشين فدلني أحدهم على المكان وكان هذا المكان قبة مبنية على الأرض ، ولكي أدخل تحت هذه القبة كان على أن أهبط سبع درجات سلم حيث أدخل مكانا مظلما يشغل ثلاثة أرباع مساحته الضئيلة قبر عليه ستار من قماش مهلهل وحول القبر قطع بالية من حصير قذر لا يتسع لصلاة اثنين معا .

انقبضت نفسي حين دخلت هذا المكان وتعجبت كيف تؤدى الصلاة فى مثل هذا المكان ، ولكوني طالبا صغيرا حديث عهد بالكلية اضطررت لأداء الصلاة فيه فترة من الزمن ، حتى إذا استقرت فى خاطري معالم هذه الكلية بدأت أبحث عن طريقة للتخلص من أداء الصلاة فى هذا الجب البغيض . وقد لاحظت أنه لحماية هذا المهبط إلى الجب أقامت الكلية سورا قصيرا من الحديد حوله ولكنه على وجه الأرض طوله نحو ثلاثة أمتار وعرضه نحو أو يزيد ؛ فتمنيت لو أننا صلينا فى هذا المكان ... ولاحظت أن هناك طالبا مواظبا على أداء صلاة الظهر فأحببته وتعرفت عليه وكان أسمه (( محمود مكي )) بالسنة الثالثة - وتبين لي بعد ذلك أنه مندوب (( مصر الفتاة )) بالكلية - فعرضت عليه أن نصلى فوق الأرض فى المساحة التي يحصرها السور فهمس فى أذني بأن هذا غير ممكن وإن أحدا لن يجرؤ على الصلاة فوق الأرض ، وأننا نصلى تحت القبة حتى لا يرانا زملاؤنا فيسخروا منا ويتهكموا علينا

أثارني هذا الاستخذاء وأجج فى صدري مرجلا من الغضب فنقلت الحصير البالي من تحت القبة إلى المساحة التي يحصرها السور من سطح الأرض ، ثم وقفت فى هذا المكان وأذنت أذان الظهر بأعلى صوتي فكان أذاني هذا إحدى العجائب إذ تقاطر الطلبة والفراشون وموظفو الكلية من مختلف الجهات إلى حيث أؤذن ليرو بأعينهم ما لم يصدقوا فيه أسماعهم .. فكانوا يعتقدون أن اجتماعهم فى مواجهتي وتكأكؤهم على كاف لإخجالي مما أقوم به فأكف عن إكماله ، ولكنني قبل أن أقدم على ما أقدمت عيه كنت مقدرا حدوث ما حدث بل حدوث ما هو أكبر وأنهيت الآذان ، وأقمت الصلاة وصليت والجموع فى مكانها لا تتحرك ، وأبصار الجميع شاخصة إلى .... وفى اليوم التالي فعلت ما فعلت بالأمس . والباطل لا تقوى صولته إلا إذا تخاذل أهل الحق عن حقهم أما إذا اعتزوا بحقهم . ووقفوا شامخين أمام سيل الباطل فإن الباطل ينحسر سيله ويرتد خاسئا وهو حسير ... فبعد أيام قلائل وجد محمود مكي والطلبة الذين كانوا يستخفونه بصلاتهم وجدوا فى أنفسهم الجرأة أن يصلوا معي على وجه الأرض ومن العدد يكثر يوما بعد يوم ضاقت هذه المساحة بالمصلين

كان لهذا العمل أثره فى فتح الطريق أمام الدعوة الإسلامية وهى دعوة الإخوان المسلمين ،فلقد كان أمام الطلبة المؤمنين باب مغلق تهيب كل منهم أن يحاول معالجته فكان هذا العمل بمثابة اقتحام الباب (( وإذا قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فانا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )) .

كان هذا هو العمل الذى لابد منه حتى تجد الدعوة الإسلامية الجديدة لنفسها طريقا وسط هذا المزحم الزاخر بالفكر والدعوات التي توطنت واستقرت فى نفوس هذا الشباب المأمول والذي عمل المستعمر وذيوله من قديم على الاستحواذ على عقله وفكره وعواطفه ومشاعره بعد أن ربوا على أيديهم وفى أحضانهم جيلا بثوا فيه أفكارهم ثم ألقوا إليه بمقاليد الأمور .

لقد كان دخول الدعوة الإسلامية كليات الجامعة أشبه برجل فقير ولد له ولد فجاء قوم من الأغنياء فاغتصبوا ولده وطردوا هذا الرجل الفقير وشردوه كل مشرد ، وربوا هذا الطفل فى قصورهم فنشأ لا يعرف إلا لغتهم ولا يتغذى إلا بغذائهم ولا يتزيي إلا بزيهم ... فلما اهتدى والده بعد لأي إلى مكانه فى القصر ، اقتحم إليه فقوبل اقتحامه بعاصفة من الدهشة والاستنكار حتى من ولده الذى لم يكن يعرفه .. فما كان من الوالد - وهو صاحب حق - إلا أن ثبت فى مكانه ، وتمادى فى إصراره - ولصاحب الحق صولة - حتى بدأ قلب الولد ينبض بالرابطة الإلهية الأصيلة وألقى بنفسه بين ذراعي والده .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حرم الجامعة

كانت مصر فى ذلك الوقت لا تزال قريبة عهد بالتعليم الجامعي ، ولم تكن الجامعة حتى ذلك الوقت الذى أتحدث عنه إلا مبنيين أثنين فى آخر شارع المدارس بالجيزة أحدهما لكلية الآداب والآخر لكلية الحقوق ، وبين المبنيين مبنى ثالث تعلوه قبة ضخمة هو إدارة الجامعة . ووسط ذلك كله أرض فسيحة مغطاة بالنجيل الأخضر تسمى (( حرم الجامعة )) وكان حرم الجامعة هذا هو معترك أصحاب الدعوات ، حيث كان طلبة كليتي الآداب والحقوق فى ذلك الوقت يعدون أنفسهم بحكم ثقافتهم الأدبية والقانونية قادة الطلبة حيثما كانوا ، وهم الذين تفوضهم الأحزاب فى تمثيلها فى الأوساط الطلابية ، وكانت خزائن الأحزاب مفتوحة للطلبة المشايعين من هاتين الكليتين .

كان حرم الجامعة حتى ذلك الوقت حلبة نزال مستمر بين الأحزاب المصرية ، الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين والحزب الوطني ثم جد عليهم ممثلو (( مصر الفتاة )) ... ثم استقر رأينا فى (( لجنة الطلبة )) على النزول بالدعوة إلى حرم الجامعة ؛ وكنت الوحيد من خارج الكليتين العتيدتين الذى أصبح له مكان بينهم فى هذا الحرم .. وكانت المناقشات بيننا وبين ممثل مختلف الأحزاب تستعر حتى أصبح لنا صوت مسموع فى هذا الحرم .


ثالثا : نشر الدعوة فى الأقاليم

سبق لي أن أشرت إلى أن الدعوة لم تكن معروفة إلا فى إقليم القنال وما يتاخمه من بعض بلاد الدقهلية والشرقية وبلاد معينة لأنها موطن أشخاص معينين من السابقين فى الدعوة كالمحمودية وكفر الدوار وشبراخيت وشبين القناطر ؛ ومع ذلك تكن الدعوة فى هذه المناطق معروفة على صورتها الكاملة بل تعرف منها جوانب محددة على القدر الذى كانت تسمح به ظروف الدعاة وظروف المدعوين . ووجد الأستاذ المرشد ثمرة جهود سنة كاملة بين يديه من شباب الجامعة بل من أنضج شبابها قد يصل عددا إلى المائة يفهمون الدعوة على أوسع دائرة من الفهم ومن أقدر الناس على توضيحها لغيرهم ، فكان لابد من الإفادة من هذه المجموعة التي يندر وجود مثلها فى هيئة من الهيئات .

أعد الأستاذ المرشد فى أواخر العام الدراسي مذكرة من نحو عشرين صفحة شرح فيها طرق الاتصال بالطبقات المختلفة من الناس والأساليب المثلى لمخاطبة كل طبقة ، وضمنها مجموعة من الآيات والأحاديث التي يستعين بها الداعية ، وطبع هذه المذكرة على (( البالوظة )) وقسم الطلبة مجموعات يضم بعضها طالبين وبعضها ثلاثة وبعضها أربعة ووزع هذه المذكرات على المجموعات وقسم القطر المصري على هذه المجموعات فكان نصيب مجموعتنا وتتكون من طالبين : رشاد سلام من كلية التجارة وأنا - مدينة الإسكندرية .

ولما بدأت الإجازة الصيفية انتشرت هذه المجموعات فى أنحاء القطر .. وإلى هذه البعثات يرجع الفضل فى نقل الدعوة إلى كل مكان فى مصر ، وفى الانتقال بالدعوة من طور إلى طور جديد ؛ ومن طور كانت فيه جمعية موضعية تقارن بالجمعيات الإسلامية الأخرى التي كانت موجودة بالقاهرة مثل جمعية مكارم الأخلاق وجمعية البر والإحسان وجمعية الشفقة الإسلامية وجمعية دفن الموتى وأمثالها إلى طور أخر زاحمت فيه دعوات دينية كانت منتشرة فى كثير من بلدان القطر مثل الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة كما بدأت تزاحم أفكار أساسية مسيطرة فى كثير من البلدان مما تعود الناس إطلاق اسم الأحزاب عليها .

وكانت المفاجأة المثيرة فى هذه البعثات أن الناس لأول مرة رأوا دعاة إللا الين من شباب لم يكن يمت إلى الدين بصلة رسمية .. إذ كان طلاب الجامعة - وكانوا إذ ذاك عددا قليلا - يتهمون فى عقيدتهم وينظر إليهم على أنهم أصبحوا غرباء عن بلادهم حتى فى العادات والتقاليد .. فكان غريبا أن يروا من هذا الشباب من يغشى المساجد ومن يتكلم فى الناس كلاما حلوا جميلا مطعما بآيات كريمة من القرآن وبأحاديث شريفة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ويكسو هذا الكلام الجميل روعة وجلالا وتأثيرا صدوره من قلوب مؤمنة به طاهرة نقية لا تسألهم عليه أجرا .

تمخضت هذه البعثات عن تكوين شعب فى جميع عواصم المديريات ( المحافظات ) وفى بعض حواضر المراكز .. نعم كان أكثر هذا الشعب يتكون من عدد قليل من الفقراء ومتوسطي الحال إلا أنهم كانوا مؤمنين بالدعوة فقد استجابوا إليها دون طمع فى منصب أو جاه أو مال ودون خوف من بطش فأصحاب الدعوة أنفسهم مجردون من ذلك كله حتى إن زعيم الدعوة ليس إلا مدرسا فى مدرسة ابتدائية .


