الأوراق الفدرالية، ورقة 9
الأوراق الفيدرالية
ورقة رقم: 9 الكسندر هاملتون Alexander Hamilton 21 نوفمبر 1787
إلى أهالي ولاية نيويورك:
إن الاتحاد الراسخ المكين سوف يكون أقوى حافز لخدمة سلام الولايات وحريتها باعتباره حاجزاً صلباً يصد الاضطراب والانقسام الداخلي فيها. ومن المستحيل أن تقرأ تاريخ الجمهوريات الصغيرة في بلاد الإغريق وإيطاليا دون أن تغمرنا مشاعر الاشمئزاز والرعب من الارتباكات التي ظلت تزعجها على الدوام، ومن التعاقب السريع لقيام الثورات فيها حتى أبقتها في حال تذبذب دائم بين أقصى الطغيان وأشد الفوضى. وإذا كان تاريخها يعرض فترات هدوء مؤقتة، فما ذلك إلا لتخدم كنظير مقابل قصير العمر للعواصف الجامحة التي ما أسرع أن تهبّ بعد قليل. وإذا كانت هناك فترات مؤقتة من الارتياح والسعادة تعرض نفسها للباحث وتتكشّف للنظر عنده. فإننا نُبصرها بنظرة ممتزجة بالأسى، تنبع من التفكير في أن هذه المشاهد الباعثة على السرور سوف تغرقها سريعاً موجات عاصفة من التمزق، وتشوهها ثورات الانقسام والتشرذم. وإذا تسرّبت إلينا لحظات مشرّفة من المجد من خلال الظلام المسيطر على المجموع فإنها تبهرنُا ببريق شفاف ونفّاذ، لكنها في الوقت ذاته تعنّفنا وتدعونا إلى الشعور بالحزن والرثاء على أن رذائل الحكم هناك قد عكست اتجاه تلك اللحظات ولطخت ألق تلك المواهب الساطعة، والنعم المباركة التي أخرجتها تلك الأرض العزيزة وجعلتها تتبدّى بحق على هذه الصورة.
من هنا، من الاضطرابات التي تشوّه حوليات تلك الجمهوريات استقى محبذو حكم الطغيان مناقشاتهم وحججهم، لا للهجوم على شكل الحكم الجمهوري آنذاك فحسب بل ضد روح مبادئ الحريات المدنية كلها. لقد عنّفوا كل نظام الحكم الحر واستهجنوه، واعتبروه لا ينسجم مع المجتمع، ثم شغلوا أنفسهم بالهجوم الحاقد على أصدقاء ذلك الحكم والمؤيدين له. ومن حسن حظ البشرية أن المتطلبات العظيمة المبنية على قاعدة الحرية قد ازدهرت طوال عدة عصور، وفي عدة أمثلة مجيدة – وقد دحضت سفسطتهم الظلامية. وأنا واثق تماماً من أن أمريكا سوف تخلق الأساس الراسخ لنماذج من ذلك الحكم، لا أقل روعة وجمالاً، تكون نُصباً شامخة دائمة تشهد على أخطاء أولئك الدعاة.