رابعا : عام المعارك

بدأ هذا العام - وهو العام الثاني منذ التحقت بالدعوة - وقد أصبح لدعوة الإخوان كيان ملموس ، فقد أحس الطلبة فى بلادهم - وأكثرهم من خارج القاهرة - بدعاة من زملائهم انتشروا فى خلال الصيف فغزوا الريف ودخلوا بالدعوة إلى أحشاء البلاد .. وجاء هؤلاء الطلبة فى العام الدراسي الجديد إلى كلياتهم لامسين الكيان الإخوانى ، فلا عجب إذا هم نظروا إلى زملائهم من الإخوان من طلبة الكلية نظرة توحي بالاهتمام .

وكان لابد لهذا الكيان الملموس - وقد وجد - أن يعمل ، وأن يكون لعمله صدى ، وأن يكون لهذا الصدى دوى يلفت الأنظار ويشغل الرأي العام .


(أ) معركة المساجد

من البديهي أن تكون الخطوة الأولى لدعوة إسلامية أن توجد المسجد الذي هو رمز الإسلام وقاعدته التي تبعث منها أشعته فتضئ ما ولها – ولا نكر أنه كان فى بعض الكليات مصليات لأداء الصلاة لكنها كانت فى أماكن حقيرة أنشأها عادة السعاة والفراشون ، وكان الطلبة الذين يريدون تأدية الصلاة يستنكفون أن يؤدوها فى هذه الأماكن لحقارتها من ناحية ولعدم وجود أماكن للوضوء بجانبها من ناحية أخرى ... ومن هنا نشا ما طلق عليه معركة المساجد وقد نشأت هذه المعارك فى أكثر الكليات فى خلال هذا العام لكن أشد هذه المعارك إثارة ما كان فى كليتي الزراعة والآداب لما كان لهما من معان كبيرة ودلالات .

فى كلية الزراعة

أشرت آنفا إلى المحاولات التي بذلتاها فى كلية الزراعة فى السنة الماضية فى سبيل الإعلان بالصلاة والظهور بها من تحت الأرض إلى سطحها ، وما كان لتلك المحاولات - التي عدت جريئة من آثار بعيدة المدى فى نفوس الطلبة والمدرسين وإدارة الكلية . ولم نكن - نحن الإخوان - نتصور أن هذه الآثار قد وصلت إلى حد هيأت فيه النفوس تهيئة عظيمة .

رأينا - نحن إخوان الكلية - أن نطالب إدارة الكلية بفرش هذه المساحة الضئيلة التي نصلى فيها بجانب القبة بحصير جديد ... وأول إنسان اتجه إليه نظري ، وعول عليه أملى لمساعدتنا فى هذا الأمر هو وكيل الكلية وكان معروفا بالصلاح والتقوى ، وبأنه من دراويش مسجد الحسين فذهبت إليه وحدثته فى الموضوع وأنا واثق فى الإجابة ، ولكنني سمعت منه كلاما صدمني وهدم آمالي حيث قال أولا : لا داعي لهذا ، وهذه القطع من الحصير موجودة فى المصلى من قديم ولم يشك منها أحد غيركم ، فلما طلبت منه أن يحضر للصلاة معنا عليها غضب وقال : إن إدارة الكلية لا شأن لها بمثل هذه الأمور !! .

نقلت ما دار بيني وبين الرجل إلى إخوانى بالكلية فأسفوا لخيبة أملهم فى الرجل المصلى الذي لا يدع السبحة من يده والذي لا يدع يوما دون أن يصلى العشاء بمسجد الحسين ثم يطوف بالمقام .. ولكن خيبة أملهم لم تقعد بهم عن مواصلة الجهد واقترحوا أن نتقدم بهذا الطلب إلى العميد - وكان الوكيل قد حذرنا من ذلك خوفا من أن يسلبنا ما اكتسبتاه من حق الصلاة فوق سطح الأرض باعتبار العميد رجلا بعيدا عن هذه الاتجاهات ... ولكن ذلك لم يمنعنا أن نجازف وتقدمنا إلى العميد وكان الأستاذ محمود توفيق الحفناوى (بك)

استمع العميد إلى مطلبنا . واطرق قليلا ثم بعث فى طلب وكيل فحضر . فقال له : إن هؤلاء الطلبة يطلبون طلبا متواضعا . وأنا أتابع موضوع المصلى وتطوراته التي حدثت فى العام الماضي . وأنا معجب بجهود هؤلاء الطلبة المتدينين . وأنا لا قبل أن تكون مصلى الكلية هذا المكان الحقير . ثم قال للوكيل : أتعرف المكان الذي يقام فيه سرادق الغداء فى العام الماضي ؟ قال : أن يقام مكانه مسجد وتلحق بالمسجد حديقة خاصة به ...

ذهل الوكيل مما سمع من العميد ثم زاده ذهولا لقول العميد له : أحب أن تتفرع أنت شخصيا لإنجاز هذا العمل فتقيم المسجد وتفرشه بأفخر فرش وتشرف على زرع الحديقة بالأزهار الجميلة المناسبة ثم تعين له إماما يتفرغ للإمامة وشئون المسجد ..

ثم قال العميد : إن هذا المشروع سيتكلف كثيرا ، ومن الممكن أن قيمه على حساب الكلية باعتباره منشأة من منشأتها ، ولكنى أحب أن يشعر الجميع بالمعاني السامية التي تدور حول إقامة مسجد بالكلية ولا يكون ذلك إلا إذا ساهم فيه الجميع طواعية ، وسأفتتح الاكتتاب بعشرة جنيهات منى .. وأمر الوكيل بإعلان الاكتتابات وكتابة اسم كل مكتتب والمبلغ الذي اكتتب به على سبورة توضع على حامل فى مدخل مبنى الكلية ... وانهالت الاكتتابات من الأساتذة والمدرسين والطلبة ، وأشاعت هذه الطريقة فعلا روحا جديدة فى الكلية طلبة وأساتذة .. وجميع مبلغ كبير غطى المطلوب وزاد . وقد أفدنا من هذه التجربة ما يأتي :

1- أن المجهود النابع من قلوب مخلصة لابد أن يثمر (( والعمل الصالح يرفعه ))

2- أن الذين ينحرفون بالمعاني الإسلامية الكبيرة إلى مظاهر الدروشة وما يصاحبها عادة من الضعف والخنوع والاستكانة ، ليسواهم الذين يصلحون أن يعينوا على النهوض بالمجتمع الإسلامي بل هم المثبطون .

3- أن هناك رجالا من أولى العزائم فى حاجة إلى ما يكشف عن عزائمهم من عمل جريء مخلص فيرى الناس من هذه العزائم والهمم جلائل الأعمال التي يعجز عنها أكثر الناس . وبني المسجد وبنيت بجانبه دورة مياه خاصة به وألحقت بهما حديقة غناء وصار يؤذن فيه وتقام الصلاة ويمتلئ بالمصلين وقد يضيق بهم على سعته .. وكان ذلك فاتحة عهد جديد لدعوة الإخوان المسلمين بالكية وانتصارا ساحقا للفكرة الإسلامية .

فى كلية الآداب

كان أداء الصلاة فى كلية الآداب أمرا شاقا لعدم وجود مكان محدد معد لهذا الغرض وفى إبان معركة المسجد بكلية الزراعة استيقظت فكرة إقامة مسجد بكلية الآداب ... ولكن الوضع فى هذه الكلية يختلف عنه فى كلية الزراعة ، فالكلية عبارة عن مبنى واحد ، فليس بداخله مساحات من الأرض يمكن استغلالها فى بناء مسجد . وليس بالكلية مرافق تسهل هذه العملية .. ولذا فإن مجال الاختيار فى هذه الكلية كان محصورا فى تخصيص حجرة من حجرات الكلية تكون قريبة من دورة مياه .

وتقدم الإخوان بالكلية إلى المسئولين بها يطلبون تخصيص حجرة لتكون مسجدا ، وكما هو معتاد رد المسئولون يعتذرون بعدم وجود مكان لذلك ، ورفع الإخوان مظلمتهم إلى عميد الكلية وكان الدكتور منصور فهمي ( باشا ) ولم يكن معروفا عن الرجل اهتماما بالدين ... وطلب العميد المتظلمين وسألهم عن الحجرة التي يريدونها ، فعينوا له عدة حجرات فقال الرجل : ينبغي أن تخصص للصلاة أكبر حجرة فى الكلية وأفخم حجرة بها .. وقال : أليس مكتب الأستاذ ة الانجليز يشغل أفخم حجرة فى الكلية ويلحق بها أفخم دورة مياه ؟ قالوا بلى : قال : سأوقع الآن أمرا بإخلاء هذه الحجرة وتخصيصها ودورة المياه الملحقة بها للوضوء والصلاة . وعلى إدارة الكلية إعداد حجرة أخرى لتكون مكتبا للأستاذ الانجليز . وبلغت الدهشة بالإخوان كل مبلغ لأن الإنجليز فى تلك الأيام كانوا سادة البلاد وأصحاب الكلمة والنفوذ وإن هذا الرجل بتصرفه هذا يضع نفسه فى فوهة مدفع قد يعصف بمستقبله فأراد الإخوان أن يفتحوا للعميد بابا للتراجع عن هذا القرار إلى قرار أدنى خطورة منه .

ضحك الرجل وشكر الإخوان على كريم شعورهم نحوه وإيثارهم مصلحته وقال لهم : لعلكم ظننتم أن هذا القرار كان منى وليد حماس بعثته فى نفسي حرارة الموقف وشدة التأثر .. لا والله يا أولادي ... لقد كان هذا القرار فى نفسي منذ سنوات ولكنى كنت محتاجا إلى من يدفعني إلى إصدار ه فكان مجيئكم هو هذا الدافع ...

أنا أعرف مدى سلطة الإنجليز فى بلادنا ومدى الإرهاب الذي جعل حول كل انجليزي هالة يراها المصري فينكمش مهما كان هذا المصري عظيما ... ولكن سرا طويته بين أحناء ضلوعي من قديم وسأفضي به لأول مرة بين أيديكم الآن : لما كنت مبعوثا فى فرنسا واصلت دراستي بها حتى أخذت فى إعداد رسالتي للحصول على الدكتوراه ، وأعددتها فعلا ، ولما عرضتها على الأساتذة الذين سيناقشونها وبيدهم منحى الدرجة وبيدهم منعها أجمعوا على أنهم لن يمنحوني الدرجة - مع إقرارهم بأن الرسالة جديرة - إلا إذا أضفت إليها عبارات أهاجم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام طيش الشباب . وخوفي من الرجوع إلى مصر بغير الدكتوراه فاعتبر خائبا ... أذعنت .. ومنذ ذلك الوقت وأنا نادم وأترقب فرصة تتيح لي عملا أكفر به عن هذه الخطيئة ... وقد أتحتم لي يا أبنائي هذه الفرصة فشكرا لكم ودعوني أعمل هذا العمل لعل ضميري يستريح ..

وصدر القرار فكان مفاجأة مذهلة للجميع لاسيما للإنجليز الذين - لشدة ذهولهم -لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا إلا التنفيذ - وبذلك تحولت أعظم حجرة بالكلية وأعظم دورة مياه إلى مسجد بملحقاته .


(ب) معركة مع المخابرات البريطانية

مع أنه كانت فى بلادنا حكومة مصرية إلا أنها لم تكن تعرف حقيقة ما يدور على أرض بلادها من حركات فى حين كان الإنجليز يرقبون هذه الحركات ويرصدونها. كان الإخوان فى الكليات حتى ذلك الوقت فى طور التكوين لا يزالون يعرضون فكرتهم الإسلامية عن طريق الإقناع الفردي ، وعن هذا الطريق الفردي صار للدعوة أنصار من طلبة الجامعة كثيرون ...لم تفهم الحكومة المصرية حتى ذلك العهد فكرة الإخوان ولا أهدافهم ولك الانجليز تنبهوا لخطورة هذه الدعوة حين رأوا فجأة استجابة لها فى أوساط طلبة الجامعة ... وأقوال فجة لأنهم لم يكونوا يعرفون عن دعوة الإخوان شيئا قبل أن تصل الجامعة ، وتبين لي أن الأستاذ المرشد كان حريصا من أول يوم قام فيه بالدعوة على أن يموه على الانجليز ، ويتفادى أي إجراء يستلفت نظرهم .

ولما تنبه الإنجليز اتخذوا إجراء عجيبا ... أرسلوا إلى القاهرة رجلا إنجليزيا أستاذا فى التاريخ لزيارة كلية التجارة ، فالتف حوله الطلبة والأساتذة فعرفهم بنفسه فقال إنه إنجليزي مسلم بعد أن أعتنق الإسلام . عن اقتناع سمى نفسه (( خالدا )) وأنه أستاذ فى التاريخ وأنه جاء إلى القاهرة باعتبارها العاصمة الإسلامية الكبرى ليسعد باللقاء والحديث مع رجال الجامعة من الأساتذة والطلاب حديث الأخ لإخوته .. سرى بين الطلبة نبأ هذا الأستاذ الإنجليزي المسلم فتقاطروا عليه كل يريد أن يوجه له سؤالا ... فتن الطلبة به بل والأساتذة . وسرت روح الافتتان إلى كليات أخرى فصارت تتوافد منها مجموعات بعد مجموعات للالتقاء به فى كلية التجارة .

ولا أدرى لم اختار كلية التجارة بالذات ليظهر فيها دون الكليات الأخرى ؟ ولكن لعل اختيارها كان لكونها تقع فى حي المنيرة فى وسط المدينة ، ولأن الدراسة فيها تسمح للطلبة بالتجمع فى حين كليات أخرى كالطب مثلا وإن كانت فى وسط المدينة إلا أن الطلبة فيها مشتتون بين المعامل وعنابر المرضى .

واستجابة لطلبة المفتتنين به من الطلبة والأساتذة نظمت الكلية محاضرات يلقيها - وأنا شخصيا لم تتح لي فرصة لحضور محاضراته ولا للالتقاء به - ولكن إخوان كلية التجارة كانوا ينقلون إلينا كل شئ عنه يوما بيوم ، لأننا فهمنا الهدف من إيفاده فى هذا الوقت بالذات ، وفهمنا اللعبة الانجليزية التي طبعا لم تخطر على بال أحد من الطلبة ولا من الأساتذة ....

كانت محاضراته تدور حول كيفية اقتناعه بالدين الإسلامي ثم كان يتطرق من ذلك إلى شرح الفكرة الإسلامية وأن العقيدة الإسلامية هي العقيدة الوحيدة التي تتمشى مع العقل وتخضع للمنطق ، وفى أثناء شرحه للفكرة الإسلامية كلن يجنح بها إلى النواحي العبادية والتصوفية ، ومن طرف خفي يقصرها على هاتين الناحيتين فيبالغ بها فيهما ويباعد بها عن الشئون الدنيوية والتشريعية وكان أسلوبه هذا يلقى هوى فى نفوس الكثيرين من خلاه الذهن عن حقيقة الفكرة الإسلامية .

والإخوان المسلمون فى فهمهم للفكرة الإسلامية يعرفون أية مواضع منها توغر صدر الإنجليز باعتبارهم قادة المستعمرين فى ذلك العهد . ويعرفون أيضا الخطط التي وضعها الإنجليز لمحاولة التخلص من هذه المواضع ، ويعرفون أن هذه المواضع هي ما يتصل من الفكرة الإسلامية بالتشريعات التي تنظم الحياة وتكون الدولة الإسلامية المثالية ... فالإنجليز يرتضون من الفكرة الإسلامية - إن كان لابد منها - الجزء الذي يتصل بالعبادة ويحاولون أن يمسخوا هذه العبادة بما يلقون عليها من ظلال الرهبانية مما يسمونه تصوفا بحيث يتقوقع المسلم على نفسه فلا يبالى بما يدور حوله فى الحياة ، ويستوي عنده أن تكون بلاده حرة أو مستعمرة ، لأنه حسب هذا الفهم المشوه للفكرة الإسلامية ، يعتقد أنه أدى كل ما أوجبته عليه .

الإنجليز بالذات - من دون المستعمر - لم يحاولوا مهاجمة المسلمين بالحديد والنار كما فعل الفرنسيون والايطاليون وغيرهم ، بل إنهم مكنوا لاستعمارهم فى البلاد الإسلامية بوسيلتين اثنتين معا : الأولى الاستيلاء بوسائل الإغراء المختلفة - من مال ومناصب - على مراكز التوجيه الإسلامية والأخرى : إبراز الفكرة الإسلامية للشعب مبتورة ممسوخة .

فعلوا ذلك فى مصر ، فبعد أن ضمنوا أن المتربع على عرش البلاد صنيعة لهم - حتى إن الخديوي توفيق طلب حمايتهم واستجابوا له - ضمنوا بذلك أن الذين سيتداولون الحكم فى البلاد هم الفئة الغريبة عن الشعب بعواطفها وآمالها وبلغتها .. ثم وجدوا أن مركز التوجيه الإسلامي فى البلاد هو الأزهر فعملوا - عن طريق صنائعهم الحكام - على أن تكون مناصبه الرفيعة لمن تستهويهم المناصب ولمن يبيعون دينهم بعرض الدنيا ، وعن طريق هؤلاء سرت الفكرة المبتورة عن الإسلام فى مختلف أوساط الشعب الطيب القلب فانخدع ، وبهذا الأسلوب الهين اللين نام الشعب وغط فى نومه ولم يعد يبالى بما يجرى حوله فى بلده ولا فى أي بلد إسلامي ... فالمجازر تجرى فى سوريا وفى ليبيا وفى المغرب بأقسامه ، ويقرأ عنها فى الصحف ، ولا يشعر بأي معنى من معاني التعاطف مع هؤلاء المسلمين الذين يظلمون ويقتلون ، ولا بأي معنى من معاني الغضب حيال من يقترفون هذه الجرائم ... نجح الإنجليز فيما لم ينجح فيه الطليان والفرنسيون حيث استطاعوا بطريقتهم الهادئة الملتوية إخماد الجذوة الإسلامية فى نفوس المصريين فأصبحوا لا يحسون ولا يشعرون .

وفعلوا مثل ذلك فى الهند ، وقد اختلفت الوسائل فى مظاهرها ولكن الهدف هو الهدف ... اختاروا شابا مسلما ينسوا منه رقة فى الدين وتطلعا إلى المنصب والشهرة والمال ، فأغدقوا عليه وكان اسمه (( غلام أحمد )) وأوعزوا إليه أن يدعى أنه نبي من عند الله أرسله الله بعد محمد وبشريعة محمد إلا أن الجهاد قد نسخ منها ... وباعتبار الهند فى ذلك الوقت شعبا موغلا فى الأمية والجهل والفقر والخرافة انخدع بعض الناس بهذا الدعي ، كما اشترى الإنجليز له بالمال أتباعا من أمثاله يروجون له ، وينشرون دعوته ، فضلا عن رجال الإدارة والحكم من الانجليز وأذنابهم الذين كانوا جميعا فى خدمته ... وقد ألف كتابا سماه (( البيان )) على ما أذكره وقد اطلعت عليه عند عمى رحمه الله ، ادعى أنه الكتاب الذي أوحاه الله إليه بعد القرآن ... ومن الطريف أنه قد بلغت به الوقاحة والاستخفاف بعقول الناس فى الهند يقول فى هذا الكتاب إن الله قد بعثه بنسخ الجهاد لاسيما ضد الإنجليز ... ولما كان هذا المدعى الوقح من بلدة فى الهند تسمى (( قاديان )) فقد سمى دينه (( بالقاديانية )) أو (( بالأحمدية )) نسبة إلى اسمه ... وأكثر الإنجليز ممن يدعون أنهم مسلمون هم من أنباع هذا الكذاب .

وفعل الانجليز مثل ذلك فى إيران ثم نقلوه إلى الشام وفلسطين أيام كانت تحت انتدابهم .. فقد ساندوا رجلا إيرانيا اسمه (( بهاء )) فادعى أنه (( باب الإله )) فهو درجة بين النبوة والإلوهية وأن الله بعثه بدين يجمع بين الأديان السماوية الثلاثة الإسلام واليهودية والمسيحية ، وأنه أيضا جاء بالسلام فلا جهاد ، حتى العبادة جاء بها مخففة فالمسلم البهائي يصلى ركعتين مرة طول حياته ، والمسيحي يصلى صلاته فى الكنيسة مرة واحدة أيضا وكذلك اليهودي ...

وقد ألقت الحكومة الإيرانية القبض على (( بهاء )) هذا وحاكمته وأعدمته وطاردت فلول أتباعه الذين هربوا من البلاد ... فمن الذي يلقاهم بالأحضان وأوسع لهم ؟ تلقاهم الانجليز فأحسنوا وفادتهم ومكنوا لهم فى فلسطين ووضعوهم فى المناصب الحساسة والمناصب الرئيسية .. وقد قرأت فى ذلك الوقت إحصائية لموظفي حكومة الانتداب فى فلسطين وأديانهم فكان البهائيون يمثلون أكبر نسبة ... وهؤلاء الموظفون البهائيون فى حكومة الانتداب بفلسطين هم الذين مهدوا لقيام الصهيونية ومكنوها من أرض فلسطين ومن رقاب أهلها .

ولا داعي للحديث عن الأساليب الانجليزية الملتوية الأخرى التي أسسوها بالتحالف مع أقطاب اليهود لتفتيت القوميات ، وتفويض العقائد ، وتفكيك أواصر المجتمع كالماسونية وأخواتها مما قد نعرض له فى فصل قادم إن شاء الله ....

وقد فعل الانجليز كل هذه الأفاعيل بالمسلمين فى مختلف بقاع الأرض ، وكان حرصهم على نجاح خطتهم فى مصر أشد من حرصهم على نجاحها فى أي مكان آخر لأنهم يعرفون أن مصر هي مركز الإشعاع للعالم الإسلامي كله ... وقد نجحوا فى مصر كما قدمنا ، واطمأنوا لذلك تمام الاطمئنان ، وطال اطمئنانهم حتى إن الأمور صارت تجرى فى مصر على ما يتمنون بالقصور الذاتي دون تدخل منهم أو جهد يبذلونه ... وحتى إنهم أخذوا يحولون جهودهم فى التخريب إلى بلاد أخرى ... غير أنهم أحسوا فجأة بدبيب حياة عاد يدب فى جسم الأمة فى مصر من جديد فهبت أجهزة المراقبة عندهم نتلاوم لم يحسوا بهذا العبث إلا بعد أن وصل إلى الجامعة المصرية ؛ فأخذوا فى وضع تكتيك سريع لأخذ الطريق على هذا البعث فأرسلوا هذا الأستاذ الانجليزي المسلم (( خالدا )) ........