غير أنه لا يجوز أن ننكر أن الصور التي اقتبسها (معارضو الحرية) من سجلّ الحكم الجمهوري كانت نُسخاً صادقة تماماً عن الأصول التي استُنسخت عنها. ولو وُجدت في الماضي نماذج قابلة للتطبيق عن تركيبة أكثر كمالاً من نظام الحكم الجمهوري لكان، الأصدقاء المتنورون للحرية، سيضطرون إلى التخلي عن قضية ذلك النوع من الحكم باعتبارها قضية لا يمكن الدفاع عنها. وهنا أقول: إن علم السياسة، شأن معظم العلوم الأخرى، قد توصل إلى تحسينات عظيمة على نفسه، تحسينات ما كانت معروفة للقدماء على الإطلاق، أو كانت معرفتها نزرة عندهم. فالتوزيع المنتظم للسلطات، وجعلها في دوائر منفصلة ومتمايزة، وإدخال إجراءات التوازن والكوابح التشريعية، وتشكيل محاكم يظل قضاتها في الوظيفة طالما ظل سلوكهم جيداً مقبولاً، وتمثيل الشعب في السلطة التشريعية عن طريق ممثلي المواطنين المنتخبين – كل هذه مكتشفات جديدة بالكلية، أو مكتشفات تقدمت بصورة حثيثة على طريق الكمال، في الأزمنة الحديثة. إن هنالك الآن في الحكم الجمهوري وسائل، ووسائل قوية بالفعل، من خلالها يمكن العودة إلى نظام ذلك الحكم، كما يمكن التخفيف من سيئاته أو إلغاؤها من أصلها. في هذه المجموعة من الملابسات التي تميل إلى تشويه النظم المألوفة من الحكم المدني، سأحاول جاهداً أن أخوض، مهما بدا ذلك مستهجناً لدى البعض، وسأسعى إلى إضافة عامل آخر جديد إلى ما سبق، على مبدأ أراه قد اتخُذ أساساً للاعتراض على الدستور الجديد، وأعني بذلك العامل تضخيم الفلك الذي تدور فيه نظم الحكم، فيما يخص أبعاد ولاية واحدة، أو مجموعة ولايات صغيرة تشكل كونفدرالية كبيرة واحدة. إن التركيبة الأخيرة هي التي تعنينا على الفور، وهي الموضوع المطروح للبحث. وعلى كل حال، فسيكون من المفيد أن نفحص المبدأ المشار إليه في حال تطبيقه على ولاية واحدة، لكني سأهتم بذلك في موضع آخر من الكلام.
إن الحديث عن قدرة كونفدرالية ما، سواءً من حيث إبعاد الانقسام والتحزّب فيها، أو بغية الحفاظ على الهدوء الداخلي للولايات، أو لزيادة قوتها الخارجية وضمان أمنها – ليس في الواقع فكرة جديدة. لقد تمت ممارسة ذلك في أقطار مختلفة وعصور مختلفة، وقد حظيت بالتقريظ من معظم الكتاب المشهود لهم بالحصافة في شئون السياسة. ولقد نقل معارضو الخطة المقترحة، بكل أمانة، وخاضوا في بحثهم عما ارتآه مونتسكيو حول ضرورة أن يكون نطاق نظام الحكم الجمهوري ضيق الرقعة. لكنه يبدو أنهم تغاضوا عن المشاعر التي عبر عنها ذلك الرجل الكبير في جزء آخر من مصنّفه في ذلك الموضوع، ولم يتنبهوا إلى ما يترتب على المبدأ الذي يقبلوه بهذا الخنوع المستسلم.
حين يحبذ مونتسكيو وجود رقعة صغيرة لجمهورياته، فهو ينظر إلى مستويات النماذج التي يجدها قبالة عينيه من الجمهوريات. وهي في مساحتها أصغر بكثير من مساحة أي من الولايات عندنا. فلا فيرجينيا ولا ماساشوستس، أو بنسلفانيا، ولا نيويورك أو كارولينا الشمالية أو جورجيا - يمكن مقارنتها بأي صورة من الصور، بالنماذج التي عاينها الرجل ووضع رأيه على أساسها، بحيث ينطبق عليها المعيار الذي وضعه هو. ولذلك فنحن إن أخذنا أفكاره المتعلقة بهذا الموضوع بمعيار الصدق والحقيقة – أفضى بنا الأمر إلى البديل، إما اللجوء فوراً إلى أحضان النظام الملكي أو التوزع إلى عدد لا نهائي من مجتمعات رفهٍ عام، تكون صغيرة المساحة، متحاسدة، دائمة التصادم، كثيرة الصخب، تشكل حاضنات مناسبة للفوضى وتكون أهدافنا تعيسة تثير شفقة العالم واحتقاره لها. ولا يجوز لنا أن ننسى أن هناك كتّاباً ساروا قُدُماً في اتجاه مخالف في معالجة قضية الحكم هذه وأدركوا المعضلة جيداً، وكانوا على قدر من الشجاعة لأن يشيروا إلى تقسيم مساحات الولايات الأكبر باعتباره شيئاً مرغوباً فيه. إن مثل هذه السياسة المفتونة، ومثل هذا اليأس الحاطم، الذي ينفثه تضخيم عدد مكاتب الموظفين لهو سياسة تستجيب لوجهات نظر الأشخاص الذين يفتقرون إلى مؤهلات كفيلة ببسط نفوذهم وتأثيرهم إلى أبعد من حلقات مكائدهم الشخصية، والتي هي عاجزة تماماً عن زيادة سعادة المواطنين في أمريكا.