واستطاع (( خالدا )) بأسلوبه البارع الأخاذ أن يستولى على مشاعر الكثرة الغالبة من الطلبة والأستاذة ، وأن يصور لهم الفكرة الإسلامية كما أرادتها حكومته التي أرسلته .... وكان لابد لإخوان كلية التجارة من إفساد التكتيك المحكم لهذا الرجل ، وكان فى كلية التجارة مجموعة من أنضج الإخوان مثل محمود أبو السعود وطاهر عبد المحسن ورشاد سلام ، وكان محمود أبو السعود يتقن الحديث بالإنجليزية كأهلها .. وكان تكتيكهم الذي رسموه أن يواظبوا على حضور محاضرات الرجل ، وأن ينبثوا فى أماكن مختلفة بين الحاضرين ، وأن يواجهوا إليه أسئلة متدرجة أعدوها يتناوبون توجيهها ، وهى أسئلة تلزمه أن يتعرض للنواحي التي يتعمد إغفالها وتفاديها من الفكرة الإسلامية وهى ما يتصل بموضوع الإسلام والدولة ، والإسلام والتشريع ، والإسلام والجهاد ، والإسلام والقومية ، والإسلام والوطنية .

وأمطروه بالأسئلة بطريقة مرتبة ومهذبه ، وكان الرجل يجيب عليها بلباقة يتمكن بها من تفادى الإجابات المحددة ؛ فإذا سئل مثلا عن الإسلام والدولة والإسلام والتشريع قال إن الإسلام كغيرة من الأديان يشرع لمتبعيه أسلوبا فى الحياة ، ولو اتبع أصحاب كل دين أسلوب دينهم لسعدوا فى الحياة ولصارت لهم دولة قوية ذات شأن... وهكذا ظل الإخوان يلقون إليه بالأسئلة وهو يتفادى حتى ضيقوا عليه الحصار تضييقا خانقا ووضعوه أمام سؤال الإجابة عليه إلا بلا أو نعم ؛ قالوا له أنت الآن رجل مسلم فهب أن حربا نشبت بين المسلمين وبين بريطانيا فمع أي الفريقين تحارب ؟ ... وحاول الرجل التهرب من الإجابة لكن الإخوان حاصروه ، لاسيما وقد لقي السؤال هوى فى نفوس جميع الحاضرين من الطلبة والأساتذة فأيدوا الإخوان فى سؤالهم وطلبوا الإجابة عليه ......

وأحس الرجل أن الحصار قد أحكم حوله ... وأراد الله فضح أمره فنطق - مكرها - باللفظ الذي قوض الصرح الذي بناه أوفد فى مهمته حيث قال : انحاز إلى بريطانيا . فانفض الجمع الحاشد مرة واحدة مشيعينه بالاحتقار واللعنات . وهكذا فسدت الخطة التي وضعها الإنجليز لأخذ الطريق على الإخوان المسلمين وهم لا يزالون فى أول الطريق .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(جـ) مع المعركة فى فلسطين

باعتباري كنت منشغلا بالدعوة الإسلامية منذ الصغر كنت ذا إلمام بشيء غير قليل عن كل بلد إسلامي ، ومن هذه البلاد فلسطين . لكن معلوماتي عن فلسطين لم تكن تتعدى الشكل العام للأطوار التي مرت ببلاد الشام منذ وضعت الحرب الكبرى الأولى أوزارها فى سنة 1918 وما انتهى إليه الوضع من تواطؤ الاستعمار الغربي على سحب ما كانوا قطعوه للعرب من وعود ، وعلى تقسيم بلاد الشام بين الانجليز والفرنسيين ، وكانت فلسطين من نصيب الانجليز حيث انتدبتهم عصبة الأمم لإدارتها ، وكنت على علم بأن بلفور وزير خارجية انجلترا فى سنة 1917 قد أعطى لليهود وعدا بمنحهم وطنا قوميا فى فلسطين .

لكنني منذ حملتني قدماي إلى المركز العام للإخوان المسلمين فى شارع الناصرية لاحظت من المرشد العام ومن القلة القليلة من الإخوان بهذا المركز توجيه اهتمام خاص إلى قضية فلسطين ؛ وقرأت فى مجلتهم الكثير عن فلسطين . كما وجدت بالمركز العام مجلات واردة أليه من فلسطين ومن سورية بها من أخبار فلسطين ما كان يعد جديدا على ؛ فهمت مما قرأت أن الإنجليز يقومون بحملة مدبرة للقضاء على الكيان الإسلامي فى فلسطين وتمكين اليهود نم الاستيلاء عليها ... ثم رأيت مفتى فلسطين السيد أمين الحسيني ومعه مساعده الشيخ صبري عابدين وحوله مجموعة من قادة فلسطين رأيتهم يحضرون إلى المركز العام فى الناصرية ذلك المكان المتواضع ويتبادلون الكلمات الملتهبة مع المرشد ومع الإخوان الطلبة الذين كانوا أقدم منى صلة بالإخوان .... وسمعت المفتى يشرح مؤامرات الإنجليز التي تلجئ الرجل المسلم الساذج إلى بيع أرضه لليهودي تمهيدا منهم لتمكين اليهود واستيلائهم على مقاليد الأمور بفلسطين بحكم ملكيتهم لأرضها .

وقد استنتجت من زيارتهم لهذا المركز العام المتواضع المجهول وسط أحشاء القاهرة أنهم لا نصير لهم فى القاهرة إلا هذه العصبة التي تأوي إلى هذا المركز العام .. وقد تبين لي فيما بعد أن استنتاجي كان صحيحا حين دس الإخوان صحفيا كان عضوا بالإخوان إلى رئيس الوزراء يسأله عما سيفعله إزاء تصرفات الإنجليز الظالمة فى فلسطين فرد عليه رئيس الوزراء بقوله : (( إنني رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين )) . على أن هذا الرد حين نشر بالصحف وقرأه الناس لم يحظ بأي اهتمام من الشعب ولم يقابل بأي اعتراض أو استنكار أو امتعاض باعتبار أن فلسطين وما يتصل بها لا يعنيهم فى قليل ولا كثير فهؤلاء فلسطينيون أماهم فمصريون .

فهمت فيما فهمت أن السيد أمين الحسيني كون هيئتين لتنظيم العمل ضد المستعمر الإنجليزي واليهود الصهيونيين تسمى إحدى الهيئتين بالهيئة العربية العليا وتسمى الأخرى بالمجلس الإسلامي الأعلى وكان هو رئيس الهيئتين . والسيد أمين كان رجلا ذكيا ورعا شجاعا على علم ودراية بالدين والسياسة وكان موضع ثقة الجميع ، وقد استطاعت هاتان الهيئتان أن تشنا حربا شعواء ضد اليهود وحملتهم الإنجليز وقد استشهد فيها الكثيرون مثبتين بذلك أنهم شعب مسلم كريم ... وقد قرأت فى مجلة سورية كانت تصل إلى المركز العام فى تلك الأيام أن بعض ساسة البلاد العربية سألوا المفتى عما بلغهم من أن بعض العرب فى فلسطين يبيعون أرضهم لليهود فرد عليهم بقول : ليس من طبيعة العربي أن يفعل ما تذكرون كما أنه ليس من طبيعة البلبلان يكون أخرس ولكن المستعمر قابله الله هو صاحب الجناية لا العربي ورحم الله الشاعر الذى قال :

بلابل الله لم تخرس ولا ولدت  ::: خرسا ولكن بوم الشؤم رباها

فهمت بعد ذلك أيضا أن الإخوان المسلمين أخذوا على عاتقهم النهوض بمهمة محددة هي أن يقوموا يجمع تبرعات لمجاهدي فلسطين ؛ فكان الأستاذ المرشد فى كل يوم جمعة يوزعنا على عدة مساجد فى القاهرة ، يرسل إلى كل مسجد اثنين على الأقل أحدهما يخطب بعد الصلاة ويشرح للناس ما يقترفه الإنجليز من مظالم فى فلسطين ويوضح للناس أن فلسطين هي البلد الذى به بيت المقدس ثالث الحرمين وأولى القبلتين وأن الإنجليز يريدون أن يسلموا هذا الحرم المقدس إلى اليهود . ويقوم الأخ الآخر بتلقي التبرعات فى صندوق معه .

وقد نجحت هذه الطريقة فعلا فى تحقيق النتائج الآتية :

1- فى إحاطة الناس علما بأن هناك بلدا مسلما بجوارنا سمه فلسطين يراد بيعه لليهود .

2- فى إيقاظ الروح الإسلامية فى الشعب المصري الذى تضافرت قوى الاستعمار وأذنابه من الحكام ومحترق فى الدين على تضليله وتخديره حتى نام وأغرق فى النوم .

3- فى إيجاد وعى لدى هذا الشعب بأن الإنجليز أعداء لنا وللإسلام ..

4- فى إقامة الدليل المادي الملموس على أن الحكومة المصرية مهما كان لونها أو حزبها إنما هي خادم ذليل للمستعمر الغاصب .

5- فى جمع مبالغ من المال من تبرعات الناس .

أ- أما من ناحية النتيجة الأولى فلقد كان فى مصر يجهلون فى ذلك الوقت أن هناك بلد اسمه فلسطين ، وأن هناك البلد بجوارنا وهو أقرب إلى القاهرة من أسوان .. وبطبيعة الحال فإن من يجهل مجرد وجود بلد بهذا الاسم وأنها بلد مسلم فإنه يكون خالي الذهن عما يجرى بداخله من مؤامرات ... كما سبق أن أشرت إلى أن المصريين كانوا فى ذلك الوقت يعيشون فى عزلة ولا يعرفون أحدا ممن حولهم ولا يعينهم أن يعرفوا .

وكان الإخوان أول من طرق أسماع المصريين بهذا الاسم ، وأول من لفت نظرهم إليه ، وأول من شغلهم بمتابعة مؤامرات اليهود ومكائد الإنجليز فى هذا البلد المسلم وأول من أثار قضية كان المصريون خلاة البال عنها تماما وظل الإخوان يرفعون راية هذه القضية حتى شاء الله أن يكون الشاغل الأكبر بل الوحيد لمصر وللعرب وللمسلمين وللعالم كله .