ولو أحلنا مناقشة المبدأ نفسه على موضع آخر من الكتاب، كما نُوهت بذلك من قبل، فإنه يكفيني بهذا الخصوص أن أشير إلى أن المعنى الذي يقصده المؤلف الذي يقتبسون آراءه في الموضوع هو أن الرجل يودّ تصغير حجم الأعضاء الأكبر نطاقاً ضمن الاتحاد، ولا يعارض كون الأعضاء جميعاً منخرطين في حكومة كونفدرالية واحدة. وهذه هي القضية الحقيقية في المداولات القائمة بيننا الآن.
إن مقترحات مونتسكيو بعيدة جداً عن معارضة قيام اتحاد ولايات عام، إلى درجة أنه يعالج بكل صراحة جمهورية كونفدرالية ويعاملها بصفتها ضرورة متطلبة لتوسع فلك حكومة شعبية والاستعاضة عن ميزات النظام الملكي بحسنات النظام الجمهوري.
"من المحتمل جداً أن البشرية كانت ستجد نفسها مجبرة لأن تعيش على الدوام في ظل حكومة يسيطر عليها شخص بمفرده لو ما استنبطت نظاما يتصف بالجمع بين ميزات الدستور الجمهوري، الداخلية، والقوة الخارجية في الحكومة الملكية، وأعني جمهورية كونفدرالية".
"إن هذا الشكل من الحكومة هو الميثاق الذي على أساسه توافق عدة ولايات صغيرة أن تصبح أعضاء ضمن حكومة أكبر، تنوي الولايات تشكيلها، إنه تجمّع من مجتمعات سوف تكون مجتمعاً واحداً أكبر، يستطيع التنامي، عن طريق الانضمام إليه حتى يبلغ درجة من القوة بمقدورها أن توفر الأمن والسلامة للكل المتحد.
"إن جمهورية من هذا النوع، قادرةً على الصمود تجاه قوة أجنبية، تستطيع الاعتماد على ذاتها بدون أية إفسادات من الداخل. ذلك أن شكل المجتمع يحول دون أي شكل من أشكال الإزعاج.
"فإذا حاول أي عضو بمفرده اغتصاب السلطة العليا، فليس يُفترض أن يجد ذلك العضو سلطة مساوية (أي ولاية أخرى) وتأييداً له من جميع الولايات الكونفدرالية. فإذا قدّر له أن يجد نفوذاً كبيراً في واحدة منها، فإن ذلك سيقلق الأخريات. ولو استطاع إخضاع جزء ما فإن أهل الجزء الآخر الذي يبقى حراً من سيطرته قد يقفون ضده بقوات عسكرية تشكلها الولايات الأخريات بصورة مستقلة عن قوات الجزء المغتصب، فتقهره وتتغلب عليه قبل أن يتمكن من الاستقرار والهناء بما اغتصب.
"ولو حدث تمرد عام في إحدى الولايات المنضمة على الكونفدرالية، فإن بمقدور الآخرين في الولايات الأخرى أن يخمدوه. ولو تسرب سوء التصرف إلى جزء ما، فإنه سوف يتم إصلاح ذلك التصرف من قبل الأخريات السليمة. ويمكن أن يتم تخريب الولاية في جانب واحد منها، لا الجانب الآخر، ويمكن للكونفدرالية أن تنحلّ فيما يتبقى الأعضاء الآخرون وكل منهم يحتفظ بسيادته على نفسه.
"ولما كانت هذه الحكومة مؤلفة من عدة جمهوريات صغيرة، فإنها تتمتع بالسعادة الداخلية، كل واحدة منها، وبالاحترام لوضعها من القوى الخارجية، ذلك أن هذا الاحترام يملكه المجموع، كما يمتلك جميع حسنات دول الملكيات الكبيرة أيضاً".
لقد رأيت من المناسب اقتباس هذه الفقرات الطويلة والمهمة، لأنها تنطوي على نور كاشف ومختصر للمناقشات الرئيسية التي تسند فكرة الاتحاد، وبالتالي فبمقدورها أن تقشع الانطباعات الخاطئة التي قد يخلقها سوء تطبيق الأجزاء الأخرى من كتابات مونتسكيو: وفي نفس الوقت فإن تلك الفقرات ذات صلة وثيقة بالخطة المباشرة لهذه الورقة، الهادفة إلى توضيح ميل الاتحاد لإصلاح كل من الانقسام الداخلي والاضطراب معاً، ومعالجة ذلك.