ب - وأما إيقاظ الروح الإسلامية فى مسلمي الشعب المصري المضلل فإن هذا الموضوع كان معضلة أمام دعوة الإخوان ، والإخوان وقد فهموا دعتهم ، وجدوا أن بينهم وبين توضيح معضلة دعوتهم - وهى المعنى الإسلامية العليا - لهذا الشعب عقبات كأداء مما حشا به المستعمر وأذنابه عقوله من التضليل والأوهام ، ومما تناولوا به عواطفه ومشاعره من تخدير حتى لم نعد تستجيب لداعية ملهم ولا لخطيب مفوه ، ولا تستقيم مع منطق أو برهان .. فكان لابد لكي يصل الإخوان إلى هذه العقول المضللة والمشاعر المخدرة من قارعة تحل قريبا من دارهم نوقظ هؤلاء الموتى بزلزالها وتبعثهم من أكفانهم بصواعقها ... فكانت قضية فلسطين هي القارعة وهى الزلزال وهى الصاعقة .

لقد اختصر نهوض الإخوان فى ذلك الوقت بقضية فلسطين الزمن اختصارا ، وأغنى عن الكثير من الخطب والمحاضرات والمقالات والمؤلفات ؛ فلو أن مائة محاضر مقنع ومائة خطيب مصقع بذلوا أقصى ما يستطيعون فى الإبانة عما تضمنته الفكرة الإسلامية من معاني التعاون والإخاء التي تربط بين المسلمين فى كل مكان ؛ لما أثمرت جهودهم عشر معشار ما كانت تثمره كلمة ثائرة من شاب من الإخوان يوجهها إلى جمهور المصلين بعد صلاة الجمعة يشرح فيها ما يرتكبه اليهود والانجليز من فظائع ضد إخوانهم المسلمين فى فلسطين ، ويطلب منهم الغوث لإنقاذ بيت المقدس قبل أن ينتزعه الإنجليز من المسلمين ويسلموه لليهود ليحولوه إلى معبد يهودي .

وسأضرب مثلين يوضحان مدى تأثير مثل هذه الكلمات المستمدة من صميم الواقع والتي تعتمد فى لحمتها وسداها على قضية فلسطين ، وقد اخترت هذين المثلين لأنني لمست التأثير فيهما بنفسي : كلفت فى يوم من أيام الجمعة بالقيام بهذا الدور فى مسجد الدور فى مسجد الرفاعى بالقاهرة ، وكان مسجد الرفاعى فى ذلك الوقت - وكما ذكرت من قبل - أفخم مسجد فى القاهرة ويؤمه فى صلاة الجمعة طبقة من أعلى أهل القاهرة ثقافة لأنه فضلا عن فخامته فإن خطيبه الشيخ محمود على أحمد كان خطيبا مفوها على مستوى يندر وجود مثله .

وبعد صلاة الجمعة وقفت وخاطبت الناس بالأسلوب المشار إليه آنفا ، وكنت حريصا أن أرفع المصحف بيدي طيلة مخاطبتي للجمهور وأقول لهم إن إخوانكم فى فلسطين إنما يقتلون فى سبيل هذا الكتاب وإن اليهود والجنود الإنجليز يقتحمون البيوت ويمزقون هذا الكتاب ويدوسونه بأحذيتهم .... فماذا كان بعد ذلك ؟ ... وماذا كان من صدى لهذه الكلمات فى نفوس الحاضرين وعقولهم ؟ .......

كان التصرف الذى تصرفه خطيب المسجد - تنفيذا لتعليمات الحكومة المصرية وحفاظا على وظيفته أن تنتزع منه مع أنه كان من قبل صديقا للإخوان - أن طلب من المصلين - وكان مطاعا فيهم ونافذ عليهم - أن يمنعوني من الكلام فلم يتقدم أحد .. واكتفوا بهذا الموقف السلبي حياء من الرجل الذى لم يتعودوا أن يعصوا له أمرا ... فلما رأى الرجل تقاعسهم أمر خدم المسجد - وكانوا كثرة أشداء - أن يمنعوني بالقوة فتقدموا نحوى ؛ وهنا نسى الجمهور تقديرهم لخطيب المسجد وبحركة غير إرادية وقفوا فى وجه الخدم وهددوهم إذا مسوني بأذى أن يقذفوا بهم خارج المسجد ، فتراجع الخدم ... فلم يجد خطيب المسجد وسيلة إلا أن يقف فوق كرسي الدرس - وأنا واقف على أرض المسجد - ويخطب ضدي ليفض الناس من حولي ولكن أحدا من الجمهور لم يلتفت إليه وظلوا جميعا ملتفين حولي متأثرين بكلامي تأثرا ظهر تأثيره فى ملء الصناديق الأربعة التي كان يحملها زملائي فى نواحي المسجد ، وفى النهاية أقبلوا على يكادون يبكون من التأثر يدعون الله لنا أن يعيننا على هذا الجهاد .

والمثل الآخر صورة مماثلة للمثل السابق غير أنه يختلف عنه فى مستوى المسجد ومستوى المصلين فيه ، فبينما كان مسجد الرفاعى يضم عليه القوم وأعلاهم ثقافة، كان مسجد قنطرة الدكة بميدان الأوبرا يضم المستوى الشعبي من المصلين ، وحدث فيه نفس الذى حدث فى المسجد السابق إل أنه فى هذا المسجد بعد أن وجد خطيب المسجد أن الخدم عجزوا عن الوصول إلى تقدم هو بنفسه نحوى وطرق صدري بذراعيه ، وكنت رافعا المصحف بيمناي ، فاجتمع المصلون عليه وانتزعوني منه وألقوا بالرجل خارج المسجد وهو يقول للناس : لا تخربوا بيتي إنه يشتم الإنجليز .

وهذا الذى حدث لي فى هذين المسجدين حدث مثله لزملائي فى مساجدهم بل إن منهم من كان رجال الشرطة يدخلون المسجد استجابة لطلب الإمام ويلقون القبض على الأخ الخطيب ويجرونه جرا فى الشارع حتى يصلوا به إلى قسم البوليس .

ولكن الذي أحببت أن أبينه للقارئ هو أن لجوء الإخوان إلى شرح قضية فلسطين لجمهور المسلمين فى المساجد كان أقصر الطرق للوصول بهم إلى فهم الفكرة الإسلامية فهما صحيحا بما فيها جانب القوة والحرية والجهاد والسياسة وهو ما كانوا يعجزون عن فهمه بالأساليب المجردة من المحاضرات والمقالات وما إليها .

ج - وأما إيجاد الوعي لدى الشعب المضلل بأن الإنجليز أعداء لنا وللإسلام ، فقد يبدو لجيل هذه الأيام غريبا أن يكون جيش أجنبي يحتل أرض قوم ولا يشعر هؤلاء القوم بمقت هذا المستعمر والحقد عليه ، ولكن الإنجليز استطاعوا أن يخدعوا الشعب المصري عن طريق صنائعهم من الحكام فأوهموه أن كل خير إنما يأتي عن طريق الإنجليز ، وشغلوا الشعب بمعارك جانبية حزبية ، فلم يعودوا يشعرون بوطأة الاحتلال فكان على الإخوان أن يقتحموا هذه الأسوار العالية وما كان لهم أن يفعلوا ذلك لولا تذرعهم بقضية فلسطين وما يجرى على أرضها من مؤامرات ومظالم ومذابح ضد العرب والمسلمين .

د - وأما إقامة الدليل على أن الحكومات المصرية على اختلاف نزعاتها وأحزابها إن هي إلا خادم ذليل للمستعمر ؛ فإن الشعب حتى ذلك الوقت لم يكن يرى من حكومة اضطهادا إلا موجها إلى أنصار حزب معارض لها ، أما حينما قام الإخوان بأعباء الدعوة إلى تأييد العرب فى فلسطين فى محنتهم التي دبرها الانجليز فقد رأى الشعب بعينيه أن حكومات مصر على اختلاف أحزابها تقاوم الإخوان وتحاول منعهم عن الدعاية ضد الإنجليز وعن فضح إجرامها : بل إن الشعب سمع بأذنيه أئمة المساجد وخطباءها الرسمين بإيعاز من حكومتهم يحاولون منع الإخوان ويقولون للناس بصريح العبارة فى معرض تبريرهم هذا المنع : إنهم - أي الإخوان - يهاجمون الإنجليز ، وإذا لم أمنعهم فسيعرضني ذلك لقطع عيشي .. ففهم الناس لأول مرة أن هؤلاء السادة الحكام الذين كانوا يعتبرونهم مثلا عليا فى الوطنية ليسوا فى حقيقة أمرهم إلا خدما وأذنابا للمستعمر . فاعتماد الإخوان فى حديثهم إلى الناس على قضية فلسطين كان بمثابة جرعة منبهة لهذا الشعب المسكين أخذ يستفيق على أثرها من غشيته وأخذ يرى الأوضاع على حقيقتها .

ه - لم يبق من النتائج إلا جمع المال وهو لم يكن مقصودا لذاته بل كان وسيلة للتعبير عن المشاركة الوجدانية كما يقولون ؛ بمعنى أننا كنا نريد أن نعرف مدى تأثير حديثنا مع الناس فكانت هذه القروش التي يقدمها السامعون هي تعبيرهم عن تأثرهم بما نقول . ومساهمة رمزية منهم فى استعدادهم لتحمل أعباء المعركة التي يخوضها إخوانهم ضد اليهود والإنجليز .. ولهذا المال الذى كنا نجمعه لفلسطين قصة ستأتي فى سياق أحداث للدعوة سنذكرها فى موضعها إن شاء الله .

وإذا كان الشئ بالشئ يذكر ، فلا يفوتني أن أنوه هنا بحملة من حملات الدعاية لقضية فلسطين كانت هذه المرة خارج القاهرة وكانت فى مسجد السيد أحمد البدوي فى طنطا وكان الداعية فيها الأخ عبد الحكيم عابدين وكان إذ ذاك طالبا بكلية الآداب ومعه مجموعة من الإخوان .. وقد اخترت هذه الحملة بالذات لأنها هي وحدها دون غيرها من مئات الحملات قد شاء الله لها أن تسجل بقلم الكاتب الإسلامي الرفيع الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ؛ فقد كان أحد المصلين بالمسجد فى ذلك اليوم ، وقد هاجت الحملة فى نفسه كوامن الأسى على ما آلت إليه حال المسلمين من تدهور وانحطاط فسجل هذه الكوامن كما سجل الأماني التي بعثتها هذه الحملة فى نفسه : سجل كل ذلك فى مقال رائع على صفحات مجلة الرسالة التي كانت توزع فى ذلك الوقت على نطاق لا يقل عن نطاق توزيع جريدة الأهرام . وكان تسعة أعشار قرائها إنما يقتنونها من أجل مقال الرافعي الذى كان دائما يتصدرها ... وقد جمعت مقالات الرافعي هذه بعد وفاته فى كتاب (( وحى القلم )) فى ثلاثة أجزاء .

والمقالة التي سجل فيها الرافعي هذه الحملة سماها (( قصة الأيدي المتوضئة )) ومن حق القارئ على أن أمتعه بنقل فقرات من هذه المقالة التاريخية المثيرة والبالغة الروعة :

(( قال الراوي )) : وصعد الخطيب المنبر وفى يده سيفه الخشبي يتوكأ عليه ( كانت وزارة الأوقاف يلزم كل خطيب مسجد أن يمسك بسيف من الخشب وهو يخطب الجمعة ) فما استقر فى الذروة حتى خيل إلى أن الرجل قد دخل فى سر هذه الخشبة ، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه ، وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه ؛ ونظرت فإذا هو كذب صريح على الإسلام والمسلمين ، كهيئة سيفه الخشبي فى كذبها على السيوف ومعدنها وأعمالها .

وتالله ما ادري كيف يستحل عالم من علماء الدين الإسلامي فى هذا العصر أن يخطب المسلمين خطبة جمعتهم وفى يده هذا السيف علامة الذل والضعة والتراجع والانقلاب والإدبار والهزل والسخرية والفضيحة والإضحاك ، ومتى كان الإسلام يأمر بنحر السيوف من الخشب ونحتها وتسويتها وإرهاف حدها الذى لا يقطع شيئا ، ثم وضعها فى أيدي العلماء يعتلون بها ذوأبة كل منبر لتتعلق بها العيون ، وتشهد فيها الرموز والعلامة ، وتستوحي منها المعنوية الدينية التي يجب أن نتجسم لترى ؟ ...

أفي سيف من الخشب معنوية غير معنى الهزل والسخافة وبلاهة العقل وذلة الحياة ومسخ التاريخ الفاتح المنتصر ، والرمز لخضوع الكلمة وصبيانية الإرادة ؟ ....

قال : وكان تمام الهزأ بهذا السيف الخشبي الذى صنعته وزارة أوقاف المسلمين ، أنه فى طول صمصامة عمرو بن معدي كرب الزبيدى فارس الجاهلية والإسلام ( كان طول الصمصامة سبعة أشبار وافية وعرضه شبرا ) فكان إلى صدر الخطيب ، ولولا أنه فى يده لظهر مقبضه فى صدر الرجل كأنه وسام من الخشب .

قال : وكان الخطيب إذا تكلف وتصنع وظهر منه انه حمى وثار ثائره ، أرتج وغفل عن يده ، فتضطرب فيها قبضة السيف فلنكزه فى صدره كأنما تذكرة أن فى يده خشبة لا تصلح لهذه الحماسة (القاعدة الشرعية أن البلد الذى يفتح بالسيف يخطب فيه الخطيب بالسيف . ولما ضعف المسلمون أنف السيف منهم وأطاعهم الخشب ) .

قال : وخطب العالم على الناس ، وكان سيفه الخشبي يخطب خطبة أخرى : فأما الأولى فهي محفوظة معروفة ولا تنتهي حتى ينتهي أثرها ، إذ هي كالقراءة لإقامة الصلاة ، وكانت فى عهدها الأول كالدرس لإقامة شأن من شئون الاجتماع والسياسة ؛ فبينها وبين حقيقتها الإسلامية مثل مابين هذا السيف من الخشب وبين حقيقته الأولى؛ وأما الخطبة الثانية فقد عقلتها أنا عن تلك الخشبة وكتبتها ، وهذه هي عبارتها :

ويحكم أيها المسلمون .. لو كنت بقية من خشب سفينة نوح التي أنقذ فيها الجنس البشرى ، لما كان لكم أن تضعوني فى هذا الموضع ؛ وما جعلكم الله حيث أنتم إلا بعد أن جعلتموني حيث أنا ، نكاد شرارة تذهب بى وبكم معا ، لأن فى وفيكم المادة الخشبية والمادة المتخشبة .

ويحكم لو أنه كان لخطيبكم شئ من الكلام الناري المضطرم ، لما بقيت الخشبة فى يده خشبة وكيف يمتلئ الرجل إيمانا بإيمانه ، وكيف يصعد المنبر ليقول كلمة الدين من الحق الغالب ، وكلمة الحياة من الحق الواجب وهو كما ترونه قد انتهى من الذل إلى أن فقد السيف روحه فى يده ؟ أيها المسلمون .. لن تفلحوا وهذا خطيبكم المتكلم فيكم ، إلا إذا أفلحتم وأنا سيفكم المدافع عنكم ، أيها المسلمون .. غيروه وغيروني .

قال راوي الخبر  : ولما قضيت الصلاة ماج الناس ، إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم ويستوقفونهم ليخطبوهم ثم قال احدهم فخطب ، فذكر فلسطين وما نزل بها ، وتغير أحوال أهلها ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم ، ثم استنجد واستعان ، ودعا الموسر والخف إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى ، وتقدم أصحابه بصناديق مختومة فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي فى هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرها .

قال : وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير فى وجوههم والصبر فى أجسامهم والقناعة فى نفوسهم والفضل فى سجاياهم ، إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زروعا ومن أنفسهم زروعا أخرى ، فقال لرجل كان معه : إن هذا الخطيب خطيب المسجد قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه ، فما ينبغي أن نكون خطبة المسلمين إلا فى أخص أحوال المسلمين .

قال : ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنى دقيق فى حكمة هذه المنابر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها فى صيغة الخطاب غلى الروح والعقل والقلب ، فتكون خطبة الجمعة الكلمة الأسبوعية فى سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع ، وبهذا لا يجئ الكلام على المنابر إلا حيا بحياة الوقت ، فيصبح الخطيب ينتظره الناس فى كل جمعة انتظار الشئ الجديد ، ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل .

قال : وخيل إلى بعد هذا المعنى أن كل خطيب فى هذه المساجد ناقص إلى النصف لأن السياسة تكرهه أن يخلع إسلاميته الواسعة قبل صعوده المنبر ، وأن لا يصعد إلا فى إسلاميته الضيقة المحدودة بحدود الوعظ الذى هو مع ذلك نصف وعظ ... فالخطبة فى الحقيقة نصف خطبة أوكأنها أثر خطبة معها أثر سيف ...

قال : وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال : هذه لطعام أنبلغ به ولأوبتي إلى البلد ثم أفرغ الباقي فى صناديق الجماعة ، واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت فى صناديقهم كل ما معي ، ولقد حسبت أنه لو بقى لي درهم واحد لمضى يسبني مادام معي إلى أن يخرج عنى . قال الراوي : ثم دخلت إلى ضريح صاحب المسجد أزوره وأقرأ فيه ما تيسر من القرآن ، فإذا هناك رجال من علماء المسلمين اثنان أو ثلاثة ثم توافى إليهم آخرون فتموا سبعة ... وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافية على طبيعتها ، فامتدت وعظمت حتى نشرت حولها جوا روحانيا من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بعد .

قال : وأنصت الشيوخ جميعا إلى الشبان ، وكانت أصوات هؤلاء جافية صلبة حتى كأنها صخب معركة لأفن خطابة ، وعلى قدر ضعف المعنى فى كلامهم قوى الصوت ، فهم يصرخون كما يصرخ المستغيث فى صيحات هاربة بين السماء والأرض .

فقال أحد الشيوخ الفضلاء : لا حول ولا قوة إلا بالله ... جاء فى الخبر (( تعس عبد الدينار تعس عبد لدرهم )) ووالله ما تعس المسلمون إلا منذ تعبدوا لهذين حرصا وشحا (( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) ولو تعارفت أموال المسلمين فى الحوادث لما أنكرتهم الحوادث .

فقال آخر : وفى الحديث (( إن الله يحب إغاثة اللهفان )) ولكن ما بال هؤلاء الشبان لا يوردون فى خطبهم أحاديث مع أنها هي كلمات القلوب ؟ فلو أنهم شرحوا للعامة هذا الحديث لأسرع العامة إلى ما يحبه الله .

قال الثالث : ولكن جاءنا الأثر فى وصف هذه الأمة (( إنها فى أول الزمان يتعلم صغارها من كبارها فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم )) فنحن فى آخر الزمان ، وقد سلط الصغار على الكبار يريدون أن ينقلوهم عن طباعهم إلى صبيانية جديدة .

قال الراوي : فقلت لصديق كان معي : قل لهذا الشيخ : ليس معنى الأثر ما فهمت ، بل تأويله أن آخر الزمان سيكون لهذه الأمة زمن جهاد وأقتحم ، وعزيمة ومغالبة على استقلال الحياة فلا بصلح لوقاية الأمة إلا شبابها المتعلم القوى الجرئ كما نرى فى أيامنا هذه ، فينزلون من الكبار تلك المنزلة ، إذ تكون الحماسة متممة لقوة العلم . وفى الحديث (( أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره )) .

قال الراوي : ولم يكد الصديق يحفظ عنى هذا الكلام ويهم بتبليغه ، حتى وقعت الصيحة فى المكان ، فجاء أحد الخطباء ووقف يفعل ما يفعله الرعد ، لا يكرر إلا زمجرة واحدة ، وكان الشيوخ الأجلاء قد سمعوا ما قيل ، فأطرقوا يسمعونه مرة رابعة وخامسة ، وفرغ الشاب من هديره فتحول إليهم وجلس بين أيديهم متأدبا متخشعا ووضع الصندوق المختوم .

فقال أحد الشيوخ : ممن أنت يا بني ؟ قال : أنا من جماعة الإخوان المسلمين . قال الشيخ : لم يخف علينا مكانك ، وقد بذلتم ما استطعتم فبارك الله فيك وفى أصحابك.

وسكت الشاب ، وسكت الشيوخ ، وسكت الصندوق أيضا ...

ثم تحركت النفس بوحي الحالة ، فمد أولهم يده إلى جيبه ثم دسها فيه ، ثم عبث فيه قليلا ثم ... ثم أخرج الساعة ينظر فيها .

وانتقلت العدوى إلى الباقين ، فأخرج احدهم منديله يتمخط فيه ، وظهرت فى يد الثالث مسبحة طويلة ، وأخرج الرابع سواكا فمر به على أسنانه ، وجر الخامس كراسة كانت فى قبائه ، ومد صاحب اللحية العريضة أصابعه إلى لحيته يخللها ، أما السابع فثبتت يده فى جيبه ولم تخرج ، كأن فيها شيئا يستحى إذا هو أظهره أو يخشى إذا هو أظهره من تخجيل الجماعة .

وسكت الشاب ، وسكت الشيوخ ، وسكت الصندوق أيضا ...

وقال الراوي ونظرت فإذا وجوههم قد لبست للشاب هيئة المدرس الذى يقرر لتلميذه قاعدة قررها من قبل ألف مرة لألف تلميذ ، فخجل الشاب وحمل صندوقه ومضى .

أقول أنا : فلما انتهى الراوي من (( قصة الأيدي المتوضئة )) قلت له لعلك أيها الراوي استيقظت من الحلم قبل أن يملأ الشيوخ الأجلاء الصندوق ، وما ختم عقلك هذه الرواية بهذا الفصل إلا بما كددت فيه ذهنك من فلسفة تحول السيف إلى خشبة ، ولو قد امتد بك النوم لسمعت أحدهم يقول لسائرهم : بمن ينهض إخواننا المجاهدون وبمن يصولون ؟ لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( جاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل )) ثم يملئون الصندوق ...