وهناك تمييز، هو حاذق أكثر من كونه دقيقاً، أثاره بعضهم بين الكونفدرالية، والاندماج فيما بين الولايات. والخاصة الرئيسة للأولى منهما هي تحديها لسلطات الأعضاء في تصرفاتهم الجماعية، دون الوصول إلى أن يتأثر الأفراد الذين تتألف منهم بذلك. ومن المفهوم أن المجلس الوطني يجب ألا يكون له علاقة بأي شئ في الإدارة الداخلية. أما مبدأ المساواة في الإطلاع العام بين الأعضاء فقد تم الإصرار عليه بصفته معلماً رئيساً في الحكومة الكونفدرالية. لكن هذه المراكز (وأعني تساوي الأعضاء لكل ولاية) بشكل رئيسي، هي مراكز اعتباطية، لا تجد لها سنداً من حيث المبدأ ولا من السابقة التاريخية. والحقيقة أنه حدث أن تمت إدارة حكومات من هذا النوع بالأسلوب الذي أخذ في الاعتبار ذلك التمييز واعتبره أصيلاً ملازماً لطبيعتها، لكنه تم في معظم الحالات استثناءات شاملة لذلك التطبيق، من شأنها أن تثبت، بصفتها مثلاً يحتذى، أنه ليس هناك قاعدة مطلقة في هذا الشأن. وسيظهر للجميع بكل وضوح، في ثنايا هذا الاستقصاء، أنه طالما ساد المبدأ المتضمن هنا، ظل ذلك سبباً لفوضى لا شفاء منها ولا علاج لها، في الحكومة.
إن تعريف الجمهورية الكونفدرالية يبدو بكل بساطة أنها "تجمع مجتمعات"، أو اجتماع ولايتين أو أكثر في ولاية واحدة. أما مدى، وتوضعات، وأهداف السلطة الفدرالية فيها فتلك كلها أمور تخضع للاستبصار والتعقل. وما دام التنظيم المستقل والمنفصل من غيره، للأعضاء، لم يتم إلغاؤه، وما دام ذلك التنظيم قائماً بفعل الضرورة الدستورية، ولأغراض محلية، وإن كان سيظل خاضعاً بالكامل للسلطة العامة في الاتحاد، أو الكونفدرالية – فالشئون الأخرى يمكن التداول بخصوصها. إن الدستور المقترح، بعيد جداً عن إلغاء وجود حكومة الولاية، بل إنه يجعلها أحد مكونات السيادة الوطنية، عن طريق الإتاحة لتلك الحكومات أن تكون ممثلة بصورة مباشرة في مجلس الشيوخ، وعن طريق تركه له أجزاء كبيرة جداً ومهمة جداً في مجال السيادة العامة. وهذا أمر يستجيب بصورة كاملة، بكل معنى تتضمنه الكلمة، لفكرة حكومة فيدرالية.
في كونفدرالية مدن عصبة ليسيا التي تكونت من 22 مدينة أو جمهورية مُنحت كل من المدن الأكبر ثلاثة أصوات في "المجلس العام" والأخرى المتوسطة صوتين لكل منهم والصغريات صوتاً واحداً لكل منهم أيضاً. وكان للمجلس العام حق تعيين جميع القضاة وكبار الموظفين (المدراء) في جميع المدن. كان هذا هو التدخل المهذب الوحيد في شئونها الداخلية، فلو كان هناك أي تنسيب تم الأخذ به يتعلق بالمجالس التشريعية لكان أهم شئ هو تعيين موظفيها. لكنه لم يكن هناك شئ من ذلك. ومع هذا فإن مونتسكيو حين يتكلم عن ذلك يقول "لو كان لي أن أطرح أنموذجاً لجهورية كونفدرالية ممتازة فسيكون ذلك عن ليسيا". على هذه الصورة ندرك أن التمايزات التي وقع الإصرار عليها لم تكن ضمن تأملات ذلك المواطن المستنير، وهذا يقودنا لأن نستنتج أنها مجرد استنباطات تكميلية لا أكثر لتلك النظرية الخاطئة.