الفصل الثاني : الدعوة على متفرق طريقين

(( هل نهاجر ؟ )

كان حسن البنا - كدأب أصحاب الدعوات - حريصا على أن يرتاد بدعوته أخصب أرض تنمو فيها وتترعرع . وكان يرى - كما كنا جميعا نرى - أن مصر تزخر بالكثير من مظاهر الانحراف عن الدين مما تألم له نفس الرجل المؤمن ، وكان يفد إلينا فى مصر بين الفينة والفينة أفراد من بلاد عربية وبلاد إسلامية نرى فى علمهم وسلوكهم المثل العليا التي نرتجيها فاعتبرنا هؤلاء الأفراد صورة مصغرة لبلادهم ومجتمعاتهم التي جاءوا إلينا منها ، فتاقت نفوسنا إلى تلك البلاد ووددنا لو انتقلنا إليها بدعوتنا حيث نجد الملاذ الطيب والملجأ المنيع والركن الشديد والخصوبة المأمولة ، وتحدثنا فى ذلك معا وتحدثنا فيه مع الأستاذ المرشد فوجدنا لحديثنا فى هذا الموضوع صدى طيبا كأنما صادف هوى فى نفسه .

وأخذت هذه الفكرة يعظم أمرها فى نفوسنا وفى نفس الأستاذ المرشد حتى إنه جاء فى يوم من الأيام وكاشفنا بأنه أصبح مقتنعا بالفكرة وبأن انتقالنا بالدعوة إلى بلد آخر أقرب إلى الإسلام يوفر علينا كثيرا من المشاق وكثيرا من الوقت ولكنه يريد أن يعرف مدى استعدادنا للهجرة يوم تتقرر الهجرة ، وما هي إلا لحظات حتى رأى منا ما يطمئن نفسه ، فسر وانشرح صدره .

ترجمة القرآن الكريم ومعركتها

اقتراح ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى ، اقتراح نشأ فى أروقة الجامع الأزهر ، باعتبار ذلك الوسيلة المثلى لنشر الإسلام فى بقاع الأرض ، حيث اعتقد الأزهر أن وجود القرآن الكريم باللغة العربية هو العائق الأكبر أمام من لا يعرفون العربية ، فإذا أزلنا هذا العائق بإيجاد القرآن مترجما إلى مختلف اللغات صار انتشار الإسلام سهلا ميسورا .

الدافع إلى هذا الاقتراح كما يبدو دافع نبيل ، يستهوى نفس كل غيور على الإسلام ، فإذا علم أن الأزهر بثقله العلمي والإسلامي يقف من وراء هذا المقترح فإن أحدا لا يتخلف عن تأييده ويتحمس لهذا التأييد ... ولهذا سرت فكرة الترجمة هذه فى مختلف البلاد ومختلف الأوساط .

وقد انبثق هذا الموضوع عن الأزهر قبل أن انزح إلى القاهرة ، وكنا نشعر -نحن قراء الصحف - أن الحكومة تؤيد هذا الاقتراح ولكنها تقدمه إلى الشعب عن طريق الأزهر حتى يكتسب صبغة تحببه إلى النفوس ، ولا أدرى الدوافع التي دفعت الحكومة إلى تأييد هذا الاقتراح .

ومع أن الأزهر هو الذى قدم الموضوع إلى الشعب والحكومة تطل إلى الشعب من ورائه ، ومع أن علماء الأزهر فى ذلك الوقت كانوا يتوخون إرضاء الحكومة ، فإن رجلا من رجال الأزهر تصدى للفكرة غير عابئ بالأزهر ولا بالحكومة ، وكتب فى جريدة الأهرام سلسلة ضافية من المقالات النارية يفند فيها فكرة الترجمة ويهاجمها مهاجمة لا هوادة فيها ولازلت أذكر اسم هذا العالم الجرئ الشيخ محمد سليمان نائب المحكمة الشرعية العليا بالقاهرة ، ونظرا لأهمية موضوع الترجمة ولروعة المقالات التي كانت تكتب لتأييده وتلك التي يكتبها هذا الرجل لمهاجمته خصص لها (( الأهرام )) صدر صفحته الأولى فكان الناس يتهافتون على قراءة هذه المقالات يريدون أن يصلوا إلى الحقيقة فى أمر خطير يمس الناس جميعا فى أعز ما يعتزون به وهو القرآن الكريم .

ونزحت إلى القاهرة وموضوع ترجمة القرآن محتدم على أشده ، فلما اتصلت بالإخوان وجدت الأستاذ المرشد يهاجم فكرة الترجمة وحجته فى ذلك أن الترجمة مستحيلة لأن التركيب القرآني العربي فى ذاته معجز للعربي حين يحاول فهمه فهو يفهم منه بقدر طاقته فى الفهم والتصور وقد يفهم منه عربي آخر ما لم يفهمه الأول لأنه أوسع تصورا - ويفهم من الآية فى عصر من العصور ما لم يفهم منها فى عصر سابق والآية والألفاظ هي الألفاظ ، فالإقدام على ترجمة القرآن إقدام مستحيل ومسخ للقرآن ونزول به عن مكانته مما يعد اعتداء على الإسلام فى أقدس مقدساته ... وكان للإخوان - على قلتهم فى ذلك الوقت - أثر ملموس فى مهاجمة هذه الفكرة لأنهم كانوا الهيئة الوحيدة التي تهاجم علنا .

وأذكر أنني بعد اقتناعي بهذا الرأي كتبت مقالة بمجلة الإخوان هاجمت فيها فكرة الترجمة من ناحية أخرى وهى ما يرجوه الأزهر من ورائها فقلت ما مجمله إن الأزهر إذا كان يرجو من وراء ترجمة القرآن أن ينشر الإسلام فى بلاد لا يتكلم أهلها العربية فإن هذا وهم ، فإذا كان دستور الدعوة إلى الإسلام هو قول الله تعالى (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) فإن الحكمة تقتضى أول ما تقتضى أن يكون الداعي موضع احترام المدعو ... ولما كانت الأمم الإسلامية لازالت موضع احتقار الأمم الأخرى لأنها أمة متخلفة متأخرة جاهلة مستعمرة ، فإن الخطوة الأولى ليست هي ترجمة القرآن وإنما هي التخلص مما هي فيه من أسباب الضعف والانهيار حتى تتبوأ مكانا محترما بين الأمم وحينئذ نبدأ بتوجيه الدعوة إلى الإسلام وحينئذ تلقى قبولا .

الحج

قدمت أن الأستاذ المرشد قد كاشفنا بأن فكرة الهجرة بالدعوة إلى بلد آخر من البلاد الإسلامية يكون أقرب إلى الإسلام من مصر قد سيطرة على تفكيره وملأت نفسه، ولكنه لم يقدم على هذه الخطوة حتى يحدد أي هذه البلاد الإسلامية أشد قربا من الإسلام ، وخير وسيلة لتحديد هذا البلد هو الحج ، فإن الحج يجمع جميع الطبقات من جميع بلاد العالم الإسلامي .. فإذا اختلطنا بهذه الطبقات من جميع هذه البلاد استطعنا أن نقيم كل بلد من البلاد الإسلامية تقيما صحيحا . وقد صحب الأستاذ المرشد فى هذا الحج مائة من الإخوان من مختلف البلاد المصرية وقد وحد زيهم جميعا فكل منهم يرتدى جلبابا أبيض وطاقية بيضاء .

وسافر وفد الحجيج وقلوبنا ترفرف عليهم حيث كانوا وأديت فريضة الحج بالوقوف بعرفة وبعد أيام قلائل جاءنا البريد بطرد كبير فتحناه فإذا هو مجموعة من العدد الأخير من جريدة (( أم القرى )) وهى الجريدة الوحيدة التي تصدر فى السعودية فى ذلك الوقت وكانت جريدة شبه رسمية ، فتعجبنا من وصول هذه الجريدة إلينا لأول مرة فقد كانت تصلنا من بلاد إسلامية أخرى مجلات وصحف ولكن هذه الجريدة لم تصلنا إلا هذه المرة ولكنها إذ تصل تصلنا منها هذه الكمية الضخمة ، وتصفحنا الجريدة وكانت قليلة الصفحات فوجدنا يشغل مكان الصدارة فيما خطاب للأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين ألقاه فى مؤتمر عظماء المسلمين فى الحج ، وقد لاحظنا أن الخطاب على طوله - فهو يشغل أكثر صفحات الجريدة - ليس إلا مجموعات من آيات القرآن الكريم لا يفصل كل مجموعة منها عن الأخرى إلا سطر أو سطران من كلام الأستاذ المرشد

الرجوع من الحج بمفاجآت ومفاهيم جديدة

كنا نعول الكثير على رجوع الأستاذ المرشد من الحج ، فإن مستقبلنا ومستقبل الدعوة كان متوقفا على نتائج هذه الرحلة ، وقد أعددنا لاستقباله كل ما نستطيع إعداده ، وعلى سبيل المثال كلفنا الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي بوضع نشيد نستقبله به فأنشأ نشيدا جميلا لا يحضرني الآن إلا مطلعه الذى يقول :

مرحبا يوم قدوم المرشد

عمت الأفراح أرجاء الندى

وقدمنا اليوم كما نهتدي

وكنا نتمرن جميعا على إنشاده معا ، كما أننا حشدنا أكبر عدد من الإخوان بالقاهرة وغيرها حتى امتلأ فناء الدار لأول مرة مع أضواء ساطعة فى أنحائه . وقد حضر الأستاذ المرشد إلى دار المركز العام قبل أن يذهب إلى منزله فلم يره أهله وأبناؤه إلا بعد انتهاء الحفل .

وبدأ الحفل بتلاوة القرآن الكريم ثم ألقينا السيد ثم تكلم الأستاذ عمر التلمساني المحامى - وكانت هذه أول مره أراه فيها - وأذكر أنه افتتح كلمته بقوله : يسير على من صناعته الكلام أن يقول ويترجم عن مشاعره ولكنى أراني عاجزا عن القول .....)) ثم ألقى الشيخ محمد زكى إبراهيم قصيده رائعة كانت تقاطع أكثر أبياتها بالهتاف والتكبير - ولم تكن الكلمات التي تلقى سواء منها الشعر والنثر إلا كلمات هادفة عظيمة المدلول - ولازال يطن فى أذني من هذه القصيدة استعيد أكثر من مرة لروعته يقول فيه :

وصلاح الدين فى عمته  :: هد دنيا قبعات علنا

وناهيك بما تضمنه هذا البيت من معان تهدم دعاوى كانت رائجة فى ذلك الوقت ، وكان يدعو لها حتى رؤساء الوزارات فى مصر ورؤساء الأحزاب ، فقد صرح رئيس حزب الوفد - مصطفى النحاس - وكان رئيسا للوزراء بأنه معجب بحركة أتاتورك بدون تحفظ - وتتلخص حركة أتاتورك هذه فى أنه قضى على الدين الإسلامي ، ولبس القبعة وأمر الأتراك بلبسها ، حتى اللغة التركية أمر بكتابتها بالحروف اللاتينية بعد أن كانت تكتب بالحروف العربية ، مدعيا أن هذه الحركة ستجعل من تركيا دولة عظيمة .

ثم قام الأستاذ المرشد ليلقى كلمته التي كنا نزن كل حرف منها بميزان ، وأستطع أن أقرر أن هذه الكلمة كانت من أهم وأعظم ما صدر عن الأستاذ المرشد لأنها وضعت أسسا جديدة للدعوة وغيرت كثيرا من المفاهيم ، وأوضحت السبيل وحددته ، ويمكن تلخيص ما اشتملت عليه هذه الكلمة فى نقاط ثلاث :

أولا :ذكر الأستاذ المرشد أن همه كله كان منصبا على الالتقاء بوفود المسلمين من مختلف الطبقات من كل بلد إسلامي فى العالم ، والتحدث معهم ، ودراسة أحوالهم، ومناقشة مشاكلهم ، والتعرف على مستواهم الحضاري والثقافي والديني ، ومعرفة مدى تسلط المستعمر على بلادهم ، ومستوى فهمهم للإسلام وعلاقته بالحياة . قال : وقد اتصلت بالمحكومين والحكام فى كل بلد من البلاد الإسلامية وخرجت من ذلك باقتناع تام بأن فكرة الهجرة بالدعوة أصبحت غير ذات موضوع وأن العدول عنها أمر واجب ، فمصر على ما فيها من عيوب هي أحسن بيئة للدعوة الإسلامية.

ثانيا : أن دراسة أحوال المسلمين فى البلاد الإسلامية فى أنحاء العالم ضاعفت العبء الملقى على عواتقنا فقد كنا نعتقد أن هذه البلاد ستكون عونا لنا على لإصلاح مصر ، فتبين لنا أنها هي فى ذاتها عبء يقتضى منا بذل أضعاف ما نبذله فى مصر لمجرد بعث الحياة فيها ، فالبون شاسع بين مستوى هذه البلاد ومستوى مصر سواء فى الدنيا أوفى الدين .

ثالثا : أن فكرة ترجمة القرآن فكرة ساذجة وخاطئة بل وجريمة قد لا تعدلها جريمة ترتكب فى حق الإسلام ، وساق فى إثبات ذلك مثلا واقعيا فقال : لعلكم تعجبتم حين وصلكم نحو مائة نسخة من جريدة أم القرى وفى صدرها كلمة لي .... إن لهذا الموضوع قصة هي غاية الأهمية ، وتجربة فى الدعوة الإسلامية لم تكن تخطر ببالي ولا ببال أحد ، تجربة فسرت آيات فى كتاب الله لم نكن نفهمها على وجهها الصحيح ، وقال إنني سافرت إلى الحج ولم أكن إلى فكرة ترجمة القرآن بنفس الخطورة التي أصبحت الآن أنظر إليها .

قال : اعتاد الملك عبد العزيز آل سعود أن يدعو كل عام كبار المسلمين الذين يفدون لأداء فريضة الحج إلى مؤتمر بمكة المكرمة تكريما لهم وليتدارسوا أحوال المسلمين فى العالم ، وكان فى وفود الحجاج من كل بلد إسلامي فى العالم وزراء وأمراء وزعماء سواء فى ذلك البلاد العربية وغير العربية فكان من مصر مثلا الدكتور محمد حسين هيكل ومن سورية ولبنان والعراق واليمن وإمارات الخليج وشمال أفريقية حكام وزعماء وكان من بلاد أفريقية الوسطى والجنوبية ومن جميع البلاد الإسلامية فى أسيا ومن جاليات المسلمين فى أمريكا الجنوبية وأوربا ؛ كل هؤلاء وجهت إليهم الحكومة السعودية دعوات لحضور هذا المؤتمر ؛ وطبعا لم توجه إلينا دعوة باعتبارنا من عامة الحجاج .

قال : علمت بموعد هذا المؤتمر وبمكانه الذى سينعقد فيه ، فأعددت نفسي والإخوان المائة فى هيئة موحدة هي الجلباب الأبيض والطاقية البيضاء ... وفى الموعد المحدد فوجئ عليه القوم المجتمعون بمائة رجل فى هذه الهيئة يخطون خطوة واحدة يتوسط الصف الأول منهم رجل هو المرشد العام ... فكان هذا حدثا منيرا للالتفات ... ودخل هؤلاء فاتخذوا أماكنهم فى نهاية الجالسين ؛ وبدأ المؤتمر بكلمة ترحيب من مندوب الملك .

ثم قام مندوب من كل بلد إسلامي فتكلم بلغه بلاده ؛ فألقيت عشرات الخطب بعشرات اللغات ومنها العربية التي ألقى بها الدكتور هيكل وأمثاله ممثلو الدول العربية ... يقول الأستاذ المرشد : وقد لاحظت أن الحاضرين يبدو على وجوههم السأم وغلب على أكثرهم اللوم ... وقد ناقشت هذه الظاهرة مع نفسي وأدرتها فى خاطري فوجدت أن السأم والنوم أمر تمليه الطبيعة البشرية فمادام السامع لا يفهم ما يقال - وهو لا يستطيع أن يغادر المؤتمر - فمن حقه أن يسأم وأن يستسلم للنوم قال فصبرت حتى انقضت الساعات الطوال التي استغرقها المندوبون فى إلقاء خطاباتهم واستغرقها الحاضرين أن يتقدم بملاحظاته إن كان له ملاحظات ... قال الأستاذ : فطلبت الكلمة واعتليت المنصة وارتجلت كلمة كانت أطول كلمة ألقيت ، وكانت الكلمة الوحيدة التي أيقظت الحاضرين ، وفوطعت بالإعجاب ، واهتزت لها المشاعر ، وبعثت فى المؤتمر جوا من الحيوية الدافقة وما كدت أنهى كلمتي حتى أقبلت على جميع الوفود تعانقني ، وتشد على يدي ، وتعاهدني وتطلب التعرف على وعلى من معي ، وتفتح قلوبها للفكرة التي تضمنها كلمتي .

يقول الأستاذ المرشد : لقد أحسست وأنا جالس فى المؤتمر بأن المستعمر أفلح فى القضاء على أسباب التفاهم بين البلاد الإسلامية بعضها وبعض بالقضاء على اللغة العربية فيها وإحلال لغة غيرها محلها ؛ فاندونيسيا تتكلم بلغة اندونيسية والهند بلغة هندية والصين بلغة صينية ونيجيريا بلغة نيجيرية وغانا وغينيا وهكذا ... وفكرت فأسعفني خاطري بأن الشئ الوحيد الذى لا يزال باقيا بلغته العربية ويقرأه الجميع بألفاظه العربية لأن العبادة لا تكون إلا بألفاظ التي أنزل بها هو القرآن . فالكل على اختلاف بلاده ولغاته ولهجاته يفهمه : فعزمت على أن تكون كلمتي كلها آيات من القرآن أرتبها ترتيبا يوضح كل ما فى نفسي من معاني الإسلام وأهدافه ووسائله ، وكيف يعالج النفس البشرية ويضع حلولا للمشاكل الحيوية ، ولاحظت من أول آية بدأت بها كلمتي أنني ضربت على الوتر الحساس فى قلب كل جالس فى المؤتمر ، وأحسست أن كل كلمة من آية أتلوها تقع من قلوب الحاضرين موقعها ، وتفعل فى نفوسهم فعلها ؛ حتى ذاب الثلج الذى جمد المشاعر طيلة الساعات السابقة ، وبدأ الدف حتى غلت مراجل القلوب والتهبت المشاعر وكان لابد فى نهاية الكلمة من تجمع هذه القلوب والتفافها .

ويمكن تلخيص نتائج هذه الكلمة وأثارها فى الآتي :-

1- أثبتت بما لا يتطرق إليه شك أن وجود القرآن باللغة العربية هو الرباط الأبدي الوحيد بين المنتمين إلى الإسلام حيثما كانوا ومهما اختلفت ألسنتهم وثقافتهم ، وأنه فى صورته هذه التي نزل بها من السماء هو بمثابة الروح فى جسد هذه الأمة الإسلامية ، وأنه هو كلمة السر التي متى سمعها المسلم أنس بقائلها ، وأحس أن بجانبه أخا يحبه ويفتديه مهما اختلفا بعد ذلك فى كل شئ .

2- تبين تبينا قاطعا أن فكرة ترجمة القرآن ، إما أن تكون فكرة قوم من المسلمين بلغوا من السذاجة حدا يؤسف له ، وإما أن تكون وليدة تفكير استعماري تبشيري خطير للقضاء على آخر رباط يربط الجسد الممزق ، أو هو قطع الشريان الوحيد الباقي فى هذا الجسد ، ولذا كان على المسلمين أن يقفوا لهذه الفكرة المدمرة بالمرصاد .. وتبين كما قال الأستاذ المرشد أن قول الله تعالى عن كتابه العزيز : (( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) معناه أن هذا القرآن لا يكون قرآنا إلا إذا كان عربيا وما كنا نعقل حقا ولا كان أحد يدور بخلده قبل هذا المؤتمر أن عروبة اللغة هي جزء من القرآن لا يتجزأ وأن العروبة اللغوية الأزمة له هي السر الخفي الذى تتحطم على صخرته مؤامرات الأعداء ومكائد الحاقدين على هذا الدين ... وعلى حد قول الأستاذ فى كلمته التي ألقاها فى تلك الليلة فى دار المركز العام إذ قال : إن كان لابد من ترجمة فلتترجم الأمم إلى القرآن ، لا أن القرآن تترجم إلى الأمم .

3- أحس الحاضرين لأول مرة بحرارة التيار الإسلامي يسرى فى مشاعرهم ، ورأوا لأول مرة أن العالم الإسلامي قد تمخض عن داعية من نوع جديد لم يألفوا له مثيلا من قبل ؛ فهو قادر على إثارة المعاني الإسلامية فى النفوس ، وقادر على جذب القلوب بالجاذبية الإلهية التي هي القرآن ، وقادر على جمع المتنافر منها تحت راية الإسلام ، وقادر على بث روح الأخوة التي تصهر النفوس فى بوتقة الإسلام ، فهرع الجميع يلتفون حول هذا الداعية الجديد ، ومن هنا سارعت (( أم القرى )) إلى نشر الخطاب بنصه فشغل معظم صفحاتها ، ولم تنشر إلى غيره . وبدأ أل سعود يتعرفون على الداعية الجديد .

4- بقدر ما كان لهذه الظاهرة الإسلامية الرائعة من أثر طيب فى نفوس جميع الوفود فيبدو أنها لم تقع من نفس الموقع ، فقد شعر هذا الوفد بالمهانة حين رأى جميع الوفود انفضت عنه ولم نعره اهتماما وهم الوزراء وكبار الساسة وأصحاب البلاد وسادة العباد ، والتفوا حول هذا الرجل النكرة الذى لم يسمعوا عنه ولم يعرفوا اسمه إلا فى هذا المؤتمر ... وسوف نتحدث فى باب قادم إن شاء الله عن أحداث وقعت فى مصر نتيجة هذا الشعور الأثيم .